المنتخب من النصوص الأدبية
للصف الثامن
المؤلف: فراج سليمان
مصطفى محمود
دار النهضة للطباعة
والنشر, 1996
صفحات بخط عادي 1-241
الناسخة: سجود سعدي
المكتبة المركزية للمكفوفين
وذوي عسر القرائي
نتانيا اسرائيل 2017م
رقم التسلسل: 51225
يمنع نسخ أو نقل النسخة الملائمة معارضة لأوامر قانون تنسيق الاعمال والآداء، والبث للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة لعام 2014 تشكل خرقًا لحقوق المنتجين.
الفهرس
النثر القصة القصيرة
1. شيء للمستقبل، علي ماهر صفحة 3
2. الخروبة، فاديا (علي) فراج صفحة 8
3. بائعة الكبريت، جان كريسيتان أندرسون 11
4. طواحين الهوا، سرفانتس صفحة 17
5. ثلاث قضايا، كالمانساغال صفحة 21
6. هذه المرة، إبراهيم صموئيل صفحة 25
7. الصفقة، ناجي ظاهر صفحة 28
8. الشيخ المنفلوطي صفحة 30
نوادر قصصية
9. فكاهة، الجاحظ صفحة 37
10. هزل ابان بن عثمان، عمر أبو النصر صفحة 40
11. كسرة خبز، إسكندر الخوري البيتجالي صفحة 43
12 أبو الأسود الدؤلي والاعرابي، إسكندر الخوري البيتجالي صفحة 45
13. الادب يرفع الخامل، جرجي شويري صفحة 46
14. عبد الله والاعرابية، ابن عبد ربه صفحة 49
15. صعصعة محيي محيي الموؤودات، رنات المثالث والمثاني صفحة 53
16. فراسة البدوي، رنات المثالث والمثاني صفحة 53
المثل والاسطورة
17. ولي عهد الأسد وخطبة الحمار، أحمد شوقي صفحة 61
18. حديث قطين، مصطفى صادق الرافعي صفحة 64
19. حكاية الحمار والثور مع صاحبهما، من الف ليلة وليلة صفحة 67
20. حصان فنه، د. محمود عباس صفحة 72
المسرحية صفحة 79
21. من مسرحية المنبوذ، سعيد تقي الدين صفحة 81
المذاكرات والسير صفحة 89
22. الكنز، سعيد تقي الدين صفحة 91
23. الطب العربي في القرون الوسطى، علي مروة صفحة 95
24. أطفال الله، من سيرة غاندي صفحة 99
25. أخناتون، د. هنري توماس صفحة 103
26. نهاية المطاف، أنيس فريحة صفحة 108
27. ملائكة الرحمة، عادة أهروني صفحة 112
28. بشار بن برد، الأصفهاني صفحة 115
29. البلاط الصحراوي، عن موسوعة المعرفة صفحة 118
30. فواز في باريس، أمينة السعيد صفحة 120
أدب الرحلات صفحة 127
31. رحلة الي المدينة السحر والخيال - البطراء، محمد الدمرداش صفحة 129
32. من لبنان الى العراق، أمين الريحاني صفحة 134
33. صيد الحيتان عند أهل الباسك، عن موسوعة المعرفة صفحة 139
34. الرق في أمريكا، عن موسوعة المعرفة صفحة 144
المقالة والخاطرة 149
35. الحسد، مصطفى لطفي المنفلوطي صفحة 151
36. سن الاربعين، سلامة موسى صفحة154
37. ابتسم للحياة، أحمد أمين صفحة157
38. لماذا هويت القراءة، عباس محمود العقاد صفحة 160
39. القضاء بين الناس، علي مروة صفحة164
40. مسؤولية الأباء نحو الأبناء، كمال منصور صفحة 167
41. أدب الشرب، كمال جنبلاط صفحة 169
42. من أعمال الأجاويد، (مجلة الضحى - بيروت) صفحة 171
43. أُمنا الأرض، خليل تقي الدين صفحة 174
44. سنابل البيدر، ميخائيل نعيمة صفحة 176
45. تأثير الموسيقى صفحة جبران خليل جبران صفحة 178
46. الرباب، محمود حفني صفحة 181
47. خرطوم الفيل، د. أحمد زكي صفحة 184
48. القضية فيها وما فيها، سلام الراسي صفحة 187
49. عقلاء المجانين، جبران جبور صفحة 193
50. حفظ الأسرار، ابن عبد ربه صفحة 196
الشعر
الشعر العامودي صفحة 199
51. اللوزة المزهرة، فؤاد الخشن، صفحة 201
52. الخريف، أنور العطار صفحة 204
53. الغفر، أمين آل ناصر الدين صفحة 206
54. أول المشيب، خليل مطران صفحة 208
الشعر المقطوعي صفحة 211
55. أمي، سامي أبو المنى صفحة 213
56. الى العقاد، محمود عماد صفحة 216
57. من قصيدة النهر المتجمد، ميخائيل نعيمه صفحة 218
58. من أغاني الرعاة، أبو القاسم الشابي صفحة 221
شعر التفعيلي صفحة 223
59. كبرتم وصرتم رجال، شكيب جهشان صفحة 225
60. كل شيء كان أخضر، درويش الأسيوطي صفحة 228
61. قصفة الفيجن، سميح القاسمي صفحة 230
الشعر المنثور والمترجم صفحة 233
62. رسالة الى والدتي، سرغي بسنين صفحة 235
63. من أغاني طاغور، طاغور صفحة 238
64. من العتبة الى السماء، محمد الماغوط صفحة 240
*1*
النثر
*2*
صفحة فارغة
*3*
*3*
علي ماهر ابراهيم
لَمْ أَنْتَبِهْ إِلَى مَلامِحِ وَجْهِهِ إلَّا عِنْدَ الطَّائِرَةِ، رُغْمَ أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ فِي المَقْعَدِ المُجَاوِرِ لِي مُبَاشَرَةً. كَانَ العَرَقُ يَتَصبَّبُ مِنْ جَبينِي وَأَنَا أُحَاوِلُ، دُونَ جَدْوَى، أَنْ أَرْبِطْ حِزَامَ المِقْعَدِ اللَّعِينِ، حِينَمَا صَكَّ أُذُنِي اليُسْرَى عَرْضُهُ (العرض: الإقتراح، عرض عليه المساعدة: إقترح عليه أن يساعده.) المُنْقِذُ وَالمُخْجِلُ، وَمَدَّ يَدَيْهِ قَائِلاً:
- دّعْنِي أَرْبُطُهُ لَكَ... هكَذَا
وَبَعْدَهَا لَمْ يَسْكُتْ أَبَداً. سَلَّطَ عَلَيَّ نَظَّارَتَهُ السَّمِيكَةَ الأَنِيقَةَ، وَرَذَاذَ لُعَابِهِ وَدُخَانَ سَجَائِرِهِ الأَمْرِيكِيَّةِ، وَسَأَلَنِي عَنْ مَقْصَدِي، وَمِهْنَتِي، وَعُنْوَانِي، وَشَرَحَ نِظَامَ العَمَلِ فِي المَمْلَكَةِ (المملكة: ربما المقصود المملكة السعودية حيث يكثر فيها وفي الإمارات الخليجية المغتربون الذين يجدون فيها أماكن عمل)، ثُمَّ شَرَحَ لِي نِظَامَ السَّكَنِ، وَالاَكْلِ وَالأَسْوَاقِ، وَمَا يُشْتَرى وَمَا لا يُشْتَرى، وَكَيْفَ يُبَاعُ مَا يُشْتَرى، ثُمَّ قَالَ مُلَخِّصاً:
- المُهِمُّ أَنْ تُنَظِّمَ نَفْسَكَ مِنَ البِدَايَةِ
قُلْتُ: يَبْدُو أَنَّ حَضْرَتَكَ تَعِيشُ فِي... المَمْلَكَةِ مُنْذُ مُدَّةٍ.
- عَشْرُ سَنَوَاتٍ فِي شَهْرِ شَوَّال إِنً شَاءَ اللّهُ.
قُلْتُ: مدَّةٌ طَوِيلَةٌ.
- فِي الحَقِيقَةِ أَنَا لَمْ أَعْمَلْ فِي مِصْرَ سِوَى أَرْبَعِ سَنَوَاتٍ بَعْدَ أَنْ تَخَرَّجْتُ وَدَخَلْتُ الجَيْشَ، ثُمَّ تَزَوَّجْتُ وَسَافَرْتُ.
*4*
قُلْتُ: هكَذَا مُبَكِّراً؟
"وَأَظُنُّهُ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ قَدِ اسْتَعَاذَ فِي سِرِّهِ مِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)، وَلكِنَّهُ قَالَ بِاقْتِضَابٍ (باقتضاب: باختصار.):
- وَالّلهِ أَتَتْنِي الفُرْصَةُ لأُكوِّنَ نَفْسِي وَلَمْ أَتَرَدَّدْ.
بَعْدَ قَلِيلٍ كَانَ قَدْ سَأَلَنِي عَنْ أَصْلِي وَفَصْلِي، وَعَنْ زَوْجَتِي وَأَوْلادِي، وَكَيْفَ تَزَوَّجْتُ وَمَتَى أَنْجَبْتُ.
أَخِيراً، اسْتَطَعْتُ أَنْ أَوقِفَ الاسْتِجْوَابَ (الاستجواب: طرح الأسئلة لتلقي الأجوبة عليها كما يفعل الموظفون أو رجال الشرطة مثلا: ولا نقول: يقوم الطالب باستجواب المعلم عندما يسأله سؤالا.)، وَسَمَحْتُ لَنَفْسِي، أَنْ أَسْأَلَهُ مُقَاطِعاً:
- وَالأُسْرَةُ مَعَ حَضْرَتِكَ؟
- كَلَّا، الأُسْرَةُ فِي مِصْرَ، أَنْتَ تَعْرِفُ مُشْكِلاتِ الأَوْلادِ وَالمَدَارِسِ، كَمَا زَوْجَتِي تَعْمَلَ مُدَرِّسَةً. كَانَ مِنَ المُمْكِنِ أَنْ أَجِدَ لَها وَظِيفَةً مُمْتَازَةً فِي المَمْلَكَةِ فَضَّلَتِ البَقَاءَ مَعَ الأَوْلادِ.
وَتَشَجَّعْتُ وَسَالتُهُ مَرَّةً أُخْرَى:
- وَحَضْرَتْكَ تَزُورُهُمْ كَثِيراً؟
- فِي كْلِّ إجَازَةٍ، وَلكِنِّي فِي هذِهِ المَرَّةِ جِئْتُ لِمَصْلَحَةٍ خَاصَّةٍ، وَلكِنْ لِلأَسَفِ لَمْ أُوَفَّقْ. بِيرُوقْرَاطِيَّة (بيروقراطية: كلمة أجنبية تستعمل في اللغة العربية ومعناها التعقيدات الناشئة عن نظام الموظفين في الدولة.) عَفِنَةٌ. تَصَوَّرْ يَا أُسْتَاذُ. عَشَرَةُ أَيَّامٍ ضَاعَتْ فِي البَحْثِ عَنْ مَقْبَرَةٍ.
- مَقْبَرَةٌ؟!
- نَعَمْ واللّهِ مَقْبَرَةٌ، مَدْفَنٌ لِلأُسْرَةِ. بَحَثْتُ عَنْ طَرِيقِ المُحَافَظَةِ، وَحَاوَلْتُ عَنْ طَرِيقِ المُقَاوِلِينَ والسَّمَاسِرَةِ، وَعَرَضْتُ عَلَى الحُكُومَةِ أَنْ أَدْفَعَ بِالعُمْلَةِ الصَّعْبَةِ، بِالدُّولارِ وَاللّهِ، وَلكِنْ عَبَثاً.
*5*
قُلْتُ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ رَبُّنَا يُبْعِدُ كُلَّ مَكْرُوهٍ، أَنْتَ مَا زِلْتَ فِي مُقْتَبَلِ العُمْرِ وَهُنَاكَ مَا هُوَ أَهَمُّ...
لَمْ يَتْرُكْ لِي فُرْصَةً لأُكْمِل عِبَارَتي. مِنْ جَدِيدٍ سَلَّطَ عَلَيَّ نَظَّارَتَهُ السَّمِيكَةَ، وَرَذَاذَ لُعَابِهِ، وَدُخَانَ سِيجَارَتِهِ الأَمْرِيكِيَّةِ، وَانْهَالَ عَلَيَّ حَدِيثُهُ الرَّشَّاشُ الَّذِي انْتَهَى بِالقَطِيعَةِ:
- أَنَا يَا سَيِّدِي مُقَدِّرٌ لِمَسْؤُولِيَّاتِي، وَأُرِيدُ أَنْ أُؤَدِّيَ رِسَالَتِي كَامِلَةً: فِي أَوَّلِ سَنَةٍ دَفَعْتُ خُلُوَّ رِجْلٍ (خلو الرِّجل: مفتاحية.) فِي شَقَّةٍ فَسيحَةٍ بِالدُّقِّي (الدقّي: اسم حي حديث من أحياء القاهرة.)
- وَكُلَّمَا وُلِدَ لِي وَلَدٌ أَحْجِزُ وَهْوُ بَعْدُ رَضِيعٌ مَكَاناً فِي المَدْرَسَةِ الالمَانِيَّةِ، وَأَشْتَرِي لَهُ "شقة تَمْلِيكْ"، وَأَحْجِزُ لَهُ سَيَّارَةَ "نَصْر" وَأُدَبِّرُ لَهُ مَبْلَغاً لِتَعْلِيمِهِ وَلِمُسْتَقْبَلِهِ، حَتَّى البَنَاتُ، كُلُّ بِنْتٍ لَدَيْهَا جِهَازُهَا مِنَ الآنَ. هذِهِ رِسَالَتِي فِي الحَيَاةِ، أَنْ أَضْمَنَ لأُسْرَتِي حَيَاةً كَرِيمَةً زَوْجَتِي وَالحَمْدُ لِلّهِ عِنْدَهَا مِنَ المُصَاغِ وَالسَّبَائِكِ مَا يَكُفِيهَا هِيَ وَالأَوْلادُ طُولَ العُمْرِ. وَالآنَ بَقِيَتْ مُشْكِلَةُ المَقْبَرَةِ، فَأَنَا مِنْ قَرْيَةٍ قُرْبَ سُوهَاجَ، وَنَحْنُ الآنَ نَعِيشُ فِي القَاهِرَةِ، وَالأَعْمَارُ بِيَدِ اللهِ كَمَا تَقُولُ وَلكِنَّ الرِّزْقَ كَثِيرٌ وَالحَمْدُ لِلّهِ، فَلِمَاذَا لا تَكُونُ عِنْدِي مَقْبَرَةٌ بَدَلاً مِنَ " الشَّحْطَطَة"!
شَردَ ذِهْنِي عَنْ حَدِيثِهِ وَتَذَكَّرْتُ أَنَّنِي فِي التَّاسِعَةِ وَالخَمْسِينَ، وَأَنَّنِي لَيْسَتْ عِندِي مَقْبَرَةٌ، وَأَنَّ ابْنَتِي الوَحِيدَةَ لَيْس عِنْدَهَا جَهَازٌ، لَوْلا خُطوبَتُها مِنْ ذلِكَ الطَّبِيبِ المُعْدَمِ مَا اسْتَقَلْتُ وَأَنَا وَكِيلُ وِزَارَةٍ قدِيمُ لأُسَافِرَ إِلَى... المَمْلَكَةِ، وَأُدَبِّرَ جِهَازَها. وَلكِنْ قَطَعَتْ تَفْكِيري دُفْعَةٌ قَوِيَّةٌ مِنَ الرَّذَاذِ أَعَادَتْنِي صَاغِراً إِلَى حَديثِهِ المُسْتَمِرِّ:
*6*
- أَنْ تَضْمَنَ لأُسْرَتِكَ حَيَاةً كَرِيمَةً، وَتَتْرُكَ شَيْئاً لِلْمُسْتَقْبَلِ... وَلِمَاذَا لاَ تَكُونُ عِنْدِي مَقْبَرَةٌ مَا دُمْتُ مُسْتَعْداً لأَنْ أَدْفَعَ ثَمَنَهَا، وَبِالعُمْلَةِ الصَّعْبَةِ؟ بِتَعَبِي وَمَجْهُودِي فِي المَمْلَكَةِ وَقَيْتُ أُسْرَتِي مَذَلَّةَ الوُقُـوفِ فِي طَابُورِ الجَمْعِيَّةِ وَعَذَابِ المُواصَلاتِ العَامَّةِ، وَمَدَارِسَ الوِزَارَةِ. وَلَكِنْ هَا أَنَذَا اكْتَشَفْتُ بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنَ الوَسَائِطِ، وَالتَّنَقُّلِ بَيْنَ السَّمَاسِرَةِ، وَمَكَاتِبِ المُحَافَظَةِ، أَنَّ هُنَاكَ طَابُوراً لِلْمَقَابِرِ... تَصَوَّرْ يَا أُسْتاذُ؟
غَاظَنِي مِنْهُ إصْرَارُهُ عَلَى هذَا الحَدِيثِ الَّذِي يُقَلِّبُ المَوَاجِعَ، وَتَذَكَّرْتُ الأَزْمَةَ القَلْبِيَّةَ الَّتِي كَادَتْ تُودِي بِحَياتِي مُنْذُ شَهْرَيْنِ.
قُلْتُ: أَظُنُّكَ تُبَالِغُ قَلِيلاً فِي هذِهِ المَسْأَلَةِ. أَتَعْرِفُ مَيِّتاً لَمْ يَجِدُوا لَهُ مَقْبَرَةً؟ أَمْ تُراكَ تُرِيدُ أَنْ تَضْمَنَ أَيْضاً الْمَوْتَ وَالآخِرَةَ؟
أَظُنُّهُ اشْتَمَّ فِي كَلامِي نَبْرَةً لَمْ تُعْجِبْهُ. عَلَى كُلِّ حَالِ لَمْ يَدْعُ لِي فُرْصَةً لأُتِمَّ حَدِيثِي إِلَيْهِ. وَرَمَقَنِي بِنَظْرَةٍ تَنِمُّ عَنْ تَهَكُّمٍ وَشَفَقَةٍ في آنٍ مَعاً. وَقَالَ بِزُهُوٍ صَادِقٍ مُنْتَصِرٍ:
يا أُسْتَاذُ لَقَدْ حَجَجْتُ حَتَّى الانَ تِسْعَ حَجَّاتٍ عَنْ أَبِي، وَعَنْ أُمِّي، وَعَنْ نَفْسِي، وَسَأَظَلُّ أحُجُّ طَالَمَا كَانَ لِي عَيْشٌ فِي المَمْلَكَةِ. أَمَا سَمِعْتَ عَنْ ثَوَابِ الحَاجِّ فِي الآخِرَةِ؟
ثُمَّ قَامَ غاضباً، وَاتَّجَهَ إِلَى دَوْرَةِ المِيَاهِ، وَانْقَطَعَ الحَدِيثُ، وَانْقَطَعَ الرَّذَاذُ.
علي ماهر ابراهيم
عن مجلة إبداع، باريس،
مارس 1984، ص 82-83
*7*
علي ماهر:
كاتب مصري معاصر يهتم بكتابة القصة القصيرة.
الأسئلة:
1. في القصة شخصيتان هما الراوي والمسافر.
أ. ما هي المعلومات القليلة التي عرفناها عن الراوي (الذي يحكي لنا الحكاية)؟
ب. سجل ما تعرفه عن المسافر.
ج. يعطينا الراوي صورة مهزوزة لا تعجبه عن المسافر. اختر صورتين منفّرتين يستعملهما أكثر من مرة في الوصف.
د. تدخل الراوي أكثر من مرة في حديث المسافر:
1. ما هو نوع الجمل الحوارية التي استعملها الراوي في النصف الأول من القصة؟
2. ما هو نوع الجمل الحوارية التي استعملها الراوي في النصف الثاني من القصة؟
ه. ماذا يختلف الراوي عن المسافر؟
(2) أكتب نهاية أخرى للقصة.
*8*
*8*
فادية (علي) فراج
أَسرعَتْ أُمُّ سَعِيد إِلَى حَوْشِ الدَّارِ لِتُحْضِرَ حَطَباً لِلْمَوْقِدِ، فَقَدْ أَوْشَكَتْ النَّارُ أَنْ تَنْطَفِئَ تَحْتَ قِدْرِ الطَّعَامِ. وَأَبُو سَعِيدٍ سَيَعُودُ مِنْ "باب السُّوقِ" وَقَدْ هَدَّهُ الجُوعُ. نظرتْ إِلَى كَوْمَةِ الحطبِ الصَّغِيرةِ وتنهَّدتْ. إِنَّ أَطفالَهَا سيموتونَ جوعاً وبَرْداً إِذَا لَمْ يتوفرْ لَهُمْ الحطبُ الكافي... مِسكِينٌ زَوْجُهَا إِنَّهُ يقطعُ الاراضيَ الواسعةَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى "بابِ السُّوقِ" حَيْثُ هناكَ فَقَطْ يستطيعُ إِيجادَ بعضِ الشُّجَيْرَاتِ الَّتِي تخلُو منَ العلامةِ الحمراءِ الَّتِي تُحَرِّمُ عليهِ قطعَها بِحُجَّةِ تشويهِ المنظرِ.
ضمتْ بعضَ العيدانِ النحيفةِ ودخلتْ إِلَى الزَّاويةِ حَيْثُ جلس سعيدٌ وإِخوتُه الصغارُ ملتفينَ حَوْلَه، وفَطِنَ ابْنُها إِلَى القَلَقِ الَّذِي يكسو وجهَ أُمِّه.... ولكِنَّهُ أدرَكَ السَّبَبَ عندَمَا رأى تلكَ العيدانَ فِي يَدَيْهَا... وفكر فِي إِنَّ أَهلَهُ مثلُ باقي سكانِ القريةِ يعانُون من نَقْصِ الحطبِ، فَهُمْ يَكِدُّونَ وَيَتَعَبُونَ حَتَّى يْوَفِّرْوا لأَطفالِهِمْ ما يَقِيهِمْ بردَ الشِّتاءِ القارسِ.
وَفِي تلك اللحظة مَثُلَتْ أَمَامه الخروبةُ... تلكَ الخروبةُ القاطنةُ في أولِ البلدِ والَّتِي كانت السَّبَبَ فِي مُرورِ الشارعِ فِي الأَراضي المزروعةِ حِرصاً عَلَى عيدانِها اليابسةِ، فهي، كما يقالُ: مسكونةٌ بالجِنِّ. وقد أَخْبَرَتْهُ أُمهُ أَنَّهُ قبلَ عدةِ سَنَواتٍ عندَمَا كانتْ أُمُّ محمودٍ زوجةُ المختارِ تملأُ جَرَّتَها من العَيْنِ، ظَهَرَ لَهَا رَجُلٌ بَهِيُّ الطَّلعَةِ يَرْكبَ فَرَساً بيضاءَ وَأَخْبَرَها أَنَّ المَصَائِبَ سَتَحِلُّ عَلَى كُلِّ مَنْ يَمُدُّ يَدَهُ ويقطعُ حطباً منَ الخروبةِ وسيمتلئُ بيتهُ بالنَّملِ.. ومِن
*9*
يومِها والخَروبةُ فِي مكانِها هازئَةَ ساخرةٌ من سكانِ القريةِ وفَقْرِهم؛ وأَهل القريةِ ما زالوا يَتَنَاقلونَ خبرَ وقوع شاب من شبابِ القريةِ يومَ العيـدِ عِنْدَما حاولَ الصعودَ إليها. وابتسم سَعِيدُ وبدا كَأَنَّهُ لَمْ يصدِّقُ كلَّ ما جالَ فِي خاطِرِهِ... وكلَّ ما امتلأَ فِي رأْسِهِ مُنْدَ الصغر فَقَدْ كان شاباً يرفُضْ الخرافاتِ وما يُقالُ... وَكَمْ حَاول أن يُبَرُهِنَ لِسكانِ بَلَدِهِ أَنَّهُمْ خاطئون. وأراد أَن يَصْعَدَ إِلَى الشَّجَرَةِ... ولكِنَّ توسُّلاتِ أُمُّهِ كانتْ تَصُدُّهُ فِي كلِّ مرةٍ... ولكنَّه اليومَ لا يستطيعُ أَن يَصْبِرَ أَكثرَ... إِن عُيُون إِخوتِهِ الصِّغارِ حزينةٌ بائسةٌ وهو يريدُها ضاحكةً صامدةً. لَحظةٍ رأَى سعيدٌ نفسَهُ وهو يقفزُ إِلَى حوشِ الدَّارِ... حَمَلَ المِنْجَلِ فِي يَدِهِ وركضَ، وَرَفَعَت الأُمُّ يَدَيْهَا إِلى السماءِ تدعو الله ان يَحْفَظْ لَهَا ابْنَهَا الَّذي أحس بِالنَّار تنطفئُ فَذَهَب ـ كَمَا خُيِّلَ لَهَا - إِلَى أَبيهِ لِيُسَاعِدُهُ عَلَى حَمُلِ الحَطَبِ الَّذِي يُشْعِلُ النَّارَ عاليةً لا تنطفِئُ أَبدا.. ولكِنَّ سعيداً أَسرع إِلَى أَوَّلِ البلدِ... حيثُ الخروبةُ العتيقةُ... نَظَرَ إِلَيْهَا متأَمِّلاً عيدانَهَا اليابسةَ، إِنَّهَا ستكونُ غِداءَ نارِهم طيلةَ هذا الشتاءْ... وبسرعة قَفْرَ سعيدٌ إِلَى الخروبةِ، وَبدأَتْ أَغصانُ الخَروبةِ تَتَهاوى ذليلةً عَلَى الأرضِ، وفِي لَحَظَاتٍ قليلةٍ كان الخبرُ قد انتشرَ بينَ كلِّ أَهلِ البَلَدِ... أَمَّا أُمُّ سَعِيدٍ فأَخَذَتْ تُوَلْوِلُ وَتَنْدِبُ حَظَّها... وتراكضَ الجَميعُ إِلَى الخَروبةِ وَتَعَلَّقَتْ عُيُونُهُمْ بيَدِ سَعِيدٍ الَّتِي كانتْ تَكْسِرُ الأَغْصانَ بقوةٍ وحزمٍ... وبعيْنَيْهِ الدامعتينِ لَذِكْرِ إِخوتِهِ الصغارِ... واندفَعَ الأملُ فِي قلوبِ الفلاحينَ فَهَجَمُوا عِلَى الخَروبةٍ بمناجِلِهِمْ، قاهرين الجن.
فادية (علي) فراج - الرامة
*10*
فادية علي:
معلمة للغة الانكليزية في المرحلة الثانوية. ولدت في قرية البقيعة وتعلمت في مدرستها الابتدائية ثم في مدرسة الرامة الثانوية، ثم درست في جامعة حيفا الأدب الأنكليزي وعلم النفس، كتبت هذه القصة خلال دراستها الثانوية.
الأسئلة:
1. ما هي الفكرة المركزية التي تعالجها القصة؟
2. يمكن تقسيم القصة الى أربع مراحل:
أ. تصوير المكان والزمان للحدث.
ب. تصوير معاناة الناس في القرية.
ج. أثر الخروبة في حياة سكان القرية.
د. تحدي سعيد للوهم وانتصار السكان على هذا الوهم.
ماذا تقول الكاتبة في كل من هذه المراحل؟
(3) توجد بعض المعتقدات الغريبة في مجتمعك على غرار ما قرأت في القصة... سجل احداها... يفضل باسلوب قصصي.
*11*
*11*
جان كريستيان أَندرسون
كَانَ البَرْدُ شَدِيدًا، وَالثَّلْجُ يَتَسَاقَطُ فِي تِلْكَ الأُمْسِيَةِ، آخِرِ أُمْسِيَةٍ لآخِرِ يَوْمٍ مِنَ السَّنَةِ.
وَفِي ذلِكَ البَردِ القَارِسِ وَالظَّلامِ الشَّدِيدِ كَانَتْ طِفْلَةُّ تَجُوبُ الشَّوارِعَ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ، حَافِيَةَ القَدَمَيْنِ. إِنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَافِيَةً حِينَمَا غَادَرَت بَيْتَهَا. لَقَدْ كَانَ فِي قَدَمَيْهَا حِذَاءَانِ قَدِيمَانِ. وَلكِنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا يُفِيدَانِها كَثِيراً، فَقَدْ كَانَا كَبِيرَيْنِ جِدّاً. كَانَا فِي الأَصْلِ حِذَائَيْنِ لِوَالِدَتِها. وَكَانَا وَاسِعَيْنِ مُمَزَّقَيْنِ، وَلِذلِكَ سَقَطَا مِنْ قَدَمَي الطِّفْلَةِ بَيْنَمَا كَانَتْ تُحَاوِلُ أَنْ تَعْبُرَ الشَّارِعَ بِسُرْعَةٍ، لِتَتَفادَى (تتفادَى: تتجنَّب.) الوُقُوعَ بَيَنَ عَرَبَتَيْنِ كَادَتَا تَتَصَادَمَانِ. وَعَادَتْ تَبْحَثُ عَنْهُمَا فَوَجَدَتْ أَحَدَهُمَا قَدِ اٌخْتَفَى. وَوَجَدَتِ الآخَرَ فِي يَدِ وَلَدٍ مُتَشَرِّدٍ. وَأَبَى أَنْ يُعِيدَ الحِذَاءَ إِلَيْهَا. قَالَ إِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْهُ سَرِيراً لأوَّلِ طِفْلٍ يُولَدُ لَهُ.
وَهكَذَا اٌضْطُّرَّتِ الطِّفْلَةُ إِلَى أَنْ تَسِيرَ حَافِيَةً بِقَدَمَيْهَا الصَّغِيرَتَيِنِ، وَقَدِ اٌحمَرَّتَا مِنْ شِدَّةِ البَرْدِ. وَكَانَتْ تَحْمِلُ فِي ثَوْبِهَا عَدَداً مِنْ عُلَبِ الكِبْرِيتِ، حَمَلَتْ بِيِدِهَا عُلْبَةً مِنْهَا. وَمَضَى النَّهَارُ كُلُّهُ وَلَمْ تَبَعْ عُلبَةً وَاحِدَةً. وَلَمْ يُحْسِنْ أَحَدُّ إِلَيْهَا بِمَالٍ. كَانَتْ تُعَانِي الجُوعَ وَالبَرْدَ. وَتَوَرَّمَ خَدَّاهَا، وَالثَّلْجُ أَخَذَ يَتَسَاقَطُ عَلَى شَعْرِهَا الأَشْقَرِ الطَّوِيلِ، وَقَدْ تَنَاثَرَ عَلَى عُنُقِهَا خُصَلاً جَمِيلَةً. وَلكِنَّهَا بِالطَّبْعِ لَمْ تَكُنْ تُفَكِّرُ فِي تِلْكَ الخُصَلِ الجَمِيلَةِ. كَانَتِ الأَنْوَارُ تَسْطَعُ مِنْ جَمِيعِ النَّوَافِذِ الَّتِي حَولَهَا. وَرَائِحَةُ
*12*
الشِّواءِ.. نَعَمْ رَائِحَةُ الشِّواءِ تَملأُ الشَّارِعَ فَتَسْطَعُ فِي أَنْفِ اليَتِيمَةِ الجَائِعَةِ.
إِنَّهَا لَيْلَةُ رَأْسِ السَّنَةِ.
وَفِي زَاوِيَةٍ بَيْنَ بَيْتَيْنِ، أَحَدُهُمَا يَقِفُ عَلَى طَرَفِ الشَّارِعِ، جَلَسَتِ الطِّفْلَةُ مَنْهُوكَةً مِنْ شِدَّةِ الجُوعِ وَالبَرْدِ، وَثَنَتْ سَاقَيْهَا تَحْتَهَا لِتُدْفِئَهُمَا، وَلكِنَّ البَرْدَ كَانَ يَشْتَدُ بِهَا أَكْثَرَ. وَلَمْ تَكُنْ تَجْرُؤُ عَلَى العَوْدَةِ إِلَى البَيْتِ بِعُلَبِ الكِبْرِيتِ الَّتِي لَمْ تَبِعْ مِنْهَا طُولَ النَّهَارِ شَيْئاً. إِنَّ وَالِدَها لَنْ يُعْفِيَهَا مِنَ الضَّرْبِ لَوْ عَادَتْ إِلَيْهِ هكَذَا فَارِغَةَ اليَدَيْنِ إِنَّهَا كَانَتْ تُقِيمُ مَعَ أَبَوَيْهَا فِي بَيْتٍ أَشْبَهَ بِالعَرَاءِ تَهُبُّ فِيهِ الرِّيحُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُونَ عَائِقٍ، وَلَمْ يَنْفَعْهُ أَنَّ الفَتَحَاتِ وَالشُّقُوقَ الكَبِيرَةَ كَانَتْ قَدْ سُدَّتْ بِالقَشِ أَوْ بِقِطَعٍ مِنَ الثِّيَابِ العَتِيقَةِ.
لَقَدْ كَادَتْ يَدَاهَا الصَّغِيرَتاَنِ تَمُوتَانِ مِنْ شِدَّةِ البَرْدِ، وَذَكَرَتِ الكِبْرِيتَ، وَذَكَرَت ما فِيهِ مِنْ دِفءٍ. فَلَوْ أَنَّهَا أَخَذَتْ عُوداً مِنَ العُلْبَةِ الَّتِي بِيَدِهَا، وَأَشْعَلَتْهُ، لاسْتَطَاعَتْ أَنْ تَبْعَثَ فِي يَدَيْهَا شَيْئاً مِنَ الدِّفْءِ.
وَتَنَاوَلَتْ عُوداً فَأَشْعَلَتْهُ كَانَ ضُوءُهُ جَمِيلاً يَبْعَثُ الحَرَارَةَ كَانَ أَشْبَهَ بِشَمْعَةٍ صَغِيرَةٍ. وَبَعَثَتْ شُعلَتُهُ الدِّفْءَ فِي اليَدَيْنِ الصَّغِيرَتَيْنِ المُتَجَمِّدَتَيْنِ.
وَخُيِّلَ إِلَى الطِّفْلَةِ، وَالضَّوءُ يَتَرَاقَصُ بَيْنَ يَدَيْهَا، أَنَّهَا جَالِسَةٌ بِجَانِبِ مِدْفَأَةٍ حَدِيدِيَّةٍ كَبِيرَةٍ، ذَاتِ غِطَاءٍ بْرونْزِيٍّ لامِعٍ، وَالنَّارُ تَشْتَعِلُ فِهَا مُتَّصِلَةً هَادِئَةً.
*13*
أَخَذَتِ الطَّفْلَةُ سَاقَيْهَا لِيَنَالَهُمَا الدِّفْءُ أَيْضاً، وَلِكِنَّ الشُّعْلَةِ انْطَفَأَتْ، وَاخْتَفَتِ المِدْفَأَةُ الحَدِيدِيَّةُ الكَبيرَةُ الَّتِي تَرَاءَتْ فِي خَيَالِ الطِّفْلَةِ السَّاذَجِ، وَوَجَدَتِ الطِّفْلَةُ نَفْسَهَا وَلَيْسَ فِي يَدِهَا غَيْرُ الكِبْرِيتِ المُحْتَرِقِ.
(رسمة في الكتاب استعن بالمعلم)
فَأَشْعَلَتْ عُوداً آخَرَ، فَعَادَتْ تَسْتَأنِسُ بِضَوئِهِ وَحَرَارَتِهِ، وَرَأَتْ عَلَى ضَوْئِهِ الصَّغِيرِ، أَوْ تَرَاءَى لَهَا، أَنَّ الحَائِطَ الَّذِي بِجَانِبهَا قَدْ شَفَّ (شَفَّ: أصبح شفافاً.)، فَرَأَتْ مِنْ خِلالِهِ فِي الغُرْفَه الَّتِي خَلْفَهُ، مَائِدَةً قًدْ مُدَّتْ فِيهَا، عَلَيْهَا غِطَاءٌ جَمِيلٌ نَاصِعُ البَيَاضِ،
*14*
وَأَوَانٍ قِيشَانِيَّةٌ بَدِيعَةٌ، وَفِي وَسَطِهَا بَطَّةٌ مُحَمَّرَةٌ ذَاتُ رَائِحَةٍ شَهِيَّةٍ، وَمِنْ حَوْلِهَا اصْطُفَّتِ الحَلْوَى وَالفَاكِهَةُ اللَّذِيذَةُ. وَأَجْمَلُ مَا صَوَّرَهُ لِلطِّفْلَةِ خَيَالُهَا أَنَّهَا رَأَتِ البَطَّةَ تَقْفِزُ عَنِ المَائِدَةِ، وَفِي ظَهْرِهَا السِّكِّينُ وَالشَّوْكَةُ، وَرَأَتْهَا تَسِيرُ مُتَّجِهَةً نَحْوَهَا.... وَلكِنَّ عُودَ الكِبْريتِ انْطَفَأَ فِي يَدِهَا قَبْلَ أَنْ تَصِلَ البَطَّةُ، فَلَمْ تَعُدْ تَرَى غَيْرَ الحَائِطِ الصَّفِيقِ (الصفيق: الوقح، والمراد هُنا السَّميك.) البَارِدِ.
وَأَشْعَلَتْ عُوداً ثَالِثاً، وَعَلَى ضَوْئِهِ تَرَاءَى لَهَا أَنَّهَا تَجْلِسُ تَحْتَ شَجَرَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ أَشْجَارِ عِيدِ المِيلادِ، أَكْبَرَ وَأَجْمَلَ وَأَكثَرَ زِينَةً مِنْ تِلْكَ الَّتِي كَانَتْ قَدْ رَأَتْهَا مِنْ وَرَاءِ الزُّجَاجِ فِي بَيْتِ التَّاجِرِ الغَنِيِّ، فِي لَيْلَةِ عِيدِ المِيلادِ الَّتِي سَبَقَتْ. كَانَتْ أُلُوفُ الأَضْوَاءِ تَلْمَعُ بَيْنَ الأَغْصانِ الخَضْراءِ، وَأَشْكَالٌ وَدُمًى عَدِيدةٌ مُلَوَنَةٌ كَانَتْ كَأَنَّمَا تَنْظُرُ إِلَى الطِّفْلَةِ. فَمَدَّتِ الطِّفْلَةُ يَدَيْهَا نَحْوَهَا وَلكِنَّ العُودَ انطَفَأَ. وَتَوَارَتِ الشَّجَرَةُ وَاللُّعَبُ العَدِيدَةُ الَّتِي عَلَيْهَا، أَمَّا الاضْوَاءُ فَقَدْ مَضَتْ عَنْهَا عَالَيَةً عَالِيَةً فِي السَّمَاءِ وَهِيَ تُتَابِعُهَا بِبَصَرِهَا.
وَالحَقُّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سِوَى النُّجُومِ الَّتِي تَرَصَّعَتْ (ترصَّعَت: تزيَّنَت.) بِهَا قُبَّةُ السَّمَاءِ.
وَسَقَطَتْ إِحْدَى النُّجُومِ مِنْ مَكَانِهَا سَاحِبَةً خَلفَهَا شَرِيطاً طَوِيلاً مِنَ الضَّوءِ في قَلْبِ الظُّلْمَةِ السَّائِدَةِ.
فَقَالَتِ الطِّفْلَةُ: سَيَمُوتُ الآنَ إِنْسَانٌ.
كَانَتْ جَدَّتُهَا العَجُوزُ قَالَتْ لَهَا ذَاتَ مَرَّةَ - وَهِيَ الإِنْسَانَةُ الوَحِيدَةُ فِي الدُّنْيَا الَّتِي كَانَتْ تُعَامِلُهَا بِحُبٍّ وَحَنَانٍ، وَقَدْ تُوُفّيَتِ الآنَ - كَانَتْ قَالَتْ لَهَا: عِنْدَمَا يَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ نَجْمٌ، تَرتَفِعُ إِلَى اللهِ رُوحُ إِنْسَانٍ.
*15*
وَعَادَتِ الطِّفْلَةُ فَأَشْعَلَتْ عُوداً آخَرَ بِجانِبِ الحَائِطِ، فَأَنَارَ كُلِّ مَا كَانَ حَوْلَهَا، وَفِي ضَوْئِهِ تَراءَتْ لَهَا جَدَّتُهَا العَجُوزُ تَشِعُّ بِالنُّورِ، طَيِّبَةً عَاطِفَةً حَنُونَةً كَمَا كَانَتْ دَائِماً. فَهَتَفَتِ الطِّفْلَةُ:
- جَدَّتِي، خُذِينِي مَعَكِ، أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكِ سَتَخْتَفِينَ حَالَمَا يَنْطَفِيءُ عُودُ الثِّقَابِ، كَمَا اخْتَفَتْ مِنْ قَبْلُ المِدْفَأَةُ الحَدِيدِيَّةُ الدَّافِئةُ، وَاخْتَفَتِ البَطَّةُ المُحَمَّرَةُ ذَاتُ الرَّائِحَةِ، وَاخْتَفَتْ شَجَرَةُ عِيدِ المِيلادِ الكَبِيرَةُ.
وَأَسْرَعَتِ الفَتَاة فَأَشْعَلَتْ جَمِيعَ عَيدَانِ الثِّقَابِ الَّتِي كَانَتْ فِي العُلْبَةِ الوَاحِدَةِ. كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَبْقَى جَدَّتُهَا لَدَيهَا وَقتاً أَطْوَلَ. فَأَعْطَتْهَا عِيدَانُ الثِّقَابِ الكَثِيرَةُ نُوراً أَكْثَرَ. كَانَتْ كَأَنَّهَا فِي وَضَحِ النَّهَارِ. وَبَدَت لَهَا جَدَّتُهَا أَجْمَلَ مِمَّا كَانَتْ مِنْ قَبْلُ...وَمَدَّتِ الجَدَّةُ ذِرَاعَيْهَا فَحَمَلَتِ الطِّفْلَةَ بَينَهُمَا، وَطَارَتَا مَعاً عَالِياً عَالِياً فَي السَّمَاءِ حَيْثُ لا جُوعٌ وَلا بَردٌ، وَلا عَنَاءٌ.
وَطَلَعَ الصَّبَاحُ البَارِدُ عَلَى هذَا الرُّكْنِ مِنَ الشَّارِعِ، فَرَأَى المَارَّة (المارَّة: العابرون.) طِفْلَةً مُوَرَّدَةَ الخَدَّينِ، عَلَى شَفَتَيْهَا ابتِسَامَةٌ، وَقَدْ مَاتَتْ مِنْ شِدَّةِ البَرْدِ. مَاتَتْ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ الاخِيرَةِ مِنَ العَامِ. وَعُلَبُ الكِبْرِيتِ فَرَغَتْ مِنْهَا واحِدَةٌ فَقَطْ.
وَقَالَ العَابِرُونَ: لَقَدْ كَانَتْ المِسْكِينَةُ تُحَاوِلُ أَنْ تَسْتَدْفِيءَ... وَلكِنَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ عَرَفَ مَا رَأَتِ الطِّفْلَةُ وَهِيَ تُشْعِلُ الثِّقَابَ مِنْ بَعْدِ الثِّقَابِ.
جان كريستيان أَندرسون
ترجمة: عيسى الناعوري
جان كريستيان أندرسون:
كاتب دنيماركي مشهور ولد سنة 1805، اشتغل بالمسرح في بداية حياته. قامَ بزيارات تعليميّة لمعظَم الدول الأوروبيّة وخلالها ألْف العديد من القصص والأساطير التي تُرجِمَت الى معظم لغات العالَم. توفّي سنة 1875.
*16*
أسئلة للمحادثة:
1. يروي لنا الكاتب قصّة فتاة مسكينة في تَدرُّج مترابط الأجزاء يبدأ بفقدان حنان الأمّ ثم بالخروج في ليلة باردة لِبيع علب كِبريت ثم فقدان للحذاء وإخفاق في البيع واخيراً ينتهي بالموت...أكتب القصة بلغتك معتمداً على ربط الأجزاء معاً؟
2. هل وجدت في القصة أوصافاً تعمَّدَها الكاتب للتأثير على القارئ؟ ما هي؟
3. الى ماذا يشير سَيْرُ البطّة إليها، ثمَّ سقوط إِحدَى النجوم؟ أم أن ذكر هذين الحديثين كان حشواً لا حاجة له؟
4. ما رأيك في ظهور الجَدّة في نهاية القصّة؟
5. لا شَكَّ في أَنَّكَ كنت تفضّل أن لا تموتَ الفتاة في نهاية القصّة:
أ. ماذا أراد الكاتب أن يقول بهذه النهاية؟
ب. هل كانت لحظاتها الأخيرة تعيسة كَحياتها؟ كيف؟ ولماذا؟
ج. هل بإمكانك إِعطاءِ نهاية أخرى؟
*17*
*17*
سرفانتس
رأى "دون كيخوتي" ذات يوْم زهاء أربعينَ طاحونةً مِنْ طواحينِ الهَواءِ، فالتَفَتَ الى خادِمِهِ "سانكوبانزا" وقال لهُ.
"لقدْ بَسَمَ لَنا الزَّمانُ، يَا صديقي، واُتيحَتْ لنَا فَرصةُ ثمينةٌ لتَحْقيقِ أَشهى أمانينا. ألا تَرَى هؤُلاءِ العمالقةَ الجبَّارين، وقدْ تجهزوا أمامَنَا، ووقفوا في طريقَنا؟ إِنَّهُمْ بلا شك جبابرةُ متعجْرفونَ؟ وقدْ عَمَّتْ شرورَهُمْ الجِنْسَ الإنسَانيَّ كُلَّهُ. وهذه فَرصَةُ لنْ تُفْلتَ مِنّي، ولا بَدَّ لي مِنْ قِتَالِهِم وَقهْرِهِمْ فِي مَيْدانِ الحرْبِ، وَسَتَكُونُ الغَنَائمُ التي نُصِيبُهَا مِنْهمْ بَدْءَ ثَرائِنا (الثراء: كثرة المال.) العَظِيمِ".
فَقَال لَهُ: "سانكو" مُدْهوشاً: "أَي عَمَالِقَةِ تَعْني؟ "فَقَالَ: "أَعْني هؤلاءِ العمالقةَ الذينَ يُلَوِّحُونَ لَنَا بأَذْرُعِهِم الطَّويلةِ الهائلةِ، ويُهدِّدُونَنَا بِالموتِ".
فَقَالَ لَهُ "سانكو": "أَناةً يَا سَيِّدِي، فقدْ اختلطَ عَلَيكَ الأَمرُ (اختلط عليك الأمر: لم يتضح لك.)، وَلَيْسَ مَا تَحْسَبُهُ عمالقةً إِلَّا عِدَّةَ طواحينَ، وهذه الأَذرُعُ التي ظَنَنْتَهَا أَذْرُعَ العمالقةِ لَيْسَتْ إِلَّا أَجْنِحَةَ هذه الطَّواحينِ، فلاَ يَختَلِطْنَّ عليكَ الأَمرُ".
فقالَ "دون كيخوتي":
"لكَ اللهُ، يا يَا صديقي، مَا أَشدَّ سذاجَتَكَ: عَلَى أَنَّكَ فِي سِعَةٍ مِنَ العُذْرِ، فَأَنْتَ لا تَزَالُ جاهلاً بِأَسْرَارِ الفرُوسيَّةِ وَخَفاياَ الحروبِ، لأَنَّكَ حَديثُ عَهْدٍ بالمغامراتِ. إِنَّ ما تحسبَهُم طواحينَ الهواءِ ليسوا في حقيقةِ الأَمرُ إِلَّا عمالقةً أَشدَّاءَ وجبابرَةً غِلاظَ القُلوبِ. وإِنّي لعلى ثِقَةٍ ممَّا أَقولُ. وعليكَ إِذا
*18*
كنتَ خائفاً أَنْ تَتَنَحَّى جانباً، فَإِنّي قادِرٌ وحدِي على خَوْضِ غِبارِ هذه المعركَةِ، وَتَقَّحُّمِ هذه الحربِ، وَأَنَا على ثقةِ مِنَ الفوْزِ على الأَعْداءِ وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ".
ثمَّ غَمَزَ جوادَهُ بمهازَيْهِ ولم يُصِغْ لِنُصْحِهِ، وَصَاحَ في الطَّواحينَ قائلاً: "أُثْبُتُوا لِحربي وَجِلادي أَيها اللُّصوصُ الجُبَناءُ. إِنَّ فارساً واحِداً هوَ "دون كيخوتي" سيقَاتِلْكُمْ وَيَهْزِمُكم بمفرَدِهِ"
*19*
وما كادَ يُتِّمُّ كلامهُ حتى هبَّتْ ريحٌ خفيفةٌ، فَأَدارتْ طَواحينَ الهواءِ، فقالَ "دون كيخوتي": "لقدْ أَحسنتُمْ صنعاً، أَيها العمالقةُ إِذْ تَأَهَّبْتُمْ لحربي، وَسأَعرفُ كيفَ أَقتَصُّ منكم وأُذِلُّكم إِذلالا".
ثمَّ أَمسكَ بترسِهِ، وأَشرَعَ (أشرع عليه الرمح: سدده إليه.) إِليهم رُمْحَهُ، وانقضَّ على أَقربِ طاحونةٍ، وضَرَبَ جَناحَيها بكلِّ قَوَّتِهِ، وكانت الطاحونةُ مسرعَةً في دوَرَانِها فَلَمْ يَكدْ يثبِتُ فيها رُمْحَهُ، وهي دائرةٌ حتى ارتقعَ "دون كيخوتي" وجوادُهُ وقذّفّتْ بهما الطَّاحونةُ إِلى مَسافةِ عِشْرينَ خُطْوَةً.
فاستحثَّ "سانكو" حِمارهُ، وقدْ تَأَلَّمَ مِمَّا حَدَثَ لِسَيِّدِهِ، وبذلَ جُهدهُ في إِنهاضِهِ مِنْ سقطتِهِ الخطيرةِ، ثمَّ قالَ لَهُ: آهٍ منكَ، سَيِّدي فقدْ حَذَّرْتُكَ هذه العاقبةَ وأَكَّدْتُ لكَ أَنَّ ما تراهُ أَمامكَ لَيْسَ إِلَّا طَواحينَ الهواءِ. ولعلكَ لَمْ تَتَثَبَّتْ مِنْ رُؤْيَتِها جيداً لأَوَّلِ وَهْلَةٍ "فَأَجابهُ الفارسُ العظيمُ: "رُوَيْداً.... رُوَيْداً.... فَإِنَّ الحربِ خُدْعَةٌ، وطالما تغلَّبَ الحظُ فيها على الشجاعَةِ، ولَاسيما إِذا تَصَدَّى الإنسانُ الحربِ ساحِرٍ خبيثٍ. على أَنَّني قد أَدركتُ الآنَ خفايا أَمرِهِ واهتديْتُ الى دقائق سِّرِهِ فإِنَ خَصمي بلا شكٍ ساحرٌ عنيدٌ، وقد خَشِيَ أَنْ أَهْزِم بمفردي هؤلاء العمالقةَ جميعاً، فأُسجِّلَ، بهذا الانتصارِ الباهرِ، فخراً خالداً على مَرِّ الدُّهورِ، وثَمَّةَ (ثَمَّةَ: ثمَّ اسمِ إِشارة للبعيد بمعنى هناك.) دفعتهُ الغيرةُ والحسدُ الى حرماني هذا المَجْدَ، فحَوَّل هؤلاء العمالقةَ بِسحْرِهِ طَواحينَ، وقدْ نجحت حيلتهُ كَمَا ترى وأَضاعَ عَلَيَّ فَخْرَ الانتِصارِ. على أَنَّني لن أَيْأَسَ مِنْ إِذلال هذا السَّاحرِ الخبيثِ، ولا لسَيْفي أَنْ يَقْتُلَهُ في يومٍ قريبِ".
*20*
وَكانَ "سانكو" قدِ اقتَربَ مِنْهُ ليساعدَهُ على النُّهوض مِنْ كبوَتِهِ، ثمَ أَسرعَ الى "روزينته"، جَوادِ سيَّدِهِ، وبذَلَ جهدُهُ في إِنهاضِهِ، وقد كادتْ كتفُ الجواد تنخَلِعُ مِنْ شِدَّةِ السَّقْطةِ.
ولَمْ يكدْ "سانكو" يَسمع ما يقولهُ سيِّدُه حتى قالَ له: "حَقَّقَ اللهُ آمالكَ، يا سيِّدي، وكَلَّلَ سَعْيُكَ بالنجاحِ!".
سرفانتس
عن كتاب دون كيخوت
سرفانتس:
كاتب اسباني شهير عاش من سنة 1547-1616 أشهر أعماله كتاب دون كيخوتي (دون كيشوت) وهو عبارة عن طرفة أدبيه تصور أحد رجال الريف الذي كان مغرماً بمطالعة روايات الفرسان القدماء والقصص الغريبةَ فأثرت فيه هذه القصص حتى حسب نفسه أحد هؤلاء الفرسان الضالين. فصار يجد في كل مكان سَحَرَةَ وأسرى لابد من انقاذهم والى غير ذلك من الغرائب حتى أضاع عقله...ولكنه ما زال يمثل النفس والعواطف النبيلة.
ولا يزال كتاب دون كيخوتي يعد من الكنوز الفكرية الخالده.
الأسئلة:
1. ماهي حقيقة العمالقة الذين رآهم دون كيخوتي؟
2. لماذا أَخَذَ دون كيخوتي على عاتقة أمرَ محاربتهم؟
3. عدد الصفات التي تتجلى في سلوك دون كيخوتي؟
4. تبدو شخصية ساتكو نقيضاً لسيده... ما رأيك؟
5. ماذا تمثل شخصية دون كيخوتي؟
*21*
*21*
كالمان ساغال
الْمأساةُ حدثتْ في احدى البلادِ في ايام الحرب الأخيرة (الحرب الاخيرة: الحرب العالمية الثانية.).
فَعندما اُحتَلَّ العدُوُّ "الْمدينةَ" أسَرَ الكثيرَ من الناس.. بينهم كان الْيهود.. والرافضونَ الثائورنَ.. وبينَ الاسرى كانت عائلة - كاملةٌ، أَبٌ وامٌ وابنٌ، الثلاثةُ كاموا من الْمحاربينَ والْمعروفينَ.. ومرتْ أَشْهُرُ كثيرةٌ فِي الأَسرِ، وذاتَ يومٍ أُخْبِروا بِأَنَّ واحداً منهمْ سَيخرُجُ فِي صباحِ الغدِ لِيُقْتَلَ.. وهذهِ هي إِرادةُ السُّلطَاتِ.
الرجلُ الَّذِي جاءَ بالخَبَرِ كانَ يَعْرِفُ الوضعَ القاسيَ، الَّذي يَمُرُّ بِهِ الأَسرِّي، وكانَ صاحبَ تجربةٍ بحيثُ إِنَّهُ اسْتَطَاعَ أَنْ يَضَعَ العائلةَ الَّتِي وَجَدَتْ نَفْسَهَا أَمامَ تجربةٍ فريدةٍ فِي وضعٍ دراميٍّ، بالضَّبْط - يُشْبِهُ مَا كَانَ يَدُورُ فِي الْمأساةِ اليونانيةِ القديمةِ (2). الابُ اقتَرَحَ نَفْسَهُ.. الأمُّ والابْنُ أَخَذَا يُفْكِرَانِ مَنْ مِنْهُمَا يَخْرُجُ - فِي الصباحِ - لِيُقْتَلَ؟ وهكذا وجدَت العائلةُ نَفْسَهَا أَمَامَ وَضْعٍ غَريبٍ.. كلُّ واحدٍ مِن أَبْنَائِها يريدُ أن يموتَ من أَجلِ أن يُنْقِذَ أَقارِبَهُ. ولكنَّ الثلاثةَ مجتمعين لا يستطيعون أَنْ يَموتوا وبالْمقابِلِ لا يستطيعونَ أَن يَعيشوا.
لَقَدْ وُضِعُوا فِي ظَرْفٍ عَصيبٍ.. وَلَمْ يكنْ أَمامَهُمْ أَيُّ مَجَالٍ - لِلْتَّمَلُّصِ.. أَوِ الهَرَبِ... الرجل الذي روَى الحكايةَ صمت، أَشْعَلَ سِيجَارَةً وَوَجَّهَ أَنْظَارَهُ نَحْوَ الأَرضِ، وَتَبَدَّى لَنَا نَحْنُ - الْمُسْتَمِعينَ - أَنَّهُ لا يُرِيدُ أَنْ يُتَابِعَ
*22*
قَصَّتَهُ لأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَدَيْهِ الرَّغْبَةُ الكَافِيَةُ - فِي ذلكَ؛ أَحَدُ الحاضرينَ قَطَعَ حَبْلَ الصَّمْتِ. وَقَال طالباً الغُفْرانَ العميقَ:
مَنْ مِنَ الثَّلاثَةِ أُخْرِجَ لِيُقْتَلِ؟
(رسمة في الكتاب استعن بالمعلم)
وَفِي هذِهِ اللحظةِ دُهِشْتُ. لأَنَّنِي كنتُ أَستَمعُ لهذِهِ القصةِ لأَول مرةٍ.. وَلِمْ أكنْ اعرفُ - بالتأْكيد - فِي ايةِ مدينةٍ وقعتْ أحداثُ هذِهِ القصةِ دُهِشْتُ - لأَنَّنِي كنتُ انتظِرُ أَكْبَرَ من هذه.
*23*
وَتَكلمْتُ بسرعةٍ..
صرختُ.. من أَجلِ أَنْ أَمْنَعَ تَوْجِيْهَ أَيَّةِ إِجابةٍ.. ولكنَّ أَحَدَّ الحاضرينَ قَالَ بِصوتٍ مُضْطَّربٍ: لا.. لا تُجِيبُوا، عَلَى مِثْلِ هذا السُّؤالُ لِنَعْرِفَ مَنْ مِنَ الثلاثةِ.. أُخْرِجً لِيُقْتَلَ.. وَمَنْ مِنْهُمْ بَقِيَ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ.. لَعَلَنَا نَنْسَى وَلوْ لِلحْظَةِ مَنِ الْمُذنِبُ.. لَعَلَّهُ الَّذِي أَخْرَجَ هذا "التسجيلَ" اللاإِنْسانِيَّ لهذه الْمَأْساةِ.
- أَنْتَ صادِقُ، لَمْ يُقَلْ مَنْ مِنَ الثَلاثَةِ.. بقيَ عَلَى قَيْدِ الحياةِ.. وَلَمْ يُقَلْ أَيْضاً كَيْفَ يَعِيشونَ.. لأَنَّ حَياةَ الاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ بَقِيَا عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ.. هيَ الْمَأساةُ.. بالضبطِ - مثلُ حَظِّ الرجلِ الثالثِ الَّذِي خَرَجَ ذَاتَ صباحٍ.. فَمَاتَ الاثنانِ.. بموتهِ..
قصة عبرية ترجمها ناجي ظاهر
للكاتب: كالمان ساغال
بتصرف: عن مجلة الشرق حيفا أيلول 1958 عدد (3)
تفسير:
(2) كانت المسرحية المأساوية (تراجيديا) اليونانية القديمة تخلق جواً ملائما قبل حدوث المأساة على خشبة المسرح فيكون مجيئها أمام جمهور المتفرجين متوقعاً وليس مفاجِئاً.
*24*
الأسئلة:
1. ما هو الخير الذي تدور حوله أحداث هذه القصة؟
2. أذكر الشخصيات التي تتحدث داخل هذه القصة؟
3. ماذا قصد الراوي بقوله عن الرجل الذي سأل: "من من الثلاثة أخرج للقتل؟ إنه طلب الغفران - قبل أن يسأل سؤاله.
4. جاء في كلام الراوي (الذي يسرد لنا القصة) قوله: "كنت أتوقع جملة أكبر من هذه".. فما هو قصده؟
5. ما المعنى الذي يكمن في الجملة الأخيره.. "فمات الاثنان بموته"؟
6. يشير أحد الحاضرين الى المذنب.. فما هو الذنب المقصود؟
7. الحالات المأساوية التي تشير لها هذه القصة؟
8. لماذا اختار الكاتب "ثلاث قضايا" عنواناً لقصته؟
*25*
*25*
ابراهيم صموئيل
ابنتي الصغيرةُ، يُغضِبها مسحُ وجهِها بالصابون أَوْ رَشقُهُ - خفِيفاً - ببعضِ المَاءِ فتفرُّ بَرِمَةً (برُمَّته: جميعه.)، أَوْ تتلَوى بينَ يَديَّ كلما أَدْنَيْتُها من الصنبورِ (الصنبور: حنفية الماء.).... فَأَضطَّرُّ لغسلِ وجهِها عُنْوَةً (عنوة: بالقوة رغما عن.)، مَتَغَاضِياً عن صُراخِهَا وَبُكَائِهَا الرَّافض.
غَيْرَ أَنَّهَا، هذِهِ المَرَةَ، استكانتْ لساعديَّ، وَسَّلمَتْنِي وَجْهَها الَّذِي بَدَا، تَحْتَ قَطَرَاتِ المَاءِ وحُزمةِ الشمسِ الساقطةِ عَلَيْهِ، مُشِعّاً بِضِياءِ غريبٍ لَمْ أَعْهَدْهُ من قبل.
وَتَستَهْوِيهَا اللعبةُ - دائِماً - فَتُتَابعُ ركْضَهَا المُتَغَيِّرَ حول الكُرسيِّ، وأَستمرُّ أَنا فِي دعوتِها للتوَّقُّفِ حَتَّى أُنْهِيَ تَسريحَ شَعرِهَا، فلا هيَ تَستَجيبُ، مَترقرِقَةً فِي ضَحِكِهِا.. ولا أَكُفُّ أَنا، مُنزعِجاً، عن تصعيدِ غَضَبِي وَتَحذِيرِهَا بالضربِ، إِنْ هيَ استَمَرتْ فِي دَوَرَانِها وَحَالتْ دونَ تَمْكِينِي من تَسريحِ شعرِهَا.
لكنَّها، هذه المَرةَ، كانتْ هادِئَةً وديعةً، أَعْطْتنِي رأَسَها، الصغيرَ المُكَوَّرَ، أُسرِّحُ خصلاتِهِ الذهَبيةَ عَلَى صِدْغَيْها وَجَبِينِها، كما أحْبَبْتُ لشعرِها - دائما - أَن يكونَ.
وتُوارِي رَغْبَتَها فِي اللَّهوِ بِأَنْ تَشكوَ ضيق ثوبِها الابيضِ المشدودِ عَلَى صَدرِها وخَصرِها النحيل والفضفاضِ عندَ كَتِفَيْها المرمَرَيْنِ وساقَيْهَا البضَّتَيْنِ (البضتين: الناعمتين، الجلد مع السمنه.)، أَوْ تتذمرَ من خشونتِهِ الَّتِي تُضَايِقُها - كما كانت تقولُ - مما يَدْفَعُها، دوماً إِلَى الاخْتِفاءِ تَحْتِ السريرِ كَلَّما لَمَحَتْهُ فِي يديَّ.
*26*
الا أنها، هذه المرةَ، لَم تَخْتَفِ تَحْتَ السريرِ. بل هي ارْتَضتِ ارتداءَهُ بهناءَةٍ وَرَوِيَّة، أَتاحَتْ إِليَّ فرصةَ عَقْدِ الشريطِ الحريريِّ الازرقِ عندَ كَتِفِهَا اليُسْرى، والَّذي طالَمَا ظلَّ، في الايامِ الماضيةِ، مُتَهَدِّلاً وَمُثيراً لِحنقي عَلَيها.
وَيَغْرِيها جَوْرَبُها الازرقُ، المطرَّزُ بقطَّتَيْنِ بَيْضَاوَيْنِ، أَنْ تَسْأَلَنِي عَمَّا إِذَا كانتْ القطَّةُ سَتَأْكُلُ اصابِعَها، فأُجيبها بالنفي. ثُمَّ تُكَرِّرُ السؤالَ مع الفرْدَةَ الثانيةِ، فأَضِيقُ وَأُجيبهُا نَزِقاً (نَزِقاً: شديد الغضب.): لا. فَتَبْتَسِمٌ، وَتَطْلُبُ مِنِّي أَنْ أَموءَ مثلَ القطةِ، فأَفْقِدُ صَبْري صارخاً، وَتَفْقِدُ ابْتِسامَتَها باكيةً.
وَعَلى غيرِ عَادَتها، كَفَّتْ عَنْ السُّؤالِ، هذِهِ المَرةَ. وَرَاحَتْ اصابِعُهَا الفُسْتُقِيَةُ تَنْزَلِقُ فِي جوفِ الجَوْرَبَيْنِ، دونَ أَنْ أموءُ لَهَا، أَوْ تَبْكِيَ أَمَامِي.
حَتَّى حِذَاؤُهَا، كَانَ يُعْجِزُنِي وَيَسْلِبُنِي احتِمالِي! فَكّمْ تَطَايَرَ مِنْ قَدَمَها الرَّشيقَةِ المُتمرِّدَةِ، فَلا اتَمَكَّنْ مِنْ ادخَالِ شريطِهِ الجِلْدِي فِي حَلْقَتِهِ المَعْدَنية قَبْلَ أَنْ أُعَنِّفَهَا وأُحْكِمَ الإمساكَ بساقِها جَيِّداً.
أما هذِهِ المَرةَ، فَقَدْ انْسَلَّتْ قَدَمُها فِي الحِذاءِ باسْتِرخاءِ وليونةٍ دُونَ تَعْنِيفٍ، وَتَجاورت معَ الأخرى فِي ازدواجٍ مُجَبَّبِ، افتَقَدْتُ تأمُّلَهُ مَنْذُ زمنٍ طويلٍ.
فَقَطْ.. حِينَ رَفَعْتُها وَضَمَمْتُها إِلَى صَدْري، مَسْدِلاً رأْسَها عَلَى كَتِفَيَّ وَيَدَيْهَا حَوْلَ عُنُقي المتصَببِ عَرَقاً، انتَبَهْتُ - فَجْأَةً - إِلَى أَني لَمْ أُحَذِّرْها - كما كنتُ أَفْعَلُ دَوْماً - من إِلصاقِ حِذَاءَيْها بِبِنْطَالِي، لأَنَّها، هذِهِ المَرَةَ، كانتْ مَيَّتَةَ.
ابراهيم صموئيل
عن مجلة الموقف الأدبي آب / 1986
*27*
ابراهيم صموئيل:
كاتب سوري كتب هذه القصة في صيف 1986 وهي من أوائل قصصه المنشوره.
الأسئلة:
1. ما هي الأفعال التي قام بها الراوي قبل أن يرفع ابنته ويضمها بين ذراعيه؟
2. كم مرة استعمل التعبير (لكنها هذه المرة) في القصة؟ هل لهذا التكرار هدف معين؟ ما هو؟
3. ما هي الصفات التي تركز القصة على ابرازها؟ في هذه القصة الصغيرة؟
4. نلاحظ في القصة تصاعداً في إظهار شقاوة هذه الابنة. بين ذلك؟
5. هل تعتقد أن النهاية معقولة؟. لماذا؟
*28*
*28*
(الصفقة: أصلها ضرب اليد على اليد في البيع. وتعني: عقد البيع. وتقول: صفقة رابحة أو صفقة خاسرة.)
ناجي ظاهر
رَفَضَ الأَدِيبُ الذَّكيُّ المهذَّب، صاحِبُ المكتبةِ المشهورةِ، فِي المَدينةِ أَنْ يشتريَ بساطا من بائعٍ مُتَجَوِّلٍ. وأَلَحَّ البائِعُ عليهِ وقال لَهُ: ليكنْ شِراؤُك...اسْتِفْتَاحاً مُبَارَكاً. وقرَّر صاحِبُ المكتبةِ أن يَسْتَغِلَّ ذَكَاءَهُ إِلَى أَقْصَى الدَّرَجاتِ.. سَأَلَهُ عن ثَمَنِ البِساطِ، فَأَجَابَهُ: باثْنَيْ عَشَرَ الفَ شاقلٍ. وأَخذ الاثنان يَتَماحكَانِ (يتماحكان: يبالغان في المساومه.) كلٌّ يحاولُ أن يُظهِرَ ذكاءَه. صاحبُ المكتبةِ يَطلُبُ مِنْهُ أَنْ يُخَفَّضَ السِّعرَ، والبائعُ يَسْتَجِيْبُ وَيَخَفِّضُ السعرَ حّتَّى وَصَلَ ما طَلَبَهُ البائعُ أَربَعَةَ الافِ شاقلٍ!! آنذاك شَعَرَ صاحِبُ المَكْتبةِ، المُهذَّبُ، أَنه تَجَاوَزَ كلَّ حدٍّ، فَقَرَّرَ أَنْ يَضَعَ حداً لِمُنَاقَشَةِ البائعِ، قالَ: لا أُريدُ أَنْ أَشتَرِيَ البِساطَ.. "سألتُك فَقَطْ" وانْصَرَفَ البائعُ وهو يَتَمْتِمُ: اللَّهمَ اجْعَلْهُ استِقْتَاحاً مُبَارَكاً".
عِنْدَمَا عَادَ صاحِبُ المَكْتَبَةِ، فِي المَساءِ إِلَى بَيْتِهِ تَنَاوَلَ عَشَاءً دَسِماً. واسْتَرْخَى أَمَامَ التَّلفزيونِ يتابِعُ أَحَدَ الأَفلامِ المُضْحِكَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا. بَعْد الفِيلمِ اقتربتْ زوجتهُ منه وقالتْ وَهْيَ تَبْتَسِمُ: اليومَ ضَحِكتُ عِلِى بائعٍ متجولٍ واشْتَرَيْتُ بِساطاً بِثَمانِيَةِ الافِ شاقلٍ بَدَلَ اثْنَيْ عَشَرَ الفْ". وَفَتحَ الزوجُ الذَّكِيُّ المُهَذَّبِ فَمَهَ. أَرَادَ أَنْ يحكِيَ لَهَا عَمَّا وَقَعَ لَهُ اليومَ. وَلَمْ تُطاوِعْهُ الكلماتُ. أَغْلَقَ فَمَهُ، وَبَعْدَ لَحْظَةٍ انْفَجَر ضاحِكاً. وَعَبَثَاً حَاوَلَتْ زَوْجَتُهُ أَنْ تَعْرفَ لِمَاذَا يَضْحَكُ. ولَّما لَمْ تُفْلِحُ فِي معرفةِ سرِّ ضَحِكِهِ المُتَوَاصلِ. انْفَجَرَتْ ضَاحِكَةً. وَمَا زال الاثْنَانِ يَضْحَكَان حَتَّى هذِهِ االأَيَامِ.
ناجي ظاهر
مجلة المواكب، الناصره عدد 1 وَ 2 سنة 1993
*29*
ناجي ظاهر:
كاتب وصحفي نصراوي ولد سنة 1951 يعمل في الصحافة والصحافة الأدبية بشكل خاص. وهو يكتب الشعر والقصة أصدر عده كتب وما زال أكثر انتاجه منثوراً في الصحف والمجلات.
الأسئلة:
1. اختصر القصة السابقة بخمس أو ست جمل مفيدة بحيث تحافظ على فحواها (يمكنك الاستغناء عن تفاصيل السرد وعن الوصف).
2. العنوا - الصفقة - يضعنا أمام تفسيرين مُخْتِلِفَيْنِ: إِمَّا الرِّبح وإِما الخَسارة. لماذا لم يحدد الكاتب قصده بقوله مثلاً: "الصفقة الرابحة" أو "الصفقة الخاسرة"؟
3. يكرر الكاتب وصف صاحب المكتبة "بالذكي المهذب" لاحظ مواقع هذا التكرار.. وبين مدى صدق هذا الوصف.
4. صف إحساسك بعد أن تمتم البائع: "اللهم اجعله استفتاحاً مباركاً" في نهاية الفقرة الأولى من القصة.
5. تقوم القصة على مماحكة بين صاحب المكتبة والبائع المتجول فماذا تقول في كلِّ منهما.
6. الحقيقة في هذه القصة تظهر في عكس ما تقوله كلماتها. كيف؟
7. ما معنى الضحك المتواصل في نهاية القصة؟
8. جمال هذه القصة يكمن في امرين:
أ. في التناقض بين الظاهر والباطن - (Irony - الاسلوب الظاهر).
ب. في بساطتها في أنها لا تطرح مشكلة كبيره من مشاكل الحياه. وضِّح ذلك؟
*30*
*30*
مصطفى لطفي المنفلوطي
كَانَ يَلَذُّ لِي كَثيراً أَنْ أَخْتَلِفَ إِلى هذا المَكَانِ (اختلف الى المكان: جاء اليه بين الحين والآخر.) الجَمِيلِ صَبَاحَ مَسَاءَ، وَأَنْ أَسْتَريحَ إِلَى مَنْظَرِهِ الهَادِيءِ السَّاكِنِ. فَإِنِّي لَجَالِسٌ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى صَخْرَةٍ مِنْ صُخًورِهِ العَالِيَةِ أُقَلِّبُ الطَّرْفَ (اقلب الطرف: انظر الى هذه الناحية مرة والى هذه الناحية مرة اخرى ثم اعود....) بَيْنَ أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ. وَأُفَكِّرُ فِي شَأْنِ هذَيْنِ الكُوخَيْنِ الدَّارِسَيْنِ (الدراسين: المتهدمين.) إِذْ مَرَّ بِي شَيْخٌ هَرِمٌ مِنْ سُكَّانِ تِلْكَ الجَزِيرَةِ قَدْ نَيَّفَ عَلَى السَّبْعِينَ مِنْ عُمْرِهِ، يَعْتَمِدُ عَلَى عَصاً عَجْرَاءَ (عجراء: خشنه.) فِي يَدِهِ وَيَلْبَسُ سَرَاوِيلَ وَاسِعَةً وَصِدَاراً ريفِيًّا بَسِيطاً وَقُبَّعَةً عَريضَةً مِنَ الخُوصِ كَشَأْنِ سَكَّانِ تِلْكَ الأَصْقَاعِ، وَلَهُ شَعْرٌ أَبْيَضُ مُسْتَطِيلٌ مُسْتَرْسِلٌ عَلَى كَتِفَيْهِ، وَقَدْ تَلأْلأ وَجْهُهُ الأَبْيَضُ النَّحِيفُ الضَّارِبُ إِلَى السُّمْرَةِ بِذَلِكَ النُّوُرِ السَّاطِعِ الَّذِي يَتَلأْلأ دَائِماً فِي وُجُوهِ الرِّيفِيِّينَ الأَتْقِيَاءِ، نُورِ البَسَاطَةِ وَالطَّهَارَةِ، وَالنُّبْلِ وَالشَّرَفِ، فَأَنِسْتُ بِهِ وَبِمَنْظَرِهِ الجَمِيلِ الأَنِيقِ، وَبَدَأْتُهُ بِالتَّحِيَّةِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ مُتَوَسِّماً وَالقَى عَلَىَّ نَظْرَةً هَادِئَةً مُطْمَئِنَّةً، ثُمَّ رَدَّ تَحِيَّتِي رَدّاً جَمِيلاً، وَكَأنَّمَا شَعَرَ لِي بِمِثْلِ الَّذِي شَعَرْتُ لَهُ بِهِ مِنَ العَطْفِ وَالوُدِّ فَأَقْبَلَ نَحْوِي بَاسِماً مُتَهَلِّلاً. وَجَلَسَ عَلَى صَخْرَةٍ مُحَاذِيَةٍ لِلْصَّخْرَةِ الَّتِي أَجْلِسُ عَلَيْهَا وَالقَى عَصَاهُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ وَوَضَعَ قُبَّعَتَهُ بِجَانِبِهِ، فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ لَهُ:
لَعَلَّكِ تَعِيشُ فِي هذِهِ الجَزِيرَةِ يَا سَيِّدِي مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ؟
قَالَ: نَعمْ طَوَيْتُ فِيها رِدَاءَ شَبَابِي (طوى رداء الشباب: عبر مرحلة الشباب الى مرحلة الكهوله.) وَهَا أَنَذَا أَطْوِي فِيهَا رِدَاءَ شَيْخُوخَتِي، وَسَتَبْرَدَ عِظَامِي غَداً تَحْتَ صُخُورِهَا وَجَنَادِلِها. قُلْتُ: هَلْ لَكَ أَنْ تُحَدِّثَنِي
*31*
قَلِيلاً عَنْ شَأْنِ هَذَيْنِ الكُوخَيْنِ الدَّارِسَيْنِ، وَعَمَّنْ كَانَ يَسْكُنُهُمَا قَبْلَ أَنْ تَعْبَثَ بِهِما يَدُ البِلى (قوم تقتحمهم العيون: قوم من عامة الناس لان العظماء في الماضي لم يكن الناس يرونهم الا نادراً.) وَتَعْصِفَ بِهِمَا عَوَاصِفُ الدَّهْرِ وَأَرْزَاؤُهُ؟ فَوَجَمَ قَلِيلاً وَظَلَّ صَامِتاً لَا يَقُولُ شَيْئاً، وَقَدِ انْتَشَرَتْ عَلَى جَبِينِهِ اللَّامِعِ المُتَلَأْلِئِ؟ غَمَامَةٌ رَقيقَةٌ مِنَ الهَمِّ وَالاكْتِئَابِ. ثُمَّ تَنَهَّدَ تَنْهِيدَةً طَويلَةً وَاخْتَلَجَتْ لَهَا أَعْضَاؤُهُ وَقَالَ: نَعَمْ يَا بُنَيَّ إِنَّ هذَا الوَداي الَّذي تَراهُ اليَوْمَ خَرَاباً لَا يَمُرُّ بهِ المَارُّ لِيَقِفَ عَلَى رُبُوعِهِ وَأَطْلَالِهِ وِقْفَةَ المُتَأَمِّلِ المُعْتَبِرِ - كَانَ مَنْذُ عِشْرِينَ عَاماً رَوْضَةً غَنَّاءَ يَعيشُ فِيهَا أَقْوامٌ سُعَدَاءُ بِأَخْلَاقِهِمْ وَفَضائِلِهِمْ، مَا كَانَ يَخْطِرُ بِبَالِهِمْ، وَلَا بِبَالِ مَنْ يَرَاهُمْ أَنَّ مَصِيرَهُمْ سَيَكُونُ هذَا المَصِيرَ الَّذي تَرَاهُ اليَوْمَ، إِنَّ قِصَّتَهُمْ لَقِصَّةٌ غَرِيبَةٌ مُؤَثِّرَةٌ تَسْتَثيرُ الأَشْجَانَ وَتَسْتَذْرِفُ الدُّمُوعَ؛ إِلَّا أَنَّ أَبْطَالَهَا لَيْسُوا مُلُوكاً، وَلَا قَادَةً، وَلَا مِنْ أَصْحَابِ القُصًورِ وَالدُّورِ، وَالحَدائِقِ وَالبَسَاتيِنِ، وَالمَسَارِحِ وَالمَلاعِبِ وَالوَقائِعِ العَظِيمَةِ، وَالحَوادِثِ الجَسِيمَةِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ أَبْطَالِ الرِّوَايَاتِ الَّتي تَقْرَؤُونَهَا، بَلْ قَوْمٌ فُقَرَاءُ تَقْتَحِمُهُمُ العُيونُ، وَمَنْ كَانَ هذَا شَأْنُهُمْ لَا يَحْفِلُ بِهِمْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يُغْنَى بِسَمَاعِ شَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَتَوارِخِهِمْ، لأَنَّ النَّاسَ لَا يَسْتَطِيعونَ يَفْهَمُوا السَّعَادَةَ مِنَ الطَّرِيقِ الَّذي أَلِفُوهُ وَاعْتادُوهُ، فَهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ أَنَّ قَوْماً فُقَرَاءَ مُتَقَشِّفِينَ يَعِيشُونَ فِي أَرْضٍ قَفْرَةٍ جَرْدَاءَ، مُنْقَطِعَةٍ عَنِ العَالَمِ بِأَجْمَعِهِ قَدِ اسْتَطَاعُوا أَنْ يَكُونَوا سُعَدَاءَ.
فَأَكْبَرْتُ الرَّجُلَ فِي نَفْسِي وأَعْظَمْتُهُ وَقُلْتُ لَهُ:
قُصَّ عَلَيَّ قِصَّتَكَ يَا سيِّدي، فَمَا أَنَا لَوْ عَلِمْتَ الأَرَجُلٌ بَائِسٌ مِسْكِينٌ قَدْ أَخْطَأَتْهُ السَّعَادَةُ حَيْثُ طَلَبَهَا مِنَ المُدُنِ وَالحَواضِرِ بَيْنَ الدُّورِ وَالقُصورِ، فَلَعَلَّهُ يَجِدُها فِي الفَقْرِ المُوحِشِ بَيْنَ الهِضَابِ وَالصُّخُورِ.
*32*
فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبينِهِ المُغَضَّنِ كَأَنَّمَا هُوَ يُفَتِّشُ فِي طَيَّاتِهَ عَنْ بَعْضِ الذّكْرَيَاتِ القَدِيمَةِ، أَوْ يَسْتَجْمِعُ مَا تَفَرَّقَ مِنْ شَوَارِدِهَا وَأَنْشَأَ يُحَدِّثُنِي وَيَقولُ:
مصطفى لطفي المنفلوطي
الفضيلة
الأسئلة:
1. يقول الكاتب عن الشيخ: "شعرت له من العطف والوُدّ..." ما هي الاوصاف التي وصفه بها والتي تجعلنا نصدق هذا القول؟
2. من خلال وصف الكاتب للشيخ يمكنك رسم صورة الشيخ وهو جالس على الصخرة يحادث الكاتب.
3. قارن بين علاقة الكاتب وعلاقة الشيخ بالمكان المذكور في النص. سجّل الجمل التي تعبر عن حب الشيخ لهذا المكان.
4. ماذا يقول الشيخ عن الناس الذين سكنوا هذا المكان؟
*33*
5. جد في القطعة خمسة اصطلاحات لغوية تعجبك غير التي وردت في التفسير واشرحها؟
6. المنفلوطي يتميز باسلوب الوصف. ما هما الصورتان الرئيسيتان اللتان رسمهما المنفلوطي في القطعة السابقة.
7. أكثر المنفلوطي من استعمال الكلمات أو الجمل المترادفة.
أ. جد ثلاث كلمات مترادفة.
ب. جد ثلاث جمل مترادفة.
8. اختصر هذه الحكاية بلغتك بما لا يزيد عن بضعة اسطر.
9. تخيّل انك بعد هذه المقدمة سمعت ما قصه الشيخ على الكاتب فاكتب ما سمعته.
*34*
صفحة فارغة
*35*
*35*
*36*
صفحة فارغة
*37*
9. فُكَاهَةٌ
*37*
قَالَ الجَاحِظُ فِي كِتَابِ البُخَلاءِ:
يَرْوي أَصْحَابُنَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ المُقفَّعِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ ابْنُ جُذَامِ الشَّبِيُّ يَجْلِسُ إِليَّ، وَكَانَ رُبَّمَا انْصَرَفَ مَعِي إِلى المَنْزِلِ فَيَتَغَذَّى مَعَنَا، وَيُقِيمُ إِلَى أَنْ يُبرِدَ (يبرد: يدخل فيأخر النهار.).
وَكُنْتُ أَعْرِفُهُ بِشِدَّةِ البُخْلِ وَكَثْرَةِ المَالِ. فَأَلَحَّ عَلَيَّ فِي الاسْتِزَارَةِ، وَصَمَّمْتُ عَلَيْهِ في الامْتِناعِ. فَقَالَ: جُعِلْتُ فِدَاءَكَ! أَنْتَ تَظُنُّ أَنِّي مِمَّنْ يَتَكَلَّفُ وَأَنْتَ تُشْفِقُ عَلَيَّ؟ لَا وَاللهِ! إِنْ هِيَ إلَّا كَسَيْرَاتٌ يَابِسَةٌ وَمِلْحٌ وَمَاءُ الحُبِّ (ماء الحُب: الجَّرة.) فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُرِيدُ اخْتِلَابِي (الاختلاب: الخداع.) بِتَهْوِينِ الأَمْرِ عَلَيَّ. وَقُلْتُ: إِنَّ هذَا كَقَوْلِ الرَّجُلِ: يَا غُلَامُ أَطْعِمْنا كَسْرَةً أَوْ أَطْعِمِ السَّائِلَ خَمْسَ تَمْرَاتٍ، وَمَعْنَاهُ أَضْعَافُ مَا وَقَعَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ، وَمَا أَظُنُّ أَنَّ أَحَداً يَدْعُو مِثْلِي إِلَى الخُرَيبَةِ (الخريبة: ضاحية في البصرة) مِنَ البَاطِنَةْ (الباطنة: وسط المدينة.) ثُمَّ يَأْتيهِ بِكِسرَاتٍ وَمِلْحٍ!
*38*
فَلَمَّا صِرْتُ عِنْدَهُ وَقَرَّبَهُ إِلَيَّ، إِذْ وَقَفَ سَائِلٌ بِالبَابِ فَقَالَ: أَطْعِمُونَا مِمَّا تَأْكُلُونَ أَطْعَمَكُمُ اللهُ مِنْ طَعَامِ الجَنَّةِ. قَالَ: بُورِكَ فِيكَ.
فَأَعادَ الكَلَامَ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مِثْلَ ذلِكَ القَوْلِ.
فَاعادَ عَلَيْهِ السَّائِلُ: سُبْحَانَ اللهِ! مَا رَأَيْتُ كَاليَوْمِ أَحَداً يَرُدُّ مِنْ لُقْمَةٍ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: اذْهَبْ وَيْلَكَ! وَإِلَّا خَرَجْتُ إِلَيْكَ وَاللهِ فَدَفَقْتُ سَاقَيْكَ!
قَالَ السَّائِلُ: اذْهَبْ وَأَرِحْ نَفْسَكَ؛ فَإِنَّكَ لَوْ تَعرِفُ مِنْ صِدْقِ وَعِيدِهِ مِثْلَ الَّذِي أَعْرِفُ مِنْ صِدْقِ وَعْدِهِ لَمَا وَقَفْتَ طَرْفَةَ عَيْنٍ بَعْدَ رَدِّهِ إِيَّاكَ.
الجاحظ
كتاب "البخلاء"
الجاحظ:
اديب وكاتب معروف ولد سنة 775م وتوفي سنة 868م وعمل في بلاط الخليفة المأمون وله العديد من المؤلفات في اللغة والحيوان وقصص البخلاء ونوادرهم.
ابن المقفع:
من أصل فارسي، توفي سنة 759م نشأ في مدينة البصرة وعمل لدى الولاة الأمويين، أهم كتبه "كليلة ودمنه". وقد قتل في بداية الدولة العباسية بعد أن اتهم بالزندقه.
*39*
الأسئلة:
1. لماذا امتنع ابن المقفع عن زيارة صاحبه في بداية الأمر؟
2. كيف فهم ابن المقفع قول ابن جذام "ان هي الا كسيرات يابسة وملح وماء الحب...".
3. ما الذي قربه ابن جذام لضيفه ابن المقفع؟
4. في نصح ابن المقفع للسائل سخرية، وضّحها.
5. اكتب الحوار بين ابن جذام والسائل بلغتك، وأضف من عندك ما تراه مناسباً؟
6. عنوان القطعة (فكاهه) يشير الى انها من الادب الساخر.
أ. جد السخرية في الحكاية؟
ب. جد الجمل التي توحي لك بمعنى السخرية؟
7. اذكر ميزتين للادب الساخر وجدتهما في الحكاية السابقة؟
*40*
*40*
عمر أبو النصر
كَانَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ أَهْزَلِ النَّاسِ وَأَعْبَثِهِم، وَبَلَغَ مِنْ عَبَثِهِ أَنَّهُ كَانَ يَجِيءُّ بِاللَّيْلِ إِلَى مَنْزِلِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ اَلمدِينةِ لَهُ لَقَبٌ يَغْضَبُ مِنْهُ فَيُنَادِيهِ يَا فُلَانُ أَنَا أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ... ثُمَّ يَعْبَثُ بِهِ وَيُلَقّبُهُ الَّذي يَكْرَهُهُ فَيَشْتِمُهُ الرَّجُلُ أَقْبَحَ شَتْمٍ، وَأَبَانُ يَضْحَكُ. قَالَ رَاوِي الخَبَرِ فَبَيْنَمَا نَحْنُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي مَجْلِسِ أَبَانَ وَعِنْدَهُ أَشْعَبُ المّزَّاحُ المَشْهُورُ إِذ أَقْبَلَ أَعْرَابِيُّ، وَمَعَهُ جَمَلٌ. وَالأَعْرَابِيُّ أَشْقَرُ أَزْرَقُ أَزْعَرُ (شَرِسُ الأَخْلَاقِ) غَضُوبٌ يَتَلَظَّى كَأَنَّهُ أَفْعَى، وَيَتَبَيَّنُ الشَّرُ فِي وَجْهِهِ، مَا يَدْنو مِنْهُ أَحَدٌ إِلَّا شَتَمَهُ وَنَهَرَهُ. فَقَالَ أَشْعَبُ لأَبَانَ: هذَا وَاللهِ مِنَ البَادِيَةِ. فَقَالَ أَبَان: ادْعُهُ ادْعُهُ... فَأَسْرَعُوا إِلَيْهِ وَقَالُوا لَهُ: إِنَّ الأَمِيرَ أَبَانُ بْنَ عُثْمانَ يَدْعُوكَ.
فَأَتَى فَسَلَّمَ عَلَيْهِ. فَسَأَلَهُ أَبَانُ عَنْ نَسَبِهِ. فَانْتَسَبَ لَهُ. فَقَالَ أَبَانُ: حَيَّاكَ اللهُ يَا خَالِي (أَوْهَمَهُ أَبَانٌ بِذَلِكَ أَنَّ أُمَّهُ مِنْ قَبِيلَةِ الأَعْرَابِيِّ أَوْ لَعَلَّهَا مِنْ قَبِيلَتِهِ بِالفِعْلِ).
حَبِيبٌ ازْدَادَ حُبَّا.
فَجَلَسَ فَقَالَ لَهُ أَبَانُ: إِنّي فِي طَلَبِ جَمَلِ مِثْلٍ جَمَلكَ هذَا مُنْذُ زَمَانٍ. فَلَمْ أَجِدْ كَمَا أَشْتَهِي بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهذِهِ الهَامَةِ وَاللَّوْنِ وَالصَّدْرِ وَالأَوْرَاكِ وَالأَخْفَافِ.
فَالحَمْدُ لِلهِ الَّذي جَعَلَ ظَفَرِي بِهِ عِنْدَ مَنْ أُحِبُّهُ. أَتَبِيعُهُ يَا خَالُ؟
قَالَ: نَعَمْ أَيُّهَا الأَمِيرُ.
فَقَالَ فَإِنِي قَدْ بَذّلْتُ لَكَ بِهِ مِئَةً (وَكَانَ الجَمَلُ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ) فَطَمِعَ الأَعْرَابِيُّ وَسُرَّ وَانْتَفَخَ وَبَانَ الطَّمَعُ فِي وَجْهِهِ.
فَأَقْبَلَ أَبَانُ عَلَى أَشْعَبَ ثُمَّ قَالَ لَهُ: وَيْلَكَ يَا أَشْعَبُ إِنَّ خَالِي هذَا مِنْ أَهْلِكَ وَأَقارِبِكَ (يَعْني أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الطَّمَعِ لِأَنَّ أَشْعَبَ مَشْهُورٌ بِذلِكَ) فَأَوْسِعْ مِمَّا عِنْدَكَ. فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَزِيَادَةٌ، فَقَالَ لَهُ أَبَانُ: يَا خَالِي إِنَّمَا زِدْتُكَ فِي
*41*
الثَّمَنِ عَلَى بَصِيرَةِ وإِنَّمَا الجَمَلُ يُسَاوِي سِتِّينَ دِينَاراً. وَلكِنِّي بَذَلْتُ لَكَ مِئَةً لِقِلَّةِ النَّقْدِ فِي بَلَدِنَا اليَوْمَ. وَإِنِّي أُعْطِيكَ بِهِ عُرُوضاً (أَمْتِعَةً) تُسَاوِي مِئَةَ دِينَارٍ. فَزَادَ طَمَعُ الأَعْرَابِيِّ. وَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُ ذلِكَ أَيُّها الأَمِيرُ.
فَأَشَارَ أَبَانُ إِلَى أَشْعَبَ. فَأَخْرَجَ شَيْئاً مُغَطّىً. فَقَالَ لَهُ الأَمِيرُ: أَخْرِجْ مَا جِئْتَ بِهِ يَا أَشْعَبُ. فأَخْرَجَ عِمَامَةَ خَزٍّ عَتيقَةً تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ. فَقَالَ الأَمِيرُ قَوِّمْهَا يَا أَشْعَبُ. فَقَالَ رَافِعاً صَوْتَهُ: عمَامَةُ الأَمِيرِ تُعْرَفُ بِهِ وَيَشْهَدُ بِهَا الأَعْيَادَ وَالجُمَعَ وَيَلْقَى بِهَا الخُلَفَاءَ - خَمْسْونَ دِينَاراً. فَقَالَ الأَمِيرُ ضَعْهَا بَيْنَ يَدَيِ الأَعْرَابِيِّ. وَالتَفَتَ إِلَى كَاتِبِهِ (ابْنِ زَبْنَجَ) فَقَالَ: أَثْبِتْ قِيمَتَهَا فِي جَرِيدَةٍ خَاصَّةٍ، فَقَيَّدَهَا، وَوُضِعَتِ العِمَامَةُ بَيْنَ يَدَيِ الأَعْرَابِيِّ. فَكَادَ يَدْخُلُ بَعْضَهُ فِي بَعْضٍ غَيْظاً. وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الكَلاَمِ.
ثُمَّ قَالَ الأَمِيرُ: هَاتِ قَلَنْسُوَتِي. فَأَخْرَجَ أَشْعَبُ قَلَنْسُوَةً طَويلَةً خَلَقاً قَدْ عَلاَهَا الوَسَخُ وَالدُّهْنُ. وَتَخَرَقَّتْ. تُسَاوِي نِصْفَ دِرْهَمٍ. فَقَالَ الأَمِيرُ لأَشْعَبَ قَوِّمْ. فَقَالَ: قَلَنْسُوَةُ الأَمِيرِ تَعْلُو هَامَتَهُ. وَيُصَلِّي بِهَا الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ. وَيَجْلِسُ لِلْحُكْمِ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ، ثَلاَثُونَ دِينَاراً.
فَالتَفَتَ أَبَانُ لِكَاتِبِهِ ابْنِ زَبْنَجَ وَقَالَ أَثْبِتْ، فَأَثْبَتَ القِيمَةَ. وَوُضِعَتِ القَلَنْسُوَةُ بينَ يَدَيِّ الأَعْرَابِيِّ. فَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ وَجَحَظَتْ عَيْنَاهُ. وَهَمَّ بِالوُثوبِ ثُمَّ تَمَاسَكَ وَهْوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي مَكَانِهِ.
ثُمَّ قَالَ الأَمِيرُ لأَشْعَبَ: هَاتِ مَا عِنْدَكَ. فَأَخْرَجَ خُفَّيْنِ خَلِقَيْنِ قَدْ نُقِبَا وَتَقَشَّرَا وَتَفَتَّقَا. فَقَالَ أَشْعَبُ: خُفاً الأَمِيرِ يَطَأُ بِهِمَا الرَّوْضَةَ المُطَهَّرَةَ وَيَعْلُو بِهِمَا مِنْبَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللُهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعُونَ دِينَاراً. فَقَالَ الأَمِيرُ ضَعْهُمَا بَيْنَ يَدَيِ الأَعْرَابِيِّ فَوَضَعَهُمَا. ثُمَّ قَالَ لِلأَعْرَابِيِّ: اضْمُمْ إِليْكَ مَتَاعَكَ. وَقَالَ لِبَعْضِ الخَدَمِ: اذْهَبْ فَخُذْ الجَمَلَ وَقَالَ لآخَرَ: امْضِ مَعَ الأَعْرَابِيِّ فَاقْبِضْ مِنْهُ مَا بَقِيَ لَنَا لَدَيْهِ مِنْ ثَمَنِ
*42*
الأَمْتِعَةِ وَهْوَ عِشْرُونَ دِينَاراً. فَوَثَبَ الأَعْرَابِيِّ فَاَخَذَ الأَمْتِعَةَ وَضَرَبَ بِهَا وُجُوهَ القَوْمِ. ثُمَّ قَالَ لأَبَانَ: أَتَدْرِي أَصْلَحَكَ اللُهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَمُوتُ؟ قَالَ لاَ.
قَالَ أَمُوتُ لأَنِّي لَمْ اُدْرِكْ أَبَاكَ عُثْمَانَ فَاشْتَرِكَ وَاللهِ فِي دَمِهِ إِذْ وَلَدَ مِثْلَكَ. ثُمَّ نَهَضَ مِثْلَ المَجْنُونِ حَتَّى أَخَذَ بِرَأْسِ بَعِيرِهِ فَسَارَ بِهِ وَهْوَ يَتَقَدَّمُ. وَضَحِكَ أَبَانُ حَتَّى أُكَافِئَكَ عَلَى تَقْوِيَمِكَ المَتَاعَ يَوْمَ قَوَّمْتَهُ. فَيَهْرُبُ أَشْعَبُ مِنْهُ.
عمر ابو النصر، القصص العربية المختارة.
بيروت 1971 ص 117-119.
الأسئلة:
1. يمكن اعتبار النص السابق قصة قصيرة من حيث لها زمان ومكان وفيها شخصيات وتطوير للحدث، ثم لها نهاية مفاجئة.
أ. أشر الى المقومات الاربع المذكورة أعلاه.
ب. أين تنتهي القصة بالفعل؟
2. يعتبر هذا النص من الأدب الهزلي ويّبرز فيه:
أ. تناقض بين الشخصيات.
ب. مبالغة في الوصف.
ج. شخصيات ذات وجهين.
ه. نقد للسلوك الشاذ.
3. اختر احدى الشخصيات، وصفها بلغتك معتمدا على النص.
4. سجّل قصة هزلية تعرفها وبَيِّن ما فيها من مقومات الهزل المذكورة في السؤال الثاني.
5. جد معنى كلمة (عبث) واستبدلها بكلمة اخرى في كل موقع تأتي فيه في النص.
6. جد ثلاثة استعمالات انشائية تعني (شدة الغضب).
*43*
*43*
اسكندر الخوري البتجالي
دَخَلَ عَلَى الخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ (يستقدمونه: يطلبون قدومه، يقال: لفلان في هذا الأمر قَدَمُ صِدْقٍ أي له سابقه حسنه، وعكسها قَدَمُ سوء كما بقال: لفلان عند فلان قَدَمٌ: أي عليه فضل.) رِجَالٌ سُلَيْمَانَ بْنِ حَبِيبٍ المُهَلَّبِيِّ أَمِيرِ الأَهْوَازِ يَحْمِلُونَ إِلَيْهِ الهَدَايَا وَالأَمْوَالَ، وَيَسْتَقْدِمُونَهُ (الرمق (وجمعها أرماق): بقية الحياة، سدّ رمقه: أطعمه فأنقذه من الموت جوعاً.) إِلَيْهِ، وَكَانَ بَيْنَ تَلَامِذِهِ يُلْقِي عَلَيْهَمْ دَرْسَهُ. فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ حَتَّى فَرَغَ مِمَّا هُوَ فِيهِ. فَتَقَدَّمَ مِنْهُ قَائِدُهُمْ، فَقَالَ: هذِهِ مِائَةُ الفِ دِرْهَمٍ أَرْسَلَهَا إِلَيْكَ مِوْلَايَ الأَمِيرُ وَيَرْجُوكَ أَنْ تَصْحَبَنا إِلَيْهِ.
فَنَهَضَ الخَليلُ إِلَى خِزَانَةٍ فِي البَيْتِ وَأَخْرَجَ مِنْها شَيْئاً صَغِيراً يَحْمِلُهُ فِي يَدِهِ وَعَادَ إِلَى مَجْلِسِهِ وَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ هَذِهِ الكِسْرَةَ مِنَ الخُبْزِ؟ إِنَّهَا زَادِي الوَحِيدُ. وَلكِنَّهَا كافِيةٌ لِسَدِّ رَمَقِي (رد الدراهم عليهم: ارجعها لهم، يقال: هذا شيء لا رادّة ولا مَرَدَّة فيه: أي لا فائدة فيه؛ رأيّ مردود: أي رأي مرفوض.) وَمَا دَامَ عِنْدَي مِنْهَا فَلَسْتُ بِحَاجَةٍ إِلَى سُلَيْمَانَ. أَمَّا هذِهِ الدَّرَاهِمُ الكَثِيرَةُ فَعِنْدَ الأُمَرَاءِ مِنَ الشُّعَرَاءِ مَنْ هُمْ بِحَاجَةٍ إِلَيْهَا. فَلْيَرُدَّهَا عَلَيْهِمْ.
اسكندر الخوري البتجالي، أدب وطرب 1976 ص 221
اسكندر الخوري:
ولد في بيت جالا سنة 1890-1973، درس في مدارس بلده ثم في بيروت، ثم درس القانون في معهد الحقوق في القدس. له مقالات وّقصص وقصائد، عديدة في الصحف ومنذ سنة 1952 (هاجر الى أمريكا). له عدة دواوين شعر ومجموعتان للطلاب هما: الطفل المنشد والمثل المنظوم.
الخليل بن أحمد عاش في البصيرة وتوفي 791 وهو واضع اسس علم النحو واسس علم العروض والّف أول قاموس للغة العربية سماء كتاب العين ولكنه لم يستطع أن يتمه في حياته.
*44*
الأسئلة:
1. ماذا تستنتج من رفض الخليل بن أحمد دعوة أمير الأهواز اليه؟
2. لماذا ذكر الخليل الشعراء في جوابه للقائد؟
3. اعد صياغة جواب الخليل بن أحمد للقائد بلغتك.
*45*
*45*
اسكندر الخوري
وَقَفَ أَعْرابِيُّ أَمَامَ أَبِي الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ وَهْوَ يَتَغَدَّى. فَسَلَّمَ، فَرَّدَ عَلَيْهِ السَّلاَمَ ثُمَّ أَقْبَلَ طَعَامِهِ وَلَمْ يَدْعُهُ إِلَيْهِ. فَأَرَادَ الأَعْرَابِيُّ أَنْ يَتَحَكَّكَ بِهِ لَعَلَّهُ يُطْعِمُهُ، فَقَالَ لَهُ:
- لَقَدْ مَرَرْتُ بِأَهْلِكَ.
فَأَجَابَهُ أَبُو الأَسْوَدِ
- كَذلِكَ كَانَ طَرِيقُكَ.
- وَامْرَأَتُكَ حُبْلَى.
- كَذلِكَ كَانَ عَهْدِي بِهِا.
وَوَلَدَتْ لَكَ غُلاَمَيْنِ.
- كَذلِكَ كَانَتْ أُمُّهَا.
- وَمَاتَ أَحَدُهُما يَا أَبَا الأَسْوَدِ.
- مَا كَانَتْ تَقْوَى عَلَى إِرْضَاعِ اثْنَيْنِ.
- ثُمَّ مَاتَ الثَّانِي
- مَا كَانَ لِيَبْقَى بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ
- وَمَاتَتِ الأُمُّ
- حُزْناً عًلًى وَلَدَيْهَا
- مَا أَطْيَبَ طَعَامَكَ
- لأَجلِ ذلِكَ أَكَلْتُهُ وَحْدِي.
اسكندر الخوري، أدب وطرب
1976، دار النشر العربي ص 179-180
*46*
*46*
جرجي الشويري
(رسمة في الكتاب استعن بالمعلم)
رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي العَبَّاسِ خَلِيفَةٌ أَعْلَمُ مِنَ المَأْمُونِ فِي العُلُومِ. وَكَانَ لَهُ فِي كُلَّ أُسْبوعٍ يَوْمَانِ يَجْلِسُ فِيهِمَا لِمُنَاظَرَةِ (المناظرة: المجادلة والنقاش في موضوع ما.) العُلَمَاءِ فَيَجْلِسُ المُنَاظِرُونَ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُتَكَلِّمِينَ بِحَضْرَتِهَ عَلَى طَبَقَاتِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ. فَبَيْنَما هُوَ جَالِسٌ فِيهِمْ إِذْ دَخَلَ فِي مَجْلِسِهِ رَجُلٌ غَرِيبٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ رَثَّةٌ.
*47*
فَجَلَسَ فِي آخِرِ النَّاسِ وَقَعَدَ مِنْ وَرَاءِ الفُقَهَاءِ فِي مَكَانٍ مَجْهُولٍ ثُمَّ ابْتَدَأُوا فِي الكَلَامِ وَشَرَعُوا فِي مُعْضِلَاتِ (المعضلات: المسائل الصعبة الحل.) المَسَائِلِ.
فَكَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنَّهُمْ يُدِيرُونَ المَسْأَلَةَ (المسألة: السؤال) عَلَى أَهْلِ المَجْلِسِ وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ. فَكُلُّ مِنْ وَجَدَ زِيَادَةً لَطِيفَةً أَوْ نُكْتَةً غَرِيبَةً ذَكَرَهَا. فَدَارَتِ المَسْأَلَةُ إِلَى أَنْ وَصَلَتْ إِلَى ذلِكَ الرَّجُلَ الغَرِيبِ. فَتَكَلَّمَ وَأَجَابَ بِجَوَابٍ أَحْسَنَ مِنْ أَجْوِبَةِ الفُقَهَاءِ كُلِّهِمْ. فَاسْتَحْسَنَ الخَلِيفَةُ كَلَامَهُ وَأَمَرَ أَنْ يَرْتَفِعَ مِنْ ذلِكَ المَكَانِ إِلَى أَعْلَى مِنْهُ. وَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِ المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَجَابَ بِجَوَابٍ أَحْسَنَ مَنَ الأَوَّلِ. فَأَمَرَ المَأْمونُ أَنْ يُرْفَعَ إِلَى أَعْلَى مِنْ تِلْكَ الرُّتْبَةِ. وَلَمَّا دَارَتِ المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ أَجَابَ بِجَوَابٍ أَحْسَنَ وَأَصْوَبَ مِنَ الأَوَّلَيْنِ. فَأَمَرَ المَأْمُونُ أَنْ يَجْلِسَ قَرِيباً مِنْهُ؛ فَلَمَّا انْقَضَتِ المَنَاظَرَةُ أَحْضَرُوا المَاءَ وَغَسَلُوا أَيْدِيَهُمْ وَأَحْضَرُوا الطَّعْامَ فَأَكَلُوا. ثُمَّ نَهَضَ الفُقَهَاءُ فَخَرَجُوا وَمَنَعَ المَأْمُونُ ذلِكَ الشَّخْصَ مِنَ الخُرُوجِ وَوَعَدَهُ بِالإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَالإِكْرَامِ عَلَيْهِ. ثُمَّ تَهَيَّأَ مَجْلِسُ الشَّرَابِ وَحَضَرَتِ المِلَاحُ وَدَارَتِ الرَّاحُ (الراح: الخمر). فَلَّمَا وَصَلَ الدَّوْرُ إِلَى ذلِكَ الرَّجُلِ وَثَبَ قَائِماً عَلَى قَدَمَيْهِ، وَقَالَ: إِنْ أَذِنَ لِي أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ تَكَلَّمْتُ كَلِمَةً وَاحِدَةً. قَالَ لَهُ: قُلْ مَا تَشَاءُ. قَالَ: فِي عِلْمِ الرَّأيِ العَالِيْ (الرأي العالي: رأي الخليفة) زَادَهُ اللهُ عُلُواً أَنَّ العَبْدَ كَانَ اليَوْمَ فِي المَجْلِسِ الشَّرِيفِ مِنْ مَجَاهِيلِ النَّاسِ وَوُضَعَاءِ الجُلَاسِ، وَأَنَّ أَمِيرَ المُؤمِنِينَ قَرَّبَهُ وَأَدْنَاهُ بِيَسيرٍ مِنَ العَقْلِ الَّذِي أَبْدَاهُ (ابداه: أظهره)، وَجَعَلَهُ مَرْفُوعاً عَلَى دَرَجةِ غَيْرِهِ وَبَلَغَ بِهِ الغَايَةَ الَّتِي لَمْ تَسْمُ إِلَيْهَا هِمَّتُهُ. وَالآنَ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذلِكَ القَدْرِ اليَسِيرِ مِنَ العَقْلِ الَّذِي أَعَزَّهُ بَعْدَ الذُّلَّةِ (اعزّه بعد الذلة: جعله غريزاً بعد أن كان حقيراً) وَكَثَّرَهُ بَعْدَ القِلَّةِ. وَحَاشَا أَنْ يَحْسُدَهُ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ عَلَى هذَا القَدْرِ الَّذِي مَعَهُ مِنَ العَقْلِ وَالنَّبَاهَةِ وَالفَضْلِ. لأَنَّ العَبْدَ إِذَا شَرِبَ الشَّرَابَ تَبَاعَدَ عَنْهُ العَقْلُ وَقَرُبَ مَنْهُ
*48*
الجَهْلُ، وَسُلِبَ أَدَبُهُ وَعَادَ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَةِ الحَقِيرَةِ وَصَارَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ حَقِيراً مَجْهُولاً. فَأَرْجُو مِنَ الرَّأيِ العَالِي أَنْ لَا يَسْلُبَ مِنْهُ هذِهِ الجَوْهَرَةَ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَحُسْنِ شِيمَتِهِ. فَلَمَّا سَمِعَ الخَلِيفَةُ المَأْمُونُ مِنْهُ هذَا القَوْلَ مَدَحَهُ وَشَكَرَهُ وَأَجْلَسَهُ فِي رُتْبَتِهِ وَوَقَّرَهُ (وقره: جعله رفيع المنزله)، وَأَمَرَ لَهُ بمئَةِ الفِ دِرْهَمٍ وَحَمَلَهُ عَلَ فَرَسٍ وَأَعْطَاهُ ثِيَاباً فَاخِرَةً.
مدارج القراءة، جرجي الشويري - لبنان
المأمون:
هو ابن هارون الرشيد اصبح الخليفة السابع في دولة العباسيين، وعاش من سنة 786 - سنة 833. واشتهر عهده بالعلم والازهار.
الأسئلة:
1. كيف كانت تحصل المناظرات زمن المأمون؟
2. كيف يتم جلوس الحاضرين في المناظرة؟
3. كيف ارتفعت مكانة الشخص الغريب في مجلس المأمون؟
4. استعن بالقاموس لتفسير ما يأتي: تهيأ المجلس، بلغ به الغاية، حُسن شيمته.
5. اكتب بلغتك ما قاله الشخص للمأمون معللاً رفضه أن يشارك في مجلس الشراب.
*49*
*49*
ابن عبد ربه
قالَ تَميمُ بنُ عَديٍّ اليَرْبُوعيُّ: " كنتُ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ العَبَّاسِ بْنِ عبدِ المطلب عندَ مُنْصَرَفِه من دِمَشْقَ، فسأَلتُه فِي بعضِ الأيام وقلتُ لَهُ: بماذا يتمُّ عقلُ الرَّجُل، فَقَالَ: إِذَا صَنَعَ المَعروفَ مُبتدئاً بِهِ، وجادَ بما هو مُحتاجُ إِلَيْهِ، وجازى عن المُكْرُمَةِ، وتجنَّبَ مَواطنَ الاعتذارِ فقد تمَّ عقلُه. فَحَفِظْتُ ذلكَ، وألصَقْتُه بقلبي.
ثم بعد أَيّان نَزَلنا مَنْزِلاً، فَطَلبْنا طعاماً فلم نَجْدْهُ، ولا قَدِرْنا عليه. فَقَالَ عبدُ اللهِ لوكيله: اخْرُجْ إِلَى هذِهِ البّرِّيَةِ فَعَلَّكَ تجدُ بِها راعِياً معه طعام. فمضى الوكيلُ ومعه غِلمانٌ فأطالوا التوقُّفَ فلما كادُوا يَرجِعونَ لاح لهم خِباءٌ (خباء: خيمة صغيرة.) فأمُّوهُ، فَوجَدوا فيه عجوزاً، فَقَالوا: هَلْ عندَكِ طعامٌ نبتاعُه منك، فقالت: أَمَّا طعامٌ بيعٍ فلا، ولكن عِنْدي أَكلةٌ لِي، وبأولادي إِلَيْها أَمَسُّ حاجةٍ، قالوا: وايْنَ أوْلادُكِ؟ فقالت: فِي رَعْيِهِمْ، وهذا وقتُ عَوْدَتِهمْ. قَالوا: فَمَا أَعَدَدْتِ لهم: قَالتْ خُبْزَةٌ تحتَ مَلَّتِهَا (خبزة تحت ملّة: عجين موضوع في الرماد الحار.) أَنتَظِرُ بَهَا أَنْ يجيئوا، قالوا لها: فجُودي لَنَا بِنِصْفِها قَالتْ: لا، ولكنْ بِها كلِّها. قالوا: وَلِمَ مَنَعْتِ النِّصْفَ وَجُدْتِ بها ولا خُبْزَ عِنْدَكِ غَيْرَها؟ قالت: إِنَّ إِعْطاءَ الشَّطرِ من خُبزةٍ نقيصةٌ، فأَنا أَمنعُ ما يُنقصُنِي (أنا أمنع ما يُنقصني: أي أمتنع عما يُنقص من كرامتي.)، وَأَجودُ بِمَا يرفعُنِي. فَأخذوا الخبزةَ لِفَرْطِ حاجتِهِم إِلَيْهَا وانْصَرَفوا: وَلَمْ تَسْأَل من هُمْ ولا مِنْ أَيْنَ جاؤوا!
فَلَما أَتوا عبدَ اللهِ وَأَخبِرُوه خَبَرَ العجوزِ عجب من ذلك وقال: ارجِعوا إِلَيْها، فاحملوها فِي دَعَة (احملوها في دعة: أي بليونة ومحبه.)، وَأَحضِروها. فَرَجَعوا إِلَيْها، وقالوا لها: إِنَّ صاحِبنَا
*50*
أحبَّ أم يَراك. قالت: وَمَنْ صاحِبُكم؟ قالوا: عبدُا للهِ بْنُ العبّاس، قالت: ما أعرِفُ هذا الاسمَ، قالوا: العبّاسُ بنُ عبدِالمطّلِب، وهو عَمُّ النبيُّ، يريدُ أن يكافئكِ عَلَى مَا كانَ منكِ. قالت: فقد أفسَدَ الهاشميُّ مَا أثَّلْ (أثلَ: أصلَ واسسَ.) له ابْنُ عَمّه عليه السَّلامُ. والله لو كنتُ فعلتُ معروفاً مَا أخذتُ عَلَيْهِ ثَواباً، وإِنَّمَا هوَ شيءٌ يجبُ عَلَى كلِّ إِنْسانٍ أَنْ يفعَلَه. قالوا: فإِنَّهُ يحبُّ أَنْ يَراكِ ويسمَعَ كلامَكِ. قالت أصيرُ إِلَيْهِ، لأني أحبُ أن أرى رجلاً من جناحِ النَّبي وعضواً من أَعضائِه.
فَلما سارتْ إِلَيْهِ رحَّب بِها وأَدْنَى مجلِسَها، وقال: مِمَّنْ أنتِ (مِمَّنْ أنتِ: من أي قوم أنتِ)؟ قالتْ: من كلب. قال: كيفَ حالُكِ؟ قالتْ: لمْ يبْقَ من الدُّنيا ما يُفرِّحُ إِلَّا وقَدْ بَلَغْتُه، وَإِنِّي أَعِيشُ بالقناعةِ، وَأَصونُ القرابة، وَأَنا أَتوقَّعُ مُفَارَقَةَ الدنيا صباحاً ومساءً قال: أَخْبريني، ما الَّذِي أعددتِ لأولادِكِ عند انصرافِهِم بعد أخذِنا الخُبْزَةَ؟ قالتْ أعددتُ قولَ عنترة:
وَلَقَدْ أَبَيْتُ عَلَى الطَّوَى (الطَّوى: الجوع.) وأظلَلُّهُ
حَتَّى أَنَالَ بِهِ كريمَ المأكلِ
فأعجَبهُ قولُها، وقال لبعض غلمانِه: انْطَلِقْ إِلَى خِبائِها، فإِذا أَقبَلَ بَنوها فَجِئْ بهم: فقالت للغلام: انطلِقْ فكُنْ بفناءِ البيْتِ، فإنهم ثلاثةٌ، فإِذا رأيتَهم تجدُ أحدَهم دائمَ النَّظر نحوَ الأرضِ، عليهِ شعارُ الوقارِ، فإِذا تَكَلَّم أفصحَ، وإِذَا طُلِبَ أنجحَ، والآخر حديدُ النظر، كثيرُ الحذَر، إِذا وعدَ فعل، وإِن ظُلِمَ قَتَلَ. والآخرُ كَأَنَّه شُعلة نار، وكأنه يطلبُ بثأر فإِذا رأيتُ هذه الصَّفةَ فيهم فقلْ لهم عنِّي: لا تجلِسوا حتَّى تأتوني.
*51*
فانطَلَقَ الغُلامُ، فأخبَرَهُمُ الخبرَ، فَمَا بَعُدَ أَمدُهُ حَتَّى جاؤوا، فأَدناهُم عبد الله وقال: إِنِّي لِمْ أبعثْ إِليكُمْ وَإِلَى والدَتِكُمْ إِلا لأُصلِحَ من أُمورِكُمْ، وأصنعَ ما يجبُ لكم. فقالوا: إِنَّ هذا لا يكونُ إِلا عن مَسألةٍ (المسألة: السؤال (طلب العطاء).) أو مكافأةِ فعْلٍ جميلٍ تقدَّم، وَلَمْ يصدُرْ مِنَا واحدةً منهما، فإِن كنتَ أردت التَّكرُّم مبتدِئاً فمعرفتك مشكور، وبِرُّك مقبولٌ مبرور فأمر لهم بسبعةِ آلاف درهم وعَشْرٍ من النُّوق، فقالتْ لهم العجوزُ: ليقلْ كل واحد منكم بيتاً من قوله:
فقال الأكبر:
شَهِدتُ عَلَيكَ بِحُسنِ الَقال
وصدقِ الفَعالِ وطيبِ الخَبرْ
وقال الأوسطُ:
تبرعتَ بالبذلِ قبلَ السُّؤالِ
فَعالَ كريمٍ عظيمِ الخطرْ (عظيم الخَطر: شهير وذو قيمة.)
وَقالَ الأصغر:
وحقَّ لمنْ كانَ ذا فعلُهُ
بأن يَسْترقَّ رقابَ البَشَرْ (يسْتَرق: يَسْتَعْبِد.)
العقد الفريد ابن عبد ربه
عن كتاب القراءة المختارة
د. جودت الركابي، قديري الحكيم
دمشق 1865
ابن عبد ربه:
عاش من 860م-960م. ولد في قرطبة ونشأ على تفضيل العلوم والفنون واتقن الكتابة والشعر، اشهر آثاره كتاب العقد الفريد، وهو يتألف من خمسة وعشرين باباً في الاجتماع والسياسة والأخلاق والأدب والتاريخ.
*52*
الأسئلة:
1. هات عكس الكلمات التالية: نبتاع، نقيصة، أدناهم إليه.
2. هات مرادفات التعابير التالية: امّوا الخباء، أصير إليه، إذا طُلبَ انجح، لا صلح من أمركم.
3. كيف فسرت الاعرابيه تفريطها بالخبزة كلها بدل نصفها؟
4. لماذا اعتبرت رغبة عبد الله بمكافأتها إفساداً؟
5. ماذا قالت العجوز في وصف حالها؟.. أضف شيئاً لهذا الوصف.
6. وصفت الأعرابية اولادها الثلاثة لغلام عبد الله رغم أنه يعرف موقع الخباء الذي سيأتي إليه أولادها... لماذا؟
7. كيف فسر الابناء الثلاثة رغبة عبد الله باصلاح أمرهم وصنع ما يجب لهم؟
8. ورد في القطعة أكثر من مرة ذكر ابتداء المعروف، والجود بما لا غناء عنه. سجّل النصوص التي تشير الى كل من هذين المعنيين.
*53*
*53*
رنات المثالث والمثاني
قال صعصعة: خرجتُ باغياً ناقتين لِي فرُفعتْ لِي نارٌ فسرتُ نحوها وهممتُ بالنزول، فجعلتِ النار تُضيء مرّه وتخبو أُخرى. فلم تزل تفعل ذلك حتى قلتُ: اللّهمَّ لك عليّ إِن بلَّغَتني (بلغتني: أوصلتني.) هذه النار أن لا أجد أهلها يوقدون لكرْبةٍ يقدرُ احدٌ من الناس أن يُفَرِّجُها إِلا فرَّجْتُهَا عنهم. قال: فلم أسِرْ الا قليلاً حتى انتهينا إِلَى حيِّ من تميم، إذا بشيخ حادِرٍ أشعرَ (حادر: سمين ومكتظّ. اشعر: كثير شعر الرأس والبدن.) يُوقدها فِي مقدّم بيته والنساء قد اجتمعنَ إِلَى امرأةٍ تلد وقد حبستهن ثلاث ليالٍ. فسلّمتُ فقال الشيخ: مَن أنت؟ فقلت أنا صَعْصَعَة بن ناجيَة بنِ عِقال. قال: مرحباً بسيّدنا. ففيم أنت يا ابن اخي؟ فقلت فِي بغاء (بغاء: طلب.) ناقتين لِي عَمِيَ (عمي: التَبَسَ، انقطع (نقول: عميت الاخبار عنه، ونقول عمي عليه الدهر) عليَّ اثَرُهُمَا. فقال: قد وجدتهما بعد أن أحيا الله بهما أهلَ بيت من قومك وها هما، فِي أدنى لابل. قال: قلتُ ففيمَ تُوقِد نارَك منذ الليلة؟ قال: أوقدُها لامرأةٍ ماخض قد حَبَسَتْنا منذ ثلاث ليالٍ. وتكلمتِ النساءُ فقلنَ: قد جاءَ الولد. فقال الشيخ: ان كان غلاماً فو الله ما أدري ما أصنعُ به. وإن كانت جاريةً فلا اسمعَنَّ صوتها، اني اقتلها: فقلت: يا هذا ذرها (ذرها: اتركها.) فإنَّها ابنتك ورزقُها على الله. فقال: أَقْتُلُهَا. فقلت: أنشدُك الله. فقال: اني أراك بها حفيّا (حَفِيّا: مكرماً، حفا يحفو: أعطى. حفَى يَحْفَى: بالغ في الاكرام، حفاوة: اكرام.) فاشترها مني. فقلت: اني أَشتريها منك. فقال: ما تُعطيني. قلت: أعطيك احدى ناقتيَّ قال: لا. قلت: فأزيدك. الأخرى. فنظر إِلَى جملي الذي تحتي فقال: لا الا ان تَزيدَني جملك هذا فإِني أراه حسنَ اللون شابَّ السن. فقلت: هو لك والناقتان على أَنْ تُبْلِغَني اهلي عليه قال: قد فعلت. فابتعتُها منهُ بناقتين وجمل وأخذت عليه عهدا الله وميثاقَهُ لَيُحسِنَنَّ بِرَّها (بِرها: الشفقة واللطف بها.)
*54*
وصِلَتها ما عاشت حتى تبينَ (تبين البنت من اهلها: تتزوج وتترك بيتهم.) منهُ أو يُدرِكَها الموت. فلمَّا بَرَزْتُ من عنده حدثني نفسي وقالتُ: ان هذا لمرُمةٌ ما سبقني إليها احد من العرب. فَآلَيْتُ ان لا يئِدَ أحدٌ بنتاً لَهُ إلا اشتريها منهُ بِلقوحينِ وجملِ. فجاء الاسلامُ وقد فديتُ ثلثمائةِ مَوؤدةٍ.
رنات المثالث والمثاني
الأسئلة:
1. فسّر ما يلي: رفعت لي نار، حبستهن ثلاث ليال، ففيم أنت يا ابن أخي، عميَ عليَّ اثرهما، فأزيدك الاخرى، لتحسِنَنَّ بِرها، على ان تبلغني اهلي عليه.
2. ماذا تمنى صعصعة على الله عندما رأى النار تعلو ثم تخبو؟
3. كيف وجد ناقتيه؟
4. كيف اقنع صعصعة والد المولودة ان لا يئدها؟
5. الحكاية السابقة تحتوي على:
أ. مقدمة تحدد الزمان والمكان.
ب. الحدث الذي تنبني الحكاية عليه.
ج. المشكلة التي تتأزّم.
د. الحل.
اكتب بلغتك كل مرحلة من هذه المراحل.
6. كيف ينظر الإسلام وبقية الأديان الى عمل صعصعة؟
*55*
*55*
أَضَاعَ رَجُلٌ رَفيقَهُ مَعَ بَعِير (بعير: جمل) لَهُ فِي إِحْدَى الصَّحَارِي، وَظَلَّ يَنْشُدُهُمَا (ينشدهما: يطلبهما.) طُولَ النَّهَارِ مِنْ غَيْرِ جَدْوَى. ثُمَّ لَقِيَ وَقْتَ الْعَصْرِ أَعْرَابِيَّا، فَفَرِحَ بِهذِهِ الْمُصَادَفَةِ وَسَأَلَهُ هَلْ رَأَى الرَّجُلَ وَالْبَعِيرَ. فَقَالَ لَهُ الأَعْرَابِيُّ: (هَلْ كَانَ رَفِيقُكَ سَمِيناً وَأَعْرَجَ؟ (قَالَ الرَّجُلُ: (نَعَمْ، وَأَيْنَ هُوَ؟ (أَجَابَ الأَعْرَابِيُّ: (لاَ أَدْرِي أَيْنَ هُوَ، وَلكِنْ قُلْ لِي هَلْ كَانَ بِيَدِ رَفِيقِكَ عَصاً، وَهَلْ كَانَ الْبَعِيرُ أَعْوَرَ يَحْمِلُ حِمْلاً مِنْ التَّمْرِ؟ (فَكَادَ الرَّجُلُ يَطِيرُ فَرَحاً وَأَجَابَ مُسْرِعاً: (نَعَمْ لَقَدْ عَرَفْتَ رَفِيقِي وَبَعيري، وَقَدْ أَنْهَكَنِي التَّعَبُ وَأَنَا أَنْشُدُهُمَا مِنْ غَيْرِ جَدْوَى فِي هذَا الْحَرِّ الشَّدِيدِ. بِاللهِ عَلَيْكَ دُلَّنِي عَلَى مَحَلِّهِمَا، مَتَى رَأَيتَهُمَا وَأَيْنَ ذَهَبَا؟).
قَالَ الأَعْرَابِيُّ: إِنَّنِي لَمْ أَرَ رَفِيقَكَ قَطُّ وَمَعَ ذلِكَ أَعْرِفُ صِفَاتِهِ، بَلْ أعْرِفُ أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ. أَعْرِفُ أَنَّهُ اسْتَرَاحَ مُدَّةً تَحْتَ هذِهِ النَّخْلَةِ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى جِهَةِ الشَّامِ، وَكانَ ذلِكَ قَبْلَ نَحْوِ ثَلاَثِ سَاعَاتٍ. فَصَاحَ الرَّجُلُ وَقَدْ فَرَغَ صَبْرُهُ: (كَيْفَ تَعْرِفُ كُلَّ ذلِكَ إِذَا كُنْتَ لَمْ تَرَهُ؟) فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: (لَمْ أَرَهُ بِعَيْنِي وَلكِنّي عَرَفْتُهُ مِنْ آثَارِهِ).
ثُمَّ أَمْسَكَ بِيَدِ الرَّجُلِ وَتَقَدَّمَ بِهِ نَحْوَ آثَارِ الأَقْدَامِ الْبَاقيَةِ عَلَى الرِّمَالِ وَقَالَ لَهُ: (انْظُرْ إِلَى الاثارِ: هذِهِ آثَارُ قَدَمِ الرَّجُلِ، وَهذِهِ آثَارُ خُفِّ الْبَعِيرِ، وَهذِهِ الْعَصاَ. أُنْظُرْ إلى آثَارِ قَدَمَيِ الرَّجُلِ، تَجِدِ اليُسْرَى مِنْهُمَا أَعْمَقَ وَأَكْبَرَ مِنْ الْيُمْنَى، أَلَيْسَ ذلِكَ دَلِيلاً عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَعْرَجَ؟ وَقَارِنْ بَيْنَ هذِهِ الآثَارِ وَآثَارِ
*56*
قَدَمَيَّ أَنَا، أَلَيْسَتْ أَعْمَقَ مِنْهَا؟ أَلَا تَفْهَمُ مِنْ ذلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ أَسْمَنَ مِنِّي؟ (فَدُهِشَ الرَّجُلُ مِنْ هذِهِ الاسْتِدْلَالَاتِ وَصَاحَ قَائِلاً: (كُلُّ ذلِكَ حَسَنٌ جِدّاً، وَلكِنْ قُلْ لِي كَيْفَ يُمْكِنُكَ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّ الْبَعِيرَ كَانَ أَعْوَرَ وَالْعَيْنُ لَا تَتْرُكُ أَثَراً عَلَى الأَرْضِ؟)
فَضَحِكَ الأَعْرَابِيُّ وَقَالَ: (هذَا صَحِيحٌ، إِنَّ الْعَيْنَ لَا تَتْرُكُ أَثَراً عَلَى الرِّمَالِ، وَلكِنَّهَا تَرَكَتْ أَثَراً فِي هذِهِ الأَعْشَابِ. فَانْظُرْ إِلَى هذَا الْكِلأَ (الكلأ: العشب.) وَانْتَبِهْ إِلَى آثَارِ الأَكْلِ فِيِه، أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَرْعِي مِنْهُ فِي الْجِهَةِ الْيُمْنىَ؟) فَزَادَ اسْتِغْرَابُ الرَّجُلِ وَسَأَلَهُ: (وَالْحِمْلُ؟ وَالتَّمْرُ؟ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكَونَ لَهُمَا آثَارٌ أَيْضاً؟)
فَتَقَدَّمَ الأَعْرَابِيُّ نَحْوَ عِشْرِينَ خُطْوَةً وَقَالَ: (انْظُرْ إِلَى النَّمْلِ حَوْلَ آثَارِ الأَقْدَامِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهَا تَجَمَّعَتْ وَصَارَتْ تَرُوحُ وَتَجِيءُ حَوْلَ عُصَارَةِ التَّمْرِ؟) فَأَطْرَقَ الرَّجُلُ مُفَكِّراً مُتَعَجِّباً ثُمَّ قَالَ: (وَالسَّاعَةُ كَيْفَ يُمْكِنُكَ أَنْ تَعْرِفَهَا).
فَأَخَذَهُ الأَعْرَابِيُّ نَحْوَ النَّخْلَةِ وَقَالَ لَهُ: (انْظُرْ إِلَى هذِهِ، أَلَمْ تَفْهَمْ مِنْهَا أَنَّ رَفِيقَكَ كَانَ قَدِ اسْتَرَاحَ هُنَا وَالْبَعِيرُ مَعَهُ؟) فَأَجَابَ الرَّجُلُ: (وَلكِنْ كَيْفَ عَرَفْتَ أَنَّ ذَلكَ كَانَ قَبْلَ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ؟)
فَضَحِكَ الأَعْرَابِيُّ مَرَّةً أُخْرَى وَقَالَ: (انْظُرْ إِلَى ظِلِّ النَّخْلَةِ أَيْنَ هُوَ الآنَ. هَلْ تَظُنُّ أَنَّ رَفِيقَكَ تَرَكَ الظِّلَّ وَجَلَسَ فِي الشَّمْسِ؟ كَلَّا. لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ اسْتَرَاحَ حَيْثُ كَانَ الظِّلُّ. وَأَنَا ابْنُ البَادِيَةِ، أَعْرِفُ أَنَّ الظِّلَّ لا يَتَحَوَّلُ مِنَ
*57*
مَحَلِّ هذِهِ الآثَارِ إِلَى الْمَحَلِّ الَّذِي هُوَ فِيهِ الآنَ إِلَّا فِي نَحْوِ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ وَبِهذَا عَرَفْتُ أَنَّهُ ذَهَبَ مِنْ هُنَا قَبْلَ ثَلَاتِ سَاعَاتٍ).
الأصول العربية
من كتاب السنابل من حقول الأدب
الجزء الثالث ص 139-141
(رسمة في الكتاب استعن بالمعلم)
*58*
الاسئلة:
1. اقرأ الحكاية السابقة ثم تحدث عما أثار رغبتك في متابعة قراءتها.
2. في بداية القصة كان الرجل منفعلاً لانه ظن انه وجد رفيقه وبعيره اما في النصف الثاني فقد كان انفعاله من ذكاء البدوي
أ. قارن بين طول الجمل الحواريه في قسمي الحكاية.
ب. ما هو سبب الفرق في اسلوب الكتابة بينهما حسب رأيك؟
ج. كيف عرف الأعرابي أن الجمل سار في طريقه الى الشام؟
*59*
*59*
*60*
صفحة فارغة
*61*
*61*
أحمد شوقي
لَمَّا دَعَى دَاعِي أَبِي الأَشْبَالِ (ابو الاشبال: الاسد)
مُبَشِّراً بِأَوَّلِ الأَنْجَالِ
سَعَتْ سِبَاعُ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ
وَانْعَقَدَ المَجْلِسُ لِلْهَنَاءِ
وَصَدَرَ المَرْسُومُ بِالأَمَانِ
فِي الأَرْضِ لِلْقَاصِي بِهَا وَالداِّنِي (القاصي والداني: البعيد والقريب.)
فَضَاقَ بِالذُّيُولِ صَحْنُ الدَّارِ (صحن الدار: ساحة الدار، ضاق صحن الدار بالذيول: امتلأت الساحة بالحيوانات أصحاب الذيول.)
مِنْ كُلِّ ذِي صُوفٍ وَذِي مِنْقَارِ
حَتَّى إِذَا اسْتَكْمَلَتِ الجَمْعِيَّةُ
نَادَى مُنَادِي اللَّيْثِ فِي المَعِيَّهْ
هَلْ مِنْ خَطِيبٍ مُحْسِنٍ خَبِيرِ
يَدْعُو بِطُولِ العُمْرِ لِلأمِيرِ؟
فَنَهَضَ الفِيلُ المُشِيرُ السَّامِي
وَقَالَ مَا يَلِيقُ بِالمَقَامِ
(رسمة في الكتاب استعن بالمعلم)
*62*
ثُمَّ تَلاهُ الثَّعْلَبُ السَّفِيرُ
يُنْشِدُ حَتَّى قِيلَ ذَا جَرِيرُ! (جرير: شاعر عربي عاش في عهد بني اميه.)
وَانْدَفَعَ القِرْدُ مُدِيرُ الكَاسِ
فَقِيلَ أَحْسَنْتَ أَبَا نُواسِ!
وَأَوْمَأَ الحِمَارُ بِالعَقِرَهْ (العقيره: تقول رفع عقيرته: صاح، أومأ: أَشار، أومأ بالعقيرة: بدأ يتكلم بصوت عالٍ).
يُرِيدُ أَنْ يُشَرِّفَ العَشِيرَهْ
فَقَالَ: باسْمِ خَالِقِ الشَّعِيرِ
وَبَاعِثِ العَصَا إِلَى الحَمِيرِ....!
فَأزْعَجَ الصَّوْتُ وَلِيَّ العَهْدِ
فَمَاتَ مِنْ رِعْدُتِهِ فِي المَهْدِ
فَحَمَلَ القَوْمُ عَلَ الحِمَارِ
بِحَمْلَةِ الأَنْيَابِ وَالأَظْفَارِ
وَانْتُدِبَ الثَّعْلَبُ لِلتَّأْبِينِ
فَقَالَ فِي التَّعْرِيضِ بِالمَسْكِينِ:
لَا جَعَلَ اللهُ لَهُ قَرَارا
عَاشَ حِمَاراً وَمَضَى حِمَارا
أحمد شوقي
الاسئلة:
1. هذه قصة مثل شخصياتها من الحيوان.
أ. ما هي الشخصيات المذكورة في قصة المثل هذه.
ب. ما هي درجة كل منها؟
2. لماذا ملأ أصحاب الذيول صحن الدار؟ جد سببين لفرحهم؟
*63*
3. ما الفرق بين كلام كل من الفيل والثعلب والقرد والحمار؟
4. لماذا لم يتم الحمار كلامه؟
5. كان للثعلب دورانِ في الحكاية، ما هما؟
6. في هذه الحكاية سخرية. ولذلك نجد أنفسنا نبتسم أو نضحك أَثناء قراءتها. عين المواقع التي ابتسمتَ أو ضحكت بها أَثناء القراءه؟
7. من مميزات الادب الساخر استعمال الاسلوب الجاد والمبالغة في غير موقعهما مثل: (دعوة الاسد للحيوانات بمناسبة ولادة أول أَبنائه..) كما جاء في البيت الأول...هات أمثلة مشابهة وردت في الحكاية؟
8. يمكن التخفيف من هذه الجدية والمبالغة إذا كتبنا هذه الأمثلة بلغة بسيطة...جرب ذلك على أحدها؟
9. ما هي الفكرة التي تعالجها هذه الحكاية؟
*64*
*64*
مصطفى صادق الرافعي
كَانَ القِطُّ الهَزِيلُ مُرَابِطاً فِي زُقَاقٍ وَقَدْ طَارَدَ فَانْجَحَرَتْ (انجحرت: امتنعت، اختبأت في جُحر) فِي شَقٍّ، فَوَقَفَ المِسْكِينُ يَتَربَّصُ بِهَا أَنْ تَخْرُجَ. وَكَانَ القِطُّ السَّمِينُ قَدْ خَرَجَ مِنْ دَارِ أَصْحَابِهِ، يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّجَ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَبْصَرَ الهَزِيلَ مِنْ بَعِيدٍ فَأَقْبَلَ يَمْشِي نَحْوَهُ، وَرآهُ الهَزِيلُ فَجَعَلَ يَتَأَمَّلُهُ وَهُوَ يَمُوجُ فِي بَدَنِهِ مِنْ قُوَّةٍ وَعَافِيَةٍ، وَيَكَادُ إهَابُهُ (اهابه: جلده.) يَنْشَقُّ سِمَناً.
وَأَحَسَّ السَّمِينُ بِالرَّحْمَةِ لِلْهَزِيلِ، إِذْ رَآهُ نَحِيفاً مُنْقَبِضاً، طَاوِيَ البَطْنِ (طاوي البطن: جائع) بَارِزَ الأَضْلَاعِ، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا بِكَ، وَمَالِي أَرَاكَ مَتَيَبِّساً كَالمَيِّتِ غَيْرَ أَنَّكَ لَمْ تَمُتْ، أَفَلَا يَسْقُونَكَ اللَّبَنَ وَيُطْعِمُونَكَ اللَّحْمَةَ، وَيَأْتُونَكَ بِالسَّمَكِ، وَيَقْطَعُونَ َلَكَ الجُبْنَ أَبْيَضَ وَأَصْفَرَ، وَيُفِتُّونَ لَكَ الخُبْزَ فِي المَرَقِ، وَيُؤْثِرُكَ (يُؤثِرُكَ: يفضلك على نفسه.) الطِّفْلُ بِبَعْضِ طَعَامِهِ، وَتُدلِّلُكَ الفَتَاةُ عَلَى صَدْرِهَا، وَتْمُسَحُكَ المَرْأةُ بِيَدَيْهَا، وَيَتَنَاوَلُكَ الرَّجُلُ كَمَا يَتَناوَلُ ابْنَهُ؟ وَمَا لِجِلْدِكَ هذَا مُغْبَراً، كَأنَّكَ لَا تَلْطَعُهُ بَلُعَابِكَ وَلَا تَتَعَهَّدُّهُ بِتَنْظِيفٍ؟
قَالَ الهَزِيلُ: (وَإِنَّ لَكَ لَحْمَةً وَشَحْمَةً، وَلَبَناً وَسَمَكاً وَجُبْناً وَفُتَاتاً، وَإِنَّكَ لَتَقْضِي يَوْمَكَ تَلْطَعُ جِلْدَكَ مَاسِحاً وَغَاسِلاً، أَوْ تَنْطَرِحُ عَلَى الوَسَائِدِ وَالطَّنَافِسِ نَائِماً وَمُتَمَدِّداً؟ أَمَا وَاللهِ قَدْ جَاءَتْكَ النِّعْمَةُ وَالبَلَادَةُ مَعاً.
وَصَلُحَتْ لَكَ الحَيَاةُ وَفَسُدَتْ مِنْكَ الغَرِيزَةُ، عَطفُوا عَلَيْكَ، وَأَفْقَدُوكَ أَنْ تَعْطِفَ عَلَى نَفْسِكَ، أَمَا عَلِمْتَ - وَيْحَكَ - أَنَّ لَهْفَةَ (لهفة الحرمان: اللهفة التي يسببها الحرمان.) الحِرْمَانِ هِيَ الَّتِي تَصْنَعُ فِي الكَسْبِ لَذَّةَ الكَسْبِ، وَسُعَارَ (سعار الجوع: شدتهِ.) الجُوعِ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ، فِي
*65*
الطَّعَامِ لَذَّةَ الطَّعَامِ؟ إِنَّ الحُرِّيَّةَ لَتَجْعَلُنِي أَتَشَمَّمُ مِنَ الهَوَاءِ لَذَّةً مِثْلَ لَذَّةِ الطَّعَامِ، وَأَسْتَرْوِحُ (استروح: أشم.) مِنَ التُّرَابِ لَذَّةً كَلَذَّةِ اللَّحْمِ، وَلَقَدْ كُنْتُ السَّاعَةَ أَخْتِلُ (أختل: أخدع) فَأْرَةً انْحَجَرَتْ فِي هذَا الشَّقِّ، فَطَعِمْتُ مِنْهَا لَذَّةً وَإِنْ لَمْ أُطْعَمْ لَحْماً، وَبِالأَمْسِ رَمَانِي طِفْلٌ خَبِيثٌ بِحَجَرٍ فأَحْدَثَ لِي وَجَعاً، وَلكِنَّ الوَجَعَ أَحْدَثَ لِيَ الاحْتَراسَ. هَلْ ذُقْتَ أَنْتَ رَاحَةَ المُخَاتَلَةِ وَاسْتِرَاقَ الغَفْلَةِ مِنْ فَأْرَةٍ أَوْ جُرَذٍ؟ وَهَلْ نَالَتْكَ لَذَّةُ الظَّفَرِ حِينَ هوَّلَكَ طِفْلٌ بِالضَرْبِ فَهَوَّلْتَهُ أَنْتَ بِالعَضِّ وَالعَقْرِ (الغفر: العَضّ.) فَوَلَّى عَنْكَ مُنْهَزماً؟
قَالَ السَّمِينُ: "وَفِي الدُّنْيَا هذِهِ اللَّذَاتُ كُلُّهَا وَأَنَا لَا أَدْرِي؟ هَلُمَّ أَتَوَحَّشْ مَعَكَ لِتَكُنْ لِي مِثْلُ رَاحَتِكَ وَلَذَّتِكَ، وَسَأتَصَدَّى مَعَكَ لِلرِّزْقِ أُطَارِدُهُ وَأُوَاثِبُهُ".
مصطفى صادق الرافعي
مصطفى صادق الرافعي:
1880-1937 كاتب مصري له ديوان شعر من ثلاثة أجزاء أسمه ديوان الرافعي سنة 1808 وديوانان آخران. وعدة أناشيد وطنية مصرية. اهتم بالكتابة في سنة 1919 وله عدة مؤلفات منها إعجاز القرآن ووحي القلم وغيرها.
*66*
أسئلة:
1. في بداية القطعة ينظر كل قط لصاحبه نظرة استهزاء.... استخرج الجملَ التي استعملها كل منهما للسخرية من حال صاحبه؟
2. أكتب هذه الجمل بصياغة إخبارية بحيث لا يبقى فيها أثر للهزءِ؟
3. كيف دافع كل منهما عن إقتناعه بحاله؟
4. ما هما الجملتان الرئيسيّتان اللتان سخر كل قط باحداهما من حال صاحبه؟
5. ما هو أهم شيء فقده القط السمين حسب رأيك؟
6. ماذا عَنَى القط السمين بقوله: هلمَّ أتوحش معك....)؟
7. أي القطين انتصر في نهاية الحوار؟ اشرح!
8. ضع عنواناً آخر ملائماً للحكاية؟
*67*
*67*
(من ألف ليلة وليلة)
ثُمَّ إِنَّ المَلِكَ أَمَرَ الزِيرَ بِأَنْ يَأْتِيَهُ بِبِنْتٍ عَلَى جَرْيِ عَادَتِهِ (على جَرْي عادته: كما اعتاد)، فَخَرَجَ الوزِيرُ وَفَتَّشَ فَلَمْ يَجِدْ بِنْتاً، فَتَوَجَّهَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَهْوَ غَضْبَانُ مَقْهُورٌ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ مَنَ المَلِكِ.
وَكَانَتْ لِلْوَّزِيرِ بِنْتَانِ ذَوَاتَا حُسْنٍ وَجَمَالٍ، وَبَهَاءٍ وَقَدٍّ واعْتِدَالٍ... الكَبِيرَةُ اسْمُهَا شَهْرَزَادُ، والصَّغِيرَةُ اسْمُهَا دُنْيَازَاد. وَكَانَتْ الكَبِيرَةُ قَدْ قَرَأَتْ الكُتُبَ وَالتَّوَارِيخَ، وسِيَرَ المُلُوكِ المُتَقَدِّمِينِ، وَأَخْبَارَ الأُمَمِ المَاضِين، فَقَالَت لأَبِيهَا: مَالِي أَرَاكَ مُتَغَيِراً حَامِلاً الهَمَّ وَالأَحْزَانَ؟ وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ فِي المَعْنَى شِعْراً:
قَلْ لِمَنْ يَحْمِلُ هَمّاً
إِنَّ هَمّاً لا يدُوم
فكما يَفنى السرورَ
هكذا تَفْنى الهُموم
فلما سمِعَ الوزيرُ من ابنتِهِ هذا الكلامَ، حكَى لها ما جرى له مَعَ المَلك. فَقَالَتْ لَهُ: بِا للهِ يَا أَبَتِ زَوِّجْنِي هذَا المَلكَ، فَإِمَّا أَنْ أَعِيشَ وَإِمَّا أَنْ أَكُون فِداءً لِبَنَاتِ المُسْلِمِين (بنات المسلمين: لعل هذه الحكاية مما زاده المسلمون على الحكايات الهندية والفارسية لأن الهنود والفرس لم يكونوا مسلمين قبل ان يظهر الدين الإسلامي.)، وسبباً لخلاصِهِنَّ.
فَقَالَ لَهَا: بِاللهِ عَلَيْكِ لَا تُخَاطِري بِنَفْسِكِ أَبَدَا.
فَقَالَتْ لَهُ: لا بُدَّ مِنْ ذلِكَ.
*68*
فَقَالَ: أَخْشَى أَنْ يحصُلَ لَكِ مَا حَصَلَ لِلْحِمَارِ والثَّوْرِ مَعَ صَاحِبِ الزَّرَعِ.
فَقَالَتْ لَهُ: وَمَا الَّذِي جّرّى لَهُمَا يَا أَبَتِ؟
قَالَ: اعْلَمِي يَا ابْنَتِي أَنَّهُ كَانَ لِبَعْضِ التُّجَّارِ أَمْوَالٌ وَمَوَاشٍ، وَكَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ وَأَوْلَادٌ، وَكَانَ اللهُ تَعَالَى أَعْطَاهُ مَعْرِفَةَ أَلْسُنِ الحَيْوَاناتِ وَالطَّيْرِ. وَكَانَ مَسْكَنُ ذلِكَ التَّاجِرِ الأَرْيَافُ، وَكَانَ عِنْدَهُ فِي دَارِهِ حِمَارٌ وَثَوْرٌ. فَأَتَى الثَوْرُ يَوْماً إِلَى مَكَانِ الحِمَارِ فَوَجَدَهُ مَكْنُوساً مَرْشُوشاً، وَفِي مَعْلَفِهِ شَعِيرٌ مُغَرْبَلُ وَتِبْنَ مُغَرْبلٌ، وَهْوَ راقِدٌ مُسْتَرِيحٌ، وَفِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ يركبُهُ صاحِبُه لِحاجةٍ تَعْرِضُ لَهُ (تعرِض له: تسنح له.) وَيَرْجِعُ إِلَى الحال الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا. فَلَمَا كَانَ فِي بَعْضِ الأَيَامِ سَمِعَ التَّاجِرُ الثورَ وَهْوَ يَقُولُ لِلْحِمَارِ: هَنِيئاً لَكَ ذلِك، أَنَا مُتْعَبٌ وَأَنْتَ مُسْتَرِيحٌ، تَأَكُلَ الشَّعِيرَ مُغَرْبَلاً وَيَخْدِمُونَكَ، وَفِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ يَرْكَبُكَ صَاحِبُكَ وَيَرْجِعُ، وَأَنَا دَائِماً لِلْحَرْثِ وَالطَّحْنِ.
فَقَالَ لَهُ الحِمَارُ: إِذَا خرجْتَ مَعَهُمْ للحَرثِ فَارْقدْ وَلَا تَقُمْ وَلَا تَقُمْ وَلَوْ ضَرَبُوكَ، فَإِنْ قُمْتَ فَارقدْ ثانِياً، فَإِذَا رجَعُوا بِكَ وَوَضَعُوا لَكَ الفُولَ فَلَا تَأْكُلْهُ كَأَنَّكَ ضعيفٌ، وامْتَنِعْ عَنْ الأَكْلِ والشَّرَابِ يَوْماً أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَة، فَإِنَّكَ سَتَسْتَرِيحُ مِنَ التَعَبِ وَالجَهدِ وَكَانَ التاجرُ يسمعُ كَلَامَهُمَا... فَلَمَا جَاءَ السَّوَاقُ إِلَى الثَّور بعلفِهِ أَكَلَ منه شيئاً، وأَصبحَ السَّواق فأَراد أَنْ يأخُذَ الثَّورَ إِلَى الحرث فوجدَهُ ضَعِيفا، فقال له التاجر: خُذْ الحمارَ وحرِّثْهُ مكانه اليومَ كُلَّهُ.
فَلَمَا رَجَعَ الحِمَارُ آخِرَ النهارِ شكرَهُ الثورُ عَلَى تَفَضُّلَاتِهِ، حيثُ أَراحَهُ مِنَ التَعبِ فِي ذلِكَ اليومِ فَلَمَ يَرُدَّ عَلَيْهِ الحِمَارُ جواباً وَنَدِمَ أَشَدَّ الندامة.
*69*
فَلَمَا كَانَ ثانِي يومٍ جَاءَ المزارعُ وأَخذَ الحمارَ وَحَّرثَهُ إِلَى آخر النهار، فلم يرجع الحمارُ إِلا مسلوخَ الرقبةِ شديدَ الضَّعْفِ. فَتَأَملهُ الثورُ وشكرَهُ وَمَجَّدَهُ. فقال الحمارُ في نفسِهِ: كنتُ مُقيماً مُستريحاً فَمَا ضرَّنِي إِلا فُضُولِي (الفضول: التدخل فيما لا يعنيه.).
ثمَّ قالَ: اعلمْ أَني لكَ ناصحٌ، وقد سمعتُ صاحبَنَا يقولُ: إِذا لم يَقُمِ الثَّورُ من مَوْضِعِه فادْفَعُوا به للجَزَّار ليذْبَحَهُ ويعملَ جلدَهُ بساطاً، وَأَنا خائفٌ عليكَ، ونصحتُكَ والسَّلام.
(رسمة في الكتاب استعن بالمعلم)
فَلَمَا سمع الثورُ كلامَ الحمارِ شَكَرَهُ وقالَ: فِي غدٍ أَسْرَحُ مَعْهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ الثورَ أَكلَ علفَهَ بتمامِهِ حَتَّى لَحَّسَ المِذْوَدَ بلسانِهِ، كلُّ ذلِكَ وَصَاحِبُهُمَا يسمعُ كلامَهُمَا...فلما طَلَعَ النهارُ خَرَجَ التاجرُ وزوجتُه إِلَى دار البقر وَجَلَسَا، فجاءَ السَّواقُ وأَخَذَ الثَّورَ وخَرَجَ، فلما رأَى الثورُ صَاحِبَه حَرَّكَ ذَنَبَهُ وَبَرَكَعَ (بركع: ركض متباهياً.)، فَضَحِكَ التاجرُ حَتَّى استَلقَى عَلَى قفاه.
*70*
الف ليلة وليلة:
هي مجموعة من الحكايات الخرافية أبطالها من البشر والحيوان والجن. يقال ان شهرزاد كانت تقصها لزوجها الملك شهريار لتلهيه عن قتلها. وكان قد اتخذّ عادة ان يتزوج كل يوم من فتاة ثم يقتلها في صباح اليوم التالي.
وقد نجحت شهرزاد بعد الف ليلة وليلة أنجبت له خلالها بنتاً وصبياً. وقد يقال أن أَصل هذه الحكايات هندي وفارسي ثم تناقلها العرب المسلمون وزادوا عليها وهي تعتبر من الأدب الشعبي لأنها لم تكن مكتوبه بل تناقلها الناس في كل مكان عن ظهر قلب.. ثم نقلت الى اللغات الأجنبية عن اللغة العربية.
الأسئلة:
1. كيف خففت شهرزاد الهمَّ عن أبيها؟
2. كيف تُمَيِّزُ ان هذه الحكاية ليست من الحكايات التي حكتها شهرزاد في الألف ليلة وليلة؟
3. لماذا روى الوزير هذه الحكاية لابْنَتْه؟ - ما وجه المطابقة بين الحكاية وبين مخاوف الوزير؟
4. ما هو خطأَ الحمار في الحكاية؟ أي كلمة في الحكاية تدل على ذلك؟
5. تخيل أن الحمار فعل في اليوم الثالث كما فعل الثور.. فماذا ستكون النتيجة؟
6. في النص السابق قصة الوزير وابنته التي لم تكْتمل، ثم قصة الثور والحمار وصاحبهما... جد نهاية من عندك للقصة الأولى؟
7. أكتب الحكاية بلغتك. ثم اختر مقطعاً من الحكاية الأصلية وقارنه بمثيله مما كتبتَ وحدث عما وجدته من فروق بين المقطعين.
*71*
*71*
د. محمود عباسي
كَانَ يَعِيشُ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ رَجُلٌ سَاذَج قَنُوعٌ فِي مَدِينَةٍ صَغِيرَةٍ جَمِيلَةٍ، اسْمُهُ الحَقِيقيُّ "حَسَنٌ". وَلكِنَّ النَّاسَ كَانُوا يُلَقِبونَهُ بِاسْمٍ غَرِيبٍ:
(صورة، بالكتاب استعن بالمعلم.)
1. (إِنَّهَا مِنَ الحِكَايَاتِ الَّتِي تَرْوِيهَا الجَدَّاتُ حَولَ مَوَاقِدِ النَّارِ فِي لَيَالِي الشِّتَاءِ. وَفِي حَوَادِثِ هذِهِ القِّصَّةِ بَعْضُ التَّشَابُهِ مَعَ حَوَادِثِ قِصَّةِ "الشَّيْطان الهَارِبُ"، لِتُولِسْتُوْيْ. إلَّا أَنَّ الفَوَارِقَ مُتَبَاعِدَةٌ، وَنِهايَةُ كُلِّ قِصَّةٍ يَخْتَلِفُ عَنِ الاخْرَى كَثِيراً. وَأَنَا أُؤَكِّدُ بِأَنَّ جَدَّاتِنَا لَمْ يُحْرَّفْنَ قِصَّةَ تُولِسْتُوْيْ. إِنَّما قَدْ يَجُوزُ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اقْتَبَسَ قِصَّتَهُ عَنِ الأَدَبِ الشَّعْبِيَّ فِي بِلَادِهِ أَوْ فِي بِلادِ القَفْقَاسِ، وَمَا أَكْثَرَ تَشَابُهَ القَصَصِ الشَّعْبِيِّ بَيْنَ الكَثِيرِ مِنَ الشُّعُوبِ.)
*72*
"حِصَانُ فَنَّه". وَسَبَبُ تَلْقِيبِهِ بِهذَا الاسْمِ يَعُودُ إِلَى زَوْجَتِهِ "فَنَّه"، العَنِيدَةِ وَالمُسْتَبِدَّةِ بِهِ وَبِشُؤونِ البَيْتِ. فَقَدْ حَدَثَ مَرَّةً أَنْ أَغْضَبَهَا زَوْجُهَا لِأَمْرٍ تَافِهٍ.. فَأَقْسَمَتْ إلَّا أَنْ تَمْتَطِيَ ظَهْرَهُ كَالحِصَانِ.. وَأَنْ يَقْطَعَ بِهَا سَاحَةَ الدَّارِ ذَهَاباً وَإِيَاباً ثَلاثَ مَرَّاتٍ. وَرَضَخَ المِسْكِينُ لِمَشِيئَةِ زَوْجَتِهِ الطَّاغِيَةِ.. فَشَاهَدَ بَعْضُهُمْ هذَا المَنْظَرَ المُضْحِكَ المُبْكِيَ.. مَنْظَرُ "فَنَّةَ" مُمْتَطِيَةً ظَهْرَ زَوْجِهَا وَهُوَ يَقْطَعُ سَاحَةَ الدَّارِ ذَهاباً وَإيَاباً.. مُنْذُ ذلِكَ الحِينِ، وَالنَّاسُ يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ اسْمَ "حِصَانُ فَنَّه".
وَكَانَ بَيْتُ "حِصَانُ فنَه "شَبيهاً بِجَحِيمٍ صَغِيرٍ فَامْرَأَتُهُ تُعَانِدُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ إذَا طَلَبَ مِنْهَا شُرْبَةَ مَاءٍ، رَفَضَتْ وَكَالَتْ لَهُ السِّبَابَ، فَإِذَا مَا كَفَّ عَنْ طَلَبِهِ، أَسْرَعَتْ وَجَلَبَتْ إِلَيْهِ جَرَّةَ المَاءِ وَأَرْغَمَتْهُ عَلَى الشُّرْبِ. أَمَّا إذا جَاعَ وَسَأَلَهَا طَعَاماً، فَكَانَتْ تصِيحُ فِي وَجْهِهِ وَتَنْعِتَهُ بِشَتَّى الصِّفَاتِ السَّيْئَةِ، فَإِذَا مَا اقْتَنَعَ بِوَجْبَةِ السِّبَابِ، وَأَعْرَضَ عَنْ طَلَبِ الطَّعَامِ، أَتَتْ هِيَ بِزَادٍ يَكْفِي عَشَرَةَ رِجَالٍ وَفَرَضَتْ عَلَيْهِ تَنَاوُلَهُ.
وَهكَذَا اسْتَمَرَّتْ حَيَاةُ الرَّجُلِ عَلَى هذِهِ الوَتيرَةِ، حَتَّى ضَاقَ بِهَا ذَرْعاً وَرَاحَ يَسْعَى إِلَى طَرِيقَةٍ يَتَخَلَّصُ بِهَا مِنْ شَرَاسَةِ امْرَأَتِهِ وَعَنَادِهَا. فَفَكَّرَ أَنْ يَهْرُبَ وَيَهيمَ عَلَى وَجْهِهِ فِي بِلادِ اللهِ الوَاسِعَةِ، وَلكِنَّهُ خَشِيَ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ "فَنَّةُ" وَتَبْحَثُ عَنْهُ حَتَّى تَعْثُرَ عَلَيْهِ، فَيَنَالُهُ مِنْ أَذَاهَا مَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ (لا طاقة له به: لا يقدر عليه.)
وَذَاتَ يَوْمٍ خَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى بُسْتَانٍ خَارِجَ المَدِينَةِ، وَجَلَسَ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَارِفَةِ الظِّلَالِ يُفَكِّرُ فِيمَا ابْتَلَاهُ اللهُ بِهِ مِنْ زَوْجَةٍ عَنِيدَةٍ مُسْتَبِدَّةٍ تَتَحَكَّمُ فِي حَيَاتِهِ وَتُعامِلُهُ بِقَسْوَةٍ شَدِيدَةٍ. وَبَيْنَما هُوَ يُفَكِّرُ فِي بَلْوَاهُ إذْ حَانَتْ مِنْهُ
*73*
التِفَاتَةٌ (حانت منه التفاتةُ: التفت عن غير قصد.)، فَشَاهَدَ بِئْرًا مَهْجُورَةً إِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ. أَطَلَّ فِيها فَلَمْ يَلْمَحْ لَهَا قَرَاراً، وَقَذَفَ إِلَيْهَا بِحَجَرٍ فَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ أَيُّ صَدىً.
وَهَدَاهُ تَفْكيرُهُ إِلَى خُطْوَةٍ، اقْشَعَرَّ لَهَا بَدَنُهُ، وَارْتَعَدَتْ لَهَا فِرَائِصُهُ (ارتعدت فرائصه: ارتجف ن الخوف.). إِنَّهُ إِنْسَانٌ طَيِّبُ القَلْبِ فِي مَعْدَنِهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى قَتْلِ إِنْسَانٍ، وَلكِنَّ امْرَأَتَهُ شِرِّيرَةٌ قَاسِيَةٌ، تَجْنِي عَلَى حَيَاتِهِ وَتَجْعَلُهَا جَحِيماً، وَتَكَادُ تُفْقِدُهُ وَعْيَهُ. وَاسْتَقَرَّ رَأَيُهُ بَعَدَ نِقَاشٍ طَوِيلٍ مَعَ ضَمِيرِهِ، فَقَامَ مِنْ تَوِّهِ وَرَكَنَ بَعْضَ أَغْصَانِ الشَّجَرِ عَلَى سَطْحِ البِئْرِ حَتَّى أَخْفَاهَا عَنْ الأَنْظَارِ. ثٌمَّ قَفَلَ عَائِدَاً إِلَى بَيْتِهِ حَيْثُ زَوْجَتُهُ، القَى عَلَيْهَا السَّلَامَ، فَرَدَّتْ:
- لَا سَلَامَ عَلَيْكَ.
فَأَجَابَهَا: حَسَناً! لَا سَلَامَ عَلَيَّ.
فَرَدَّتْ: لَا بَلْ كُلُّ السَّلامِ عَلَيْكَ.
ثُمَّ أَطْرَقَ هُنَيْهَةً وَعَادَ يَتَحَدَّثُ إِلَيْهَا:
اسْمَعِي يَا زَوْجَتِي، إِنَّنِي عَازِمٌ أَنْ أَخْرُجَ إِلَى نُزْهَةٍ خَارِجَ المَدِينَةِ. وَمِنْ رَأَيِي أَنْ لَا تُرافِقِينِي فِي هذِهِ النُّزْهَةِ.
وَرَدَّت بِوَقَاحَةِ:
لَا بَلْ أُرَافِقُكَ، وَلَنْ تَخْرُجَ بِدُونِي.
وَجَرَتْ خَلْفَهُ، وَهُوَ يَتَصَنَّعُ أَنَّهُ لَا يَوَدُّ مُرَافَقَتِهَا إِلَى أَنْ بَلَغَا مَكَانَ البِئْرِ، فَجَلَسَ هُوَ عَلَى حَافَّةِ البِئْرِ المُغَطَّاةِ بِأَغْصَانِ الشَّجَرِ وَوَقَفَتْ هِيَ إِلَى جَانِبِهِ تَحْدُجُهُ (تحدجه: تنظر اليه بِجِدَّة.) بِنَظَرَاتِهَا الحَادَّةِ، وَمَا هِيَ إِلَّا أَنْ التَفَتَ إِلَيهَا مُخَاطِباً إِيَّاهَا بِلَهْجَةِ المُتَوَدِّدِ:
*74*
هَيَّا اجْلِسِي أَنْتِ هُنَاكَ، وَسَأَبْقَى أَنَا جَالِساً فِي مَكَانِي تَحْتَ الظِّلِّ، فَالشَّمْسُ يَا عَزِيزَتِي أَنْفَعُ لَكِ مِنَ الظِّلِّ.
وَرَدَّتْ هِيَ بِلَهْجَةٍ قَاسِيَةٍ:
خَسِئْتَ.. بَلْ قُمْ أَنْتَ وَاجْلِسْ هُنَاكَ فِي الشَّمْسِ، أَمَّا أَنَا فَلَنْ أَجْلِسَ إلَّا فِي مَكَانِكَ.
وَلَمْ تَتَرَيَّثْ حَتَّى يَقُومَ مِنْ ذَاتِهِ، بَلْ دَفَعَتْهُ بَعِيداً، وَاحْتَلَتْ مَكَانَهُ فَتَظَاهَرَ أَنَّهُ يَوَدُّ أَنَّ يَحْتَفِظَ بِمَكَانِهِ، فَعَارَكَهَا قَلِيلاً ثُمَّ دَفَعَها إِلَى البِئْرِ، فَهَوَتْ فِيهَا.. وَهَمَّ هُوَ أَنْ يَعُودَ وَقَدْ أَيْقَنَ أَنَّ زَوْجَتَهُ لَاقَتْ حَتْفَهَا، وَاسْتَرَاحَ مِنْ شَرِّهَا وَظُلْمِهَا إِلَى الأَبَدِ.
لكِنَّهُ مَا أَنْ خَطَا بَعْضَ خُطُوَاتٍ بَعِيداً عَنْ البِئْرِ حَتَّى سَمِعَ صُرَاخاً يَنْبَعِثُ مِنْ دَاخِلِ البِئْرِ. فَعَادَ بِقَلْبٍ مُرْتَجِفٍ، لِيَتَحَقَّقَ مَصْدَرَ الصَّوْتِ فَهَالَهُ أَنْ يَسْمَعَ صَوْتَ مَارِدٍ مِنَ الجَانَ يَسْتَجْدِي (يستجدي: يطلب المساعدة، يتوسَل.) زَوْجَتَهُ:
- انْزِلِي يَا هذِهِ عَنْ كَتِفَيَّ.. إِنّي أَكَادُ أَخْتَنِقُ.. انْزِلِي وَسَأُغْنِيكِ إِلَى الأَبَدِ.
وَمِنْ قَعْرِ البِئْرِ تَرَّدَّدَ صَوْتُ زَوْجَتِهِ وَهِيَ تُجِيبُ الجَانَ بِخُبْثٍ:
- لَنْ أَنْزِلَ أَبَداً.. فَأَنَا مُرْتَاحَةٌ عَلَى كَتِفَيْكَ يَا هذَا.
وَيَعُودُ الجَانُ فَيَسْتَعْطِفَهَا:
- أَتَوَسَّلُ إِلَيْكِ أَنْ تَنْزِلِي.. وَلَنْ تَنْدَمِي، انْزِلِي وَسَأُجَازِيكِ خَيْرَاً.
وَلَكِنَّ "فَنَّةَ" أَحْكَمَتْ سَاقَيْهَا عَلَى رَقْبَةِ الجَانِ وَلَمْ تُعِرِ اسْتِجْدَاءَاتِهِ أَيَّ اهْتِمَامٍ. وَهُنَا تَدَخَّلَ "حِصَانُ فَنَّة" وَخَاطَبَ الجَانَ:
*75*
-بِمَ تُكَافِئُنِي يَا هذَا لَوْ حَرَّرْتُكَ مِنْ هذِهِ الامْرَأَةِ؟
وَارْتَفَعَ صَوْتَ الجَانِ مُدَوَّياً:
افْعَلْ ذلِكَ إذَا اسْتَطَعْتَ، فَإِنّي أَكَادُ أَخْتَنِقُ وَأَفْقِدُ وَعْيِي مِنْ هذِهِ العِفْرِيتَةِ.. وسَأُغْنِيكَ.. سَأَجْعَلُكَ أَسْعَدَ إِنْسَانٍ، أَرْفَعُ عَنْكَ كَابُوسَ الفَقْرِ إِلَى الأَبَدِ.
وَوَجَّهُ الرَّجُلُ حَدِيثَهُ إِلَى زَوْجَتِهِ قَائِلاً:
- شُدِّي الخِناقَ عَلَيْهِ يَا فَنّه، وَإِيَّاكِ أَنْ تَنْزِلي عَنْهُ.. إِنَّهُ يُكَادُ يَخْتَنِقُ.. شُدِّي مَا اسْتَطَعْتِ.
رَفَعَتْ فَنَّةُ رَأَسَهَ اتُجَاهَ زَوْجِهَا وَرَدَّتْ:
- إخْرَسْ أَنْتَ.. وَلَا دَخْلَ لَكَ بِشُؤُونِي وَسَأَنْزِلُ يَا أَحْمَقُ نِكَايَةً بِكَ.
وَسَقَطَتْ فَنَّةُ عَنْ ظَهْرِ الجَانِ وَهَوَتْ إِلَى القَعْرِ وَقُضِيَ عَلَيْهَا.
وَنَفَّذَ الجَانُ وَعْدَهُ تْجَاهَ "حِصَانِ فَنَّه". فَقَدْ أَوْعَزَ إِلَى مُنْقِذِهِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى مَدِينَةٍ قَرِيبَةٍ حَيْثُ ابْنَةُ المَلِكِ مُصَابَةٌ بِمَرَضِ عُضَالٍ (مرض عضال: مرض شديد لا شفاءَ له.)، فَإِذا مَا شَفَاهَا، صَاهَرَهُ المَلِكُ وَجَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ. وَأَضَافَ الجَانُ قَائِلاً:
- لَقَدْ كُنْتُ حَتَّى الآنَ مُتَلَبِّساً جِسْمَ ابْنَةِ المَلِكِ، وَسَأَتْرُكُها لأَتَلَبْسَ جِسْمَ ابْنَةِ الوَزِيرِ، لِذا فَهِيَ سُتُشْفَى بَعْدَ أَنْ تَدْخُلَ أَنْتَ وَتُعَالِجَهَا. وَكَمَا قُلْتُ لَكَ، سَأَتَلَبَّسُ ابْنَةَ الوَزِيرِ فِي نَفْسِ الوَقْتِ وَسَتَقَعُ فِي ذاتِ المَرَضِ.. فَإِيَّاكَ أَنْ تُحَاوِلَ شِفَاءَهَا وَإِلَّا فَسَتَحِلُّ عَلَيْكَ اللَّعْنَة.
وَبَعْدَ أَيَامٍ بَلَغَ الرَّجُلُ مَدِينَةَ الأميرَةِ المَرِيضَةِ. وَوَصَلَ قَصْرَ المَلِكِ فَوَجَدَ مِئَات الرُّؤُوسِ المَقْطُوعَةِ مُعَلَّقَةً عَلَى جِدَارِ القَصْرِ وَفَوْقَ الرُّؤُوسِ لَائِحَةَ كُتِبَ عَلَيْهَا:
*76*
- "مَنْ يُعَالِجُ الأَمِيرَةَ وَيَفْشَلْ يُقْطَعْ رَأَسُهُ، وَمَنْ يُعَالِجْهَا وَيُفْلِحْ فَسَيُزَفُ إِلَيْهَا وَيُصْبِحَ وَلِيّاً لِلْعَهْدِ.
وَدَخَلَ صَاحِبُنَا إِلَى القَصْرِ وَقَابَلَ المَلِكَ وَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَالِجَ الأَمِيرَةَ. فَنَصَحَهُ المَلِكَ أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَى المُخَاطَرَةِ بِشَبَابِهِ اليَافِعِ (شباب يافع: يقارب البلوغ.)، وَلكِنّهُ اسْتَبَدْ بِرَأْيِهِ.
وَعَالَجَ الأَمِيرَةَ وَأَفْلَحَ فِي مُعَالَجَتِهَا فَشُفِيَتْ وَوَقَعَتْ فِي حُبِّه فَصاهَرَهُ المَلِكُ وَجَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ وَكَبيرَ مُسْتَشَارِيهِ.
وَذَاتَ يَوْمٍ دَخَلَ الوَزيرُ عَلَى المَلِكِ، وَارْتَمَى عَلَى قَدَمَيْهِ مُتَوَسِّلاً إِلَيْهِ أَنْ يَتَدَخَّلَ لَدَى زَوْجِ ابْنتِهِ الَّتي تُعَانِي نَفْسَ المَرَضِ. وَعَبَثَاً حَاوَلَ صَدِيقُنَا أَنْ يَتَهَرَّبَ مِنْ طَلَبَ المَلِكِ الَّذِي أَنْذَرَهُ أَخِيراً بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعَالِجِ ابْنَةَ الوَزِيرِ فَسَيَأْمُرَهُ بِذلِكَ أَمْراً مُطْلَقَاً لا يُخالَفُ.
وَلَمَا لَمْ يَجِدْ "حِصَانُ فَنّه" مَنَاصاً مِنَ الأَمْرِ. طَلَبَ إِلَى المَلِكِ أَنْ يَجْمَعَ صِبْيَةَ المَدِينَةِ أَمَامَ مَنْزِلِ الوَزِيرِ. وَيَدَعَهُمْ يَضْرِبُونَ عَلَى الطُّبُولِ وَيُحْدِثُونَ ضَجِيجَاً كَبِيراً. وَبَعْدَ أَنْ نَفَّذَ المَلِكُ طَلَبَهُ طَأَطَأَ رَأْسَهُ وَتَوَجَّهَ إِلَى بَيْتِ الوَزِيرِ. وَلَمَا بَلَغَ السَّلَالِمِ المُؤَدِيَةِ إِلَى غُرْفَةِ المَرِيضَةِ اعْتَرَضَهُ الجَانُ زَاجِراً إِيَّاهُ قَائِلاً:
- أَلَمْ أَنْصَحْكَ لَا تَتَدَخَّلَ فِي شَأْنِ مَرَضِ ابْنَةِ الوَزِيرِ أَمَّا وَقَدْ خَالَفْتَ الاتِفَاقَ فَسَأُنْزِلُ بِكَ عُقُوبَةً لَنْ تَنْسَاهَا.
وَبَعْدَ تَفْكيرٍ عَمِيقٍ رَفَعَ "حِصَانُ فَنّةَ" رَأَسَهُ وَقَالَ لِلْجَانِ بِصَوْتٍ تَعْتَوِرُهُ رَجْفَة:
*77*
- لَمْ آتِ إِلَيْكَ مِنْ أَجْلِ ابْنَةِ الوَزِيرِ، فَهذَا أَمْرٌ لَا يَهُمُّنِي.
وَرَدَّ الجَانُ: إِذَنْ مَا عَمَلُكَ هُنَا؟ وَأَجَابَهُ الرَّجُلُ: أَلَا تَسْمَعُ الضَّجَّةَ فِي الخَارِجِ؟
فَقَالَ الجَانُ مُسْتَغْرِباً:
- وَمَا شَأْنِي بِهذِهِ الضَّجَّةِ؟
فَرَدَّ "حِصَانُ فَنّه" مُشْتَكِياً:
- إِنَّهَا "فَنّه" يَا سَيْدِي. خَرَجَتْ مِنَ البِئْرِ وَجئْتُ أَطْلُبْ عَوْنَكَ أَسْتَنْجِدُ بِكَ.
ذُعِرَ الجَانُ وَقَالَ وَهُوَ يُعِدُّ نَفْسَهُ لِلْهَرَبِ:
- مَاذَا تَقُولُ! فَنه تَعُودُ.. خَلّصْ نَفْسَكَ بِنَفْسِكَ أَمَّا أَنَّا فَسَأَسْعَى إِلَى خَلَاصِي وَلَنْ أَبْقَى فِي دِيَارٍ تَقْطُنُهَا.
وَفَرَّ الجَانُ، وَشُفِيَتِ ابْنَةُ الوَزِيرِ، وَأَنْعَمَ المَلِكُ عَلَى "حِصَانِ فَنّه" بِخَيْرَاتٍ جَدِيدَةٍ، وَعَاشَ بَقِيَّةَ حَيَاتِهِ فِي أَرْغَدِ عَيْشٍ وَأَنْعَمِ بَالٍ.
د. محمود عباسي.
كانون أول 1959
مجموعة (رلى)
د. محمود عباسي :كاتب قصصي ومسرحي ولد في حيفا سنة 1935، أنهى تعليمه الجامعي في الجامعة العبرية وحصل على درجة الدكتوراه في الأدب العربي. تقلد مناصب حكومية في وزارة العمل، وحاضر في جامعة حيفا وله نشاط أدبي متميز في التأليف والترجمة وكتابة القصة، وهو صاحب دار الشرق للطباعة والنشر، ويصدر مجلة أدبية بإسم "الشرق" له ما يزيد على الأربعين كتاباً من ترجمته أو تأليفهِ.
*78*
أسئلة:
1. استخرج الأوصاف التي ينعت بها الراوي حصان فنه؟
2. استخرج الأفعال التي تصور طغيان فنه وجبروتها؟
3. أين وجه التشابه فيما فعلته فنه بزوجها وبالجن؟ والى ماذا يرمز ذلك؟
4. أين يمكن ضعف فنه حسب رأيك؟
5. يصدق في حصان فنه المثل الشعبي الذي يقول "لاحق الذلّال تعلمه المراجل" وضح ذلك!
6. أين تنتهي القصة بين فنة وزوجها؟
7. تعتمد هذه الحكاية على مشاهد تير فينا إحساساً معيناً ثم لا تلبث أن ننتبه الى عكس ذلك فمنظر فنة وهي تمتطي ظهر زوجها "مضحك مبكي". هات أمثلة من هذا النوع.
8. تتألف هذه الحكاية من أربعة أقسام يمكن فصل واحد منها عن غيره.. ضع عنواناً ملائماً لكل قسم.
9. قد ننظر الى حسن في بداية الحكاية نظرة احتقار وسخرية. أين تغيرت نظرتكَ اليه بعد ذلك... وبين لماذا؟
10. شخصية فنه شخصية شاذه لا تمثل المرأة العادية... لماذا؟.
11. حاول أن تستنتج لماذا لم تنته الحكاية عند:
أ. وصف العلاقة بين فنه وزوجها.
ب. عند خلاص الزوج من فنه.
ج. عند زواج حسن من ابنة الملك.
*79*
*79*
*80*
صفحة فارغة
*81*
مقطع من مسرحية
*81*
سعيد تقي الدين
أشخاص المسرحية:
جواد الصافي شاب قروي متحضر.
فهيمة زوجته شابه قروية متحضرة.
ابنته طفلة في الرابعة من عمرها.
عباس ابوه قروي محافظ.
أنيس باشا مهرب دخان.
عارف أفندي معاون مفوض بوليس.
نجلا رفيقة فهيمة من القرية، وجارتها في بيروت.
بائع البوظة شاب بيروتي فقير.
رفيق سائق أوتوبيس (بوسطه).
خارج المسرح
بائع البوظة.
منظفو السجاد.
شاعر زجلي.
شاعر فصيح.
خطيب.
يوسف بك.
جمهور.
كلب.
*82*
(يَرْتَفْعُ السِّتَارُ عَلَى جَوَادِ الصَّافِي، فِي غُرْفَةِ بُؤْسٍ وَفَقْرٍ، فَتىً فِي نَحْوِ الخَامِسَةِ وَالعِشْرِينَ. ذَقْنُهُ بِنْتُ يَوْمَيْنِ، ثِيَابُهُ غَيْرُ رَثَّةٍ وَغَيْرُ أَنِيقَةٍ. قَمِيصُهُ مَفْتُوحُ العُنُقِ. سَاهٍ، حَنِقٌ، قَلِقٌ، يُمْنَى رِجْلَيْهِ تَلْبَسُ الحِذَاءَ مِنْ غَيْرِ كَلْسَاتٍ، اليُسْرَى عَارِيَةُ. فَرْدَةُ الكَلْسَاتِ تُلْبِسُ كَفَّهُ. شَعْرُهُ غَيْرُ مُسَرَّحٍ. فَرْدَةُ الحِذَاءِ قَرِيبَةٌ مِنْهُ مُقْتَعِدٌ كُرْسِيّاً هَزَّازَةً قَدِيمةً، يَهْتَزُّ عَلَيْهَا وَيَسْكُنُ. امْرَأَتُهُ فَتَاةٌ عِشْرِيَّنِيةُ غَيْرُ مُتَبِّرجَةٍ. ثِيَابُهَا عَادِيَّةٌ. تَشْتَغِلُ عَلَى مَكَنَةِ خِيَاطَةٍ.
سُكُوتٌ، يَتَخَلَّلُهُ صَوْتُ المَكَنَةِ. يَدَا جَوَادٍ مَعْقُودَتَانِ خَلْفِ رَأْسِهِ. تُسْمَعُ أَصْوَاتُ اطْلَاقِ الرَّصَاصِ وَالحَدَاءُ مَعَ نُبَاحِ كَلْبٍ، وَصَوْتُ العِصِيِّ عَلَى السُّجَّادِ يَنْفُضُهُ الجِيَرانُ... يَسْتَمِرُّ وَقْعُ تَنْفِيضِ السُّجَّادِ مُتَقَطِّعاُ خِلَالَ المَشَاهِدِ كُلِّهَا..)
فهيمة - رجعوا للحدا وللقواص. حتى الكلب مبسوط. الحمد لله على سلامته يوسف بك.. رجع من فنلندا يوسف بك؟.. نَفِّضُوا السجاد، الله يكثر السجاد بدياركم. (يَنْبَحُ الكَلْبُ فَتَنْهَضُ فَهِيمَةُ إِلَى الشُّبَاكِ، وَتَطِلُّ، وَتَرْجِعُ) الحمد لله يا رب، الكلب مربوط. (يَنْبَحُ الكَلْبُ مِنْ جَدِيدِ، فَيُسْمَعُ صُرَاخُ طِفْلَةٍ مِنَ الخَارِجِ، فَتُطِلُّ فَهِيمَةُ مِنَ الشُّبَاكِ ثَانِيَةً) لا تخافي يا بنتي الكلب مربوط. (تَعُودَ إِلَى مَكَنَتِهَا.. صَمْتٌ.. إِلَى جَوَادٍ).
تريد ترويقه؟ عندنا خبز وزيتون. (سُكُوتٌ. تَرْجِعُ لِلْخِيَاطَةِ) من الدكان نشتري بيضة، أنت تحب المسلوق... (نَاهِضَةً عَنْ مَكَنَتِهَا) أنا رايحه أشتري لك بيضة و... خيارة وعندنا خبز وزيتون وبصلة..
جواد - لا، لا - تروحي. ما لي قابلية.
فهيمة - أنت ما أكلت البارحة.
جواد - (مُنْتَهِراً) قلت لك ما لي قابلية، لا تروحي.
فهيمة - ما لك؟ أنت ممقوت؟ دائماً أنت ممقوت يا جواد؟
*83*
جواد - لا أنا ممقوت، ولا جوعان، ولا ناقم، ولا ثائر أنا قاعد على هذا الكرسي فقط لا غير. أتركنيني (بِغِضَبٍ) قلت لك أتركيني!
(صَوْتٌ بَائِعِ البُوظَةِ مِنَ الخَارِجِ وَجَرَسُهُ)
بائع البوظه - بوظه بحليب، بوظه على كريمه، على فانيللا شوكولا ليمون... يا الله يا بوظه...
فهيمه - (إِلَى جَوَادٍ) ما لك؟ أنت يائس؟ حزين.. يفرجها الله الدنيا ما خربت؟
جواد - الدنيا لا تخرب. بعض ساكنيها يخربون. (سُكُوتٌ).
فهيمه - كان الناس يلقبونك بالنمر. سار لك ساعة ولم تنتبه من لبسك. قم إغسل وجهك، وأخرج لشم الهوا.
جواد - هوا بيروت كله دخل رئتي، وخرج منها. هواء الراي هواء الشركات، هواء المعمل. هوا بيوت البكوات والخواجات والأمراء وكل الذوات.. ريحة عاطلة. أنتن صدري يا فهيمة.
(جَرَسُ بَائِعِ البُوظَة، وَصَوْتُهُ يُسْمَعُ مُنَادِياً مِنْ جَدِيدٍ.. تَدْخُلُ ابْنَتُهَا رَاكِضَةٌ (صَائِحَةً)
الأبنة - بابا ماما، ليلا لبع، بوذه ثوتولاطه... (تُطِلُّ مِنَ الشُّبَاكِ) بياع، يا بياع، بياع البوذه...
فهيمه - (مُنْتَهِرَةً، مُخَوِّفَةً) هس... هس... البوظه مسمومه. الأولاد أكلوا منها البارحة، وأخذوهم للمستشفى.
(يَدْخُلُ عَارِفُ أَفَنْدِي حَامِلاً بَطِّيخَةً كَبِيرَةً يُعْطِهَا إِلَى فَهيمَهْ)
*84*
عارف - صباح الخير، (إلَى جَوَادٍ) قم سلم (مُشِيراً إِلَى نَفْسِهِ) على ابن عمِّكَ (يَغْمُزُهُ وَيُقَبِّلُهُ كَثِيراً، وَجَوَادُ يُبَادِلُهُ القُبَلاَتِ غَصْباً عَنْهُ) باركي لي يا فهيمه، بارك لي يا جواد، إبن عمك نال شريطه في آخر الأمر...
جواد - (بِعَدِمِ اكْتِرَاثٍ) برافو عارف.
فهيمه - (بِفَرِحٍ) الله يزيدك. إن شاء الله كل يوم شريطه، مبارك مبارك، شريطه مَبْرُوكِةْ.
عارف - لا تباركي لي بالشريطة، ولكن هنئيني كيف شبكت السراي بعضها بِبِعْضْ صارت التلفونات تزغرد مثل زقزقة الحساسين في أول الربيع. كل واحد من ذوات المنطقة ونوابها يعتقد أنه هو وحده سبب لي الترقية. آخْ عليك يا ابن عمي جواد... لو كان عندك قليل من السياسة، والكياسة، ولو مقدار نحاسة، ما كنت في حالة معترة على كرسي مكسرة، بل لكنت على كرسي أعلى من المنارة، في قلب دين عين أذن بطن راس السرايا. آخْ لو كنت أنا مثلك إبن مدرسة، كنت أنا اليوم أكبر وزير في الدولة. إنما ربنا خلقك من الخاملين. خامل خامل.. هذه الساعة (يَنْتَزِعُ مِنْ مِعْصَمِهِ سَاعةً وُيُرَيَها لِكَامِلٍ. يُكْثِرُ مِنَ التَّطَلُّعِ إِلَى سَاعَتِهِ خِلاَلَ المَشَاهِدِ كُلَّهَا) هذه هدية من صاحب معمل بلاط. صاحب معمل بلاط عنده نظر وإنسانية، وتقدير للخدمة الوطنية أخذ من الطريق العامة نصف متر. عال! ضروري تكون الطريق 8 أمتار؟ 7 أمتار ونصف تكفي... أخذ مأذونية ببناية 4 طوابق، بنى خمسة. ولو بنى 100 طابق 500 طابق... السما ملك جدي؟ قم عن هذا الكرسي أربع ساعات حتى تلبس كلساتك؟
(صَوْتُ بَائِعِ البُوظَةِ وَجَرَسُهُ... تَرْجِعُ الابْنَهُ بَاكِيَةً)
الإبنه - ماما بابا، لبع ليلا، بياع البوذه...
*85*
عارف - (مُؤَاسِياً) لا تبكي يا بنيتي، لا تبكي. (مِنَ الشُّبَاكِ وَاقِفاً كَمُوسُولِيني) ولا. ولا.... بياع البوظه! إطلع... (يَأَمُرُهُ بِإِشَارَةِ مِنْ يَدِهِ).
بائع البوظه - (مِنَ الخَارِجِ) أمرك يا سيدي.
عارف - (مُعْتَدّاً بِاسْتِهْزَاءٍ) أمرك يا سيدي، أمر.. ك يا سيدي.. شعب ملعون، شعب كلاب، 24 ساعه بالنهار تقطيع مشاكل.. البنت تشتهي البوظه وإبن عم أبيها مفوض بوليس؟ (بَيَّاعُ البُوظَةِ يَظْهَرُ مِنَ البَابِ) ولا....
بائع البوظه - أمرك يا سيدي. تحت أمرك يا حضرة البوليس.
عارف - يا ضربة بلادنا. الجهل، الغباوة، الشريطة على كمي وتناديني يا حضرة البوليس؟ أما قرأت الجريدة، وفيها صورتي؟ (يَأخُذُ مِنْ جَيْبِهِ جَرِيدَةُ وَيَقْرَأُ) عرفنا بمزيد السرور نبأ ترقية الفتى المغوار - مغوار يا حمار - الى رتبة معاون مفوض في البوليس، فنهني هذا المفوض النشيط - نشيط يا عبيط - بهذه الترقية التي نالها جدارة، ونتمنى له أط.. أط.. أطراد الترقي.
بائع البوظه - طيب طيب.. مبروك.. أمرك يا سيدي؟
عارف - أمري أن تطيع القانون. كم الساعه؟
بائع البوظه - ما معي ساعة.
عارف - طبعاً أنت ما معك ساعة. أنا معي ساعة. ساعة جديدة.
بائع البوظه - مبروك.
*86*
عارف - الساعه 8 ونصف والمِنَادَاهْ ممنوعه قبل الساعه 10...، جِنْسِيْتَكْ؟
بائع البوظه - هاه؟
عارف - جن، سيتك؟
بائع البوظه - جنسيتي؟
عارف - يعني أنت طلياني؟ فرنساوي؟ أونسكو، نقطة رابعة تابلين؟ يوناني؟ جامعه عربيه؟ قُلْ!
بائع البوظه - أنا لبناني.
عارف - معك إجازة إقامة في لبنان؟
بائع البوظه - اللبناني تلزمه إجازة إقامة في لبنان؟
عارف - (سَاخِراً) لا، الأجنبي تلزمه إجازة إقامة في لبنان... أنت حمار.
بائع البوظه - لا، أنا بياع بوظه..
عارف - معك شهادة فحص طبية؟
بائع البوظه - صحتي طبية والحمد لله.
عارف - ما معك شهادة طبية. هذا البند الثاني من القانون كسرته.. معك شهادة فحص للبوظه؟
بائع البوظه - يا سيدي البوظه صُنْعْ أكبر معمل...
عارف - وهذا البند الثالث من القانون كسرته؟
جواد - كفى يا عارف. أترك الرجل يرجع الى عمله. (إِلَى بَائِعِ البُوظَةِ) رح لشغلك.
نالإبنه - بوذه بوذه، لبع ليلا...
*87*
بائع البوظه - (أَشْرَقَتْ عَلَيْهِ الحَقِيقَةُ، فَلَمْ يَعُدْ خَائِفاً، يَبْتَسِمُ يُخَاطِبُ الابْنَةَ آخِذاً بِيَدهَا) أهلا وسهلاً بالعروس، تعالي معي. (إِلَى عَارِفْ) يا حضرة المعاون، أنا البند الثاني والثالث والرابع م القانون أَجْهَلُهْ. أما البند الأول فدائماً أمر عيون الشرطة ساعتك (خَارِجاً بِالبِنْتِ) أهلاً وسهلاً بالعروس، كل البوظه بأمرك. (يَقْرَعُ جَرَسَهُ مُنَادِياً عَلَى البُوظَهْ).
سعيد تقي الدين
من مجموعة المسرحيات، 1981
الأسئلة:
1. ماذا أفادتك المقدمه السرديه في بداية المشهد؟
2. في النص السابق توجد لغتان هما لغة السرد ولغة الحدال بين الشخصيات.
ماذا تقول عن كل منهما؟
3. بماذا يختلف كلام عارف عن كلام بقية الشخصيات؟ هات أمثله؟
4. أي من الشخصيات التي ظهرت في المشهد السابق احب الى نفسك؟
5. دَرِّج الشخصيات السابقة حسب تميّزها بالصدق...أو بالمراءاه. ودافع عن هذا التدريج معتمداً على النص.
6. ماذا يقول لك النص السابق عن العلاقة بين طبقات المجتمع؟ اشرح......
*88*
صفحة فارغة
*89*
*89*
*90*
صفحة فارغة
*91*
*91*
سعيد تقي الدين
نشأتُ فِي بيتٍ كثيرِ الضيوفِ يَحْسَبُ تكريمَهم واجباً وشرفاً وجاها. وكنتُ بَعْدَ الثامنةِ من العمرِ، لسببٍ لا ادريه، أُنْتَدَبُ (انتدبه للامر: أي رشحه للقيام به.) لَخدمةِ الضيوف. ففي "بُعقلينْ" وقبلُ الحرب العالميةِ الاولى كان السفرُ مشياً على الاقدام، وركوباً على ظهورٍ الدواب، أو فِي عرباتٍ تجرُّها الخيولُ. وكان من المُنْتَظَرِ منَ المُضيف ان يُلحَّ بالدعوةِ إِلَى الطعام، وَفِي بعضِ الاحيانِ ينامُ الزائرون عندهَ. وفوقَ كل ذلك يأتينا فِي ظروفٍ خاصةٍ، مثلِ مأتمٍ كبير أو عرسٍ كبيرٍ، بعضُ ضيوفٍ يتقاسُهُمْ أهلُ البلدةِ ويصيبُنا منهم عددٌ وافر.
وكانتْ أُولى مُهماتي أنْ أَستمعَ فِي الصالون الكبيرِ إِلَى أحاديث الدعوةِ إِلَى الطعامِ والكلامِ والأَجوبةِ عليها، ثم أَصوغُ تقديراتي بعباراتٍ أَصدرها بلاغاتٍ أُذيعها إِلَى من يهمهنَّ الامرُ فِي داخلِ البيتِ وفِي المطبخ. وحين أتحققُ أنَّ الكارثةَ واقعة أتَجَنَّدُ فأطرحُ الصوتَ على الجيران والأَقَاربِ نفترضُ منهم الأرغفةَ والأوعيةَ ثم أَحتملُ (احتمل الشيء: حمله، واحتمل الامر: صبر عليه.) السَّلةً فِي يدٍ والسَّطلَ فِي اليد الثانيةِ وأنطلقُ إِلَى السُّوقِ "أتبضع". ومن المُحتملِ أن أَنسى قوسَ السَّلةِ القصبيِّ يمزِّقُ جلدةَ ذراعي والسَّلةُ ملأَى باللحوم والخضار والفاكهة، ولكنني لن أَنْسَى أَلَمَ النُّحاسِ فِي قوسِ سطلِ اللبنِ يعضُّ عَظْم اصابعي. لا أَدري لماذا كان اللَّبنُ من ضرورياتِ الضِّيافة.
وبعد المأدبةِ أَتَحَوَّلُ جرسوناً أَصبُّ الماءَ عَلَى أَكُفِّ الضيوفِ وأُناوِلُهُمْ المنشفةَ، ثُمَّ أَدورُ عليهم بصينيةِ القهوةِ.
*92*
وبصدفةٍ عجيبةٍ أَجدُ حينَ أجلسُ إِلَى الطعامِ بعدَ المأدبةِ أَنَّ الضيوفَ الكرامَ قد التهموا كل نوعٍ من الطبخِ يلَذُّ لِي. لا أَذكرُ أَنَّ صَحناً واحداً من مطبوخِ اللبنِ ـ اللبنِ الذي قصَّ سطلهُ عظامَ يدي ـ بقيَ منه ما يسُدُّ الفراغَ بين أَسناني. وحين يجيءُ الليلُ أنقلبُ عَتَّالاً يحملً المخَدَّاتِ والالحفةَ والفَرْشَ. وكنا نجعل لكل ضيفٍ - إسرافاً في التكريمِ - فراشاً مزدَوَجاً الواحدَ فوق الآخر.
من أجلِ هذا أُضْطَّرُ بعد كفاحِ النهارِ أن انبطحَ ليلي عَلَى الحصريةِ بدون غَطاء. ولكنْ شكراً للتعبِ فقد كنتُ أَغوصُ فِي نومٍ هنيءٍ، وقد يُنْعِمُ الله عليَّ بحُلْم يُرَفِّهُ (رفّه عنه: نفّس عنه، خفّف عنه.) عني فأَرى فِي المنامِ أن الضيوفَ قد غادرونا... إِلَى هُنا وموقفي من الضيافة غيرُ عَدائي، فلقد حسبتُ هذه العادةَ من فضائلِ تقاليدِنا، وَلَمْ أَتَمَردْ عليها إِلَّا حينَ جاءني رسولٌ هداني إِلَى الثورةِ على العبوديةِ التي قَبِلْناها، كما نقبلُ العبوديَّات المرسَّخةَ، من غير أن نفحَصَها ونُمحِّصَها. إِذ إِننا فِي سني الحربِ العالميةِ الثانيةِ في "الفلبين"، حينَ غَزَتْنَا اليابانُ واحتلتْنَا، أَصْبَحَتْ الاغذيةُ مجهولةَ محل الاقامة.
غير أنني، وأنا زوجٌ وابٌ لطفلةٍ، وقد خَبرْتُ الجوعَ فِي الحرب العالمية الاولى ورأيتُ من فواجِعِهَا، فيما رأيتُ، فَتىً أَقعدَهُ الجُوع عَلِى جانبِ الطريقِ وخَدَّرَ قُواهُ العقليةَ، فَراح ينزعُ القَمْلَ من رأسِه ويأْكُلُهُ. ورأيتُ جثَثَ الجائعينَ يَلمُّها "طُنْبُرُ" البلديةِ فِي كلَّ صباحٍ من الشوارعِ، فهرَعت أَكتنزُ المعلباتِ في خزانةٍ ستَرْنَاها "ببرداية" تضليلاً لليابانيينَ إِنْ جاءوا "يقشبرون" عن مأكل. ولقد كان ذلكَ الكنزُ ثميناً لدرجةِ أن كانتْ صلواتُنا فِي ذَروةِ الغارات الجويةِ تبدأُ بانْ يحفظَ الله معلباتِنا.
وَلَما أَوْغَلَتِ الحربُ فِي المآسي وطالتْ ليالي التعتيمِ وَدَهَمَنَا شبحُ الجوعِ، رحتُ أُكثِرُ من فَتَح الخَزانةِ وأُحَدِّقُ بالكنزِ فأَرى العلبةَ وعليها صورَ حبات
*93*
الكَرَزِ فأَسبَحُ فِي تَخَيُّلاتِ بساتينِ الكرزِ، وأَسماطُ (السماط: ما يُبسط ليوضع عليه الطعام، السِّمط: خيط العقد المنظوم، ويقال هم على سماط واحد: أي على نظمٍ واحد.) الطعامِ امتدتْ في ظلالها. ثم أنتقل بنظري الى عُلبةِ اللحمِ الأُسترالي وعليها صورةُ رأس ثورٍ، وعلبةِ الحليبِ وعليها رأسُ بقرةٍ، فأتخيَّل قطعانَ البقرِ تجوبُ المراعيَ الخصبةَ.
ويوماً، إذْ كنتُ في أزمةٍ نفسيةٍ، فتحتُ الخزانةَ وسبحتُ فِي رؤيا البساتين والمراعي، ففاجأني صديق أَبرقتْ عيناه وبلعَ بريقِهِ فانزلقتْ جوزةُ عنقه حتى غاصت الى قوس قدمهِ. ودعوتُه الى الغَداء فَقَبِلَ... وَهَتَكنَا ـ مُكْعَبَ علبةِ اللحمِ الاستراليِّ واندلعتِ النيرانُ في المطبخ يُذيعُ دُخَانُها بأَنَّ في بيتنا وليمةً عظمى.
هكذا بدأَ الكنزُ يتطايرُ من بين يديَّ. فقد كَثُرَ الزُّوَّارُ بعد تلك الوليمةِ الاولى وبصدفٍ عجيبةٍ أصبحوا لا يشرفونَنَا مواعيدِ الطعام.
واكتسبتُ شعبيةً فُجائيةً، ولو لَمْ نكنْ نعيشُ فِي ظل دولة بوليسيةٍ لرَشَّحْتُ نفسي لرئاسةِ الجمهوريةِ. وكنا أَبداً نفتحُ تلك العُلبَ للضيوف ونحرمُ منها انفسنا.
كذا فَهمنَا الضيافةَ تقاليدَ، وقرأناها شِعراً ونثراً الى أن تطلعتْ بي طفلتي ذَاتَ يوم وسألت: "ملاذا نطعمُ اللبَ للضيفِ ونُحَرمُ نحنُ منها. الضيفْ؟ ما معنى الضيف؟" حينئذ ثار في نفسي البركانُ الذي كان قد هَمدَ وشعرتُ من جديدٍ بقوس سطلِ اللبنِ يحِّز عظامَ اصابعي، وبقضيبِ السَّلة يجرحُ ذراعي. وتراءَت لِي الصِّينيةُ الفضيةُ تنوءُ تحتها راحتاي وزندايَ، وآلَمَتْ اضلُعي اضلاعُ الحصريةِ التي تَقَلَّبتُ عليها فيما نام الضيوفِ، يَشخرونَ على الفرشِ المزدوجةِ فأعلنتُ الحربَ على الضيافةِ والضيوف، ورُحنا نلتهمُ كنوزَنَا لَسببٍ رئيسيٍ أساسيٍ وحيد وهو أنه خشينا عليها أن تقعَ فِي أفواهِ الضيوف.
من المجموعة الكاملة، سعيد تقي الدين المقالات الادبية،
بيروت، ط2، 1971 (ص 201-204)
*94*
سعيد تقي الدين:
ولد في بعقلين وخلال دراسته في الجامعة الامريكية في بيروت مال الى كتابة الادب، وفي سنة 1925 هاجر الى الفلبين وعمل بالتجارة وعاد الى وطنه سنة 1948 وفتح مكتبا للمقاولات وعمل في السياسة والكتابة أهم مؤلفاته: مسرحية لولا المحامي، ونخب العدو، وحفنة ريح، وغابة الكافور.
الاسئلة:
1. صف اصول الضيافة لدى عائلة تقي الدين؟
2. ماذا كان دور الفتى في تقديم واجب الضيافة؟
3. استخرج الجمل التي يصف بها الفتى سعيد تقي الدين عناءَهُ. في أثناء تقديم واجب الضيافة في بيت والديه؟
4. اذكر ثلاثة مواضع في القطعة يعود فيها سعيد تقي الدين الى ذكرياته في بعقلين.
5. كيف تغير موقف سعيد تقي الدين من الضيافة؟
6. يستعمل الكاتب الكثير من الجمل الساخرة للتعبير عما يضايقه في القطعة السابقة.. سجل ما تهتدي اليه من هذه الجمل؟
7. ما هي القصة في النص السابق وما هي المعلومات التي ممكن حذفها بدون ان تَتَغَيَّرَ الفكرةُ المركزيةُ فيها؟
*95*
*95*
علي مروة
تَمْتَدْ القُرُوُن الوُسْطَى حَسَبَ رَأْيِ أَكْثَرِ المُؤَلِّفِينَ مِنْ سُقُوطِ الإِمْبَرَاطُورِيَّةِ فِي القَرْنِ الخَامِسِ إِلَى أَوَاسِطِ القَرْنِ الخَامِسَ عَشَرَ. تَتَنَاوَلُ هذِهِ المُدَّةُ سِيرَةَ الفِ سَنَةٍ تَقْرِيباً ظَهَرَ فِيهَا الإِسْلَامُ وَتَأَسَّسَتْ حَضَارَةٌ عَرَبِيَّةٌ فِيهَا الطِّبُّ بِشَكْلٍ خَاصٍّ وَنَمَتْ فِيهَا ثَقَافَةٌ صِحِّيَّةٌ مُمْتَازَةٌ. وَقَدْ عُرِفَتْ هذِهِ النَّهْضَةُ الطِّبِّيَّةُ بِطبِّ العَرَبِ فِي القُرُونِ الوُسْطَى.
وَقَدِ اشْتَهَرَ الكَثِيرُ مِنَ الأَطِبَاءِ العَرَبِ فِي فَجْرِ الإِسْلَامِ (فجر الإسلام: اسم يطلق على الصر الذي ظهر فيه الدين الإسلامي.) وَكَانَ مِمَّنْ اشْتَهَرَ مِنْهُمُ الحَارِثُ بْنُ كَلْدَةَ الثَّقَفِيُّ، وَكَانَ لَهُ كَلَامٌ مُسْتَحْسَنٌ، إِنْ نُورِدْهُ فَلِطَرَافَتِهِ (طرافة الحديث: المستحسن والنادر). مِنْ ذلِك أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ عَلَى كِسْرَى قَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟
قَالَ: أَنَا الحَارِثُ بْنُ كَلْدَةَ الثَّقَفِيُّ.
قَالَ: مَا صِنَاعَتُكَ؟
قَالَ: الطِّبُّ؟
قَالَ: أَعْرَابِيُّ أَنْتَ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَمَا تَصْنَعُ العَرَبُ بِطَبِيبٍ مَعَ جَهْلِهَا وَسُوءِ أَغْذِيَتِهَا.
قَالَ: أَيُّهَا المَلِكُ إِذَا كَانَتْ هذِهِ صِفَتُهَا كَانَتْ أَحْوَجَ إِلَى مِنْ يُصْلِحُ جَهْلَهَا وَيُقِوِّمُ عِوَجَهَا وَيَسُوسُ أَبْدَانَهَا (يسوس الأمر: يقوم به).
ثُمَّ أَمَرَهُ بِالجُلُوسِ فَجَلَسَ فَقَاَلَ كِسْرَى: مَا هُو الدَّاءُ الدَّوِيُّ (الداء الدوي: المرض الشديد، الدوي: الأحمق، ما في الدار دوي: ما فيها أحد.)؟
*96*
قَالَ: إِدْخَالُ الطَّعَامِ عَلَى الطَّعَامِ هُوَ الَّذِي يُهْلِكُ البَرِيَّةَ (البرية: الخلقية (من الفعل برأ: خلق.) وَيُهْلِكُ السِّبَاعَ فِي جَوْفَ البَرِّيَّةِ. قَالَ: أَصَبْتَ ثم قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِي دُخُولِ الحَمَّامِ؟
قَالَ: لَا تَدْخُلْهُ شَبْعَاناً.
قَالَ: وَهَلْ لَدَيْكَ وَصَايَا أُخْرَى.
قَالَ: لَا تَغْشَ أَهْلَكَ سَكْرَاناً وَلَا تَقُمْ بَاللَّيْلِ عُرْيَاناً وَلَا تَقَعُدْ عَلَى الطَّعَامِ غَضْبَاناً، وَارْفُقْ بِنَفْسِكَ يَكُنْ أَرْخَى لِبَالِكَ، وَقَلِّلْ مِنْ طَعَامِكَ يَكُنْ أَهْنَأً لِنَوْمِكَ.
قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِي الدَّوَاءِ؟
قَالَ مَا لَزِمَتْكَ الصِّحَّةُ فَاجْتَنِبْهُ. قَالَ: فَأَيُّ اللَّحْمَانِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: الضَّأْنُ الضَّنِيُّ (الضأن الضني: الماعز الهزيل).
قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِي الفَوَاكِهِ؟ قَالَ: كُلْهَا فِي إقْبَالِهَا وَحِينَ أَوَانِهَا.
قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِي شِرْبِ المَاءِ؟
قَالَ: هُوَ حَيَاةٌ البَدَنِ وَبِهِ قِوَامُهُ، (قوام: نظام، عماد.) يَنْفَعُ مَا شُرِبَ مِنْهُ بِقَدَرٍ، اَفْضَلُهُ أَرَقُّهُ وَأَصْفَاهُ.
قَالَ كِسْرَى: لِلّهِ دَرُّكَ مِنْ أَعْرَابِيٍّ، لَقَدْ أُعْطِيْتَ عِلْماً وَخُصِّصْتَ فِطْنَةً وَفَهْماً. وَأَحْسَنَ صِلَتَهُ وَأَمَرَ بِتَدْوِينِ مَا نَطَقَ بِهِ.
وَمِنْ كِبَارِ أَعْلَامِ الطِّبِّ العَرَبِيِّ أَبُو بَكْرِ الرَّازِي (1) (850-932م) نَعَتَهُ أَهْلُ زَمَانِهِ بِجَالِينُوسِ العَرَبِ.
1. وَضَعَ الرَّازِي كُتُباً كَيرَةً اعْتُبِرَتْ مُدَّةً طَوِيلَةً رُكْناً لِلْتعْلِيمِ فِي مَدَارِسِ أُورُوبَّا وَقَدْ بَلَغَت تآلِيفُهُ 153 كِتَاباً وَضَعَ مِنْهَا 56 كِتَاباً فِي الطِّبِّ وَ33 كِتَاباً فِي العُلٌومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَ13 فِي الكِمْيَاءِ وَ 10 فِي مَوَاضِيعَ مُخْتَلِفَةٍ.
*97*
وَللَّرازِي هذِا أَخْبَارٌ طَرِيفَةٌ كَثِيرَةٌ فِيمَا تَفَرَّدَ بِهِ فِي مُدَاوَاةِ المَرْضَى وَلَهُ أَقْوَالٌ مَأْثُورَةٌ. مِنْهَا قَوْلُهُ: "الحَقِيقَةُ فِي الطِّبِّ غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ".
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: "العَمْرُ يَقْصُرُ عَنِ الوُقوفِ عَلَى فِعْلِ كُلِّ عِلَاجٍ، فَعَلَيْكَ بِالأَشْهُرِ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الأَطِبَاءُ وَاقْتَصِرْ عَلَى مَا جَرَّبْتَ". وَمِنْهَا أَيْضاً قوْلُهُ: "يَنْبَغِي لِلطَّبِيبِ أَنْ يُوهِمَ المَرِيضَ أَبَداً بِالصِّحَّةِ وَيُرَجِّيهِ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاثِقٍ بِذلِكَ" وَقَوْلُهُ أَيْضاً: "يَنْبَغِي لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى وَاحِدٍ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ مِنَ الأطِبَاءِ وَمِنْ تَطَبَّبَ عِنْدَ كَثِيرِينَ مِنَ الأَطِبَّاءِ يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِي خَطَأ كُلِّ وَاِحٍد مِنْهُمْ". وَقَوْلُهُ: "إِنِ اسْتَطَاعَ الحَكِيمُ بِالأَغْذِيَةِ دُونَ الأَدْوِيَةِ فَقَدْ وَافَقَ السَّعَادَةَ".
وَلِلرَّازِي أَبْحَاثٌ عَنِ الدَّجَّالِينَ وَمَكَايِدِهِمْ وأَسْبَابِ انْخِدَاعِ النَّاسِ بِهِمْ، إِلَى أَنْ يَقوُلَ: "عَلَى أَنَّ حِيَلَهُمْ لَا تَنْطَوِي عَلَى الأَذْكِيَاءِ مِنَ المَرْضَى وَأَنَّ عَلَى العُقَلَاءِ أَنْ لَا يَجْعَلُوا حَيَاتَهُمْ العُوبَةً فِي أَيْدِي هَؤُلَاءِ المُشَعْوِذِينَ".
علي مروة عن كتاب: موسوعة الأدب الضاحك: ص. 128
علي مروة:
(1904-1980) كاتب لبناني، له كتاب موسوعة الأدب الضاحك، وَرَوائع الأدب الفكاهي العالمي وكتاب التشيُّعُ بين جبل عامل وايران.
*98*
الأسئلة:
1. لماذا يورد الكاتب كلام الحارث بن كلدة الثقفي؟
2. كيف يبدو الهزء في استقبال كسرى للحارث؟
3. سجّل ست نصائح تتعلق بالأكل؟
4. ما هو رأي الحارث بالنسبة للدواء؟
5. ما هو رأي الحارث بالنسبة للشراب؟
6. أين تجد تشابهاً بين نصائح الحارث ونصائح الرازي؟
7. ماذا يقول الرازي عن كيفية استعمال الدواء؟
8. ما الذي أمتعك في قراءة النص السابق أكثر من غيره؟
أ. المعلومات الطبية.
ب. الإسلوب القصصي.
ج. لغة التخاطب بين الشخصيات.
*99*
*99*
غاندي
وكانَ عددُ المنبوذين (المنبوذ: المتروك، المهمل، وسمي النبيذ لأنه يترك في الوعاء ليصير خَمْراً، وسمّي الولد الذي ترميه على جانب الطريق منبوذاً. وكذلك الفئات المهملة من الشعب تسمى (المنبوذين).) لا يَقِلُّ عن ستِّينَ مليوناً وكانوا يُطلِيقونَ عليهم تسميةً قاسيةً وهيَ: (غيرُ الجائز لَمسُهُمْ: Untouchables).
كانوا يُعتبرون أنجاساً. وكانوا يُضْطرُّونَ الى العملِ في أحقرِ الأَعمالِ ليتَمَكَّنوا من سَدِّ رَمَقِهِم (سد رمقهم: يكفيهم القليل من الطعام الذي يحميهم من الموت جوعاً. الرَّمق: بقية الحياة.)، وإذا عَملَ الواحدُ منهمْ خادماً في منزلٍ حُرِّمَ عليهِ تحريماً قاطِعاً أن تمسَّ يدهُ أيَّ فردٍ من أفرادِ الأسرةِ والا وَقَعَ عليهِ أقسى العقاب الذي يصلُ أحياناً الى القتلِ، ولا يُسأل قاتِلُهُ عَنْ ذِلك. لأنَّ حياةَ أحدِ المنبوذينَ لَمْ تَكُنْ تَفْضُلُ حياةَ أيَّ حيوانٍ في شيءٍ، بل إنَّ بعضَ الحيواناتِ كالأبقارِ كانَتْ هيَ - بل وأبوالُها - مُقدَّسةً طاهرةً!
ويقولونَ إنَّ أحَدَ هؤلاءِ المنبوذينَ كانَ يعملُ خادماً في منزلِ والدَيْ غاندي.. كانَ غاندي وهو طِفلٌ في السابعةِ أو الثامنةِ مِنْ عُمْرِهِ يعطِفُ على ذلكَ الخادِمِ أشدَّ العطفِ، وقَدْ كانَ هذا الخادِمُ هوَ الآخرُ طِفلاً في العاشرةِ مِنْ عُمْرِهِ.
كانَ ذلكَ الخادِمُ المنبوذُ يُدعى (شُورا). وقَدَ عاشَ بعد مقتلِ غاندي ليكونَ من أنْدرِ وأصدقِ المصادرْ التاريخِيَّةِ عن طُفولةِ ذلكَ العبقريِّ العظيم...
يقولُ شورا:
"كانَ غاندي يُخْفي جانباً مِن طَعامِه كلَّ يومٍ لِكَيْ يُقَدِّمَه لِي... كما كانَ في كثيرٍ منَ الأحيانِ يأكلُ مَعي مِنْ نفْسِ الصَّحنِ، وكنتُ أخشى
*100*
علَيْهِ وعلى نَفْسي مِنْ أنْ يراهُ أحدُ والِدَيهِ وهوَ يأْكُلُ مَعي فيضربَه ويوقعَ عليَّ عذاباً شديداً، فكنتُ أَرجو غاندي ألا يأْكُلَ مَعي، ولكنَّهُ كانَ يُصِرُ عَلَى ذِلك.
وفي أحِد الأيامِ سألني:
- لماذا أنتَ منبوذٌ؟
قلتُ لهُ:
- لا أدْري.. ولَعلَّني كذِلكَ لأني منْ أسرةٍ منبوذةٍ.
ولَمْ يَقتنعِ الطفلُ بهذا الجوابِ فَسأَلنِي مرةً أخرى:
- ومنِ الذي جَعَلَ أسرتَك منبوذةً؟
وَقُلْتُ لهُ مرتبكاً:
- لا أدْري!
فسأَلنِي:
- هلْ أنتمْ لصوصٌ.. أوْ قَتَلةٌ أَوْ كَذَّابون؟
قلتُ لهُ:
- كلا.. لِمْ نَسْرِقْ وَلَمْ نقتُلْ ولا نَعرِفُ الكذب!
فصاحَ غاندي:
- إِذنْ أَنتمْ شرفاءٌ مثلُّنا.
ويقولُ شورا:
وَإِذْ ذاكَ طَلَبْتُ منهُ أَنْ يُخْفِضَ صوتَهُ، ولكنَّه أَطرَقَ برأْسِه إِلى الأرضِ مُفكَّرا ثُمَّ قالَ لِي:
- لَنْ أَناديَكَ بعدَ الآَن باسمِك: شورا.. سأطلِقُ عليكَ اسماً آخرَ..
*101*
وسألتُه:
- وَمَا هُوَ هذا الاسم؟
قالَ لِي:
- سَأَسمِّيكَ (هاريجان: Harijan).
وسأَلتُه وَلَمْ أَكُنْ أَعرِفُ معنى هذه الكلمة:
- وَلِمَ هذا الاسم؟
قالَ لِي:
- إنَّ هارجانَ هوَ طِفلُ اللّهِ، إنَّ اللّه هوَ الذي خَلَقَكَ كَمَا خلقَني وَخَلَقَ أُمِّي وَأَبي والمَهراجا، إذا كانَ الناسُ قدْ نبذُوكَ فإنَّ اللّه لَن يَنْبُذَكَ، فأنتَ طِفلُ اللّهِ!
وَلَمْ يَنْسَ غاندي هذا التعبيرَ (طِفلُ اللّهِ). فلمَّا قامَ بدورهِ التاريخيِّ العظيمُ فِي الهِنْدِ، وحرَّرَ المَنبوذينَ، وَجَعَلَ لَهُمْ حُقوقَهم فِي الحياةِ الكريمة وساواهُمْ بغيرِهِم في كلِّ شيٍء.. كانَ يُطلِقُ علَيْهِمْ فِي مُسْتَهَلِّ (مستهل: بداية.) حركتِه الإصْلاحيَّةِ هذه اسمَ (أطفالُ اللّه).
غاندي:
هو زعيم الهند الحديث وقائدها الى الاستقلال، وقد قاد شعبه للتخلص من سيطرة الانكليز على بلاده دون أن يستعمل العنف، بل اكتفى بدعوة الهنود الى الإضراب عن العمل والى عدم الشراء والاكتفاء الذاتي.. وكان هو يجر عنزته حيثما ذهبَ ويكتفي بحليبها.
*102*
الأسئلة:
1. ماذا فهمت من القطعة السابقة عن حياة المنبوذين؟
2. ما هي مقاييس غاندي (الطفل) في تقييم الناس؟
3. صاح غاندي: (إذن أنتم شرفاء مثلنا).. لماذا لم يجب شورا على هذا القول؟
4. اختر أكثر من موقف أحزنك في القطعة السابقة.
5. ما هي أكثر جملة أعجبتك من أقوال غاندي؟ لماذا؟
6. من هم أطفال اللّه؟
7. استبدل كلمة سأل في الجمل التالية بكلمات ملائمة للمعنى من عندك: يُسأل العامل عن عمله، لا يسأل البخيل، وما السؤال الا للّه، المال يكفيك السؤال، كم سؤالاً سألتَ في الدرس؟
8. استعن بالقاموس في استخراج اربع كلمات مختلفة المعنى من الفعل (وقع).
*103*
*103*
د. هنري توماس
يمكنُ أنْ نعتبرَ هذا الملكَ المصريَّ واضعَ نواةِ (النواة: (في الأصل عجمة التمر) الأساس.) أسمَى إدراكٍ للفكرِ البشريِّ: إله واحدٌ، عالمٌ واحدٌ، قانونٌ عالميَّ واحدٌ - توافُقُ البشرِ.
وكانَ الاسمُ الحقيقيُّ لهذا الملك الفيلسوفِ، الذي ظهرَ حوالي ألفٍ وأربعمِائةِ عامٍ قبلَ المسيح: أَمِنْحتب الرابع. ثم اتَّخَذَ لنفسهِ اسم اخناتون الذي معناه (مُكرَّس للّهِ). وبالرغم من أنه لم يتعدَّ ثلاثين عاما عندَ وفاتهِ، فقد خلَّف وراءَه ميثاقا (الميثاق: العهد أو الأمر الذي نتعهد بالحفاظ عليه وعلى تنفيذه) للحكمةِ يصلُحُ لكلِّ العصور.
لقد تأثر بالفلاسفة المصريينَ الذينَ سبقُوه، كما تأثر (بكتاب طيبة عن الموتى) الذي كان من المفروض أن تَتْلُوَهُ أرواحُ الموتَى في يوم حَشْرهم (الحشر: مكان تجمع الناس يوم القيامة)، إِقراراً منهم بِأنَّهم قد اَمسَكُوا (أمسك عن الشيء: كفّ عن ممارسته، ومنع عنه.) عن مخالفةِ وصايا اللّهِ؛ وفيما يلي نَصُّهُ:
(لكَ المجدُ أَيُّها الإِلهُ العظيمُ، إلهُ الحقِّ والعدلِ، لقدِ اسْتُدعيتُ لأقفَ أمامَكَ، يا سيدي، حتى أرى بهاءَك وأْقدِّمَ حسابي... لم أقم بإيذاءِ أيّ إنِسان، ولم أظلِمْ الفقراءَ... ولم أُكلّفْ نفساً عَمَلاً فوق طاقَتها... لم أُهمِلْ واجباتي، كما لم أرتكِبْ مُنْكَراً يُغضبُ اللّه.... لم أمنعْ عن الجياعِ طعاماً، لم أُسِببْ لأحدٍ أَلماً أو أُسِلْ له دمعاً... لم أغشَّ في مِكيالٍ أو ميزانِ، ولم أحرِمِ الرُّضَّعَ لبَنَهم... ولم أغتصبْ شيئاً يخصُّ إِنساناً أو يتعلقُ باللّه..
*104*
إني طاهر...، طاهر...، طاهر.)
وقد كان هذا الإقرارُ عن الخير - أو قل - نفيُ الشَّرِّ، مادةً للسخريةِ عند زُمرةِ (الزمرة:(جمعها زُمر) الجماعة.) الكهنةِ الفاسقين. فالكهنةُ - كما هي القاعدةُ - كانوا متمسكين بمبدأ تعدُّدِ الآلهةِ بدلا من الإله الواحد. وكان همُّهمْ محصوراً في بيع التمائم (التمائم: (مفردها تميمة) وهي خرزة كانت الرب تلعقها على الأولاد لوقايتهم كم الين ومن الأرواح الشريرة.) والتعاويذ. أكثر منه في تعليم الفضيلة، وكلما ازدادت الآلهة، ازدادت التمائم. ومن تعاليمهم لأتباعِهِمْ أنه إذا نسَى المرءُ أن يتلوَ إِقرارَه واكتفى بعرضِ التمائم السحريةِ التي اشتراها من الكهنة، فإن الآلهةَ تغفرُ له ذنوبه.
وهكذا انحطتِ المبادئُ الخُلْقِيَّةُ فِي مِصرَ وتحولتْ إلى طقوس من الشعوذةِ. ولذا كان هدفُ اخناتونَ أن يَضَعَ حداً لهذا الفساد. فبدأ ثورةً دينيةً أخلاقية.
وأمرَ اخناتونُ بتحطيمِ جميعِ التماثيلِ المقامَةِ لآلهةِ المذاهب البدائيَّةِ التي سبقتْهُ، كما أغلقَ معابدَها. وَهَجَرَ مدينةَ طيبةَ الملكيةِ لأَنهُ اعتبرَها نَجِسَةً، وبنى لنفسهِ عاصمةً جديدةً أطلقَ عليها اسم (مدينة اللّه).
ولفترة قصيرةٍ ازدهرتْ أفكارُ أَخناتونَ في هذهِ المدينةِ الجديدةِ وجعل منها مركزاً للأدبِ والفن. ولكنَّ كهنةَ المذاهبِ القديمةِ خَنَقَوا عليه لضياع ما كان يدخلُ لهم من بيع التمائم والتعاويذ، فكان هلاكُه على أيديهم.
وقد عبَّر الملكَ المصريُ عن فلسفتِهِ الدينيةِ في قصيدةٍ شعريةٍ أهداها إلى بهاء اللّه، وهي أحد أناشيد العالم السامية:
أيها الإلهُ الحيُّ، يا مبدعَ الحياةِ
*105*
إشراقُك جميلٌ في أُفقِ السماء، لقد خلقتَ كلَّ الأشياءِ وتُسِّيرُ كلَّ شيءِ حَسَبَ مشيئتكَ. إِنكَ تربط جميع الأقطارِ والأُممِ بِرباط محبتكَ.
تضيء الأَرضَ عندما يبزغ نورُ فجرِك فتصحو الأَرضَ من نومِها مبتهجةً وترفعُ جميعُ المخلوقاتِ أصواتَها بأنشودةِ العبادةِ لك يا مصدرُ النور والضياء. كلُّ الأَشياءِ الحيةِ على الأَرضِ وفي الجوِّ والبحرِ تمتلئُ جوانبها بلهَبِ مجدِكَ أنتَ خالقُ النباتِ في الأرضِ والبذورِ في الأرحامِ، أنتَ قد غرستَها وأخرجتَها إلى العالم. عندَمَا يتحَّركُ جنينُ الطيرِ في البيضةِ تمنحه الأنفاسَ ليكسرَ قِشرتها ويخرُجُ إِلى ضَوْءِ الحياةِ
*106*
كلُّ شيءٍ حيٌ وأنت حياةُ العالم.
كم من عجائبَ تصنعها أيها السيد الإلهُ الواحدُ الحيُ لجميع الكون أنت الأبُ المحبُّ للناسِ جميعاً في مصرَ وسوريا وجميع أقطارِ الأرض).
بتصرف عن: اعلام الفلاسفة
تأليف د. هنري توماس
ترجمة: متري أمين القاهرة، (1964)، ص (8) - ص (15)
*107*
الأسئلة:
1. جد في القاموس في باب وثق معنى المصطلحين: (العروةُ الوثقى) و (خذ الأمر بالأوثق)، واستعمل كلاً منهما في نص إنشائي قصير.
2. أين تجد في (كتب طيبة) روح قانون عالمي واحد يدعو إلى توافق البشر.
3. ما هو اللون الغالب على الخطايا التي تتبرأ منها أرواح الموتى حسب كتاب طيبة.
4. اختر أجمل تبرؤ من الخطايا، وأشرح لماذا أخترته..؟
5. هنالك شبه بين موقف أخناتون من كهنة عصره وبين موقف المصلح المسيحي مارتن لوثر من الكنيسة في عصره. اشرح.
6. جد التعابير التي تشير الى حب أخناتون للإله في المقطعين الأول والأخير من قصيدته؟
7. كيف يصّور أخناتون ارتباط المخلوقات بالاله؟
8. ما وجه الشبه في سيرة كل من سقراط والنبي أشعيا والمسيح والحاكم بأمر اللّه، مع ما عرفته من سيرة أخناتون في النص السابق؟
*108*
*108*
أنيس فريحة
يَنْتَهِي المَطَافُ، يَا رِضَا، حَيْثُ بَدَأْنَا، فِي الضَّيعَةِ، وَهَلْ أَجْمَلُ مِنْهَا نِهَايَةً؟ عِنْدَمَا كُنْتَ صَغِيراً سَالتَنِي، يَا حَضْرَةَ الدُّكْتُورْ رِضَا - وَرِضَا الآنَ غَيْرُ رِضَا مِنْ زَمَانٍ - (لِمَاذَا تُحِبُّ الضَّيْعَةَ؟) وَأَجَبْتُكَ. لَكَ الآنَ أَنْ تَسْأَلَنِي: (لِمَاذَا رَاجِعٌ إِلَى الضَّيْعَةِ؟) لِسَبَبٍ بَسِيطٍ: آنَ لأَبِيكَ أَنْ يَنْعُمَ بِالرَّاحَةِ، بِالرَّاحَةِ الَّتِي لاَ أَجِدُهَا الآنَ فِي المَدِينَةِ.
حَقَّاً يَا رِضَا، سَئِمْتُ المَدِينَةَ، وَعَافَتْ نَفْسِي مَدَنِيَّتَهَا. وَلَوْ أَنِي رُحْتُ أَذْكُرُ لَكَ الأَسْبَابَ لَشَكَكْتَ فِي صِدْقِ قَوْلِي. غَيْرَ أَنِّي أَصْدُقُكَ القَوْلَ: تَتُوقُ نَفْسِي إِلَى الرَّاحَةِ الَّتِي أَجدُهَا فِي قَرْيَةِ طُفُولَتِي.
المَّديِنَةُ الَّتِي طَغَتْ عَلَيْنَا كَسَيْلٍ عَارِمٍ (السيل العارم: السيل الجارف.) فِي الخمْسِينَ سَنَةً الأَخِيرَةَ، مَديِنَةٌ حُلْوَةٌ، وَلكِنَّهَا غَرِيبَةٌ عَنْ أَرْضِنَا، بَعِيدَةٌ عَنْ أَجْوَائِنَا، فَرُحْنَا نَدفَعُ ثَمَنَهَا مِنْ أَعْصَابِنَا، مِنْ قُلُوبِنَا، مِنْ أَجْسَادِنَا. لِذَا هَاجَمْنَا السَّرَطَانُ وَتَحَكَّمَ فِينَا. لِذَا يَمُوتُ نِصْفُنَا بِمَرِضِ القَلْبِ. لِذَا عَدَدٌ كَبِيرٌ مِنَا مُصَابٌ إِمَّا بِالهِسْتِيرِيَا أَوْ بِانْهِيَارٍ فِي الأَعْصَابِ.
المَدَنِيَّةُ الحُلْوَةُ ثَمَنُهَا غَالٍ! جُهْدٌ يَنوْءُ (ينوء: يسقط من شدة الجهد) مَعْظَمُنَا تَحْتَ ثِقَلِهِ، وَهَا إِنِّي أَشْعُرُ بِثِقَلِهِ. نَفْسِي تَطْلُبُ الرَّاحَةَ. وَلَنْ تَجِدَ نَفْسِي الرَّاحَةَ إِلاَ إِذَا خَلَعْتُ عَنْ كَاهِلِي ثِقَلَ هذِهِ المَدَنِيَّةِ. وَإِنْ كُنْتَ تَعِدُنِي أَنَّكَ لاَ تَسْخَرُ مِنّي - وَكَثِيراً مَا تَسْخَرُ مِنْ ذَوْقِي الآنَ - فَإِنِّي أَفْتَحُ لَكَ صَدْرِي. أَبُوحُ لَك بِمَا لاَ أَجْرُؤُ أَنْ أَبُوحُ بِهِ أَمَامَ بَعْضِ النَّاسِ، مَخَافَةَ أَنْ يَسْخَرَ النَّاسُ بِي وَبِذَوْقِي.
*109*
نَشَأْتُ، يَا رِضَا، مُحِبّاً لِكُلِّ مَا هُوَ بَسِيطٌ، لِكُلِّ مَا لَيْسَ فِيهِ صَنْعَةٌ وَتَكَلُّفٌ. وَأَظُنُّنِي وَاجِداً مَا تَصْبُو إِلَيْهِ نَفْسِي مِنْ بَسَاطَةٍ فِي البَيْتِ الَّذِي عَمَّرْتُهُ هُنَاكَ فِي القَرْيَةِ. جَلَّلتْهُ بِالدَّوَالِي. اقْتَلَعْتُ مِنْ أَرْضِهِ كُلَّ شَجَرَةٍ غَرِيبَةٍ عَنْ لُبْنَانَ - تُفَّاحَ وَكَرَزَ - وَغَرَسْتُ فِيَها مَا يُلاَئِمُ جَوَّ لُبْنَانَ: عِنَباً وَتِيناً وَزَيْتُوناً وَخَوْخاَ مِنْ قُبِّ اليَاسَ. وَتَرَكْتُ بُقْعَةً مِنَ الآرْضِ لأَزْرَعَ فِيهَا الخُضَارَ. وَلَنْ أَنْسَى أَنْ أَزرَعَ مَسْكَبَة ثُومٍ وَبَصَلٍ وَنَعْنَعٍ وَفُجْلٍ وَكُرَّاثٍ وَرَشَادٍ. وَعِنْدَمَا تَخْبُزُ جَارَتُنَا عَلَى الصَّاجِ سَآخُذُ رَغِيفاً سَاخِناً مَعَ (كَمْشَةٍ) مِنْ زَيْتُونٍ أَخْضَرَ وَأَذْهَبُ إِلَى المَسْكَبَاتِ وَأَتَغَدَّى كَمَا كُنْتُ أَتَغَدَّى فِي أَيَامِ الحَرِبِ الآولَى. أَكْلٌ لَذِيذٌ رَخِيصٌ مَلِيءٌ بِالفِيتَامِينَاتِ. يَكْفِي أَنْ لاَ (جَلْيَ) صُحُونٍ وَشِوَكٍ وَسَكَاكِيَن بَعْدَ الغَدَاءِ!
عِنْدَمَا نَتَقَدَّمُ فِي السِّنِّ يَا رِضَا، نَكْرَهُ مَا نَكْرَهُ، الصَّخَبَ وَالضَّجيجَ وَقَرْعَ الجَرِسِ - لاَ أَعْنِي قَرْعَ الجَرَسِ الَّذِي يَدْعُونَا إِلَى الصَّلاَةِ- جَرَسَ الوَاجِبِ.
وَعِنْدَمَا نَتَقَدَّمُ فِي السِّنَّ يَا رِضَا، تَطْلُبُ أَجْسَادُنَا التَّرَاخِيَ، وَنُفُوسُنَا التَّكَاسُلَ، وَعُقُولُنَا الشُّرُودَ فِي عَالَم الخَيَالِ وَالغَيْبِ وَالهُرُوبِ إِلَى عَدَمِ المَنْطِقِ. المُحَافَظَةُ عَلَى القَمِيصِ المَكْوِيَّةِ بِالنَّشَا، وَطَيَّةُ البَنْطَلُونَ، وَلَمَعَانُ الحَذَاءِ، وَانْسِجَامُ الكْرَافَاتِ مَعَ بَاقِي الوَانِ الالبِسَةِ تَتَطَلَّبُ جُهْداً وَحِفَاظاً، وَأَجْسَادُنَا تَحِبُّ التَّرَاخِيَ وَالكَسَلَ. عِنْدَمَا أّتْعَبُ أُحِبُ أَنْ أَسْتَلْقِيَ مُتَرَاخِياً مُتَكَاسِلاً غَيْرَ مُبَالٍ بِالقَمِيصِ وَطَيَّةِ البَنْطَلُونَ وَلَمَعَانِ الحِذَاءِ.
*110*
أُحِبُّ الآنَ أَنْ أَصغِيَ إِلَى بُو عَلِي يُفَسِّرُ التَّارِيخَ، وَإِلَى بُو قَاسِم يَسُبُّ الحُكُومَةَ لأَنَّهَا تَفْرِضُ الضَّرَائِبَ، وَإِلَى بُو يُوسُفَ يُحَدِّدُ مَشَاكِلَ الاقْتِصَادِ وَالمَالِ وَيَحُلُّهَا بِطَرِيقتِهِ القَرَوِيِّةِ السَّاذَجّةِ. أُحِبُّ أّنْ أَصْغِيَ إِلَى مَخُّولٍ فِي سَرْدِهِ تَارِيخَ العَرَبِ وَمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ العَرَبُ الآنَ. أُحِبُّ أَنْ أَصْغِيَ وَأَنَا مُسْتَلْقٍ عَلَى السَّطِيحَةِ، إِلَى جِيرَانِي يَشْرَحُونَ لِي الفَلْسَفَةَ المَارِكْسِيَّةَ وَالفَاشِسْتِيَّةَ وَالدِّيمُقْرَاطِيةَ وَالدِّكْتَاتُورِيَّةَ. فَقَدْ سَئِمَتْ نَفْسِي الجَوَّ الأَكَادِيميَّ الَّذِي يُفَسِّرُ هذِهِ الأُمُورَ عَلَى غَيْرِ مَا يُفَسِّرُهُ أَهْلُ الضَّيْعَةِ. تَفْسِيُرهُمْ بَسِيطٌ سَاذَجٌ، فِطْرِيٌّ، مَحْدُودٌ، لاَ يَحْتَاجُ إلَى جُهْدٍ عَقْلِيٍّ وَلاَ إِلَى تَعَبٍ رُوحِيٍّ. وَأَجْسَادُنَا فِي هذِهِ السِّنِّ تَتَطَلَّبُ التَّرَاخِيَ، وَعُقُولُنَا الهَرَبَ مِنَ العلمِ وَالمَنْطِقِ. أَفَهِمْتَ الآنَ لِمِاذَا أُرِيدُ الرُّجُوعَ إِلَى الضَّيْعَةِ؟
وَفِي نَفْسِيَ تَوْقٌ آخَرُ يَدْفَعُ بِي نَحْوَ الضَّيْعَةِ. وَلكِنِّي أَتَرَدَّدُ فِي البَوْحِ بِهِ مَخَافَةَ أَنْ أَزْعِجَكَ، لأَنَّهُ خَاطِرٌ لاَ يَتَكَلَّمُ النَّاسُ عَنْهُ:
أَبِي يَرْقُدُ فِي قَبْرٍ عِنْدَ جِذْعِ صَنَوْبَرَةٍ، وَإِلَى جَانِبِ قَبْرِهِ صَنَوْبَرَةٌ أُخْرَى تَرْقُدُ أُمِّي عِنْدَ جِذْعِهَا. وَهُنَاكَ صَنَوْبَرَةٌ ثَالِثَةٌ تَنْتَظِرُنِي. سَأَمُوتُ حَيْثُ وُلِدْتُ. وَيُصَلَّى عَلَى جُثْمَانِي فِي كَنِسَةٍ عَبِقَةٍ بِالبَخُّورِ، وَيَحْمِلُنِي إِلَى قَبْرِيَ شَبَابُ الضَّيْعَةِ.
سَأَتْرُكُكَ يَا رِضَا فِي المَدِينَةِ. قُمْتُ بِوَاجِبِي، وَسَأَعُودُ رَاضِياً قَانِعاَ إِلَى البَيْتِ الَّذِي عَمَّرْتُهُ فِي القَرْيَةِ وَجَلَّلْتُهُ بِالدَّوَالِي، وَهُوَ لَيْسَ بِبَعيدٍ عَنْ جِذْعِ الصَّنَوْبَرَةِ.
سَامِعْ يَا رِضَا!
أنيس فريحة، إسمع يا رضا
بيروت ص ((4 (1979)
*111*
أنيس فريحه: كاتب لبناني معاصر له أبحاث مشهورة في اللغة والأدب ودراسة اللغة العامية.
أسئلة:
1. جد موضعين في القطعة السابقة تستدل فيهما على أن رضا هو ابن الكاتب؟
2. أحياناً يخاطب الكاتب ابنه رضا بلهجة ساخرة أُذكر ثلاثة منها؟
3. لماذا يشبه المدينة بالسيل الارم؟
4. أَجَدُ أسباب رجوعه للقرية متعلق بشخصيته وخلقه، كيف يفسر ذلك؟
5. ما علاقة تقدمه في السن بعودته الى القرية؟
6. هنالك نوعان من الأسباب التي يقدمها الكاتب ليبرر رجوعه للقرية:
أ. ملله من المدينة.
ب. حُبُّه لجو القرية وشوقه اليه..
ماذا يقول في كل منهما؟
7. ما رأيك في السبب الحقيقي لرجوع المحدث الى القرية؟
*112*
*112*
د. عادة أهروني
كَانَ ذلِكَ فِي صَيْفِ الفٍ وَتِسْعِ مِائَةٍ وَخَمِسٍ وَأَرْبَعِينَ، كَانَ هذَا الصَّيْفُ حَارّاً وَجَافّاً. الحَرْبُ العَالَمِيَّةُ الثَّانَيِةُ وَضَعَتْ أَوْزَارَهَا (وضعت الحرب أوزارها: توقفت.) وَقُلُوبُنَا مُفْعَمَةٌ بِالبَهْجَةِ وَالكِآبَةِ مَعاً. كُنَّا فِي اسْتِرَاحَةِ الظَّهِيرَةِ لِلْمَرْضَى وَالُمُمَرِّضَاتِ. فَجْأَةً دَقَّ أَحَدُ الخَدَمِ عَلَيَّ بَابَ غُرْفَتِي، كَانَ ذلِكَ مَسْعُودٌ أَبُو طْبُولِ، الَّذِي طَلَبَ مِنِّي أَنْ أَصْعَدَ فَوْراً إِلَى القِسْمِ، لأَنَّ شُرَطِيّاً مِنْ مَحَطَّةِ القِطَارِ يُرِيدُ أَنْ يُكَلِّمَنِي بِأَمْرٍ هَامّ وَمُسْتَعْجَلٍ.
رَوَى لِي الشُّرَطِيُّ الحِكَايَةَ التَّالِيَةَ: "لَقَدْ وَصَلَ إِلَى المَحَطَّةِ الرَّئِيسِيَّةِ، قَطْرٌ مَلِيءٌ بِالرُّكَابِ، رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، شُيُوخٍ وَأَطْفَالٍ وَجَمِيعُهُمْ مِنَ اليَهُودِ. لَقَدْ وَصَلْوا قَبْلَ يَوْمٍ مِنَ اليُونَانِ عَلَى مَتْنِ سَفِينَةٍ بَرِيطَانيَّةٍ كَبِيرَةٍ، وَيَحْرُسُ القِطَارَ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الجُنُودِ البَريطَانِييِّنَ، وَسَيَتَحَرَّكُ القِطَارُ بَعْدَ بِضْعِ سَاعَاتٍ إِلَى اللِّدِّ، وَالرُّكَابُ المَسَاكِينُ يُعَانُونَ مِنَ الجُوعِ وَالعَطَشِ، وَلاَ يَمْلكُونَ شَرْوَى نَقِيرِ (شروىَ نقير: مثل نقير. والنقير حبةَ صغيرةَ في نواة البلح يخرج منها النبت. والمعنى يشير الى قلة الشيء وعدم قيمته.)، فَهَلْ بِإِمْكَانِكُمْ مَسَاعَدَتُهُمْ؟".
"طَبْعاً"، قُلْتُ بِلاَ تَردُّدٍ.
"إِذَنْ يَجِبُ أَنْ نُسْرِعَ، لأنَّ القِطَارَ سَيَتَحَرَّكُ بَعْدَ قَلِيلٍ "أَلَحَّ عَلَيَّ الشُّرَطِيُّ" كَمْ عَدَدُهُمْ؟" سَالتُ الشُّرطِيَّ.
"رُبَّمَا بِضْعُ مِئَاتٍ "أَجَابَ الشُّرَطِيُّ الطَّيِّبُ، وَمَعَالِمُ القَلَقِ تَرْتَسِمُ عَلَى مُحَيَّاهُ، خِشْيَةَ أَنْ نَتَأَخَّرَ.
*113*
(رسمة في الكتاب استعن بالمعلم)
أَصْدَرْتُ تَعْلِيمَاتِي بِإِعْدَادِ الطَّعَامِ. بَدَأْنَا بِتَحْضِيرِ السَّانْدْوِيتْشَاتِ، بِمُسَاعَدَةِ الُمَرِضَاتِ وَالخَدَمِ، أَخَذْنَا الجُبْنَةَ وَالبَيْضَ مِنْ مَطْبَخِ مُسْتَشْفَانَا، أَرْسَلْنَا مَسْعُوداً لِشِرَاءِ المُرَطّبَاتِ وَالسَّجَائِرِ والشُّوكُولاَتَةِ وَالحُلْوَيَاتِ وَوَرَقِ التِّوَالِيتِ، أَمَّا الحُبُوبُ المُسَكِّنَةُ لآلاَمِ الرَّأْسِ فَقَدْ حَصَلْنَا عَلَيْهَا مَنَ الصَّيْدَلِيَّةِ الرَّئِيسِيَّةِ فِي المُسْتَشْفَى، كَمَا حَصَلْنَا عَلَى الكُؤُوسِ مَنْ غُرْفَةِ الطَّاقَمِ. أَعَارَتْنَا عَائِشَةُ المَسْؤُولَةُ عَنِ الغَسِيلِ، سَلَّاتٍ كَبِيرَةً لِنَضَعَ فِيهَا الطَّعَامَ. خِلَالَ سَاعَةٍ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ جَاهِزاً.
تَوَجَّهْتُ مَعْ مَسْعُودٍ وَمُمَرِّضَتَيْنِ إِلَى مَحَطَّةِ القِطَارِ بِأَقْصَى سُرْعَةٍ مَمْكِنَةٍ. هُنَاكَ وَجَدْنَا القِطَارَ لاَ يَزَالُ يَقِفُ عَلَى رَصِيفِ اللِّدِّ، يُحِيطُ بِهِ بَعْضُ الجُنُودِ الإِنْجِليزِ، وَلَمْ يَسْمَحُوا لأَحَدٍ بِالنُّزُولِ مِنَ القِطَارِ. فُوِجِيءَ هؤُلاَءِ الجُنُودُ بِنَا، وَنَحْنُ نَحْمِلُ سَلاَلَ الغَسِيلِ، وَسَأَلُونَا عَنْ سَبَبِ قُدُومِناَ. فَشَرَحْنَا لَهُمْ
*114*
السَّبَبَ. كَانَ اللاَجِئُونَ المَسَاكِينَ يُطِلُّونَ مِنْ نَوَافِذِ القِطَارِ، وَمَعَالِمُ الجُوعِ وَالعَطَشِ وَالتَّعَبِ بَارِزةٌ عَلَى مُحَيَّاهُمْ. بَاشَرْنَا فَوْراً بَتَوْزِيعِ الزَّادِ وَالشَّرَابِ.
تَلَقَّفُوا مِنَّا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ بامْتِنَانٍ، وَرَاحُوا يَأْكُلُونَ بِنَهَمٍ.
"لكِنْ مَنْ أنْتُنَّ؟" سَأَلُونَا بِدَهْشَةِ وَاسْتَغْرَابٍ. شَابٌّ وَسِيمٌ ذُو شَارِبَيْنِ قَالَ: "أَلَا تَرَوْنَ مَنْ هُنَّ؟.. إِنَّهُنَ مَلاَئكَةُ رَحْمَةٍ، بَعَثَهُنَّ اللهُ لَنَا".
قُلْتُ مُبْتَسِمَةً: "لاَ مَلاَئِكَةَ رَحْمَةٍ وَلاَ يَحْزَنُونَ، مُجَرَّدُ مَمَرِّضَاتٍ يَهُودِيَّاتٍ عَادِيَاتٍ، مِنْ المُسْتَشْفَى اليَهُودِيِّ فِي الاسْكَنْدَرِيَّةِ".
د. عاده اهروني
ذكريات من الإسكندرية، ترجمة د. محمود عباس، دار الشرق 1981.
د. عاده اهروني:
شاعرة وكاتبة عبرية معاصرة لها نشاطات عدة في مجال التقارب بين الكتاب البريين والعرب. تسكن مدينة حيفا وهي الرئيسة العالمية لرابطة انصار الأدب.
الأسئلة:
1. ماذا عَرفت من القطعة عن رُكَّابِ القطار؟
2. ما هي ميزة كل شخصية من الشخصيات المذكورة في القطعة؟
3. تخيل نفسك واحدً من ركاب القطار...، إروِ لَنا كيف فوجئت بقدوم المُمَرِّضَاتِ الثلاث ومسعود إليكم بالهدايا؟
*115*
*115*
الأصفهاني
حدَّثَ أَبُو عبيدةَ قال: كان بُردُ أَبُو بشارٍ طَيَّاناً حاذقاً بالتطيينَ، وَوُلَدَ لَهُ بشارٌ وَهْوَ أَعمى، فكان يقولُ: ما رأيتُ مولوداً أعظمَ بَرَكَةً منهُ، ولقد وُلد لي وما عندي دِرْهَمٌ فما حَال الحَوْلُ حَتَّى جمعتُ مِائَتَيْ دِرُهَمٍ. وَلمْ يمت بُرد حتى قال بشارٌ الشعر. كان لبشارٍ أَخَوَانِ يقالُ لاحدهما بِشْر وللآخر بَشير وكانا قَصَّابينِ، وكان بشار باراً (بارٌ بهما: محسن اليهما نقول: برَّ بوالديه: أحسن اليهما.) بهما على أنه كان ضَيِّقَ الصدرِ مُتبرِّماً (تبرم: تضجّر.) بالناس، فكان يقول: اللهمَّ إِني كنتُ تبرمتُ بِنفسي وبالناس جميعاً، اللهمَّ فأرِحْني منهم. كان اخوتُهُ يستعيرونَ ثيابَه فيوَّسخُونَها ويُنتنونَ ريحَها، فاتخذَ قميصاً له جيبانِ وحلف أن لا يعيرهم ثوياً من ثيابِه، فكانوا يأخذونَها بغير إذنِه، فإذا دعا بثوبِه فلبسَهُ فأنكر رائحتَه يقول: أَيْنَّمَا أتوجهُ ألقَ سُعداً (السُّعد: نوع من الطيب.)، فإذا أعياه الامر خرج إِلَى الناس في تلك الثياب عَلَى نَتْنِها ووسَخِها فيقال له: ما هذا يا أبا مُعاذ؟ فيقول: هذه ثمرةُ صلة الرَّحم. قال: وكان يقول الشعرَ وهو صغيرٌ، فإذا هَجا قوماً جاؤوا إِلَى أَبيهِ فشكَوْهُ فيضرُبهُ ضرباً شديداً، فكانت أمُّهُ تقول: كم تضرِبُ هذا الصبيَّ الضرير! أما ترحَمُه؟ فيقول: بلى والله إني لأرحَمُه، ولكنه يتعرضُ للناسِ فيشْكُونه إِليَّ فَسمعَهُ بشارٌ فطمعَ فيه، فقالَ له: يا أبتِ...إِنَّ هذا الذي يَشْكُونه مني إِليكَ هو قول الشعر، وإنِي إنّ المَمْتُ عليه أَغْنَيْتُكَ وسائرَ أَهلي، فإِن شكَوْني إِليكَ فقل لهم: أليس الله يقول: "ليس عَلَى الأَعْمَى حرجٌ" (ليس على الاعمى حرج: لا أثم عليه.) فلما عاوَدوه شكواه قال لهم بُرد ما قاله بشار، فانصرفوا وهم يقولون: فقْهُ بُردٍ أَغيظُ لنا من شعر بشار.
*116*
وحدث محمد بن الحجاج قال: كنّا مع بشار فأتاَه رجلٌ عن منزل رجلٍ ذكَرَهُ له. فجعل يُفهمه ولا يَفْهَمُ فأخذَه بيدِه وقامَ يقودُه إِلَى منزل الرجلِ وهوَ يقول:
أَعمى يقودُ بصيراً لا أبا لَكُمُ
قد ضلَّ مَنْ كانت العُميانُ تهديهِ
حَتَّى صار به إِلَى منزل الرجل. ثُمَّ قال لَهُ: هذا هوَ منزلُه يا أعمى.
وحدّث نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الجلّيِّ قال: هَجا بشارٌ رَوْحَ بن حاتمٍ فبلغَهُ ذلك فقذَفَه وتهدَّدَه. فلمّا بلغ ذلك بشاراً قال فيه شعراً ساخراً.
(قال) فبلغ ذلك رَوْحاً فقال: كلُ مالي صَدَقَةٌ إن وقعتْ عيني عليه لأضربنَّهُ بالسيف ولو أنه بين يدي الخليفة. فبلغ ذلك بشاراً فقام من فورِه حَتَّى دَخل عَلَى المهدي. فقال لهَ: ما جاء بك فِي هذا الوقت. فأخبرَه بقصةِ رَوحٍ وعَاذَ (عاذ: احتمى.) به منه. فقال: يا نُصَيْرُ وَجِّهْ إِلَى رَوْحٍ مَنْ يُحْضِرُهُ الساعةَ. فأرسل إِلَيْهِ فِي الهاجرةِ. فظنَّ هوَ وَأَهله أَنَّهُ دُعي لولايةٍ. قال يا رَوْحُ إِني بعثتُ إِلَيْك فِي حاجةٍ، فقال له: أَنا عَبْدُك يا أَمير المؤمنين، فَقُلْ ما شئتَ سِوَى بشار فإِنّي حلفتُ فِي أمرِه بيمينِ. قال: قد علِمتُ، وَإِياهُ أَردتُ. قال له: فاحتل ليميني (إحتل ليميني: أي تكفل بيميني. جدْ لي مخرجاً مقبولاً دون تراجع عن القسم.) يا أَميرَ المؤمنين. فَأَحضر القضاةَ والفقهاءَ، فاتفقوا عَلَى أن يضرَبهُ ضربةً عَلَى جسمِهِ بعرضِ السيف. وكان بشارٌ وراءَ الخيش (الخيش: ثياب من الكتان رقاق النسج غلاظ الخيوط استعملت كحواجز.) فأُخرِجَ وأُقعِدَ. واستلَّ روحٌ سيفَهُ فضربَه ضربةً بعرضِه. فقال: أوَّه بسم الله. فضحك المهديُّ وقال له: ويلك وإنَّما ضربك بعرضه وكيف لو ضربك بحدِّهِ.
بتصرف عن: رنات المثالث والمثاني لأبي فرج الأصفهاني، ص 255-258.
*117*
بشار بن برد:
عاش في الدولتين الاموية والعباسيّة، ذاعت شهرته ايام الخليفة المهدي في بغداد.
يعتبر في قمة الشعراء المحدثين - المجددين - في عصره، واشتهر برقة غزله وبالهجاء والمدح، ونال الجوائز السنية.
كان بشار ضخماً مجدوراً، جاحظ العينين وقد تغشاها لحمٌ أحمر، فكان أقبح الناس عمىً وأفظعهم منظراً، وكان إذا أراد أن ينشد الشعر صفق بيديه وتنحنح. وبصق عن يمينه وشماله ثم أنشد.
الأسئلة:
1. كان بشار بركة لاهله، وسخطة للناس، لماذا؟
2. لماذا رضي برد عن تعرض ولده بشار للناس؟
3. ماذا قصد بشار بقوله: قد ضَلَّ مَنْ كانت العميان تهديه؟
4. قسّم النص الى فقرات وضع لكل فقرة عنواناً ملائماً.
5. صف كيف ساعدت الحكايات السابقة عن بشار في التعرف على شخصيته.
6. انظر في باب فقه في القاموس واختر ثلاثة أشقاقات منه واستعملها في جمل مفيدة.
7. فَسِّر التعابير التالية؟ حال الحول، ضاق صدره، دعا بالشيء - دعا ربه - دعا صديقه - دعا له، انكر الرائحة، صلة الرحم، يتعرض للناس، ألْمَمْتُ على الشيء، نزل المكان.
*118*
*118*
كَان بإمكانِ جنكيزْ خانْ أَنْ يتخذَ إِحدى المدنِ الجميلةِ في بلاد فارسَ او الصينِ عاصمةً له، ولكنهُ بدلا من ذلكَ آثر مدينة قَرَقُوم Karakorum، وهي مدينةٌ منعزلةٌ في هَضَبَةِ مُنغوليا الجافة. وكان جنكيز قد وُلدَ في تلك المنطقةِ بالقربِ من بحيرةِ بيكال Baikal، وفيها تعلَّمَ فنونَ القتال، واليها عاد في عام 1227 ليقضيَ آخرَ أيامه ومن المحتملِ ان يكونَ جنكيز خان قد أقام بلاَطَهُ فِي تلك البقعةِ، لأَنه أرادَ أن يُبقِي عَلَى روحِ المغامرةِ وتحمُّل المشاقِّ الَّتِي غرسَتْها حياةُ الصحراءِ فِي نفوسِ أَتباعه منَ البدو.
لَم يكن جنكيز خان يعرفُ القراءَة ولاَ الكتابةَ، ولكنَّ احتكاكَه بالثقافتين الصينيةِ والفارسيةِ جعلَه يُدرِكُ أهميةَ هاتين الثقافتين، وأَنَّهُ لا بدَّ من أن يحصَلَ عَلَى معونةِ الرجالِ المتعلمينَ لحكمِ امبراطوريتِه الضَّخْمَةِ، لذلك دعا لبلاطِهِ عدداً من رجالِ العلمِ كان أَبْرَزَهم يي ليوشوتسايYe Liu Chutsai أَحَدُ حكماءِ الصينِ الَّذِي أَصبحَ الرفيقَ الدائمَ للخان ومستشارَه الخاص، كما أنه جنَّدَ اعدادا ضخمةً من الحِرفيِّين والفنانين من مختلف البلادِ الَّتِي قهَرَها وأَحضَرهُم الى قرقورم، فكان منهم النجارون، والمِوسيقيون، والأطباءُ. كما تَمَّ نقل الكمياتِ الضخمةِ من الغنائمِ الَّتِي كان يسمحُ لرجالِهِ البدوِ بالاستيلاءِ عليها بعد الانتهاءِ من كلِّ معركةٍ وأَحضرها الى قرقورم، وقام بتشييد العديدِ من المباني الدينيةِ داخل المدينةِ، ذلك لأنه كان يسمح لجميع رعاياه بان يزاولَ كلَّ منهم الديانةَ الخاصة به.
*119*
وقد أَقامَ جنكيز خان حول جدرانِ المدينةِ صفوفا من الخيام Yurts، كانت بمثابةِ الثَّكَنَاتِ لافرادِ الجيشِ يُقيمونَ بها فيما بين الحرب والاخرى، وفِي فترات الهدوءِ تلك كان جنكيز خانُ يُنَظِّمُ رِحلاتِ الصيدِ الشاقةِ، لكي يحافظَ عَلَى حَسنِ تدريبِ قواته، ومن قرقورم أصدر "الياسا Yassa"، وهي مجموعةُ القوانين العظيمةِ الَّتِي كانت تحكم جميع مظاهرِ الحياةِ لأَتباعِه، وَالَّتِي بموجبِهَا تمكن من السيطرةِ عَلَى امبروطوريتهِ المتراميةِ الاطرافِ سيطرةً قويةً، كما ركَّزَ فِي قرقورم جهازَ بريدِهِ الرائعَ الضخمَ. وقد أُقيمتْ سلسلةٌ من المحطات تربِطُ بين أَطرافِ الإمبراطورية، وكانت هناكَ مجموعةٌ من أَمْهَرِ الفُرسان يعملونَ عَلَى إِحَاطةِ الخانِ بكلِّ ما يَجري فِي أركَانِ الإمبراطورية.
موسوعة المعرفة: نشأة القارات،
الباب الرابع، سويسرا، ص 63
الأسئلة:
1. لماذا جعل جنكيز خان قرقورم عاصمة له؟ وما وجه الغرابة في ذلك.
2. استعن بكتب التاريخ أو بإحدى الموسوعات الملائمة وكذلك بالأطلس وارسم خارطة لامبراطورية جنكيز خان.
3. استنتج من النص السابق أربعة من عوامل القوة في نظام حكم جنكيز خان.
4. بين ما الفرق بين اسلوب نص سيرة بشار واسلوب نصِّ سيرة جنكيز خان.
*120*
*120*
أمينه السعيد
في قمة المجد:
الأوساطُ الفنيةُ في باريسَ قائمةٌ عَلَى قدمٍ وَسَاق، تُرددُ زهوِ (زهو: الاعجاب بالنفس.) وإِعجابٍ قِصَة "بيرو هارى"..... ذلِكَ الفَنانِ الشَّابِ الَّذِي تَوَّجَهُ المجدُ باكليلٍ من غار، فتقرَّرَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ المُخَلَّدِينَ من أَهْلِ الفن العريق!
وبيرو هارى رسَّامٌ فَرنسيٌ حَدِيثٌ، تَخَرَّجَ منذ سنواتٍ مِنَ مدرسةِ الفُنونِ الجميلةِ بِبَارِيس، واتخَذَ لَهُ عَلَى ضِفَافِ نَهْرِ السِين مَرْسَماً صغِيراً لَمْ يَلبثُ أَنْ جَلَبَ لَهُ شُهرةً عَرِيضَةً، فَقَصَدَهُ الملوكُ والحكامُ والزعماءُ فِي مختلفِ بلاد الشرقِ والغربِ يطلبون إليه أَن يرسمهم بريشته السحرية.
ولَمَا ازدَادت شهرتُه تنبهتْ إِلَيْهِ الأوسَاطُ الفنيةُ العالميةُ.... فَكَانَتْ تَستعينُ برأيهِ في دقائقِ الأمور، وتعملُ بمشورتِهِ فِي المشاكلِ العويصةِ. ومن ذلِكَ أنَّهُ عندمَا أنشأتِ الولاياتُ المتحدةُ الأمريكيةُ مُتحَفَها الفنيَّ بمدينةِ واشنطن، طلبتْ إِلَى الحكومةِ الفرنسيةِ أن تعيرَها خبيراً ممتازاً يُقَرِّرُ قِيَمَ اللوحَاتِ الموجودةِ فِي ذلِكَ المُتحفِ، ويكشفُ عن اصولها وتواريخها... فوقع اختيارُ فرنسا عَلَى بيرو هارى دون غيرِه من الفنانين المعروفين. أما لماذا تتحدثُ الأوساط الفنيةُ اليومَ بسعده وجَده (الجَدُّ: الحظ.) ومعناها أيضاً أبو الأب أو الام، ومعناها كذلك شاطئ البحر: أما كلمة الجِد فمعناها الاجتهاد.... وتقول جَّد في الأمر أي اجتهد وأسرع، فلأنه صنع منذ شهورٍ قلائلَ لوحةً كبير، لسيدةِ مصريةٍ معزوفة هي السيدة جميلة محفوظ كريمة الدكتور عبد الحليم محفوظ بك وسمّاها "صاحبة الفِراء"، فكانت قطعةً من روائعِ الفنِ من حيثُ سحرُ أَلوانِهَا وأضْوَائِهَا، وَجَمَالُ نَظَرَاتِهَا
*121*
وَتَعَبِيرَاتِهَا. وقد اسْتَرْعَتْ هذه اللوحةُ اهتمام النقَّادِ وَأَسَاتِذَةِ الفن، وَاسْتَحْوَذت (استحوذت عليه: استولت عليه) عَلَى أَعْجَابهم فقرروا أن يضعوها في معرِض الفن الحديث، لتبقى فيه حَتَّى وَفاةِ راسمها، فَتُخَلَّدُ من بعدِه في مُتحف اللُّوفَر.... وَإِنه لشرف بالغ لا يناله إِلَّا من كَانَ فريدا (فريد: ليس له مثيل) في فنه وَكَفَاْءَتِهِ.
مريام هاري القاصة:
وقليلون جدا من يعرفون حقيقة بيرو هاري، ذلك الفنان الكبير المطبوع (الفنان المطبوع: الذي فَنَّه بدون تكلّف فنقول: شاعر مطبوع وفنان موهوب). فإِنَّ وَراء اسمه الفرنسي وسيرته المعروفةَ للناس جميعاً، قصةٌ خفيّةٌ مليئةٌ بالفلسفةِ الإنسانيّة، وعجائبِ أَحكام القَدَر. وتبدأ هذه القصةُ منذ نَيّفٍ (نيِّف: زيادة، تستعمل بعد القود، فنقول، قبل ثلاثين عاماً ونيف، ولا نقول قبل خمسة وثلاثين عاماً ونيف) وثلاثينَ عاماً مَضتْ يومَ اسْتَقَرَّ رأي الكاتبةِ الفرنسيةِ الشهيرةِ مريام هاري - زوجة الرسام جان هاري - عَلَى زيارةِ سوريا، لتُقيمَ بينَ ربوعِهَا شُهُوراً متعاقبةً تدرسُ خلَالَهَا عَادَاتِ السوريين في البدو الحضر... تمهيداً لوضعِ قصةٍ عن حياتِهم العمرةِ يكل مُمتِعٍ طَرِيفٍ، وَكَانَتْ مريام هاري قَدْ زَارتِ الهندَ من قبلُ، وَوَضَعَتْ فِي شُؤُونِهَا قصة أَحدثتْ ضجة كبيرةً فِي الأَوساط الفنيةٍ، فأَغراَهَا نَجَاحُهَا العظِيمُ بتتبُّعِ سحرِ الشَّرقِ فِي شَتَّى مواطنِهِ بحثاً وَرَاءَ الكَرَمِ وَالشَّهَامةِ وَالعِفَّةِ، وَغَيْرَ ذلِكَ من نَبِيلِ الصفاتِ الَّتِي تتركز فِي عَادَات الشرقيين وَتقَالِيدهم، فزارت مصر وبعد أن عَادتْ إِلَى بلَادهَا كتبتْ عن نساءِ وادي النيل قصةً مُوَفَّقَةً دعَّمت شهرتَهَا، وأحلَّتَهَا المكَانةَ اللائقةَ بِهَا بَيْنَ كتَّاب الصدارة فِي فرنسا. ثُمَّ شدت رحَالَهَا إِلَى سوريا، وتنقلت بَيْنَ، فخالطت البدو فِي فيافيهم (فيافي: جمع فيفاء وهي المفازة أو الارض الخالية من الماء) والحضَرَ فِي مُدُنِهِمْ ولكنَّهَا ظلَّتْ رُغم طَوافِهَا، حَتَّى وصلتْ إِلَى جبل الدروز، فوجدتْ
*122*
فِيهِ بقعةَ أَحلامِهَا من حيثُ الجمالُ الفطريُ، والكرَمُ البدويُّ، واستقر بِهَا المُقَامُ فِي هذَا المكَان، تخالط النَّاسَ فِي دورِهِمْ وَمجتمعاتِهِمْ، ثُمَّ تُسجل فِي أوراقِهَا مَا تلمسهُ من عَاداتِهِمْ.
الفارس الصغير:
وذات يوم شاهدت من نافذتها صَبِياً صغيراً لا يكادُ يبلغُ السابعةَ من
(صورة في الكتاب استعن بالمعلم)
عمره، ولكنَّه يمتطي جوادَه العربيَّ الأصيلَ فِي مهارةٍ ملحوظةٍ تُكْسِبُهُ - بالإضافةِ إِلَى ثيابهِ الأنيقةِ - مَظهرَ الأميرِ الصغيرِ. وكان وجهُهُ ملائكياً فِي
*123*
حسنه، وشعرهُ الأسودُ ينسدِل فوق كتِفَيهِ، وأنفهُ الشامخُ فِي اعتداد (اعتداد: ثقة بالنفس، وتقول: هذا شيء لا يعتد به أي لا يُلتفت اليه ولا يعتمد عليه) يَنِمُّ (ينم: يظهر) عن مَنْبَتٍ كريم.
ولسبب لا تدريه دق قلبها سريعا... وتعلقت عيناها في لهفة بالفارس الصغير، وهو يمضي من تحت نافذِتها في تُؤدةِ (تَؤده: تمهل) الواثقِ بقُدرتِه ومكانتِه... فلما اختفى عن ناظِرَيْها، شعرتْ بِألمٍ بالغٍ، وتمنتْ أن يعودَ، ليظهرَ أمامَها من جديد... وظلت صورتُه عالقةَ بذهنها طوال اليومِ التالي، حَتَّى إِذَا جَاء المساءُ، تَحقَّقَت أُمنيتُها... فرأتْه بعد قليل يقترب من النافذةِ، وجسدَه الصغِيرُ يتمايل عَلَى ظهرِ جوادِه الأشهبِ، كَأَنَّهُ غصنٌ رطيبٌ يهزُّهُ النسيم. وحانتْ مِنْهُ إِلَيْهَا التفاتةٌ غيرُ مقصودة، فَتَوَقَّفَ عن مسيرِهِ بُرهةً، ليبادلَهَا نظرةً عامرةً بالرِّضا والاغتباط. ولَمْ يتأَخَّرْ بعد ذلِكَ عن رياضتِهِ اليوميّة، فكان يسيرُ إِلَى بيتها كلَّ مساء، فيبتسم لَهَا وَيُحِّييها... إِلَى أن دعتْهُ يوماً لزيارتِهَا، وجلس بجانِبها يلتهمُ مَا قدمتْهُ إِلَيْهِ من الحلوى ويَقُول: ان اسمه "فواز" وَأَنَّهُ يتيم الوالدين، ولكنه يعيشُ فِي بيت أسرتِهِ المعروفةِ مُكَرَّماً. وتطلَّع إِلَيْهَا بعينيهِ السوداوين، وَقَالَ فِي سذاجةٍ: "أَنتِ أُمي... فَإِنِّي أحبك كثيراً!".
التبنِّي:
وَكَانتْ مريام هاري قَدْ نالتْ الشهرةَ والثَّراءَ والمجدَ، وَوُفِّقَتْ فِي زواجها كلَّ التوفيق، ولكنَّ سعادتَها ظلت ناقصةً بحرمانِها من الولد... فلما سمعتْ قول "فواز" الصغيرِ تَمَنَّتْ بدورِها أن تكون أُمّاً لَهُ، فتحملُه معها إِلَى فرنسا، لِتُغْدِقَ (تغدق: تعطي بكثرة، أغدق المطرُ أو اليشُ: اتسع وكثر، اغدق عليه المال: أعطاه بكثرة) عليه مالَها وحبَّها وحنانَها.
*124*
وبدأتْ منذ تِلكَ اللحظةِ تُمَهِّدُ الطريقَ، لتحقيقِ أمنيتِها الغاليةِ... فَسَعتْ إِلَى صداقَةِ اهلِهِ، وبالغتْ فِي تكريمهِمْ وإعزازهِمْ طوالَ إِقامتِها فِي جبلِ الدروز.
وعندما حانَ وقت عودتِها إِلَى وطنِها، طلبنْ إِلَيْهِمْ أن يُعطوها "فواز".. فرفضوا بادئَ الأمرِ، ثُمَّ لانوا بعض اللينِ أَمامَ الحاحِها، وانضم إِلَيْها "فوازٌ" فِي الرجاءِ، وجعلَ يبكي لأَهله طالباً أن يترُكُوه يرحلُ مَعَ "أمه مرياما" كَمَا كَانَ يسميها - فَلَمْ يسعْهم غَيْرَ القبول. وهكذا تَبَنَّتْهُ مريام هاري، وأسرعتْ بالسفرِ فِي صُحبتِهِ بعيداً عن سوريا.
في باريس:
وَفِي باريس اختفى اسم "فواز"، وحل محله "بيرو" الصبيُّ الفرنسيُّ المدللُ الَّذِي تحيطهُ أُمُّهُ المشهورةُ بجميهِ أَلوانِ الرضا والتدليل.. فَتَخَصُّهُ بأكبرِ حُجراتِ بيتها وأَجملها، وتستخدمُ لَهُ مربيةً أَخِصائيةً قديرةً، وتبعث بِهِ إِلَى أرقَى المدارس وأَعلاها. وَكَانَ أملُها فِي الحياةِ أن تجعلَ مِنْهُ سفيراً أَوْ وزيراً، ولِذلِكَ ضَحَّتْ بكل مرتَخصَ وغالٍ فِي سبيل إعدادِه وكان بيرو يتوقُ فِي قرارةِ نفسه إِلَى حياةٍ أخرى.. إِلَى حياة الفنِ الَّتِي تَعيشها أمه الكاتبةُ المعروفةُ وزوجُها الرسَّامُ الكبيرُ، ولكنَّهَ لَمْ يجرؤ عَلَى معارضةِ رغباتِهِمَا، فكَتَمَ امالَهُ، وانساق يدرسُ ويُحصِّلُ... وَفِي العُطَلِ الصيفيةِ كَانَ يأخذُ فرشاةَ أَبيهِ، والوانه الزيتيّةَ، ويختفي بِهَا فِي مكَان بعِيدٍ يرسُمُ لوحاتٍ رائعةً تُبشِّرُ بِمَوْهبةٍ فنيةٍ فذةِ. وظلتْ الحياةُ تسير بِهِ عَلَى هذا المِنوالِ حتى أَتَمَّ تعليمه مُوَفّقاً وبات مُتَوَقّعاً أن يقع عليه الاختيارُ ليُشْغِلَ وظيفةِ طيبةً بالسلك السياسي الفرنسي.
*125*
رحلة الفن:
ويهزُّ بيرو هاري رأسه فِي تعجب، ويقول: "هكذا يدبر الأنسان شيئاً، فتشاءُ الأقدارُ شيئاً آخر".. فقد قرأتُ قبل تعييني بأسابيعَ قليلةٍ إعلاناً فِي الجرائدِ تطلبُ فِيهِ مدرسةُ الفنونِ الجميلةِ تلاميذَ ممتازين يتقدمون أولاً في امْتِحَانٍ عصيبٍ، فإِذَا نَجَحُوا ضمَّتهُمْ المَدرسة إِلَى صفوفِها المختارةِ... ودخلتُ الامتحانَ سراً، وَأَنَّا حريصٌ أَلَا يَعرف والدايَ ذَلِكَ... لأَنَّنِي لَمْ أشأْ أن أُحَطّمَ آمالَهُمَا فِيَّ، خصوصاً إِنَّنِي كنت واثقاً من عدم قدرِتي عَلَى النجاحِ فِي امتحان القبول، لِجهلٍ تامٍ بِأُصول الرسم وفروعه!.
وانتهى الامتحان، فخرج مِنْهُ بيرو هاري وهو لَا يُفَكِّرُ فِي النتيجةِ المرتقبةِ، ثُمَّ حدَث ذَاتَ صَبَاحٍ أَن حَمل لَهُ البرِيدُ خطابين رَسْمِيَّيْن.. أَحدُهُما يُعلمُه بتعيينِهِ فِي السلك السياسيِّ، وثانيهِمَا يحملُ لَهُ خَبَرَ نَجاحِه فِي امتحانِ مدرسةِ الفُنُونِ. وَلَمْ يَجِدْ بُدّاً من مصَارَحَةِ والدَيْهِ، واستطلاعِ رأيِهِما فِيما يجبُ أَنْ يَفْعَلَ، فَإِذَا بِهِمَا - عَلَى غَيْر مَا كَانَ يتوقَّعُ - يفرحَانِ بتوفيقهِ كلَّ الفرحِ، ويتركَان لهُ مطلقَ الحريةِ فِي اختيار الاتجاهِ الَّذِي يُفَضِّلُهُ. هكَذَا أَصْبَحَ بيرو هاري فنَّاناً، وَهَجَرَ السياسةَ إِلَى الفرشاةِ والألوانِ!.
وتُصغِي مريام هاري الكتبةُ الفرنسيةَ الكبِيرَةُ إِلَى بيرو وَهْوَ يقص عَلَيْنا قِصَّتَهَ، ثُمَّ تَقُولُ باسمةً: "بارك الله ذلِكَ اليوم الَّذِي رأَيت فِيهِ "فواز" الصّغير، فَقَدْ غدوتُ بهِ أُمّاً سعِيدَةً فخورةً.. إِنَّهُ زهرتي، وَمَلَاكِي، وَابني الوحيد!".
عن: امينة السعيد، من قصص رجال الفن،
مجلة الهلال، مصر، سبتمبر 1951 ص 55-60
*126*
الأسئلة:
1. عرف ما يلي: متحف اللوفر، ماري هاري، مدرسة الفنون الجميلة بباريس.
2. هات حدثين من القطعة يشيران الى شهرة بيرو هاري (فواز) العالمية.
3. اشرح المثل: "يتحدث الناس بسعده وجده".
4. اذكر سببين على الأقل تفسر بهما سبب تعلق ماري هاري بفواز الطفل.
5. لماذا تعلق فواز بماري هاري؟ جد جملة في القطعة تبين ذلك.
6. اذكر ثلاث صدف ساقت فواز الى شهرة بيرو هاري.
7. ما رأيك في تصرف أهل فواز.
8. وردت التعابير التالية في النص. جِدْها. ثم استعملْها في جمل إنشائية من عندك: إكليل من غار، الأوساط، دقائق الأمور، دون غيره، أحلتها المكانة...، الصدارة. لم يسعهم.
*127*
*127*
*128*
صفحة فارغة
*129*
*129*
محمد الدمرداش
البَطْرَاءُ - شَرْقِيَّ الأَرْدُن
بدَايَةُ الرِّحْلَةِ:
خَرَجْنَا مِنْ مَدِينَةِ مَعَانٍ في جَنُوبِ شَرْقِيِّ الأُرْدُنِّ، بَعْدَ أَنِ اسْتَرَحْنَا وَتَزَوَّدْنَا بِالطَّعَامِ وَالفَكِهَةِ، قَاصِدِينَ وَادِيَ مُوسَى فِي طَرِيقٍ جَبَليٍّ كَثِيرِ الصُّعُودِ وَالهُبُوطِ.
وَقُبَيْلَ العَصْرِ أَشْرَفْنَا مِنْ أَعَلَى جَبَلِ الشَّرَاهِ عَلَى وَادِي مُوسَى العَظِيمِ، فَبَدَا الوَادِي كَأَنَّهُ حَدَائِقُ مُتَّصِلَةٌ. فَسُفُوحُ الجِبَالِ خَضْرَاءُ، تُغَطِّيهاَ حُقُولُ القَمْحِ وَالشَّعِيرِ فِي مُدَرَّجَاتٍ تَتَدَرَّجُ فِي ارْتِفَاعِ مِنْ بَطْنِ الوَادِي حَتَّى ذُرَى الجِبَالِ، وَتَنْسابُ بَيْنَهَا جَدَاوِلُ المَاءِ تَتَدَفَّقُ فِي انحِدَارٍ مُكَوِّنَةً مَسَاقِطَ وَشَلَالَاتٍ، وَتَتَخَلَّلُهَا أَشْجَارُ الأَثْمَارِ تُتَوِّجُهَا أَزْهَارُ الرَبِيعِ فِي الوَانٍ بَدِيعَةٍ وَأَشْكَالٍ جَمِيلَةٍ تُبْهِجُ النُّفُوسَ وَتَسُرُّ الأَنْظَارَ، وَيَفُوحُ مِنْ أَزْهَارِ المشمشِ وَالخَوْخِ عَبِيقٌ (عبيق: رائحة) لَطِيفٌ يَنْتَشِرُ مَعَ الهَوَاءِ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
عَلَى أَبْوَابِ البَطْرَاءِ:
ثُمَّ هَبَطْنَا فِي طَرِيقٍ شَدِيدِ الانْحِدَارِ، وَوَقَفَتْ بِنَا السَّيَارَاتُ أَمَامَ مَخْفَرِ (المخفرِ: مكان للحراسة) البُولِيسِ عَلَى مَرْحَلَةٍ مِنَ الوَادِي. وَبَعْدَ الحُصُولِ عَلَى التَّرْخِيصِ بِالزِّيَارَةِ أَرْكَبُونَا خُيُولاً هَزِيلَةً صَغِيرَةً لِتَنْقُلَنَا بَاقِيَ الطَّرِيقِ إِلَى البَطْرَاءِ إِلَى مُقَابِلَ أَجْرٍ قَلِيلٍ،
*130*
فَدَرَجَتْ بِنَا فِي مَسَالِكَ زَلِقَةٍ ضَيِّقَةٍ تَخْتَرِقُ قَرْيَةٍ حَقِيَرةً، بُيُوتُهَا مَبْنِيَّةٌ بِجَلَامِيدِ الصَّخْرِ. وَفِي الوَادِي تَابَعْنَا السَّيْرَ نَحْوَ الجَنُوبِ بِمُحَاذَاةِ نُهَيْرٍ صَغِيرٍ. وَبَعْدَ سَاعَةٍ اعْتَرَضَ الوَادِي جَبَلٌ شَامِخٌ، أَحْمَرُ اللَّوْنِ دَاكِنُهُ، فَمَالَ بِنَا الطَّرِيقُ قَلِيلاً إِلَى اليَمِيِنِ، وَدَخَلْنَا شِقّاً هَائِلاً فِي الجَبَلِ لَا يَزِيدُ عَرْضُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْتَارٍ، جَانِبَاهُ طَوْدَانِ (الطَّوْدُ: الجبل العالي) شَاهِقانِ يُنَاطِحّانِ الَّحَابَ، قَائِمَانِ فِي اسْتِوَاءٍ عَجيبٍ، تَتَخَلَّلُهُمَا ثُلُمَاتٌ (ثلمات: ثغرات) وَأَخَادِيدُ تَنْمُو عَلَى حَافَتِهَا الأَعْشَابُ وَالأَزْهَارُ وَالأَشْجَارُ، تَتَدَلَّى مِنْهَا عَلَى جَوَانِبِ الشِّقِّ الفُرُوعُ وَالأَغْصَانُ، فَبَدَا المَنظَرُ غَرِيباً جَمِيلاً مُدْهِشاً.
وَكُنَّا كُلَّمَا أَوْغَلْنَا فِي الشِّقِّ ازْدَادَ عَرْضَهُ ضيقاً، وَجُدْرَانُهُ ارْتِفَاعاً، وَحُلْكَتُهُ سَوٍاداً وَطَرِيقُةُ التِوَاءً فَأَخَذَتْنَا الرَّهْبَةُ وَتَوَلَانَا الخَوْفُ. وَبَعْدَ سَاعَةٍ انْفَرَجَ الشِّقُّ عَنْ سَاحَةٍ ضَيِّقَةٍ يُطِلُّ مِنْهَا ضُوْءُ النَّهَارِ، فَرَأَيْنَا فِي الجِدَارِ المُقَابِلِ مَعْبَداً جَمِيلَ الوَضْعِ جَمِيلَ الهَنْدَسَةِ، تَقُومُ عَلَى مَدْخَلِهِ الأَعْمِدَةُ تَعْلُوهَا الأَقْوَاسُ وَالشُّرُفَاتُ، كُلُّهَا مَنْقُورَةٌ فِي الصَّخْرِ الأَصَمِّ - فَقَالَ الدَّلِيلُ: "إِنَّ هَذِهِ هِي خِزَانَةُ فِرْعَوْنَ".
فِي سَاحَةِ الهَوَاءِ:
ثُمَّ عَادَ الشِّقُّ إِلّى ضِيقِهِ وَظُلْمَتِهِ وَالتِوَائِهِ. وَبَعْدَ سَاعَةٍ أُخْرَى انْفَرَجَ الشِّقُّ عَنْ سَاحَةٍ أُخْرَى عَظِيمَةِ الاتِّسَاعِ، تَحِفُّ بِهَا الجِبَالُ مِنْ جَانِبٍ تَخْتَرِقُهَا الوِدْيَانُ وَالأَخادِيدُ، وَتَكْسُو سُفُوحَهَا الأَشْجَارُ وَالأَعْشَابُ، وَيَجْرِي مِنْهَا مَاءُ العُيُونِ فِي جَدَاوِلَ وَنُهَيْرَاتٍ، وَنُقِرَت بِجَوَانِبِهَا المَعَابِدُ وَالمقَابِرُ وَالقُصُورُ وَالمَسَاكِنُ وَالمُدَرَّجَاتُ، فَظَهَرَتْ سُفُوحُهَا مُفْرَغَةً كَخَلَايَا
*131*
النَّحْلِ عَلَى شَكْلٍ يُثِيرُ الدَّهْشَةَ. وَالإعْجَابَ. فَألقيْنَا فِي السَّاحَةِ عَصَا التَّرْحَالِ (الترحال: السير.) وَنَصَبْنَا خِيَامَنَا أَمَامَ أَحَدِ الكُهُوفِ، وَقَالَ الدَّلِيلُ: "إِنَّكُمْ الآنَ فِي البَطْرَاءِ عَاصِمَةِ النَّبَطِّينَ".
بَيْنَ مَعَالِمِ المَدِينَةِ:
كَانَ صَبَاحُ اليَوْمِ التَّالِي مُنْعِشاً جَمِيلاً، وَكَانَ شُرُوقُ الشَّمْسِ عَلَى رُؤُوسِ الجِبَالِ بَدِيعاً سَاحِراً، فَاسْتَعَدْنَا نَشَاطَنَا وَنَسِينَا مَتَاعِبَ الطَّرِيقِ، وَذَهَبْنَا مُبَكِّرِينَ لَزَيَارَةِ الدَّيْرِ عَلَى قِمَةِ الجَبَلِ الغِرْبِيِّ، وَالطَّرِيقُ إِلَيْهِ صَاعِدٌ مَنْحُوتٌ فِي جِدَارِ الجِبَالِ، يَمُرُّ فَوْقَ مَهَاوٍ (مهاوٍ: حفر عميقة.) مُرْعِبَةٍ، وَيَخْتَرِقُ أَنْفَاقاً لَهَا شُرُفَاتٌ تُطِلُّ عَلَى سَاحَاتِ البَطْرَاءِ وَمَعَابِدِهَا، وَيُوشِّي جَوَانِبَهُ عَلَى طُولِهِ إِلَى القِمَّةِ الوَانُ الطَّبَقَاتِ الرَّمْلِيَّةِ فِي تَمَوُّجِ جَمِيلٍ، مُتَدَاخِلَةٍ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ حَمْرَاءَ وَصَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ، تَخَالُهَا مَنْقُوشَةً عَلَى الصَّخْرِ.
وِالدَّيْرُ فَوْقِ الجَبَلِ عَلَى ارْتِفَاعِ خَمْسِمَائَةِ مِتْرٍ مِنَ الوَادِي مَنْقُورٌ فِي الصَّخْرِ كَذَلِكَ، تَقُومُ عَلَى مَدْخَلِهِ الأَعْمِدَةُ، تَعْلُوهَا الشُّرُفَاتُ وَالتِّيجَانُ فِي عَظَمَةٍ وَجَلَالٍ وَجَمَالٍ، وَأَمَامَهُ سَاحَةٌ كَبِيرَةٌ يُغطِّيهَا زَهْرُ النَّرْجِسِ بَرِيءٌ بِلَوْنِهِ الأَبْيَضِ الأَصْفَرِ الجَمِيلِ، ومِنْ قِمَةِ الجَبَلِ فَوْقَ الدَّيْرِ شاهَدْنَا جِهَةِ الغَرْبِ وَادِي العَرَبَةِ وَالبَحْرَ المَيِّتَ فِي الحَضِيضِ (الحضيض: نهاية سفح الجبل).
وَفِي اليَوْمِ الثَّانِي ذَهَبْنَا لِزِيَارَةِ مَذْبَحِ المَدِينَةِ وَبَرْكَةِ الدِّمَاءِ ومَعْلَمِ الضَّحَايَا، وَكُّلُّهَا فِي مُسْتَوٍ مِنَ الأَرْضِ عَلَى قِمَة الجَبَلِ الشَّرْقِيِّ، وَالطَّرِيقُ إِلَيْهَا صَعْبُ المُرْتَقَى (المرتقى: الصعود.) كَثِيرُ العَقَّبَاتِ. ثُمَّ عُدْنَا مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ أَشَدَّ وُعُورَةً مِنَ الأَوَّلِ. يَنْتَهِي
*132*
بِسَاحَةِ البَطْرَاءِ عِنْدَ مَسْرَحِ المَدِينَةِ يَحْجُبُه عَنِ الأَنْظَارِ صُخُورٌ نَاتِئَةٌ كَبِيرَةٌ وَأَشْجَارٌ مُلْتَفَّةٌ كَثِيفَةٌ.
وَقَالَ الدَّلِيلُ إِنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَةِ النَّبَطِ بَعْدَ كُلَّ غَزْوٍ أَنْ يَصْعَدَ المَلِكُ وَالحَاشِيةُ وَالأَعْيَانُ وَالرُّهْبَانُ فِي مَوْكِبٍ ضَخْمٍ فَخْمٍ إلَى قِمَّةِ الجَبَلِ لِتَقْدِيمِ القَّرَابِينِ (القرابين: الضحايا والنذور.) الَّتِي يُؤْتَى بِهَا مِنْ سَاحَةِ القِتَالِ، فَتُنْحَرُ الضَّحَايَا عَلَى المَذْبَحِ كَمَا تُنْحَرُ الشَّاةُ، وَتَسِيلُ دِمَاؤُهَا فِي البِرْكَةِ المُقَدَّسَةِ وَتُحْرَقُ أَجْسادُهَا تَحْتَ العَلَمِ تَزَلُّفاً (تزلفاً: تقرباً) للإِلَهِ "دُوشَارَا" مَعْبُودِ النَّبَطِ.
وَفِي المَسَاءِ حَوْلَ النَّارِ حَدّثَنَا الدَّلِيلُ طَوِيلاً عَنْ أَصْلِ النَّبَطِ فَقَالَ: "إِنَّهُمْ قَوْمٌ مِنَ العَرَبِ هَجَرُوا البَادِيَةَ إِلَى الحَضَرِ، وَأَسَّسُوا فِي القُرُونِ الأَخِيَرةِ السَّابِقَةِ عَلَى مِيلَادِ المَسِيحِ مَمْلَكَةً فِي شِمَالِ بِلَادِ العَرَبِ وَجَنُوبِ فِلِسْطِينَ وَالشَّامِ. وَكَانَتْ عَاصِمَتُهُمْ الشَّمَالِيَّةُ البَطْرَاءُ هَذِه، وَعَاصِمَتُهُمْ الجَنُوبِيَّةُ "الحِجْرُ" وَتُعْرَفُ الانَ بِمَدَائِنِ صَالِحِ. وَكَانَ يَقُومُ عَلَى حِرَاسَتِهِ رِجَالٌ أَشِدَّاءُ لَا يَسْمَحُونَ بِالمُرُورِ مَنْهُ فِي الدُّخُولِ وَالخُرُوجِ إلَّا لِمَنْ قَالَ كَلِمَةَ السِّرِّ وَالأَمَانِ".
وَفِي العَوْدَةِ إِلَى مَعَانَ تَفَرَّجْنَا عَلَى مَسْرَحِ المَدِينَةِ فِي مَدْخَلِ السِّيكِ، وَهْوَ يتَّسِعُ لِثَلَاثَةِ آلَافِ مُتَفَرِّجٍ، كُلُّ مَقَاعِدِهِ مِنَ الصَّخْرِ، وَعَلَى خِزَانِةِ فِرْعَوْنَ في مُنْتَصَفِ السِّيكِ. وَكَانَتْ دَاراً لِلْحُكْمِ، وَتَحْتَوِي عَلَى ثَلَاثِ قَاعَاتٍ وَبَهْوٍ.
*133*
وَمَعَ أنَّ جُدْرَانَهَا مِنَ الحَجَرِ الرَّمْلِيِّ فَإِنَّهُمْ عَالَجُوهَا بِالصَّقْلِ حَتَّى أَصْبَحَتْ كَالمِرْآةٍ لَمَعَاناً مَعَ تَموُّجِ فَي الألوَانِ مُنْقَطِعِ النَّظِيرِ.
الأستاذ الدمرداش محمد
عن مجلة الثقافة
(عن كتاب السنابل من حقول الأدب ص 394-398)
الأسئلة:
1. في أي فصل من فصول السنة قام الكاتب بزيارة البطراء؟
2. أرسم خارطة للطريق التي سارت بها الرحلة؟
3. ماذا يميز الشق الذي يوصل الى البطراء؟
4. كيف يعلمنا الوصف الموجود في النص أن البطراء مدينة محفورة بالصخر؟
5. ما الذي يجعلك تصدق أن البطراء كانت مدينة عامرة بالسكان والحياة؟
6. أذكر المعالم التي تدل على جهد الانسان ومقدرته على الابداع من خلال النص؟
7. ماذا تعلمت عن النبطيين من النص السابق؟
9. يعتبر النص السابق نصاً أدبياً وليس سرد معلومات وذلك لأنه:
1. يخلق جواً قصصِياً.
2. ينقل صوراً مفصلة عما يُشَاهَدُ وُيَحسُّ.
3. يصف المشاعر والاحاسيس المنبعثة من هذه الصور.
بين هذه الامور الثلاثة في النص؟
9. في النص: معلومات جغرافية وتاريخية وأثَريَّة ودينية.. بَيِّنْها.
*134*
*134*
أمين الريحاني
1. بينَ بيروتَ والشام.
رَحَلْنا عن بيروتَ فِي أصيل يومٍ مشرقٍ مُدفئٍ من أيامِ شباط سنة 1932، ورُحنا نَطوِي طريقَ الجبلِ طياً، فَمَرَرْنَا بعدَ نصفِ ساعةٍ بمدن الاصطيافِ، الَّتي كانت وقتَئذٍ مُسْتكِنَّةً متقشفةً مثلَ الحَلَزونِ فِي صَدفَة، والَّتِي ستغدو، بعد شهرينِ، قطبَ (قطب: جديده تدور حولها المرحى - وهي هنا بمعنى مركز.) اللَّذاتِ والطَّرَبِ، مُسْتَجِنَّةً (مُسْتَجِنَّة للناس: تجعلهم مجانين.) للناسِ، مستعينةً عليهم بالوسواس الخنَّاس.
هدرتِ السيارةُ بجوارِ تلك المدنِ الهادئةِ، وفِي أَسواقِها الساكنةِ المهجورةِ، فارتفعنا عندَ ظَهرِ البيدرِ (ظهر البيدر: منطقة مرتفعة تمر عبرها الطريق بين بيروت ودمشق.) خمسةَ الآفِ قَدَمٍ فوقَ البحرِ، حيثُ كانَ الثلجُ والشمسُ يتعاونانِ فِي تعديلِ طبيعةِ الهواء.
وكانَ ذلك اليومُ من أَيَّامِ شُباطُ ثابتاً فِي كَرَمِه وإِشراقِه، فما تقلَّبَ حَتَّى فِي تقلُّبِ المناظرِ ودرجاتِ العلُوِّ. بَلِ ازدادَ جَمالاً عندَما أَطلَلْنا عَلَى سهلِ البقاع. وقد فُرشَ بالطنافسِ (الطنافس: البُسُط الملونه.) الخضراءِ والصفراءِ والبُنِّيَةِ اللونِ. وهناكَ بين صفوفٍ معوجةٍ من الصَّفْصَافِ، تَنْقَطِعُ ثُمَّ تَتَّصِلُ، يظهرُ وَيختفي الخطُّ الفِضيُّ الرقيقُ، نهرُ الليطاني، فيبدُو حيناً كالسهمِ، وحيناً كالأَهِلَّة، فِي طرِيقِهِ إِلَى البحرِ. وفِي آخِرِ السَّهْلِ الجَبلُ الشرْقِيُّ، وقد قَلَّ فِيهِ الثلجُ والاخضِرَارُ، فَهْوَ جاهمٌ مانعٌ (جام مانع: متكدّر يستحيل الوصول إليه، يقال: تجهَّمَ الوجه أو السماء - أي تكدّر)،إِلَّا فِي مُنعَطَفَاتِ أَودِيتِهِ، حيثُ طريقُ الإِسفلتِ تنسابُ بَيْنِ البِطاحِ.
*135*
وبعدَ ساعةٍ من سَهْلِ البِقَاعِ، لَقِينَا الجَمَالَ الحيَّ الطروبَ فِي المياهِ الجاريةِ والبساتين. إِنما الأَشجارُ كانتْ لا تزالُ فِي إِغفاءةِ الشتاءِ، وكان نهرُ بَرَدَى لا يزالُ مُكفهِرَّ الجبينِ مما تُثْقِلُهُ بِهِ السُيولُ.
ذلكَ مدخلُ دمشقَ الغربيِّ. وفِي صباحِ اليومِ التالي، بعدَ أَن بِتنَا فِي المدينةِ، كنا نسيرُ فِي ظلِّ الجَمَال الَّذِي يزدانُ بِهِ مدخلُها الشرقيُّ. أَما الجمالُ نفسهُ إنما هو الغوطةُ السُّندسيةُ (السندسية: نسيج من الحرير الرقيق، وهنا بمعنى الخضراء، يقال إكتست الأرض في الربيع بحلة سندسية: أي بالخضرة)، وقد كانَ عَلَى وجهِهَا نقابٌ دقيقُ من أنفاسِ الشتاءِ الجامدة. فمرَرِنا بينَ بساتينَ من المشمشِ والجوزِ دكناءَ، وحقولٍ للكرمةِ والقِنَّبِ غبراءَ سمراء. وبعدَ أَنِ اجتزْنَا النَّيِّفَ والعشرينَ ميلاً منها، دخلنا فجأةً فِي الأرضِ اليبابِ (اليباب: القفر)، فانكشف لنا فراغُ الباديةِ، بل تَشبَّحَ (تشبَّحَ: ظهر كالشبح) أَمامنا هولُ الشَوْل (الشول: الأرض الخفيفة الماء).
2. في بادية الشام
وهناك من هذا الهولِ وذلك الفراغِ، خمسُمِائِة ميلِ ويزيدُ، لا ينقطعُ حَبْلها إِلا في وادي حورانَ، الَّذِي يشقُّ بادية الشامِ من الشمالِ الشرقيِّ إِلى الجنوبِ الغربِّي - من الفراتِ إِلى الجوفِ - وفيهِ الماءُ والكلأُ، لمن ينشدونه من العرب.
بعدَ أَن نخرجَ من الغوطةِ، ونجتازَ مسافةً لا تتجاوزُ عشرةَ الأَميال، نصلُ إِلى مَخْفَرٍ حديثِ البناءِ يُدعَى أَبا الشامات، حيثُ تستوقفُك الحكومةُ السوريةُ الانتدابيةُ لتُنفِّذَ فيك أوامرَ ثلاثٍ من دوائِرها، هي دوائِرُ الجمركِ والشرطةِ والاستخبارات.
*136*
منذ عشرِ سنواتٍ دخلنَا دمشقَ سالمين، بعد أنِ اجتزنا الباديةَ آمنين، وما كان عَلَى البابِ شرطيٌ أَوْ دركيٌ. فالمخفر فِي أَبي الشامات إِذن هو شيءٌ جديد غيرُ سعيد.
هناك جديدٌ آخرٌ لاحظناه، الا أَنَّهُ مِنْ حَسَنات الطريق. مُنْذُ عَشْرِ سنواتٍ كانتِ السياراتُ تخرجُ من دمشقَ أو من بغدادَ لتجتازَ الباديةَ فِي أَيِّ يومٍ كانَ من الأسبوعِ، عَلَى شريطةِ أن تكونَ مصحوبةً بدليل. فما كان قد أُنشئَ خَفَرُ الباديةِ، وكانَ المسافرون عُرضةً للعِصاباتِ أو للشاردين الناهبين من البدو. أما الآن فلا تخرجُ السياراتُ إلا فِي يومينِ معينينِ كلَّ أسبوع، فتسيرُ كلُّهَا قوافلَ، يُضمَن فيها التعاونُ إِذا تعطَّلتْ إِحداها، وتُضمَنْ سلامة الركَّابِ وأموالُهمْ لما فِي الطريقِ فِي ذلك اليومِ من شرطة البادية.
هذا النظامُ فِي السيرِ هو من حَسَنَاتِ السَفَرِ بينَ سوريةَ والعراق. فَهُوَ يَذهَبُ بهول الباديةِ (يذهب بهول البادية: يجعلها آنسه وقد زال خوف المسافرين فيها)، إِلَّا فِي عواصفها، وَيُزيلُ وَحشةَ الطريقِ وأخطارَها. ولَمْ يبقَ من حاجةٍ إِلَى دليل. لقد أَضحتِ الطريقُ معروفةً من آثار الدواليب فيها، وكثيراً مَا تسير السيارَتَان والثلاثُ سياراتٍ فِي صفِّ واحدٍ، مقابلةً بعضُها للبعضِ، ويُطْلَقُ للسَبْقَ البنزين.
وهناك غيرُ هذا الجديد المفيد. هناك الأَنصابُ إِلَى جانبِ الطريقِ، وَمَا هِيَ بعيدةٌ بعضُها عن بعضٍ، تُنْبِئُ بالمسافاتِ، كيلومتراً فِي الناحية السوريةِ، وميلاً فِي الناحية العراقيةِ، وتزيد بالاطمئنان. إِنَّمَا هِيَ الدليل الأكبرُ اليومَ، أَوْ هِيَ وأَثرُ الدواليبِ تَهدِيِ السُوَاقَ فَلَا يتيهون، وَلَا يضلون السبيل.
*137*
3. آبار الرطبة.
لقد مُدّنت البادية. وأَهم ما تغير وأنشئ فيها إنَّمَا هو فِي الرَّطْبَة. ففي شرقيِّ وادي حورانَ، فِي قلبِ الشولِ، فِي منتصف الطريقِ بين دمشقَ وبغدادَ، هناكَ آبارُ الماء، التي لَمْ يكن يعرفها منذ عشرِ سنواتٍ غيرُ البدو.
تلك الآبارُ يكُنُّها (يكنها: يكتنفها، يحيطها، يخبئها) العراءُ، ويحيطُ بها الهَوْلُ العاري، فلا شجرةٌ وَلا صخرةٌ ولا شُعيبٌ (شعيب: تصغير شِعب وهو الطريق في الجبل) ينبئُ بها، أَوْ يدلُّ عليها. تلك الآبارُ هِيَ إِرثُ البدو، أَيّا كانَوا، ومن أَيِّ قفرٍ جاءوا، يسوقونَ أَغنامَهُم وقوافلَهُم إِليها. وكل من وَرَدَهَا كانَ يَحمَلُ دَلْوَهُ وَحَبْلَهُ. وإِلا فلا سبيلَ إِلَى الماءِ، ولا حيلة.
تلكَ هِيَ الرطبةُ حولَها العَرَبُ، وَهْيَ اليومَ السِّقاية الكريمةٌ - ولا دلو ولا حبل - والملجأُ الأمين للبدو وللطيارين، وللسُّواقِ والمسافرين وهِيَ تَهدي الطَّيّارينَ فلا يَضِلُّون، وتحذِّرُهُم من العواصِفِ فَتَقِيْهمْ أخطارَها. وهي للمسافرين نعيم ساعةٍ فِي الأقل، وللواردين المُسَّتِقْيَن عَوْنٌ عَلَى الدَّوام.
وإن فِي الرطبة ما يُسلّي ويُطربُ. عندما دخلنا ردهةَ الاستراحة، الساعة العاشرةَ من الليل، كان الوقتُ وقتَ الشايِ، وكانت في الردهة آلة الراديو مفتوحةً ترحِّبُ بنا بقطعةٍ من "عائدة" (عائدة: مسرحية عُرضت في الاحتفال بافتتاح قناة السويس سنة 1869 وقد وضع الحانها الإيطالي فردي) لفردي. كانت تُعزف في تلك الفينة بلندن، يعزفُها جوقٌ كبيرٌ عَلَى معازفِة الخمسين. ورأينا بعض المسافرينَ يطالعون الجرائدَ، وبعضُهم يشربونَ الوسكي أو الشاي، وهم يستمعون للندن تغني! لندن في الرطبة، وكانت الرطبة بالأمس ثُقبة في ظهر الشَوْل.
أمين الريحاني
بتصرف: المنتخب من أدب المقالة للقراءة والإنشاء اختيار
د. كمال البازجي ص 21، ط 2-1980 بيروت
*138*
أمين الريحاني:
اديب لبناني، ولد سنة 1876 وتوفي سنة 1940 كثيرا ما تنقَّل بين بلده وأمريكا، كما زار جميع البلاد العربية وكتب عنها وعن تاريخها وأهم مؤلفاته الريحانيات وملوك العرب. ويتميز اسلوبه بأنه اسلوب أدبي يصف فيه الحوادث والمشاهد بدقة ويصف أحاسيس الناس ومشاعرهم ولا يكتفي بسرد الأحداث جافة لا حياة منها.
الأسئلة:
1. لماذا وصف مدن الإصطياف اللبنانية بقوله: مثل الحلزون في صدفه؟
2. ماذا قال عن: أ. إشرافه شمس ذلك اليوم من شباط. ب. سهل البقاع. ج - نهر الليطاني. د. الجبل الشرقي. ه. الغوطه.
3. في رحلته من بيروت الى أول البادية وصف ما رآه وعبّر عن مشاعره تجاه المناظر.. فأيها كان حبيباً الى نفسه؟ وأَيُّها لم يعبر عن بهجته به؟
4. أين تجد أمين الريحاني لا يكتفي بالوصف بل تراه يُعبّر عن رأيه؟
*139*
*139*
(الباسك: شعب يعيش في منطقة جبلية تقع في شمال وسط اسبانيا وجنوب غرب فرنسا على ساحل محيط الاطلنطي، وعددهم حوالي المليون نسمة اشتهروا بالخشونة وبأعمال الزراعة والصيد البحري والقرصنة، تاريخهم الحديث مليء بالتمرد والتطلع الى الاستقلال الذاتي.)
القليلُ من السُّيَّاحِ العديدينَ الَّذِينَ يقصِدونَ بيارتز (بيارتيز: مدينة ساحلية في جنوب غرب فرنسا وتقع على مصب أروز في خليج الباسك.) كلَّ عامٍ يهتمون بتأَمُّلِ شعاراتِ المدينة، مع أَنها شعاراتٌ ذاتُ طابَعٍ غريب، فمن كان يتوقَّعُ أَنْ يرى رسمَ حوتٍ يعلوهُ قاربٌ فيه بعض البحارة منقوشاً عليها؟ تُرى ماذا تَعني هذه الرسومُ الفريدةُ؟ الواقعُ إنها تُعيد للذاكرةِ احداثاً من الماضي، حجبها المظهرُ الحديثُ الذي اكتسَبتْه مدينةُ بيارتز Berretz السياحية.
كان أهل الباسيك Bisque اولئك البحارة الشجعانُ، يشتهرونَ بصيد الحيتان. ومجردُ أن يُكَشَفُ وجودُ الحوتِ، يبدأَون بقرعِ الطبولِ، ويهرعُ الجميعُ وقد تسلحوا بالنبال والحراب، وبكل ما يلزمُ من سلاحٍ إِلَى القواربِ الَّتِي يحملَ كلُّ منها عَشَرَةَ رجال، يستخدمونَ المجاذيفَ، ومعهم بعضُ حَمَلَةٍ الحرابِ، الذينَ كانَ عليهِمْ إصابةُ الحيوان. بمساعدةِ حركةِ المدِّ، كانوا يَجذِبَونَ الصيدَ إِلَى اليابسةِ، حيثُ يَجري تقسيمُ الغنيمةِ، بنسبةِ عددِ السهامِ الَّتِي أَصابَتْها، وكانَ لِكُلِّ سهمِ نَقْشٌ باسمِ صاحبِهِ".
وحَتَّى اليوم، نستطيعُ أَن نشاهدَ بعضَ نُقَطِ المراقبةِ، وكلمةُ باسك معناها مراقبة، فقد كانَ المراقبونَ فيها يُوقدون ناراً بمجرَّدِ أَن يُشاهدوا النافوراتِ الَّتِي تُحدِثُها أنفاسُ مجموعاتِ الحيتان، وذلك كاشارةٍ لباقي الرجال، لكي يَسْتَقِلُّوا القواربَ، وَيَخْرُجُوا لِمطاردةِ تلك الحيوانات.
*140*
كان اصطيادُ الحوتِ من الأعمالِ المُربِحَةِ، ففي تلك العصورِ البعيدةِ كان لبَيَاضِ الحوت Spermaceti، وهو مادةٌ زيتيةٌ تملأُ التجاويفَ الهائلةَ الَّتِي فِي رأْسِ الحوتِ قيمةٌ عظيمةٌ فِي عَمَلِ الشموع الفاخرة. أما الدُّهنُ فكان يُستخدَمُ للإضاءةِ فِي مصابيحِ الزيتِ، ويَجري تمليحُ اللَّحْمِ لِلاستهلاك.
وكانتْ شواربُهُ تُستخدَمُ فِي صناعةِ الملابس، والزَّرَدِ الشَّبَكِيِّ، والقُبَّعَاتِ، والمِشَدَّاتِ، والمراوح، إِلَى غير ذلك. وكانَ لسَانُ الحوتِ من الأطعمةِ المضلةِ، وأَخيراً فإِنَّ العظامَ كانتْ تُستخدَمُ فِي عَمَلِ الجسور، والعارضاتِ، كانتْ له أَوجهُ (أوجه: اشكال، (يقال: لقيه مواجهة: لقيه وجهاً، لوجه الله: لمرضاة الله، بيض الله وجهه - دعاء لمن يقوم بعمل حسن وعكسها سود الله وجهه. ورجل رَجْهٌ: ذُوجاه، وَجْهُ الكلام: المقصود منه، ورجل ذو وجهين: يظهر عكس ما يبطن).) استخدامِهِ الَّتِي تُؤْتِي (تؤتي: تعطي (أَنى الشيء: فعله، أتى على الشيء: أتمَّه الى آخره)) ثَرواتٍ كبيرةٍ.
قد أَدى ذلك إِلَى اتساعِ نطاقِ صيدِ الحوتِ اتساعاً متزايداً، وعندها لم يقنعْ أَهالي الباسكِ بمطاردةِ الحيتانِ الَّتِي كانت تقتربُ من شواطئهم، توغلوا بعيداً لِمهاجمَتِها. وحتى القرن السادسَ عَشَرَ، لَمْ يكونوا يضطرون للابتعادِ كثيراً. ويبدو أن الباسكَ وحدَهم، همُ الذين كانوا يُقبلون عَلَى هذا العملِ، ولذا فقدْ ظلَّتِ الحيتانُ وفيرةَ العددِ فِي خليج جاسكونيا. غير أَنَّهُ بعد مرورِ قرنٍ من الزمانِ. وإزاءَ المطاردةِ المستمرةِ، اخذتْ مجموعاتُ الحيتانِ فِي الابتعادِ عن تلك الشواطئِ الخطِرَةِ إِلَى (أغوار: أعماق، (عرفت غور المسألة، عرفت حقيقتها، فلان بعيد الغور. أي متعمق النظر)) البحر، حَتَّى سواحلِ امريكا الشمالية
ولكن صيادي الباسك، وقد زادَ تحمَّسُهُم وَجَشَعُهُمْ للكسبِ، أَخذوا يتتبعونَ الحيتان. وَفِي عام 1600، كانتْ توجدُ فِي سان جان دي لور، ستونَ سفينةً لصيد الحوتِ، تحملُ كلُّ منها عَلَى ظهرها حوالَي خمسين رجلاً. وتوجدُ فِي الأرضِ الجديدةِ (نيوفوندلاند) أَسماءٌ باسكية، وهي تدُلُّ عَلَى مرور صيادي الباسك من هناك، وعلى أَنهم كانوا يعرفون شواطئَ
*141*
الأرض الجديدة، وجرينلاند، وسبيتزبورج قبلَ رحلة كريسوف كولومبوس بوقت. كانت مهنةُ صيدِ الحوت فِي ذلك العصر مهنةً شاقةً، كانت وسائل الصيدِ بدائيةً، لا وجهَ لِمقارنتها بالوسائلِ المستخدمةِ اليومَ، بعد اختراعِ المِدفَعِ قاذفِ الحَرْبَةِ، الذي اخترعه النرويجي سفيند فويد FoydSvend، وبالرغمِ من ذلك فإنَّ صيادي الباسك كانوا يهاجمون حوت العَنْبَرِ والقيطسِ وغيرَهما من فَصائلِ الحيتان، فيما عدا نوعِ الهركولِ الأزرقِ الضخمِ. وهذا الاخيرُ يمكنُ أن يَصلَ طولُهُ إِلَى 35 مترا، ويزن 150 طنا. يجري صيدُهُ فِي الوقتِ الحاضرِ بوساطة حَمَلاتٍ كاملةِ التجهيز، تضمُّ سفينةَ مَعْمَلٍ، وبعضَ سفُنِ المطارَدةِ الصغيره السريعةِ، والمسلحةِ بمدافعِ قذفِ الرمح.
وكانت الحِرابُ تُقذَفُ من عَلَى ظهر قواربِ الباسك باليد. ومن الواضح أن ذلك كان يتطلبُ قوةً بدنيةً عظيمة، وشجاعةً فريدةً من الصياد الماهر.
وكم من أَحداث غير عادَّيةٍ مرَّتْ بأُولئكَ الرجال، الذين كانوا يخرجون للصيد وكانت هناك مخاطرُ أُخرى يتعرضُ لها صيادو الحوت، مثلُ العواصف، كما كانوا يتعرضون أحياناً لإغارات القراصنةِ، كما كانت هناكَ أخطارٌ من غرقِ السفنِ فِي المحيطاتِ الَّتِي لَمْ يكنْ الصيادونَ يعرفونَ كل مجاهِلِها، ومن اقترابِهْم من السواحِل المعاديةِ، أو مِنْ أخطارِ انقلاب السفنِ نتيجةَ هجومِ احد الحيتانِ الثائرةِ. وتاريخُ صيادي الحيتانِ مَليءٌ بالاحداثِ المأسويةِ. وبالرغم من تلك المخاطرِ، فقد ظلَّ صيدُ الحوتِ مزدهراً لفترةٍ طويلةٍ، عاد خلالَها بارباح طائلةٍ.
*142*
وَفِي عام 1692، هاجم القرصانُ الباسِكي بسفينته خليج الدب، واشتبك مع صائدي الحوت الهولنديين، وأغرقَ سبعَ عَشْرَةَ سفينةً من سفنِهم، وأَسرَ احدى عَشْرَةَ أُخرى، عاد بها إِلَى سان جان دي لوز مما يشهد عَلَى سيطرة الباسكيين عَلَى هذه المهنة الشاقة.
وقد ورد فِي بعض ما كُتِبَ فِي هذا الشأْنِ فِي عام 1697 أَنَّهُ فِي ذلك العام، وفِي خليج سبيتزبورج وَحْدَه، كان فِي الإمكان مشاهدةُ نحوِ مائتي سفينة صيد، تحمل كلٌّ منها عَشْرَةَ حيتان هي حصيلةُ صيدِها، مما يدُلَّ عَلَى وفرةِ هذه الحيوانات في ذلك العصر.
غير أن هذا الصيدَ الوفيرَ، أدَّى إِلَى تناقُصِ أَعداد هذا الحيوان الضخم. وَفِي نفس الوقت، أخذت الاكتشافات العلميةُ، تسمح بإِحلال منتجاتٍ جديدةٍ محلَّ زيتِ الحوت، وأَقلِّ منها تكلفةً. مثلِ غازِ الاضاءة والبترول.
وَفِي نهايةِ القرن الثامنَ عَشَرَ حاولَ بعضُ التجارِ إِحياءَ تقليدِ الباسك فِي صيد الحوت، ولكن هذه المحاولةِ لمْ يُقَدَّرْ لَها النجاح.
بتصرف عن موسوعه، المعرفة، الشعوب والسكان، الباب الرابع، سويسرا 1973 ص 58-59
*143*
الأسئلة:
1. الى ماذا ترمز الشعارات التي تَتَمَيَّزُ بها مدينة بيارتيز؟
2. كيف كان يتم صيد الحيتان؟
3. ما هي المخاطر التي تعرض لها صيادوا الحيتان؟
4. ما الذي دفع بالباسكيين الى مواجهة تلك المخاطر؟
5. لماذا زال الاهتمام بصيد الحيتان منذ القرن الثامن عشر؟
6. تخيل أَنَّكَ ابن لأحد هؤلاء الصيادين، ارو لنا حادثة مثيرة تتلاءم مع الوصف الذي ورد في القطعة.
7. لو أن أحد هؤلاء ما زال حيا بيننا، سجل احدى القصص التي سمعتها منه مستعملاً أكبر عدد من الاصطلاحات الجديدة التي وردت في التفسير.
8)) نلاحظ أن الوصف في النص السابق تقريري.. يقتصر على المعلومات الجافة خذ أحد المقاطع واكتبه بأسلوب أدبي.
*144*
*144*
كتاب كوخ العم توم.
(في مارسَ من عامِ (1852)، صَدَرَ في الولايات المتحدةِ الأمريكيةِ، كتاب "كوخ العم توم Uncle Tom's Caben لمؤلفته هارييت بيتشر ستاو Harriet Beecher Stowe زوجةِ أحدِ الاساتذةِ الأميركيين وأصبح من أكثرِ ما نُشر من الرواياتِ رَواجا، فخلالَ عامٍ واحدٍ، بيعَ منه (300) الف نسخةٍ، وَهْوَ رقمٌ قياسيٌ بمعايير تلك الأيام. وحَظِيَ الكتابُ بالشُّهرةِ فِي جميعِ أَرجاءِ الولاياتِ المتحدةِ، وفِي أوروبا أيضاً، وتُرجم إِلَى مَا يَزيدُ عَلَى عشرينَ لغةً. وكان الكتابُ حملةً حماسيةً عَلَى الرِّق فِي أمريكا، كما كان أيضاَ قصةً مُثيرةً تلهبْ العواطفَ، ومليئةً بشخصياتٍ لا تُنسى. وكتاب كوخِ العم توم، يُعَبِّرُ بأسلوبٍ قَصَصِيِّ، عنِ الإيمانِ الذي كان أخذ فِي النمو، فِي ثبات وَرُسُوخِ، منذ أعوام كثيرة في الولايات الشمالية من أمريكا، وهو أن الرقَّ خطأٌ بكل معنى الكلمةِ، وأَنَّه غيرُ جديرٍ بِأُمَّةٍ عظيمةٍ، نمتْ وَكَبُرتْ وهي تناضلُ في سبيل الحرية.
وكان الشَّماليون يُرددونَ وهم يُدلونَ باصواتهم لدى انتخاب ابراهام لنكولنAbraham Lincoln في سنة (1860): "إن هذا يجب أن ينتهي بطريقةٍ ما" )
بداية الرق في امريكا:
بدأ الرقُّ في الممتلكاتِ البريطانيةِ فِي أمريكا فِي سنة (1619)، حينَ رستْ سفينةٌ هولنديةٌ قادمةٌ من سواحلِ غينيا Guinea، وأَفرغت شُحنةً من العبيدِ، بُغيةَ بيعهِمْ للعملِ فِي مزارعِ التبغِ. وأَعقب هذا شحنُ مزيدٍ ومزيدٍ من الزنوجِ إِلَى المستعمراتِ الأمريكيةِ، حتى إذا حلَّتْ سنة (1776)، كان فِي الولاياتِ المتحدةِ، قُرابَةُ نصفِ مليونٍ منَ الأرقاءِ. وكان البريطانيونَ همُ الذينَ يسيطرونَ عَلَى مَا يَربو عَلَى نصفِ تجارةِ الرقيقِ الأفريقية. وفي كل
*145*
عام كانتْ تُبحر من موانئِ ليفربولَ، ولندنَ، وبريستول، 192 سفينةً، سَعَة شُحنَّتِها من الأرقَّاءِ 47 الفَ عبدٍ. وحينَ اشتدّ الطلبُ عَلى الرَّقيقِ، أَخذَ النَّخَّاسون (النخاسون: بَيَّاعو الدواب، والفعل نخس معناه وخز الدابة ليهيجها. يُغيرون على القُرى فِي داخل البلادِ الأفريقيةِ، ويحاربون القبائلَ، بل إِنَّهمْ كانوا يُغرونَهَا بِأَنْ تبيعَ لهم أَعداءهَا، حَتَّى يستوفوا حاجتَهُمْ. وكانَ الضحايا الأَسرى يُشَدُّون بعضُهم الى بعضٍ من رِقابِهم، ويُساقون كالسوائِمِ عَبْر الأَدغَالِ، تَحْتَ وَهَج الشَّمسِ المحرقةِ، ويَمضون على هذه الحالِ بضعةَ أيامِ، حتّى يَبلغوا الساحلَ. وهناكَ يفحصهُم التجارُ الأوروبيونَ، والشبانُ منهم والأصحَّاءُ يُوسَمُونَ بعلامةٍ تميِّزهُمْ عن سِواهم، ثمَّ يُشحنونَ فِي السُّفُنِ كقطعانِ البهائم.
معاناة الرقيق في أمريكا:
إِنَّ رحلةَ الشهرَينِ من أفريقا إِلَى أمريكا، والمعروفةَ باسم "الممر الأوسطِ Middle Passage كانت رحلَةً مُرَوِّعةً رهيبةً عند الإفريقيين، الذين كانوا يعيشون مُكَدَّسِينَ فِي عنابرَ غَيْر صحِّيةٍ، مشدودينَ بعضُهم إِلَى بعضٍ بِالقِيودِ والاغلال. وكان رُبعُ العبيدِ تقريباً يَهْلِكُون أثناءَ الرحلةِ، لأَنَّ الْحُمَيَّاتِ والأمراضَ كانت تنتشرُ بينهمْ، انتشارَ النارِ فِي الهشيم.
وَفِي منتصف القرنِ التاسعَ عَشَرَ، كانَ عددُ الارقاءِ فِي أمريكا أربعةَ ملايين من بينهِمْ خمسونَ الفاً فقط يُقيمون فِي الولاياتِ الشَّماليةِ. وَفِي حينَ كانَ الشماليونَ يزدادونَ استهجاناً للرق، كان الجنوبيون ينتفعونَ منهُ، ويدافعونَ عن هذا العُرْفِ (العرفُ: العاده، الامر الذي يتفق عليه الناس.) الغريبِ. وَفِي كلِّ موضعٍ فِي الولايات الجنوبيةِ، سواءً فِي فرجينيَا، وكارولينا الشماليةِ، وكذلك فِي جوجيا، والمسيسيي،
*146*
ولْوِيْزْيَانا - فِي جميع هذه الولاياتِ، تجدُ الارقاءَ مصدراً لِلعملِ، وطرازاً (الطراز: النمط والنوع، نقول: هذا على طراز ذاك أي على شاكلته كما تقول هذا من نمط ذاك أي من نوعه.) ثمينا لِلمِلْكَّيِةِ، فَإِنَّ معظمَ العبيدِ مِلْكٌ للاثرياءِ من أَصحاب المِزارعِ، وهم مُجبرونَ علَى العملِ فِي مزارعِ القطنِ والسكرِ، وفِي مستنقعاتِ الأَرُزَّ. ولقدْ كان اختراعُ مِحْلَجِةِ القطن، (وهي الة لفرز القطن عن البذور)، مدعاة (مدعاه: سبب، تقول: الاجتهاد مدعاة النجاح، كما تقول: الاجتهاد من دواعي النجاح أي من اسبابه، ودواعي الصدر: همومه، ودعا عليه: طلب له الشر.) لِجعل القطنِ أَهم محاصيلِ الولاياتِ الجنوبيةِ القصيَّة (القصيّه: البعيدة.) ولَمَا كانت زراعتُهُ تحتاجُ إِلَى مهارةٍ محدودةٍ، فقدِ استُخْدِمَتْ فِي زراعتِهِ أُسراتٌ كاملةٌ مِن الزنوج، تحت رِقابةٍ من العملِ المرهِقِ المضني وكان الجَلْدُ بالسِّياطِ، هوَ العقوبةَ الأكثَرَ شيوعاً، كما كان رمزَ السلطة.
وكان بعضُ المُلاَكِ يُمْسِكُونَ عنِ العُنْفِ، لأَنَّ قيمةَ العبدِ تَنْقُصُ إِذَا أَلَمَتْ بِهِ إِصاباتٌ جسيمةٌ (المت به أصابات: أحاقت به أصابات (ألّمَّ به المرض المرض))، بيدَ أَنَّ غيرهم - سواءٌ من السادةِ أَوْ المشرفينَ - كانوا يمارسون سلطاتِهِم الَّتِي تكادُ أَنْ تكونَ غيرَ محدودةٍ، وبدون رحمة.
والعبيدُ الابقون تطلق فِي أعقابِهِمِ الكلابُ المتوحشةُ، ويُعرِّضُونَ أَنفُسَهُمْ لإِطلاقِ النارِ عليهم، ويعاقَبُونَ بقسوةٍ ولَمْ يكنْ لشهادةِ العبدِ وزنٌ إزاء شهادةِ الرجل الأبيض.
تحرير العبيد:
كانت هذه هي حال الرق في أمريكا فِي خمسينيات القرن التاسعَ عَشَرَ، حينَ أُثيرتْ مسألةُ انتشار الرق، وامتدادهِ إِلَى الولايات الجديدةِ فِي الغربِ، مما أَدَّى إِلَى التساؤُلِ عمَّا إِذا كانَ سائِغاً أَنْ تَبْقَى الولاياتُ المتحدةُ دولةً نصفُها من العبيد، ونصفُها من الأَحرار، كما أَدى أخيراً إِلَى نشوبِ الحربِ الأهليةِ الأمريكيةِ فِي سنة 1861 بعدَ انتخابِ ابراهم ليتكون
*147*
لرئاسة الولاياتِ المتحدةِ، وِلَمْ تَضَعْ هذه الحربُ أَوزارها (وضعت الحرب أوزارها: انتهت، وضعت أثقالها.. كأنَّها تستريح) وضعت الحرب أوزارها: انتهت، وضعت أَثقالها.. كأنَّها تستريح. إِلاَّ فِي ابريلَ سنة 1865، وفِي شهرِ ديسمبرَ من عام 1865، أُدخِلَ عَلَى الدستور تعديلٌ تَمَّ بمقتضاهُ الغاءُ الرَقِ وتحريمُه إِلَى الأبدِ فِي جميعِ الولاياتِ المتحدةِ. وهكذا انتهى الرقُّ فِي أَمريكا بعدَ ثلاثين سنةً من صدورِ قانونِ تحريمِ العبيدِ من قِبَلِ البرلمانِ البريطاني وذلك سنة 1833م.
موسوعة المعرفة، تاريخ الحضارة، الشعوب والسكان سويسرا 1958 ص 128-129
*148*
الأسئلة:
1. جد الفقرة التي تصلح لان يكون عنوانها: "اصطياد العبيد".
2. ماذا تعني لك الاسماء التالية: "كوخ العم توم" رحلة الشهرين، الحرب الأَهلية؟
3. ما الفرق بين نظرة الشماليين ونظرة الجنوبيين للرق؟
4. ما هو سبب الاختلاف بين النظرتين حسب رأيك؟
5. بين ثلاثة أحداث هامة وردت في القطعة وكانت ذات تأثير ايجابي على تحرير العبيد في امريكا.
6. ارسم خارطة - مستعيناً بالاطلس - تبين فيها أسماء الاماكن التي وردت في القطعة.
7. اكتب رسالة على لسان أحد العبيد. مستوحاة من أحد المقاطع التي تصف معاناة العبيد.
8. استخرج من القاموس معاني الاصطلاحات التالية: ألم به المرض، ألَمَّ بالموضوع، اعيذهُ من كل لامَّة وعامَّة، هذه دارٌ لمومة.
9. استخرج من قاموس المنجد ثلاث استعمالات تعجبك للفعل رق واستعملها في جمل انشائية.
10. في القطعة السابقة بعض الجمل الادبية التي يستعمل فيها الكاتب التشبيه لوصف شيءٍ ما مثل: "يُساقون كالسوائم". جد ثلاث جمل أدبية أخرى في القطعة.
*149*
*149*
*150*
صفحة فارغة
*151*
*151*
مصطفى المنفلوطي
لَوْ عَرَفَ الحَسُودُ مَا لِلْحَاسِدِ عِنْدَهُ مِنْ يَدٍ (له يدَ عنده: له عليه فضل.)، وَمَا أَسْدَى إِلَيْهِ (اسدى: اعطى.) مِنْ نِعْمَةٍ لأنْزَلَهُ مِنْ نَفْسِهِ مَنْزِلَةَ الأَوْفِيَاءِ المُخْلِصِينَ، وَلَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ تِلْكَ الوِقْفَةَ الَّتِي يَقِفُهَا الشَّاكِرُونَ بَيْنَ أَيْدِي المَحْسِنِينَ.
لَا يَزَالُ صَاحِبُ النِّعْمَةِ ضَالاَ عَنْ نِعْمَتِهِ (ضال عن الشيء: غير مهتدٍ اليه.)، لَا يَعْرِفُ لَهَا شَأْناً، وَلاَ يُقِيمُ لَهَا وَزْناً، حَتَّى يَدُلَّهُ الحَاسِدُ عَلَيْهَا بِنُكْرَانِهَا، وَيُرْشِدَهُ إِلَيْهَا بِتَحْقِيرِهَا، وَالغَضِّ مِنْهَا (غض من الشيء: قلل من قيمته.) أَنَا لاَ أَعْجَبُ لِشَيْءٍ كَعَجَبِي لِهذَا الحَاسِدِ، يَنْقِمُ عَلَى مَحْسُودِهِ نِعَمَ اللهِ عَلَيْهِ، وَيَتَمَنَّى لَوْ لم تَبْقَ لَهُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا وَهْوَ لَا يَعُلَمُ أَنَّهُ فِي هذِهِ النَّقْمَةِ، وَفِي تِلْكَ الأُمْنِيَةِ قَدْ أَضافَ إِلَى مَحْسُودِهِ نِعْمَةً هِيَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ مَا فِي يَدَيْهِ مِنَ النِّعَمِ.
وَجْهُ الحَاسِدِ مِيزَانُ النِّعْمَةِ وِمِقْيَاسُهَا، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَزِنَ نِعْمَةً وَافَتْكَ (وافتك: اتتك.) فَارْمِ بِخَبَرِهَا فِي فُؤَادِ الحَاسِدِ، ثُمَّ خَالِسْهُ (خالسهُ نظرة: نظر اليه خلسة.) نَظْرَةً خَفِيفَةً، فَحَيْثُ تَرَى الكَآبَةَ وَالهَمَّ فَهُنَاكَ جَمَالُ النِّعْمَةِ وَسَناؤُهَا.
لَيْسَ بَيْنَ النِّعَمِ الَّتِي يُنْعِمُ بِهَا اللهُ عَلَى عِبَادِهِ نِعْمَةً أَصْغَرَ شَأناً، وَأَهْوَنَ خَطَراً مِنْ نِعْمَةٍ لَيْسَ لَهَا حَاسِدٌ، فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَصْفُوَ لَكَ النِّغَمُ فَقِفْ بِهَا فِي سَبِيلِ الحَاسِدِينَ، وَالقِهَا فِي طَرِيقِ النَّاقِمِينَ، فَإِنْ حَاوَلُوا تَحْقِيرَهَا وَازْدِرَاءَهَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ قَدْ مَنَحُوكَ لَقَبَ (الحَسَدَ) فَلْيَهْنَأْ عَيْشُكَ وَلْيَعْذُبْ مَوْرِدُكَ.
*152*
إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ أَيَّ الرَّجُلَيْنِ أَفْضَلُ، فَانْظُرْ إِلَى أَكْثَرِهِمَا نَقْمَةً عَلَى صَاحِبِهِ، وَالنَّيْلِ مِنْ كَرَامَتِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ أَصْغَرُهُمَا شَأْناً وَأَقَلُّهُما فَضْلَا.
قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ ذَنْبٍ عُقوبَةً مُسْتَقِلَّةً يَتَأَلَّمُ لَهَا المُذْنِبُ عِنْدَ حُلُولِ أَجَلِهَا، فَالشَّارِبُ يَتَأَلَّمُ عِنْدَ حُلُولِ المَرَضِ، وَالمُقامِرُ يَتَأَلَّمُ يَوْمَ نُزُولِ الفَقْرِ، وَالسَّارِقُ يَتَأَلَّمُ يَوْمَ دُخُولِ السِّجْنَ.
أَمَّا الحَاسِدُ فَعُقوبَتَهُ حَاضِرَةٌ دَائِمَةٌ، لَا تُفَارِقُهُ سَاعَةً وَاحِدَةً.
إِنَّهُ يَتَأَلَّمُ لِمَنْظَرِ النِّعْمَةِ كُلَّمَا رَآهَا، وَالنِّعْمَةُ مَوْجُودٌ مِنَ المَوْجُودَاتِ الثَّابِتَةِ فَهَيْهَاتَ أَنْ يَفْنَى أَلَمُهُ، وَيَنْقَضِيَ عَذَابُهُ، حَتَّى تَقِرَّ عَيْنُهُ الَّتِي تُبْصِرُ، وَيَسْكُنَ قَلْبُهُ الَّذِي يَنْبِضُ.
الحَسَدُ مَرَضٌ مِنَ الأَمْرَاضِ القَلْبيَّةِ الفَاتِكَةِ، وَلِكَلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، وَدَوَاءُ الحَسَدِ أَنْ يَسْلُكَ الحَاسِدُ سَبِيلَ المَحْسُودِ، لِيَبْلُغَ مَبْلَغَهُ مِنْ تِلْكَ النِّعْمَةِ الَّتِي يَحْسُدُهُ عَلَيْهَا، وَلاَ أَحْسَبُ أَنَّهُ يُنْفِقُ مِنْ وَقْتِهِ وَمَجْهُودِهِ فَي هذِهِ السَّبِيلِ أَكْثَرَ مِمَّا يُنْفِقُ مِنْ ذلِكَ الغَضِّ مِنْ شَأْنِ مَحْسُودِهِ وَالنَّيْلِ مِنْهُ (النيل منه: إيذاؤه.)، فَإِنْ كَانَ يَحْسُدُهَ عَلَى المَالِ، فَلْيَنْظُرْ أَيَّ طَرِيقٍ سَلَكَ إِلَيْهِ فَيَسْلُكُهُ، وَإِنْ كَانَ يَحْسُدُهُ عَلَى العِلْمِ فَلْيَتَعَلَّمْ أَوْ الأَدَبِ فَلْيَتَأَدَّبْ، فَإِنْ بَلَغَ مِنْ ذلِكَ مَأْرَبَهُ فَذَاكَ، وَإِلاَّ فَحَسْبُهُ أَنَّهُ مَلَأ فَرَاغَ حَيَاتِهِ بِشُؤونٍ لَوْلَاهَا لَقَضَاهَا بَيْنَ الغَيْظِ الفَاتِكِ وَالكَمَدِ القَاتِلِ.
مؤلفات مصطفى المنفلوطي - الزفرات - بيروت
*153*
الأسئلة:
1. ما هي نعمة المحسود؟
2. لماذا يعتبر المنفلوطي ان "النعمة التي ليس لها حاسد نعمةً أصغر شأناً وأهون خطراً" ؟
3. ما وجه المقارنة بين الشارب والسارق والمقامر بين الحاسد.؟
4. الحسد في نظر الكاتب مرضٌ.. فكيف نداويه؟
5. فسر التعابير التالية:
أ. وجْهُ الحاسد ميزان النعمة.
ب. وَلْيَعْذُبْ موردك.
ج. حتى تقرَّ عينه التي تبصر.
د. بلع مبلعَ المحسود من النعمة.
6. عين الجُملَ التي فيها سجع.
7. سجل أربع جمل مترادفة.
8. جملة: "أو الأدب" في نهاية القطعة جملة تامة.. كيف تفسر ذلك؟
9. امامنا مجموعة من الأقوال عن الحسد:
أ. الحسود لاَ يسود.
ب. عين الحاسد تبلى بالعمى.
ج. فإِذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود.
اختر احدها ليكون عنواناً للقطعة، وبيّن لماذا؟
*154*
*154*
سلامة موسى
أَبْدَأُ هذَا الأُسْبُوعَ (4 يناير 1956) السَّنَةَ السَّبْعِينَ مِنْ عُمْرِي، وَهذِهِ السِّنُّ هِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا سُلَيْمَانُ الحَكِيمُ فِي التَّوْرَاةِ بِأَنَّهَا أَقْصَى مَا يَنْشُدُ (أقصى ما ينشد الاَنسان: أعظم هدف للإنسان، أقصى: أبعد.) الإِنْسَانُ عَلَى الأَرْضِ.
وَهْوَ بِالطَّبْعِ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ وَسَائِلَنَا الصِّحِّيَّةَ الوِقَائِيَّةَ وَالغِذَائِيَّةَ وَأَنَّنَا نَطْمَعُ إِلَى سِنِّ المِئَةِ مُحْتَفِظِينَ بِشَبابِنَا وَقُوَّتِنَا.
وَأَظُنُّ أَنَّ القَارِئَ يُحِبُّ أَنْ يَعْرِفَ إِحْسَاسَاتِي وَأَنَا عَلَى عَتَبَةِ السَّبْعِينَ (على عتبة السبعين: بداية سن السبعين.) وَالحَقُّ إِنِّي أُحِبُ أَنْ أَعْرِفَهَا أَنَا نَفْسِي. وَعِنْدَمَا أَتَأَمَّلُهَا أَرَانِي أَعُودُ إِلَى الذِّكْرَيَاتِ فِي المَاضِي، ثُمَّ أَرَانِي أُؤَمِّلُ لِلْمُسْتَقْبَلِ.
وَأَوَّلُ مَا أُلاَحِظُ أَنَّ عَلَامَاتِ الشَّيْخُوخَةِ قَدْ بَدَتْ عَلَى سَطْحِ الجِسْمِ أَكْثَرَ مِمَّا بَدَتْ فِي دَاخِلِهِ. فَإِنَّ عَلَى وَجْهِي غُضُوناً، كَمَا أَنَّ شَعْرِيَ الأَسْوَدَ الجَعِدَ قَدِ اسْتَحَالَ إِلَى زَغَبٍ أَبْيَضَ نَاعِمٍ. وَلكِنْ، بَعْدَ ذلِكَ، لاَ أَجِدُ مِنْ عَلَامَاتِ الشَّيْخُوخَةِ دَاخِلَ جِسْمِي سِوَى القَلِيلَ الَّذِي لا يُؤْبَهُ بِهِ (لاَ يؤبه له: غير مهم.)
وَمِمَّا يَسُرُّنِي بِشَأْنِ حَيَاتِي المَاضِيَةِ أَنَّ مَا كَتَبْتُهُ قَدْ حَيِيْتُهُ، وَمَا حَيِيْتُهُ قَدْ كَتَبْتُهُ. وَأَكْثَرُ مَا يَسُرُّنِي أَنّيِ أَحْتَفِظُ بِشَبَابِ ذِهْنِي (شبابٌ ذهنيٌ: ذهن شاب ومتيقظ.) لأَنَّ عَاداتِ شَبَابِي لاَ تَزَالُ تُلازِمُنِي. فَأَنَا أَقْرَاُ، وَأَقْتِني الكُتُبَ، وَأَسْتَطْلِعُ، وَأَسْتَزِيدُ مِنَ الثَّقَافَةِ، كَمَا كُنْتُ أَفْعَلُ قَبْلَ أَرْبَعِينَ أوْ خَمْسِينَ سَنَةً.
وَأَحِبُّ لِذلِكَ أَنْ أَعِيشَ نَحْوَ عِشْرِينَ أَوْ ثَلاَثِينَ سَنةً أُخْرَى أَوْ أَكْثَرَ وَلَيْسَتِ العِبْرَةُ بِالطَّبْعِ أَنْ نَزِيدَ الحَيَاةَ سِنِينَ، وَإِنَّمَا هِيَ أَنْ نَزيدَ السِّنِينَ حَيَاةً
*155*
بِأَنْ نَتَعَلَّمَ وَنَعْمَلَ وَنَعْرِفَ وَنَخْتَبِرَ. أَجَلْ، نَخْتَبِرَ المُرَّ وَالحُلْوَ، وَنَسْتَنْبِطُ مِنْهُمَا حِكْمَةً وَزِيَادَةً فِي الفَهْمِ.
لَقَدْ ذَكَرَ التَّارِيخُ عَنْ كَاتُو (كاتو: من مشاهير الخطباء ورجال الدولة الرومان عاش بين 234-149 ق.م.) الرُّومَانِيِّ أَنَّهُ شَرَعَ يَتَعَلَّمُ اللُّغَةَ الإِغْرِيقِيَّةَ (اللغة الإغريقية: اليونانية القديمة.) فِي سِنِّ الثَّمَانِينَ. وَلَيْسَ فِي هذَا مَا يُسْتَغرَبُ، فَإِنَّ عَادَاتِ الدَّرْسِ الَّتِي نَتَعوَّدُهَا فِي الشَّبَابِ تُلاَزِمَنَا إِلَى سِنِّ المَائةِ. وَظَنِّي أَنَّ كَاتُو تَعَوَّدَ الدِّرَاسَةَ مُنْذُ شَبَابِهِ فَلَزِمَتْهُ العَادَةُ إِلَى سِنِّ الشَّيْخُوخَةِ. فَإِنْ كُنْتَ، أَيُّهَا الشَّابُ، تَلْعَبُ الوَرَقَ وَتَلْهُو بِالعَابِ الحَظِّ الأُخْرَى، فَإِنَّكَ سَوْفَ تَفْعَلُ ذلِكَ عِنْدَمَا تَبْلُغَ السَّبْعِينَ أَوْ الثَّمَانِينَ. أَمَّا إِذَا كُنْتَ تُحِبُّ الدَّرْسَ وَتَعْشَقُ الثَّقَافَةَ، فَإِنَّكَ سَوْفَ تَبْقَى عَلَى هذِهِ الحَالُ وَلَوْ بَلَغْتَ المِائَةِ.
وَغَرَامِي بِالكُتُبِ فِي سَنَةِ (1955) هُوَ غَرَامِي بِهَا فِي سَنَةِ (1905). وَطَرَبِي بِالفِكْرَةِ النَّبِيلَةِ، وَالكَشْفِ العِلْمِيِّ، وَالأَمَلِ الجَدِيدِ فِي الحَضَارَةِ، هذَا العَامَ هُوَ طَرَبِي بِهَا جَمِيعاً قَبْلَ خَمْسِينَ عَاماً.
هُوَ أُسْلُوبٌ لِلْحَيَاةِ اتَّبَعْتُهُ، فَلَازَمَنِي وَتَعَلَّمْتُ مِنْهُ، وَأَوَّلُ ذلِكَ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى الدُنْيَا بِالعَقْلِ البِكْرِ وَالقَلْبِ البِكْرِ، وَأَنْ أَقْتَحِمَ الأَفْكَارَ بِرُوحِ البَطَلِ أَوْ الشَّهِيدِ وَإِنِّي أُؤْمِنُ بِالأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ وبِجَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ وَأُحِسُّ مَعَهُمْ عَلَى تَفاهُمٍ وَأَسْتَلْهِمُ مِنْهُمْ المُرُوءَةَ وَالحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالشَّرَفَ.
(بتصرف) عن: تربية سلاَمة موسى
القاهرة - ص 316-317.
*156*
سلامة موسى:
كاتب مصري ولد سنة (1887) وتوفي سنة (1958) له كتب عديدة ومقالاَت صحفية في موضوع الفكر والفلسفة والحرية.. وكان يرجِّح الانتماء الفرعوني لمصر.
الأسئلة:
1. لماذا لاَ يقنع سلَامة بما قاله سليمان الحكيم عن سن السبعين.
2. ماذا عنى بقوله: "إن ما كتيته حييته وما حييته كتبته"؟
3. لماذا يرضى سلَامة موسى عن حياته الماضية.
4. اين يصلح المثل: "العلم في الصغر كالنقش في الحجر"
5. ما الذي يجمع بين الديانات السماوية في مفهوم الكاتب؟
6. لخص أهم ما يقوله سلاَمة موسى عن نفسه في سن السبعين؟
7. ما هي الافكار التي عالجها المقال السابق - سجلها بالتدريج؟
*157*
*157*
أحمد أمين
عَلَّمَتْنِي الطَّبِيعَةُ أَنَّ الدُنْيا لاَ تَخْلُو مِنْ مَتَاعِبَ، وَأَنَّ الإِنْسَانَ سَيُلَاقِي فِي حَيَاتِهِ بَعْضَ الشَّدَائِدِ، فَسَلَّحَتْهُ بِرُوحِ المَرَحَ وَرُوحِ الفُكَاهَةِ، وَجَعَلَتْ ذلِكَ دَوَاءً لِدَائِهِ وَبَلْسَماً لِشِفَائِهِ فَإِنْ أَنْتَ رَأَيْتَ فَتىً أَوْ فَتَاةً، عَابِسَ الوَجْهِ مُقَطّبَ الجَبِينِ يَفْتَعِلُ الهُمُومُ وَيَتَبَرَّمُ بِالحَيَاةِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ فَقَدَ أَحْسَنَ مَا فِي طَبِيعَتِهَ وأَجْمَلَ مَا فِي مَلَكَاتِهِ.
لَيْسَ المَبْتَسِمُونَ لِلْحَيَاةِ أِسْعَدَ حَالاَ لأَنْفُسِهِمْ فَقَطْ، بَلْ هُمْ كَذلِكَ أَقْدَرُ عَلَى العَمَلِ، وَأَكْثَرُ احْتِمَالاَ لِلْمَسْئُولِيَّةِ، وَأَصْلَحُ لِمُوَاجَهَةِ الشَّدَائِدِ وَمُعَالَجَةِ الصِّعَابِ، وَالإِتْيَانِ بِعَظَائِمِ الأُمُورِ الَّتِي تَنْفَعَهُمْ وَتَنْفَعُ النَّاسَ.
لَوْ خُيِّرْتُ بَيْنَ مَالٍ كَثِيرٍ أَوْ مَنْصِبٍ خَطِيرٍ (منصب خطير: منصب عالٍ.)، وَبَيْنَ نَفْسٍ رَاضِيَةٍ بَاسِمَةٍ، لاخْتَرْتُ الثَّانِيَةَ، فَمَا المَالُ مَعَ العُبُوسِ؟ وَمَا المَنْصِبُ مَعَ انْقِبَاضِ النَّفَسِ؟ وَمَا كُلُّ مَا فِي الحَيَاةِ إِذَا كَانَ صَاحِبُهُ ضَيِّقاً حَرِجاً (رجل حرجٌ: رجل ضيّق الصدر، يضيّق على الاَخرين.) كَأَنَّهُ عَائِدٌ مِنْ جَنازَةِ حَبِيبٍ؟
وَلَا قِيمَةَ لِلْبَسْمَةِ الظَّاهِرَةِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُنْبَعِثَةً عَنْ نَفْسٍ بَاسِمَةٍ وَتَفْكِيرٍ بَاسِمٍ. وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الطَّبِيعَةِ بَاسِمٌ مُنْسَجِمٌ، وَإِنَّمَا يَأْتِي العُبُوسُ مِمَّا يَعْتَرِي طَبِيعَةً الإِنْسَانِ مِنْ شُذوذٍ، فَالزَّمَنُ بَاسِمٌ وَالغَابَاتُ بَاسِمَةٌ وَالبِحَارُ وَالاَنْهَارُ وَالسَّمَاءُ وَالنَّجُومُ وَالطُّيُورُ كُلُّهَا بَاسِمَةٌ. وَكَانَ الإِنْسَانُ بِطَبْعِهِ بَاسِمَاً، لَوْلاَ مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ طَمَعٍ وَشَرٍّ وَأَنَانِيَةٍ تَجْعَلُهُ عَابِساً. فَكَانَ بذلِكَ نَشَازاً فِي نَغَمَاتِ الطَّبِيعَةِ المُنْسَجِمَةِ. وَمِنْ أَجْلِ هذَا لاَ يَرَى الجَمَالَ مَنْ عَبَسَتْ نَفْسُهُ.
*158*
هُنَاكَ نُفُوسٌ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْلُقَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ شَقَاءً، وَنُفُوسٌ تَسْتَطِيعُ أنْ تَخْلُقَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَعَادَةً. هُنَاكَ المَرْأَةُ فِي البَيْتِ لاَ تَقَعُ عَيْنُهَا إِلاَ عَلَى الخَطَأِ، فَاليَوْمُ أَسْوَدٌ، لأَنَّ طَبَقاً كُسِرَ أَوْ لأنَّهَا عَثَرَتْ عَلَى قِطْعَةٍ مِنَ الوَرَقِ فِي الحُجْرَةِ فَتَهِيجُ وَتَسُبُّ وَيَتَعَدَّى السِّبَابُ إِلَى كُلِّ مَنْ فِي البَيْتِ، وَإِذَا هُوَ شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ. وَهُنَاكَ رَجُلٌ يُنَغِّصُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ حَوْلَهُ مِنْ كَلِمَةٍ يَسْمَعُهَا أَوْ يُؤَوِّلُهَا تَأْوِيلاَ سَيِّئاً، أَوْ مِنْ عَمَلٍ تَافهٍ حَدَثَ لَهُ أَوْ حَدَثَ مِنْهُ، أَوْ مِنْ رِبْحٍ خَسِرَهُ، أَوْ مِنْ رِبْحٍ كَانَ يَنْتَظِرُهُ فَلَمْ يَحْدُثْ، أَوْ نَحْوَ ذلِكَ، فَإِذَا الدُّنْيَا كُلُّهَا سَوْدَاءُ فِي نَظَرِهِ، ثُمَّ هُوَ يَسُدُّهَا عَلَى مِنْ حَوْلَهُ. هَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ قُدْرَةُ المُبَالَغَةِ فِي الشَّرِّ، فَيَجْعَلُونَ مِنَ الحَبَّةِ قُبَّةً فَلاَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُوتُوا وَلَوْ كَثِيراً، وَلَا يَنْعَمُونَ بِمَا نَالوُا وَلَوْ عَظِيماً.
الحَيَاةُ فَنٌّ، وَفَنٌّ يُتَعَلَّمُ. ولَخَيْرٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجِدَّ فِي وَضْعِ الأَزْهَارِ وَالرَّيَاحِينِ وَالحُبِّ فِي حَيَاتِهِ، مِنْ أَنْ يَجِدَّ فِي تَكْدِيسِ المَالِ فِي جَيْبِهِ أَوْ فِي مَصْرِفِهِ. فَمَا الحَيَاةُ إِذَا وُجِّهَتْ كُلُّ الجُهُودِ فِيهَا لَجَمْعِ المَالِ، وَلَمْ يُوَجَّهْ أَيُّ جُهْدٍ لِتَرْقِيَةِ جَانِبِ الجَمَالِ وَالرَّحْمَةِ والحُبِّ فِيهَا؟
أَكْثَرُ النَّاسِ لاَ يَفْتَحُونَ أَعْيُنَهُمْ لِمَبَاهِجِ الحَيَاةِ، وإِنَّمَا يَفْتَحُونَهَا لِلدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ؛ يَمَرُّونَ عَلَى الحَدِيقَةِ الغَنَّاءِ وَالأَزْهَارِ الجَمِيلَةِ وَالمَاءِ المُتَدَّفّقِ وَالطُّيُورِ المُغَرِّدَةِ، فَلَا يَأْبَهُونَ (لاَ يأبهون لها: لاَ يهتمّون بها.) لاَ يلتفتون إليها. لَهَا. وَإِنَّمَا يَأْبَهُونَ لِدِينَارٍ يَأْتِي وَدِينَارٍ يَخْرُجُ. قَدْ كَانَ الدِّينَارُ وَسِيلَةً لِلْعِيشَةِ السَّعِيدَةِ، فَقَلِّبُوا الوَضْعَ وَبَاعُوا العِيشَةَ السَّعِيدةَ مِنْ أَجْلِ الدِّينَارِ.
مقطع من مقال لأحمد امين، الهلال، 1942، ص 45-46.
*159*
أحمد امين:
كاتب مصري، ولد في القاهرة سنة 1878 وتوفي سنة 1954، تعلم في الأزهر في القضاء والتدريس، وتولّى وظائف عدة في مجال الثقافة، له كتب عديدة أهمها فجر الاَسلاَم وضحى الإسلاَم وظهر الإسلاَم، وكتاب قصة الاَدب في العالم، وله تأثير كبير على النهضة الأدبية الحديثة.
الأَسئلة:
1. ما هو رأي أحمد أمين في المال؟
2. ماذا قصد بقوله ان الحياة فن؟
3 كيف ينظر أحمد أمين الى الصعاب؟.. وبماذا نتغلب عليها؟
4. الابتسامة طبع في اللإنسان والعبوس صفة مكتسبة، أين يشير الكاتب الى هذا المعنى في النص السابق؟
5. اقتبس جملاَ من النص السابق تعني ان العابس يتنغص وينغص غيره.
6. ما هي الأفكار التي استعان احمد امين في تبسيطها بالأمثلة الأتية:
أ. الطبيعة مصدر الجمال.
ب. المرأة والرجل العابسان.
7. قام احمد امين بايراد مثل لتبسيط الفكرتين التاليتين.
أ. المال مع العبوس.
ب. الابتسامة الظاهرة فقط والابتسامة النابعةُ من النفس.
8. استعمل في جمل مفيدة:
اعترى، البعث، تعداه، لَا عليك، تغالب.
(استعمل القاموس للتأكد من المعنى الذي تختاره).
*160*
*160*
عباس محمود العقاد
أَوَّلُ مَا يَخْطرُ عَلَى البَالِ - حِينَ يُوَجَّهُ هذَا السُّؤَالُ إِلَى أَحَدِ المُشْتَغِلِينَ بِالكِتَابَةِ - أَنَّهُ سَيَقُولُ: إِنَّنَي أَهْوَى القِرَاءَةَ لَأَنَّنَي أَهْوَى الكِتابَةَ! وَلَكِنَّ الوَاقِعَ أَنَّ الَّذِي يَقْرَأُ لِيَكْتُبَ وَكَفَى هُوَ "مُوصِلُ رَسَائِلَ" لَيْسَ إِلَّا.. أَوْ هُوَ كَاتِبٌ "بِالتَّبَعِيَّةِ" وَلَيْسَ كَاتِباً بِالْأَصَالَةِ. فَلَوْ لَمْ يَسْبِقْهُ كُتَابٌ آخَرُونَ لَمَا كَانَ كَاتِباً عَلَى الإِطْلَاقِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ قَبْلَهُ قَدْ قَالَ شَيْئاً لَمَا كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٍ يَقُولُهُ لِلّقُرَّاءِ.
وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَا أَعْهَدُهُ مِنْ تَجَارِبِي، أَنَّنِي قَدْ قَرَأْتُ كُتُباً كَثِيرَةً لاَ أَقْصِدُ الكِتَابَةَ فِي مَوْضُوعَاتِهَا عَلَى الإِطْلاَقِ. وَأَذْكُرُ مِنْ ذلِكَ أَنَّ أَدِيباً زَارَنِي فَوَجَدَ عَلَى مَكْتَبِي بَعْضَ المُجَلَّدَاتِ فِي غَرَائِزٍ الحَشَرَاتِ، فَقَالَ مُسْتَغْرِباً: وَمَا لَكَ أَنْتَ ولِلْحَشَرَاتِ؟ إِنَكَ تَكْتُبُ فِي الاَدَبِ وَمَا إِلَيْهِ، فَأَيَّةُ عَلَاقَةٍ لِلْحَشَرَاتِ بِالشِّعْرِ وَالنَّقْدِ وَالاجْتِمَاعِ؟
وَلَوْ شِئْتُ لَأَطَلْتُ فِي جَوَابِهِ. وَلَكِّنَّنِي أَرَدْتُ أَنْ أَقْتَضِبَ (الكَلَامَ بِفُكَاهَةٍ تَبْدُو كَأَنَّهَا جَوَابٌ وَلَيْسَ فِيهَا جَوَابٌ.) فَقُلْتُ: نَسِيْتَ أَنَّنِي أَكْتُبُ أَيْضاً فِي السِّيَاسَةِ! قَالَ نَعَمْ، نَسِيْتُ وَالحَقُّ مَعَكَ! فَمَا يَسْتَغْنِي عَنِ العِلْمِ بِطَبَائِعِ الحَشَرَاتِ رَجُلٌ يَكْتُبُ عَنِ السِّيَاسَةَ وَالسِّيَاسِيِّينَ فِي هذِهِ الأَيْامِ.
كَذلِكَ لاَ أُحِبُّ أَنْ أُجِيبَ عَنِ السُّؤَالِ كَمَا أَجَابَ قَارِئُ التَّارِيخِ فِي البَيْتِ المَشْهُورِ:
وَمَنْ وَعَى التَّارِيخَ فِي صَدْرِهِ
أَضَافَ أَعْمَاراً إِلَى عُمْرِهِ
*161*
فَلَيْسَتْ إِضَافَةُ أَعْمَارٍ إِلَى العُمْرِ بِالشَّيْءِ المُهِمِّ إِلاَّ عَلَى اعْتِبَارٍ وَاحِدٍ، وَهْوَ أَنْ يَكُونَ العُمْرُ المُضَافُ مِقْدَاراً مِنَ الحَيَاةِ لاَ مِقْدَاراً مِنَ السِّنِينَ، أَوْ مِقْدَاراً مِنْ مَادَّةِ الحِسِّ وَالفِكْرِ وَالخَيَالِ، لاَ مِقْدَاراً مِنْ أَخْبَارِ الوَقَائِعِ وَعَدَدِ السِّنِينِ الِّتِي وَقَعْتَ فِيهَا. فَإِنَّ سَاعَةً مِنَ الحِسِّ وَالفِكْرِ وَالخَيَالِ تُسَاوِي مِائَةَ سَنَةٍ اَوْ مِئَاتٍ مِنَ السِّنِينِ، لَيْسَ فِيهَا إِلاَّ أَنَّهَا شَرِيطُ تَسْجِيلٍ لِطَائِفَةٍ مِنَ الأَخْبَارِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الأَرْقَامِ.
كَلَا.. لَسْتُ أَهْوَى القِرَاءَةَ لأَكْتُبَ، وَلاَ أَهْوَى القِرَاءَةَ لأَزْدَادَ عَمْراً فِي تَقْدِيرِ الحِسَابِ، وَإنَّمَا أَهْوَى القِرَاءَةَ لأَنَّ عِنْدِي حَيَاةً وَاحِدَةً فِي هذِهِ الدُّنْيَا، وَحَيَاةٌ وَاحِدَةٌ لاَ تَكْفِينِي، وَالقِرَاءَةُ دُونَ غَيْرِهَا هِيَ الَّتِي تَعْطِينِي أَكْثَرَ مِنْ حَيَاةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَدَى عُمْرِ الإنْسَانِ الوَاحِدِ، لأَنَّهَا تَزِيدُ هذِهِ الحَيَاةَ مِنْ نَاحِيَةِ العُمْقِ، وَإِنْ كَانَتْ لاَ تُطِيلُهَا بِمَقَادِيرِ الحِسَابِ.
فِكْرَتُكَ أَنْتَ فِكْرَةٌ وَاحِدَةٌ... شُعُورُكَ أَنْتَ شُعورٌ وَاحِدٌ.. خَيَالُكَ أَنْتَ خَيَالٌ فَرْدٌ إِذَا قَصَرْتَهُ عَلَيْكَ.. وَلكِنَّكِ إِذَا لاَقَيْتَ بِفِكْرَتِكَ فِكْرَةً أُخْرَى، أَوْ لاَقَيْتَ بِشُعُورِكَ شُعُوراً آخَرَ، أَوْ لاَقَيْتَ بِخَيَالِكَ خَيَالَ غَيْرِكَ، فَلَيْسَ قُصَارَى الأَمْرِ أَنَّ الفِكْرَةَ تُصْبِحُ فِكْرَتَيْنِ، أَوْ أَنَّ الشُّعُورَ يُصْبِحُ شُعُورَيْنِ، أَوْ أَنَّ الخَيَالَ يُصْبِحُ خَيَالَيْنِ.. وَإِنَّمَا تُصْبِحُ الفِكْرَةُ بِهذَا التَّلاَقِي مِئَاتٍ مِنَ الفِكَرِ فِي القُوَّةِ وَالعُمْقِ وَالآمْتِدَادِ.
أَيْنَ غَرَائِزُ الحَشَرَاتِ مَثَلاَ مِنْ فَلْسَفَةِ الأَدْيانِ؟
وَأَيْنَ فَلْسَفَةُ الأَدْيَانِ مِنْ قَصِيدَةِ غَزَلٍ وَقَصِيدَةِ هِجَاءٍ؟
*162*
ظَاهِرُ الأَمْرِ أَنَّهَا مَوْضُوعَاتٌ تَفْتَرِقُ بَيْنَهَا افْتِرَاقَ الشَّرْقِ مِنَ الغَرْبِ، وَالشَّمَالِ مِنَ الجَنوبِ؛ وَحَقِيقَةُ الأَمْرِ أَنَّهَا كُلَّهَا مَادَةُ حَيَاةٍ، وَكُلَّهَا جَدَاوِلُ تَنْبَثِقُ مِنْ يَنْبُوعٍ وَاحِدٍ وَتَعُودُ إِليْهِ. غَرَائِزُ الحَشَرَاتِ بَحْثٌ فِي أَوَائِلِ الحَيَاةِ.
وَفَلْسَفَةُ الأَدْيَانِ بَحْثٌ فيِ الحَيَاةِ الخَالِدَةِ الأَبَدِيَّةِ. وَقَصِيدَةُ الغَزَلِ أَوْ قَصِيدَةُ الهِجَاءِ قَبَسَانِ (قبسان: مثنى قبس وهو الشعلة من النار. مِن حَيَاةِ إِنْسَانٍ فِي حَالَي الحُبِّ وَالنَّقْمَةِ.) وَنَهْضَةُ الأُمَمِ أَوْ ثَوْرَتُهَا هُمَا جَيَشَانُ (جيشان: غليان.) الحَيَاةِ فِي نِفُوسِ المَلاَيينِ، وَسِيرَةُ الفَرْدِ العَظِيمِ مَعْرِضٌ لِحَيَاةِ إِنْسَانٍ مُمْتَازٍ بَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ. وَكُلَّهَا أَمْوَاجٌ تَتَلاقَى فِي بَحْرٍ وَتَخْرُجُ بِنَا مِنَ الجَدَاوِلِ إِلَى المُحِيطِ الكَبِيرِ.
لاَ أُحِبُّ الكُتُبَ لأَنَّنِي زَاهِدٌ فِي الحَيَاةِ. وَلكِنَّني أُحِبُّ الكُتُبَ لأَنَّ حَيِاةً وَاحِدَةً لاَ تَكْفِينِي. وَمَهْمَا يَأْكُلِ الإِنْسَانُ فَإِنَّهُ لَنْ يَأْكُلَ بِأَكْثَر مِنْ مَعِدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَهْمَا يَلْبَسْ فَإِنَّهُ لَنْ يَلْبَسَ عَلَى غَيْرِ جَسَدٍ وَاحِدٍ، وَمَهْمَا يَتَنَقَّلْ فِي البِلاَدِ فَإِنَّهُ لَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحِلَّ فِي مَكَانَيْنِ. وَلَكِنَّهُ بِزَادِ الفِكْرِ وَالشُّعُورِ وَالخَيَالِ، يَسْتَطِيعَ أَنْ يَجْمَعَ الحَيَوَاتِ (حيوات: جمع حياة.) فِي عُمْرٍ وَاحِدٍ، وَيَستَطِيعُ أَنْ يُضَاعِفَ فِكْرَهُ وَشُعُورَهُ وَخَيَالَهُ، كَمَا يَتَضَاعَفُ الشُّعُورُ بِالحُبِّ المُتَبادَلِ، وَتَتَضَاعَفُ الصُّورَةُ بَيْنَ مِرْآتَيْنِ.
عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد:
ولد باسوان سنة 1889 وتوفي سنة 1964. وهو كاتب وشاعر مصري قدم الى القاهرة بعد إتمام دراسته الثانوية وعمل في التدريس والصحافة والأدب والسياسة. دعا الى التجديد وأسس مع مجموعة من الأدباء "مدرسة الديوان" وتضم الاَدباء الذين يدعون الى ترك المعاني والأساليب القديمة ويهتمون بالتجديد.
*163*
الأسئلة:
1. وضح العقاد ما معنى "كاتب بالتبعية"، فكيف تفسر انت "كاتب بالاصالة" ؟
2. اشرح السخرية في قول صديق العقاد: "فما يستغني العلم بطبائع الحشرات رجل يكتب عن السياسة والسياسيين في هذه الأيام....".
3. هل هذا ما قصده العقاد من قراءة المجلدات عن غرائز الحشرات، سجل الجمل التي تعبر عن رأي العقاد؟
4. لماذا لم يقتبس العقاد اجابة قارئ التاريخ حين قال:
ومن وعى التاريخ في صدره
اضاف اعماراً الى عمره؟
5. كيف تميز بين: "مقدار من الحياة" و "مقدار من السنين" ؟
6. إقرأ باب "قصر" في القاموس وبين كيف صلح من قول العقاد: "فليس قصارى الأمر ان الفكرة تصبح فكرتين"..... ولماذا نقول: "بذل قصارى جهده".
7. يشبه العقاد جميع العلوم بالامواج التي تتلاَقى في بحر واحد، ما هو تفسيرك لهذا التشبيه؟
8. كيف كنت تفهم ضرورة المطالعة قبل قراءة القطعة السابقة؟ وما هي المعلومات الجديدة التي استفدتها من القطعة في هذا الباب؟
9. اختر ثلاَثة استعمالاَت يمكن ان تستعملها في انشائك من الفعل جاش.
10. سجل بالتدريج الأفكار التي طرحها العقاد في مقاله السابق؟
11. على ماذا اعتمد العقاد في توضيح هذه الأفكار؟
*164*
*164*
علي مروة
التَّمْيِيزُ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ عَمَلِيَّةٌ شَاقَةٌ وَصَعْبَةٌ، خِلاَفاً لِمَا يَتَرَاءَى (يتراءى: يظهر.) أّمَامَ بَعْضِ النَّاسِ بِأَنَّهَا سَهْلَةٌ وَبَسِيطَةٌ. فَالقَضَاءُ بَيْنَ النَّاسِ وَالفَصْلُ فِي خَصًومَاتِهِمْ، وَتَرْجِيحُ حُجَجِهِمْ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ عَمَلِيَّةٌ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الدِّقَّةِ. (على غاية من الدقة: شديد الدقه، (الغاية: الفائدة المقصودة، بلغ الغاية وصل الى ما يريد.) فَالقَاضِي يَحْمِلُ مِيزَانَ العَدْلِ، وَلَيْسَ عَمَلُهُ إِلاَّ المُوَازَنَةَ بَيْنَ الكَفَّتَيْنِ المُتأَرْجِحَتْينِ. وَمِنَ المُفِيِدِ أَنْ نَقُولَ، إِنَّهُ مِنَ النَّادِرِ أَنْ تَجِدَ إِحْدى الكَفَّتَيْنِ خَالِيَةً مِنْ كُلِّ حُجَّةٍ (الحجة: البرهان.) أَوْ دَلِيلٍ بِحَيْثُ تَهْبِطُ الكَفَّةُ الثَّانِيَةُ بِثِقَلِهَا إِلَى الأَرِضِ.
ذلِكَ لأَنَّ المُتَنَازِعِينَ، لاَ يَصِلُونَ إِلَى المَحْكَمَةِ، إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَسْتَنْفِدُوا (يستنفدون: يفرغون، يكملون.) جَمِيعَ وَسَائِلَ التَّفَاهُمِ، وَأَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ وِجْهَةُ نَظَرٍ لَهَا مُؤَيَّدَاتُهَا وَدَعَائِمُهَا. فَعَمَلِيَّةُ المُوازَنَةِ وَالمُفَاضَلَةِ وَتَرْجِيحِ الأَدِلَّةِ، هِيَ عَمَلِيَّةٌ تَحْتَاجُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الحَصَافَةِ (الحصافة: جودة الرأي.) وَقَدْحِ (القَدْحُ: استخرج النار بضرب الزند على حجر الصوان. ومن هنا كلمة قَدّاحة، وقدح ذهنه أي أعمله لإستخراج الرأي الصواب كما تستخرج النار بالقدح) الذِّهْنِ فّضْلاً عَنِ العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ.
فَالَّذِينَ يَتَرَاءَى لَهُمْ بِأَنَّ القَضَاءَ بَيْنَ النَّاسِ مُهِمَّةٌ وَيَسِيرَةٌ، قَدْ أَخْطَأُوا فِيمَا يَرَوْنَهُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ لاَ يَهُمُّهُمْ الدِّقَّةُ فِي العَدْلِ، وَيَكْتَفُونَ بِأَدْنَى الفَهْمِ دُونَ اَقْصَاهُ وَبِالسَّطْحِيِّ مِنَ الأَفْكَارِ دُونَ عَمْقِهَا.
مَهَابَةُ القُضَاةِ
يَقُولُ الدُّكْتُورُ طهَ حُسَيْن:
"لَسْتُ أَدْرِي لِمَاذَا آسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِ النَّاسِ أَنَّ العَدْلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَائِماً عَابِساً وَلاَ يَعْرِفُ وَجْهُهُ الابْتِسَامَ، مُقَطِّباً لاَ تَعْرِفُ أَسَارِيرُهُ الانْبِسَاطَ، صَارِمِاً لاَ يَعْرِفُ اللَّيِنَ، مُرَّ الحَّدِّ لاَ يَعْرِفُ حَلاَوَةَ الدُّعَابَةِ وَلاَ
*165*
عُذُوبَةَ الفُكَاهَةِ وَلاَ رِقَّةَ الحَدِيثِ. وَأَنَّ الَّذِينَ يُجْرُونَهُ بَيْنَ النَّاسِ يَجِبُ أنْ يَكُونُوا مِثْلَهُ صُوَراً لِلرَّهْبَةِ وَالهَيْبَةِ الَّتِي تَطِيرُ لَهَا النُّفُوسُ فَرَقاً وَإِشْفَاقاً (الفَرَقُ الخوف.) أَيَكُونُ ذلِكَ لأَنَّ العَدْلَ يُمَثِّلُ السُّلْطَانَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ مِنَ الإِجْلاَلِ وَالإِكْبَارِ وَمِنَ التَّوْقِيرِ وَالتَّعْظِيمِ؟"
وَيَظْهَرُ أَنَّ ابْنَ حَرْبَوَيْهِ وَهْوَ مِنْ قُضَاةِ الجِيلِ العَاشِرِ كَانَ يَأْتَمُّ بِهذِهِ المَزَايَا.
قَالَ المُؤَرِّخُ: وَكَانَ ابْنُ حَرْبَوَيْهِ مَثَلاً لِلْقُضَاةِ، فَكَانَ مَهِيباً وَافِرَ الحُرْمَةِ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يَأْكُلُ وَلاَ يَشْرَبُ وَلاَ يَلْبَسُ وَلاَ يَغْسِلُ يَدَهُ وَلاَ يَحُكُّ جِسْمَهُ وَلاَ يَبْصُقُ وَلاَ يَمْسَحُ وَجْهَهُ وَلاَ يَتَحَدَّثُ مَعَ أَحَدٍ وَلاَ يُصْلِحُ رِدَاءَهُ وَلاَ يَبْتَسِمُ.
وَقَدْ تَعَرَّضَ أَهْلُ النَّظَرِ (الإشفاق: الخوف (وكذلك معناها الشفقة).) لِلْبَحْثِ فِي جَمِيعَ الأُمُورِ الصَّغِيرةِ الَّتِي قَدْ تُؤَثّرُ عَلَى عَدَالَةِ القَاضِي وَتَسَاءَلُوا مَاذَا يَجْبُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ القَاضِي عَمَّنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ؟ وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ النَّظَرِ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقولَ: وَعَلَيْكُمْ! وَلاَ يَزِيدُ عَلَى ذلِكَ شَيْئاً لأَنَّ هذَا يَكْفِي! أَمَّا إِنْ قَالَ وَعَلَيْكُمُ السَّلاَمُ، فَإِنَّ كَلِمَةَ السَّلاَمِ زِيَادَةٌ فِي الجَوَابِ.
أَمَّا اليَوْمَ فَأَهْلُ النَّظَرِ (أهل النظر: أصحاب المعرفة والمؤهلون بالحكم والفضل.) لاَ يَرَوْنَ حَرَجاً فِي أَنْ يَبْتَسِمَ القَاضِي وَأَنْ يَغْسِلَ يَدَهُ فَلَيْسَ فِي ذلِكَ مَا يُضِيرُ العَدَالَةَ.
فَإِذَا كَانَ العِلْمُ وَالعَقْلُ وَالجَلاَلُ وَالوَقَارُ مِنَ الصِّفَاتِ الرَّئِيسِيَّةِ الوَاجِبَةِ فِي القَاضِي، فَإِنَّ ذلِكَ لاَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ القَاضِي ذَا إِحْسَاسٍ مُرْهَفٍ وَمَشَاعِرَ رَقِيقَةٍ فَيَكُونَ أَدِيباً وَشَاعِراً، وَقَدْ عَرَفَ التَّارِيخُ العَرَبِيُّ قُضَاةً أُدَبَاءَ وَشُعَرَاءَ كَانَ لَهُمْ نِتَاجٌ ضَخْمٌ فِي الأَدَبِ وَالشِّعْرِ.
علي مروة، موسوعة الأدب الضاحك، ج (4)، طرائف القضاة، ص (19).
*166*
الأسئلة:
1. لماذا شبهَ الكاتب القاضي بحامل الميزان؟
2. كيف انطبعت صورة العدل في نفوس الناس حسب ما ورد في قول طه حسين؟
3. ما وجه الشبه بين هذه الصورة وبين القاضي حربويه؟
.4قارن بين القضاة الذين يتحدث عنهم طه حسين وبين قضاة عصرنا؟
5. أكتب معاني الجمل التالية:
أ. القضاء عملية على غاية من الدقة.
ب. القضاء عملية تحتاج الى الحصافة وقدح الذهن فضلاً عن العلم والمعرفة.
6. استعمل في جمل مفيدة: أدنى، أقصى، تطير له النفوس، لا يرى حَرَجاً في...
*167*
*167*
كمال منصور
مسؤوليةُ الآباءِ نحوَ أَبنائِهم جسيمةٌ حافلةٌ (حافلة: مليئة.) بالآلتزاماتِ (الالتزامات: المسئوليات التي نلتزم بتحملها.) والتوجيهاتِ والإرشاداتِ وكلمَا غَطَّتْ قِسْماً كبيراً من حياةِ الأَبناءِ كانت لهم الساعدَ الايمنَ فِي شقِّ طريقِ المستقبلِ بخُطُواتٍ ثابتةٍ قويةٍ. أَما إذا أَهملَ الآباءُ هذا الامرَ فسيجرُّ عليهِمْ (الوبال: الشدائد.) الوَبَالَ والمشاكلَ الَّتِي تقِفُ حائِلاً دونَ نَجاحِ الابناءِ، وَهْوَ أُمنيةُ الاباءِ وحُلُمُهُمْ الاكبرُ.
إِنَّ المدرسةَ وحدَها ليستْ كفيلةً برعايةِ الأبنَاءِ. إِنها توفرُ لِلأبناءِ حقاً العلمَ والمعرفةَ والثقافةَ والتعاملَ مع الغير، إلاَّ أَنَّ مهمتَها تَظَلُّ ناقصةً ما لَمْ تكمِلْهَا حركةُ تربوِّيةٌ من داخل البيتِ عَلَى لسانِ الوالدَيْنِ بطريقِ الموْعِظةِ الحسنةِ والتوجيهِ الصحيحِ والعنايةِ المضمونةِ.
وفي عصرنا الحاضرِ تطورتِ العلاقاتُ بين البيتِ والمدرسةِ وصارتْ جزءً لا يتجَزأُ من الثقافةِ السليمةِ، وهكذا فقدْ أَصْبَحَتْ لجانُ الأباءِ ولقاءاتُهُمْ مع المدِّرسينَ امراً لا يمكنْ الآستغناءُ عنه في عمليةٍ تربية وتثقيفِ الجيلِ الجديد.
لقد اشتركتُ مؤخرا في لقاءِ للآباءِ والابناءِ مع هيئةِ التدريس في المدرسةِ التي يتلقى فيها ولدي علومَه، ولاحظتْ الاعدادَ الكبيرةً منَ الاباءِ الأُمهاتِ الذين تفرَّغوا من كل عمل ورافقوا اولادَهم للمدرسةِ للتعرُّف على إِنجازاتِهم وَمَشَاكِلِهِمْ والاخذِ بيدهمْ (اخذ بيده: ساعده.)
إِن الأَباءَ الذين لا يَجِدُون مُتُسَعاً من الوقتِ لأَبنائِهمْ للاصغاءِ والارشادِ والتوجيهِ، بينما ينغمسونَ في شؤونِ الحياةِ طَمَعاً في مالٍ أو جاهٍ أو مركز، قد يخسرونَ ابناءَهم، ويخطئُّ الأباءُ إِن ظنُّوا أَنَّ الحياةَ وحدَهَا كفيلةٌ بأن
*168*
تَمْنَحَ ابناءَهم التجاربَ، لأَنها - أي الحياةُ - لا تخلو من شوائبَ قد تنغرسُ في مفاهيمِهِمْ فَتُسَبِّبُ لهمُ مشاكلَ ومصاعبَ فِي المستقبل.
وَسنَّةُ الحياةِ (سنة الحياة: السنة الطريق أو العادة المتبعة.) تُعَلِمُنَا أَنَّ الخلفَ سَيَحْمِلُ رسالةَ السَّلَفِ، والأَجيالَ القادمةَ ستنقلُ عن الاجيالِ السابقةِ التراثَ والانجازاتِ والمشاكلَ. وكلَّما زادَ التعاونُ بينَهُما كان النجاحُ أَكبر، وفي وقت أقصر.
كمال منصور - من جعبتي 1979 ص 121- ص 122
كمال منصور:
ولد في قرية عسفيا سنة 1931 تلقى علومه المدرسية في اسرائيل ولبنان والتحق بالجامعة العبرية في اورشليم القدس. عمل منذ سنة 1956 مديراً للواء الشمال في دائرة الارشاد المركزية، سنة 1970 اسند اليه المرحوم زلمان شازار، رئيس الدولة حينها، منصب مستشار رئيس الدولة للشؤون العربية. وما زال يشغل هنا المنصب. أصدر مجموعة مقالات تحت عنوان "من جعبتي".
الأسئلة:
1. عن اية التزامات يتحدث الكاتب في بداية القطعة؟
2. كيف يريد الكاتب أن يرى العلاقة بين المدرسة والآهل؟
أين تجد الكاتب يعارض المثل العامي القائل: "ابنك لا تعلمْه فالدهرُ يعلمْهُ".
3. ما هو التعاون الذي يريده الكاتب في نهاية القطعة؟
*169*
*169*
كمال جنبلاط
جَاءَ القُرْآنُ الكَرِيمُ بِقَوْلِهِ: "وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ"، وَسَبَقَ مِنْ كَلاَمِ التَّوْرَاةِ فِي ذِكْرِ عُنْصُرِ المَاءِ فِي بِدَايَاتِ التَّكْوِينِ: "وَرُوحُ اللّهِ كَانَتْ تَسْبَحُ فَوْقَ المِيَاهِ الأَزَليَّةِ الأُولَى، وَكَانَ رُوحُ اللّهِ يَرِفُّ عَلَى المَاءِ".
وَقَدْ يَكُونُ فِي تِلْكَ أَيْضاً سِرُّ حُلُولِ الحَيَوانِ فِي بَادِيءِ البَدْءِ فِي مِيَاهِ البِحَارِ، قَبْلَ أَنْ تَتَكَوَّنَ عَلَى الأَرَاضِي اليَابِسَةِ، كَمَا يُخْبِرُنَا عِنْ ذلِكَ عُلَمَاءُ طَبَقَاتِ الأَرْضِ وَسُلاَلاَتِ الحَيَاةِ. وَلِذَا كَانَتْ مِيَاهُ البِحَارِ المَالِحَةُ تَتَسَرَّبُ وَتَدُورُ فِي شَرَايينِنَا أَوْرِدَتِنَا تَذْكِرَةً لِلْنَّشْأَةِ الأُولَى، وَتَسْبَحُ فِيهَا خَلاَيَانَا وَنُقَطُ دِمَائِنَا فَتَتَغَذَّى بِهَا وَتَحْيَا بِعُصَارَةِ مَا يَنْفَذُ إِلَيْهَا مِنْ عَمَلِيَّاتِ هَضْمِ الطَّعَامِ وَامْتِصَاصِهِ.
عَلَى أَنَّ المَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ زُلاَلاَ طَاهِراً فَلاَ تُدَنِّسُهُ الأَوْعِيَةُ المُنْفَعِلَةُ، وَلاَ تُسَمِّمُهُ الوَانُ الأَدْوِيَةِ القَاتِلَةِ لِلْجَرَاثِيمِ وَلِلْحَيَوَانَاتِ الصَّغِيرَةِ الَمَجْهَرِيَّةِ فِي آنٍ وَاحِدٍ.
وَلَقَدْ جَعَلَ اللّهُ الَماءَ مَسْكُوناً بِشَتىَّ الوَانِ الَحَيوَانِ، كَمَا جَعَلَ التُّرَابَ وَالهَوَاءَ كِلَيْهِمَا مُمْتَلِئاً بِشَتىَّ الوَانِ الكَائِنَاتِ الحَيَّةِ. فَأَفْضَلُ المِيَاهِ هِيَ المِيَاهُ الطَّبيعِيَّةُ الَّتِي لَمْ تَتَسَلَّلْ إِلَيْهَا يَدُ المُطَهِّرِينَ المُصْطَنَعِينَ، هِيَ مِيَاهُ اليَنَابِيعِ كَمَا تَنْبَجِسُ (تنبجس: تخرج.) مِنْ أَفْوَاهِ طِينِهَا، فَنَسْتَسِيِغُ (نستسيغ شرابها: نجده صالحاً سائِغاً.) شَرَابَهَا طَهُوراً.
وَعَلاَوَةً عَلَى ذلِكَ، فَإِنَّ هذِهِ المِيَاهَ الَّتِي يَتَصَوَّرُونَ أَنَّهُمْ طَهَّرُوهَا بِالأَدْوِيَةِ وَسَائِرِ الوَانِ التَّعْقِيمِ، تَعُودُ ثَقِيلَةً عَلَى المَعِدَةِ وَالأَمْعَاءِ، وَتُسَبِّبُ شَتىَّ الوَانِ الأَمْرَاضِ، وتُؤَخِّرُ فِي عَمَلِيَّاتِ الهَضْمِ وَفِي امْتِصَاصِ الأَغْذِيَةِ.
*170*
وَأَفْضَلُ الأَشْرِبَةِ مَا كَانَ قَلِيلَ الأَمْلاَحِ الكِلْسِيَّةِ، وَاعْتِبَارُهُ أَنْ يَكُونَ قَابِلاَ لِلتَّبْرِيدِ السَّرِيعِ عِنْدَمَا يُوضَعُ فِي إِنَاءٍ فَخَّارِيٍّ، وَيُسَمُّونَ ذلِكَ فِي اللُّغَةِ الدّاَرِجَةِ: الَّذِي يُرَبَّى فِي الإِنَاءِ.
وَيَجِبُ اجْتِنَابُ المِيَاهِ الأَسِنَةِ (المياه الاسنة: المياه الفاسدة.) أَوْ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا النَّبَاتُ وَالطُّحْلُبُ. وأَفْضَلُ طَرِيقَةٍ لِتَصْفِيَةِ المَاءِ هِيَ وَضْعُهُ فِي الفَخَّارِ وَتَرْشِيحُهُ مِنْهُ. وَالفُخَّارُ مَصْنُوعٌ مِنَ الطِّينِ الَّذِي يَنْبَجِسُ مِنْهُ المَاءُ. وَأَهْنَأَ الشَّرَابِ وَأَمْرَؤهُ (المريء: الصالح الحسن.) الَّذِي يُشْرَبُ بِالفُخَّارِ وَالخَزَفِ. وَقِيلَ فِي المَثَلِ الدَّارِجِ: الفَخَّارُ هَنِيءٌ مَرِيءٌ، أَمَا الخَشَبُ فَمَرِيءٌ غَيْرُ هَنِيءٍ، أَمَّا الزُّجَاجُ فَلاَ هَنِيءٌ وَلاَ مَرِيءٌ.
وَمِنْ أَدَبِ الشُّرْبِ فِي صَوْنِ صِحَّةِ البَدَنِ، تَجَنُّبُ شُرْبِ الكُحُولِ وَهذِهِ الأَشْرِبَةِ المَوْضُوعَةِ فِي القَنَانِي الَّتِي تَعَدَّدَتْ الوَانُهَا وَكَثُرَتْ أَصْنَافُهَا، وَلاَ يَعْلَمُ أَحَدُنَا هذَا الَّذِي وُضِعَ بِهَا وَمَا هُوَ تَرْكيبُها. هِيَ فِي العُمُومِ تَنْفُحُ البَطْنَ وَتُقَرْقِرُهُ، وَتُحْدِثُ شَتىَّ أَمْرَاضِ المَعِدَةِ، وَتُمَدِّدُ أَغْشِيَةَ الهَضْمِ. فَالبِطْنَةُ أَسَاسُ الدَّاءِ.
ادب الحياة - كمال جنبلاَط، دار صادر - بيروت 1972
الأسئلة:
1. يرى كمال جنبلاَط ان الماء اساس الحياه، كيف يفسر هذا الاعتقاد؟
2. ما هي المياه الصالحة للشرب؟
3. أي المياه لاَ ينصحنا الكاتب بشربها؟
4. لماذا يعارض جنبلاَط شرب الكحول؟
*171*
*171*
(مجلة الضحى)
العملُ شرطٌ لصحَّةِ النفسِ وصحةِ البدَنِ.
والبطالةُ آفةٌ تؤثّر فِي النفسِ والقلبِ والجوارحِ. فَمَنْ أُوتِيَ نِعْمَةَ المعرِفَةِ، انصَرَفَ إِلَى العملِ لِيَكْسبَ طَعاماً حلالاً يَرْضَى عنه الله.
والعملُ كنزُ الانسانِ فِي دنياه وذخرُهُ فِي الآخرةِ. إِذ لا يمكن لمؤمن أن يبلغَ مرضاةَ اللهِ من غيرِ العمل.
فالبطالةُ إِذنْ كفرٌ.
وقد أبدعَ الله المخلوقاتِ جَميعَها لكي تعملَ وتكسبَ قوتَها. وخلقَ الإنسانِ ليكونَ العملُ سببَ عيشِهِ، وطريقَةُ إِلَى العرفانِ والشوقِ والاعترافِ بالمِنَّةِ.
فالعقلِ إِذا توقف عن العمل، عَفًنَ الفكرُ، ووهُنَ الذهُن، وأَصاب صاحبَهُ الخَبَلُ، فغاب عنهُ نورُ الخالق.
والنفسُ الَّتِي لا تعمَلُ تفقِدُ علاقَتَها بالعقلِ فتنجرفُ إِلَى الفساد.
والعقلُ نورُ النفسِ، فإِذا بَطُلَ عمَلُه انطفأَتْ امامَ النفسِ الحقائق.
العملُ إذِنْ مادِّي ومعنَوِيُّ.
المادّي يقومُ عَلَى حرَكَةِ الاعضاءِ.
والمعنوي يقومُ عَلَى النفسِ والعقلِ.
*172*
والأجاويدُ يقومونَ بالعملِ عَلَى نَوعَيْةِ، فيتعاطَوْنَ الزراعةَ لأَنَّها تُقَّوي أَجسادَهم، وتُكسِبَهُمْ الصحَّوُ، وتساعدُ عَلَى سلامةِ انسجامِ أَعضاءِ الجسمِ واتحادِ عملها.
كما أَنهم يُدركونَ قيمةَ العقلِ وارتباطَهُ بالنفس، فَيعملونَ عَلَى تنقيةِ عقولِهمْ وتطهيرِ نفوسِهم، صارفينَ تفكيرَهم إِلَى الخير والسَّعْيِ إِلَى طُمأنينةِ الإنسانِ من خلالِ الخيرِ فِي داخلهم.
والعملُ عندَهم قيمتُهُ فِي نظافتِهِ وَفِي علوِّ مأْرِبهِ. لذلكَ يعملونَ فِي الارضِ، لأنَّهَا تعطيهم غِلَّةً صادقةً مشروعةً، وتمنحُهُمْ خشونةَ الجَسدِ وليونةَ النفسِ، وتهذيبَ الخُلُقِ، والفهمَ العميقَ للحياةِ، من خلالِ الشجرةِ والنبتةِ وقطرةِ الماءِ، وحباتِ الترابِ الَّتِي هِيَ مصدرُ الغذاء.
وهم يراعونَ فِي عَمَلِهِمْ الأمانةَ والدقَّةَ وحسنَ النيةِ. فما كانَ منه مأجوراً نَبَذُوهُ، لاَنَّ جزاءَ العملِ الرِّضَى عنْهُ واحترامَه.
لذلكَ يُصَلُّونَ عَلَى المَيِّتِ رافضينَ أن يقبضُوا عَلَى الصالةِ مالاً. ويقومون بأعمالِهِمْ الدينيةِ مهما كان نوعُها، دون مقابل.
فأجرُ الانسانِ سلامةٌ نيَّتِهِ فِي العملِ، وقيامُهُ بالواجبِ الانسيِّ، واستشراقُ صورةِ اللهِ فِي كل حركة.
وهمّ لا يهتمونَ فقطْ بأعمالِهِمْ الخاصةِ، بل يَنْفُرُونَ من أي عملٍ يقومُ به الآخرونَ عَلَى غيرِ شرعةِ الحقِّ. لذلك لا يتسلمونَ مالا من رجُلٍ لا يثقون بشرفِ عمله أوْ طهرِ نفسِهِ أَوْ نصاعةِ مأْربه.
"الضحى" - بيروت
*173*
الأسئلة:
1. فسِّر الاصطلاحات التالية معتمداً على النص:
أ. العمل المادي.
ب. العمل المعنوي.
ج. البطالة.
2. ما هو شرط العمل عند الاجاويد - استعن بالامثلة؟
3. ما هو الاجر الحقيقي في نظرهم؟
4. لماذا يفضل الاجاويد العمل في الارض؟
5. أشر الى الجمل التي تتحدث عن:
أ. العلاقة بين النفس والعقل.
ب. العلاقة بين العمل المادي والعمل المعنوي.
6. أي صفات مما ذكر في القطعة لاحظتها في سلوك الاجاويد الذين تعرفهم؟
7. إنسخ الجمل التي تحتوي على الكلمات التالية في النص واستبدل هذه الكلمات بكلمات اخرى من عندك (يستحسن الاستعانة بالقاموس).
أبدع، المنة، وهن، يتعاطون، يراعون.
8. كيف فهمت التعابير التالية في القطعة:
العرفان، والشوق، نور الخالق.
9. استخرج الافعال المتبوعة بحرف جر وبين معنى الجملة. مثل (انصرف الى العمل).
10. في بعض الافعال التي اخترتها يمكن تغيير حرف الجر بآخر أو الاستغناء عنه، جرّب أن تغير الحرف أو أن تستغني عنه، حيث يمكن ذلك، ثم بيّن المعاني الجديدة للجمل.
*174*
*174*
خليل تقي الدين
الأرضُ من دونِ سائرِ الكائناتِ لا تكذِبُ ولا تُراوِغُ (تراوغ: تخادع)، ولا تخفُرُ (لا تخفر العهود: لا تخون) العهودَ.
قد تكذبُ السماءُ فلا تمطرُ، وتزوغ الرَّيحُ (تزوغ الريح: تضطرب، زاغ عن الطريق: مال) فتقتلعُ الأَشجارَ وتُعمي الأَبصارَ ولا تُبقى ولا تَذرُ.
وَيَخْفُر البحرُ عهْدَ راكبيهِ فإِذَا صفحتًهً الهادئَةُ جبالٌ تعلوها جبال، وأمواجُه أكفانٌ، ولُجَجُهُ رموسْ (رموس: جمع رمس وهو القبر)، وَشُطآنُه الهانئةٌ شِفَاهٌ مُزْبِدَةٌ تلفُظُ (تلفظ: ترمي، لفظ الشيء من فمه: قذفه، لفظ أنفاسه: مات، لفظ البحر الجثة: قذفها الى الشاطئ، اللفظ: الكلام لأنه يرمى به من الفم) الجُثَثَ البالياتِ.
ويكذِبُ الجَدْوَلُ فيغورُ، والينبوعُ فيجفُّ، والغُصنُ فلا يورِقُ، والزَّهرةُ فلا تعبَقُ ولا تعقدُ ولا تُثمِرُ. وتكذبُ الشمسُ فتَتَوارَى، والقمرُ فلا يطلُعُ، والنُّجُومُ فتغيبُ، ويغدرُ الوردُ فيقدِّمُ لك الشوكَ والوخزَ بدلاً من الحُسنِ والشذا.
وأَمَّا الأَرضُ وحدَها فَهِيَ الَّتِي لا تَتَبدَّلُ ولا تروغُ ولا تكذبُ ولا تخون.
فالمنزلُ الَّذي تأَوي إِليهِ قَدْ تَتَداعَى (تتداعى: تنهدم دون ان تسقط) جُدْرانَه فيتهدَّمُ عَلَى رًأْسِك. واللقمةُ الَّتِي تزدردُها (تزدردها: تبتلعها) قد تُخِفي فِي طَيَّاتِها السُّمَّ الزُّعاف (السم الزعاف: السم القاتل بسرعة) والقميصُ الَّذي تلبسُهُ قد يخنُقُك، والحذاءُ الَّذي تنتعلُهُ رجلاكَ قد يسير بكَ إِلَى الهاويةِ، والسريرُ الَّذي يضُمَّكَ قد يُصبح لحدَك. الصديقُ الذي محضتَهُ (محضته الود: أخلصت له الود) قد يَتَغيَّرُ وَيَجْفُوكَ، والحبيبُ الذي أحرقتَ البَخُّورَ عَلَى قدميهِ قد ينساك.
وَأَما الأَرضُ، الأَرضُ وحدَها، فهي الأُمنيةُ الوفيَّة، وهي الَّتِي لا تنْسَى ولا تخون.
انظر إِلَى الموتِ والزمانِ يَأْتِيَانِ عَلَى كلِّ شيءٍ، وكلِّ أحدٍ، من دون الأَرض.
*175*
كلما عَصَفَ المَوتُ بجيلٍ من الأَجيالِ، وطوى الزَّمانُ بعضَ صَفَحَاتِهِ وقفَنا نقول: "هنا وقفَ قيصرُ، وهنا مرَّتْ جحافل هَنِيبَال وتلك طريقُ الفاتحين".
نقفُ عَلَى الأَرضِ ونستشهدُ بالأَرضِ، والأَرضُ تَضحكُ وتحفظُ وتجيبُ. أَليسَ عجيباً أن القنبلةَ الَّتِي تنفجرُ عليكِ تغمرُ بالموتِ كلُّ شيءٍ فإِذَا فتحتْ فيكِ أَثلاماً تفجَّرتْ منك الحياةُ!.... أنتِ حقاً أمُّنا أَيَّتُهَا الأَرض!
خليل تقي الدين "خواطر ساذج"
خليل تقي الدين:
ولد في بعقلين سنة 1906 وحصل على ثقافته في مدارس بلدته ثم في بيروت. يعتبر من كتاب القصة الاوائل. اشغل مناصب حكومية وانشغل بالكتابة والادب وأهم ما خلّفه مجموعة "عشر قصص من صميم الحياة" وكتاب "الاعدام"، وتوفي سنة 1991.
الأسئلة:
1. اكتب الجمل التي وردت فيها التراكيب التالية بلغتك:
أ. من دون سائر.
ب. لا تبقي ولا تذر.
ج. يأتي على كل شيء.
د. تنفجر منك الحياة،.....
2. ما هو عكس التعابير التالية:
أ. تخفر العهد. ب. تتوارى الشمس. ج. يطلع القمر. د. محضته الود.
3. تحدث بلغتك عن الريح أو البحر أو الورد في حالتي الوفاء والغدر.
4. لماذا جعل الكاتب عنوان القطعة أمنا الارض؟ هل تقترح عنواناً آخر؟
5. جد المقطع الذي يوحي بان كل شيء يتغير واما الارض باقيه شاهدة لا تتبدل.
*176*
*176*
ميخائيل نعيمة
ها نحنُ في ليلةٍ من ليالي آب، ليلةٍ فِي أنفاسِها وَجْدٌ (الوجد: الشوق الشديد)، وفِي عيونها أقمارٌ ومَجَّرَاتٌ، وفي قلبِها صحائفُ انطوتْ على كلِّ ما حفِظَتْهُ ذاكرةُ الزمان.
السنابلُ مفروشةٌ عَلَى البيدرِ فِي انتظارِ النَّورَجِ (النورج: لوح خشبي تجره البهائم على البيدر لتهشيم السنابل) في الصباحِ، وأَنا قد افترشتُ بعضَها، وتدثّرتُ ببعضِها، ورُحت أدغدغ (ادغدغ، أداعب) بأَنامِلي ما جاوَرَنِي منها، فتارَةَ أَرفُعها إِلَى فَمِي فأُقبِّلها، وأُخرى أُدنيها من أَنفي فأَشمُّها، وطوراً أمرُّ بها على جَبيني وأَجفاني. وما أَنفكَّ أَداعِبُها حتى أُحسُّني كواحدٍ منها، أَجلْ أنا كذلك سنبلةٌ على البيدر.
وإِذا السنابلُ أَكثرُ من نُبيتاتٍ هيفاءِ القدودِ تحملُ في رؤوسها القوتَ والنشاطَ للناس؛ - إِذا بهنَّ سميراتٌ لا مثيلَ لَهُنَّ بين السُمَّارِ (السُّمار: رفاق السهر)؛ فهذهِ تَروي لي حكايةَ أوَّل حبَّةٍ من القمح بذَرَ اللهُ في الترابِ، وتلكَ تُخبرني عن جندبٍ تَيَّمَتْهُ (تيمته: جعلته عاشقاً) فَماتَ دنَفاً، وثالثةٌ تُعيدُ على مسمعي ترانيمَ شحرورِ تَنَسَّكَ في جوفِ صخرةٍ، ورابعةٌ تقصُّ عليَّ ما أَسَرَّهُ إِليها ثلجُ كانونَ وبنَفسجُ آذار.
والقمرُ والنجومُ من فوقُ تُصغي وتتغامزُ وتتهامسُ، ثم تَتَدَلَّى إِلينا على حبالِ من نورِها نظيرَ العنكبوتِ على خيطٍ من خيوطِها، فتتعانَقُ النجومُ والسنابلُ، وتتطارَحُ (تتطارح: تتبادل) أحاديثُ مودّةٍ قَهرتْ الزمانَ والمكانَ، وتنفتحُ مغالقُ الأَعماقِ وتنحلُّ طلاسمُ الأَعالي، وإِذا الترابُ دراريُّ ترابٌ. وإِذا الظلامُ في بؤبؤ النورِ، والنورُ في كبدِ الظلامِ. وإذا الكلُّ مزيجٌ طيبُ المذاقِ، فائقُ السناء. فَما أَفسحهُ بيدراً - ذاك الذي أنا عليه - يسع الأَرضَ
*177*
والسماءَ. بل ما أعجبني سنبلةً لها في كلِّ نجمٍ تربةٌ وبيدَرٌ. بل ما أكرمَها يداً تلك التي بذرتني ولا تزالُ تبذْرِنُي منذُ اللابدايةِ في كل بقعةٍ من بقاعِ الأَرضِ والسماءِ ثم تحصُدُنِي، ثم تَدرُسُني وتُذَرِّيني، ثم تبذُرُني من جديدٍ في رحابِ اللانهايةِ إِلَى أن أجمعَ في قبضتي اللابداية واللانهاية!
ميخائيل نعيمة
المنتخب من أدب المقالة للقراءة والإنشاء
د. كمال البازجي، د. أميل المعلوف، بيروت، 1980، ص 224
ميخائيل نعيمة: (انظر ما ورد عنه بعد قصيدة النهر المتجمد).
الأسئلة:
1. ماذا رأى ميخائيل نعيمة في تلك الليلة من ليالي آب ما لا تراه الناس العاديُّون؟
2. ما قصد نعيمة بقوله: "أحسني كواحدة منها، أجل أنا كذلك سنبلة على بيدر..."؟
3. بماذا تختلف سنابل ميخائيل نعيمة عن السنابل التي تعرفها؟
4. تخيل أنك سمعت احدى السنابل وهي تروي للكاتب قصة أول حبة قمح بذرها الله في التراب؛ سَجّل ما سمعته؟
5. أحاديث المودّة بن السنابل والنجوم قهرت الزمان والمكان، بماذا قهرتهما.
6. ما هو المزيج الطيب المذاق السناء الذي يذكره ميخائيل نعيمة؟
7. أشر الى الجمل التي يظهر فيها ايمان الكاتب بالخلود؟
8. مم ينبهر الكاتب في الجمل التالية: "ما أفسحه بيدراً"، "ما أعجبني سنبلة"، "ما أكرمها يداً".
*178*
*178*
جبران خليل جبران
تَسيرُ الموسيقى، أَمام العساكرِ. إِلَى الحربِ فتجّددُ عزيمَة حِميَّتِهِمْ وتقويهمْ عَلَى الكفاحِ، وكالجاذبيةِ تَجمعُ شتاتَهم وتؤلفُ منهم صفوفاً لا تتفرق.
ما سارت الشعراءُ، أمام الكتائب إِلَى ساحاتِ القتال، موطن المنيةِ (المنية: الموت)، لا ولا الخطباءُ، ما رافقتهمُ الأَقلامُ والكتبُ، بل مشت أَمامهُمُ الموسيقى كقائدٍ عظيمٍ، يبعثُ بأجسامِهم الواهنةِ (الواهنة: الضعيفة)، قوةً تفوقُ الوصفَ، وحميَّةً تُنبهُ فِي قلوبِهم الانتصارَ فيغالبونَ الجوعَ والعطشَ وتَعَبَ المَسيرِ، ويدافعون بكلِّ ما فِي أَجسادِهمْ من القوةِ، ووراءَها يسيرونَ بفرح وطرب ويتبعون الموتَ إِلَى أَرْضِ العدوِّ المبغوضةِ. كذا يستخدم ابنُ أَقدسَ ما في الكون لتعميمِ (تعميم: نشر) سرورِ الكون.
الموسيقى رفيقةُ الراعي فِي وحدَتِه، وهو إن جلَس عَلَى صخرةٍ فِي وسط قطيعِهِ نفخَ بشُبَّابتِهِ الحاناً تعرفُها نعاجُه فترعى الأعشابَ آمنة. والشبابةُ عندَ الراعي كصديقٍ عزيزٍ لا تفارقُ وَسطهُ، ونديمٍ (نديم: سمير ومؤنس) محبوب، تستبدل سكينةَ الوديانِ الرهيبةَ برياضٍ مأهولةٍ، وتقتلُ بأنغامِها الشجيَّةِ (الشجية: الحزينة) وحشتَها، وتملأُ الهواءَ أُنساً وحلاوةً.
الموسيقى تقودُ اظعان (أظعان: مواكب ومجموعات المسافرين) المسافرينَ وتخفِّفُ تأثيرَ التعبِ وتُقَصِّرُ مديدَ الطُّرُقَاتِ. فالعِيسُ لا تسيرُ فِي البيداءِ الا إذا سَمعَتْ صوتَ الحادي، والقافلةُ لا تُقيمُ الأحمالَ إِلَّا إذا كانت الأجراسُ معلقةً برقابِها. ولا بِدَعَ (لا بدع: لا عجب) فالعقلاءُ في أيامنا هذهِ يُربّون الضَّواري (الضواري: الوحوش المفترسة) بالألحانِ ويُدَجِّنُونَها باصواتٍ عذبة.
الموسيقى ترافق أَرواحَنَا وتجتازُ مَعَنا مراحلَ الحياةِ، تُشاطِرُنا الأَرزاءَ والأفراحَ وتقاسِمُنا السَّراءَ والضَّرَّاء في أَيامِ مسرَّتِنَا في أيام شقائِنا.
*179*
يأتي المولودُ مِن عالم الغيبِ إِلَى دنيانا، فتُقابلهُ القابلةُ (القابلة: الدابة) والاقاربُ بأغاني الفرحِ، مُتَهَلِّلينَ بأناشيدِ الابتهاجِ الحبور. يُحيِّهِمْ عندَمَا يَرى النورَ بالبكاءِ والعويلِ فيحيُّونَه بالتهليلِ والهُّتافِ كأَنَّهمْ يسابقونَ بالموسيقى الزمانَ عَلَى إِفهامه الحكمةَ الالهيةَ.
وإذا مَا بَكى الرضيعُ اقتربت منهُ والدَتهُ وغنَّتْ بصوتِها الموسيقيِّ المملوءِ رقةً وحنواً فَيَكُفُّ عن البكاءِ ويرتاحُ لأَلحانِ أُمهِ المتجسمةِ من الشَّفقةِ وينامُ. ولا ينامُ الطفلُ لو تكلمتِ الوالدةُ بلسانِ شيشرونَ (شيشرون: خطيب يوناني قديم) أو قرأت ابن الفارض (ابن الفارض: فيلسوف وشاعر صوفي).
ينتقي الرَّجُلُ شريكةَ حياتِهِ وتتحدُ أَنفاسُهما بربطِ الزواج. متممينَ وصيةً كتبتْها الحكمةَ منذ البَدءِ على قلبيهمَا، فيجتَمِعُ الأَقاربُ والخِلَّانُ ويفرحونَ بالأَناشيدِ والأَهازيجِ ويُقيمونَ الموسيقى شاهداً عندَما يربطُ القرانُ عُرسَ المحبةِ، فكأني بها يوم التعريسِ، صوتٌ رهيبٌ تمازجُه الحلاوةُ، صوتٌ يُمجِّد الله فِي مخلوقاتِه، صوتٌ ينَبِّه الحياةَ النائِمةَ لتسيرَ وتَنتَشِرَ وتملأَ وجهَ الأَرض.
وعندما يأتي الموتُ، وَيُمثِّل وآخرُ مشهدٍ من روايةِ الحياةِ، نسمعُ الموسيقَى المحزنةَ ونَراها تملأُ الجوَّ بأشباحِ الأَسى، في تلك الساعةِ الموجعةِ تودعُ النفسُ ساحلَ هذا العالمِ الجميلِ وتسبحُ فِي بحرِ الابديةِ، تاركةً هيكلها بين أَيدي الملحَّنينَ والندابين، فيتأوهونَ بِنغماتِ الحزنِ والأسفِ ويلحفونَ تلك المادةَ الثَّرىَ ويُشِّيعونها بالحانٍ مَفَادُها الضيمُ، أناشيد معناها الكمدُ واللوعةُ. نغماتٌ يحبونَها ما بقي الترابُ فوقَ الترابِ وإن بليتْ يبقَى صَداها في خلايا الجراحِ وما دام القلبُ يذكر مَنْ مَضَى.
جبران خليل جبران: رمل وزبد
ترجمة: الارشمندريت انطونيوس بشير، دمشق 1936 ص 43.
*180*
جبران خليل جبران:
كاتب وشاعر من لبنان قضى في المهجر في الولايات المتحدة، أشتهر بالرسم والشعر والمقالة، ويغلب على أدبه النظرة الفلسفية للحياة. وامتدت حياته من 1883-1931.
الأسئلة:
1. في أي الحالات يستعمل الانسان الموسيقى.
2. ما هو تأثير الموسيقى في كل حالة؟
3. ما هي أهمية الموسيقى في حياة الانسان إذن؟
4. فسر التعابير التالي:
أ. يستخدم ابن آدم أقدس ما في الكون لتعميم سرور الكون.
ب. كأنهم يسابقون بالموسيقى الزمان على إفهامه الحكمة الالهيَّةَ.
ج. ما بقي التراب فوق التراب.
5. من الاصول المتبعة في كتابة المقالة أن لا يكتفي الكاتب بإعطاء الفكرة، وإنما بآتي بأمثلة مفصلة. هات مثالاً على ذلك من القطعة السابقة؟
6 نلاحظ في القطعة السابقة أن جبران لم يضع لها مقدمة ولا نهاية.. وضح ذلك؟
*181*
*181*
محمود حفني
لَا يُعْرَفُ عَلَى التَّحْقِيقِ الوَطَنُ الأَوَّلُ لِلآلَاتِ الوَتَرِيَّةِ ذَاتِ القَوْسِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ المُؤَرِّخِينَ قَدْ نَسَبُوهَا إِلَى الهِنْدِ مُقَرِّرِينَ أَنَّ أَقْدَمَ آلَةٍ وَتَرِيَّةٍ وُقِّعَ عَلَيْهَا بِالقَوْسِ فِي تَارِيخِ العَالَمِ كُلِّهِ هِيَ آلَةٌ هِنْدِيَّةٌ قَدِيمَةٌ جِدّاً يَرْجِعُ عَهْدُهَا إِلَى خَمْسَةِ آلَافِ سَنَةٍ قَبْلَ المِيلَادِ اسْمُهَا رَفَانَا سْترونْ كَانَتْ ذَاتَ وَتَرَيْنِ، غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَتَقَدَّمْ وَلَمْ يَذِعِ اسْتِعْمَالُهَا فَمَاتَتْ.
إِنَّمَا الَّذِي يُقَرِّرُهُ التَّارِيخُ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ إِلَى العَرَبِ يَرْجِعُ الفَضْلُ فِي إِحْيَاءِ آلَاتِ القَوْسِ. فَقَدْ أَوْجَدُوا فِي القُرُونِ الاولَى مِنَ المِيلَادِ آلَة الرَّبَابِ، وَكَانَتْ فِي بِدَايَتِها ذَاتَ وَتَرٍ وَاحِدٍ. ثُمَّ تَقَدَّمَتْ بِهِمَّةِ العَرَبِ أَيْضاً فَأَصْبَحَتْ ذَاتَ وَتَرَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الغِلَظِ، ثُمَّ ذَاتَ وَتَرَيْنِ مَتَفَاضِلَيْنِ (متفاضلين: غير متساويين) فِيهِ، ثُمَّ ذَاتَ أَرْبَعَةِ أَوْتَارٍ يَتَفَاضَلُ كُلُّ اثْنَيْنِ مَنْهَا عَلَى الآخَرَيْنِ. وَتَنَوَّعَتْ أَشْكَالُهَا.
وَكَانَ الرَّبَابُ عِنْدَ العَرَبِ عَلَى أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَدْ أَطْلَقُوا لَفْظَ "الرَّبَابِ" عَلَى جَمِيعِ الآلَاتِ الوَتَرِيَّةِ ذَاتِ القَوْسِ كَمَا أَنَّ الفُرْسَ كَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَيْهَا لَفْظَةَ "الكَمَنْجَةِ" أوِ "الكَمَانِ" وَمَعْنَاهَا بِالفَارِسِيَّةِ "القَوْسُ" وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ هذِهِ التَّسْمِيَةُ فِي بَعْضِ البِلَادِ العَرَبِيَّةِ أَيْضاً.
وَتُعْتَبَرُ آلَةُ الرَّبَابِ أَكْثَرَ الالاَتِ الوَتَرِيَّةِ ذُيُوعاً فِي الأَقْطَارِ العَرَبِيَّةِ فِي الوَقْتِ الحَاضِرِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَنْزِلَتُهَا فِي كُلِّ قُطْرٍ تَبَعَاً لِلأَغْرَاضِ الفَنِّيَّةِ الَّتِي تُسْتَخْدَمُ فِيهَا.
وَقَدْ انْتَقَلَتْ آلَاتُ الرَّبَابِ مَعَ العَرَبِ إِلَى الأَنْدَلُسِ. وبعدها بَدَأَتْ فِكْرَةُ صُنْعِ الآلَاتِ الوَتَرِيَّةِ تَظْهَرُ فِي أَوْرُوبَا وَبِخَاصَةٍ فِي البلاد المُتَاخِمَةِ (المتاخمة: المحاذية، القريبة.) لِلأَنْدَلُسِ. فَقَدْ صَنَعَ الفَرَنْسِيُونَ آلةً تُمَاثِلُ (تُماثِل: تشابه.) الرَّبَابَ العَرَبِيَّةَ سَمَّوْهَا رَبِيبَة أَوْ رُوبِيلْلَة كَمَا صَنَعَ الطِّلْيَانُ نَفْسَ هذِهِ الآلَةِ وَسَمَّوْها رُوبيكَا أَوْ رُوبِيكْ. وَظَاهِرٌ فِي كُلِّ هذِهِ الالفَاظِ اشْتِقَاقُهَا مِنْ كَلِمَةِ رَبَابٍ.
*182*
انْتَشَرَتْ تِلْكَ الآلَةُ بَعْدَ ذلِكَ فَعَمَّتْ أَوْرُوبَا فِي القَرْنِ الرَّابِع عَشَرَ، وَأَخَذَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا التَّغْييرُ شَيْئاً فَشَيْئاً حَتَّى آخِرِ القَرْنِ الخَامِس عَشَرَ، وَسُمِّيَتْ تِلْكَ الآلَةُ فْيُولّا وَمَعْنَاهَا الوَتَرُ. ثُمَّ صُنِعَ مِنْهَا عَلَى مُرُورِ الزَّمَنِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلْفَةٌ الحَجْمِ. وَفِي القَرْنِ السَّابِع عَشَرَ عَمَّ لَفْظُ فْيُولّا جَميعَ الآلَاتِ الوَتَرِيَّةِ ذَاتِ القَوْسِ وَكَانَ أَهَمَّهَا فِي ذلِكَ الوَقْتِ نَوْعَانِ: الأَوَّلُ سُمِّيَ فْيُولَا الذِّرَاعِ وَكَانَتْ تُحْمَلُ أَثْنَاءَ التَّوْقِيعِ عَلَى ذِرَاعِ العَازِفِ بهَا كَمَا هُوَ الحَالُ الانَ فِي آلَةِ الكَمَانِ الحَدِيثَةِ (الفْيولِينَة). وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَسُمِّيَ فْيولَا الرُّكْبَةِ وَكَانَ يَضَعُهَا العَازِفُ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ أَثْنَاءَ التَّوْقِيعِ بِهَا، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي نَسْتَعْمِلُ فِيهِ الآنَ آلَةَ الفْيولَنْستِيل.
وَكَانَتْ كُلُّ تِلْكَ الأَنْوَاعِ ذَاتَ سِتَّةِ أَوْتَارٍ مَشْدُودَةٍ فِي مُسْتَوىً وَاحِدٍ، وَلِذلِكَ كَانَ مِنَ المُتَعَذِّرِ عَلَى العَازِفِ أَنْ يُوَقِّعَ بِالقَوْسِ عَلَى الأَوْتَارِ الوُسْطَى مِنَ الالَةِ، بَلْ كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ العَزْفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْتَارٍ فِي وَقْتِ وَاحِدٍ وَبَعْدَ أَنْ عَاشَتْ الفْيولا بِهذَا الشَكْلِ ذَاتَ سِتَّةِ أَوْتَارٍ أَكْثَرَ مِنْ قَرْنَيْنِ عَدَلَ الأَوْرُبِيُّونَ عَنْ ذلِكَ وَرَجَعُوا إِلَى فِكْرَةِ العَرَبِ فِي وُجُوبِ عَدَمِ زِيَادَةِ الأَوْتَارِ عَلَى أَرْبَعَةٍ كَمَا كَانَ الحَالُ فِي الرَّبَابِ. وَبِذلِكَ تَطَوَّرَتِ الفْيولَا فِي مُنْتَصَفِ القَرْنِ السَّابِعَ عَشَرَ. وَصُنِعَتْ آلَةٌ أَصْغَرُ مِنْهَا قَلِيلاً مَشْدُودٌ عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَوْتَارٍ أُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ فْيُولِينَة أَوْ فْيو لِينُو مُصَغَّرُ فْيُولَا. وَتِلْكَ الآلَةُ هِيَ مَا نُسَمِّيهِ فِي عَصْرِنَا الحَدِيثِ الكَمَانَ.
وَتُصْنَعُ آلَةُ الكَمَانِ مِنْ خَشَبِ الصَّنَوْبَرِ الَّذِي تَمَّ جَفَافُهُ حَتَّى لَا تَتَغَيَّرَ نِسَبُ الأَبْعَادِ الَّتِي عَلَيْهَا القِطَعُ المُخْتَلِفَةُ المُكَوَّنُ مِنْهَا صُندُوقُ الآلَةِ، وَالَّتِي يَجِبُ أَنْ تَبْقِى دَائِماً ثَابِتَةٍ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ضَبَطَهَا عَلَيْهِ الصَّانِعُ حَتَّى تَتَوَافَقَ (تتوافق: يُلائم بعضها البعض.) الاهْتِزَازَاتُ الصَّوْتِيَّةُ النَّاشِئَةُ مِنَ الصُّنْدُوقِ كُلِّهِ. وَكُلَّمَا قَدُمَتِ الكَمَانُ فِي الاسْتِعْمَالِ أَصْبَحَ خَشَبُهَا أَكْثَرَ مُرُونَةً وَالأَصْوَاتُ الصَّادِرَةُ مِنْهَا أَرَقَّ وَأَحْلَى، وَأَصْبَحَتْ تَبَعاً لِذلِكَ أَكْبَرَ قِيمَةً وَأَغْلَى ثَمَناً.
*183*
أمَّا عَنْ مَنْزِلَةِ آلَةِ الكَمَانِ فإنَّهَا فِي الوَقْتِ الحَاضِرِ، أَشهر الآلاَتِ المُوسِيقِيَّةِ فِي الشَّرْقِ وَالغَرْبِ. وَقَدْ زَاحَمَتْ (زاحمت: نافست.) هِيَ وَأُسْرَتُهَا بَقِيَّةَ الآلاَتِ الوَتَرِيَّةِ ذات القوس وَأَصْبَحَتْ لها السِّيَادَةُ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ قرنين. وَسَتَظَلُّ الكَمَانُ مُتَبَوِّئَةً أَسْمَى مَكَانَةٍ فِي الفَنِّ، ذلِكَ لأَنَّهَا سُلْطَانَةُ العَوَاطِفِ وَمَلِكَةُ الآلاَتِ فِي التَّرْجَمَةِ عَنِ الشّعُورِ. وَمِنْ أَبْرَعِ مَا كُتِبَ فِي ذلِكَ قَوْلُ "هَايْنِي" الفَيْلَسُوفِ وَالشَّاعِرِ الالمَانِيِّ الكَبِيرِ: "الكَمَانُ آلَةٌ لَهَا أَمْزِجَةُ (أمزجة: جمع مزاج وهو الطبع) البَشَرِ، تَتَكَلَّمُ بِشُعُورِ العَازِفِ بِهَا، وَتَكْشِفُ أَسْرَارَ عَوَاطِفِهِ، تَنُقُلُ عَنْهُ فِي جَلَاءٍ وَوُضُوحٍ أَقَلَّ التَّأْثِيرَاتِ وَأَضْعَفَ الانْفِعَالاَتِ. ذلِكَ لأَنَّهُ يَضَعُهَا أَثْنَاءَ التَّوْقِيعِ عَلَى صَدْرِهِ فَتَحْمِلُ أَوْتَارُهَا نبضاته".
بقلم الدكتور محمود احمد الحفني، مجلة الفن.
الأسئلة:
1. كيف طوّر العرب آلة الرباب؟
2. ما هو التغيير الذي طرأ على الرباب بعد انتقالها الى اوروبا؟
3. عدد الأسماء العربيّة والأجنبية التي عُرفت بها الرباب؟
4. استبدل كلمة العزف بكلمة اخرى مناسبة في التعابير التالية: العزف على الطبلة، العزف على الناي، العزف بالبوق، العزف على الدفّ.
5. استخرج من القاموس مشتقات واستعمالات الفعل (عزف).
6. المقالة السابقة تقدم معلومات علمية ولا تطرح آراء الكاتب، بين تأثير ذلك على مبنى المقالة: مقدمه، نهاية، وصف، تحليل ومناقشة الأمثلة...
*184*
*184*
د. أحمد زكي
وَهْوَ أَنْفٌ وَشَفَةٌ عُلْيا، فِي آنٍ (في آن: في آن واحد، في نفس الوقت). وَمَا الَّذِي أَوْجَبَ أَنْ يَطُولَ لَهُ، هكَذَا، أَنْفٌ وَشَفَةٌ؟
أَوْجَبَ ذلِكَ بُنْيَانُهُ: جِسْمٌ ضَخْمٌ ثَقِيلٌ، تَحْمِلُهُ أَرْجُلٌ أَرْبَعُ، ضَخْمَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ، كَالأَعْمِدَةِ الثَّخِينَةِ يَقُومُ عَلَيْهَا البَيْتُ. وَرَأْسُ كَبِيرٌ. وَعُنُقٌ قَصِيرٌ. كُلَّ هذَا يَمْنَعُ الفِيلَ مِنْ أَنْ يَنْثَنِي أَوْ يَنْحَنِيَ لِيَطُولَ فَيَنَالَ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ عُشْبِ هُوَ طَعامُهُ، أَوْ يَطُولَ إِلَى رُؤُوسَ الشَّجَرِ، حَيْثُ الوَرَقُ الأَخْضَرُ، وَالفَرْعُ الرَّطْبُ، وَالثَّمَرُ المُسْتَطَابُ.
وَيَزِيدُ الفِيلَ بُعْداً عَنْ مَوْضِعِ طَعَامِهِ مِنْ تَحْتِهِ، وَيَزِيدُ الفِيلَ بُعْداً عَنْ مَوْضِعِ طَعَامِهِ مِنْ فَوْقِهِ، سِنَّانِ خَرَجَتَا مِنْ فَكِّهِ الأَعْلَى، لَوْ نَسَبْنَاهُما إِلَى المَعْرُوفِ مِنْ صُنوفِ الأَسْنانِ لَكَانَتَا مِنَ القَوَاطِعِ.
فَهذِهِ هِيَ "سِنُّ" الفِيلِ. وَالفِيلُ مَا نَّمَاهَا لِيُشْبِعَ الإِنْسَانُ بِهَا نَهَمَهُ الفَنِّيَّ، حَفْراً وَنَحْتاً. إِنَّمَا هِيَ سِنٌّ طَالَتْ لِيَدْفَعَ بِهَا الفِيلُ نَفْسِهِ.
إِنَّ الفِيلَ بِهِ ضَخَامَةٌ تَبْعَثُ عَلَى الهَيْبَةِ وَتَحْمِيهِ. إِنَّهُ أَضْخَمُ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ. وَإِنَّ لِلْفِيلِ جِلْداً صَفِيقاً (جلد صفيق: جلد ثخين، وجه صفيق: لا حياء فيه ويقال: رجل صفيقٌ: أي رجل وقح.) لَيْسَ مِنَ السَّهْلِ أَنْ تَقْتَحِمَهُ نَابٌ وَظُفْرٌ.
وَلكِنَّ هذَيْنِ لَمْ يَكْفِيَاهُ دِفَاعاً عَنْ نَفْسِهِ في بَرِّيَّتِهِ. كَانَ لَا بُدَّ مِنَ السِّنِ. وَهْوَ يَبْقُرُ بِهَا بُطُونَ المُعْتَدِينَ حَتَّى لَيُخْرِجُ بِهَا أَحْشَاءَهُمْ.
إِنَّ هذِهِ السِّنَّ، وَقَدْ طَالَتْ، مَنَعَتِ الفَمِ مِنْ أَنْ يَنَالَ. وَإِذَنْ كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ فَمٍ يَطُولُ.
*185*
وَلَمْ يَطُلِ الفَمُ، وَلِنْ طَالَ الأَنْفُ، بَعْدَ أنْ أُعْطِيَ قُوَّةَ اليَدِ، وَحَسَاسِيَّةَ الشَّفَتَيْنِ. فَبِطَرَفِ خُرْطُومِهِ يَسْتَطِيعُ الفِيلُ أَنْ يَقْطَعَ فَرْعاً مِنْ شَجَرَةٍ، أَوْ يَلْتَقِطَ حَبَّةً مِنْ فُولٍ. وَبِخُرْطُومِهِ يَرْشِفُ المَاءَ. فَإِذَا رَشَفَ مِنْهُ الكِفَايَةَ صَبَّهَا فِي فَمِّهِ، وَعَلَى هذَا النَّحْوِ يَشْرَبُ. أَوْ هُوَ يَرُشُّهُ عَلَى ظَهْرِهِ لِيَبْرُدَ.
وَالخُرْطُومُ لَمْ يَفْقِدْ بِذلِكَ حِسَّ الأَنْفِ. إِنَّهُ يَمُدُّهُ، فَيُحِسُّ بِهِ رائِحةً تُبَشِّرُ بِطَعَامٍ، أَوْ اضْطِّرَاباً فِي الهَوَاءِ يُنْذِرُ بِخَطَرٍ. وَعِنْدَ الخَطَرِ تَشْرَئِبُّ أُذُنَاهُ العَرِيضَتَانِ. تَتَحَسَّسُ الخَطَرَ، فَلَعَلَّهُ عَدُوٌ مُغَامِرٌ.
وَوَجَبَ كُلُّ هذَا لأَنَّ العَيْنَيْنِ ضَعِيفَتَانِ. وَهكَذَا هُوَ كُلُّ مَخْلُوقٍ، لاَ تُجْمَعُ أَجْزَاؤُهُ جُزَافاً وَاعْتِبَاطاً (جزافاً واعتباطاً: بلا تروٍ وتفكير. جازف في كلامه: أي تكلّم بدون قانون ولا تبصر، جازف بنفسه: خاطر، والاعتباط: فعل ما لا وجه له.) لاَ بُدَّ مِنَ اكْتِمَالٍ، وَمَعَ الاكْتِمَالِ الاتِّسَاقُ (الاتساق: الانتظام).
وَنَقْصٌ هُنَا لاَ بُدَّ أَنْ تُعَوِّضَهُ زِيَادَةٌ هُنَاكَ. فَالحَيُّ وِحْدَةٌ مُتَكَامِلَةٌ. وَالحَيُّ فِي خَلْقِهِ، لاَ بُدَّ أَنْ يُنَاغِمَ البِيئَةَ الَّتِي يَحْيَا فِيهَا، حَتَّى لاَ يَكُونَ هُنَاكَ نَشَازٌ أَوْ تَنَاقُضٌ يُذْهِبُ بِالبِيئَةِ، أَوْ يُذْهِبُ بِالَّذِي عَلَيْهَا مِنْ أَحْيَاءٍ.
إنَّ عَالَمَ الأَحْيَاءِ، فِيهِ تَخْطِيطٌ ضَخْمٌ، وَتَرْتِيبٌ وَتَنْظِيمٌ. "وَعِمَارَةٌ" تَرُوعُ وَفَنٌّ جَمِيلٌ. وَهْوَ لِلأَفْهَامِ مُتْعَةٌ، عِنْدَ ذَوِي الأَفْهَامِ. وَمَا أَقَلَّهُمْ. وَحَتَّى هذَا هُوَ مِنْ بَعْضِ تَخْطِيطِ الكَوْنِ لاَ مَحَالَةَ.
الدكتور احمد زكي
مجلة العربي عدد 97 كانون أول 1967، ص39.
*186*
الأسئلة:
1. ما الذي يمنع الفيل عن تناول طعامه كما تفعل سائر الحيوانات.
2. ما هي وسائل الفيل في دفاعه عن نفسه؟
3. ماذا يقول الكاتب عن الاتساق في الخلق؟
4. ضع صفات ملائمة لما يأتي: سنٌ، كأس، شمس، قمر، بئر، عَلامَةٌ، ساقٌ، حجر.
5. حوّل القطعة السابقة الى درس في الطبيعة (علم الحيوان)، بعد تقسيمها الى عناوين فرعية.
6. ما هي أنواع التعابير التي استغنيت عنها في السؤال السابق؟ ولماذا فعلت ذلك؟
7. من الفعل طال نقول: طال عليه العمر: عاش طويلاً، طوال الدهر: مهري الدهر، طويل الباع: مقتدِر وكريم، لا طائل فيه: لا فائدة منه، استعمل مشتقات الفعل طال السابقة في جمل مفيده.
*187*
*187*
سلام الراسي
تَعَلَّمْتُ مِنَ الشَّيْخِ أَبي حَمَدٍ الْحَرْفُوشِ حِكْمَتَيْنِ: حِكْمَةَ التَأنّي وَحِكْمَةَ الصَّبرِ، قَالَ: كَانَ ذِيابُ ابْنُ مُرَّةَ أَحْكَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَمَعَ ذلِكَ تَمَنىّ أَنْ تَكونَ رَقَبَتَهُ طُولَ مِنْ رَقبَةِ الجَمَلِ، حَتىَّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ، كَانَ بإِمْكَانِهِ أَنْ يُفَكِّرَ قَلِيلاً قَبْلَ أَنْ يَصِلَ كَلامُهُ إِلَى لِسانِهِ، حَتىَّ إِذَا وَجَدَهُ غَيْرَ مُنَاسِبٍ أَعَادَهُ إِلَى بَطْنِهِ.
وَفِي مَوْقِفِ (الموقف: اصطلاح يستعمل بمعنى اجتماع الناس في مناسبات العزاء.) تَعْزِيَةٍ بِشابٍّ وَحِيدٍ تَحَدَّثَ الشَّيْخُ أَبُو حمَدٍ فَقَالَ: عَاشَ فِي مَا مَضَى رَجَلٌ اسْمُهُ "أَبُو عَلِيٍّ" شَيْبُوبٌ، اشْتَهَرَ فِي بِلادِ الشُّوفِ بِصَبْرِهِ وَحِكْمَتِهِ، حَتَّى قِيلَ: مَا صَبَر صَبْرِ أَيُّوبَ إِلاَ بُو عَلِي شَيْبُوبْ.
فَقَدْ كَانَ ابْنُهُ الْوَحِيدُ "عَلِيٌّ" فَارِسَ الفُرْسَانِ وَزِينَةَ شُبّانِ ذَلِكَ الزَّمانِ، إلَّا أَنَّ اللَهَ اسْتَرَدَّ مِنْهُ "أَمَانَتَهُ" وَهْوَ مَا يَزَالُ فِي شَرْخِ الشَّبَابِ (شرخ الشباب: أوله، ريعان الشباب).
وَقَبْلَ أَنْ يَمُرَّ أُسْبُوعٌ عَلَى وَفَاتِهِ حَضَرَ وَفْدٌ مِنْ أَجَاوِيدِ جَبَلِ الدُّرُوزِ لِلْمُجَابَرَةَ (المجابرة: مؤازرة الناس في الأفراح والأتراح، وهو اصطلاح عامي مأخوذ من الفعل جبر بمعنى اصلح الكسر، فنقول جبر العظم: أصلحه بعد الكسر، وجبّر الله مصيبته: عوضه عما فقد ونقول أبو جابر لأنه يجبر الجوع.) وَالأَخْذِ بِالْخَاطِرِ، فَقِيلَ لَهُمْ إِنَّ الشَّيْخَ أَبَا عَلِيٍّ مَوْجُودٌ عِنْدَ نَسِيبِ بَاشَا جُنْبُلاَطَ، فَقَفَلُوا (قفلوا: رجعوا، وسميت القافلة بهذا الاسم لأنها ترجع بعد السفر.) مُتَوَجِّهِينَ إِلَى دَارِ الْمُخْتَارَةِ.
وَعِنْدَمَا وَصَلُوا، حَيَّوا صَاحِبَ الْدَّارِ، وّصَابَحُوا الْحَاضِرِينَ وَالسَّامِعِينَ، ثُمَّ أَقْبَلُوا عَلَى الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ مُعَزّينَ، فَقَالَ كَبِيرُهُمْ: "عَزَّ عَلَيْنَا يَا شَيْخُ بُو عَلِي كَسْرُ خَاطِرِكَ بِفَقْدِ سَنَدِكَ وَوَلَدِكَ الوَحِيدِ، زِينَةِ الشُّبَّانِ وَفَارِسِ الفُرْسَانِ، وَنَحْنُ، عَلِيمَ اللهِ قَاصِدِينَ لِتَقْدِيمِ وَاجِبِ التَّعْزِيَةِ، لأَنَّكَ مِنْ أَجَاوِيدِ الرِّجَالِ وَالأَجَاوِيدُ بْتِنْفقِد".
*188*
فَأَجَابَ الشَّيْخُ بو عَلِي: "أَنَا لاَ أَسْتَحِقُّ عَنَاكُم وَيَكْفِيني رِضَاكُمْ، وَابْنِي وَاحِدٌ مِنْ شُبَّانِ الطَّائِفَةِ، وَهْوَ لِلطّائِفَةِ وَلَيْسَ لِي، وَقَدْ خَسِرَتْهُ الطَّائِفَةُ، وَأَنَا وَاحِدٌ مِنْ أَبْنَائِهَا مِثْلُكُمْ، وَهَا أَنَاذَا لآنَ جِئْتُ أُعَزِّي زَعِيمَ الطَّائِفَةِ بِهِ، فَإِذَا كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ التَّعَازِي فَإِلَى نَسِيبِ بَاشَا بِالذَّاتِ".
عَاشَ أَبُو حَمَدٍ الْحَرْفُوشُ سَنَوَاتِهِ الأَخِيرةَ فِي مَزْرَعَةِ "بَرْغَزْ" التَّابِعَةِ لِحَاصْبَيَّا.
(رسمة في الكتاب استعن بالمعلم)
وَحَدَثَ سَنَةَ 1935 أَنْ ظَهَرَتْ فِي لُبْنَانَ عِصَابَةٌ خَطِيرَةٌ، يَقُودُ هَارَجُلٌ اسْمُهُ فُؤَادُ عَلاَمَةَ. تَوَلَّى فَؤَادُ عَلاَمَه هذَا قَطْعَ الطُّرُقِ وَتَشْلِيحَ الْمَارَّةِ،
*189*
إِلَا أَنَّهُ كَانَ يُعَامِلُ النِّسَاءَ بِكُلِّ احْتِرَامٍ، وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ يأْخُذُ مِنَ الأَغْنِيَاءِ وَيُعْطِي الْفُقَرَاءَ حَتَّى أًحَبَّهُ النَّاسُ، وَتَنَاقَلُوا أَخْبَارَهُ بِشَغَفٍ مَمْزُوجٍ بِالْخَوْفِ وَنَسَجُوا حَوْلَهُ الأَسَاطِيرَ.
وَحَدَثَ ذَاتَ يَوْمٍ، أَنْ رَابَطَ فُؤَادُ عَلَامه، قُرْبَ جِسْرِ الخَرْدَلَةِ، وَأَوْقَفَ عَدَداً مِنَ السَّيَّارَاتِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى أَمْوَالِ رُكَّابِهَا، ثُمَّ تَوَغَّلَ فِي الأَحْرَاشِ الْمُجَاوِرَةِ.
وَهَبَّ رِجَالُ الأَمْنِ إِلَى تَطْوِيقِ تِلْكَ الْمِنْطَقَةِ، بَحْثاً عَنْ فُؤَادِ عَلاَمه، وَأَخَذُوا يَسْتَجْوِبُونَ سُكَّانَ الْقُرَى وَالْمَزَارِعِ الْمُجَاوِرَةِ، وَلاَ سِيَّمَا الدُّرُوزَ مِنْهُمْ، لأَنَّ فُؤَادَ عَلاَمه كَانَ دُرْزِيًّا، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِصَديقِنَا أَبِي حَمَدٍ، مَعَ بَعْضِ سُكَّانِ مَزْرَعَةِ برغزْ إِلَى حَيْثُ تَوَلَّى التَّحْقِيقَ مَعَهُمْ أَحَدُ الْمُحَقِّقينَ.
سَأَلَ الْمُحَقِّقُ أَبَا حَمَد قَائِلاً: هَلْ رَأَيْتَ فُؤَادَ عَلاَمَه أَوْ عَرَفْتَ عَنْهُ شَيْئاً؟ فَأَجَابَ بِالنَّفِي.
ثُمَّ سَأَلَهُ: وَإِذَا عَرَفْتَ عَنْهُ شَيْئًا فِي مَا بَعْدُ، فَهَل أَنْتَ مُسْتَعِدٌّ أَنْ تُخْبِرَ السُّلْطَةَ عَنْهُ؟
فَتَرَيَّثَ الْحَرْفُوشُ قَلِيلاً، ثُمَّ أَجَابَ: القَضِيَّةُ فِيهَا وَمَا فِيهَا...فَثَارَتْ أَعْصابُ الْمُحَقِّقِ وَلَمْ يُمْهِلْ أَبَا حَمَدٍ لِشَرْحِ وُجْهَةِ نَظَرِهِ وَبَيَانِ رَأْيِهِ، بَلْ أَمَرَ حالاً بِتَوْقِيفِهِ عَلَى ذِمَّةِ التَّحْقِيقِ، بِتُهْمَةِ كَتْمِ مَعْلومَاتٍ.
وَعِنْدَمَا أًفْرِجَ عَنْهُ، بَعْدَ عدَّةِ أَسَابيعَ، ذَهَبْتُ لِلسَّلاَمِ عَلَيْهِ وَلُمْتُهُ بِقَوْلِي: سَامَحَكَ اللُهُ، يَا شَيْخُ أَبَا حَمَدِ، أَمَا تَذَكَّرْتَ حِكْمَةَ ذيَابِ ابْنِ مُرَّةَ، الَّذِي تَمَنّى أَنْ تَكُونَ رَقَبَتُهُ طُولَ رَقَبَةِ الْجَمَلِ، لِكَيْ يَقْدِرَ أَنْ "يَزِينَ كَلِمَتَهُ"
*190*
قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَى لِسَانِهِ، فَقَدْ تَسَرَّعْتَ بِالْجَوَابِ مَعَ أَنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَالتَّبَصُّرِ.
فَمَشَطَ لِحْيَتَهُ بِأَصَابِعِ يَدِهِ وَأَجَابَ: "إِذَا وَقَعَ الْقَدَرُ عَمِيَ الْبَصَرُ " فَقُلْتُ: وَهذِهِ حِكْمَةٌ ثَالِثَةٌ أَتَعَلَّمُهَا مِنْكَ.
"إِذا وَقَعَ الْقَدَرُ عُمِيَ الْبَصَرُ"
وَهذَا الْمَثَلُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِالْقَدَرِ، أَوْ "الْمُقَدَّرِ" - بِلُغَةِ العَامَّة - إلاَّ أَنَّ قَلِيلِينَ يَعْرِفُونَ أَصْلَ هذَا الْمَثَلِ وَقِصَّتَهُ.
يَقُولُ الشَّيْخُ أَبُو حَمَدٍ الْحَرْفُوشِ، إِنَّ سَيِّدَنَا سُلَيْمَانَ عَلِيْهِ السَّلاَمُ، الَّذِي أَعْطَاهُ اللُهُ عَزَّ وَجَلَّ مَوْهِبَةَ التَّكَلُّمِ مَعَ الطُّيُورِ وَفَهْمِ لُغَاتِهَا، كَانَ قَدْ صَادَقَ نَسْراً عَظِيماً، هُوَ مَلِكُ طُيُورِ زَمَانِهِ، وَكَانَ يَرْكَبُ بَيْنَ جَنَاحَيْهِ، فَيَطِيرُ بِهِ فَوْقَ أَجْزَاءِ مَمْلَكَتِهِ، كُلَّمَا أَرَادَ التَّنَزُّهَ أَو الْاسْتِكْشَافَ.
وَفِيمَا كَانَ النَّسْرُ مُحَلِّقاً بِهِ فِي أَحَدِ الأَيَامِ، سَأَلَهُ عَمّا يَرَى تَحْتَهُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: إنيِّ أَرَى هَيْكَلِي الْعَظِيمَ وَالنَّاسُ يَدْخُلُونَ وَيَخْرُجُونَ.
ثُمَّ حَلَّقَ بِهِ عَالِياً وَسَأَلَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً عَمَّا يَرَى، فَقَالَ: إنيِّ أَرَى مَدِينَةَ الْقُدْسِ مِثْلَ رُجْمَةِ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَلاَ أًمَيِّزُ هَيْكَلِي مِنْ سِوَاهُ.
ثُمَّ انْطَلَقَ النَّسْرُ إِلَى أَعَالِي الْجَوِّ وَسَأَلَهُ عَمَّا يَرَى، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: إِنيَّ لَمْ أَعُدْ أَرَى شَيْئاً. فَضَحِكَ النَّسْرُ وَقَالَ: وَلَكِنَّنِي أَرَى كُلَّ شَيْءٍ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، إِلَى دَرَجَةٍ أَنيِّ أَرَى لآنَ، فِيمَا أَرَى، بِالْقُرْبِ مِنْ إِحْدَى الأَشْجَارِ فِي جَبَلِ الزَّيْتُونِ، نَمْلَتَيْنِ تَتَقَاتَلاَنِ عَلَى حَبَّةٍ مِنَ الْحِنْطَةِ.
*191*
فَقَالَ سُلَيْمَانُ: يَا لَلْعَجَبِ! أَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هذَا مَمْكِناَ؟ أَنْزِلْنِي إذَنْ هُنَاكَ لأَرَى بِعَيْنيَّ فَأُصَدِّقَ كَلاَمَكَ.
فَهَبَطَ النَّسْرُ بِسُلَيْمَانَ إِلَى حَيْثُ أَرَاهُ النَّمْلَتَيْنِ وَحَبَّةَ الْحِنْطَةِ الَّتِي كَانَتَا مَا تَزَالاَنِ تَتَنَازَعَانِهَا تَحْتِ شَجَرَةِ الزَّيْتُونِ، فَذُهِلَ سُلَيْمَانُ وَأَخَذَ يُثْنِي عَلَى صَدِيقِهِ النَّسْرِ وَيُهَنِّئُهُ عَلَى مَا حَبَاهُ (حباه الله: أعطاه.) اللّهُ بِهِ مِنْ مُمَيِّزَاتٍ دُونَ سَائِرَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَجَعَلهُ بِحَقٍّ سَيِّدَ الْجَوِّ وَمَلِكَ الْمُجَنَّحَاتِ.
فَرَنَّحَ (ترنح: تمايَلَ.) الغَرورُ عِنْدَئِذٍ أَعطافَ (أعطاف: جوانب، عطفا الرجل جانباه، العطف: الرداء لوقوعه على جانبي العنق.) النَّسْرِ وَأَخَذَ يَخْتالُ تِيهاً وَاعْتِداداً، وَلَمْ يَنْتَبِهْ لِشَركِ كانَ مَنْصوباً أمامَهُ، فِلَمْ يَلْبَثْ أَن وَقَعَ فيهِ وصاحَ: باللّهِ عَلَيْكَ أَنْقِذْني يا صَديقي.
فَابْتَسَمَ سُلَيمانُ وقالَ لَهُ: كَيْفَ قَدِرْتَ، وَأَنْتَ في أَعال الجَوِّ، أَنْ تَرى النَّمْلَتَيْنِ وَحَبَّةَ الحِنْطَةِ، وَلَمْ تَقْدِرِ الآنَ، وَأَنْتَ عَلَى الأَرْضِ، أَنْ تَرَى هذا الشّركَ المَنْصوبَ أَمامَكَ؟
فَأَجابَ النسْرُ: اذا وَقَعَ القَدَرُ عَمِيَ البَصَرُ، وجَرَى كَلامُ النسرِ مَثَلاً مُنْذُ ذلِكَ الزَّمانِ.
سلام الراسي لئلا تضيع، بيروت، ط 3، 1981.
*192*
أسئلة:
1. وضع الكاتب بعض الكلام بين أقواس، سجل ما وقع بين الأقواس واستنتج ما هو هدف الكاتب؟
2. سجّل الاعلام التي وردت في الدرس؟
3. ضع لكل قصة وردت في الدرس عنواناً وبين لماذا اخترته؟
4. ما هي أنماط الحديث التي تستعمل اليوم في العزاء؟ يمكن التعرف على نوعين من خلال النص.
5. فسّر الاستعمالات التالية: استرد اللّه امانته، نسجوا حوله الأساطير، رنح الغرور أعطافه، تتنازعانها.
6. لو كان أبو علي شيبوب يعيش بيننا اليوم فهل ترضى بجوابه للمعزين؟ وضِّح رأيك.
7. بماذا يتميّز أبو حمد الحرفوش حسب النص السابق؟
*193*
*193*
جبران جبور
جَاءَ فِي اَطْوَاقِ الذَّهَبِ (الْجُنُونُ فُنُونٌ، وَالفُنُونُ جُنُونٌ) فَهْوَ يَقْرِنُ فَرِطَ الْفُنُونِ (فرط الفنون: كثرته، ونقول فرط الشوق وفرط الغضب.) بِالْجُنُونِ وَهْوَ مَا نَسَمِّيهِ بِالْحَالاَتِ النَّفْسِيَّةِ وَالشُّذوذِ الْعَبْقَرِيِّ فِي أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَالْفَنَّانِينَ وَالأُدَبَاءِ. وَبِهذَا الْمَعْنَى يَقُولُ الْعَلاَّمَةُ آبْنُ السَّعْدِ:
طَوَيْتُ لإِحْرَازِ الْفُنُونِ وَنَيْلِهَا
رِدَاءَ شَبَابِي وَالْجُنُونُ فُنُونُ
فَلَمَّا تَلَقَّيْتُ الْعُلُومَ وَحُزْتُهَا
تَبَيَّينَ لِي أَنَّ الْفُنُونَ جُنُونُ
وَالْمَجْنُونُ عِنْدَ النَّاسِ مَنْ يُسْمِعُ وَيَسُبُّ وَيَخْرِقُ الثِّيَابَ، أَوْ مَنْ يُخَالِفُهُمْ فِي عَادَاتِهِمْ فَيَجيءُ بِمَا يُنْكِرُونَ. وَلِلْمَجْنُونِ أَسْمَاءٌ فِي اللُّغَةِ كَثِيرةٌ، مِنْهَا الأَحْمَقُ وَالْمَعْتُوهُ وَالأَخْرَقُ وَالْمَائِقُ وَالرَّقِيعُ وَ الْمَهْوُوسُ وَالْمَجْذُوبُ وَالأَهْوَجُ. وَلِذَا قَالوُا الْجُنُونُ فُنُونٌ، وَيَقُولُونَ لِلْمُبَالِغِ فِي الْجُنُونِ: جُنُونُهُ مَجْنُونٌ، وَقِيلَ كَذلِكَ:
جُنُونُكَ مَجْنُونٌ وَلَسْتُ بِوَاجِدٍ
طَبِيباً يُدَاوِي مِنْ جُنُونِ جُنُونِ
وَعُقَلاَءُ الْمَجَانِينَ كُثْرٌ، فَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ بِدْعَةً (اعتقد بدعة: آمن بها، والبدعة هي عقيدة مستحدثة) فَأَدْرَكَهُ شُؤْمُهَا فَجُنَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمَّى مَجْنُوناً بِلاَ حَقِيقَةٍ كَالسَّكْرَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جُنَّ مِنْ خَوْفِ اللّهِ سُبْحَانَهُ، وَغَيْرُهُمْ.
قِيلَ: اعْتَلَّ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ، فَأَتَاهُ أَبُوهُ عَائِداً وَقَالَ لَهُ: مَا عَرَاكَ (عراك: اصابك) يَا بُنَيَّ؟ فَأَنْشَأَ يُنْشِدُ:
أَيُّهَا الْعَاذِلُونَ (العاذلون: اللائمون) لاَ تَعْذِلُونِي
وَانْظُرُوا حُسْنَ وَجْهِهَا تَعْذُرُونِي
*194*
وَانْظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ أَحْسَنَ مِنْهَا
إِنْ رَأَيْتُمُ شَبِيهَهَا أَخْبِرُونِي
بِي جُنُونُ الْهَوَى وَمَا بِي جُنُونٌ
وَجُنُونُ الْهَوَى جُنُونُ الْجُنُونِ
قِيلَ: فَتَتَبَّعَ أَبُوهُ حَالَهُ حَتَّى وَقَعَ عَلَى الْجَارِيَةِ الَّتِي شُغِفَ بِهَا ابْنُهُ فَابْتَاعَهَا بِسَبْعَةِ آلاَفِ دِينَارٍ وَوَجَّهَهَا إِلَيْهِ.
وَكَانَ الشِّبْلِيُّ الْمُتَصَوِّفُ وَهْوَ مِنْ عُقَلاَءِ الْمَجَانِينِ أَيْضاً يَقُولُ ذَاتَ يَوْمٍ لأَصْحَابِهِ: أَلَسْتُ عِنْدَكُمْ مَجْنُوناً وَأَنْتُمْ أَصِحَّاءُ؟ زَادَ اللّهُ فِي جُنُونِي وَزَادَ صِحَّنَكُمْ، ثُمَّ أَنْشَدَ:
قَالُوا جُنِنْتَ بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْتُ لَهُمْ
مَا لَذَّةُ الْعَيْشِ إِلاَ لِلْمَجَانِينِ
وَحُكِيَ عِنْ حَبيبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْوَاسِطِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ يَوْماً عَلَى عَلِيِّ بْنِ هِشَامٍ فَوَجَدْتُهُ بَاكِياً حَزِيناً ذاهِبَ النَّفْسِ فَأَنْكَرْتُهُ (انكرته: رأيته في حالة لم أعهده بها من قبل) وَسَأَلْتُهُ عَمَّا دَهَاهُ فَقَالَ: اعْلَمَ أَنَّنِي مَرَرْتُ الآنَ بِالْخُرْيَبَةِ، فَرَأَيْتُ مَجْنُوناً مُصَفَّداً (مصفد: مكبل. الأصفاد: الأغلال) بِالْحَدِيدِ يَتَمَرَّغُ فِي التَّرَابِ (يتمرغ بالتراب: يتقلب ويتلطّخ به) وَيَقُولُ:
أَلاَ لَيْتَ أَنَّ الْحُبَّ يَعْشَقُ مَرَّةً
فَيَعْرِفُ مَاذَا كَانَ بِالنَّاسِ يَصْنَعُ
يَقُولُونَ خُذْ بِالصَّبْرِ إِنَّكَ هَالِكٌ
وَلَلصَّبْرُ مِنِّي فِي مُصَابِيَ أَجْزَعُ
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ القَزْوِينِيّ: سَمِعْتُ بَعْضَ السُّيَاحِ يَقُولُ: رَأَيْتُ مَجْنُوناً فِي القِفَارِ وَهْوَ يَرْقُصُ وَيَقُولُ:
حُبُّكُمْ فِي الْقِفَارِ شَرَّدَنِي
آهٍ مِنَ الْحُبِّ ثُمَّ آهٍ
*195*
وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ: الشَّبَابُ شُعْبَةٌ مِنَ الْجُنُونِ: رَأَيْتُ بِالْمُصَيْصَةِ شَيْخاً فِي عُنُقِهِ غُلٌّ وَسِلْسِلَةٌ وَالصِّبْيَانُ يَرْمُونَهُ وَهْوَ يَقُولُ كَلاَماً غَامِضاً فِي عِشْقِ اللّهِ، فَتَقَدَّمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: أَمَجْنُونٌ أَنْتَ؟ قَالَ أَنَا مَجْنُونُ الْجَوارِحِ (الجوارح: جمع جارحة وهي العضو، والجوارح هي السباع المفترسة، ويقال رجل وطير جارح، لأنهما يكسبان قوتهما.... ومن هنا اجترح بمعنى كسب والجارحة هي اليد لأنها تكسب) لاَ مَجْنُونُ الْقَلْبِ، ثُمَّ مَرَّ وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
دَارَيْتُ أَمْرِي بِالْجُنُونِ عَنِ الْوَرَى (الورى: البشر والخّلق)
كَيْمَا أَكُونَ بِخَالِقِي مَشْغُولْ
يَا مَنْ تَعَجَّبَ فِي الأَنَامِ لِمَنْطِقِي
مَاذَا أَقُولُ وَمَنْطِقِي مَجْهُولْ
مجلة الأداب، بيروت، يناير 1963، ص 30.
الأسئلة:
1. اشرح.
أ. طويت رداء شبابي.
ب. وقع على الجارية.
ج. خُذ بالصبر
د. لم يتمالك.
2. لماذا يقولون الجنون فنون؟
3. كم نوعاً عقلاء المجانين. ولماذا سُمُّوا كذلك؟
4. ماذا قال مجنون علي بن هشام عن الصبر؟
5. هل كان شيخ المصيصة مجنوناً حقاً؟ اشرح رأيك.
6. استخرج الجمل التي من انشاء الكاتب (التي لم يقتبسها من المصادر).
7. يمكن تقسيم النص السابق الى قسمين، ما هو موضوع كل منهما؟
*196*
*196*
ابن عبد ربه
قَالَتِ الْحُكَمَاءُ: صَدْرُكَ أَوْسَعُ لِسِرِّكَ (مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ).
وَقَالَتْ أَيْضاً: مَا كُنْتَ كَاتِمَهُ مِنْ عَدُوِّكَ فَلاَ تُطْلِعْ عَلَيْهِ صَديقَكَ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: مَا اسْتَوْدَعْتُ رَجُلاً سِرّاً فَأَفْشَاهُ فَلُمْتُهُ لأَنِّي كُنْتُ أَضْيَقَ صَدْراً مِنْهُ حِينَ اسْتَوْدَعْتُهُ إِيَّاهُ حَتّى أَفْشَاهُ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ عَنْ سِرِّ نَفْسِهِ
فَصَدْرُ الَّذِي يُستَوْدَعُ السِّرَّ أَضْيَقُ
وَقِيلَ لأَعْرَابِيٍّ: كَيْفَ كِتْمَانُكَ لِلسِّرِّ؟ قَالَ: مَا قَلْبِي لِهُ إِلاَ قَبْرٌ. وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَ مُلُوكِ الْعَجَمِ اسْتَشَارَ وَزِيرَيْهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لاَ يَنْبَغِي لِلْمَلِكِ أَنْ يَسْتَشِيرَ مِنَّا أَحَداً إِلاَّ خَالِياً؛ فَإِنَّهُ أَمْوَتُ لِلسِّرِّ، وَأَحْزَمُ لِلرَّأْيِ، وَأَجْدَرُ بِالسَّلاَمَةِ، وَأَعْفَى لِبَعْضِنَا مِنْ غَائِلَةِ بَعْضٍ؛ فَإِنَّ إِفْشَاءَ السِّرِّ إِلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْثَقُ مِنْ إِفْشَائِهِ إِلَى اثْنَيْنِ، وَافْشَاءَهُ إِلَى ثَلاَثَةٍ كَإِفْشَائِهِ إِلَى جَمَاعَةٍ لأَنَّ الْوَاحِدَ رَهْنٌ بِمَا أُفْشِيَ إِلَيْهِ، وَالثَّانِي مُطْلَقٌ عَنْهُ ذَلِكَ الرَّهْنُ، فَإِذَا كَانَ السِّرُّ عِنْدَ وَاحِدٍ كَانَ أَحْرَى أَنْ لاَ يُظْهِرَهُ رَغْبَةً وَرَهْبَةً وَإِنْ كَانَ عِنْدَ اثْنَيْنِ دَخَلَتْ عَلَى الْمَلِكِ الشُّبْهَةُ، فَإِنْ عَاقَبْهُمَا عَاقَبَ آثنَيْنِ بِذَنْبِ
*197*
واحِدٍ وَإِنْ آتَّهَمَهُمَا آتَّهَمَ بَرِيئاً بِجنَايَةِ مُجْرِمٍ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُمَا كَانَ الْعَفْوَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَلاَ ذَنْبَ لَهُ، وَعَنِ الآخَرِ وَلاَ حُجَّةَ مَعَهُ.
عن: العقد الفريد، ج 1 المجلد الأول دمشق 1965 ص 96 ص 98
العقد الفريد:
كتاب جمعه أبو أحمد بن أحمد بن محمد المشهور بلقبه ابن عبد ربه ولد ونشأ في مدينة قرطبة في الأندلس سنة 860م وتوفي سنة 940م. عرف ابن عبد ربه علوم عصره وكانت مدينة قرطبة يومها مركزا هاماً للعلوم والأدب والفن، فبرع في كتابة الأدب نثراً وشعراً. أهم مؤلفاته كتاب العقد الفريد الذي يقع في 25 باباً في التاريخ والأخلاق والأدب.
الأسئلة:
1. استعن بالقاموس في فهم التعابير التالية: حزم امره، رأي حازم جدير بالمكافأة غائل - غائلة.
2. لماذا لا يلوم عمرو بن العاص من يفشي أسراره؟
3. ضع بدل الضمير في كلمة (فإنه) الواردة في جملة: (فإنه اموت للسر) ما يغني عنه.
4. ما معنى: (أنا رهن إشارتك)، (الناس رهن بما كسبوا)؟
5. اجمع اقوالاً تتحدث عن حفظ الأسرار.
*198*
صفحة الفارغة
*199*
الشعر
*199*
*200*
صفحة فارغة
*201*
*201*
فؤاد الخشن
لاح نيسانُ ضَحوكاً فارتدتْ
لوزتي حين بدا ثوبَ الزهور (ارتدت: لبست).
بَعدَ عُرْيٍ جَمَدَ القلبُ لهُ
وشكا الصفصافُ مهموسَ الزفير، (الزفير: اخراج النفس من الفم).
(رسمة في الكتاب استعن بالمعلم)
*202*
لوزتي إِضمامةٌ من نرجسٍ
شَفَّها البوحُ ففاضت بالعطور، (إضمامة: مجموعة، شفها: أثر فيها وأَنحلها.)
زهرُها بِيضُ نجومٍ عُلِّقتْ
كَلآلي الفجرِ في الغصنِ النَّضير
مائجاتٌ بارتقاصاتِ السَّنا
مُشْغَلاتٌ كقناديلِ الغدير،
وَثُغورٌ فتَّحَتْها قُبَلٌ،
ومواعيدُ تنادَتْ في الضمير
يَهْبِطُ النَّحلُ عليها نَغَماً
مُسْكِرَ الجَرْسِ مُرِفّاً في الأثيرُ
راشفاً ما شاقه، مستنفذاً
سكَّر الثَّغْرِ وَدَفْقَاتِ العبير (شاقة: اشتاق له. راشف: شارب.
لوزتي تاجُ ضباباتِ الرُّبى
دغدغتْهُ الشمسُ بالنورِ الغزير (دغدته: داعبته.)
كلّما مرّتْ بها الريحُ هَمَتْ
كرقاعِ الثّلجِ مغموراً بنور (رقاع الثلج: قطع من الثلج.)
فؤاد الخشن
(قصيدة لم تنشر)
الشاعر: فؤاد الخشن:
ولد في بلدة الشويفات في لبنان عام 1928 وفيها تلقى دراسته الابتدائية والثانوية، التحق بعد ذلك بدار المعلمين في بيروت وتخرج منها بعد سنتين ليعود الى بلدته ويعمل في جهاز التعليم، وبعد سبع سنوات هاجر الى فنزويلا، وهناك نشط كعضو فعال في الجمعيات الدرزية والهيئات الخيرية والثقافية المختلفة. عاد الشاعر الى وطنه بعد سبع سنوات وأقام في بلدته الشويفات التي أحبها كثيراً وتغني بها في شعره، وفي هذه المرحلة من حياته انصرف الى الكتابة فنشر العديد من القصائد في المجلات الأدبية التي كانت تصدر في بيروت من مجموعاته الشعرية غابة الزيتون، وسوار الياسمين، واد ونيس وعشتا روت.
*203*
الأسئلة:
1. ينقل الشاعر لنا في هذه القصيدة ثلاث صور جميلة للوزته في شهر نيسان. بين هذه الصورة واشرحها؟
2. كيف وصف تأثير عُرْي، لوزته في البيت الثاني؟
3. اذكر ثلاثة تشبيهات يصف فيها زهر لوزته واشرحها؟
4. يكثر الشاعر في هذه القصيدة من استعمال "التشخيص" هو الحديث عن الأشياء كأنها إنسان، هات خمسة أمثلة على ذلك.
5. نجد في القصيدة قافيتيْن: احداهما رئيسه ثابته والأُخرى متغيره.. بين ذلك؟
6. اختر أكثر بيت في القصيدة يتشابه فيه الشطران من الناحية الموسيقية؟
*204*
*204*
أنور العطار
هَمَدَ الْحَقْلُ فَالْعِشاشُ خَرَابٌ
هَجَرَتْهَا عَلَى اللَّيَاليِ الطُّيُورُ
فَعَلى ضَاحِكِ الْمُرُوجِ اكْتِئاَبٌ
وعَلَى بَاسِمِ الدِّغَالِ (الدغال: جمع دغل وهو الشجر الكثيف.) فُتُورُ
فَإذاَ الْغَيْمُ فِي الْفَضَاءِ رُكَامٌ (الركام: المتكاثف فوق بعضه).
وَإِذاَ النَّهْرُ مُغْدِرٌ مَحْرُورُ
وَالْعَصَافِيرُ نَوَّمٌ لَيْسَ تَصْحُو
وَالْفَرَاشَاتُ جُثَّمٌ (جُثِّمٌ: بركَ على الأرض ولزمَ مَكانهُ. لَا تَطِيرُ)
وَرَقٌ مَائِتٌ تَهَاوَى عَلَى السَّهْلِ
وَغَنَّتْ بِهِ الصَّبَا (الصَّبا: الريح الشرقية.) وَالدَّبُورُ (الدَّبُور: الريح الغربية).
صُفْرَةٌ تُوقِظُ النَّؤُمَ مِنَ الشَّجْوِ (الشجو: الهم والحزن).
وَرَمْزٌ إِلَى الزَّوَالِ يُشِيرُ
تُمَّحِي فَرْحَةُ الْحَيَاةِ مِنَ الأَرْضِ
وَيُطْوَى حُلْمُ الْحَيَاةِ النَّضِيرُ
أنور العطار - سوريا
من كتاب السنابل من حقول الأدب، ص 65
أنور العطار:
شاعر سوري ولد في دمشق سنة 1908 اشتغلَ في التعليم له عدة دواوين شعر منها البواكير، والأشواق والليل المسحور وله كتب مدرسية.
*205*
الأسئلة:
1. سجل التعابير التي تشير الى الجو الذي يتركه الخريف في الطبيعة؟
2. ماذا قصد بقوله "ضاحك المروج" و "باسم الدغال"؟
3. كلمة غنت في البيت الخامس تزيد من معنى الحزن الذي يصوره الشاعر. ما رأيك؟
4. الى ماذا يرمز الخريف بالنسبة للشاعر؟
5. ليس جميع الناس من رأي أنور العطار في الخريف. أكتب بِلُغَتِكَ وصفاً مخالفاً لوصفه؟
6. ماذا أصاب الحقلُ والعِشاش، الفجرُ، العصافير والفراشات؟
*206*
*206*
(الغفر: ثلاثة أنجم من الميزان، والميزان هو مجموعة من النجوم التي تظهر في السماء.)
الأمير أمين آل ناصر الدين
(اقترح على الناظم أحدُ الوجهاء أبياتاً يبعث بها الى صديق له وجيه على أثر إشاعة من حسّاده وصمته بتهمةٍ هو بريءٌ منها، فارتَجَلَ الناظم الأبيات التالية واخذها الوجيهُ المقترح الذي ذيَّلها باسمة وارسلها الى صديقه، وقد اختار الشاعر العنوان "الغفر" وهو يعني ثلاثة أنجم من الميزان: إشارة الى علو قيمة هذا الوجيه)
أَسَاءَ بكَ الحسَّادُ إذ وَهَموا الظنا
وكم ساءَ ظنُّ الحاسدينَ بذي الحُسنى
ورُبَّ مريءٍ حُرِّ - السَّجِّيةِ (السجيّة: جمعها السجايا: الصفة والخلق، حر السجية: حر الطبع والخلق.) عابَهُ
أُناسٌ لفضلِ الحرِّ لم يفقهوا معنى
وَكم رَمدٍ (الرَّمد: مرض يصيب العيون.) عابَ الغزالةَ (الغزالة: الشمس عند طلوعها. في الضُحى)
وأعمى ترى اللألآء مقْلَتُهُ دَجْنا (الدَّجن: الظلام).
ومُدَّبلِجٍ (المدبلج: الذي يسير في آخر الليل.) قد ساء بالصُبحِ ظنُّهُ
فَلَمَّا تجلَّى ضَوْءُهُ كَذِّبَ الظِّنا
وَرُبَّ وَقاحِ (امرأة وقاح الوجه: بشعة الوجه.) الوجِهِ جِدِّ دميمةٍ
تعيِّرُ من فاقت صواحِبَها حُسْنا.
وليسَ عجيباً مِنْ خِفَافٍ حُلومُهم
تَنَقُّصُ (التنقّص: التقليل من قيمة الشيء.) مَنْ أحلامُهُم رَجَحَتْ وَزْنا
وقد تجحدُ الْمزْنَ (المزن: الغيوم الماطرة.) السِباخُ (السِّباخ: الأرض النزَّازة). نوالَه
إذِ الروضُ بالنفخ اغتدى يشكُر الْمُزْنا
سيجلو ضياءُ الحقِّ ظلمةَ باطِلٍ
بها ضلِّ مضن ضمَّتْ قلوبُهُمُ ضِغْنَا (الضغن: الحقد).
الأمير أمين آل ناصر الدين:
أمين آل ناصر الدين:
ولد في كفر متى في لبنان سنة 1876 واشتغل بالصحافة ولأدب والشعر، وله ثلاثة دواوين شعرية ومؤلفات اخرى وتوفي سنة 1953م.
*207*
الأسئلة:
1. في القصيدة ستة أمثلة على الحسد فمن الحاسد فيها؟
2. ما هي ميزة كل من الحاسد والمحسود في هذه الامثلة؟
3. ما هي ميزة الشخص المخاطب في القصيدة؟
4. يؤمِّلُ الشاعر صديقه في هذه الابيات بحسن النهاية جد موقعين حدث فيهما ذلك؟ ثم اشرح القول؟
5. يمكن اختصار القصيدة ببيتين فقط دون أن ينتقص ذلك من المغزى. ما هما؟
6. الالف الزائدة في آخر الاسم توضع عادة لتكون كرسياً لتنوين الفتح. أذكر ثلاثة مواضع ليست الالف فيها لهذا الهدف.. وبين السبب.
*208*
*208*
خليل مطران
في مَفْرِقي بَعْدَ الشَّبابِ مَشِيبُ
فَفَوْدِي ضَحُوكٌ وَالْفُؤَادُ كَئِيب (المفرق: مفرق الشعر: موضع افتراقه. الفود: جانب الرأس.)
إذا مَا مَشَى هذا الشَّرَارُ بِلمَّةٍ
فَمَا هِيَ إِلاَّ فَحْمَةٌ سَتَذُوبُ (اللَّمة: الشعر المجاور لشحمة الأذن.)
أَرَاعَكَ إِصْبَاحٌ يُطَارِدُ ظُلْمَةً
بِهَا كَانَ أُنْسٌ مَا تَشَاءُ وَطِيبُ
فَمَا بَالُ ضَوْءٍ في دُجَى الرَّأسِ مُؤْذِنٍ
بِأَنَّ زَمَاناً مَرَّ لَيْسَ يَؤُوبُ؟ (مؤذن: مُشْعِرٌ ومُعْلِمٌ، يؤوب: يرجع.)
غَنِمْنَا بِهِ أَمْنَ الْحَيَاةِ وَيُمْنَهَا
كَلَيْلٍ بِهِ يَلْقَى الْحَبِيبَ حَبِيبُ (اليمن: البركة.)
تَقِينَا الرَّزَايَا رَأْفَةُ اللهِ بِالصِّبَى
وَتَدْرَأْ عَنَّا الْحَادِثَاتِ غيُوبُ (تدرأ عنا: تدفع عنا.)
وَعَى اللهُ ذَاكَ الْعَهْد فَالعَيْشُ بَعْدَهُ
وُجُومٌ عَلَى أَيَّامِهِ وَوَجِيبُ (الوجيب: الخفقان.)
يقُولُونَ: لَيْلٌ جَاءَنَا بَعْدَهُ الْهُدى
صَدَقْتُمْ هُدىً لكِنْ أَسىً وكُروبُ
(خليل مطران)
المختارات من أشعار الأقطار العربية
جمعها محمد أبو المجد 1952
خليل مطران:
(1871-1948) شاعر واديب لبناني، ولد في بعلبك، ثم ذهب الى مصر، لقب بشاعر القطرين (سوريا ومصر) ويعتبر من شعراء النهضة.
*209*
الأسئلة:
1. ما هي الألفاظ التي استعارها الشاعر في الأبيات الستة الأُولى للتعبير عن سواد الشَّعْرِ وبَياضه وشيبه؟
2. اعتمد الوصف في القصيدة على المقابلة بين نقيضين لإثارة مشاعرنا. أين نجد هذه المقابلة؟
3. لماذا يقول عن الزمان الذي مضى: كليل به بلقى الحبيب حبيبُ؟ ونحن نعلم أن الليل ليس رمزاً للفرح والسرور.
4. ماذا قصد بكلمتي ليل وهدى في البيت الاخير؟
5. ما هي المعاني التي تضعها تحت كلمة سواد؟ وما هي المعاني التي تضعها تحت كلمة مشيب مما ورد في القصيدة؟
(6) اختر الأبيات التي تصور نفسية الشاعر ودرجها من الأكثر تصويراً الى الأقل؟
*210*
صفحة فارغة
*211*
*211*
*212*
صفحة فارغة
*213*
*213*
سامي أبو المنى
أُلقِيَتْ في احتفال عيد الام في مدرسة العرفان 22/3/1980
عيدُ الْمحبةِ، يا أماهُ، ما همِّي
في يَوْمِ عيدكِ؟ تُمحى صورةُ الغُمِّ
ما همَّ، أنتِ شبعتِ اليومَ من ضَمِّي
ما همَّ، قلبي شدا في حبه فرحاً
والشِعْرُ نادى بأعلى الصوت: يا أمي
يا أُمُّ أهدِي لك في العيدِ أشعاري
إن كنتُ صوتاً فأنتِ لحنُ أوتاري
إن كنتُ فكراً فأنتِ أمُّ أفكاري
أو كنتُ قلباً فأنتِ روحُه الساري
في نبضةِ القلب صوتُ قائلُ: أمي
يا أمُّ أنتِ شِفائي من ضنا الكَرْبِ
يا أمُّ أنتِ عبيرُ الدِّينِ في قلبي
يا أمُّ أنتِ منار الحقِّ في دربي
يا أمُّ أنتِ سلامي، ثورتي، حبِّي
*214*
آيات عمري تنادي كلَّها: أمي
إنْ ضاقَ صدري بهذا الكونِ وانقبضتْ
أفراحُ عمري، وسارت في الدُجى ومَضَتْ
والعينُ منِّي على جرحِ الشقا غَمَضَتْ
فتحتُ عَيْنَيَّ بالايمانِ فانتفضت
منِّي الجروحُ تنادي كلِّها: أمي
بوركتِ يا أمُّ، رَمْزَ الخيرِ للأبدِ
رمزَ التَسامحِ، رمزَ الطهرِ في بلدي
تَفدينَ، تُعطينَ منطِ الرُوحَ للولدِ
ما الجودُ بالمالِ عندَ الجودِ بالكبد!
بوركتِ رمزَ الفدى والجودِ يا أمي
سامي أبو المنى:
معلم في مدرسة العرفان قرب بعقلين، يتميز شعره بطابع المناسبات وبالجو الديني.
*215*
الأسئلة:
1. "ما هَمِّي؟" تساؤل يشير به الشاعر أنه خال من الهموم في هذه المناسبة، ماذا قصد بتكرار "ما هَمَّ" في نفس المقطع؟
2. نجد كلمة أم في حالة المنادي على ثلاثة أوجه؟
يا أمي، يا أماهُ، يا أمُّ، كيف تفسر هذا الاختلاف؟
3. في المقطع الثالث يشير الشاعر الى القيم التي علمته اياها أمهُّ.
أ. ما هي هذه القيم؟
ب. ماذا قصد الشاعر بقوله: آيات عمري؟
4. المقطع الرابع يبين أن أمّه تمثل الأمل والكفاح في الحياة بالنسبة له... لماذا؟
5. لماذا وردت كلمة (رمز) مُشكّلة الآخر بالفتحة في المقطع الخامس؟
6. ضع عنواناً مناسباً لكل مقطع؟
7. استخرج الأفكار التي وردت في القصيدة... ثم رتبها، ثم جد الأبيات التي تلائم كل فكرة، واعطها نفس الرقم؟
8. وَجّهْ رسالة لأمك تدرج فيها المعاني التي وردت في الأبيات حسب التسلسل الذي وضعته في السؤال السابق؟
*216*
*216*
محمود عماد
كانت بين الشاعر وعباس محمود العقاد، علاقة صداقة وزمالة" زعيما المدرسة الحديثة الابتداعية" وان هناك شبه كبير في قصائد كليهما، قال محمد مخاطباً العقاد الذي نظم قصيدة في "الوردة" وراح يناجيها بمنطق متشائم يخلو من العاطفة.
يا حزين النفس أُعْطِيتَ مُناها
فَاغْنَمِ الفرصةَ حتى منتهاها
لا تُنَغِّصْها اختباراً واكتناها
إنَّ من خاف من الجِنِّ.. يراها (اختباراً: امتحاناً. اكتناهاً: الاكتناه: الوصول الى جوهر الاشياء وحقيقتها، كنه الشيء: جوهره.)
النوى آتيةٌ لا شك يوماً
وهي من حولكما لم تألُ حوْما (النوى: الفراق. لم تأل: لم تقصر - تقول لم يأل جهداً، ولم يألُ بحثاً...الخ....أي لم يضمن بأي مجهود.)
همُّها أن لا يدوم الصفو دوما فعلى رِسْلِكَ لا تعجلْ خطاها (على رسلك" على مهلك، تمهل.)
لا تقل يا وردتي شوكُك أينا؟
ما علينا منه فيها.. ما علينا
إنها أَخْفَتْه عّنا فانتهينا
حَسْبُنَا الوردةُ رفَّتْ في نداها
ليس شك، إن للوردة شوكاً
وإذا أدنيت كفاً منه شكا
فأحْبُكِ القُفَّازَ في كَفَّيْكَ حبكما
واخلس الوردة واستغرق شذاها (القفاز: كسوة الكف - لحمايتها من البرد أو الشوك..الخ. حبك القفاز في يديه أي أحكم لبسه.. حبكَ القصة جيداً، أي أحسن بناءها. أخلس الوردة: اغتنم الفرصة بالنظر اليها. اختلس النظر: استرقه.)
انت في الجنة اُلقيتَ يقينا،
فدع الشك واستمهلْهُ حِينا
إنَّه الشيطانُ قد أخفى القرونا
إنه الحيةُ فاحذر من أذاها
(شعراء من لبنان)
بيروت 1987. الشاعر محمود عماد، ص 101
*217*
محمود عماد:
ولد في سنة 1891 لأن جده هاجر من الباروك في لبنان مع ابراهيم باشا المصري بعد فشل حماته على سوريا وتركيا ووالدته من بلدة بيت الخولي المصرية. أنهى تعلمه الثانوي في القاهرة سنة 1907 وزامل طه حسين وأحمد الزيات وأحمد أمين في الإلتحاق الى الجامعة المصرية في بداية طريقها. عمل موظفاً حكومياً وتقلد عدة مناصب. كان عضواً في لجنة الشعر في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والأداب وله ديوان شعر بثلاثة أجزاء وتوفي سنة 1965.
الأسئلة:
1. في القصيدة يطلب محمود عماد من العقاد عدة أشياء باسلوبين: الأول بالأمر والثاني بالنهي سجل الجمل التي تشير الى هذين الطلبين.
2. استخرج من النص جملتين على الأقل يمكن استعمالها كحكمتين؟
3. في البيت السابع ورد تشابه في اللفظ نسميه في البلاغة (جناس)، بَيّنهُ؟
4. ما قصدُ الشاعر من استعمال الكلمات: (جن، شيطان، حيّة).
5. إذا افترضنا أن الوردة عند الشاعر تمثل الحياة.. فماذا يمثل شوكها؟
6. ضع التراكيب التالية في جمل مفيدة. لم يسأل، على رسلك، حسبنا، أختلس الشيء، واختلس النظر، تعجل الآمر.
7. يتحدث الشاعر في النص عن المعاني التالية: حزن، صفو وسوسة، اغتنام الفرص، الشك، التحدي. جد الجمل التي اوردها الشاعر لهذه المعاني؟
8. لو أن الشاعر كتب رسالة للعقاد بدل القصيدة، فماذا يقول فيها؟
*218*
*218*
ميخائيل نعيمه
يَا نَهْرُ هَلْ نَضَبَتْ (نضبت: جفت.) مِيَاهُكَ فَانْقَطَعْتَ عَنِ الْخَرِيرْ؟
أَمْ قَدْ هَرِمْتَ وَخَارَ عَزْمُكَ فَانْثَنَيْتَ (أنثنيت عن المسير: توقفت.) عَنِ الْمَسِيرْ؟
بِالأَمْسِ كُنْتَ مُرَنِّماً بَيْنَ الْحَدَائِقِ وَالزُّهُورْ
تَتْلوُ عَلَى الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا أَحَادِيثَ الدُّهُورْ
بِالأَمْسِ كُنْتَ تَسِيرُ لاَ تَخْشَى الْمَوَانِعَ فِي الطَّرِيقْ
وَالْيَوْمَ قَدْ هَبَطَتْ عَلَيْكَ سَكِينَةُ اللَّحْدِ (اللحد: القبر.) الْعَمِيقْ
بِالأَمْسِ كُنْتَ إذا أتَيْتُكَ بَاكِياً سَلَّيْتَنِي
وَالْيَوْمَ صِرْتَ إِذَا أتَيْتُكَ ضَاحِكاً أبْكَيْتَنِي
بِالأَمْسِ كُنْتَ إِذَا سَمِعْتَ تَنَهُّدِي وَتَوَجُّعِي
تَبْكِي وَهَا أبْكِي أَنَا وَحْدِي، وَلاَ تَبْكِي مَعِي!
مَا هذِهِ الأَكْفَانُ؟ أَمْ هذِي قُيُودٌ مِنْ جَلِيدْ
قَدْ كَبَّلَتْكَ وَذَلَّلتْكَ بِهَا يَدُ الْبَرْدِ الشَّدِيدْ؟
هَا حَوْلَكَ الصَّفْصَافُ لاَ وَرَقٌ عَلَيْهِ وَلاَ جَمَالْ
يَجْثُو كَئِيباً كُلَّمَا مَرَّتْ بِهِ رِيْحُ الشَّمَالْ
*219*
والْحَوْرُ يَنْدُبُ فَوْقَ رَأْسِكَ نَاثِراً أَغْصَانَهُ
لاَ يَسْرَحُ الْحَسُّونُ فِيهِ مُرّدِّداً ألْحَانَهُ
تَأْتِيهِ أسْرَابٌ مِنَ الْغِرْبَانِ تَنْعَقُ فِي الْفَضَا
فَكَأَنَّها تَرْثِي شَبَاباً مِنْ حَيَاتِكَ قَدْ مَضَى
لكِنْ سَيَنْصَرِفُ الشِّتَا، وَتَعُودُ أَيَّامُ الرَّبِيعْ
فَتَفُكُّ جِسْمَكَ مِنْ عِقَالٍ (عقال: قيد.) مَكَّنَتْهُ يَدُ الصَّقِيعْ
وَتَعُودُ تَبْسِمُ إِذْ يُلاَطِفُ وَجْهَكَ الصَّافِي الصَّقِيعْ
وَتَعُودُ تَسْبَحُ فِي مِياهِكَ أَنْجُمُ اللَّيْلِ الْبَهِيمْ (الليل البهيم: الليل المظلم.)
قَدْ كَانَ لِي يَا نَهْرُ قَلْبٌ ضاحِكٌ مِثْلَ الْمُرُوجْ
حُرٌّ كَقَلْبِكَ فِيهِ أهْوَاءٌ (أهواء: رغائب.) وآمالٌ تَمُوجْ
قَدْ كَانَ يُضْحِي غَيْرَ مَا يُمْسِي وَلاَ يَشْكُو الْمَلَلْ
وَالْيَوْمَ قَدْ جَمَدَتْ كَوَجْهِكَ فِيهِ أمْوَاجُ الأَمَلْ...
يَا نَهْرُ! ذَا قَلْبِي أَرِاهُ كَمَا أَرَاكَ مُكَبَّلا
وَالْفَرْقُ أَنَّكَ سَوْفَ تَنْشَطُ مِنْ عِقَالِكَ، وَهْوَ...لا
ميخائيل نعيمه
*220*
ميخائيل نعيمه:
أديب لبناني ولد في (بسكنتا) تعلم في قريته ثم في ثانوية الناصرة ثم في روسيا وسنة 1911 هاجر الى امريكا الشمالية، وانضم الى الرابطة القلمية مع جبران خليل جبران سنة 1921 وبعد وفاة جبران سنة 1931 عاد الى لبنان وتوفي بتاريخ 28/2/1988.
كتب الشعر والقصة والمقالة الأدبية والفكرية.. ويعتبر من رواد النهضة الأدبية الحديثة.
الأسئلة:
1. يعطينا الشاعر صورتين للنهر:
أ. صورة الماضي.
ب. صورة الحاضر.
إشرح هاتين الصورتين بلغتك؟
2. ما هي العلاقة الحمي الساؤل مة التي كانت تربط بين الشاعر والنهر؟
3. أين يتردد أيضاً الساؤل الوارد في مطلع القصيدة؟
4. ماذا يدلّك على أن هذا التَّسَاؤل لا يعبر عن جهل الشاعر بالجواب؟
5. ما هو دافع الحزن الحقيقي في وصف الشاعر للنهر؟
6. في الأبيات الأخيرة فكرة فلسفية، لأنها تعبّر عن حقيقة يأس الشاعر. (كان الشاعر وقتها في سنوات العشرين من عمره) ما هي هذه الفكرة؟
7. هذا الأسلوب من الشعر يسمّى شهراً رومانسياً. ما هي مميزات هذا الشعر؟
*221*
*221*
أبو القاسم الشابي
أَقْبَلَ الصُّبْحُ يُغَنِّي لِلْحَيَاةِ النَّاعِسَهْ
وَالرُّبَى تَحْلُمُ فِي ظِلِّ الْغُصُونِ الْمَائِسَةْ
وَالصَّبَا تُرْقِصُ أَوْرَاقَ الزُّهُورِ الْيَابِسَهْ
وَتَهَادَى النُّورُ فِي تِلْكَ الْفِجَاجِ الدَّامِسَهْ
أَقْبَلَ الصُّبْحُ جَمِيلاً يَمْلأُ الأُفْقَ بَهَاهْ
فَتَمَطَّى الزَّهْرُ وَالطَّيْرُ وَأَمْوَاجُ الْمِيَاهْ
قَدْ أَفَاقَ الْعَالَمُ الْحَيُّ، وَغَنَىَّ لِلْحَيَاهْ!
فَأَفِيقِي يَا خِرَافِي وَاهْرَعِي لِي يَا شِيَاهْ
وَاتَبِعِينِي يَا شِيَاهِي بَيْنَ أَسْرَابِ الطُّيُورْ
وَامْلإِي الْوَادِي ثُغَاءً وَمِرَاغاً وَحُبُورْ
وَاسْمَعِي هَمْسَ السَّوَاقِي وَانْشُقِي عِطْرَ الزُّهُورْ
وَانْظُرِي الْوَادِي يُغَشِّيهِ الضَّبَابُ الْمُسْتَنِيرُ
وَاقْطِفِي مِنْ كَلإِ الأَرْضِ وَمَرْعَاهَا الْجَدِيدْ
وَاسْمَعِي شُبَّابَتِي تَشْدُو بِمَعْسُولِ النَّشِيدْ
*222*
نَغَمٌ يَصْعَدُ مِنْ قَلْبِي كَأَنْفَاسِ الْوُرُودْ
ثُمَّ يَسْمُو طَائِراً كَالْبُلْبُلِ الشَّادِي السَّعِيدْ
لَكِ فِي الْغَابَاتِ مِرْعَايَ وَمَسْعَايَ الْجَمِيلْ
وَلِيَ الإِنْشَادُ وَالْعزْفُ إِلَى وَقْتُ الْأَصِيلْ
فَإِذَا طَالَتْ ظِلاَلُ الْكَلإِ الْغَضِّ الضَّئِيلْ
فَهَلُمِّي نُرْجِعُ الْمَسْعَى إِلَى الْحَيِّ النَّبِيلْ
أبو القاسم الشَّابي
(6/2/1993)
أبو القاسم الشَّابي:
ولد أبو القاسم في بلدة الشابيّة في تونس وحفظ القرآن فيها وعمره تسع سنوات ثم تابع علومه في كلية الزيتومه في العاصمه ثم تخرج من كلية الحقوق سنة 1930 تأثر بالشعراء المهرجين، وتوفي سنة 1934 وهو في مقتبل العمر.
الأسئلة:
1. تحس في المقطعين الأولين بالتفاهم والتآلف بين عناصر الطبيعة. اشرح؟
2. كيف يندمج شاعرنا مع هذا التآلف؟
3. ما معنى: "تمطى الزهر والموج"، "العالم الحي"، "طالت ظلال الكلأ" ؟
4. من مميزات الأغنية الألفاظ السهلة، والصور ذات الايحاء الجميل والرقيق، جد هاتين الصفتين في أغنية الشابي؟
*223*
*224*
صفحة فارغة
*225*
*225*
الأستاذ: شكيب جهشان
(المقطع الأول، والمقطعان الأخيران من القصيدةِ)
وَمِثْلَمَا يُرَيِّشُ الْحَمَامْ
كَبُرْتُمُ وَصِرْتُمْ رِجَالْ
وَأَزْهَرَتْ آمَالْ
يَجِيءُ عَامْ
يَرُوحُ عَامْ
وَنَحْنُ الْحَيَاةِ
نَزْرَعُ الْجُمُوحَ وَالطُّمُوحَ وَالرِّيشَ عَلَى
أجْنِحَةِ الْحَمَامْ
يَا أَيُّهَا الأَبْنَاءُ وَالأُخْوَةُ، وَالْمَصِيرُ
هَلْ تَسْمَعُونَ دَرْسِيَ الأخِيرْ؟
يَقُولُ شَيْخٌ عَاصَرَ الأَتْرَاكَ
وَالطَّاعُونْ:
- نَزْرَعُ يَأْكُلُونْ.
تَقُولُ شَمْعةٌ وَتَذْرِفُ الدُّمُوعُ كَالنُّضَارْ
*226*
- نَموتُ.
لكِنْ نَقْلِبُ اللَّيْلَ إِلَى نَهَارْ.
تَقُولُ زَهْرَةٌ فِي أَوَّلِ الْغَسَقْ:
- مَا أَقْصَرَ الْعُمْرَ وَلكِنْ عِشْتُهُ
لآخِرِ الرَّمَقْ
يَقُولَ نِسْرٌ بَدَّدَ الْكِفَاحُ رِيشَهُ
وَحَطَّمَ الْقَدَمْ:
- هَرِمْتُ لكِنْ لَمْ أَزَلْ
أَذَلِّلُ الْقِمَمْ.
تَقُولُ نَحْلَةٌ لَمْ تَجِدِ الْقُوتَ عَلَى مَدَاخِلِ الشِّتَاءْ:
- أَجُوعُ لكِنْ آهْ
مَا أَرْوَعَ قِيمَةَ الْعَطَاءَ.
وَبَعْدُ
يَا رِفَاقُ يَا خَمِيرَةَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانْ
إِلَيْكُمْ الْوَصِيَّةَ الأَخِيَرةَ
الأَخِيرَهْ
أَعَزُّ مَا فِي الْكَوْنِ يَا أَحِبَّتِي
أَعَزُّ مَا فِي الْكَوْنِ يَا أَحِبَّتِي الإِنْسَانْ
كَبُرْتُمُ وَصِرْتُمُ رِجَالْ
وَمِنْ قَدِيمٍ قَالَتِ الأَمْثَالْ
*227*
الْبَيْتُ لاَ تَعْمُرُهُ خَزَائِنُ الأَمْوَالِ بَلْ تَعْمُرُهُ
سَوَاعِدُ الرَّجَالْ
شكيب جهشان، ديوان: أُحيكم لو تعرفون كم
الناصرة - 1988
شكيب جهشان:
من قرية المغار ولد سنة 1937 وتعلم في مدارسها الابتدائية، أنهى تعليمه الثانوي في مدينة الناصرة وعمل معلماً للغة العربية في مدرسة الرامة الثانوية ثم في الثانوية الأمريكية في الناصرة له ديوانا شعر ومجموعة رباعيات نثرية شعرية وأخيراً أصدر مجموعة تضم ثلاث قصص شعرية من التراث ذات طابع عصري فهو لذلك من الشعراء المجددين باستمرار.
الأسئلة:
1. أي جمله في بداية القصيدة تعبّر عن حركة الزمن؟
2. ما وجه الشبه بين ما قاله الشيخ وما قالته الشمعة والزهرة والنحلة والنسر؟
3. ماذا يقول الشاعر عن نفسه في الأبيات السابقة؟
4. في نهاية القصيدة يكثر الخطاب والتكرار والتقفيه الداخلية:
أ. أشر الى هذه الإمور.
ب. لماذا جعل الشاعر هذه الإمور تظهر معاً في هذا الموقع؟
(5) ما هي وصيته لطلابه؟
*228*
*228*
درويش الأسيوطى
كلُّ شَيْءٍ كَان أَخْضَرْ
سُعُفُ النَّخْلِ
"صَبَاحُ الْخَيْرِ"
وَالْبِشْرُ الطُّفُوليُّ الْمُبَاغِتْ
وَالْقُلُوبُ البِكْرُ
وَالْحُلُمُ الْمُعَطَّرْ
كُلُّ شَيْءٍ كَانَ أَخْضَرْ
مِثْلَ أَحلَامِ الْعَذَارَى
وَالْمَوَاوِيلِ الْبَرِيئَهْ،
وَالْعَصَافِيرُ الَّتِي جَاءَتْ مِنَ الْجَّنَّةِ
خَضْراءَ تُغَنِّي
وَالأَمَانِيٌّ الطَّرِيَّهْ
مِثْلُ عُشْبٍ فَوْقَ خَدِّ النَّهْرِ
فِي الطَّينِ تَبَعْثَرْ
كَانَتِ الأَغْصَانُ أَوْتَاراً
وَمَاءُ الْنَهْرِ كَوْثَرْ (كوثر: نهر في الجنة)
وَالنَّدَى فَوْقَ الشَّبَابِيكِ
الْخَجُولَهْ
دَمْعَ عَيْنٍ قَدْ تَحَدَّرْ (تحدّرَ: نزل، تساقط)
كُلُّ شَيْءٍ كَانَ أَخْضَرْ
حِينَ كَانَ الْقَلْبُ أَخْضَرْ
درويش الأسيوطي
مجلة الإبداع الأولى فبراير 1992
*229*
درويش الأسيوطى: شاعر مصري معاصر.
الأسئلة:
1. كيف تكون "صباح الخير" والبِشرُ الطفولي، والقلوب البكر، والحلم المعطر خضراء. حسب المقطع الأول؟
2. لماذا نعت "البِشْرُ الطفولي "بالمباغث"؟
3. بماذا شبه خضرة الأشياء. حسب المقطع الثاني؟
4. في المقطع الأخير يأتي بأمثلة للأشياء التي كانت خضراء. فما معنى الخضرة إذن؟
5. ما الذي غير نظرته للأشياء؟
6. ما وجه الشبه وما الاخْتِلافُ بين مطالع المقاطع الثلاثة؟
7. ماذا تجد في المقطع الأخير ما لم نجده في بقية المقاطع؟
8. اكتب القطعة بلغتك بحيث تحافظ على الفكرة وليس على التفاصيل؟
9. ما هي الصور التي يمكن رسمها في القصيدة؟
*230*
*230*
سميح القاسم
يَوْمَ يَمَّمْتُ الْمَدِينَهْ
أَجْهَشَتْ مَغْلُوبَةً أُمِّي الْحَزِينَهْ
وَبلاَ حَوْلٍ وَلاَ،
لَمَّتْ ثِيَابِي فِي الْحَقِيبَهْ
وَعَلى صَدْرِيَ شَكَّتْ يَدُهَا
قُصْفَةَ فِيجَنْ،
يَدُهَا - آهِ الْحَبِيبَهْ!
نِصْفُ عُمْرِي مَرَّ، جَوَّالاً، وَلكِنْ
مِنْ مَدِينهْ
لِمَدِينَهْ
لَمْ أَعُدْ أَذْكُرُ كَمْ بَدَّلْتُ فِيهَا
مِنْ ثِيَابٍ وَحَقَائِبْ
لَمْ أَعُدْ أَذْكُرُ فِي أَرْضِ الْعَجَائِبْ
لَمْ أَعُدْ. لكِنَّنِي أَذْكُرُ، أَذْكُرْ
رَغْمَ أَحْزَانِي اللَّعِينَهْ
قُصْفَةَ الْفِيجَنِ.. يَا أُمِّي الْحَزِينَهْ
إِنَّهَا.. فِي رِئَتِيْ، ذِكْرَى!
وَفِي عَيْنَيَّ...زِينَهْ!!
سميح القاسم
ديوان سميح القاسم - حيفا 1979 (ديوانه 1-2)
*231*
سميح القاسم:
ولد في مدينة الزرقاء سنة 1939 وعاد مع والده الى موطنه قرية الرامة في الجليل. كتب منذ شبابه الأول وعمل في الصحافة والنشاط الأدبي والسياسي في البلاد. وله العديد من الدواوين جمع أكثرها في مجلد واحد يضم أكثر مقالاته الأدبية والنقدية. ويعتبر اليوم من الطبقة الأولى بين الشعراء في العالم العربي، وأدبه مترجم الى عدة لغات ومورد العديد من الدراسات وهو ما زال في أوج عطائه المتجدد باستمرار.
الأسئلة:
1. كيف يصور حال أمه حين ودعته يوم سافر الى المدينة؟
2. في المقطع الأول يحطم الشاعر مبنى الجملة المألوفة، نجد ذلك في السطر الثاني والسطر الثالث والسطر الأخير. كيف كان عليه أن يكتب في هذه الأسطر إذن؟
3. ماذا يقول الشاعر عن رحلته الطويلة الى المدينة؟
4. ما هي قيمة "قصفة الفيجن" في القصيدة؟
5. ماذا نجد في التكرار في هذه القصيدة؟
*232*
صفحة فارغة
*233*
*234*
صفحة فارغة
*235*
*235*
أمَا زِلْتِ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ، يَا عَجُوزَتِي؟
أَنَا حَيٌّ. سَلَاماً لَكِ، سَلَاما فَلْيَغْمُرْ كُوخَكِ الصَّغِيرَ
ذلِكَ النُّورُ الْمَسَائِيُّ، الَّذِي لَا يُوصَفُ
يَكْتُبُونَ لِي، أَنَّكِ حزِنْتِ عَلَيَّ مُخْفيَةً قَلَقَكِ الْغَامِرَ،
أَنَكِ تَخْرُجينَ كَثِيراً إِلَى الدَّرْبِ تَنْتَظِرِينَنِي مُلْتَفَّةً بِشَالِكِ الرَّثّ الْقَديم
وَأَنَكِ فِي الْعَتْمَةِ الْمَسَائِيَّةِ الزَّرْقَاءِ
تَتَخَيَّلِينَ شَيْئاً وَاحِداً بِاسْتِمْرَارٍ
كَأَنَّ أَحَداً مَا فِي عِرَاكٍ مَخْمُورٍ
أَنْ أَتَخَلَّصَ بِسُرْعَةٍ مِنْ الشَّوْقِ الْجَامِحِ
وَأَعُودَ إِلَى بَيْتِنَا الرِّيفِيِّ الْمُنْخَفِضِ السَّقْفِ
سَأَعُودُ عِنْدَمَا تَغْمُرُ الأَغْصَانُ حَدِيقَتَنَا الْبَيْضَاءَ بِالرَّبيعِ.
وَلكِنْ، لَا تُوقِظِينِي مَعَ الْفَجْرِ
كَعَادَتِكِ مُنْذُ ثَمَانِي سَنَوَاتِ خَلَتْ.
لَا تُوقِظِي الأَشْيَاءَ الَّتِي مَرَّتْ
وَلَا تَثِيرِي ذلِكَ الَّذِي لَمْ يَتَحَقَّقْ،
فَقَدِ احْتَمَلْتُ فِي حَياتِي بإِفْرَاطٍ
مُعَانَاةَ الْخَسَارَةِ الْمُبَكِّرَةِ وَالتَّعَبَ.
*236*
غَرَزَ فِي قَلْبِيَ خِنْجَراً فِنْلَنْدِيّاً
لَا شَيْءَ، يَا عَزِيزَتِي! فَاطْمَئِنِّي، لَيْسَ ذلِكَ كَابُوسٌ ثَقِيلٌ.
فَمَا أَنَا ذلِكَ الْمُتَشَرِّدُ الشِّرِيرُ الَّذِي يَمُوتُ قَبَلَ أَنْ يَرَاكِ.
إِنَّنِي كَسَابِقِ عَهْدِي حَنُونٌ أَحْلُمُ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ فَقَطْ:
لَا تُعَلّمِينِي الدُّعَاءَ، فَلَا دَاعِ لِذلِكَ،
وَلَنْ تَكُونَ عَوْدَةٌ إِلَى الْمَاضِي أَبَداً.
فَأَنْتِ وَحْدَكِ لِي السَّنَدُ وَالسَّلْوَى
أَنْتِ وَحْدَكِ لِي النُّورُ، الَّذِي لَا يُوصَفُ.
فَلْتَنْسَيْ قَلَقَكِ الْغَامِرَ عَلَيَّ
وَلَاَ تَحْزَنِي عَلَيَّ حُزْنَكِ هذَا
وَلَا تَخْرُجِي كَثِيراً إِلَى الدَّرْبِ
مُلْتَفَّةً بِشَالَكِ الرَّثِّ الْقَدِيمِ.
سيرغي يسينين
(روسيا، 1895-1925)
الشرق العدد الثاني 1958
ترجمة: ح. ح
*237*
سيرغي يسينين:
هو واحد من أشهر شعراء روسيا في الربع الأول من هذا القرن، وأكثرهم شهرة ومحبة في اوساط الشباب. بدأ يبرز في العقد الثاني، وفي أوائل العشرينات اكتملت شهرته كشاعر غنائي من الطراز الأول. يعتبر يسينين، بحق، شاعر الريف والطبيعة الذي كرس معظم قصائده للتغني بهما. ويتميز شعره بتلك الغنائية العالية ورفاهة الحس وذلك الدفق الغامر من العاطفة المرهفة، وبتلك النفحة من الحزن الهادىء الذي ظل يلون أشعاره ويعطيها الطعم المأساوي. وقد لوحظ في السنوات الأخيرة تزايد اهتمام الشبيبه بأشعار يسينين، بحيث تحول الكثير منها الى أغاني يقدمها أشهر المغنين ومن بينها هذه القصيدة.
الأسئلة:
1. ماذا نعرف عن بيت الشاعر من الرسالة السابقة؟
2. صف تصرف هذه العجوز "لهفتها على ولدها وصمودها على الزمن؟
3. ما هي الأمور التي تعرفها عن الشاعر من خلال الرسالة؟
4. القصيدة غنية بالتعابير التي تبرز محبة الشاعر لأمه وارتباطه بها؟
5. يخاطب الشاعر أمه في هذه الرسالة أحياناً بطريقة توحي بالمداعبة.
جد جملتين على الأقل عن هذا النوع؟
6. قسم الرسالة السابقة الى خمسة أقسام؟ وضع عنواناً لكل قسم؟
7. ماذا تقول لنا هذه الرسالة بالإضافة الى أن ابنها مشتاق وقلق وسيعود الى كوخ أمهِ وحديقته البيضاء؟
*238*
*238*
الطفلُ الذي يلبسُ ثوبَ الإِمارَةِ،
ويضعُ تحتَ عُنُقِهِ الاطواق،
يفقدُ لذته كلَّها في اللعب،
فإن ثوبَهُ يُعيقُ كلَّ خُطوةٍ يخطوها.
أُمَّاه!!
أيجدُرُ به أَنْ يكون حبيسَ هذا الترفِ،
بمنأىً عن غبار الارض النافع؟؟
أَفما تحرمينَه هكذا من حقِّ مشاركتِهِ في
العيدِ العظيم من الحياة الانسانيةِ المشتركة؟
ليس هنالك حياةٌ تُؤتي الخلودَ يا أخي،
ليس هناكَ شيءٌ يُتاحُ لهُ البقاء.
أذكر هذا...ومَتِّعْ نفسَكَ
إن حياتنا قصيرةُ،
ولكنَّها لا تَهَبُ للحب غير أيامٍ قليله.
وقد كُتِبَ علينا فيها الكدُّ.
*239*
وقد تضحي قاسيةً طويلةً الى الابد.
أذكر هذا... يا أخي، ثم مَتِّعْ نفسَك
)بتصرف عن( روائع طاغور في الشعر المسرح ترجمة
د بديع حقي - مصر 1975 ص 170
طاغور:
هو شاعر الهند في العصر الحديث ويمثّل الفكر الهندي وروحانية الرِق. (1860-1941)
- حصل على جائزة نوبل للأداب سنة 1913.
الأسئلة:
1. ماذا يريد طاغور للأطفال؟
2. ما هو العيد العظيم الذي يتحدث عنه طاغور.
3. يأتي طاغور بثلاثة أسباب ليقنعنا بأن علينا أن نمتع أنفسنا. ما هي؟
4. ما هي المتعة الحقيقية في الحياه؟
*240*
*240*
محمد الماغوط
الآنَ
وَالْمَطَرُ الْحَزِين
يَغْمُرُ وَجْهِيَ الْحَزِين
أَحْلُمُ بِسُلَّمٍ مِنَ الْغُبَارِ
مِنَ الظُّهُورِ الْمُحْدَوْدِبَه
وَالرَّاحَاتِ الْمَضْغُوطَةِ عَلَى الرَّكَبِ
لأَصْعَدَ إِلَى أَعَالِي السَّمَاءِ
وَأَعْرِفَ
أَيْنَ تَذْهَبُ آهَاتُنَا وَصَلَوَاتُنا؟
آهٍ يَا حَبِيبَتِي
لاَ بُدَّ أَنْ تَكُون
كُلُّ الآهَاتِ وَالصَّلَوَاتِ
كُلُّ التَّنَهُّدَاتِ وَالاسْتِغَاثَاتِ
الْمُنْطَلِقَةِ
مِنْ مِلايِينِ الأَفْوَاهِ وَالصُّدُور
وَعَبْرَ آلافِ السِّنِينَ والْقُرُون
مُتَجمِّعَةً فِي مَكَانٍ مَا مِنَ السَّمَاءِ. كَالْغُيوم
*241*
وَلَرُبَّمَا
كَانَتْ كَلَمَاتِي الآن
قُرْبَ كِلِمَاِت الْمَسِيح
فَلْنَنْتَظِرْ بُكَاءَ السَّمَاء
يَا حَبِيبَتِي.
محمد الماغوط
ديوان الفرح ليس مهنتي ضمن "الآثار الكاملة"
دار العوده، بیروت بدون تاریخ
محمد الماغوط:
شاعر سوري معصر له عدة دواوين شعر منها: حزن في ضوء القمر، وغرفة ملايين الجدران والحزن ليس مهنتي. وشعره يتميز بانه من الشعر المنثور. وله مسرحية العصفور الأحدب.
وما زال الشاعر معطاءً في مجال الشعر والمسرح والمقال.
الأسئلة:
1. كيف تتوصل من خلال لغة القصيدة إلى الجو النفسي الذي ينقله الشاعر للقارئ؟
2. لماذا يحلم الماغوط بالصعود الى أعالي السماء؟
3. قسم القصيدة إلى أربعة مراحل حسب ما يلي:
أ. الجو العام - توتر.
ب. الحلم - بحث عن الحل.
ج. تحليل الحلم - تبرير الحل.
د. إستسلام - رجوع للواقع المر.
4. في السطرين 5-6 صورة متناسقة.. إشرحها؟ وبين ما العلاقة بين "الظهور المحدودبه" وبين "الراحات المضغوطة على الركب؟"
5. بماذا توحي لك الصورة اعلاه؟
6. لماذا يربط الشاعر بين كلماته وكلمات المسيح؟
7. هذه القصيدة بدون وزن (من الشعر المنثور) لكن فيها تقفيه معينه، تتبع القافية فيها وقارنها مع القافية في الشعر الموزون والمقفى..
نهاية الكتاب