المَنهَلْ

في الأدب العربي الحديث

الوحدة الأولى في الأدب

المرحلة الثانويّة

تأليف: د. سمير كتّاني

إصدار: هيا إلى العربيّة 2018

الطبعة الأولى

1439 ه - 2018م

صفحات 9-296

الناسخة: وفاء أبو حسين

المكتبة المركزية للمكفوفين

وذوي عسر القرائي

تل ابيب  اسرائيل  2020م

رقم التسلسل: 55755

يمنع نسخ أو نقل النسخة الملائمة معارضة لأوامر قانون تنسيق الاعمال والآداء، والبث للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة لعام 2014 تشكل خرقًا لحقوق المنتجين.

كلمة المؤلف

يشتمل هذا الكتاب الذي نضعه بين يديك على النّصوص المطلوبة لمقرّر الوحدة الأولى الإلزاميّة في منهاج الأدب العربيّ للمرحلة الثانويّة، وهو مقسّم إلى جزأين، أوّلهما المنهل في الأدب العربيّ القديم، الّذي خصّصناه لنصوص التّراث الأدبيّ شعرًا ونثراً، وثانيهما المنهل في الأدب العربيّ الحديث، الذي خصّصناه لنصوص الأدب الحديث شعره ونثره.

يتماشى الكتاب مع الرّؤيا العصريّة لتدريس الأدب، إذ يعتمد على اسراتيجيّة استنطاق النّصّ واستقراء مضامينه وأساليبه، بحيث يتفاعل الطالب مع النص المقروء معتمداً على ذاته اعتمادًا كبيرًا، بعيدًا عن الإملاءات الخارجيّة والإسهاب المملّ في تقديم الشّروح، مستشعرًا جماليّة النّصّ، وإيحاء التّعابير والألفاظ، ومستخدمًا مهارات التّفكير العليا.

من أجل التّسهيل على المعلّم والطّالب، تمّ تقسيم كلّ كتاب إلى قسمين: النّصوص الشّعريّة والنصوص النثريّة، انتظمت نصوص كلّ نوع منهما انتظامًا، ورُتّبت وفق منهاج وزارة المعارف، بحيث يختار المعلّم نصًّا من كل نصّين متتابعين ضمن مسلك اختياريّ، إلاّ نصّ "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعرّيّ، والنّصّ القرآني من سورة هود، ونصوص الحديث الشّريف، ونصوص أمثال العرب في كتاب المنهل في الأدب العربيّ القديم، فيدرّسها المعلم كلّها، إذ أنّها نصوص إلزاميّة. وفي كلّ الأحوال، يتعيّن على المعلّم الاطّلاع على منهاج تدريس الأدب العربيّ للمرحلة الثّانويّة، الصّادر عن وزارة المعارف عام 2012 من أجل استقصاء الدّقّة في تتبّع المطلوب إلزامًا و / أو اختيارًا.

يظهر كلّ نصّ في الكتاب ضمن "منظومة" تعلّميّة تتكوّن ممّا يلي:

- مقدّمة عن اللّون الأدبيّ (أو العصر الأدبيّ) الّذي ينتمي إليه النّصّ (أو مجموعة من النّصوص).

- النّصّ المطلوب مطبوعًا بخط بارز، تيسيرًا للقراءة وتمييزًا للنّصّ عن الإجراءات التّعلّيميّة المتعلقة به.

- نبذة موجزة عن صاحب النّصّ.

- مقاربات تلميحيّة تهدف إلى توجيه المعلّم والطّالب إلى أبرز نقاط الارتكاز التحليليّة في كلّ وحدة (بيت شعريّ أو مجموعة من الأبيات، أو فقرة نثرية) من وحدات النّصّ الخاضع للدّراسة، وهذه المقاربات من شأنها إعطاء لمحات بسيطة عن المقصود من الأسئلة الّتي ترد في ذيلها.

- أسئلة وأعمال حول النص، راعينا أن تراعي الفروق الفردية بين الطلبة من جهة، وتغطية مستويات التّفكير العليا من جهة أخرى، بالإضافة إلى معالجة جميع ملامح النص المضمونيّة والأسلوبيّة.

ننوّه إلى أنّ للمعلم الحرّية في ابتكار أسئلة قد يراها جديرة بالطّرح، كما أنّ له أيضًا الحرّية في الاهتمام بجوانب قد لا ترد ضمن المقاربات التّلميحية المقترحة، إذ أنّ استقلاليّة المعلم في طرْق الإحاطة بمضامين النص الأدبيّ لهي من سمات التعليم العصريّ، وهي تتماشى مع مبدأ تنمية استقلاليّة الطالب في التعلّم والاستنباط والاكتشاف.

نسأل الله العليّ القدير أن يوفّق عملنا هذا ليعين جمهور المعلّمين والطّلبة في بلوغ المرام، وأن يساهم في رفع مستوى تحصيل الطّلبة، والله المستعان.


*9*

القسم الأوّل: الشّعر الحديث


*9*


*10*

الفصل الأوّل: الشّعرُ الحديث في العالم العربِّي


*10*

(مراجع للتوسع: هلال، محمد غنيمي. النقد الأدبي. بيروت: دار الثقافة دار العودة، 1973؛ عبد الثواب، صلاح الدّين. مدارس الشعر العربي في العصر الحديث. القاهرة: دار الكتاب الحديث، 2005؛ الزيات، أحمد حسن. تاريخ الأدب العربي. القاهرة: دار نهضة مصر، د.ت؛ السّعافين، إبراهيم. دار الإحياء والتراث. القاهرة: دار الأندلس، 1981؛ ضيف، شوقي. الأدب المعاصر في مصر. القاهرة: دار المعارف، د. ت).

شهد الشعر العربي بعدَ ما يعرف بعصر الانحطاط حركة نهضةٍ شاملةٍ، وذلك خلال القرن التاسع عشر، فقد بدا أن الشعر العربي الذي كان في حالةٍ من الركود والسبات بدأَ يستفيق، متخذًا من الماضي مثالاً يحتذى، ومنَ الحاضر مضامين تتبع وتتضمن، فمن جهةٍ، ثم المحافظة على القالب الفنّيِّ للشّعر التقليديِّ، ومن جهةٍ أخرى ظهرت موضوعات وقضايا جديدة تلائم روح القرنِ التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، عبر عنها عدد من الشعراء ذوي الباع الطويل في النهوض بالشعر، أمثالِ كلٍّ من البارودي، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم.

سمي التيار الفني لهذا الشعر بتيار النيوكلاسيكيّةِ (الكلاسيكية الجديدةِ)، أو بتيّار الإحياءِ، وكان من ضمنِ ما يميزه متانة اللغة، وفخامة الألفاظ، وتعدد المضامين، التي شملت موضوعاتِ المجتمع والسياسة والحياةِ في القرنين التاسع عشر والعشرين.

لم تكن الثقافة الغربية بمعزلٍ عن طريق الشّعر النيوكلاسيكي، فقد اطّلعَ بعضُ شعرائِهِ على النقد الغربي وعلى التياراتِ الأدبية في فرنسا وإنجلترا وغيرها وتأثّروا بها كثرًا، فعلى سبيلِ المثالِ أفادَ أحمد شوقي (من أشهر شعراء مدرسة الإحياء، مصري المولد وللوفاة، توفي عام 1932، اشتهر بمتانة الأسلوب وجزالة الألفاظ. وضع مسرحيّات شعرية ذات طابع تاريخيّ) من اطلاعه على الثقافة الغربية، فكتبَ المسرحيّات الشعرية متأثرا بها، ووضعَ شعرا للأطفالِ، غيرَ أنّه تشبث بالقالب التقليديِّ الكلاسيكيِّ.


*11*

وانصرف بعض الشعراء كذلك إلى الرومانسيّةِ، فوجدُوا فيها أفضل سبيلٍ للتعبير عن أنفسهم، ووظفوا الطبيعة لاستلهام الصور البيانية المعبرة عن عواطفهم وأحاسيسهم، فبرزت منهم طائفة رفعوا راية الشعر الرومانسي، أمثال: العقاد والمازني وشكري، الّذين أسسوا جماعة الديوانِ، وأحمد زكي أبو شادي وإبراهيم ناجي وعلي محمّد طه الّذين أسّسوا مدرسةَ أبولّو، وجبران ونعيمة وأبو ماضي، الّذين أسسوا الرابطة القلمية للشعراء المهجرينَ.

كما نشأ تيّارُ الشعر الحر، أو شعر التفعيلة، وذلك في منتصف القرنِ العشرين، ومن روادِهِ نازك الملائكة والسياب، واتّخذ الشعر العربي شكلاً جديدًا غير مألوفٍ، يتمثل في كونِ القصيدةِ غيرَ عمودية وغير متساوية الأسطر، معتمدة على الجريانِ، تدور حولِ موضوع واحد، بينما تفككت حدود البيتِ الواحد، وكذلك اعتمدَ هذا الشعر على الرمزية والغموض والإيحاء.

ظهرت نوازع أدبية متطرفة بعض الشيءِ، سعت إلى تقويض كل ما له صلة بالقديم أسلوبًا ومضمونا، أبرز أعلامِها يوسف الخال وأنسي الحاج وغيرُهما، بالإضافة إلى شعراء دعوا إلى الكتابة بالحروف اللاتينية من باب تيسير التعبير الكتابي في القرنِ العشرين، مثلِ سعيد عقل.

ظهرت كذلك قصيدة النثر، التي انعتقت كلّيًّا من إسار الوزنِ والقافيةِ، ومن أبرز شعراء قصيدة النثر الماغوطُ وأدونيس وغيرُهما.


*12*

محمود سامي

الباروديّ (مصادر ومراجع للتوسع: السعافين، إبراهيم. دار الإحياء والتراث. القاهرة: دار الأندلس، 1981؛ الزيات، أحمد حسن. تاريخ الأدب العربيّ. القاهرة: دار نهضة مصر، د.ت؛ الدّسوقي، عمر. محمود سامي الباروديّ. القاهرة: دار المعارف، 1958؛ حجر، عاصي. شرح ديوان محمود سامي الباروديّ. بيروت: دار الفكر العربيّ، 2002؛ سويلم، أحمد. الباروديّ: فارس الشّعراء. القاهرة: الدّار المصريّة اللبنانيّة، 1997).

"رُدّوا عليّ الصّبا" (مطلع القصيدة: ردوا عليّ الصبا من عصري الخالي وهل يعودُ سوادُ اللمةِ البالي؟

1. لا عيبَ فيَّ سوى حرية ملكتْ أعنَّتِي (جمع عنان وهو اللجام) عنْ قبولِ الذلَّ بالمالِ

2. تبعتُ خطة َ آبائي فسرتُ بها عَلى وَتِيرَةِ آدَابٍ وَآسَالِ (علاماتٌ، ميزات)

3. فَمَا يَمُرُّ خَيَالُ الْغَدْرِ فِي خَلَدِي وَلاَ تَلُوحُ سِمَاتُ الشَّرِّ فِي خَالِي (الظن)

4. قلبي سليمٌ ونفسي حرةٌ وَيدي مأمونةٌ وَلساني غيرُ ختالِ (خداع)

5. لَكِنَّني فِي زَمَانٍ عِشْتُ مُغْتَرِباً في أهلهِ حينَ قلتْ فيهِ أمثالي

6. بَلَوْتُ دَهْرِي فَمَا أَحْمَدْتُ سِيرتَهُ في سابقٍ من لياليهِ وَلاَ تالِ (لاحق)

7. لَمْ يَبْقَ لِي أَرَبٌ (حاجة) فِي الدَّهْرِ أَطْلُبُهُ إلاَّ صحابةُ حرًّ صادقِ الخالِ (يصدق حسن الظن فيه)

8. لا في "سرنديبَ" (جزيرة سيلان جنوب الهند، كانت مستعمرة إنكليزية حتى سنة 1948) لي إلفٌ (أليف مؤانس) أجاذبهُ فضلَ الحديثِ ولاَ خلٌّ فيرعى لي


*12*

9. إذا تلفتُّ لمْ أبصرْ سوى صورٍ فِي الذِّهْنِ، يَرْسُمُها نَقَّاشُ آمالِي

10. أصبحتُ لا أستطيعُ الثوبَ أسحبهُ وَقَدْ أَكُونُ وَضَافِي (السابغ، الكامل) الدِرْعِ سِرْبَالِي (القميص أو كل ما يُلبس)

11. وَلاَ تكادُ يدي شبا (إبرته وسنّه) قلمي وَكَانَ طَوْعَ بَنَانِي (أطراف الأصابع) كُلُّ عَسَّالِ (الرمح اللدن الجاهز للطعن)

12. فَإِنْ يَكُنْ جَفَّ عُودِي (ضعف جسمي (كناية)) بَعْدَ نَضْرَتِهِ فَالدَّهْرُ مَصْدَرُ إِدْبَارٍ وَإِقْبَالِ

13. فانظرْ لقولي تجدْ نفسي مصورةً فِي صَفْحَتَيْهِ (يقصد صفحاته أي أدبه كلّه) فَقَوْلِي (شعري أو أدبي) خَطُّ تِمْثَالِي (معبر عنّي، أشبه بواقع حالي)

محمود سامي الباروديّ (ت. 1904 م)

ولد البارودي في القاهرة لأبوين من أصلٍ شركسيٍّ، ونشأ نشأة عسكرية، وشغف بالأدب العربي والتركي والفارسي، فبدأ نظمَ الشعر وهو شابٌّ يافعٌ. انتقلَ إلى الإستانة ليعملَ في وزارةِ الخارجية في الدّولةِ العثمانيّةِ، ثمَّ انتقل للعملِ في الجيش العثماني قائدًا لكتيبتينِ منَ الفرسان. اشترك في ثورةِ عام 1881 ضدَّ الخديوي توفيق إلى جانبِ أحمد عُرابي، وبعدَ معاداته للاحتلالِ الإنجليزي تمَّ نفيه إلى جزيرةِ "سرنديبَ" مع زعماءِ الثورةِ العرابيةِ. عاشَ في المنفى سبعة عشر عامًا، عانى خلالها المرضَ وضعفَ البصرِ والحنين إلى الوطنِ، ثمَّ عادَ إلى مصر للعلاج، حتى توفي فيها.

يعتبر البارودي رائدَ الشعر العربي الحديثِ الذي جدّدَ في القصيدةِ العربيّةِ شكلاً ومضمونًا، حافظَ على استخدام مفرداتِ القاموس اللغويِّ الكلاسيكي، لكنه نظمَ في موضوعاتٍ عدةٍ، ومن أشهرِ أشعارهِ رثاؤه زوجته.


*14*

مقاربات وتلميحات

- الأبيات 1-4: المدحُ بما يشبه الذم، الفخر بمآثر النفسِ.

- الأبيات 5-7: موقف الشاعر من الزمن.

- الأبيات 5-12: معاناة الشاعر، دور الغربةِ في تبديلِ الحالِ، الحنين إلى الأوطانِ، الحنينُ إلى الماضي (النّوستالجيا)، شعر المنفى.

- البيت 13: دقه تعبير الشاعر عن نفسه.

أسئلة وأعمال

1. حدد مناسبة النص، استنادًا إلى الأبياتِ.

2. اشرح أسلوب المدحِ بما يشبهُ الذم في البيت الأول اعتمادًا على ما جاءَ فيه.

3. ما هيَ الأمور الّتي يفخر بها الشاعر على ضوءِ النصِّ؟

4. يذكر الشاعر في بدايةِ النص عددا من القيم الإيجابية مقابل بعض العيوب السلوكية المنبوذةِ، قارن بينهما.

5. أ. تتكرر ألفاظ الزمن في الأبيات 5-7 و 12، فما موقف الشاعر منهُ؟

ب. ما تأثيرُ الزمن في الشّاعر كما ينعكسُ في البيتين 11-12؟

6. يذكر الشاعر عددًا من الألفاظ الدالة على المعاناة، اذكرها واشرح معانيَها.


*15*

7. ما هيَ مظاهر معاناةِ الشاعر الّتي تشير إليها الأبياتُ؟

8. بين مظاهر الحنين إلى الماضي (النّوستالجيا) في النص.

9. أينَ يشير الشاعر إلى مكانِ منفاهُ؟ وما نظرته إلى هذا المكانِ حسب النّصِّ؟

10. ما ملامح "شعر المنفى" الواردةُ في النّصِّ؟

11. في البيتِ الحادي عشرَ يشير الشاعر إلى تحوّل ذي علاقةٍ بكونه شاعرًا، فما هوَ هذا التحوُّلُ وهل له دلالة إيجابية أم سلبية؟

12. هات ثلاثا من خصائص الشّعر النيوكلاسيكي الّتي ترد في النّصِّ.

13. استخرج ثلاثةَ أساليبَ بلاغيّةٍ استخدمت في النص.

14. هل ترى أن عنوان النص يعبر عن مضامينه؟ وضح رأيك.

15. مثّل منَ النص بخمسة أمثلةٍ على استخدامِ الشّاعرِ للقاموسِ اللغويِّ الكلاسيكيِّ.


*16*

حافظ إبراهيم (مصادر ومراجع للتوسع: نوفل، يوسف حسن. حافظ إبراهيم: شاعر الشعب وشاعر النّيل. القاهرة: الدّار المصرية اللبنانية، 1997؛ سليم، محمّد. حافظ إبراهيم: شاعر النيل. القاهرة: دار الطلائع، 1993؛ الجنديّ، عبد الحميد. حافظ إبراهيم: شاعر النّيل. القاهرة: دار المعارف، د.ت؛)

لمصر أم لربوع الشام (أنشدها في الحفل الذي أقامه لتكريمه جماعة من السّوريين بفندق شبرد في القاهرة، وقد نشرت عام 1908م).

1. لِمِصرَ أَم لِرُبوعِ الشامِ تَنتَسِبُ هُنا العُلا وَهُناكَ المَجدُ وَالحَسَبُ

2. أُمُّ اللُغاتِ غَداةَ الفَخرِ أُمُّهُما وَإِن سَأَلتَ عَنِ الآباءِ فَالعَرَبُ

3. إذا ألَمَّتْ بوادي النِّيلِ نازِلَةٌ باتَتْ لها راسِياتُ (جبال) الشّامِ تَضطَرِبُ

4. وإنْ دَعَا في ثَرَي الأَهْرامِ ذُو أَلَمٍ أَجابَهُ في ذُرَى (جمع ذروة بالضم والكسر: المرتفعات والاعالي) لُبْنانَ مُنْتَحِبُ (باك بصوت مرتفع)

5. لو أَخْلَصَ الِّنيلُ والأرْدُنُّ (نهر الأردن) وُدَّهما تصافَحَتْ منهما الأمْواهُ (جمع ماء) والعُشُبُ

6. نسيمَ لُبنانَ كم جادَتْكَ عاطِرَةٌ من الرِّياضِ وكم حَيّاكَ مُنْسَكِبُ (يقصد المطر والندى)

7. في الشَّرقِ والغَربِ أنفاسٌ مُسَعَّرَةٌ (ملتهبة من الشوق) تَهْفُو (تميل) إليكَ وأكبادٌ بها لَهَبُ

8. لولا طِلابُ (مصدر طلب) العُلا لم يَبتَغُوا بَدَلاً من طِيبِ رَيّاكَ (الرائحة الطيبة) لكنّ العُلا تَعَبُ

9. رَادُوا (طلبوا) المَناهِلَ (الموارد) في الدُّنْيا ولو وَجَدُوا إلى المَجَرَّة رَكباً صاعِداً رَكِبُوا


*17*

10. أو قيلَ في الشمسِ للرّاجِينَ مُنْتَجَعٌ (منزل لطلب الرزق) مَدُّوا لها سَبَباً (حبل) في الجَوِّ وانتَدَبُوا (خف إلى طلب الشيء)

11. سَعَوا إلى الكَسْبِ مَحْمُوداً وما فَتِئَتْ أمُّ اللُّغاتِ (تنتشر اللغة العربية بفضل سعيهم في طلب الرزق) بذاكَ السَّعْي تَكْتَسِبُ

12. هذي يَدي عن بني مِصرٍ تُصافِحُكُم فصافِحُوها تُصافِحْ نَفسَها العَرَبُ13. إِنْ يَكْتُبوا لِيَ ذَنْباً في مَوَدَّتِهمْ فإنّما الفَخْرُ في الذَّنْبِ الذي كَتَبُوا

حافظ إبراهيم (ت. 1932 م)

ولد الشاعر لأب مصريٍّ وأمٍّ تركيّةِ الأصلِ في مصرَ، وتوفي والداه وهو صغير، فكفله خالة. شبَّ المطالعة، وتأثر بالباروديِّ. تلقّى إعدادًا عسكريًّا، وعيّنَ ملازمًا في الجيش المصريِّ. كانَ على صلةٍ وطيدةٍ بالشّاعرِ أحمد شوقي. شعرُهُ ذو طابعٍ نيو كلاسيكيٍّ. لقب بشاعر النيل. له ديوانُ شعرٍ وعددٌ منَ الكتبِ.

مقاربات وتلميحات

- البيتان 1-2: العروبة ومظاهرُها.

- الأبيات 3-5: تخصيص سوريا ومصرَ بعلاقاتِ الأخوّةِ.

- الأبيات 3-7: الشعور بالقوميّةِ ووحدةِ المصيرِ.

- الأبيات 6-11: هجرةُ اللبنانيينَ من وطنِهم، وحنينُهم إليه.

- الأبيات 9-10: المبالغة.

- الأبيات 12-13: التوجه إلى الأشقاءِ برسالةِ أخوّةٍ.


*18*

أسئلةٌ وأعمالٌ

1. بماذا يفخرُ الشاعرُ في البيتينِ الأوّلِ والثّاني؟

2. عدّدْ أسماءَ الأماكنِ الجغرافيةِ الواردةِ في النّصِّ.

3. كيف يخصُّ الشاعر مصرَ وسوريا بعلاقاتِ الأخوّةِ في الأبيات 5-3؟

4. بين ما يذكرُهُ الشاعر عن هجرةِ اللبنانيّينَ منْ وطنِهِم: أسبابها، وما تستدعيهِ منْ مشاعر الحنين إليهِ.

5. هل هنالِك منْ علاقةٍ للقطر اللّبناني بالشام؟ وضح.

6. اشرح المبالغة في البيتين التاسع والعاشر.

7. لماذا يمكن اعتبار القصيدةِ منَ الشّعرِ القوميِّ؟ وضّحْ.

8. استخرج منَ النص سماتِ الشّعر النّيوكلاسيكيِّ.

9. ما المشترك بين دلالتي "النيلِ" و"الأردن"؟ وما المختلف بينَهُما؟

10. بيّنِ الأساليبَ البلاغيّةَ في التّعابيرِ التّاليةِ:

أ. "لو أخلصَ النيل والأردن ودَّهما"

ب. "تصافحت منهما الأمواه والعشبُ"

ج. "في الشرق والغرب أنفاسٌ مسعّرةٌ"


*19*

11. يتكرّرُ التّعبيرُ "أمُّ اللغاتِ" مرتين في النص؛ فما الذي يعنيه؟ وما الغايةُ من تكرارِهِ؟

12. صنف الألفاظَ المنتمية إلى الدّلالات الجغرافيّةِ الخاصّةِ بالعالمِ العربيِّ.

13. استخرج منَ النص مثالاً لكلٍّ مما يلي، مشيرًا إلى الغرض منْ توظيفِهِ:

أ. الالتفات

ب. أسلوب الاستفهام

ج. التصريع


*20*

خليل مطران (مصادر مراجع للتّوسّع: مندور، محمد. خليل مطران. القاهرة: دار نهضة مصر، د.ت؛ شرارة، عبد اللّطيف. خليل مطران - دراسة تحليلية. بيروت: دار صادر، 1973؛ عطوي، فوزي. خليل مطران: شاعر الأقطار العربيّة. بيروت: دار الفكر العربيّ، 1989؛ نصر الله، حسن عبّاس. خليل مطران بين التّقليد والتّجديد. بيروت: دار القارئ، 1993).

قلعةُ بعلبكَ، تذكارُ صِبًا

1. هَمَّ فَجْرُ الحَيَاةِ بِالإِدْبَارِ فَإِذَا مَرَّ فهْيَ فِي الآثَارِ

2. يغْنَمُ المَرْءُ عَيْشَهُ فِي صِبَاهُ فَإِذَا بَانَ (رحلَ) عَاشَ بِالتِّذْكَارِ

3. وَوُقِيتِ العَفَاءَ (الزوال، الهلاك) مِنْ عَرَصَاتٍ (ديار) مُقْوِيَاتٌ (خاليات من السكان) أَوَاهِلٍ بِالفَخَارِ

4. مُسْتَطَابِ الحَالَيْنِ (جميل وطيب في كل حال، ويقصد مرحلة الطفولة والصّبا) صَفْواً وَشَجْواً مُسْتَحَبٍ فِي النَّفْعِ وَالإِضْرَارِ

5. كَان ذَاكَ الهَوَى سَلاَماً وَبَرْداً فَاغْتدَى حِينَ شبَّ جَذْوَةَ نَارِ

6. حَبَّذَا (هِنْدُ) ذِلكَ العَهْدُ لَكِنْ كُلُّ شَيءٍ إِلَى الرَّدَى (الموت) وَالبَوَارِ (الهلاك)

7. وَسَقاهَا (ال (ها) في سقاها وشربتها تعود إلى شامات سوداء على بياض تزين المعبد وردت في بيت محذوف، تفتقر إلى النّور وظمأى له) النَّدَى رَشَاشَ دُمُوعٍ شَرِبَتْهَا ظَوَامِيءَ الأَنْوَارِ

8. زَادَهَا الشَّيْبُ (كناية عن اللون الأبيض ويقصد لون الأعمدة الرخاميّة وتيجانها البيضاء) حُرْمَةً وَجَلاَلاً تَوَّجَتْهَا بِهِ يَدُ الأَعْصَارِ (جمع عصر)


*21*

9. رُبَّ شَيْبٍ أَتَمَّ حُسْناً وَأَوْلَى (منحَ) وَاهِنَ العَزْمِ صَوْلَةَ الْجَبَّارِ (سطوة)

10. مَعْبَدٌ لِلأَسْرَارِ قَامَ وَلَكِنْ صُنْعُهُ كَانَ أَعْظَمَ الأَسْرَارِ

11. وَضُرُوبًا مِنْ كُلّ زَهْرٍ أَنِيق ((وصنعوا) أنواعاً. يقصد أن الحجارة نحتت على هيئة أنواع من الزهور الجميلة) لَمْ تَفُتْهَا نَضَارَةُ الأَزْهَارِ

12. وَشُمُوسًا مُضِيئَةً وَشِعَاعًا بَاهِرَاتٍ لَكِنَّهَا مِنْ حِجَارِ

13. وَطُيُورًا ذَوَاهِبًا آيِبَاتٍ (عائدات عكس ذواهب) خَالِدَاتِ الْغُدُوِّ (الإلكار، سير أول النهار) وَالإِبْكَارِ

14. فِى عَرَانِينِهَا (جمع عرنين وهو الأنف. يقصد أنوف الأسود المنحوتة من الحجارة) دُخَانٌ مُثَارٌ وَبِأَلْحَاظِهَا (العيون) سُيُولُ شَرَارِ

خليل مطران (ت. 1949 م)

شاعرٌ لبنانيٌّ، ولد في "بعلبك"، أقامَ بمصر، وتولّى تحريرَ جريدةِ "الأهرامِ" بضعَ سنينَ، نشطَ في ترجمة بعض الأعمالِ الأدبيّة العالميّةِ إلى اللّغة العربية. اتصلَ بأحمد شوقي. يعد من شعراء التيار الرومانسيِّ. لقب ب "شاعرِ القطرينِ" (لبنانَ ومصرَ). توفي في القاهرةِ. تركَ ديوان شعر وعددا من الترجماتِ الأدبيّةِ.


*22*

مقاربات وتلميحات

- الأبيات 1-2: خريفُ العمرِ، وحكمةُ الحياةِ.

- البيت 3: طبيعة المخاطب، وعلاقته بألفاظ البيتِ.

- البيت 4: الغاية من الطباق والترادف.

- البيتانِ 5-6: استحضار الحب القديم.

- الأبيات 7-14: الوصف التصويري للقلعةِ، التأمل.

أسئلةٌ وأعمالٌ

1. يشيرُ الشّاعرُ في البيتين 1-2 إلى السّنِّ التي وصلَ إليها، فما هي هذه السن؟ وضّحْ.

2. ما الحكمة الّتي يتضمنها البيتُ الثّاني؟ وما علاقتُها بالبيتِ الأوّلِ؟

3. لمنْ يتوجّهُ الشاعرُ في الحديثِ في البيتِ الثّالث؟ وما دلالة استخدام ألفاظِ "العفاء"، "عرَصات" و"مُقويات" مقرنةً بِهِ؟

4. ما ألفاظ المدحِ في البيتِ الرّابعِ؟ وما الّذي يمدحُهُ الشّاعرُ؟

5. أشرْ إلى التّرادفِ في البيتِ الرّابعِ.


*23*

6. على ضوءِ البيتينِ الخامسِ والسّادسِ:

- كيفَ يصفُ الشّاعرُ أحاسيسَ الحبِّ؟

- مَنِ المحبوبةُ؟

- في أيِّ فترةٍ من حياةِ الشّاعر كانَ هذا الحبُّ؟

- هل بقيَ الحبُّ على حالِهِ؟

7. بين التعابيرَ والصّورَ البيانيّةَ ذاتَ العلاقةِ بالرّومانسيّةِ في الأبياتِ 7-14.

8. بين الألفاظَ المتضادّةَ ودلالةَ التضادِّ في البيتِ السّابعِ.

9. أشر إلى الاستعارةِ في البيتِ الثامنِ واشرحْها.

10. استخرج نماذج منَ الوصفِ التّصويريِّ في الأبياتِ 9-14.

11. اشرح الطباقَ في البيت الثالث عشر مشيرًا إلى تأثيرهِ في المعنى.

12. ما تعليقك على النّصِّ من حيث: الجماليّة، اللغة والمضمونُ؟

13. استخرج من النض أمثلة على استخدام الشّاعر للقاموس اللّغوي الكلاسيكي.

14. ارجع إلى نصِّ "سينيّةِ البحتريِّ" (في كتابِ المنهل في الأدب العربيّ القديم ص 55-56)، وبين بمَ يتشابَهُ النّصُّ الذي أمامَكَ معهً.


*24*

عليّ محمود طه

(المعداوي؛ أنور. عليّ محمود طه: الشاعر والإنسان. القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1986؛ الطريفي، محمّد. شرح ديوان عليّ محمود طه. بيروت: دار الفكر العربي، 2001؛ أيّواب، سهيل. عليّ محمود طه: شعر ودراسة. دمشق: دار اليقظة العربيّة، 1962).

غرفةُ الشّاعر

1. أيّها الشاعر الكئيب، مضى اللّيل وما زلت غارقا في شجونك (أحزان)

2. مسلما رأسك الحزين إلى الفكر، وللسّهد (الأرق) ذابلات جفونك

3. ويد تمسك اليراع (القلم) وأخرى في ارتعاش تمرّ فوق جبينك

4. وفمٌ ناضب (جف) به حرّ أنفاسك يطغى على ضعيف أنينك

5. لست تصغي لقاصف الرّعد في اللّيل، ولا يزدهيك (يثير إعجابك) في الإبراق (لمعان البرق)

6. قد تمشّى خلال غرفتك الصّمت ودبّ السّكون في الأعماق

7. غير هذا السّراج في ضوئه الشّاحب، يهفو عليكَ من إشفاقِ

8. وبقايا النّيران في الموقد الذّابل تبكي الحياة في الأرماق (جمع رمق وهو بقية الحياة)


*25*

9. أنتَ أذبلْتَ بالأسى قلبك الغضّ وحطّمت من رقيق كيانِكْ

10. آهِ يا شاعري، لقد نصل اللّيل وَما زلت سادِرًا (المتجر) في مكانك

11. ليسَ يحنو الدُّجى عليك ولا يأسَى لتلك الدموع في أجفانِكْ

12. ما وَراءَ السّهادِ في ليلك الدّاجي وهلاّ فرغتَ من أحزانك؟

13. فَقُمِ الآن من مكانك واغنم في الكرى غطّة الخليّ الطروبِ

14. والتمس في الفراش دفئا يُنسّيك نهار الأسى وليل الخُطوب

15. لست تجزي من الحياة بما حمّلت فيها من الضّنى والشّحوب

16. إنها للمجون، والختل، والزيف، وليست للشاعر الموهوبِ!

عليّ محمود طه (ت. 1949م)

شاعر مصري من أعلامِ الرومانسيّة العربيّة وجماعة أبولّو، ولد بمدينة المنصورة. التحق بمدرسةِ الفنون التطبيقية يدرس فيها الهندسة، وعملَ مهندسًا لسنواتٍ طويلةٍ. عيّنَ وكيلاً لدار الكتب وتفرّغ للشعرِ. توفّي بالشّلل النّصفيِّ. صدرت لهُ مجموعاتٌ شعريّةٌ عديدةٌ.


*26*

مقاربات وتلميحات

- الأبيات 1-4: وصف المخاطب، الصورة الوصفيّةُ.

- الأبيات 5-8: وصف البيئة في غرفة الشاعرِ، الوصف المكانيُّ.

- الأبيات 9-12: وصف مشاعر الشّاعرِ وهمومِهِ، الوصف النّفسي.

- الأبيات 13-16: محاولةُ التّخلّصِ منَ مشاعر الأسى، وموقف الشّاعر من الحياةِ.

أسئلةٌ وأعمالٌ

1 . ما الذي يميز شكلَ القصيدةِ ومبناها؟

2. عين المخاطب في الأبيات الأربعة الأولى، ثم صفة.

3. بين كيف يوظف الشاعر أعضاءَ الجسم في الصّور الوصفيّةِ في الأبياتِ الأربعةِ.

4. ما تأثير الكافِ الساكنة في الأبياتِ 1-4، و 9-12 في رسم الجو الكئيب في القصيدةِ؟ وضّحْ.

5. على ضوء الأبيات 8-5؛ بين الجو الموصوفَ: الطقس، الإضاءةَ والأصواتَ، وعلاقته بالحالةِ النّفسيّةِ لدى الشاعر.

6. ما مدى صلةِ الشاعر بالعالم الخارجيِّ، وفق الابياتِ 5-8؟ وضّحْ.


*27*

7. ما الغايةُ من توظيفِ حروفِ المد في الأبياتِ 5-8؟

8. بماذا تتميّزُ نفسيّة الشّاعرِ في الأبياتِ 9-12؟.

9. قارن بين صيغتي الخطابِ في كلٍّ من البيتين الأوّلِ والعاشرِ مبيّنا دلالةَ الفرقِ بينَهُما.

10. ما نوع الاستفهامِ في البيتِ الثّاني عشرَ؟ وما الغايةُ منْهُ؟

11. كيف يحث الشّاعرُ نفسَهُ في المقطوعة الأخيرةِ (الأبياتِ 12-16)، على التخلص من الحزنِ والكآبةِ.

12. ما موقف الشاعر من الحياةِ، وفق البيتين الخامسَ عشرَ والسّادسَ عشرَ؟

13. بين ملامحَ تيار الرّومانسية في النّصِّ.

14. استخرج خمسةً من التعابير الدّالة على الحزنِ والكآبةِ في النّصِّ.

15. اكتب وصفًا موجزًا لغرفةِ الشاعر اعتمادًا على النّصِّ.


*28*

أبو القاسم الشابي (النّقاش، رجاء. أبو القاسم الشابي: شاعر الحب والثورة. بيروت: دار القلم، 1971؛ الأسمر، راجي. شرح ديوان أبي القاسم الشابي ورسائله. بيروت: مؤسّسة المعارف للطباعة والنّشر، 2001؛ عوض، ريتا. أبو القاسم الشابي. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنّشر، 1983؛ النّعمانيّ، عبد العزيز. أبو القاسم الشابّيّ: رحلة طائر في دنيا الشعر. القاهرة: الدّار المصريّة اللبنانية، 1997).

نشيدُ الجبّار

أو هكذا غني بروميثيوس (الشخصية الرئيسية في "أسطورة بروميثيوس"، وهي أشهر الأساطير اليونانية).

1. سَأعيشُ رَغْمَ الدَّاءِ والأَعداءِ كالنَّسْر فوقَ القِمَّةِ الشَّمَّاءِ (العالية)

2. أرْنُو (أتطلّع) إلى الشَّمْسِ المُضِيئةِ هازِئاً بالسُّحْبِ والأَمطارِ والأَنواءِ (جمع نوء وهو المطر والرياح الشديدة)

3. لا أرْمقُ الظِّلَّ الكئيبَ ولا أرَى مَا في قَرارِ الهُوَّةِ (المنخفض السحيق) السَّوداءِ

4. وأَسيرُ في دُنيا المَشَاعرِ حالِماً غَرِداً وتلكَ سَعادةُ الشعَراءِ

5. أُصْغي لمُوسيقى الحَياةِ وَوَحْيِها وأذيبُ روحَ الكَوْنِ في إنْشَائي

6. وأُصيخُ (أصغي) للصَّوتِ الإِلهيِّ الَّذي يُحْيي بقلبي مَيِّتَ الأَصْداءِ

7. وأقولُ للقَدَرِ الَّذي لا ينثني عَنْ حَرْبِ آمالي بكلِّ بَلاءِ:

8. "لا يُطْفِئُ اللَّهبَ المؤجَّجَ (المشتعل) في دمي موجُ الأسى وعواصفُ الأَرزاءِ" (جمع رزء وهو المصيبة)


*29*

9. فاهدمْ فؤادي ما استطعتَ فانَّهُ سيكون مثلَ الصَّخرة الصَّمَّاءِ"

10. "لا يعرفُ الشَّكوى الذّليلَة وضراعَة (توسل) الأَطفالِ والضّعفاءِ"

11. والبكا "ويعيشُ جبَّاراً يحدِّق دائماً بالفجر.. بالفجرِ الجميلِ النَّائي"

12. "وإِملأْ طريقي بالمخاوفِ والدُّجى وزوابعِ الأَشواكِ والحصباءِ (الحصى)

13. سَأَظلُّ أمشي رغمَ ذلك عازفاً قيثارتي مترنِّماً بغنائي"

14. "أَمشي بروحٍ حالمٍ متَوَهِّجٍ في ظُلمةِ الآلامِ والأَدواءِ (جمع داء، الأمراض)"

15. "النُّور في قلبي وبينَ جوانحي فَعَلامَ أخشى السَّيرَ في الظلماء؟!"

أبو القاسم الشّابّي (ت. 1934م)

شاعر تونسي ولدَ في بلدة "الشابّيّة". كانَ مريضًا بداء في القلب، فنشاً هش البنية، ضعيف الجسمِ. يعتبر أحدَ أعلامِ المدرسةِ الرّومانسيّةِ. ترك ديوان شعرٍ وعددًا من الرّسائلِ.

مقاربات وتلميحات

- البيت 1: التشبيه وغايتُهُ.

- البيتان 2-3: الصفات التي ينسبُها الشّاعرُ إلى نفسِهِ.

- الأبيات 1-3: موقف الشّاعر منَ الحياةِ.

- الأبيات 4-6: ملامحُ سعادةِ الشّاعرِ.

- الأبيات 7-15: مخاطبة القدر، التحدّي، الصمود والصّلابة، التفاؤُلُ، العلاقة بينَ الأبياتِ.


*30*

أسئلة وأعمالٌ

1. ما علاقة العنوانِ الفرعيِّ أو البديل بمضمونِ النص؟

2. بيّنِ التّشبيهَ في البيتِ الأولِ: أركانَهُ، وجهَ الشبه، وغايتة.

3. اذكر الصفات الّتي ينسبُها الشاعر إلى نفسِهِ في البيتينِ الثّاني والثّالثِ واشرحْها.

4. كيفَ تتجلّى لكَ نظرةُ الشاعر إلى الحياةِ وموقفُهُ منْ عثراتِها؟

5. كيف يرسم الشّابّيُّ صورةَ سعادتِهِ كشاعرٍ في الأبياتِ 4-6؟

6. بيّنْ ثلاثةَ ملامحَ لروحِ التّحدّي والعزمِ الّتي يتحلّى بها الشّاعرُ، وفقَ الأبياتِ 7-16.

7. استخرج ثلاثةَ ملامحَ للشّعر الرومانسيِّ منَ النّصِّ.

8. لماذا يكثر الشاعر منَ استخدام الأفعال المضارعةِ في الأبياتِ 1-7؟ ولماذا يستخدم فعلَ الأمر في البيتين 9 و 12 حسب رأيك؟

9. ما علاقة الأبياتِ 8-15 بالبيتِ السّابعِ؟

10. كيفَ يربط الشاعر في النص بينَ الأسطورةِ وبينَ التحديات الّتي يواجهها؟ وهل النص ذو بُعد عامٍّ أم ذو بُعدٍ ذاتيٍّ؟

11. مثل من النّصِّ لكلٍّ ممّا يلي:

أ. أسلوب النّفي

ب. الاستفهام الإنكاريّ (البلاغيّ)

ج. الاستعارة

12. هل تؤيد الشاعر في نظرته إلى الحياةِ؟ وضح رأيَكَ.


*31*

محمد مهدي الجواهريّ (مصادر ومراجع للتوسع: خيال، محقد. الجواهري - مسيرة قرن. دمشق: وزارة الثقافة، 2004؛ سعدي، محمّد. محمّد مهدي الجواهريّ. دمشق: دار المدى، 2001؛ صالح، علي عزيز. شعريّة النص عند الجواهريّ: الإيقاع والمضمون واللّغة. بيروت: دار الكتب العلمية، 2011).

أبو العَلاء

1. قِفْ بِالْمَعَرَّةِ (بلدة في الشام، هي مسقط رأس أبي العلاء المعري ومرقده) وَامْسَحْ خَدَّهَا التَّرِبَا (الذي يكسوه التراب) واستَوْحِ مَنْ طَوَّقَ الدُّنْيَا بِمَا وَهَبَـا

2. وَاسْتَوْحِ مَنْ طَبّبَ الدُّنْيَا بِحِكْمَتِهِ وَمَنْ عَلَى جُرْحِهَا مِنْ رُوحِهِ سَكَبَا

3. عَلَى الحَصِيرِ... وَكُوزُ الماءِ يَرْفُدُهُ وَذِهْنُهُ... وَرُفُوفٌ تَحْمِلُ الكُتُبَا

4. أَقَامَ بِالضَّجَّةِ الدُّنْيَا وَأَقْعَدَهَا شَيْخٌ أَطَلَّ عَلَيْهَا مُشْفِقَاً حَدِبَا (عطفا، راحمًا)

5. بَكَى لأَوْجَاعِ مَاضِيهَا وَحَاضِرِهَا وَشَامَ (ترقب وانتظر) مُسْتَقْبَلاً مِنْهَا وَمُرْتَقَبَا

6. وَلِلْكَآبَةِ أَلْوَانٌ، وَأَفْجَعُهَا أَنْ تُبْصِرَ الفَيْلَسُوفَ الحُرَّ مُكْتَئِبَا

7. تَنَاوَلَ الرَّثَّ (كنية عن الموضوعات التي لا قيمة لها) مِنْ طَبْعٍ (طبيعي موروث) وَمُصْطَلَحٍ (مكتسبا) بِالنَّقْدِ لاَ يَتَأبّى أَيّةً (أيا من كان، أو أي شيء) شَجَبَا

8. وَأَلْهَمَ النَّاسَ كَيْ يَرضَوا مَغَبَّتَهُم (العاقبة) أَنْ يُوسِعُوا العَقْلَ مَيْدَانَاً وَمُضْطَرَبَا

9. وَأَنْ يَمُدُّوا بِهِ فِي كُلِّ مُطَّرَحٍ (مكان) وَإِنْ سُقُوا مِنْ جَنَاهُ الوَيْلَ وَالحَرَبَا


*32*

10. لِثَوْرَةِ الفِكْرِ تَأْرِيخٌ يُحَدِّثُنَا بِأَنَّ أَلْفَ مَسِيحٍ دُونَهَا صُلِبَا

11. إنَّ الذِي أَلْهَبَ الأَفْـلاكَ مِقْوَلُهُ (اللسان) وَالدَّهْرَ.. لاَ رَغَبَا يَرْجُو وَلاَ رَهَبَا

12. لَمْ يَنْسَ أَنْ تَشْمَلَ الأَنْعَامَ رَحْمَتُهُ وَلاَ الطُّيُورَ... وَلاَ أَفْرَاخَهَا الزُّغُبَا (الفراخ التي يكسوها أوّل ما لاح من الرّيش)

13. حَنَا (عطف وأشفق) عَلَى كُلِّ مَغْصُوبٍ فَضَمَّـدَهُ وَشَجَّ مَنْ كَانَ، أَيَّا كَانَ، مُغْتَصِبَا

محمد مهدي الجواهريّ (ت. 1997 م)

شاعرٌ عراقي، لقب بشاعر العرب الأكبر. ولدَ في مدينةِ "النجفِ" لأسرةٍ ذاتِ صلةٍ بالعلمِ والأدب. عملَ في الصّحافة وفي السّياسةِ، ثمَّ تنقّلَ بين الأقطار العربيّةِ والعالميةِ.

يمتاز شعرُه باللغةِ المتينةِ، وبملامح الكلاسيكيّةِ. توفّيَ في دمشقَ، تاركًا عددا من الدّواوين الشّعرية.

مقاربات وتلميحات

- البيتان 1-2: تقليدُ المقدمة الطلليّةِ، أسلوب الطلب.

- البيتان 2-3: صورة أبي العلاءِ قلبًا وقالَبًا.

- الأبيات 4-6: الجوانبُ العاطفية في شخصية أبي العلاءِ.

- الأبيات 7-9: علاقة أبي العلاء بالمجتمع والنّاسِ.

- البيت 10: استلهام صورةِ المسيحِ.

- الأبيات 11-13: وجهانِ لشخصيّةِ أبي العلاءِ.


*33*

أسئلة وأعملٌ

1. ما نوع المقدمة الّتي يستهل بها الشاعر قصيدته؟

2. من المخاطب في البيتين الأول والثّاني؟ وما غايةُ تكثيفِ استخدامِ أفعالِ الأمر فيهما؟

3. كيفَ تبدو لك صورة أبي العلاءِ كشاعرٍ حكيمٍ؟

4. ما الصورة الحسيةُ لأبي العلاءِ في البيتِ الثالث؟

5. لأبي العلاء موقف عاطفي يجسد مشاعره تجاهَ الحياةِ، بين ذلك من خلال الأبياب 4-6.

6. كيف تبدو لك علاقة أبي العلاء بالنّاسِ والمجتمع على ضوء الأبياتِ 7-9؟

7. ما غاية ذكر المسيح في البيت العاشرِ؟

8. اشرح المقابلة في البيتِ الثالث عشرَ.

9. بين، على ضوء النّصِّ، ملامحَ معاناةِ أبي العلاءِ.

10. ما الصفات الإيجابية الّتي يتمتّع بها أبو العلاءِ وفق النّصِّ؟

11. استخرج مثالاً واحدا من النص على كل من التّشخيص والتأنيسِ.

12. استخرج منَ النص مثالاً على كل مما يلي:

أ. التّرادف

ب. الطّباق

ج. أسلوب النّفي

13. يكثف الشاعر منَ استخدام الألفاظ الكلاسيكية؛ فما الّذي يمكن استنتاجه من ذلك حولَ ثقافةِ الشاعر وقدراته اللّغوية؟


*34*

بدر شكر السّيّاب (مصادر ومراجع للتوسع: البصري، عبد الجبار. بدر شاكر السياب رائد الشّعر الحرّ. بغداد: وزارة الثقافة، 1986؛ البطل، علي. الرمز الأسطوريّ في شعر بدر شاكر السياب. الكويت: شركة الربيعان للنّشر والتّوزيع، 1982؛ علّوش، ناجي. بدر شاكر السّيّاب - سيرة شخصية. عكا: دار الأسوار، 1977؛ عبّاس، إحسان. بدر شاكر السياب: دراسة في حياته وشعره. بيروت: دار الثقافة، 1969؛ الحاوي، إيليّا. بدر شاكر السياب. بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1970).

البابُ تقرعه الرّياحُ

1

البَابُ مَا قَرَعَتْهُ غَيْرُ الرِّيحِ في اللَّيْلِ العَمِيقْ

البَابُ مَا قَرَعَتْهُ كَفُّكِ،

أَيْنَ كَفُّكِ وَالطَّرِيقْ

نَاءٍ؟ بِحَارٌ بَيْنَنَا، مُدُنٌ، صَحَارَى مِنْ ظَلاَمْ

الرِّيحُ تَحْمِلُ لِي صَدَى القُبْلاَتِ مِنْهَا كَالْحَرِيقْ

مِنْ نَخْلَةٍ يَعْدُو إِلَى أُخْرَى وَيَزْهُو في الغَمَامْ

2

البَابُ مَا قَرَعَتْهُ غَيْرُ الرِّيحْ...

آهِ لَعَلَّ رُوحَاً في الرِّيَاحْ

هَامَتْ تَمُرُّ عَلَى الْمَرَافِيءِ أَوْ مَحَطَّاتِ القِطَارْ

لِتُسَائِلَ الغُرَبَاءَ عَنِّي، عَن غَرِيبٍ أَمْسِ رَاحْ


*35*

يَمْشِي عَلَى قَدَمَيْنِ، وَهْوَ اليَوْمَ يَزْحَفُ في انْكِسَارْ.

هِيَ روحُ أمِّي هَزَّها الحُبُّ العَميقْ،

حب الأمومة فهي تبكي:

آهِ يَا وَلَدِي البَعِيدَ عَنِ الدِّيَارْ!

وَيْلاَهُ! كَيْفَ تَعُودُ وَحْدَكَ لاَ دَلِيلَ وَلاَ رَفِيقْ؟"

أُمَّاهُ... لَيْتَكِ لَمْ تَغِيبِي خَلْفَ سُورٍ مِنْ حِجَارْ

لاَ بَابَ فِيهِ لِكَي أَدُقَّ وَلاَ نَوَافِذَ في الجِدَارْ!

كَيْفَ انْطَلَقْتِ عَلَى طَرِيقٍ لاَ يَعُودُ السَّائِرُونْ

مِنْ ظُلْمَةٍ صَفْرَاءَ فِيهِ كَأَنَّهَا غَسَق ُ البِحَارْ؟

كَيْفَ انْطَلَقْتِ بِلاَ وَدَاعٍ فَالصِّغَارُ يُوَلْوِلُونْ،

يَتَرَاكَضُونَ عَلَى الطَّرِيقِ وَيَفْزَعُونَ فَيَرْجِعُونْ

وَيُسَائِلُونَ اللَّيْلَ عَنْكِ وَهُمْ لِعَوْدِكِ في انْتِظَارْ؟

3

البَابُ تَقْرَعُهُ الرِّيَاحُ لَعَلَّ رُوحَاً مِنْك ِ زَارْ

هَذَا الغَرِيبُ!! هُوَ ابْنُكِ السَّهْرَانُ يُحْرِقُهُ الحَنِينْ

أُمَّاهُ لَيْتَكِ تَرْجِعِينْ


*36*

شَبَحَاً. وَكَيْفَ أَخَافُ مِنْهُ وَمَا انمَحَتْ رَغْمَ السِّنِينْ

قَسَمَاتُ وَجْهِكِ مِنْ خَيَالِي؟

أَيْنَ أَنْتِ؟ أَتَسْمَعِينْ

صَرَخَاتِ قَلْبِي وَهْوَ يَذْبَحُهُ الحَنِينُ إِلَى العِرَاقْ؟

البَابُ تَقْرَعُهُ الرِّيَاحُ تَهُبُّ مِنْ أَبَدِ الفِرَاقْ.

لندن 13/3/1963

بدر شاكر السياب (ت. 1964م)

شاعر عراقي. من أبرز رواد الشعر الحر، إذ يعتبر هو والشاعرة العراقية نازك الملائكة أول من طرقه. ولد في "جيكور" في العراق. عملَ مدرسا، ثم أقيل وسجن بسبب مواقفه السياسية. غادرَ العراق إلى إيران فالكويت، حيث عاش حياةَ الفقر والتشرد والمرض. كتب أشعاره في الحنين في هذه الفترة. ماتَ في المستشفى شابًّا. أكثر من الاعتماد على الأساطير في شعره. له دواوين شعرٍ.

مقاربات وتلميحات

- المقطع الأوّل: تحديد المخاطب، توظيف أسلوب الاستفهام، أسماءُ الأمكنةِ ودلالاتها.

- المقطع الثّاني: العلاقة بينَ الشّاعر وأمِّه، مضمون الحوار بينَ الشاعر وأمه، استخدام الأفعال المضارعة.

- المقطع الثالث: المبالغة في الحنين، أسلوب الاستفهام.

- المقطع الرّابع: استسلام الشّاعرِ.


*37*

1. من المخاطب في المقطع الأول، وما علاقته بالشّاعر؟

2. اذكر مظاهرَ البعاد بين الشّاعرِ والشّخصِ المخاطبِ، استنادًا إلى المقطع الأول؟

3. ما غاية الاستفهام في المقطع الأولِ؟

4. كيف تظهر علاقة الشّاعر بأمهِ حسب المقطع الثاني؟

5. ما مضمونُ الحوار بينَ الشّاعرِ وأمه في المقطع الثّاني؟ وما غايةُ هذا الحوارِ؟

6. يعاني الشاعرُ، اعتمادا على النص، أكثر من مأساةٍ، وضِّح ذلكَ!

7. صف كلاً من القبر والموت كما يصورهما الشاعر في المقطع الثّاني.

8. ما غايةُ استخدام الأفعالِ المضارعة في الجزءِ الثاني منَ المقطع الثّاني؟

9. كيف تظهرُ المبالغة في الحنين في المقطعِ الثالثِ؟

10. كيفَ يظهرُ استسلام الشّاعر في نهايةِ النّصِّ؟

11. استخرج من النّصِّ خمسة تعابير مأساوية واشرحها.

12. أشر إلى المواضعِ الّتي يتكرّرُ فيها التّعبيرُ "البابُ ما قرعتهُ غيرُ الرّيحِ"، مقارنًا بين صيغهِ في كافّةِ مقطوعاتِ القصيدةِ وموضِّحًا دلالةَ تغيُّرِ الصيغ.

13. ما الشّكلُ الّذي تنتمي إليهِ القصيدةُ؟ وما أبرز خصائصهِ؟

14. ما تأثير القافية الساكنةِ وحروفِ المدِّ في تحديد الجوِّ النفسي السائد في النّصِّ؟

15. قارن بين "حضور" و "غياب" الأم في كلٍّ من مقاطع القصيدةِ، موضّحًا دلالة كلٍّ منْهُما.


*38*

عبد الوهاب البياتي (مصادر ومراجع للتوسع: شرف، عبد العزيز، رؤيا الأبداعية: في شعر عبد الوهاب البياتي. بيروت: دار الجيل، 1991؛ فرنجية، بسام وآخرون. عبد الوهاب البياتي بروميثيوس الشعر العربي: الرحلة الأمريكية. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات، 1996؛ رزق، خليل. شعر عبد الوهاب البياتي: في دراسة أسلوبية. بيروت: مؤسسة الأشرف، 1995)

ذكريات الطفولةِ

بالأمس كنا - آه من كنا, ومن أمس يكونْ -

نعدو وراء ظلالنا... كنا، ومن أمسٍ يكونْ

لا نرهب (نخاف) الصمت الذي تُضفيهِ أشباحُ الغروبْ

فوق الحدائق والدروبْ

لا نرهب السور الذي من خلفه يأتي الضياءْ

ولربما مات الضياءُ ولم يَعُدْ ونقولُ: "جاءْ!"

كنا نقول كما نشاء

حتى النجوم

كنا نقول بأنّها - كانت - عيون

للأرض تنظر في فتون

حتى النجوم!

كانت عيون

لا نعرف "الشيء الصّغيرَ" ولا نصدّق ما يقال

ولا نزال


*39*

لا نعرف "الشيءَ الصغيرَ" ولا نصدّقُ ما يُقال

ولربّما كنا نحدّق في الفراغ، ولا ننام

وفي الظلام

مأوى الأفاعي والعفاريت الضخام

كانتْ مدائننا الجديدة في خواطرنا تقام

كانت مدائننا الجديدة في الظلام

بمنازل الأموات، أشبهَ، أو قرى

النّمل... الجديدةِ في الظلامْ

كانتْ مدائنُنا تقامْ

وفي الظّلام

كنا نحدّق في الفراغ، ولا ننامْ

إلّا على أصواتِ عالمنا المقوّضِ (المهدّم)، والعبيدْ

يتسكّعون، ومن جديدْ

يستقبلونَ - هناك - طاغيةً جديد

وخيولنا الخشبيّة العرجاءُ، كنّا في الجدارْ

بالفحم نرسمُها، ونرسم حولهَا حقلًا ودارْ

حقلاً ودار


*40*

ونطارد القططَ الهزيلةَ في الأزقّةِ بالحجارِ

وإلى "الحبيبةِ" كان يدفعُنا، ويدفعُنا الحنين

في بيتِها نقضي أماسينا الطّويلةَ حالمين

كنّا لخفق نعالِها الفضيِّ، نُصغي ساهمين (متغيري اللون من الهمّ)

بعد المساءِ، وبعدَ حين

وتثورُ أحقاد السنينْ

فنعودُ، نبحث في بقايا الذكريات عن الحياةْ

الأمسُ ماتْ

الأمس ماتْ

لم يبقَ حول "مدينة الأطفال" إلّا ما نشاءْ

إلّا السماءْ

جوفاءَ، فارغةً، تحجّر في مآقيها الدخانْ

إلّا بقايا السّور والشحاذ يستجدي، وأقدام الزمانْ

إلّا العجائزُ في الدّروبِ الموحشاتْ

يسألن عنّا الغادياتِ، الرائحاتْ

ولربّما مرّت بهنّ... بهنَّ هذي الذكرياتْ:

"السور" و "الشحاذ" و "الطفل الذي بالأمس ماتْ"


*41*

"عبد الوهّاب البيّاتي (ت. 1999م)

شاعرٌ وأديبٌ عراقي، ويعدُّ من روّاد الشّعر الحرِّ. عملَ مدرّسًا قبلَ أن يمارسَ الصحافةَ، واعتُقلَ بسببِ مواقفه السياسية، وأسقطت منه الجنسيّه العراقيّةُ، فأقامَ في إسبانيا، ثمَّ في عمّانَ فدمشقَ، وماتَ فيها.

يمتازُ شعره بنزوعِهِ نحوَ عالمية معاصرةٍ، امتزجت أحيانًا برموزٍ صوفيّةٍ تراثيّةٍ. تركَ عدّةَ دواوينَ شعريّةٍ وبعضَ الكتبِ.

مقاربات وتلميحات

- استخدام ضمير المتكلمين.

- الرهبة الملازمةُ للطفولةِ.

- أحاسيس الطفولةِ التعيسةِ.

- أوهامٌ ومخاوفُ.

- شقاواتُ الطفولةِ.

- القافيةُ الساكنةُ.

- ميزاتُ الشّعرِ الحرِّ.


*42*

أسئلة وأعمالٌ

1. يستخدمُ الشاعرُ في حديثهِ الضمير المتصل "نَا" الدالَّ على جماعةِ المتكلمينَ؛ فَمَنْ هي هذهِ الجماعةُ؟ وَمَا صلةُ الشّاعر بِها؟

2. تتبّع تكرارَ لفظةِ "أمسِ"، وبين دلالتها والدّاعي إلى تكرارها.

3. ما غاية تكرار الصّدى "كنّا، ومن أمسٍ يكون "في السّطر الثّاني؟

4. ما غاية تكرارِ لفظةِ "كنّا"؟

5. ما مكونات الرهبة الملازمة لمرحلةِ الطفولةِ؟ استعن بالنّصِّ.

6. ما تصوّر الأطفالِ عن النّجوم؟

7. ماذا كانَ يعني الظلامُ بالنسبةِ إلى الشّاعر طفلاً؟ وما الدّاعي إلى تكرارِ لفظةِ "الظلام"؟

8. بين اثنين من مظاهر الشقاوةِ والبراءةِ المتصلةِ بطفولةِ الشّاعرِ.

9. ما هيَ مواصفاتُ المدن الجديدةِ الّتي كانت تُقامُ في عقولِ الأطفالِ؟

10. أينَ يتحدّثُ الشاعر عنْ مرحلةِ الشيخوخةِ؟ وما هي ميزات هذهِ المرحلةِ حسبما يقولُ؟

11. أين يُلمحُ الشّاعر إلى الاستبدادِ السياسيِّ؟

12. استخرج عناصر الأسلوب القصصيِّ منَ النّصِّ.

13. ما تأثيرُ القافيةِ السّاكنةِ في تصميمِ أجواءِ النّصِّ؟

14. لماذا يتحدث الشاعر في بدايةِ النّصِّ عنِ الطّفولةِ بينما ينتهي بالحديثِ في نهايتِهِ عنِ العجائزِ؟

15. بيّنْ خصائص الشعرِ الحرِّ الواردةَ في النّصِّ.

16. ما العناصرُ التي تساهمُ في إيقاعيةِ النّصِّ؟

17. هلِ القصيدةُ ذاتَ وحدةٍ موضوعيةٍ؟ علّلْ إجابتَكَ.

18. استخرج منَ النص عباراتٍ وألفاظا تظهر الطفولةَ ببراءتها وشقاوَتِها.


*43*

صلاح بعد الصّبور (مصادر ومراجع للتوسع: مصري، نشأت. صلاح عبد الصبور الإنسان والشاعر. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992؛ بدويّ، محمد. الجحيم الأرضي قراءة في شعر صلاح عبد الصبور. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986؛ المغربي، حافظ. صلاح عبد الصبور: الشاعر الناقد - دراسات ومختارات. بيروت: دار المناهل، 2006).

حكايةٌ قديمةٌ

كان له أصحاب

وعاهدوهُ في مساءِ حُزْنِهِ...

ألّا يسلِّموهُ للجنودْ

أو ينكروه عندما

يطلبه السلطان

فواحدٌ أسلمه لقاءَ حِفنةٍ من النّقودْ

ثم انتحرْ

وآخر أنكره ثلاثةً قبل انبلاج (طلوع) الفجرْ

وبعد أن مات اطمأنت شفتاهْ

ثمَّ مشى مكرِّزًا (واعظاً ومبشراً بتعاليم المسيحية) مفاخرا بأنّهُ رآه

وباسمهِ صارَ مبارِكًا مُعَمَّدا (مطهراً بماء المعموديّة)

والآن يا أصحابْ


*44*

أسألكم سؤالَ حائرْ

أيهما أحبَّهُ؟.

مَنْ خسرَ الروح فأرخصَ الحياة (سخا بها وقدمها رخيصة)

أم من بنى له معابدَ

وشاد باسمه منائرْ

قامت على حياةْ

نجت لأنّها تنكّرتْ

والآنَ يا أصحابْ

أيّهُما أحبـَّهُ؟

صلاح عبد الصّبور (ت. 1981 م)

شاعرٌ مصريٌ، عمل مدرّسًا للّغةِ العربية، وساهمَ في تحرير مجلات "روز اليوسف"، و"صباح الخير" وجريدةِ "الأهرمُ". شغل مناصبَ إدارية في هيئة الكتاب ووزارةِ الثّقافةِ. من أنصار التّيارِ الواقعيِّ الاجتماعيِّ في الشّعر العربي الحديثِ. كتب الشعر والمسرحية. يعتبر من روّاد الشّعر الحرِّ. له عدد من الدّواوين الشّعرية وعددٌ من المسرحيات الشعريةِ.


*45*

مقاربات وتلميحات

- الشكل الفنّيُّ للقصيدةِ.

- التناصُّ مع قصة المسيح كما وردت في الإنجيلِ.

- استغلال الدّين للمنفعةِ الشّخصيّةِ.

- خيانة الصديقِ.

- الأسلوبُ القصصي.

- مفهومُ الوفاءِ والصداقِةِ.

أسئلة وأعمالٌ

1. ما الشّكلُ الفني الّذي تتبع إلية القصيدةُ؟

2. تعتبر القصيدة تناصًّا معَ قصّةِ المسيحِ عليهِ السّلام، كما وردتْ في الإنجيلِ. بين أوجه الشّبَهِ بينَهُما.

3. ما دلالة لفظةِ "السّلطان" الواردةِ في النّصِّ؟ وما علاقتُها بالشخص المتحدّثِ عنْهُ؟

4. كيفَ كفّرَ كل من مسلم المسيح إلى الجنودِ، ومنكرهِ عمّا ارتكبه؟

5. بيّنْ ثلاثة من عناصر الأسلوب القصصيِّ الّذي يوظفه الشاعر في النص.


*46*

6. ما غايةُ استخدامِ أسلوبِ الاستفهامِ في النصِّ؟

7. كيفَ تظهر أهمّيّة الوفاءِ والإخلاص للصّديق حسبَ النّصِّ؟

8. أين ينتقد الشاعر استغلالَ الدّينِ للمنفعةِ الشخصيّةِ؟

9. يركز الشاّعرُ على "موتيف" المحبّةِ في النّصِّ، فها غاية هذا التركيزِ؟

10. بيّنْ أهميّةَ ودلالةَ التكرار في النّصِّ.


*47*

أمل دنقل (مصادر ومراجع للتوسع: الدّوسريّ، أحمد. أمل دنقل: شاعر على خطوط النّار. بيروت: المؤسّسة العربيّة، 2004؛ عمارة، إخلاص. استلهام القرآن الكريم في شعر أمل دنقل. الجيزة: دار الأمين؛ 1997؛ سليمان، محمّد. الحركة النّقدية حول تجربة أمل دنقل الشعرية. عمّان: دار اليازوريّ، 2007؛ عامر، عاصم. لغة التضادّ في شعر أمل دنقل. عمّان: دار صفاء للنّشر والتّوزيع، 2005).

الخيولُ

(1)

الفتوحات - في الأرض - مكتوبةٌ بدماءِ الخيولْ

وحدودُ الممالك

رَسمَتْها السّنابكْ (حذو الخيل)

والركابان (ما يضع فيهما الفارس قدميه وهو على فرسه): ميزان عدل يميل مع السيفِ..

حيثُ يميل

اركضي أو قفي الآن.. أيتها الخيلُ:

لستِ المُغيرات (الخيل التي تغير وتهجم على العدوّ) صُبْحًا

ولا العاديات (الخيول التي تعدو) - كما قيل - ضَبْحًا (حمحمة الخيل المتعبة)

ولا خضرة في طريقك تُمْحى


*48*

ولا طفل أضحى

إذا ما مررتِ به.. يتنحَّى

وها هي كوكبةُ (جماعة فرسان) الحرس الملكيِّ..

تجاهدُ أن تبعث الرّوحَ في جسدِ الذّكرياتِ

بدقِّ الطبولْ

اركضي كالسّلاحفْ

نحوَ زوايا المتاحفْ..

صيري تماثيلَ من حجرٍ في الميادينِ

صيري أراجيحَ منْ خشبٍ للصّغارِ - الرّياحينِ

صيري فوارسَ حلوى بموسمِكِ النّبويِّ

وللصبية الفقراءِ حصانًا منَ الطّينِ

صيري رسومًا.. ووشْمًا

تجفُّ الخطوطُ بهِ

مثلَما جفَّ في رئتيْكِ الصّهيلْ!

(2)

كانت الخيلُ - في البدءِ - كالنّاسِ

برِّيَّةً تتراكضُ عبر السهول


*49*

كانت الخيلُ كالناس في البدءِ..

تمتلكُ الشمس والعُشْبَ

والملكوتِ الظليل

ظهرها.. لم يوطّأْ لكيْ يركبَ القادةُ الفاتحونْ

ولم يلنِ الجسدُ الحُرُّ تحت سياطِ المروِّض

والفمُ لم يمتثل للجام

ولم يكن الزّادُ.. بالكادِ،

لم تكن الساق مشكولةً،

والحوافر لم يك يُثقلها السنبك المعدنيُّ الصّقيلْ

كانت الخيلُ برِّيَّة

تتنفس حرية

مثلما يتنفسها النّاسُ

في ذلك الزّمنِ الذّهبيِّ النّبيلْ

اركضي.. أو قِفي

زمنٌ يتقاطعُ


*50*

واخترتِ أن تذهبي في الطّريق الذي يتراجعُ:

تنحدرُ الشّمسُ

ينحدرُ الأمس

تنحدر الطرق الجبلية للهوَّة اللانهائيةِ:

الشهب المتفحمة

الذكريات التي أشهرت شوكها كالقنافذِ

والذكريات التي سلخ الخوفُ بشرتها

كل نهر يحاول أن يلمس القاع

كل الينابيع إن لمست جدولًا مِنْ جداولِها

تختفي

وهيَ.. لا تكتفي

(3)

فاركضي أوْ قِفي

كلُّ دربٍ يقودُكِ مِنْ مستحيلٍ إلى مستحيلْ!

الخيولُ بساطٌ على الرّيحِ

سارَ - على مَتْنِهِ - النّاسُ للنّاسِ عَبْر المكانْ


*51*

والخيولُ جدارٌ به انقسمَ

الناسُ صنفينِ:

صاروا مشاةً.. ورُكبانْ

والخيول الّتي انحدرتْ نحوَ هوّةِ نسيانِها

حملتْ معَها جيلَ فرسانِها

تركتْ خلفَها دمعةَ النّدمِ الأبديِّ

وأشباحَ خيلٍ

وأشباه فرسان

ومشاةً يسيرون - حتى النّهايةِ - تحتَ ظلالِ الهَوانْ

أركضى لِلقرارْ

واركضي أوْ قِفي في طريقِ الفِرارْ

تتساوي محصّلةُ الرّكضِ والرّفضِ في الأرضِ،

ماذا تبقي لكِ الآنَ؛

ماذَا؟

سوى عَرَقٍ يتصبّبُ مِنْ تعَبٍ

يستحيلُ دنانيرَ مِنْ ذَهَبٍ


*52*

في جيوبِ هواةِ سُلالاتكِ العربيّةِ

في حلباتِ المراهنةِ الدّائريّةِ

في نزهةِ المركباتِ السياحيّةِ المشتهاةِ

وفي المتعةِ المشتراةِ

وفي المرأةِ الأجنبيّةِ تعلوكِ تحتَ

ظلال أبي الهول..

(هذا الذي كسرت أنفه لعنة الانتظار الطويل)

استدارتْ - إلى الغربِ - مزولة الوقت

صارت الخيل ناسًا تسير إلى هوّةِ الصّمتْ

بينما النّاسُ خيلٌ تسيرُ إلى هُوّةِ الموتْ!

(1981-1982)

أمل دُنْقُل (ت. 1983 م)

شاعر مصري، ولدَ في الصعيد. تأثّرَ بأبيهِ الّذي كانَ شاعرًا وعالمًا في اللّغةِ والدّين، وذا مكتبةٍ غنيّةٍ بكتبِ التّراثِ. فقدَ أباه وهو لا زالَ صبيًّا، ممّا أورثَهُ مسحةً منَ الحزنِ ضمّنَها كتاباتِهِ.

رحلَ الشاعر إلى القاهرةِ، ونظمَ الشّعرَ، وكان متأثّرًا بالتراثِ العربيِّ، وبالقوميّةِ العربيّةِ. توفي متأثّرًا بمرضٍ عضالٍ، وكتب قصائد في آخر أيّامِ حياتِهِ وهوَ مشرف على الموتِ. ترك عدة دواوين شعريّةٍ.


*53*

مقاربات وتلميحات

- الشكلُ الفنّيُّ للقصيدةِ.

- أقسام القصيدةِ الثلاثةُ.

- دلالة الخيلِ وعلاقتها بالتّراثِ.

- التناصُّ القرآنيُّ.

- خيبةُ أملِ الشّاعرِ.

- السّخريةُ منَ الخيلِ وسببُها.

- المقارنةُ بين الماضي والحاضر في المقطعِ الثّاني.

- التشبيه، أسلوب النّفي، الجناسُ.

- استخدام الأفعالِ الطّلبيّةِ ودلالتُهُ.

أسئلة وأعمال

1. ما هوَ النّوعُ الفنّيُّ الذي تنتمي إليه القصيدةُ؟ إيتِ بثلاثِ خصائص لهُ منَ النّصِّ.

2. كيف تظهر صورة الخيولِ في الماضي من خلالِ النّصِّ؟

3. كيف تظهر صورة الخيولِ في الحاضرِ؟ وبماذا تختلفُ عنِ صورتِها في الماضي؟

4. إلامَ ترمزُ الخيولُ في النَّصِّ؟ اِشْرحْ.


*54*

5. إشرح التَّناصَّ في قولهِ: "العادياتِ ضبحًا والمغيرات صبحًا" مع بدايةِ سورةِ العاديات.

6. بين كيف يسخرُ الشّاعرُ من حالِ الخيولِ في الزمن الحاضرِ، مشيراً إلى دلالةِ استخدامِ التّكرارِ في هذهِ السخريةِ.

7. ما هوَ تفسيرك للتغيير في صورةِ الخيلِ بين الماضي والحاضرِ؟ وضّحْ.

8. كيفَ يعبّرُ الشّاعرُ عن خيبةِ أملِهِ حسبَ النّصِّ؟

9. اِشرح وجهَ الشبه بين الخيولِ! والنّاسِ اعتمادًا على المقطع الثّاني.

10. كيفَ تنعكسُ علاقةُ الشّرقِ بالغربِ من خلالِ القصيدةِ؟

11. يكثر الفعلُ المضارع الدّال على الماضي أو الحاضر في القصيدةِ. ما الهدفُ من ذلكَ؟

12. لماذا تخلو القصيدة من زمنِ المستقبلِ حسبَ رأيِكَ؟

13. اشرح أسلوبَ التّضادِّ من خلالِ نماذجَ من القصيدةِ.

14. بيّنْ إلامَ يرمزُ كلٌّ ممّا يلي: الهوةُ اللانهائيّةُ، المرأة الأجنبيّةُ.

15. استخرجْ منَ النص مثالاً عن كلٍّ ممّا يلي:

أ. التشبيهُ ب. أسلوب النّفي ج. الجناسُ

16. بين غرضينِ مِن توظيفِ الأفعالِ الطلبيّةِ في القصيدةِ.


*55*

نزار قباني (فاضل، جهاد. نزار قباني الوجه الآخر. لندن: مؤسسة الانتشار العربي، 2000؛ رضوان، محمّد. نزار قباني: شاعر الحبّ والحرية والجمال. د.م: مركز القادة للكتاب، 1999؛ فقيه، يونس. ملاح الالتزام القومي في شعر نزار قباني. بيروت: دار بركات، 1998؛ سحيمي، سحر. الإيقاع في شعر نزار قباني من خلال ديوان "قصائد". إربد: عالم الكتب الحديث، 2010".

يا تونس الخضراء (مناسبة النص: نقل مقرّ جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس، وذلك بسبب زيارة الرئيس المصري "السادات" لإسرائيل، وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد).

1. يا تونس الخضراء جئتك عاشقا وعلى جبيني وردةٌ وكتابُ

2. إني الدّمشقيُّ الذي احترفَ الهوى فاخضوضرت لغنائه الأعشابُ

3. أنا فوق أجفان النساء مكسر قطعا فعمري الموج والأخشابُ

4. هل دولة الحب التي أسستها سقطت علي وسدّت الأبوابُ

5. من أين أدخل في القصيدة يا ترى وحدائق الشعر الجميل خرابُ

6. لم يبق في دار البلابل بلبلٌ لا البحتريُّ هنا ولا زريابُ (مغن وموسيقي عباسي عاش في زمن المهدي والرشيد، ثم ارتحل إلى الأندلس، فأبدع في الموسيقى والغناء، وهو من أضاف وترا خامسا على العود، وجعل مضربه من ريش النسر بعد أن كأن من الخشب).

7. قمرٌ دمشقي يسافرُ في دَمي وبلابل وسنابل وقبابُ

8. أمشي على ورق الخريطة خائفا فعلى الخريطة كلنا أغرابُ

9. يا تونس الخضراء كأسي علقم (شديد المراة، وهو نبات الحنظل) أعلى الهزيمةِ تشرب الأنخابُ؟

10. لا تعذليني (لا تلوميني) إنْ كشفت مواجعي وجه الحقيقةِ ما عليهِ نِقابُ (قناع)

11. إن الجنونَ وراءَ نصفِ قصائدِي أوَليسَ في بعضِ الجنون صوابُ

12. فإذا صرخت بوجه من أحببتهم فَلِكَيْ يعيشَ الحبُّ والأحبابُ


*56*

نزار قباني (ت. 1998 م)

شاعرٌ سوري، ولدَ في دمشق. درسَ الحقوقَ، وعملَ في السلك الدبلوماسي. كتب كلًّا منَ القصيدةِ العموديّةِ وقصيدة التفعيلة (الشعر الحر)، واعتبر شاعر المرأةِ لكثرةِ ما جعلَها محور الحديث في شعرِهِ.

تأثّرَ بالأحداثِ السياسية من حوله وكتب عنها، كحرب الأيام الستة 1967، وحرب تشرين 1973، واتفاقيات السلام في الشرق الأوسط أواسط التسعينّاتِ من القرنِ العشرين. فتلت زوجته في لبنانِ خلال أحداث العنب في لبنان.

تحول نزار قباني عن موضوع المرأة والغزلِ إلى موضوع السياسة والوطنية بعد هزيمة حرب عام 1967.

مقاربات وتلميحات

- الأبيات 1-4: بين الشاعر العاشق وتونس، فخرُ الشاعر بنفسه، قلق الشاعر.

- البيتان 5-6: انتقاد حالة الشعر، استحضار "البحتريّ" و "زرياب". أسلوبُ الاستفهامِ، أسلوب النفي.

- البيت 7: دلالية ألفاظ عجز البيتِ.

- البيت 8: مشاعرُ الخوفِ.

- الأبيات 8-12: حالة المجتمع العربي، عتاب الشّاعر. أسلوب النّهي، الاستفهام الإنكاريُّ (البلاغيُّ).


*57*

أسئلة وأعمال

1. كيف يبرز الشاعر علاقته بالحب في الأبيات الأربعة الأولى؟

2. ما علاقة استهلال القصيدة بالغزل بخصائص الشّعر الكلاسيكي؟ وضح.

3. بماذا يفخر الشّاعر في البيتِ الثاني؟

4. اشرح البيت الثالث واقفا على أساليب البلاغةِ فيهِ.

5. ما نوع الاستفهام في البيتِ الرابع؟ وما الغاية من استخدامه؟

6. كيف ينتقدُ الشاعرُ حالةَ الشّعر في البيتين الخامس والسادس؟

7. بين غايةَ استخدام أسلوبي الاستفهام والنفي في البيتين الخامس والسادس.

8. ما الشخصيات التراثية الّتي يستحضرُها الشاعر في البيتين الخامس والسّادس؟ وما الغاية منَ استحضارها؟

9. كيف يظهر اعتزاز الشاعر بقوميته السّوريّةِ في البيتِ السّابعِ؟ وما دلالةُ "البلابل" و"السنابلِ" و "القبابِ"؟

10. ما سبب خوف الشاعر في البيتِ الثامنِ؟

11. في الأبيات 8-12 عتابٌ وانتقادٌ للعروبة وللمجتمع العربيِّ. وضح ذلك.

12. علق على مدى سهولةِ ألفاظِ النص.

13. بين كيف امتازَ نزار قباني بالغزل والشعر السياسى على ضوءِ النّصِّ.


*58*

نزار قباني

قارئة الفنجان

(1)

جلست والخوف بعينيها

تتأمل فنجاني المقلوب

قالت: يا ولدي.. لا تحزن

فالحب عليك هو المكتوب

يا ولدي، قد مات شهيداً..

من مات على دين المحبوب

(2)

فنجانك.. دنيا مرعبةٌ

وحياتك أسفارٌ.. وحروبْ

ستحب كثيراً وكثيراً

وتموت كثيراً وكثيراً


*59*

وستعشق كل نساء الأرضِ

وترجع.. كالملك المغلوب..

(3)

بحياتك، يا ولدي امرأةٌ

عيناها، سبحان المعبود

فمها.. مرسومٌ كالعنقود

ضحكتها.. موسيقى وورود

لكن سماءك ممطرةٌ

وطريقك مسدودٌ.. مسدود

(4)

فحبيبة قلبك.. يا ولدي

نائمةٌ.. في قصرٍ مرصود (له رصد يحرسونه، وفي الغالب هم من الجنّ في القصص التراثية)

والقصر كبيرٌ.. يا ولدي

وكلابٌ تحرسه وجنود

وأميرة قلبك.. نائمةٌ


*60*

من يدخل حجرتها مفقود..

من يطلب يدها.. من يدنو

من سور حديقتها.. مفقودْ

من حاول فك ضفائرها (جدائل الشعر)

يا ولدي.. مفقودٌ.. مفقود..

(5)

بصرت (نجّمت) .. ونجمت كثيراً..

لكني.. لم أقرأ أبداً..

فنجاناً يشبه فنجانك

لم أعرف أبداً.. يا ولدي

أحزاناً.. تشبه أحزانك..

مقدورك أن تمشي أبداً

في الحب .. على حد الخنجر..

وتظل وحيداً كالأصداف

وتظل حزيناً كالصفصاف


*61*

مقدورك أن تمضي أبداً

في بحر الحب بغير قلوع (جمع قلع وهو الشراع)

وتحب ملايين المراتِ...

وترجع.. كالملك المخلوعْ..

نزار قباني (ت. 1998 م)

(انظر ترجمته ص 56)

مقاربات وتلميحات

- المقطوعةُ 1: الشّخصياتُ، سببُ التوجه إلى قارئة الفنجان)، عادّة التبصير في المجتمع الشرقي، وصف المشاعر.

- المقطوعة 2: العلاقة مع المقطوعة الأولى، المبالغةُ.

- المقطوعة 3: صورة المحبوبةِ.

- المقطوعة 4: صعوبة الوصولِ إلى المحبوبة.

- المقطوعة 5: التكرار، التّشبيهُ، الصورة القاتمة.


*61*

أسئلة وأعمال

1. بين ثلاثة من عناصر الشعر الحرِّ الواردة في النص.

2. بين العلاقة بينَ عنوان النص ومضمونِهِ؟

3. ما هيَ الشخصيات الظاهرة في المقطوعةِ الأولى؟

4. ما رأيُكَ بعادةِ التبصير بالفنجان؟ وفي أيِّ المجتمعات تنتشر؟

5. كيفَ يرسمُ الشاعر لغةَ الجسد لدى قارئةِ الفنجان في المقطع الأولِ؟

6. ما علاقة المقطوعةِ الثانية بالمقطوعةِ الأولى؟

7. ما هيَ دلالاتُ التكرار في المقطع الثّاني؟

8. صف صورة المحبوبة كما وردت في المقطوعةِ الثالثةِ.

9. ما الصّعوبات الّتي تعترض طريق الشاعر إلى محبوبته، كما وردتْ في المقطوعةِ الرابعةِ؟

10. بين دلالة التكرار في المقطوعة الخامسةِ.

11. عين التشبيهات في المقطوعةِ الخامسةِ، مبيّنًا دلالاتِها.

12. هل تبدو صورة مصير الشاعر في نهاية النص مشرقة أم قاتمةً؟ وضّح.

13. ما الّذي يمكن استنتاجُهُ منَ النص بشأن طبيعةِ الحالةِ النفسية الخاصة بالشّاعر؟ علل معتمدا على شواهد منة.


*63*

الفصل الثاني: الشّعرُ الفلسطينيُّ المحليُّ


*63*

(مراجع للتوسع: علان، إبراهيم. الشعر الفلسطيني تحت الاحتلال: من العام - 1948 العام 1973. الشارقة: الشهامة، 1995؛ عليّان، محمّد شحادة. الجانب الاجتماعيّ في الشعر الفلسطينيّ الحديث. عمّان: دار الفكر، 1987؛ طه، المتوكّل. مقدمات حول الشعر الفلسطيني الحديث والثقافة الوطنية.

رام الله: دار البيرق العربيّ، 2004؛ أبو أصبع، صالح. الحركة الشعرية في فلسطين المحتلّة منذ عام 1948 حتى عام 1975. بيروت: المؤسسة العربية للدّراسات والنّشر، 1979).

يتميّز الشّعر الفلسطينيُّ عن سائر الشّعر العربيِّ الحديثِ بأنه نشأَ بفعلِ ظروفٍ خاصّةٍ صقلَتْ شكلَهُ وحدَّدت طبيعته. فهذا الشّعرُ ينطوي على المعاناةِ والتّصبّرِ والمجالدةِ والجهر بالشّكوى ضدَّ التسلط والاستبداد. وقبل النكبة، تعرض الشعر الفلسطيني إلى تصوير الانتداب البريطاني، والهجرةِ اليهوديّةِ، والصّراع على الأرض، وقدْ برزَ شعراءُ التزموا بالقضية الوطنيةِ، كإبراهيم طوقان، وعبد الرّحيم محمود وأبي سلمى.

بعدَ النكبة، تلاحم الشعراء الفلسطينيّونَ في الداخل والشّتات حول القضيّة الوطنيّةِ، وبرزَ شعراء كمحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وراشد حسين. مثل كل من خروجِ راشد حسين ومحمود درويش منَ البلاد نوعًا منَ التحرر منَ القيود المفروضةِ على الإبداعِ الشعري الفلسطيني.

تأثر الشعر الفلسطيني في الدّاخل بالأحداث السياسية المتتابعةِ، كنكسةِ عام 1967، والانتفاضة الأولى عام 1987، فتمثلَ بعضُ شعرائه بهذه الأحداثِ ليصمموا طابعَ الشّعر الفلسطينيِّ، كسميح القاسم.

يغلبُ الشعرُ الحرُّ على معظمِ الشّعرِ الفلسطينيِّ، معَ أن النيوكلاسيكيّةَ وقصيدةَ النثر لم تغيبا عنْهُ أيضًا.

أما الشعر النّسائيُّ الفلسطينيُّ فلم يكن بارزًا بقوّةٍ، واكتفت فدوى طوقان وسعاد قرمان بتمثيله، ورسم أبرزِ ملامحه الّتي تتفق مع الشعر الفلسطيني عامة في موضوع القضيّة والأرض والحقوق.


*64*

إبراهيم طوقان (مصادر ومراجع للتوسع: دعمس، أحمد. بناء الجملة في الشّعر الفلسطينيّ الحديث دراسة تطبيقيّة في شعر إبراهيم طوقان، برهان الدّين العيّوشيّ وراشد حسين. عمّان: الدّار العثمانيّة، 2010؛ الطّريفيّ، يوسف. إبراهيم طوقان: حياته وشعره. عمّان: الأهليّة للنّشر والتّوزيع. 2008؛ بكار، يوسف. إبراهيم طوقان: أضواء جديدة. بيروت: المؤسسة العربية للدّراسات والنّشر، 2004).

الحبشيّ الذّبيح

هذهِ الدّيكة الحبشيّة أو الدّكةُ الهنديّةُ - إذا شئت - الّتي يذبحونَها على رنين الأجراسِ وأفراحِ المعيّدينَ لتكون (عروس المائدةِ) تعمل فيها المُدى تقطيعًا وتشذيبًا لتمتلىءَ بها البطون مرويّةً بكؤوسِ الخمرِ من بيضاءَ وحمراءَ...

كذلك هي الأمم المغلوبةُ على أمرِها كانَتْ، وما برِحَتْ (عروسَ الموائدِ) شأنَ "الحبشيِّ الذّبيحِ" أمّا ريشُهُ فتُحشى بِهِ الوسائدُ، وأمّا لحمه فتُحشى بِهِ البطونُ.

(جريدة البرق 1931)

1. بَرقَتْ له مسنونةً تتلهَّبُ أمضى من القَدرِ المتاح وأغلبُ

2. حَزَّتْ فلا خد الحديدِ مخضَّبٌ (ملطخ بالخضاب (الحناء) كناية عن الدم) بدمٍ ولا نحرُ (مكان النحر من الرقبة) الذبيح مخضًّب

3. وجرى يصيحُ مصفّقاً حينا فلا بصرٌ يزوغُ (كَلَّ) ولا خطىً تتنكَّب (تميل بعض الشيء في مشيها)

4. حتى غَلَتْ بي ريبة (زاد بي الشك) فسألتُهمْ خانَ السّلاحُ أم المنيَّةُ تكذب

5. قالوا حلاوةُ روحه رقصتْ به فأجبتهم ما كلَّ رقصٍ يُطرب


*65*

6. هيهاتَ، دونكه (اسم فعل أمر بمعنى خذه، المقصود خذه بعد أن لفظ أنفاسه) قضى، فإذا به صَعقٌ يشرّق تارة ويغرّب

7. وإذا به يزورُّ (يميل جانبًا) مختلف الخطى وزكّيةٌ موتورةٌ (دماء لم يؤخذ بثأرها) تتصبَّبُ

8. يعدو فيجذبه العياءُ (التعب) فيرتمي ويكاد يظفر بالحياة فتهرب

9. متدفقٌ بدمائه متقلبٌ متعلّقٌ بذَمائِه (بقية الروح) متوثّبُ

10. أعذابهُ يُدْعى حَلاوةَ روحِهِ؟ كْم منطق فيه الحقيقةُ تُقلبُ

11. إنَّ الحلاوةَ في فمٍ متلمظٍ (تتبع بلسانه ما بقي من طعام في فمه) شَرَهاً ليشرب ما الضحيَّةُ تسكب

12. هي فرحةُ العيدِ التي قامت على ألمِ الحياةِ وكلُّ عيدٍ طيّبُ

ابراهيم طوقان (ت. 1940 م)

شاعرٌ فلسطينيٌّ، ولد في نابلسَ، أخو الشّاعرة فدوى طوقان. من المنادين بالقوميّةِ العربيّةِ والمقاومةِ ضدَّ الاستعمارِ الأجنبيِّ. عملَ مديراً للبرامجِ العربية في إذاعة القدس زمن الانتدابِ، ثم أقيلَ من عملِهِ. اشتغلَ مدرسا للغة العربية. مرضَ وتوفي عن 36 عامًا. نشر شعرُهُ في الصحف والمجلّاتِ العربيّةِ، وكانَ ذا تأثيرٍ في شخصيّةِ شقيقِتِهِ فدوى طوقان. له ديوانُ شعرٍ.


*66*

مقاربات وتلميحات

- المقدمة (النص المُوازي).

- البيت 1: الجوانب اللغوية، المفاضلةُ.

- البيت 2: وصف عملية الحز، أسلوب النّفي.

- البيت 3: وصف الديكِ الذّبيحِ.

- الأبيات 4-6: الحوارُ، وصفُ الذّبيحِ، الأساليبُ البلاغيّةُ.

- الأبيات 7-9: الوصف التفصيليُّ لموتِ الدّيك، استخدامُ الأفعالِ المضارعةِ، الإيقاعُ.

- البيت 10: الاستفهامُ الإنكاريُّ (البلاغيُّ).

- البيتان 11-12: موقف الشّاعر من ذابحِ الدّيكِ.

أسئلة وأعمالٌ

1. ما وظيفةُ المقدّمةِ (النّصِّ المُوازي) الّتي يفتتحُ بها الشّاعرُ القصيدةَ؟

2. أينَ فاعل الفعلِ "برِقَتْ" في البيتِ الأوّلِ؟ وإلامَ يعود ضميرُ "الهاءِ" في "لهُ"؟

3. بين طرفي المفاضلة (المقارنةِ) في البيتِ الأوّلِ.

4. صفْ عمليّةَ الحزِّ، كما يصوّرها الشاعر في البيتِ الثّاني.

5. صفِ الدّيك الحبشى الذبيح على ضوء البيتِ الثّاني.


*67*

6. ما مصدر ريبةِ الشّاعر البيب الرّابعِ؟ وما غايةُ الاستفهامِ؟

7. بين وظيفةَ الحوارِ في الأبياتِ 4-6.

8. قارن بين مضمون البيتين الخامس والعاشر من جهةٍ، وبين بيتِ المتنبّي:

لا تحسبُوا رقصي بينكم طربًا فالطّيرُ يرقُصُ مذبوحًا منَ الألمِ

9. استخرج الطباق من البيتِ السّادسِ، ثمَّ بين الغايةَ منه.

10. صف معاناة الدّيكِ الحبشيِّ على ضوءِ الأبيات 7-9.

11. ما غاية تكثيف استخدامِ الأفعال المضارعةِ في البيتِ الثامنِ؟

12. وضّحِ الإيقاعَ في البيتِ التّاسعِ مبيّنًا وظيفتَهُ.

13. ما موقف الشاعر من ذابحِ الديك وفقَ البيتنِ الحادي عشرَ والثّاني عشرَ؟

14. بيّنِ المفارقةَ في البيتِ الثّاني عشرَ.

15. بين العناصرَ القصصيّةَ في النّصِّ.


*68*

أبو سلمى (مصادر ومراجع للتوسع: شلحت، أنطوان. أبو سلمى - الرّمز والقصيدة. عكّا: دار أبو سلمى لنشر الفكر الفلسطينيّ التقدمي، 1982؛ بركات، محمود. الحبّ والطبيعة في شعر أبو سلمى. عكا: مؤسسة الأسوار، 1987؛ الفار، مصطفى. الشاعر أبو سلمى أديبًا وإنسانا. بيروت: المؤسّسة العربية للدراسات والنّشر، 1985).

ابنةُ بلادي

1. أين الشذا والحلُمُ المُزهِرُ أهكذا حُبُّكَ يا أسمرُ؟

2. أهكذا تَذوي أزاهِيرُنا وكانَ منها المِسْكُ والعَنْبرُ

3. الشّفةُ الحُلوةُ ما بالُها تَحْملُ لي الخمرَ ولا تُسكَرُ!....

4. والعين... لا تبسم عندَ اللقا السحر في العين (البقر الوحشيّ المعروف باتّساع عينيه) ولا تَسْحَرُ

5. أشعارُنا كانت تُوشّي (تنقش وتزين) الدُّنّى والليلُ، من أشواقِنا مُقمِرُ

6. نطير من نجم إلى نجمة يلفنا وشاحك الأصفر

7. فمن شعاع الشمس أهدابه تضيء من إشعاعه، الأعصُرُ

8. كيفَ الهوى يمضي كعُمْرِ الندى وفي بلادي مَرجُهُ الأخضَرُ

9. أهواكَ في أغنيةٍ حُرّةٍ يَخفُقُ فيها النّايُ والمِزْهَرُ (آلة العود)

10. في طلّةِ الفجْرِ على المُنحنى يهفو (يخف ويسرع) إليها الكَرْمُ والبَيْدرُ


*69*

11. في النَهَرِ الضاحكِ بين الرُّبى تَحْسُدُهُ على الهوى الأنهُرُ

12. في الشاطىء الغربي تغفو على ألحانه الأمواج والأبحر

13. في نغمِ البلبلِ يشدو على صنوبرِ السفحِ ولا يهجُرُ

14. في عبق الورد وفي لونه يزفه وادي الحمى الأطهر

15 في موكبِ النّصرِ وفي رايةٍ على ذُرىَ تاريخِنا تخطرُ

16. وفي أماني أُمَّتِي تَنْتشِي فيها المروءاتُ وتَسْتَكبرُ

17. أهواكَ في شَعْبِي وفي موطني فأنتِ لا أحلى ولا أنضَرُ

أبو سلمى (ت. 1980 م)

عبد الكريم الكرميّ؛ شاعر فلسطيني، ولد في مدينةِ طولكرم، وانتقلَ إلى الأردنِّ فسوريا. أحب فتاةً اسمُها "سلمى" وكتب قصيدة بها فاشتهر بكنيتِهِ "أبو سلمى". درسَ الحقوقَ وعمل محاميًّا. أقالته السّلطات البريطانية بسببِ مهاجمتِهِ الاستعمارَ. له عددٌ منَ الدّواوينِ الشعريّةِ.

مقاربات وتلميحات

- الأبيات 1-4: عتاب المحبوبةِ، توظيف أسلوبِ الاستفهامِ الإنكاريِّ، مواصفاتُ المحبوبةِ.

- الأبيات 5-8: عهدُ الهوى السّابقُ.

- الأبيات 9-14: ملامح الرومانسيّةِ، ربط هوى المحبوبة بهوى الوطنِ، معالم الوطنِ، التّكرار والبناءُ الدّائريُّ.


*70*

أسئلة وأعمال

1. علام يعاتب الشاعر محبوبته في المقطع الأولِ؟

2. ما غاية توظيف أسلوب الاستفهام في المقطع الأوّلِ؟

3. ما الذي حدث للحب بين الشاعر ومحبوبته، كما يرد في البيت الثّاني؟

4. ما هي مواصفات المحبوبةِ الواردةُ في المقطعِ الأولِ؟

5. ما العلاقة بين لفظتي "العين" و"العين" الواردتين في البيتِ الرّابعِ؟

6. ما الذي يميّز عهدَ الهوى السّابق، كما يبينهُ الشاعر في الأبياتِ 5-7؟

7. مم يتعجب الشاعر في البيتِ الثامنِ؟

8. بين أركان التشبيه في البيتِ الثّامنِ.

9. استخرج التعابير ذاتَ العلاقة بالموسيقى والمعازف والأصواتِ منَ الأبياتِ من 8-17.

10. ما معالم الوطنِ الّتي يرسمُها الشّاعر في المقطعِ الثّاني (الأبيات 9-17)؟

11. كيف يربط الشّاعر بينَ هوى المحبوبةِ وهوى الوطنِ؟

12. ما ملامح الرومانسيّةِ في النّصِّ؟ وضّحْ!


*71*

محمود درويش (مصادر ومراجع للتوسع: النقاش، رجاء. محمود درويش شاعر الأرض المحتلّة. القاهرة: دار الهلال، 1969؛ الرّبيحات، عمر. الأثر التّوراتي في شعر محمود درويش. عمان: اليازوريّ، 2006؛ الجزّار، محمّد. الخطاب الشّعري عند محمود درويش. القاهرة: إيتراك للطباعة والنشر، 2001).

أنا يوسف يا أبي

أنا يوسفٌ يا أبي. يا أبي، إخوتي لا يحبونني، لا يريدونَني بينهم يا أبي. يعتدُون عليَّ ويرمونني بالحصى والكلام. يريدونني أن أموتَ لكي يمدحوني. وهمْ أوصدوا بابَ بيتك دوني. وهم طردوني من الحقلِ. هم سمموا عنبي يا أبي. وهم حطموا لُعبي يا أبي. حينَ مرَّ النَّسيمُ ولاعبَ شعري غاروا وثاروا علي وثاروا عليك، فما صنعت لهم يا أبي؟ الفراشات حطت على كتفي، ومالت علي السنابل، والطير حطت على راحَتيَّ. فماذا فعلت أنا يا أبي، ولماذا أنا؟ أنتَ سمَّيتني يوسفا، وهمو أوقعوني في الجب، واتَّهموا الذِّئبَ; والذئب أرحمُ من إخوتي.. أبتِ! هل جنيتُ على أحدٍ عندَما قلت إنِّي: رأيتُ أحدَ عشرَ كوكبًا، والشمس والقمرَ، رأيتهم لي ساجدين؟!.

محمود درويش (ت. 2008 م)

من أشهرِ الشعراء الفلسطينيّينَ قاطبةً، ولدَ في قرية "البروةِ" في الجليل، نزحَ إلى لبنانَ، ثمَّ عادَ مع عائلته ليسكنَ "دير الأسد"، ثمَّ "الجديدة". عمل في بدايةِ شبابه في الصّحافة الشيوعية، وسكنَ حيفا خلالَ ذلك.

توجّهَ إلى "موسكو" للدّراسة، ومن ثمَّ أقامَ في لبنان. توفي في الولاياتِ المتحدة في أعقاب عمليةٍ جراحيّةٍ للقلبِ.

كتب الشعر العمودي إلى جانب الشعر الحر. ارتقى بالشعر الفلسطينيِّ ليصبحَ أكثر إيحاءً.

ترك عددًا منَ الدّواوينِ الشّعريّةِ.


*72*

مقاربات وتلميحات

- التناص القرآني.

- طبيعة العلاقة بين يوسف وإخوته.

- توظيف الأفعال المضارعة.

- توظيف الأفعال الماضية.

- أشكال الأذى التي لحقت بيوسف.

- أسلوب الاستفهام.

- الرمزية.

أسئلة وأعمال

1. بين التناص القرآنيَّ في النّصِّ.

2. ما طبيعة العلاقةِ بين يوسف وإخوته حسبَ النّصِّ؟

3. ما أشكال الأذى الّتي تعرض لها يوسف من إخوته؟ وكيف يمكن تدريجها حسبَ الشّدّةِ؟

4. بين ملامح الرمزية في النّصِّ، مبيّنًا إلامَ يرمز كلٌّ من: يوسف والذئب؟

5. إلامَ يرمز الأبُ في النص حسب رأيك؟ وضح.

6. ما النوع الذي تتبع إليهِ القصيدةُ؟ وما ملامحُهُ؟


*73*

7. كيف يظهر تعاطف الطبيعة مع يوسف؟

8. كيف حاولَ إخوة يوسفَ التخلص منه في نهاية النّصِّ؟

9. كيف تعبر شخصيّة "يوسف" عن الشاعر؟

10. ما سبب تكثيف الأفعالِ المضارعة في السطر الثاني؟ وما غاية تكثيفِ الأفعال الماضية في الأسطر 3-5؟

11. تعتمد القصيدة على أسلوب التناص مع قصة النبي يوسف عليه السلام. ما الهدف من ذلك؟


*74*

محمود درويش

ونحن نحب الحياة

وَنَحْنُ نُحِبُّ الحَيَاةَ إذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ

وَنَرْقُصُ بَيْنَ شَهِيدْينِ نَرْفَعُ مِئْذَنَةً لِلْبَنَفْسَجِ بَيْنَهُمَا أَوْ نَخِيلاَ

نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ

وَنَسْرِقُ مِنْ دُودَةِ القَزِّ خَيْطاً لِنَبْنِي سَمَاءً لَنَا وَنُسَيِّجَ هَذَا الرَّحِيلاَ

وَنَفْتَحُ بَابَ الحَدِيقَةِ كَيْ يَخْرُجَ اليَاسَمِينُ إِلَى الطُّرُقَاتِ نَهَاراً جَمِيلاَ

نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ

وَنَزْرَعُ حَيْثُ أَقمْنَا نَبَاتاً سَريعَ النُّمُوِّ، وَنَحْصدْ حَيْثُ أَقَمْنَا قَتِيلاَ

وَنَنْفُخُ فِي النَّايِ لَوْنَ البَعِيدِ البَعِيدِ، وَنَرْسُمُ فَوْقَ تُرابِ المَمَرَّ صَهِيلاَ

وَنَكْتُبُ أَسْمَاءَنَا حَجَراً حجرًا، أَيُّهَا البَرْقُ أَوْضِحْ لَنَا اللَّيْلَ، أَوْضِحْ قَلِيلاَ

نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلا...


*75*

محمود درويش (ت. 2008 م)

(انظر ترجمته ص 71)

مقاربات وتلميحات

- تكرار العنوان ودلالتُهُ.

- القافية الموحّدة.

- التناص القرآني

- نزعة التفاؤل.

- قصيدة النثر.

- استخدام ضمير المتكلمين.

- دلالة استخدام الأفعال المضارعةِ.

- تكرارُ بعضِ الألفاظ في نفس السّطرِ.

أسئلة وأعمالٌ

1. ما دلالة تكرارِ عنوانِ القصيدةِ على طولِ النّصِّ؟

2. بين ثلاث خصائص لمبنى القصيدةِ.

3. عين القافيةَ الموحدةَ، وبين الغايةَ منْها.


*76*

4. استخرجِ التناص القرآني منَ النّصِّ.

5. بين ملامح النزعة التفاؤليّةِ السّائدةِ في أجواءِ النّصِّ.

6. استخرج ثلاثةَ ملامحَ للرّومانسيّةِ منَ النّصِّ.

7. ما دلالة تكرار ألفاظِ "البعيدِ" "حجرًا"، و "أوضح" في السّطرين الثامنِ والتّاسعِ؟

8. استخرج الطباق منَ النّصِّ.

9. ما غاية تكثيفِ استخدامِ ضميرِ الجمعِ "نحنُ" على طولِ النّصِّ.

10. استخرج منَ النّصِّ تعبيرين منَ الثقافةِ الإسلاميّةِ.

11. هل يمكن اعتبار القصيدةِ نموذجًا للشِّعرِ الإنسانيِّ العامِّ أم أنّهُ نموذج للشّعرِ الفلسطينيِّ الخاصِّ؟ علّلِ.


*77*

توفيق زيّاد (مصادر ومراجع للتوسع: العطاونة، سالم. توفيق زيّاد: دراسة تحليليّة في إنتاجه الأدبي. بئر السبع: الكلية الاكاديميّة للتربية كي، 2017؛ عليّان، محمّد شحادة. الجانب الاجتماعيّ في الشّعر الفلسطيني الحديث. عمّان: دار الفكر، 1987؛ طه، المتوكل. مقدّمات حول الشّعر الفلسطينيّ الحديث والثقافة الوطنية. رام الله: دار البيرق العربيّ؛ 2004؛ كتّاني، جميل. اللّغة التحريضيّة لدى توفيق زيّاد. كفر قرع: دار الواصل للنّشر والتّوزيع، 2009؛ ياغي، عبد الرّحمن. شعراء الأرض المحتلة في الستينيّات؛ دراسة في المضامين. الكويت: شركة كاظمة للنّشر والترجمة والتّوزيع، 1982).

نيران المجوس

على مهلي!!

على مهلي!!

أشد الضوء.. خيطا ريّقا،

من ظلمة الليل

وأرعى مشتل الأحلام،

عند منابع السيل

وأمسح دمع أحبابي

بمنديل من الفل

وأغرس أنضر الواحات

وسط حرائق الرمل

وأبني للصعاليك الحياة..

من الشذا

والخير،

والعدل

وإن يوما عثرت، على الطريق،

يقيلني أصلي

على مهلي

لأني لست كالكبريت

أضيء لمرة.. وأموت

ولكني ..

كنيران المجوس: أضيء..

من مهدي

إلى لحدي!

ومن سلفي

إلى نسلي!

طويل كالمدى نفسي

وأتقن حرفة النمل.

على مهلي!

لأن وظيفة التاريخ...

أن يمشي كما نملي!!

طغاة الأرض حضرنا نهايتهم

سنجزيهم بما أبقوا

نطيل حبالهم، لا كي نطيل حياتهم

لكن..

لتكفيهم

لينشنقوا..!!

على مهلي!!

على مهلي!!

أشد الضوء.. خيطا ريّقا،

من ظلمة الليل

وأرعى مشتل الأحلام،

عند منابع السيل

وأمسح دمع أحبابي

بمنديل من الفل

وأغرس أنضر الواحات

وسط حرائق الرمل

وأبني للصعاليك الحياة..

من الشذا

والخير،

والعدل

وإن يوما عثرت، على الطريق،

يقيلني أصلي

على مهلي

لأني لست كالكبريت

أضيء لمرة.. وأموت

ولكني ..

كنيران المجوس: أضيء..

من مهدي

إلى لحدي!

ومن سلفي

إلى نسلي!

طويل كالمدى نفسي

وأتقن حرفة النمل.

على مهلي!

لأن وظيفة التاريخ...

أن يمشي كما نملي!!

طغاة الأرض حضرنا نهايتهم

سنجزيهم بما أبقوا

نطيل حبالهم، لا كي نطيل حياتهم

لكن..

لتكفيهم

لينشنقوا..!!

على مهلي!!

على مهلي!!

أشد الضوء.. خيطا ريّقا،

من ظلمة الليل

وأرعى مشتل الأحلام،

عند منابع السيل

وأمسح دمع أحبابي

بمنديل من الفل

وأغرس أنضر الواحات

وسط حرائق الرمل

وأبني للصعاليك الحياة..

من الشذا

والخير،

والعدل

وإن يوما عثرت، على الطريق،

يقيلني أصلي

على مهلي

لأني لست كالكبريت

أضيء لمرة.. وأموت

ولكني ..

كنيران المجوس: أضيء..

من مهدي

إلى لحدي!

ومن سلفي

إلى نسلي!

طويل كالمدى نفسي

وأتقن حرفة النمل.

على مهلي!

لأن وظيفة التاريخ...

أن يمشي كما نملي!!

طغاة الأرض حضرنا نهايتهم

سنجزيهم بما أبقوا

نطيل حبالهم، لا كي نطيل حياتهم

لكن..

لتكفيهم

لينشنقوا..!!

على مهلي!!

على مهلي!!

أشد الضوء.. خيطا ريّقا،

من ظلمة الليل

وأرعى مشتل الأحلام،

عند منابع السيل

وأمسح دمع أحبابي

بمنديل من الفل

وأغرس أنضر الواحات

وسط حرائق الرمل

وأبني للصعاليك الحياة..

من الشذا

والخير،

والعدل

وإن يوما عثرت، على الطريق،

يقيلني أصلي

على مهلي

لأني لست كالكبريت

أضيء لمرة.. وأموت

ولكني ..

كنيران المجوس: أضيء..

من مهدي

إلى لحدي!

ومن سلفي

إلى نسلي!

طويل كالمدى نفسي

وأتقن حرفة النمل.

على مهلي!

لأن وظيفة التاريخ...

أن يمشي كما نملي!!

طغاة الأرض حضرنا نهايتهم

سنجزيهم بما أبقوا

نطيل حبالهم، لا كي نطيل حياتهم

لكن..

لتكفيهم

لينشنقوا..!!

على مهلي!!

على مهلي!!

أشد الضوء.. خيطا ريقا (أفضله وأوله)،

من ظلمة الليلِ

وأرعى مشتل الأحلامِ،

عند منابع السيل

وأمسح دمع أحبابي

بمنديلٍ من الفلِّ

وأغرس أندر الواحاتِ

وسط حرائق الرمل

وأبني للصّعاليك الحياةَ..

مِنَ الشذا،


*78*

والخير

والعدل

وإن يوما عثرت (تعثر، كبا في الطريق)، على الطريق،

يقيلني أصلي

على مهلي!

لأني لست كالكبريت

أضيء لمرةٍ.. وأموتْ

ولكنّي..

كنيران المجوس: أضيءُ..

من..

مهدي

إلى..

لحدي!

ومن..

سَلِفي،

إلى..

نسلي!


*79*

طويل كالمدى نفسي

وأتقن حرفة النملِ

على مهلي!

لأن وظيفة التاريخ...

أن يمشي كما نُملي!!

طغاة الأرض حضرنا نهايتهم

سنجزيهم بما أبقوا

نطيل حبالهم، لا كي نطيل حياتهم

لكن..

لتكفيهم

لينشنقوا..!!

توفيق زياد (ت. 1994 م)

شاعر محلّيٌّ وسياسيٌّ، كانَ عضوًا في الحزبِ الشّيوعيِّ، وانتخب عضوًا في البرلمانِ الإسرائيليِّ (الكنيست)، شغلَ منصب رئيسِ بلدية النّاصرة. درس الأدب السّوفييتي، وبرعَ في الشّعر والخطابةِ. عبّرَ عن هموم شعبِهِ وقضاياه. قتلَ في حادثِ سير. لهُ مجموعةُ دواوين.


*80*

مقاربات وتلميحات

- دلالة تكرار عبارةِ "على مهلي".

- الشعر الحرُّ وخصائصهُ.

- التشبيهُ.

- بساطةُ اللغةِ.

- تهديدُ الطغاةِ.

أسئلة وأعمال

1. ما العلاقة بين "نيران المجوسِ" والضوءِ الأبديِّ، وفق ما جاءَ في النّصِّ؟

2. كيف يظهر عناد الشّاعر وبرودةُ أعصابِهِ وهوَ يقاومُ؟

3. هل يظهر النص أن الخلاصَ آتٍ؟ وضّح.

4. ما علاقة "الصّعاليكِ" بالمقاومينَ؟

5. قارن بينَ "الكبريت" و "نيران المجوس" حسبَ النّصِّ.

6. لماذا يُكثرُ الشّاعرُ منَ استخدام صيغةِ الفعلِ المضارعِ؟


*81*

7. ما هو الجو الّذي يشيع في نهايةِ النّصِّ؟

8. هل يظهر في النّصِّ تأثّرٌ بقصّةِ المسيحِ؟

9. ما هيَ أهمية وظيفة التاريخِ بالنّسبةِ إلى الشّاعرِ؟

10. مثل منَ النّصِّ بأمثلةٍ تدلُّ على بساطةِ اللّغةِ لدى الشّاعرِ.

11. استخرج منَ النص مثالاً على التشبيه مبيّنًا أركانَهُ.

12. استمع إلى الشّاعرِ يقرأُ مقطعًا من قصيدتِهِ منْ خلالِ موقعِ يوتيوب، وبيّنْ تأثيرَ الإلقاءِ فيكَ.

13. لماذا ينوّع الشّاعرُ في ترتيبِ أماكنِ الكلماتِ في الشّطرِ الشّعريِّ في مواضعَ عدّةٍ منَ النّصِّ؟ وما دلالةُ هذا الترتيبِ؟


*82*

فهد أبو خضرة (مصادر ومراجع للتوسع: طه، إبراهيم. من التماس إلى الانزياح - مقدمة لشعر فهد أبو خضرة. القدس: دائرى الثّقافة العربيّة في وزارة الثقافة، د.ت؛ حسين، حمزة. العين الثّالثة - دراسات في الأدب. الناصرة، مؤسّسة مواقف، 2005).

أيّها القادمُ

(1)

أيها القادمُ في مَركَبةِ الشمسِ إلى أرض الفداءِ

لم يَحنْ وقتُكَ بعدُ

ها هنا في قمَّة الأحقادِ والويلِ المُعادْ

لم تزَلْ تنتظر الأيّام "نيرون" (آخر أباطرة روما، احرقَ المدينة على أهلها بهدف إعادة بنائها) الجديد

علَّها تُحرَق في ذاكرة الحاضر روما،

والرَّمادْ

يبرِئُ الأعينَ من داءٍ طواها ألفَ عامِ.

(2)

ها هنا الآخرُ ملءُ الذاتِ والذّاتُ ضحيَّةْ،

والغدُ المقبِلُ طوفانٌ من الشكِّ،


*83*

وحلمُ الأبديّةِ

لم تزلْ ترفعهُ الأَهواءُ في الأفقِ هدايا

وقرابينَ

لأَصحابِ المقاماتِ السَّنيّة.

(3)

ها هنا الوهمُ هو السَّيِّدُ،

والفكرُ المُضاءْ

وجعُ الأعماقِ أو سخريةُ الآفاقِ،

أو جَرحُ السَّفيهِ.

أيُّ تيهِ

يحجبُ الضَّوءَ الذي يقبعُ في حضنِ الغمامْ!

(4)

أيّها القادمُ في مركبةِ الشمسِ إذا وقتكَ حانا

أترى ما كانَ بالأمسِ يعادُ؟

أترى تورِقُ في الصَّحراءِ أغصانٌ


*85*

وتخضَرُّ دروبُ؟

أترى يقتلع الوهمُ الذي سادَ الزّمانا؟

(5)

أيُّها القادمُ في مركبةِ الشمِسِ إلى أرض الفداءِ!

أترى وقتكَ وقتي؟

فهد أبو خضرة (.......)

ولدَ في قرية الرّينة عام 1939. نال شهادة الدّكتوراة من الجامعة العبريّة في القدس سنة 1979، على أطروحة بعنوان "ابن المعتزّ - الرّجل وإنتاجه الأدبيّ".

عمل محاضرًا للّغة العربيّة وآدابها في الكلّية العربيّة للتربية في حيفا، ويحاضر في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة حيفا.

يشغل رئيس تحرير مجلّة "مواقف" الصّادرة عن مؤسسة المواكب.

له دواوينُ شعرٍ، ودراساتٌ، ومجموعة منَ الكتبِ التعليميّةِ المدرسيّةِ.

مقاربات وتلميحات

- ملامح الشعر الحرِّ.

- هويّة القادمِ.

- التّأثر بالدّيانةِ المسيحيّةِ.

- رمزيّةُ إحتراقِ "نيرون" لروما.


*85*

- التكرار وغايتُه.

- أسلوبُ الاستفهام.

- المبنى الدّائريُّ للنّصِّ.

أسئلة وأعمال

1. بيّنَ ثلاثةَ ملامحَ للشّعرِ الحرِّ منَ النّصِّ.

2. من القادم في مركبةِ الشمس وما هو سببُ قدومِهِ؟ وهل قدمَ في الوقتِ المناسبِ؟ علّلْ.

3. إلامَ يرمزُ كلٌّ منْ "نيرون الجديد" و "حرقُ روما"؟

4. أينَ يظهر تأثر الشّاعر بالدّيانة المسيحيّةِ؟ عيّنِ "الموتيفاتِ" المسيحية الّتي تدلُّ على ذلكَ في النّصِّ.

5. بيّنْ مواصفاتِ المبنى الدّائريِّ للقصيدةِ اعتمادًا على النّصِّ.

6. ما غاية التّكرار في نهايةِ النّصِّ؟

7. لماذا يستخدمُ الشّاعرُ أسلوبَ الاستفهامِ بكثرةٍ في نهايةِ النّصِّ؟

8. كيف تنعكس صورةُ الفكرِ المضاءِ حسبَ النّصِّ؟

9. يوظّفُ الشاعر الرّقم "ثلاثة" في مخاطبته للقادمِ؛ فما دلالةُ هذا التّثليثِ في الدّيانةِ المسيحيّةِ؟


*86*

راشد حسين (مراجع للتوسع: دعمس، أحمد. بناء الجملة في الشّعر الفلسطينيّ الحديث - دراسة تطبيقيّة في شعر إبراهيم طوقان، برهان الدّين العيّوشيّ وراشد حسين. عمّان: الدّار العثمانية، 2010؛ محمود، حسني. راشد حسين من الرّومانسيّة إلى الواقعيّة. الزرقاء: الوكالة العربيّة للنّشر والتّوزيع، 1985؛ سلسع، جمال).

إلى أطفالِ بلادِي

ما زال في بصري سماءٌ من عيونٍ حالمة

زرقاء أو سوداء تلمع في الوجوه الباسمة

وخواتم الكعكِ الكبيرة والشفاه الناعمة

ما زال في عيني طفلٌ في شوارع تل أبيب

وصغيرةٌ في قريةٍ سمراءُ تحلمُ بالحليب

ما زال أطفال الحياةِ نجومَ أرضي القاتمة

يتلألؤون بكل وجهٍ نجمتان

بكلِّ كف كعكة أو كعكتان

ولأجلهم ولأجل كعكهم أغنّي للسلام

يا أنجما شقراء أو سمراء ضاحكة العيون

إني أراكم تحلمون وتلعبون وتحلمون

هل تعلمون بما صنعت لأجلكم هل تعلمونْ؟


*87*

أعددتُ في قلبي سريراً من حرير الأمنيات

هو واسع حتى ليحتضن الألوف مع المئات

فأنا سريري من خيوط الحب فرشته الحنون

وخيوط ثوب الحب أصغرها دثار

تكفي لتدفئة الألوف من الصغار

ولأجلكم ولأجل نومكم أغني للسلام

لي مثلكم وبمثل طهركم النقي أخ صغير

إنَّ اسمه "فتحي".. نوادره حقول من عبير

خصلاته شقراء والعينان في لون الغدير

"الشرق" فيه قد التقى "بالغرب" في ثوب جديد

فاللون غربيٌّ.. ولفظ الطفل شرقي مجيد

وعروقه كعروقكم فيها دماءٌ لا عصير

ألعابه، من طينِ قريتنا، هضاب

فيصوغ مثلَ الله آدم من تراب

ولأجل لعب أخي ولعبكم أغني للسلام


*88*

راشد حسين (ت. 1977 م)

شاعرٌ فلسطينيٌّ، ولدَ في قرية "مصمص" في المثلث. كتب الشعر صغيراً، ثمَّ انخرط في العمل السياسيِّ من خلالِ الحزب الشيوعيِّ. كتبَ في المقاومةِ، ولوحقَ، وأقيلَ من عملِهِ كمدرّس، وسُحبتْ منه الجنسية الإسرائيلية، ومنعَ من دخولِ البلادِ، وكانَ حينَها في الولاياتِ المتحدةِ. سافر إلى سوريا، وانضم إلى منظمّةِ التّحرير الفلسطينية. ماتَ مختنقا في شقته في نيويورك بفعل حريقٍ، ودفنَ في مسقط رأسه. صدرت له دواوين شعرية.

مقاربات وتلميحات

- المقطعُ الأوّلُ:

- المقصود ب "أطفالِ بلادي".

- الصّورة الوصفيّةُ في المقطعِ الأوّلِ.

- دلالة لفظةِ "القاتمةِ".

- المقطعُ الثّاني:

- صورة الأطفالِ الإيجابيّةُ.

- اهتمامُ الشّاعرِ بالأطفالِ.

- المقطع الثالث:

- مواصفاتُ "فتحي".

- لعبُ الأطفالِ.


*89*

أسئلةٌ وأعمالٌ

1. بين ثلاثة من عناصر الشعر الحر الواردة في النّصِّ.

2. من هم "أطفالُ بلادي" الواردُ ذكرهم في النّصِّ؟

3. ما الصّورُ الوصفية الواردة في المقطعِ الأوّلِ؟ اشرحْ.

4. ما دلالة استخدام الشّاعرِ للفظةِ "القاتمةِ" في المقطعِ الأوّلِ؟

5. ما الّذي صنعه الشاعر من أجل الأطفالِ، وفقَ المقطعِ الثّاني؟

6. ما هوَ الموضوعُ "الخاصُّ" الذي يتطرق إليه الشاعرُ في المقطعِ الثالث؟

7. صف "فتحي" حسبَ ما جاءَ في المقطعِ الثالثِ.

8. ما الغاية منَ الحديث عن "فتحي" في النص؟

9. ما علّة تكرار الحديثِ عنِ "اللّعبِ" في المقطعِ الثّالثِ؟

10. يقولُ الشاعر في المقطع الثالث: "الشرق فيه قد التقى بالغربِ". بين شكل هذا الالتقاءِ مستعينًا بالنّصِّ.

11. تسود القصيدة نظرة تفاؤليّة، بيّنْ ذلكَ.

12. بيّنْ ثلاثةً منَ العناصرِ المستمدّةِ منَ الواقعِ في النّصِّ.


*90*

سميح القاسم (مصادر ومراجع للتوسع: طه، إبراهيم. تلك جمجمة الشّنفري: قيمة الجمال وجمال القيمة في شعر سميح القاسم. كفر قرع: دار الهدى للطّباعة والنّشر، 2011؛ بزراوي، باسل. سميح القاسم - دراسة نقديّة في قصائده المحذوفة (رسالة جامعيّة). نابلس: جامعة النجاح. 2008).

ليلاً على باب فدريكو

(1)

فدريكو..

الحارس أطفأ مصباحَه

اِنزلْ

أنذا منتظر في الساحة

(2)

فِدِ.. ري.. كو!

قنديل الحزن قمر

الخوفُ شَجَرْ

فانزل

أنا أعلم أنك مختبئ في البيتْ

مسكونًا بالحمّى

مشْتعلاً بالموتْ


*91*

فانزل

أنذا منتظرٌ في السّاحةْ

مشتعلاً بلهيب الوردةْ

قلبي تفاحة..

(3)

الديك يصيح على قرميد السّطحْ

فدريكو!

النجمة جرح

والدم يصيح على الأوتار

يشتعل الجيتار

(4)

فِدِ .. ريكو

الحرسُ الأسودُ ألقى في البئر سلاحَهْ

فانزل للسّاحة

أعلم أنك مختبىءٌ في ظلِّ ملاكْ

ألمحُكَ هناكْ

خلف ستارة شبّاكْ


*92*

ترتجف على فمك فراشة

وتمسّد شعر الليل يداك

انزل فدريكو

وافتح لي الباب

أسرع

أنذا أنتظرُ على العتبة،

أسرع

في منعطف الشارع

جلبة ميليشيا (جماعة من المسلحين تأخذ محل الجيش النظامي) مقتربة

قرقعة بنادق

وصليل (قرقعة السلاح) حراب

افتح لي الباب

أسرع

خبئني

فدريكو

فِدِ.. ري.. كو

مدريد 27/5/1985


*93*

سميح القاسم (ت. 2014م)

أحد أبرز الشعراء الفلسطينيين، ولدَ في الأردن، وانتقل إلى حيفا. عمل في الصّحافةِ، وكان عضوًا في الحزب الشيوعي الإسرائيليِّ. اهتمَّ بالعروبةِ وبالقوميّة، وسجن عدّةَ مرّاتٍ بسبب مواقفه. له عدد من الدّواوينِ، والرسائل، والمسرحيّات، إلى جانب سيرةٍ ذاتيّةٍ.

مقاربات وتلميحات

- فدريكو لوركا (فدريكو جارسيا لوركا: شاعر إسباني معاصر. اغتيل من قبل الثوار الوطنيين وهو في الثامنة والثلاثين من عمره في بدايات الحرب الأهلية الإسبانيّة) وصفاتُهُ.

- علاقة الرّاوي بفدريكو.

- التكرارُ ودلالتُهُ.

- التحوّلُ في الطّلبِ الموجّهِ إلى فدريكو.

- وصفُ مشاعرِ الخوفِ.

- خصائصُ الشّعرِ الحرِّ.

أسئلةٌ وأعمالٌ

1. ابحث عن فدريكو لوركا"، وبيّنِ التشابه بين حادثِ مقتلِهِ في الواقعِ وما وردَ في النص.

2. إيتِ بثلاثِ صفاتٍ لفدريكو وردَتْ في النّصِّ.


*94*

3. كيف تبدو لكَ علاقة الرّاوي بفدريكو حسبَ النّصِّ؟

4. ما دلالة تكرارِ الفعلِ "يصيحُ" في المقطعِ الثّالثِ؟

5. صفْ مشهدَ القتلةِ وهم يحاصرون بيت فديريكو.

6. لماذا يصرُّ الرّاوي على نزولِ فدريكو إلى السّاحةِ؟

7. قارن بين وصفِ الرّاوي نفسهُ، ووصفه فدريكو، وفق المقطع الثاني.

8. ما الصّورة الّتي وصفَ بها الرّاوي فدريكو وهو في مخبئِهِ؟

9. بيّنِ التّغيُّرَ الّذي طرأَ على المكانِ الّذي ينتظرُ فيه الرّاوي فدريكو.

10. إلى أي مدى تجد العنوان موحيًا بمضمونِ النص ودلالته؟

11. ما الهدف من تقطيع كلمة فديريكو؟

12. اذكر ثلاثة من عناصر الطبيعةِ في النص وبين ارتباطها بالمشاعر.

13. ما غاية تكثيفِ استخدامِ أفعالِ الأمر في النص؟

14. اذكر ثلاث خصائص للشّعر الحر، مع التمثيلِ لكلٍّ منها بمثالٍ منَ النص.

15. بين كيف يوظّفُ الشاعر القافية المقيدة في النص، وما دلالة هذا التوظيفِ.


*95*

القسم الثاني: النّثر الحديث


*95*


*96*

صفحة فارغة


*97*

الفصل الثّاني: القصّة القصيرة


*97*

(مصادر ومراجع للتوسع: العزب، محمد. أصول الأنواع الادبيّة: الشعر، القصة، الرواية والمسرحية. د.م: د.ن، د.ت؛ شلش، علي. في عالم القصة. د.م: د.ن، د.ت؛ فاعور، ياسين. القصة القصيرة الفلسطينية: ميلادها وتطورها 1990-1924. دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2001).

(لا يوجد أتفاق بين النقاد على المعايير التي تحدد مدى طول القصّة، وما إذا كانت "قصيرة" أو "طويلة". هناك من يحدّد زمن قراءة النص القصصي القصير؛ فيرى بأنّه يراوح بحن ربع ساعة وثلاث ساعات، كما أن البعض رأى أن عدد الكلمات هو المعيار الذي يحدد ما إذا كانت القصة قصيرة، لكنهم رأوا أن الحد الأدنى لكلمات القصة القصيرة لا يقل عن خمسمائة كامة، ولا يتجاوز الحدّ الأقصى عشرة آلاف كلمة! غيرَ أنَّ المعيارين الآنفي الذكر لا يصلحان للتفريق بين الأشكال القصصيّة، وخصوصا بين القصة القصيرة والرواية؛ ولذلك ينبغي الاهتمام بعناصر القصة القصيرة البينة في الصفحات أعلاه؛ كالفكرة المحدّدة، والحدث المفرد، وعدد الشخصيات القليل نسبيا، وتكثيف اللغة، وسرعة الحركة، والزمان والمكان المفردين. مع ذلك، تمتلك كل قصة قصيرة شكلها الخاص، ولا يمكن لقصة قصيرة أن تكون صورة مطابقة عن أخرى بشكل كامل).

القصة القصيرة عبارة عن سرد حكائي قصير مقارنة مع الأنواع الأدبيّةِ القصصيّةِ الأكثر طولاً (الرواية، والمسرحية). تهدف القصة إلى تقديم حدث وحيد في غالب الأحيان. وغالبًا ما تركز القصة القصيرة على شخصية واحدةٍ أساسيّةٍ في موقفٍ واحد في ظرفٍ محدّدٍ.

القصة القصيرة أحد ألوانِ الأدب العربي الحديثة. ويعتبر كل منْ "سليم البستانيّ" وأحمد فارس الشّدياق من أول من عني بشر القصة القصيرةِ. وقامَ الأخوانِ "محمّد" ومحمود تيمور" بتطوير النزعة الاجتماعية في قضايا القصة القصيرةِ. أمّا "يوسف إدريس" و "نجيب محفوظ" فكانَ لهما دورٌ بارزٌ للغايةِ في ازدهار القصة القصيرةِ وجعلِها في صدارةِ الأنواع الأدبية الحديثة.

كثيرٌ منَ القصص القصيرةِ يتكوَّنُ من شخصيّةٍ واحدةٍ، أو مجموعةٍ صغيرةٍ منَ الشخصيات، تواجة صراعا معيّناً، ويعتبر التوتر (أو الإثارة) من أهم عناصر القصة.

في العقود الأخيرة من القرن العشرين، انبثقث من القصة القصيرةِ أنواع قصصيّةٌ جديدةٌ، كالقصّة القصيرةِ جدًّا، والقصّةِ الشعرية.

تمتاز القصة القصيرة جدًّا بقصر حجمها، وبالإيحاء المكثف، والنزعة إلى الرمزية، وتشتملُ


*98*

على التصوير البلاغي. ظهرت القصة القصيرة جدًّا منذ تسعينيات القرن العشرين.

أما القصة الشعرية، التي ظهرت أيضا مع نهاية القرن العشرين، فتحتوي على السرد بطبيعتها، إلا أن السرد مغلف بكثرة المجاز واللغة الإيحائية، والموسيقى، وهذا ما نجدة غالبا في الشعر.

وللقصة عنا هي أساسية، وهي:

1. الفكرة والمغزى:

وتعبر عن الهدف الذي يسعى الكاتب إلى الوصولِ إليه من وراء قصته، وعن الرسالة التي يسعى إلى إيصالها للقارئ، ومن أجل التعرف على الفكرةِ من القصة، ينبغي قراءة القصة بتأن، مع التركيز على العلاقة بين الشخصيات والأحداثِ.

2. الحدث:

يشمل الحدث الأفعال والوقائع المتسلسلة والمنبثقة عن بعضها البعض، متخذة من موضوع محدد محورًا تدور حوله. ومن شأن سلسلةِ الأفعالِ والوقائع الإشارة إلى الشخصية وتسليط الضوء على بنيتِها وطبيعتِها وعلاقتِها بسائر الشخصيات.

وقد يكون راوي الحدثِ (القصة) مشرفًا كلّيًّا على الأحداث، بمعنى أن يكون عليمًا بكل مجريات الأحداثِ: أسبابِها ونتائجها، وقد يكون مشرفًا جزئيًّا، يتوارى خلف إحدى الشخصيات ليقدّم فكرتة بأسلوبٍ غير مباشرٍ.

وقد يكون الحدث مرويا دون راو واضح المعالم، فيعتمد على الحوار بين الشخصيات، سواءً كانَ حوارًا خارجيًّا "ديالوج" أو داخليًّا "مونولوج".


*99*

3. الحُبكةُ:

وهي التنظيم العام لأجزاء العملِ القصصي، وتقوم على المبنى المنطقي والتراتبيِّ. والحبكةُ تجيبُ عن أسئلةٍ عدّةٍ، من قبيلِ:

- ماذا يحدث في زمنٍ ما؟ ولماذا يحدثُ بهذا الترتيب؟

- ما الصراع الّذي تدور حوله الحبكة ؟ وما طبيعته؟ هل هو داخلي أم خارجي؟

- ما التغيرات الحاصلة بين بدايةِ الحُبكةِ ونهايتها؟ وهل هي مقنعة أم مفتعلة؟

- هل الحبكة متماسكة؟

- هل يمكن شرح الحبكة بالاعتماد على عناصرها من عرض وحدثٍ متصاعدٍ وأزمةٍ، وحدث متهافت وخاتمةٍ؟

وتشتمل على الذروة، أو العقدة، وهي اللحظة الذتي يصل فيها الصراع إلى منتهاه قوة وكثافة، والعقدة تشير إلى نقطةِ تحول في الفعل الدرامي في القصة بمقدار ما تشيرُ إلى انفعال القارئ واستجابتِه لهذا التعقيد. ويتبع العقدة حل أو انفراج.

4 . الشخصيات:

تعتبر الشخصيات أحدَ أهم اللبناتِ في القصةِ، وقد تكونُ الشخصية ناميةً، لا تستقر على حالٍ، يطرأ عليها التغيير باستمرارٍ، وقدْ تكون مسطحةً ثابتةً، تبقى على حالِها طيلة أحداثِ القصة.

وقد يتناول الكاتب بشيء من التفصيلِ الأبعاد التاليةَ:

أولاً: البعد الجسمي: ويتمثل في صفات الجسم من طولٍ وقصر وبدانة ونحافةٍ وسن، وغير ذلك.


*100*

ثانيا: البعد الاجتماعي: ويتمثل في انتماءِ الشخصية إلى طبقة اجتماعية وفي نوع العملِ الذي تقوم به، إلى جانب ثقافيها وميولها.

ثالثا: البعدَ النفسي: ويكون في الاستعدادِ والسلوكِ من رغباتٍ وآمالٍ وعز يمه وفكر، ومزاجِ الشخصيّةِ من انفعالٍ وهدوء وانطواءٍ أو انبساطٍ.

5. البيئة (الزّمان والمكان):

تعد البيئة الوسط الطبيعيَّ الذي تجري ضمنَه الأحداث وتتحرك فيه الشخوص ضمنَ بيئةٍ مكانيّةٍ وزمانيّةٍ تمارس وجودَها.


*101*

يوسف إدريس (مراجع للتوسع: سوميخ، ساسون. دنيا يوسف إدريس من خلال قصصه. تل أبيب: دار النشر العربيّ، 1976؛ فؤاد، أحمد محمّد. يوسف إدريس والنّقاد: دراسة في نقد الإبداع القصصي. القاهرة: نهضة مصر، 2010؛ عبد، مادي حسين. يوسف إدريس: الصراع والمواجهة. الإسكندرية، دار الوفاء، د.ت؛ أبو عوف، عبد الرحمن. يوسف إدريس وعالمه في القصة القصيرة والرّواية. القاهرة: الهيئة المصرية للكتاب، 2001).

)

حالةُ تَلبُّسٍ

حينما ضبط المنظر، لم يكن عميد الكلية هو الذي غضب والتهبت الدماء في عروقه، ولكنه الطفل الذي ولد وتربى في "سوهاج" (إحدى محافظات صعيد مصر). ومنذ أن بدأ يعي، فهم أنه قد يكون مباحا للرجل) وعيبا للشباب، ومحرما تحريما قاطعا على الأطفالِ، ولكنه للنساء جريمة، أكثر من جريمةٍ، قد يوازي هتك العرض، فما بالك وهي ليست رجلا ولا طفلا ولا حتّى سيدة، ولكنّها فتاة، بنت لا تتعدى السابعة عشرة بأي حالٍ.

وحين وصل الغضب قشرة العقلِ المكتسبة، وانفعلَ العميد الّذي فيه، كانَ أكثرُ ما ضايَقَه أنها لا بدّ في السنة الأولى، طالبةٌ جديدةٌ، يعني بالأمسِ فقط كانت طفلةً في "ثانوي" (أي في المرحلة الثانوية (محكية مصرية)).

ورغم كلِّ غضبه لم يتحرك إلا حينما تحرك الوالد الّذي فيه وتململ، وأدرك كالمدهوش، أنها تكاد تكون في سن ابنته (لمياءَ)، حينئذ فقط استدار مغادرًا النّافذة في طريقه، إلى حيث أزرار الجرس الموضوعة في مكانها الخالد الّذي يتوارثة العمداء فوقَ المَكتَبِ.

وربما لو كان في الحجرة أحد.. أستاذٌ أو لجنةٌ أو حتى لو كان في انتظار مقابلةِ كائن ما، لكانت الحركة قد اكتملت وكانت يده حتمًا قد وصلت إلى الزر.. والسّاعي المرابطُ (المقيم، الملازم للمكان) أمام الباب حضر، والفصل لأسبوع أو لأكثر من الكلية أو حتّى الزجز والضرب قد حدث.

ولكنه كانَ وحده في حجرة العميد الواسعة المهولة (الباعثة على الخوف) ذات النافذة الجانبية الضيقة، والحجرةُ


*102*

الكهولة تغري بالتريث (التمهل)، والنافذة الضيقة تغري بتدقيق النظر، وفي حالته كان الإغراء كبيراً بإعادة النظر.

وعاد إلى استمرار النّظرِ.

الحجرة في دور أوّلَ لا يرتفع عن الأرض إلاّ قليلاً، والفناء (ساحة واسعة محاطة بأسوار أو أبنية، ساحة المبنى) الخلفي الذي تطل عليه النافذة الجانبية خال تمامًا من الطّلبَةِ، فهو في العادةِ مكان غير مرغوب من الطلبةِ، والساعة اقتربت من الثالثةِ، واليوم الدراسي انتهى، ولولا مراجعة جدولِ الامتحانِ لما كان هو نفسه قد بقيَ إلى هذا الوقت. ولما قام من النّافذة منهكا يتثاءب ويتمطى (يتمدد) ويأخُذُ فكرةً عن الجوِّ بالخارجِ؛ ولما شاهدها، تلك الطالبة الصغيرة الّتي ما أن بدأ عقلة يتساءل عما أتى بها إلى هذا المكانِ المهجور، وبعدَ انتهاء الدراسةِ، حتى كان الغضب قد اجتاحهُ (غزاه، احتلّه)؛ إذ وجدها بكلِّ بساطةٍ وتحتَ أنف نافذته تخرج، بل أخرجت فعلا علبة سجائِرَ من حقيبَةِ يدٍ مستطيلةٍ ضخمه وعبثت بكراريس المحاضراتِ المختلطَةِ بأدواتِ التّجميلِ قليلاً، وما لبثت أن أخرجَتْ علبة كبريتٍ أيضًا.

طالبة، واضحٌ تمامًا أنها لا بد في السنةِ الأولى، تدخل وتحيل معها في الحقيبة علبة سجائر وعلبة كبريتٍ؟!

هكذا من النظرة الأولى تفجَّرَ الغضَبُ.

ولكن النظرة التالية كانت نظرة مذهولٍ يستبعد تمامًا أن يصدِّقَ أن شيئًا كهذا ممكنٌ أن يحدث، مؤجِّلاً التصديق إلى أن يراها فعلا وهي تدخن.. خاصة والفتاة كانت لا تزال ممسكَةً السّيجارةَ في يدٍ، والكبريتَ في يدٍ أخرى وكأنما لم تقرر بعد ماذا تفعل بشأنهما.


*103*

وتأملها العميد، كانت طالبة عادية، لا يمكن إذا رآها في مجموعةٍ أن تستوقف النّظَرَ، شعرُها مهوش (مشوش، نافر) على طريقة الجيلِ الجديد في الأناقة، وعيناها ذابلتانِ لا بدَّ من المذاكرةِ والسهر، متكئة، تكاد تكون مستلقية بعدَ يوم متعب حافل على الأريكة المهملة التي لا يستعملها أحد، ولكن شبابها الفائر يكاد يقفز من وجنتيها المحمرتين رغم قمحيَّةِ بشرتها، ومن جسدها البارز في أكثر من مكان من ملابس الطالبة الرخيصة الّتي ترتديها.

وبوغت العميد حقيقة وهو يلحظ فجأة أنها بأصابع اليد الواحدةِ.. أصابعَ تلون سبابتها آثار الحبر، قد فتحت علبة الكبريت، وباليد الأخرى، بيدٍ ثابتَةٍ لا اضطرابَ فيها ولا خوفَ، وبحركاتٍ تلقائية ليسَ فيها من مجهود الإرادة شيءٌ، ثبتت السيجارة في فمها وأدارتها دائرة كاملة بين شفتيها وكأنما لتبلل، كالمدخنين العتاةِ (جمع عاتٍ: متكبر، قاسي القلب)، فمها (الفلتر)، وبنفس التؤدةِ (التاني، التمهل، الرزانة) والتلقائية، وبضربة لا أثر للتدبير فيها، أشعلت العود ولم تقربة من السّيجارةِ في الحالِ، أهملته بين إصبعيها قليلا وكأنما تستمتع برؤيته يحترق، ثم ما لبثت ببطء، ودونَ أن تنظر، وبعينين هائمتين في جدار الفناء البعيدِ، أن قربت العود بحيث لامست شعلته طرف السيجارةِ دون أن تحيدَ يمينًا أو يسارًا وكأنما يدُها مدربة على الطريقِ، وجذبت نفسا واحدًا اشتعلت بعده السيجارة، وبالدخان الخارج، بعدَ ابتلاعه، من فمها، أطفأتِ العودَ، ثمّ لم تلبث أن ألقتة في إهمالٍ غريب فوق عشب الممشى القريب.

وجن جنون العميد، إنّها مدمنة داعرة الإدمانِ أيضا، إنه هو نفسه يدخن ولا يفعل شيئا كهذا، إنة يشعل السيجارة "كلشنكان" (عبارة تركية، وهي اختصار للتعبير: "كل شيء كان"، أي أنه يدخن السيجارة كيفما كان)؛ ويدخنها كيفما اتفق، ولكن هذه، متى وكيف وفي أي بؤرةِ فسادٍ قد تعلمت كل هذا؟ إنّها حتّى لا تشعل الكبريت كالنساء الّتي قرأ مرّةً أنهن يشعلن العود إلى النّاحية البعيدة عنهن خوفا غريزيًّا من ناره على ملامحهن وشعرهن، وفقط بعدَ


*104*

الاطمئنان إلى شعلتِهِ بعد خفوتها يجرون على تقريبه منهن. أمّا هذه ال .. طالبةُ، طالبةُ أولى هذهِ.. لا تخاف العودَ ولا النار، ويبدو أنَّها لا تخشى شيئًا في الوجود.. إنّها لا يمكن أن تكون في السابعة عشرة.. سن ابنته.. لا بدّ أنّها أكبر بكثير.. بسنتين لا بد أو حتى بأيام.. إنها جرثومة، إن الفصل أسبوعًا واحدًا لا يكفي أبدًا.. الرفد (تعبير عامي من اللهجة المصرية، والمقصود: الرفض، أو الفصل) النهائي هو ما يجبُ عملُهُ، لا أقل من الرّفد النّهائيّ.

ولكنه لم يعرف كيف حدث هذا فقد وجد شيئًا أكبر بكثير من كل غضبِهِ وكل حماسه للضغط على الجرس واستدعاء الساعِي واتخاذ بقيةِ الإجراءات، شيئًا أجبره على أن يقف في مكانه لا يتحرّكُ وينتظرُ ويراقب ويعاود الرؤية.. ورفعت الفتاة يدها إلى فمها مرة أخرى، ولكنها انتظرت قليلا بفم السيجارةِ قريبًا من فمها، ثم بدا وكأنّ الوقت قد حانَ وهكذا ببطءٍ لا تلكو (التباطؤ) فيه أسبَلَتْ جفونَها حتى كادَتا تغلقان تمامًا، ثم ضمت شفتيها حتى ضاقت الفتحة بينهما، وتكرمش (تقبض، انضم بعضه إلى بعض) غشاؤهما ومن الفتحةِ الضيقه أدخلت فمَ السيجارةِ، وجذبت نَفَسًا، لا لم يكن جذبًا، كان امتصاصًا، ليسَ امتصاصَ دخان، لكأنّه رشف أعظم سعاداتِ البشر، رشفة ببط ءٍ وباستعذاب وبملايين الأفواه، كل خليّةٍ من خلاياها بدت وكأنما أصبح لها فم تجذب به وترشف ويتموج جسدها كله تموجًا غير منظور، وعلى دفعاتٍ وكأنه عطشان يجرَع أعذب الماء ويريد أن يستمتع بكل قطرةٍ من قطراته، حتى إذا ما بدا أنَّ كل دقيقةٍ فيها قد أخذَت كفايتَها وظفرت بسعادَتها الخاصةِ، رفعت السيجارة عن فمها ببطء وكبرياء، وعينين قد فتحتا ببخل شديد، وكأنّها تخاف أن تهرب من فتحتيها النّشوةُ.

واستحال غضب العميد إلى لحظةِ صدمةٍ مفاجئةٍ تكاد تتحول إلى ذعر.. خوفٍ شديدٍ أن يستمرَّ في الرّؤيةِ، خوفِ الخائف على نفسه هو من استمرارها، والفناء بدا له كالبقعةِ المهجورة المقطوعة عن العالم، يحفل بسكون، وزمته (زماتة: سكون، وقار، رزانة)، ورائحةِ ربيع مقبلٍ مُخيفٍ، وقرب أيّام نهاية العام؛ والامتحانِ، والفتاة كأنها جنية من جنيات الظهر انشقت عنها خرابة الفناء فجأة، متكئة، تكاد


*105*

تكون مستلقيةً فوقَ الأريكَةِ ذات الحديدِ المتراكم فوقه الزمن والصدأ، الناقص مقعده خشبة الوسط.

وبرهبةِ المذهولِ، هذه المرة، راح يترقب كيف تخرج النفسَ.. فمها المضموم أبقته مضمومًا هنيهَةً، ثمَّ فتحتْهُ نصف فتحةٍ وبحركةٍ فيها كسل أنثوي ضاقت له عيناه، راحت توسع من فتحتِهِ قليلاً قليلاً في نفسِ الوقتِ الذي كان صدرها قد بدأ يتسع وكأنّها بسبيلها إلى التنهد خرقة ولوعة، ربما على فراق تلك السحابَةِ الدّخانيّةِ الصّغيرة الّتي فجرت في جسدها المُستلقي تعبًا واسترخاءَ حيويَّةٍ، وأضافت إلى صباها صِبًا.. يتسع حتى ليجذب الدخان إلى أعمق أعماقِها، ليلامِسَ أقصى أرجائِها وليلتقي بكلِّ جزءٍ من صميمِ صميمِها لقاءَ الوداع، وفي نفس الوقت الذي يعود فيه الصدر إلى وضعه الطبيعي وحجمه، يكون الدخان هو الآخر قد بدأ يخرجُ، من الشفتين المنفرجتين (انفرج الشيء: انفتح، اتسع) أضيق، أوسعَ انفراج.. تخرج دفعاته الأولى مرسلة على سجيّته (الطبيعة والخلق. والجمع: سجايا) دون ضغط أو إكراه، تصنع دوائر لولبيَّةً وضباباتٍ ثم تتلوها الدفعات الخارجة بالإرادة متأنية موجهة قد سحب دخانُها وتغيَّرَ لونه وكأنما امتصت منه كلَّ النضرة والحياةِ.

قطعًا لا بدّ من فصلها، في منتصف السيجارة تمامًا والجريمةِ، سيدق الجرَسَ ويهمس إلى السَّاعي ويذهب الرجل ويطبق عليها (يهجم ويسيطر عليها) وساعتَهَا سيعرِفُ اسمَهَا ويفصِلُها.

ذلك كان قراره، ولكن ما ضايقه في الحقيقة أنه بدا وكأنه قرارُ شخص آخرَ، بعيدًا عنْهُ جدًّا، ذلك البعد الّذي أصبح بين عقله وإرادتِهِ، إرادةٍ لا يدري لماذا هي رخوة لا تستطيع أن تنفذ أمرًا وكأنما هي واقعة تحتَ تأثير مخدِّر سخيف ملعونٍ لا يعرف كنهه (جوهره، حقيقته)، إرادة لم تعُد تستطيع أن تفعل إلّا أن تنظر وتستمر تنظر.


*106*

وأخذتِ الفتاة نفسًا آخر، وهذه المرة أخرجت دخانه من فمها وأنفها معا، أنفٍ فتحاته صغيرة دقيقة كأنَّها براعمُ فتحاتٍ يخرج منها الدُّخان باهتا معتصرًا ليصطدم بالدخانِ الخارج من الفم الضيق المضموم المكرمش..

وأحسَّ العميد بأشياءَ داخِلَهُ تتنبه، وتلفحهُ سخونةٌ ليس مبعثها الجو.. وسرعة في دقات القلب لا علاقة لها بمرضِ الضغط..

وتوالت الأنفاسُ، وفي كلِّ مرّةٍ تجذب النَّفَسَ على مهلها وبتلذُّذٍ سعيد تنغلق له عيناها، وكأنَّ شفتيْها المضمومتين على فم السيجارةِ تبتهلانِ لشيءٍ أو ترشفان شيئًا، رحيق السعادةِ ربّما، أو إكسيرَ الحياةِ، ويسترخي جسدها ويتدغذَغُ للنفس، ثمّ تبدأُ عمليّةُ الإخراجِ؛ وتفعلُ هذا كلَّهُ باندماج شاملٍ تامٍّ وبلا إرادةٍ.. وبطبيعيَّةٍ لا تكلُّفَ فيها ولا اصطناعَ، والأنفاسُ تَتَوالى، ويستحيلُ ما يحسُّهُ العميدُ إلى تيّارٍ غريب يجوب جسدَهُ كله معَ كلِّ نفس؛ ولا يوقِظُه من تعبِ يومٍ أو إنهاكِهِ، ولكن يوقظ أجزاءَه وأجهزته مَن رقده عمر طويلٍ، وبمحو هكذا في ومضةٍ آثارَ سنينَ وأمراض ومشاغلَ وحياةٍ تصلبت وجفّتْ واستحالت إلى درب ضيق محدودٍ، في ناحيةٍ منه زوجة جفَّ منها ماءُ الحياةِ ولم تعد تفعلُ إلاّ أن تناكف (تقابله بمثل كلامه في عنف. لا تكف عن المحاورة وكثرة الأسئلة) وتُضايق، وفي النّاحية الأخرى عملٌ وروتين لا جِدَّةَ فيهِ ولا أمَلَ، وصراع، وما بينة وبينَ رئيسهِ مدير الجامعةِ من حزازات، وهو كالبندول (رقاص الساعة) رائح غادٍ بينهما، الكلّيّةُ تدفعُهُ إلى البيتِ والبيتُ يدفعُهُ إلى الكلّيّةِ، بندول عجوزٌ مصابٌ بأكثر من مرضٍ ووجعٍ وفي صدرِهِ أحقادٌ.


*107*

ومنتصف السيجارة الّذي كان قد حدَّدَه وصلته الطالبة، ولكنّه كان في حالٍ لم يعد يعرف فيها إن كان ما يحسه سُخطًا أم إعجابًا، أو إن كان انفعاله انفعال نشوةٍ أم اشمئزازٍ، كل ما أصبح يفعله، حتّى ولو لم ترضَ إرادتُهُ، أن يظل يرى الفتاة ويراقبَها.. جسده نَفَسُهُ، عيناه، أنفاسه، لسانه الذي بدأ يجفُّ في حلقِهِ، ساقاه اللّتان شدَّت عضلاتهما واشرأبت (مد عنقه)، كلها تراقب، كلها معَ الفتاةِ وسيجارتها في التحامٍ لا يمكنُ فصلة أو إنهاؤة، التحام متواصل حيٌّ ينبض نَفْسَ نبضها حين تطبق بفمها الضيق على فم السيجارة وتجذب وتدوخ بالنشوة، ثمّ حين تفتحة نصفَ فتحَةٍ وبِهِ أو بأنفها أو بهما معًا تُخرج اللوعَةَ والحُرقةَ والنفحات (جمع نفحة. الرائحة الطيبة) الهاربة، وفي أعقابِها تلكَ الّتي تدفعها لتخرج برفق وحنانٍ وتؤدةٍ.. نبضٌ متوالٍ متسارعٌ، والتحام ذو حرارةٍ مستمرّةٍ متزايدَة تتصاعد إلى أعلى مراتب عقله وتذيب، تذيب أشياءَ كثيرةً، تذيبُ أفكارًا تحجّرَت كالمومياءِ المصبرة (المحنطةَ) وأصبحت حكمًا وعقائِدَ، وتفتحُ مناطق حاصرتها التقاليدُ وعزلتها وتفد الأفكار بسهولةٍ وتنطلق بسهولةٍ ويبدو المستحيلُ ممكنا، ولماذا الحرس والسّاعي والتأنيب والفصل؟ ألأنها تدخن وسنُّها سبعةَ عشر عامًا؟ ولأنها طالبة؟ وما الفرق بين أن تدخِّنَ وهي طالبة، وتدخن وهي خريجة، وكله تدخينٌ في تدخين؟! ولماذا تحرّمُهُ على جسدٍ شابٍّ فائرٍ، ونحلله لسيدة أو لعجوز تسعل وتكح وتبصق كلما جذبت نَفَسًا؟! أليسَ هو قائلَ نفس المبادئ وهو في العشرين والثلاثين، حينَ كانَ في بعثته يرى أنَّ مشكلة مجتمعه الأساسيّة أن أفرادَهُ يحيون في عصر بتقاليد قرونٍ مظلمةٍ مضت؟! وأن بلادَه لا يمكن أن تصل إلى أي تقدم علمي أو صناعيٍّ أو حضاريٍّ إلا إذا تمَّ التحرر، وعاش الناس فيه بتقاليد عصرهم نفسه وقيمه وأنواع حرياته.. بإعطاءِ أفراده حتى حرّية الخطأ وألّا نمنعهم بالنصح والزجر (صاح به وانتهره. والزجر: النهي، المنع) عن خوض التجارب ونورهم صوابنا نحن وخطأنا، بل نتركهم لكي يستخلصوا هم من تجاربهم ما يرون أنّه الصواب وما يرونَ أنّه الخطأُ؟


*108*

وبدأ جسد الطالبةِ الصغيرة يتململ ويتلوى، ونهمه (زيادة الرغبة في الشيء) إلى جذب الأنفاس يشتد ويتلاحق، وكأنَّ في داخلها تحفر فجواتٌ هائلة، تحدث فراغاتٍ سريعة مذهلة تطلب الامتلاء لا بالدّخان، ولكن بالمتعة الحادثَةِ من حرّيتها في أن تنفرد بنفسها وبالسّيجارة وتمتص منها ما تشاءُ وتبتلع ما تشاءُ، والعميدُ يحس بجفاف ريقهِ يزداد، وحنجرته تتسع وتزداد قدرتُها على الرنين، وكأنّها تستعدُّ لإطلاق صرخة العمر، وعرق غريب ذو رائحةٍ نقاذةٍ لم يشمها من سنين ينبت تحتَ إبطبْهِ، وعرق آخر أكثر غزارة يبلل وجهه ويضبب زجاجَ نظّارته (يغشيها بالضباب أو البخار) حتى ليخرج منديلَه بسرعةِ المحموم ويمسح زجاجها لتي لا ينقطع أبدًا إبصاره، والدّنيا حافلة بمؤامرة صمت تام، سكون غريب لا يمكن أن يكون إلا يفعل قوة خارجية قاهرةٍ، سكون مركز في تلك البقعةِ من الفناء الخلفيِّ، سكون ليس خارجة سوى العدم، سكونِ عالم خالٍ من الحيلةِ تماما، ليس فيه حياة سواه وسواها. هي في أقصى درجاتِ الاستمتاع، وهو في أقصى درجاتِ الانفعال.. وبينهما، تفصلهما تمامًا، وتربطهما تمامًا، تلكَ السيجارةُ.

والحياة تبدو حلوة جدًّا، كل لحظةٍ فيها عمر بأكمله، وإرادته قادرة على اكتساح الجبل، ولا شيءَ في الوجود مستحيل ولن يرضى بأقل من أجمل وأغنى بناتِ العالمِ زوجةً له، وخمسُ سنواتٍ فقط يصبح فيها أعظمَ علماءِ مصر بل الشرق والغرب معًا، وماذا تكون جائزةُ نوبل مكافأةً له؟ وحقيقةً، ما هذه الحزازاتُ (عداوات، ضغائن، جمع حزازة، والحزازة: ألألم الذي يحز في القلب) بينهُ وبين المدير؟ أليس هو أكبرَ منها وأقدرَ بكثيرٍ؟ ولماذا الحزنُ والمرارةُ لكلِّ ما فاتَ والآتي أروع منه بكثير؟ ولماذا التعنت (المعاندة، التعصب في الرّأي) مع أستاذِ القسم المساعدِ، لماذا لا يُعطيه الفرصةَ؟ إنّه شابٌّ، ومن حقه أن يطمح إلى كرسيِّ الأستاذ.. المشاكل نحن نخلقها حين نفتقر إلى التفاؤلِ، والتفاؤل هو الإرادة، وبالإرادة القوية تصبح الحياة كالبساطِ الممَهَّدِ، بساطِ الرّيح.. عِشْ واضحك وامرَح واطلُبِ القمر يأتك.. أرده إرادة قوية حقيقية يأتك.. وكله.. كل ما في الحياةِ آتٍ لا ريبَ فيه.


*109*

واقتربت السيجارة من نهايتها، وتلاحقت أنفاس الفتاةِ في صعود القمة ومضى جسدها يتهدج، وقد أصبح كله صدرا يلهث، وشفاها بدأت من الجرعات المتلاحقة ترتعش وتضطرب، اضطراب الحمى، حمى شملته هو كله.. والينبوع الخفي فيه يتفجر بأقصى قوته ويصل به إلى قمة الانفعال تلك التي ينتفي معها الزمن، ولو للحظات يتوقف الزمن، يغرب إلى ما وراء الإدراك، ويصبح الحاضر مجرد لون، لونٍ أحمر مدمدم في لون الشفق.

وأخذت الفتاة من السيجارة التي كادت نارها تحرق الأصابع، نفسا كآخر شهقة ثم سكنت تماما، وكأنما غابت عن الوجود. ومن بين أصبعيها اللذين انفرجا استرخاء انفلتت بقية السيجارة واستقرت ذابلةً ممصوصة مغضنة (مثنية، مجعدة) على الأرض.

وأحس العميد بعد الرعود والانفجارات والحمى بسلام مفاجىء ممتد كأنه سيبقى إلى الأبد، يشمله ويجعله يتمنى أن يكف الكون عن حركته لتبقى اللّحظةُ في ديمومةٍ لا تنتهي..

ولكن الديمومة انتهت؛ فلأمر ما بدت الفتاة وكأن العيون المستترة التي تحس الخطر دون أن تراه قد أدركت شيئا، فقد ضمت جفنيها بشدة ثم فتحتهما على آخرهما ليلتقيا، هكذا كالطلقة المصوبة بدقةٍ، بعيني العميد في تطلعهما من خلفِ زجاج النظارة.

وَلِلا زمن التقت النظرات، ولكنه لم يكن لقاءً ولا وقتا ولا شيئا يقاس، كان ارتطاما، سقوطا من حالق (المكان المرتفع، الأعلى) ربما، ماءً باردًا كالثلج، برودة الواقع الّذي ترتجف لهوله المدارك (الحواس)، الثلج الصّاعِقِ.


*110*

وتكهربت النظرتان بخجل، لا قبل لأيهما به، خجل سريع مغور (عميق)، جارحٍ.

وفي جزع هائل انتفضت الفتاة جالسة وقد غاص قلبها وبيد ترتجف بالرعب دلقت (أخرجه) كل محتويات حقيبتها لتستخرج في لمح البصر كتابا، تعود معه تنكب (تقبل عليه، تنشغل به)، كالطالبة المجتهدة على صفحاته.

وكانت حركته ليعود عميداً أبطأ.. ممزوجةً بخجلٍ أعظم وبتأنيب أشد هولا، وتحرك خافض البصر طويلاً نحيلاً عجوزاً محنيَّ الأكتاف حاملاً متاعب الدنيا كلها من جديد، وليسَ في رأسه واضحاً سوى الواجب، وما لا بد من عمله.. والدائرة البيضاء الملساء الصغيرة فوق مكتبه، والعقاب.

وبأصبع عادت إليها كل عصبيتها، وكأنما تمتد من صدر ضاق بالدنيا، ضغط على زر الجرس.

ولكن أصبعه كانت لا تزال بها بقية من ارتعاش، ارتعاش ليس الكبر أو الضغط سببه.

ديسمبر 1962


*111*

يوسف إدريس: (ت. 1991 م)

يوسف إدريس علي، كاتب قصصي، مسرحي، وروائي مصري، ولد في مصر يعتبر أحد أكبر رواد القصة القصيرة في العالم العربي. تخصص في الطب النفسي. بدأ كتابه القصة القصيرة منذ سنوات الدراسة الجامعية، حيث لاقت قصصه شهرة كبيرة بين زملائه. وبدأت قصصه القصيرة تظهر في مجلتي "المصري" "وروز اليوسف". تتميز كتاباته بالواقعية وسهولة اللغة، حيث صور الحياة اليومية، لا سيما طبقة المهمشين في المجتمع، كما أنه برع في رسم الشخصيات، وعمد إلى التكثيف والتركيز واستخدام العامية المصرية.

من مجموعاته القصصية: قصص: أرخص ليالي (1954)، أليس كذلك (1958)، آخر الدنيا (1961) لغة الآي آي (1965)، وغيرها، ومن روايات: الحرام، العيب، وغيرهما.


*112*

مقاربات وتلميحات

- الشخصيات في القصة.

- الشخصية الرئيسية وطبيعتها.

- المواصفات النفسية لشخصية العميد.

- لغة النص.

- زاوية الإشراف.

- اهتزاز صورةِ العميد في عين القارئ.

- الوصف، ودور السرد فيه.

- صورة المرأة في المجتمع.

- طبيعة الصراع في القصة.

- البعد الرمزي الذي تمثله كلٌّ من الشخصيتين.

- قصة الحدث.

- التّداعي وتيار الشعور.

- مميزاتُ اللغة في القصّةِ.

أسئلة وأعمالٌ

1. عدد الشخصيات في القصة؟ وأيها يمكن اعتبارها الشخصية الرئيسية؟

2. بين طبيعة الشخصية الرئيسية؛ أهي ناميةٌ أم مسطحة؟

3. ما المواصفات الاجتماعية والنفسية لشخصية العميد؟


*113*

4. بين موقفين من النص تهتز فيهما صورة العميد في رأيك كقارئ.

5. ما مدى اعتماد الكاتب على الوصف التصويري؟ وما رأيك في مدى دقته؟ مثل لذلك بنماذج من النص.

6. ما أهمية تكثيف أسلوب السرد في النص؟

7. بين مراحل تسلسل الأحداث في النص: البداية، التأزم والنهاية.

8. ما نوع الإشراف الروائي في النص؟ بين ملامحه الواردة فيهِ.

9. ما رأيك في لغة النص؟ هل تجد الألفاظ العامية فيه؟ وما الغاية من استخدامها وتوظيفها في القصة؟

10. ما صورة المرأة في المجتمع الشرقي، كما ترتسم من خلال النص؟

11. ما طبيعة الصراع في القصة؟ وما هيَ أطرافه؟

12. قارن بين ما ترمز إليه كل من الشخصيتين في النّصِّ.

13. تبدو للعميد، من خلال تسلسل الأحداث، ثلاث "شخصيات" (المصطلح "شخصية" هنا من علم النفس) تكاد تكون منفصمةً كلٌّ منها عن الأخرى. بين ملامح كل "شخصيةٍ"، ومكان ظهورها في النّصِّ.

14. وضح لماذا يمكن اعتبار القصة "قصة حدث".

15. ما موقفك من الفتاة وسلوكها ذي الطابع التحرري؟ وضّحْ.

16. هل تجد علاقةً بين النص وعنوانه؟ اشرحْ.


*114*

يوسف إدريس

التمرين الأوّل

كان عجيبا هذا الإحساس المفاجئ الذي أصاب طلبة (ثالثة رابع) (أي الصف الثالث الشعبة 4، والتعبير بالمحكية المصرية) وجعلهم يستمرون في أداء التمرينات الرياضية بعد انتهاء الحصة وأيضا أثناء الفسحة (الاستراحة ما بين الحصص (محكية مصرية)) التي بين الحصتين ثمّ يأخذون خمس دقائق أخرى من الحصة التالية.

كان هذا عجيبا، إذ طوال أيام الدراسة كانت أمنية كل منهم أن يصحو من نومه فيجد المدرسة قد نسفها طوربيد (قذيفة ضخمة تطلقها غواصة أو زورق أو طائرة على مواقع العدوّ) أو ابتلعها بركان.

كانوا، كغيرهم من الطلبة، يكرهون المدرسة كرها لا يعرفون له سببا، ويبدأ ذلك الكره مع بدء كل يوم، بل قبل أن يبدأ اليوم، فالطَّالِبُ لا يستيقظ من نومه إلّا مقروصًا أو معضوضاً أو مطروحا أرضاً، ثم يدفع إلى المدرسة دفعا، ودائماً في وداعه شيءٌ.. دعوةٌ عليه، شتمةٌ، أو فردة شبشب، وينسل إلى الشارع ويظل يجري ويجري ملتصقاً بعمود ترام (مركبة عامة تسير بالكهرباء على قضبان حديدية في المدن وضواحيها) أو مهرولا فوق رصيف، والشتاء باردٌ والصبح أبردُ.. أبرد من الحصص الإضافية، والرعب يملأ قلبه مخافة أن يصل متأخراً ويجد باب المدرسة مغلقًا ويضيعَ اليوم، ويقيد غائبا ويروح في داهيةٍ (الداهية: المصيبة. أي: يقع في مصيبة).

وما يكاد يصل إلى المدرسة ويجدها قد امتلأت بالأشباحِ المقرورة (الباردة) من أمثاله الّتي تبحث عن الشمس، فالشمس ليست مثلهم؛ تلميذةً في مدرسةٍ، إنّها لا تصحو ولا تضيءُ صباحَ الشتاء إلّا في


*115*

العاشرة أو ما بعدها. ما يكاد يصل وما تكاد المدرسة تفتح ذراعيها وتضم تلك المجموعة الضخمة من الفتيان، وما تكاد جدرانها تهب من رقادها (نومها) الطويل الوحيد وتشارك الطلبة مرحهم وتردد لهم أصوات زعيقهم وضحكاتهم، ويتلمظ (يتذوق) حصى الفناء (ساحة المدرسة (أو البيت)) منتشيا (فرحا، يتملك السرور) وهو يستقبل الأقدام الصغيرة الشابة ويلثمها (يقبلها) وقد طال شوقه إليها.. وما تكاد الأشجار تهفهف (تميل) بأوراقها وتشقشق (تهدر، تُصدر صوتا) سعيدة بجري (ركض، عدو) الطلبة حولها وجذب شعورها وأغصانها.. ولا تتألم حتى حين يحفرون أسماءهم عليها، ما يكاد الطلبة يحسون أنهم كائنات حية لها أمان ورغبات وأحلام وأحاديث، ما يكادُ هذا يحدث حتّى يدق الجرس.. تتم. تتم. تتم.

وفي الحال تهمد (تسكن، تسكت) الحركة وتخرس الألسنة وتتجمد الرغبات. إذ ما يكاد الجرس يدق حتّى يغلق الباب.. بابٌ لا بد ضخم متين كأبواب السجون، وما يكاد الباب يغلق حتى يفطن الطلبة إلى وجود السور.. سور لا بد عالٍ هو الآخر، ومزود بالأسلاك الشائكة إن أمكن..

ومع دقة أخرى من الجرس يزحفون صوبَ مكانِ الطابور (الصف، اصطفاف الطلاب صباحا) مطأطئي الرؤوس وقد تضاءلت أمانيهم وانكمشت، وأصبح الواحد منهم مجرَّدَ تختة (السبورة، وهو لوح كبير يعلق على الحائط أمام الطلبة) أو دَوّايَة (عبوة الحبر لتعبئة قلم الحبر (محكية مصرية)) أو قلم بسطٍ (قلم الرصاص (محكية مصرية)) رخيص عليه أن يكتب ويكتب ولا ينقصف (ينكسر طرفه المحدد، المدبب) سنه أبدًا.


*116*

تلك التمتمات (كلمات غير مفهومة) الثلاث كانت تعني أن اليوم الدراسي قد ابتدأ، وويلهم من اليوم الدراسي حين يبتدىءُ! حتى الجرس الذي يبدأ به اليوم، جرسٌ كالحٌ (شديد العبوس) قديم عليه صدأ أزرق، وله بلبلة (لسان الجرس، قطعة معدنية تدق في جدار الجرس الداخليّ) أضخم من حجمه، واقفة في وسطهِ كما تقف اللقمة في الزور. حتى صوت الدقات يخرج وفيه من الأنين أضعاف ما فيه من رنين، أنين يعلوه الصدأ هو الآخر.. صدأ أزرق كالح كئيبٌ.

حتى الفراش (عامل النظافة (محكية مصرية)) الذي يدق الجرس لا بد أن يكون عجوزاً خطيرَ الملامح، ولا بد أن يكون له شارب كث (كثيف) يخيف، ولا بدَّ أنه يحس أنه نابليون (إمبراطور فرنسا في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر) زمانه أو إسرافيل (الملاك الموكل بالنفخ في الصور عند قيم السّاعة) عصره وأوانه. ولا بدَّ له ساعةٌ.. أخطرُ ممن أيةِ ساعةٍ في الدنيا هي التي تحرك عقاربها المدرسة كلها، ولهذا لا بدَّ لها من مخلاة (كيس يحوي لوازم الشخص) سوداء صغيرة يضعها فيها مبالغة في الحرص عليها، ولا بد أن تجده واقفاً تحتَ الجرس ينتظر، ممسكا بالساعة محدقا فيها، حريصا عليها في يده كل الحرص، وكأنها قنبلة زمنية إذا حركها ستنفجر، وقبل أن يحين الحين (الهلاك، الموت) يقبض على سلسلة الجرس.. سلسلةٍ لا بدَّ قديمةٍ أو موصولة بدوبارةٍ (خيط سميك من الكتان ونحوه، يخاط به أو يشد)، ثمّ تأتي اللحظة فيجذب السلسلة، يجذبها بتؤدةٍ (تأن، تمهل) وثقل وكأنه يفرغ الحكمة العليا في تمتماته الثلاث..

وأول ما يسمع بعد الجرس من الأصوات هو:

- اخرس.. بطل كلام.


*117*

وبهذا الأمر تقطع كل صلةٍ للطلبةِ بأنفسهم ويخرسون، ويبدأ المدرسون الّذين يفتشون على الطابور في الكلام، ويخرج كلامهم طازجاً على الصبح ومنتقياً بعناية بحيث لا تندس (تتسلل خفية) بينه أبداً كلمة حلوة، يفرغون فيه كل ضيقهم باليوم الذي أصبحوا فيه مدرسين، وبالمهنة الصعبة التي اختاروها لأكل العيش (العيش: الخبز (محكية مصرية)، أي: الرّزق)، وينتقمون من مشاكل الكادر (طاقم المعلمين) والأمس وشتائم الحماة ومرض الطفل وارتفاع أسعار الصُّوفِ...

ثم يظهر الناظر..

يطل على الطابور الصامت بوجه لا صباح فيه ولا خير.. يحدق (ينعم النّظر، يركز فيه) في الطلبة فيموت الطلبة، وفي المدرسين فينكمش (يتقلص، ينطوي على نفسه) المدرسون، وفي الصمت فيقشعر الصمتُ..

ولا بد أن تكون لدى الناظر مفاجأةٌ لا بد لها من مقدمة شتائم طويلةٍ، ثم حديث عن النظام مثلاً، وكيف أنك لكي تدخل الجنة.. إذا أردت دخول الجنة فعليك أن تبدأ السير في الطابور بالساق اليمنى، وأن تسير اثنين اثنين، وكيف أنه لكي تحل مسألة الجبر لا بدَّ أن ترتب ملابسك بنفسك في دولابك الخاص، وكأن لدى كل طالب ملابسه الخاصة بل ودولابه الخاص.

أو يتحدث عن الطالب الذي ضبط وهو يسرق البيض من المطعم، وأحيانًا لا يكتفي بالحديث فيخرج الطالب نفسه ليريه للجميع، ويجعل منه أمثولةً (درس، عبرة، عِظة) وعبرةً.

أو ينبه تنبيها صارماً قاطعاً أن كل من لم يدفع المصاريف عليه بمغادرة الطابور، ومن ثم المدرسة كلها في الحال.


*118*

ووجهه طوال حديث الصباح جامدٌ عابسٌ، والطلبة واقفون الدقائق الطوال كالخشب الخائفة المسندة لا يعرفون سببا لذلك الرعب المفاجىء، ولا سِرًّا للعبوس الشديد في وجهِ الناظر، هل ماتَ له قريبٌ؟ غير معقولٍ هذا، فهو كل يوم عابسٌ وليسَ معقولاً أن يموت له كل يوم قريبٌ، عسى أن يموت له كلَّ يومٍ قريبٌ!

ثم يدورُ الطابور إلى اليمين أخيراً وإلى اليسار، وكل يبتلع ريقه ويتحسس رقبته ويتنفس الصعداء.. فقد نفد (جاوز) هذه المرة ولم يكن الطالب الذي سرق البيض، ولم يخطىء ويبدأ المشي بالساق اليسرى، ولكن تراه كيف ينفد في المرّاتِ القادمةِ؟

ومن خلال ممرات كئيبةٍ طويلةٍ متشابهة يدلفون (يتجهون، يسيرون) إلى الفصول.. فصول مكررة حيطانها طويلة هيفاء عالية، ولونها تصر الوزارة على اختياره حشمة لينظر حشمة لينظر إليه الناظر ويرسي في قلبه الوقار.

وما تكاد الحياة تدب في الفصل وتتحرك التخت (الطاولات) والمقاعد ويذهب عنها الروماتيزم (داءٌ يصيب العضلات والمفاصل) الذي يصيب مفاصلها كل ليلٍ، حتى يقبل المدرس فجأة، لا بد أن يقبل المدرس فجأة وكأنه ضابط مباحث (محقق، شرطي يعمل في قطاع البحث الجنائي) في طريقه إلى ضبط واقعةٍ (مصيبة) لعله يسعد ويحس بالسلطة حين يحدث ظهوره المفاجىء سكوتا مفاجئاً، يقبل ولا ينفرج وجهه مخافة أن تضيع الهيبة.

- قيام!


*119*

وإذا بالفصل كله يتلكأُ (يتباطأ) ويقومُ، ولا يدري لماذا يقومُ.

ويحدق المدرس طويلاً في تلاميذه وكأنهم يحرزون (يخبئون، يدخرون) موادَّ ممنوعة وهو يفتشهم بعينيه تفتيشاً دقيقاً. فإذا عث على الهفوة (الزلة، السقطة) كان بها، وإلاّ فإنه يقولُ:

- جلوس!

يقولها قرفاناً وكأنه يمن (يتفضل عليه، يستكثر عليه الإحسان) عليهم بفضلٍ من عِندِه.

وتتوالى (تتتابع) الحصص ويتوالى المدرسون وكل منهم كالجهاز المعبأ الذي يفرغ شحنته بمقدار، إذ هو الآخر ليس أكثر من موظف حكومة له عملٌ يؤدّيه ثمّ يمضي، وكل ما يسمعه الطلبة أوامر تترى (تتتابع، تتتالى)، وأشياءَ غريبةً تخرق أسماعهم وتتفجر كالصواريخ في عقولهم. سمع يا ولد ما قاله الكميت (شاعر أموي) في وصف ناقته. اذكر ثلاثين شرطا من شروط الصلح في معاهدة واقِ (هي مجموعة من الجزر تم ذكرها في كتب التراث العربية القديمة، لكن ليس هناك دليل على ما إذا كانت خيالية أم حقيقية تحدد أغلب الكتب موقعها في بحر الصين أو بحر الهند)، وإذا نسيت شرطا فبعصايةٍ. ما اسم البلاد التي تزرع الشوفان (نبات عشبي يزرع ويتخذ علفا للماشة)؟ (والمدرس نفسه لا يعرف ما هو الشوفان). تخيل أنك على خط عرض 23 وتريد أن تسافر إلى خط 85 بطريق البر فأي الطرق تسلك؟ أعرب "أبيت اللعن"، ما هي حالة الطوارئ الّتي يصح فيها رفع المستثنى بإلّا؟ تكلّمْ على لسانِ طائرة تريد أن تفاخر السيارة وتتيه عليها فماذا تقولُ؟


*120*

ومع توالي الحصص وتنوع الدروس تتنوع الشتائم وتتنوع كذلك لغتها، فهناك شتائم فرنسية رقيقة، وشتائم نحوية فصحى، وشتائم كيمائية مركبة ومخلوطة، وأقل ما فيها: نزل إيدك يا ولد. وشك (أي وجهك (محكية مصرية)) في الحيط يا أحمق. اطلع برَّه يا صعلوك. التفت يا لوح. حل المسألة يا أغبى مخاليق الله.

وأحيانا يفيض الكيل ولا يعود ثمة بد من المواجهة السافرة فتنطلق الكلمات: ما تنحر قانت وهو. اتنيل (شتيمة بالمحكية المصرية: أي أصابتك مصيبة) يا شيخ. اتلهي (أي انصرف (محكية مصرية)). انتم تنفعوا انتهم؟ انتم بلاوي (أي بلايا، جمع بلية، مصيبة (محكية مصرية)). انتم رمم (حثالة، أوساخ (محكية مصرية)). انتم جايين هنا ليه. انتم مالكم ومال المدارس؟ روحوا لموا سبارس (سبارس: بقايا السجائر الملقاة، يلمها بعض الفتيان الفقراء من المدخنين ليدخنوا ما بقي منها. (محكية مصرية)).

حتى الكراريس (الدفاتر)، كانت هي الأخرى تشاطر (تقاسم) الناظر والمدرسين وجلدتها (غلافها) مملوءة بالأوامر والنواهي. لا تبلع الطعام. لا تمضغ. لا تستنشق الهواء. لا تمش. لا تجلس. لا تتحدث. عليك بالحلم. عليك بالطاعة. عليك بإمساك نفسك ساعة الغضب.

ورغم هذا النظام الصارم، ورغم أن المدرسة كانت على حد قول الناظر تمشي كالساعة، ونسبة الحضور أعلى النسب، وأحذية الطلبة كلها تلمع، والحوش الواسع خالٍ تماما من الأوراق.

ورغم أن الأولاد على حد قول أولياء الأمور كانوا لا يلعبون، ويذاكرون، إذ هم واقفون لهم بالمرصاد. ما تكاد المدرسة تتركهم حتى يتسلمهم الأولياء، والويل للتلميذ إذا تأخر برة أو لم يقض


*121*

الساعات منكبا (مشغولا، مقبلاً عليه) على كتبه يتلو (يقرأ) ويذاكر (يدرس (محكية مصريّة). رغم هذا إلاّ أنّ الطلبة كانوا لا ينجحون، ويفشلون بالمئات والعشرات، ويقابلون الدراسة باستهتار، وينامون في الحصص، وإن واتاهم (طاوعهم) الأرق (السهر، الامتناع عن النوم) أقاموا حفلات ترفيهٍ، وتبادلوا القرصات والزغدات (التحرشات) والضرب على القفا، وكتابة الخطابات المملوءة بالشتائم، وتكوين العصابات وشرب السجائر وسب المدرسين، ومزاولة (ممارسة) العادات في السر والعلن.

وكان الطلبة أيضا ورغم كل شيءٍ يتساءلون هم الآخرون لماذا يرسبون؟ ولماذا يكرهون المدرسة؟ ولماذا يعاكسون المدرسين؟ ولماذا يقضون أتعس الأوقات مع أنهم يسمعون الناس تقول إن أحلى أيام العمر هي أيام الدراسة؟

كان الناظر والمدرسون يحاولون تفسير الأمر ويقولون: إنهم طلبة هذه الأيام ومساخرهم (أي أعمالهم الطائشة (محكية مصرية)) وتفاهتهم.

وكان أولياء الأمور يقولون: هي حكمة الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب. وكان الطلبة يقولون: بل هو الحظ، بضربة أخرى تفشل، يا رب كثيراً من الحظ يا رب.. كثيرًا من الحظ..

وذات يوم أتيح لطلبة ثالثة رابع أن يمروا بتجربَةٍ.

كان مدرس الرياضة البدنية عملاقا ضخما رهيبا، كتفه تهد الجبل وزنده في حجم الفخذ


*122*

وقبضته تحيل (تحوّل، تغيّر) الرؤوس إلى جماجم، ولم يكن في حصته مكان للترفيه أو العبث. فقد كان طلبة ثالثة رابع كغيرهم من الفصول يخافونه، ويخافون إذا عنَّ (خطر في باله) لواحد منهم أن يعبث في حصته ألّا يرسله كالعادة إلى المشرف (المسؤول في المدرسة عن مجموعة صفوف أو طبقات) أو يخرجه من الفصل مثلاً، وإنما يتولى (يلزم، يتحمل مسؤولية) العقاب بنفسه وقد يتولاه بقبضته، والكف عن العبث بالتأكيد أسلم نتيجة من عقاب يتولاه مدرس الألعاب بقبضته.

كان يأتي، وقبل أن يدخل الفصل (الصف في المدرسة) يكون الفصل واقفا كله، وبإشارة منه يخرج الطلبة عن الأدراج (جمع درج، الطاولة في الصف)، وبإشارة أخرى يصطفون ويهبطون السلالم دون أن ينبس أحد ببنت شفة (بنت الشفة هي الكلمة، أي لا ينطق بكلمة، يلتزم الصمت)، وفي سكون تام يخلعون الجاكتات، ثم يتسلمهم العملاق بتمريناته. ثني. مد. رفع. ضم. افتح سدرك. شد وسطك. اخبط الأرض بدماغك. وشك فوق. عايز الجزمة تطلع شرار.

وهكذا إلى نهاية الحصة، حتى تتدلى الألسنة من الأفواه وتتجمع الرغاوي (جمع رغوة، الزبد الذي يخرج من الفم).. وتتشقق الحلوق وتتقطع الأنفاس، ولا يجرؤ واحدٌ أن يقول: آه أو لا.

عقل سليم جسم سليم، هكذا كان يقول. رياضة يعني رياضة. عايزين رجالة مش حريم. دلع مش عايز دلع. كلمة واحدة أقطم رقبتك (أقطعها (محكيّة مصرية). بص قدامك (انظر أمامك (محكيّة مصريّة). لم نفسك. تخشب. التمرين الأوّل. اِبْتِدِي.


*123*

وكان الطلبة حين تنتهي الحصة يقضون بقية اليوم في ترميم (إصلاح) أنفسهم والتماس النقاهة، ويقضون بقية الأسبوع في تمن (أمنية) أن ينسف الطوربيد مدرستهم على الأقل قبل حلول حصة الألعاب التالية..

وفوجىءَ الطلبة ذات يوم بخبر نقل مدرب الألعاب ومجيءِ مدرس جديدٍ. ولم يتحمس الطلبة للخبر فكل المدرسين كانوا لديهم سواءٌ.. كلهم رجال كبارٌ حكماء معصومون من الخطأ وأذكياء جدًّا ومتعلمون بغزارَةٍ، وبعيدون عنهم تماماً هم الصغار الحمقى الجهلاء الذين تكمن فيهم كل العيوب والّذين لا يفعلون سوى ارتكاب الأخطاء تلو الأخطاء..

وجاءت حصة الرياضة البدنية..

ودخل الحصة شابٌّ لا لحية له ولا شارب، ولا يرتدي رباط عنق وإنما وضع ياقة (الطوق في أعلى الثوب، القَبَّة) القميص فوق ياقة الجاكتة وفتح صدره. وعادة المدرسين أن تكون الياقة منطبقة على العنق وعلى رباط العنق تمام الانطباق.

وغادروا الفصل وهبطوا السلالم وخلعوا الجاكتات، ووقفوا كما كانوا يقفون وراحوا يؤدّون التمرين الأوَّلَ كما كانوا يؤدونه وأيام المدرس السّابِقِ.

غير أنه لم تكد تمضي دقيقة واحدة حتى طلب منهم المدرس أن يتوقفوا. وفعلوا هذا مستغربين وقالَ المُدرِّسُ:


*124*

واسمعوا يا جماعى.. أنا أحبّ الصراحة وانتم واضح من حركاتكم إن ما عندكوش أي حماس للعب. فبصراحة مين فيكم يحب يلعب؟ اللّي عايز يلعب يرفع إيده.

لم يكن المدرس نفسه يعلم ماذا دعاه لإلقاء هذا السؤال، لعله خاطرٌ عن له.. لعله لم يقصد..

ورفع الطلبة كلهم أيديهم مخافة أن تكون خدعة مقصوداً بها كشف الذين لا يريدون، فمدرس الفرنساوي عودهم أن يبتسم للواحد منهم وهو يعطيه الزيرو (أي علامة الصفر (محكية مصرية)).

أنا لا أحب الكذب أبدًا، وغير معقول إن كلكم عايزين تلعبوا. أنا أحب العلاقة بينّنا يكون أساسها الصدق. اللّي عايز يلعب من فضلكم يرفع إيده.

بدا الأمر جدًّا لا هزل فيه.. إنّ المدرس يريد حقيقة أن يعرف رأيهم وكان هذا غريبًا.. فهم لم يعتادوا أبدًا أن يؤخذ رأيهم في شيءٍ. إنهم منذ ولدوا وثمة قوى تدفعهم دفعا لا يعرفون أين، ولا يسألهم أحدٌ ماذا يحبون أو ماذا يكرهون. كل الناس تقول: هذا لمصلحتهم، ولا أحد يخطر له أن يسألهم عن رأيهم في مصلحتهم.

ونظر الطلبة بعضهم إلى بعض وتولاهم شيءٌ غير قليل من الاستهتار، ماذا يحدث؟ لقد سألهم رأيهم فلماذا لا يقولون الحقيقةَ؟

ونظر الطلبة بعضهم إلى بعض وتولاهم شيءٌ غير قليل من الاستهتار، ماذا يحدث؟ لقد سألهم رأيهم فلماذا لا يقولون الحقيقة؟

وأنزل الطلبة كلهم أيديهم، كلهم ما عدا واحدًا أو اثنين من هؤلاء الطلبة الذين يقضون العمر خائفين من العقاب ومن احتمالاته. ولكنهم حين وجدوا الكل لا يريدون أنزلوا أيديهم هم الآخرون خوفا من عقاب الطلبة لهم هذه المرّة.


*125*

وعادت الابتسامة إلى وجه المدرس وقال:

برافو؟ أهو كده.. أنا أحب الصراحة.

برافو! لا بد أن ذلك المدرس مجنون أو به هفة (خفة عقل)، قال الطلبة هذا لأنفسهم وهو يحسون بفرحة غامرة وعيونهم تكاد تدمع، والحقيقة أن لفرحتهم كان سبب آخر، كانوا وهم يتبادلون النظرات وينزلون أيديهم يرتعشون من الخوف، فقد كان كل منهم يعبر عن رغبته وكان يحس أنه ارتكب إثما عظيما، فإذا المسألة لا جريمة فيها وإذا بالارتباك يزول وإذا بالفرح يعصف بهم، فقد استطاعوا آخر الأمر أن يقولوا شيئا، يقولون لا ولا يشنقون، فلا بد أن المدرس مجنون ولا بد أن لوثة (مس الجنون).

وسكت المدرس قليلاً ثمّ عادَ يقولُ:

غريبة! إجماع رهيب على كره الرياضة. ليه؟ أمّال بقية العلوم بتكرهوها ازّايْ؟

وتطوع أكثر من طالب بالإجابة والتفسير. وكانوا يتحدثون بنبرات لا اضطراب فيها ولا وجل. كانت ثمة ثقة قد ملأت صدورهم وأحسوا ربما لأوَّلِ مرةٍ أنهم آدميون لهم الحق في الكلام.

واندفع ثلاثة طلبة أو أربعة يطلبون اللعب، كان ما يدفعهم في الحقيقة هو حماسهم للمدرس الشاب ذي الابتسامة، وليس رغبةً حقيقية في مزاولة اللعب.

وقال المدرس لبقية الطلبة وهو يضحكُ:

افرنقعوا (تفرقوا)..


*126*

وهلل الطلبة وكأنهم أُفرجَ عنهم بعد طول سجنٍ. ودون وعي راحوا يضحكون ويتعانقون ويتضاربون، وانسحبت أقلية ضئيلة إلى المظلة (الشمسية، المكان الذي يتجمع فيه الطلاب في ساحة المدرسة ويكون أسفل مظلة كبيرة) ورقدت على الدكك (جمع دكة، مقعد مستطيل من حجارة أو خشب يجلس عليه، عادة ما تستوعب طالبين بجانب بعضهما) قائلةً:

وآدي نومه!..

وجرى طالب وراء آخر وشنكله (أي وضع رجله أمامه ليعرقله (محكية مصرية)).

ووقفت الأغلبية وقد ارتدت ستراتها تتبادل اللكمات الخفيفة، وتتفرج على المدرس وهو يؤدي التمرين الأول مع المجموعة الصغيرة التي أرادت اللعب.

وقفوا يتفرجون بكل استهتار، يضحكون على المدرس وعلى الأخطاء الّتي يقع فيها زملاؤهم ويدردشون.

كانوا يحسون بانتعاش وكأنهم يشمون أيدروكسيد أمونيوم (مركب كيميائي ذو رائحة نفّاذة) حديث التحضير.. أن يحس الإنسان أنه ليس مرغمًا.. أن يكون في وسعه ألا يفعل، أن يصبح في استطاعته أن يختار.. أشياءَ ما كانت تخطر لهم على بالٍ.

وحين كانوا يصعدون السلالم بعد انتهاء الحصة كانوا لا يزالون غير مصدقين أن ما حدث كان حقيقة، وأنهم استطاعوا ولو لمرة واحدة في العمر أن ينفذوا من حصة الألعاب.

ومضى اليوم ولا حديث لهم إلا عن المدرس الظريف الشاب الذي أصابه لوثه أنقذتهم من الرياضة والأشغال الشّاقّةِ.


*127*

وطوال الأسبوع ظل كل منهم ينتظر في شغف (الحي الشديد) حلول حصة الألعاب التالية ليعفى من الألعاب.

وجاءت الحصة.. وجاء المدرس حليقا مبتسما وياقته مفتوحةٌ أيضًا. وقبل بدء التمرين الأول أكثر من ابتسامته وقال:

هيه يا جماعة.. اللي عاوز يلعب يرفع صباعه.

ورفعت أقلية ضئيلة أصابعها. بينما وقفت الأغلبية في مكانها لا ترفع أيديها ولا تتحرك، وكل منهم يريد أن يعرف ما سوف يفعله الآخرون.

ولما طال الوقوف قال طالب لآخر وهو يدفع عنه يده التي كانت قد امتدت تهوشه: (يخيفه دون أن يمسه، التهويش: التهديد بالحركة دون المساس بالشخص (محكية مصرية))

أناحَ العب يا عمّ.

وسرت همهمةٌ (كلام خفي غير مسموع). تعالت ثم تبلورت في رأيٍ:

وإيه يعني؟ نلعب وإذا ما عجبناش نبطل لعب. هو مش قال كده؟

وهكذا ارتفعت أصابع الأغلبيّةِ..


*128*

وما كادت تمضي دقيقة حتى تثاءبَ واحدٌ وقالَ:

أنا تعبت.. كفاية بأه.

وانسحب، ولكنه لم يذهب بعيداً بل وقف يتفرج، وحين وجد أن أحداً لم يتبعه تردد برهة، وتثاءب مرة أخرى ثم عادَ إلى مكانه.

ولم ينسحب بعده أحدٌ. بل كلما أحس أحدهم أن في استطاعته أن يتوقف إذا أراد، كلما أحس بهذا ازداد حماسة وشعر بطاقات هائلة تنفجر من جسده.

وبلغ التنافس أشدَّهُ.

وتعالت أصواتٌ تهيبُ (تدعوه، تطلب منه) بالمدرس أن ينتقل إلى تمرين أعنفَ.

وانتهت الحصة ودق الجرس والحماس لا يفتر (لا يضعف، لا يسكن).

وتأخرت ثالثة رابع عشر دقائق في الحوش (ساحة المدرسة، حيث يتجمع الطلاب ويلعبون) بعد الحصّةِ.

ووقف الناظر في ذلك اليوم يلعن ويزمجر (يصيح بصوت غليظ) ويوبخ (يلومه، يؤنبه)، ويتساءل مغيظا (غاضبا أشد الغضب) عن ذلك الحماس المفاجئ للرياضة البدنيّةِ.


*129*

مقاربات وتلميحات

- شخصياتُ القصة.

- التصوير الدقيق.

- السخرية.

- دمج العامية بالفصحى.

- الرسالة الناقدة.

- نوع الراوي.

- الواقعية.

يوسف إدريس: (ت. 1991م)

(أنظر ترجمته ص 111)


*130*

أسئلة وأعمالٌ

1. من هي الشخصيات الفاعلة في النص؟ أيها رئيسية وأيها ثانوية؟

2. تناول ثلاثة مشاهد تصويرية وردت في النص، مبينا دقة الوصف في كل منها.

3. استخرج من النص ثلاثة أمثلةٍ على استخدام الأسلوب الساخر، مبينا الغاية منه.

4. استخرج نماذج على استخدام العامية في النص، مبينا الغرض من توظيفها في القصة.

5. يهدف الكاتب إلى توجيه نقد معين إلى منظومة التربية والتعليم في مصر لخص رسالته النقدية بأسلوبك.

6. ما نوع الرّاوي في النص؟ اذكر ميزتين له.

7. اذكر ثلاثة مظاهر في البيئة المدرسية تؤدي إلى نفور الطلاب منها ومن الدراسة فيها.

8. بين التناقض بين كل من مدرس الرياضة القديم ومدرس الرياضة الجديد.

9. ما مدى نجاح الكاتب في تصوير شخصية الطالب ونقل مشاعره إلى القارىء؟ استند في إجابتك إلى أمثلة من النص.

10. هل القصة واقعية؟ علل ذلك مستشهدا بالنص.

11. ما رأيك في واقع التدريس الموصوف في النص؟ وكيف تجد واقعك أنت في المدرسة بالمقارنة مع وضع التلاميذ كما يظهر في القصة؟


*131*

مجيد طوبيا (مصادر ومراجع للتوسع: طرابيشي جورج. رمزيّة المرأى في الرّواية العربيّة ودراسات أخرى. بيروت: دار الطّليعة، 1985؛ السّعدني، أحمد. منظور مجيد طوبيا بين الحلم والواقع. القاهرة: شركة الإشعاع للطباعة، 1986).

الرواية والبراءة

انطلقت صفارة الحكم، انتهى الشوط الأول من المباراة، وفريق مدرستنا منهزم بهدف إلى لا شيء.. جمعنا المدرب في حنان أبوي، أشارَ إلى مئات الطلبة المتجمعين لتشجعنا حاملين راية المدرسة، قالَ: "يجب أن تفوزوا، لا تخيبوا رجاءَ زملائكم فيكم، أنتم تلعبون على أرضكم..". أومأنا حماساً، وهبطت عيناي من راية المدرسة إلى جموع التلاميذ، أبحث عن "نادية" حبيبتي حتى وجدتها تلوّحُ، فابتسمت وامتلأت حميّةً.

بدأ الشوط الثاني، انتقلت فيه الكرة بين أقدامنا معظم الوقت، من ركلةٍ لأخرى، بسرعةٍ وقوّةٍ في لعب حماسي انتهى بإحرازنا ثلاثةَ أهدافٍ، وانتصرنا، ولم يعد أمامنا سوى مباراتين نكسبهما ونفوز بالكأس.

بعد تحية الزملاء اتجهنا لأخذ الحمام نغسل العرق والغبارَ. خلعنا ملابسنا وانهمرت المياه فوق أجسادنا منعشة، وتزاحمنا، كل لاعبٍ يريد أن يأخذ نصيبه من الرّذاذ الباردِ، صائحين صاخبين نشوانين بفرحةِ الفوز، نتبادل تعلقات المرح والنكات. نتحادث عن تلميذات مدرسةِ البنات.. نتخاطف الصابونةَ، نتناولها من فوق الحواجز الفاصلة بين دش وآخر.. كنا عراة مثل آدم، ومع ذلك لم يغلق أحدنا بابه خجلاً من الآخرينَ.

ونحن نجفف المياهَ ونرتدي همس "فاروق غرباوي" بنذير الخبر لأول مرّةٍ وقال: "عرفت من خالي المفتش أن ناظر مدرستنا قد تم نقله.


*132*

صحتُ:

- كيف ينقلونه وقد انتصف العام الدراسي؟

- قالَ "حسين" حارسُ المرمى ممشطاً شعره في أسًى:

- خسارة، رجل طيّب.

قال فاروق غرباوي:

- على نقيض خلفه القادم تماماً.. حدثني خالي أن الناظر المنتظر صارمٌ وعنيفٌ شديدُ القسوة.. وأن شهرته بالوزارة تأديب المدارس المشاغبة.

زرّرَ "منير" قميصَه:

- لسنا مشاغبين.

أكمل فاروق غرباوي:

- عامٌ واحدٌ في أيّةِ مدرسةٍ مشاغبةٍ يؤدبها، ثمَّ تنقله الوزراة إلى مدرسة أخرى ليؤدبها، وقد حان دورنا.

قلت في ثقةٍ:

- يؤدبنا من أجل ماذا؟.. ليأت وسوفَ نرى!


*133*

في الخارج كان في انتظارنا عشرات الطلبة السعداء وحامل رايتنا يعيدها إلى سيارتها ويرفعها خفاقة عاليةً، وعن قرب لمحت حبيبتي "نادية" تتلكأ في المسير، فانسللت خلفها.. سبقتني خارجةً إلى شارع النيل وسرت في أثرها.. قبل ابتعادي التفت أتأمل مدرستي؛ كبيرةٌ بمبناها، فسيحةٌ بملاعبها.. تقف شامخةً مطلة على نيل الصعيد (منطقة تقع في مصر، تمتد من "الجيزة" شمالاً حتّى "أسوان" جنوباً) في اتساعه، ترفرف رايتها (علمها، لواءها) طوال الوقت، تستقبل الشمس في شروقها وتودعها في غروبها، هفهافةٌ (رقيقة شفافة) مع نسيم الشمال.. وسوف نحتفظ لها بالكأس للعام الخامس على التوالي..

لحقت بنادية ملهوفا (تواقا، متلهفا) لمحادثتها، لكنها ابتعدت خجلةً.. انحرفت إلى شارع جانبي خالٍ من المارة ثم تلكأت (تباطأت).. حاذيتها (جاورتها، مشيتُ بجانبها) معاتِبًا.. اعتذرت كعادتها بخوفها من النّاس.. قد يرانا من يعرفُ والدها ويخبره فتكون الطَّامَّةَ (المصيبة) ويكونُ العقاب الوخيم (الشّديد، البيِّن).

قالت:

تعرف تقاليدَ الصَّعيدِ.

قلتُ:

لا نرتكب فعلاً مشيناً (مخزيا).. أحبك وأريد أن تعرف الدنيا كلها أنّني أحبك ومستعد أن أواجه العالم كله بحُبِّكِ...


*134*

احمر وجهها سعادة، وهنأتني بالفوز..

وسرنا وقتا، ثم افترقنا بعد أن تعاهدنا على الوفاء وعلى دوام المحبة مدى العمر...

بعد اسبوع تحققنا من صدق النبأ، عندما وقف ناظرنا (مديرنا) أمام مكبر الصوت يودعنا بكلمات حارة معربا (مبينا، معبراً) عن حبه لنا ولبلدتنا، راجيا للجميع دوام التوفيق، طالبا منا المحافظة على نتائج النجاح الممتازة التي حصلنا عليها طوال سنوات إدارته للمدرَسَةِ..

على الفور سمعنا حكاياتٍ عجيبةً عن الناظر القادم وصرامته (شدة، قسوة).. سمعنا أنه لا يبتسم أبدًا، لا يعرف الرحمة أو الشفقة، كحاكم عسكري قاسي القلب.. سمعنا أيضا أنه غليظ الكف، ضخم الكرش... قلتُ:

سوف نفرغ كرشه من انتفاخِهِ.

قالَ "فاروق غرباوي" نقلاً عن خالِهِ المفتِّشِ:

الناظر القادم عقابه الوحيد الّذي يؤمن به هو فصلُ من لا يعجبه فصلاً نهائيا من كافة المدارس، يعني ضياع المستقبل ضياعا كاملاً، والعياذ بالله!

ضحكنا سخرية.. رغم ارتفاع القهقهات (ضحك بصَوتٍ عالٍ) شعرت بها جافةً مرعوشة غير واثقةٍ.


*135*

وعلى الفور تملكني انقباض مبهم عصر قلبي حزنا، ظل مسيطراً عليّ ولم يزايلني (لو يفارقني) إلا عندما لاقيت "نادية"، حيث عاودتني البهجة من دفءِ صوتها الحاني، (الحنون) ومن اندفاعة الدماء إلى وجهي مع تلامس كفها بكفي.. وسرنا حتى بدت لنا أطلال الفراعنة القريبة، حيث هناك كباشُ (جمع كبش) الغجر وماعزهم ما إن تشبع من الكلأ حتّى تأخذ تتناطَحُ وتتقافز حول تمثال الفرعون العتيد (الشديد، الصلب)...

مضى أسبوع آخر، وسمعنا أن الناظر الموعود قد وصل بالفعل.. انتظرنا أن نراه، ومر اليوم كله، ومر يومان آخران من غير أن يلمحه أحدنا.. ظلَّ حبيس مكتبه، يأتي قبلنا وينصرف بعدنا.. حتى شككنا في صحة نبأ وصوله، لولا أنَّ المدرسين أكدوا لنا وجوده.

وطوال هذه الأيام أطلق الطلبة شائعات غريبة عن أوصافه. زعم "أمين"، أغبى تلاميذ فصلنا، (الصف في المدرسة)، أنّه رآه، ووصفه قائلاً:

- "جسد طويل بكرش ضخم وقفا عريض".

لكنّ "منير" نقضه في ثقةٍ:

- بل قزم سمينٌ لا عنق له، بعينين جاحظتين (عيناه ضخمتان ناتئتان).

وفي يوم التمرين وبعد أن تدربنا، توجهنا إلى الحمام ودخلنا تحت المياه، أعلن حسين حارِسُ المرمى بأنه رأى الناظر رؤية العين، صاحَ:


*136*

- هو باختصار شديد يشبه الغول!!

وعلى الفور راح كل واحد منا يتخيله حسبما كان يتخيل الغول في حكايات طفولته.

مع بداية أسبوعه الثاني، فوجئت مع عدد كبيرٍ من التلاميذ ببوابة المدرسة موصدة، (مغلقة) أغلقت قبل بدء الدراسة بنصف ساعة ودون تنبيه سابق... تسكعنا في الشوارع عدة ساعاتٍ قبل أن نتوجه إلى بيوتنا... وحرصنا في اليوم التالي على التوجه مبكراً... بدافع الرغبة لرؤيته.. وربما بدافع الخوف من صيته.. أنا شخصيا كنت شغوفاً لمعرفة: "من أجل أية أفعال يريد تأديبنا.. وكيف سيفعل بنا ذلك؟!".

دق الناقوس (الجرس)، فأغلقت البوابة الحديدية على الفور، وبدأنا نتوجه كعادتنا إلى الفصول لكننا فوجئنا بمدرسي الحصص الأولى.. يمنعوننا وبأيديهم - على غير العادةِ - عصِيٌّ قصيرة، ويطلبون منا الوقوف في صفوف.. ولاحظنا وجود خطوط جيرية (مدهونة بالجير. وهو عبارة عن مادة بيضاء تستعمل في الطلاء، الجص) على الأرض لم تكن موجودةً من قبل، خَطّانِ لكلِّ فصلٍ يقف تلاميذه بينهما!

قاومنا في البداية بسبب عدم التعود، وبرغبةٍ دفينةٍ في التمرد، لكن العصي في أيدي المدرسين أجبرتنا على الانصياع، فوقفنا كفرق الجيش في صفوف منتظمة ووجوهنا جميعاً صوبَ الدرج المؤدي إلى غرفة الإدارة.. ومن هناك، من عند أعلى الدرج ظهر الناظر المخيف.. فساد صمتٌ كاملٌ وشاملٌ رهبةً وفضولاً.. وكانَ مظهره شتاتًا (متفرق، متشتت، أي: مختلف) مما سمعنا عنه، متوسط الطول ضخم البدن منتفخ البطن وبلا عنق، وبلا عصا في يده ووجه مستدير متجهم..

لاحظنا أن وجوه المدرسين وعيونهم لا تفارقه في انتظار أوامره.. في لحظاتٍ كان توترهم قد


*137*

انتقل إلينا، فقمنا مأخوذين (مغلوبين، مسلوبين) وعيوننا أيضا لا تفارق الوجه المتجهم (عابس الوجه، مكفهر الوجه) الصامت. ولاحظت أن راية المدرسة منكسة (نزله، أخفضه) عند أسفل السارية (عمود يُرفع عليه العلم، سارية السفينة: عمود ينصب عليه الشراع)..

فجأة وقع حادث خارق (غير عادي، كل ما خرج عن العادة)، على حين بغتة (فجأة) انطلق من الصفوف الخلفية نواح (بكاء مصحوب بالصياح) هزلي، ضاعف من سخرية الصمت الهائل الّذي كنا فيه.. وعلى الفور ضجت (أحدثت جلبة وصياحا) المدرسة بضحكات صاخبة، ضحكات عصبية مبالغ فيها، وتعرجت الصفوف وكادت تنفلت..

بوغت (تفاجأ) الأساتذة لبرهة، ثم سرعان ما تولت عصيهم إسكاتنا وإعادتنا إلى الانضباط مرة ثانية في الصفوف وإلى حالةِ الصمت المطبق.. فمكثنا شامتين (من يفرح بالمكروه الذي يصيب غيره) نترقب رد فعل الوجه المتجهم..

لم يخرج عن جموده، ظل في هدوئه المقيت، (البغيض) ثم همس في أذن وكيل (نائب المدير) المدرسة واستدار داخلا غرفته.. ثوان وعرفنا مضمون همسته، إذ ظللنا في أماكننا، مذنبين طوال اليوم الدراسي.. والمدرسون يتبادلون مراقبتنا في حزم (عزم) وهمة (تصميم، عزم) إلى أن انصرفنا إلى بيوتنا مهدودي الحيل (منهكين)...


*138*

اليوم الثالث: وقفنا طوابير (صفوف الطلاب، أو صفوف الجيش) بطريقة أسرع، وخرج البدين الضخم بوجهه المتجهم، والراية منكسة مثل اليوم السابق، مما ينكسها وهي التي لم تنكس في يوم من الأيام..؟

تنبهنا على وكيل المدرسة ينادي عددا من الأسماء، خرج أصحابها مذعورين، ليصطفوا، واحداً بعد الآخر تحت الراية المنكسة، حتى وصل عددهم إلى عشرةٍ.. وعندما سمعنا النبأ الصاعق، نبأ فصلهم من الدراسة فصلاً نهائيا وبلا رجعةٍ.. ألجمتنا (أسكتتنا، جعلتنا عاجزين عن الكلام) المفاجأة، وانكمش معظمنا واجمين..

ونحن نراهم يخرجون متباطئين في انكسار وعدم تصديق.. العجيب أن هؤلاء العشرة بالذّاتِ كانوا مسؤولين بدرجة كبيرة عن صياح اليوم السابق، فكيف عرف الناظر الجديدُ؟.. لا بدَّ أن بيننا وشاةً (جمع واش: مفسد، نمام) أبلغوه.. فمن يكونون..؟

بعد إغلاق البوابة الحديدية من ورائهم أومأ (أشار إليه) الناظر إلى مدرس الألعاب بإيماءةٍ (إشارة) خفيفةٍ فإذا به ينتفض مصدراً صَوْتًا كصوت مدربي الجيش طالباً منّا تحية الراية التي أخذ يرفعها أمام أعيننا..

تابعتها بنظري وهي ترفع تدريجيا وفي بطءٍ، رأيتها متهدبة (متدلية، مسترسلة) والهواء ساكن، لا ترفرف مثلما عودتنا.. شعرت بغصة (ألم وحزن. والغصة: ما اعترض في الحلق من طعام أو شراب) تخنقني، وبدموع ساخنة تملأ عينيَّ فشاهدت هذه الراية متموجة متآكلة الحواف (جمع حافة، الجوانب، الأطراف).. وللتو (فوراً) أحسست بها غربية عنّي..


*139*

أثناء الحصص تشاورنا فيما يمكن أن نفعله لإعادة زملائنا المفصولين، لكن المدرسين أرهبونا ونصحونا بالصمت ولاحظت أن معظمهم سعداء بهذا الرعب المباغت (المفاجىء)، خاصة غير الأكفاء (جمع كفؤ، جدير، قادر على) منهم، إذ كنا لا نحترمهم لعدم استفادتنا من حصصهم - ورغم ذلك حاولت حفنةٌ (مجموعة، شرذمة) من التلاميذ التدخل فكان نصيبهم الفصل النهائي أيضًا.. ودون نقاشٍ ودون قبولِ أيةِ وساطةٍ أو ترحُّمٍ.

أخيراً استتب (استقر، سادَ) نظام النّاظِرِ، وتعودنا على الراية منكسة كل صباح وتعودنا على رفعها مع ظهور الوجهِ المتجهم، أصبح ارتفاعها قريناً (مصاحبا) بظهوره... ويوماً بعد يوم بدأت أمقت (أبغض، أكره) هذه الراية، وهي التي لعبنا مبارياتنا دائما تحتَ لوائها وانتصرنا بها. لكنها كانت رمزنا والآن صارت رمزهُ.. ولهذا تجاهلنا أخذها معنا في المباراة التالية قبل النهائيةِ...

في هذه المباراة ما إن نزلت إلى الملعب مع باقي الفريق حتى أصابتنا الدهشة، كان عدد المشجعين من زملائنا أقل منه في أي وقتٍ مضى.. ومع ذلك بذلنا كل جهدنا كي ننتصر ثمّ بذلنا كل جهدنا كي نتعادل ومع قرب نهاية المباراة صار كل طموحنا ألا ننهزم... وخرجنا متعادلين أمام فريقٍ أقل من مستوانا بكثيرٍ...

وفي المباراة الأخيرة، مباراة الكأس، كنّا جميعاً متوترين.. قبلها جمعنا الناظر وأمرنا بالفوز وأمرنا بأخذ الراية معنا، وخرجنا من عندهِ صامتين منكسرين... ولهذا نزلنا الملعب خائفين،


*140*

بأقل عدد من المشجعين، والراية مرفوعة بلا حماس.. ولعبنا بلا حمية، (بلا حماس، بلا اندفاع) أكاد أقول إن زملاء لي تعمدوا الإهمال، أنا شخصيا أضعت هدفا أكيداً، لا أدري كيف حدث هذا؟.. لا أذكر إن كانت مصادفة أم تعمداً.. الّذي أذكره جيدا أننا عندما توجهنا إلى أخذ الحمام - بعد هزيمتنا، وبعد ضياع الكأس منا لأول مرة منذ سنوات.. كانت حركتنا بطيئة صامتةً، وكان الحزن يصبغ نظراتنا ويلجم ألسنتنا، فانزوى (اختلى، انعزل) كل لاعب مغلقا بابه على نفسه، خالعا ملابسه بعيداً عن أعين الزملاء، مقهورا خجلان مزيلاً تحتَ رذاذ (قطرات الماء) الدش آثار المباراة عن جسدِهِ.

ارتدينا ملابسنا دون اهتمام، وانصرفنا فرادى، وعندما خرجت أنا وجدت عن قرب "نادية" تتلكأ في المسير، سبقتني إلى الشارع على أمل أن ألحق بها كعادتي.. لكنّي لم أفعل.


*141*

مجيد طوبيا: (.......)

كاتب وروائي معاصرٌ، ولد عام 1938 بمحافظة المنيا في مصر. حازَ على بكالوريوس الرياضة والتربية، وعلى دبلوم الدراسات العليا في الإخراج السينمائي من معهد السينما بالقاهرة.

عمل مدرسا للرياضيات، وفي إدارة المعلومات بوزارة الثقافة، كما عمل كاتباً بجريدة "الأهرام" القاهريّةِ.

له مجموعاتٌ قصصية وعددٌ من الرّواياتِ.

مقاربات وتلميحات

- طبيعةُ الراوي ودورُه.

- الحبكة في القصّةِ.

- الشخصيات الفاعلة على مسرح الأحداثِ.

- الرسالة التربوية الناقدة.

- الحوار في النص.

- تصوير الواقع.

- دقة الوصف.

- تصوير الواقع في مصرَ.

- حاجات الجيل الجديد.


*142*

أسئلة وأعمال

1. بين مواصفات المدير الأول الظاهرة في النص.

2. ما الذي يجمع بين نقل المدير الأول وتوضيف المدير الجديد؟

3. كيفَ ترتسم لك صورة المدير الجديد بناءً على أوصافه التي جاءت في النص؟

4. من الراوي في القصة؟ وما طبيعة دوره وعلاقته بالأحداث؟

5. ما موقف الراوي من كل من المديرين؟

6. عدد الشخصيات البارزة على مسرح الأحداث في القصة، مبينا الشخصية الرئيسية.

7. ما أهمية شخصية "نادية" في القصة من الناحية الفنية؟

8. اعتماداً على الراوي، ما علة فشل فريقه في المباراة الأخيرة؟

9. بين الصراع في القصة: طبيعته، وطرفيه.

10. ما غاية الحوار بين التلاميذ في القصةِ؟

11.ما الرسالة الناقدة التي تتضمنها القصة في موضوع التربية؟

12. ما هي العبرة التي يمكن تعلمها من القصة؟ وضح.

13. ما الغرض من استخدام الكاتب للعامية المصرية في النص حسب رأيك؟


*143*

الطيب صالح (مصادر ومراجع للتوسع: البدوي، أحمد. الطيب صالح: سيرة كاتب ونص. القاهرة: الدار الثقافية للنشر، 2002؛ زين، إبراهيم محمد. شكل التعبير الديني في روايات الطيب صالح. الخرطوم: هيئة الخرطوم للصحافة والنشر، 2008؛ محمدية، أحمد سعيد (وآخرون). الطيب صالح: عبقريّ الرواية العربية. بيروت: دار العودة، 1984).

نخلةٌ على الجدولِ

"بفتح الله"...

"عشرون جنيها يا رجل، تحل منها ما عليك من دين، وتصلح بها حالك. وغدا العيد، وأنت لم تشتر بعد كبش الاضحية! واقسم لولا أنني أريد مساعدتك، فإن هذه النخلة لا تساوي عشرة جنيهات".

وتململ حمارُ "حسين" التاجر في وقفته. ولم يكن صاحبه قد ترجل (نزل ومشى على رجليه) عنه، فانه لم يرد أن يُظهر ل "شيخ محجوب" تلهفه (رغبته، حماسه) على شراء النخلة ذات البنات الخمس، التي يسميها السودانيون في الشمال "الأساسق"، وقد قامت وسطها النخلة الأم، ممشوقة (طويلة ولينة، حسنة القوام) متغطرسة (متكبرة، معجبة بنفسها)، تتلاعب بغدائرها (جدائلها) النسمات الباردة التي هبت من الشمال تحمل قطرات من مياه النيل. ورأى الحمار الأبيض البدين حمارة أنثى ترعى من بعيد بين سيقان الذرة. فنهق نهيقا أجهش (شبيه بالبكاء) ممتدا، تم رفع رجله الخلفية اليسرى ووضعها، ورفع رجله الأمامية اليمنى ووقف على حافة حافره (ما يقابل القدم من الإنسان)، وتشاغل بخصل من نبات "السعدة" الريانة (المروية، المشبعة بالماء) التي نمت على حافة الجدول وكأنه قد تبرم (تضجر وأظهر استياءه) بهذه المساومة (المجادلة في البيع والشراء) التي لم يكن ورائها طائل. (منفعة، فضل) والحق أن "حسين" التاجر، بثيابه البيضاء الفضفاضة (الواسعة)، وعباءته


*144*

السوداء التي اشتراها في زيارة له للخرطوم (عاصمة السودان)، وعمامته (ما يلف على الرأس، قلنسوة) من "الكرب" (نوع من القماش الإنجليزي، خفيف الوزن وفاخر) نمرة واحدة، وحذائه الأحمر الذي لم تخرج أيدي صناع المراكيب (نوع من الأحذية، يصنع من جلود بعض الحيوانات، وهي أحذية سودانية شعبية) في الفاشر (مدينة غرب السودان) أجود منه، وحماره الأبيض البدين اللامع، والسرج الأحمر المدهن، والفروة البنية الّتي تدلّت وكادت تمسُّ الأرض، كانت صورة مجسمة للكبرياء والغطرسة.

ولكن "شيخ محجوب" لم يحر جوابا (لو يقو على الجواب)، وكان يبدوا في وقفته تلك كالمشدود (المدهوش)، يرنو (ينظر) إلى أفق بعيد متناءٍ. (بعيد) ورويدا رويدا خفتت في أدنه ضوضاء (ضجة، صياح وجلبة) أهل الخير الذين تجمعوا ليتوسطوا (توسط: عمل وسيطا مصلحا بين طرفين) بين التاجر "وشيخ محجوب"، وخفت صوت الساقية (قناة صغيرة يجري فيها الماء وتسقي الأرض والزرع) الحزين المتصل.

ولف ضباب الذكريات معالم (ملامح) الأشياء الممتدة أمام ناظري "شيخ محجوب"؛ الناس والبهائم وغابة النخيل الكثة (الكثيفة) المتلاصقة، وأحواض الذرة الناضجة التي لم تحصد بعد، والأحواض الجرداء (القاحلة، لا زرع فيها) العارية قطعت منها الذرة، وسرحت (أخرجت) على بقاياها قطعان الضأن والماعز. كل ذلك تحول إلى أشباح يتراقص في وسطها جريد (سعف النخيل أو غصنه المجرد من أوراقه) نخلة "محجوب". وفي اقل من لمحة الطرف (العين، النظر) استعرض الرجل حاضره. أجل، غدًا عيد الأضحى حين يخرج الناس مع شروق الشمس في ثيابهم النظيفة الجديدة،


*145*

ويصلون مجتمعين على مقربة من ضريح "الشيخ صالح".. وإذ يعودون إلى بيوتهم تنضح (ترشح، تفور بشراً) وجوههم بالبشر (السعادة) والسّعادة، وتسيل دماء الأضاحي، ويقبل الأضياف ويخرجون، ويتردد في الحي صدى ضحكاتهم أما هو... أما بيته...؟ انه لا يملك ثوبا نظيفا يخرج به إلى الصلاة، وليس عند زوجته غير (ثوب زراق (ثوب للأعمال الشاقة والصعبة، يتحمل الأوساخ لونه أزرق غامق جدًّا)) اشتراه لها قبل شهرين نال منه البلى (التلف، بلي الثوب: صار رثا) وتراكمت عليه الأوساخ. أما ابنته "خديجة" فقد كادت تفتت قلبه ببكائها من اجل ثوب جديد تعرضه على لداتها (جمع لدة: من ولد معها في وقت واحد) وتعيد به مع صاحباتها. ومن أين له جنيهات ثلاثة يشتري بها خروفا يضحي به؟!

وتمتم "شيخ محجوب" في صوت لا يكاد يسمع، شيءٍ يشبه التوسل والابتهال: "يفتح الله" وزم (شد، عض عليها) شفتيه في عصبية، وعاد بعقله خمسة وعشرون عاما إلى الوراء. ألا ما أعجبه تقلبات هذا الزمن! لقد كان يومئذ شابا قويا أعزب لم يبلغ الثلاثين بعد، يعمل في ساقية أبيه مقابل كسوته وشرابه. فلم يكن يحتاج إلى المال، ولم يكن يعرف له قيمة. وفي ذات صباح مشرق من أصباح الصيف، مرَّ بابن عمِّهِ "إسماعيل"، وكان الأخير منهمكا (مستغرقا، منكبا، منشغلاً) يقلع الشتل ليغرسه في أماكن أخرى من ارض الساقية. ووقع نظر "محجوب" على شتلة صغيرة رماها إسماعيل بعيدا، على أنها خالية من "الأضراس" لا تصلح. فالتقطها "محجوب" ونفض (أسقطه، أزاله) عنها التراب، وقال لابن عمه ضاحكا: "باكر تشوف دي تبقى تمرة زي العجب"، وتبسم "إسماعيل" في سخرية، واستغرق في عمله. وعلى حافة الجدول قريبا من الساقية، شق "محجوب" حفرة صغيرة ووضع فيها "النخيلة" وواراها التراب وفتح لها الماء بعد أن تلا آيات من القرآن وردد في شيء من الخشوع. "بسم الله، ما شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله"، مثلما يفعل أبوه كلما غرس شتلة أو حصد نبتا. ولم ينس أن يصب في الحفرة قليلا من ماء الإبريق الذي يتوضأ به أبوه تيمنا وتبركا.


*146*

وانزل "محجوب" غصة (أم وحزن) صعدت في حلقه، تم مرر أصابع يده النحيلة المعروقة بين شعيرات لحيته المتفرقة. ألا ما كان أبرك ذلك العام! بعد ستة أشهر فقط من غرسه "النخيلة" تزوج من ابنة عمه، ولم يكن يملك من مال الدنيا شروى نقير (أي لا يملك شيئًا)، ولا هو يدري إلى الآن كيف تمت المعجزة. انه لم يكن يظن أبدا انه سيتزوج في يوم من الأيام، وهو الذي عاش أيام صباه منبوذا (محتقر، مرفوض) محتقرا من أهله مجفوا (مستبعد، مهجور) من الحسان (جمع حسناء)، يتهمه كل أحد بالغباء والخيبةِ. وطالما ترنم (تغنى) وهو يخوض الماء في لذعة (لسعة) البرد، عاريَ الرأس عاريَ الصدر:

الدنيا بتهينك والزمان يوريك وقِل المال يفرقك من بنات واديك (أن الزمن غدار لا أمان له، وأن من لا مال معه لن يستطيع الزواج)

غير انه تزوج، ولبس حريرة العرس (خيوط من الحرير بها خرزة حمراء تربط على معصم العريس، وهي عادة متبعة في الأعراس السودانية)، وتمسح بالدلكة، ووضع على رأسه ((الضريرة)) (مرهم أو كريم يعطي لمعة ومظهراً ورائحة جميلة يوضع على رأس العروس الذكر)، وأحاطت به الصبايا يهجزن (يغنين، هزج: تغنى) بالأغاني. ولكم شعر بالعظمة والكبرياء وقتها. كل ذلك بعد غرسه النخلة بستة أشهر وفي العام التالي ولدت زوجته بنتا أسماها "آمنة" تيمنا بمقدمها، ووفاء لذكرى جدته التي كانت تعطف عليه من بين أهله جميعا، وحينما وصل به تيار الذكريات إلى مولد "آمنة"، ترقرق (دار الدمع فيهما، تحرك) في عينيه الدمع. اين الان آمنة؟ إنها زوجة لابن أخته، الذي حملها إلى أقاصي (جمع أقصى، أبعد الأماكن في الصعيد) الصعيد في الجزيرة، وقد كانت تبره (من البر، تحسن إليه وترفق به) وتعطف عليه.


*147*

ليت "حسنا" كان مثلها عطوفا بارا. "حسن"! وعض الرجل على شفته السفلى بعنف حتى كاد يغرس أسنانه في لحمها المتهدل (المترهل). "حسن" ابنه الوحيد، سافر قبل خمسة أعوام إلى مصر، ومن وقتها لم يرسل لهم حتى خطابا واحدا يطمئنهم فيه عن صحته. لقد حاول الرجل جاهدا أن ينساه، ويمحوه من ذاكرته، ويعدَّهُ من الأموات. وكانت زوجته تبكي كلما ردد "محجوب" في صوت حزين متهدج (متقطع، مرتعش) بيت الدوبيت (كلمة فارسية معناها بيتان، والدوبيت من الشعر الشعبي السوداني) الذي كان له خير سلوى، كلما جاشت (هاجت، تدفقت) بنفسه الذكرى، وكلما تمثل ابنه طفلا صغيرا حلوا يبول في حجره، ثم صبيا يساعده في أعمال الساقية، ثم شابا يافعا يشب عن الطوق (كبر واعتمد على نفسه)، ويهجر الأهل والدار، وينسى حقوق الأبوة، ولا يسأل عن الأحياء ولا الأموات. أجل والله ((الزول إن أباك (رفضك) خليه واقنع منه، وكم لله من دفن الجنى وفات منه (أي إذا رفضك أحدهم ولم يرد مصاحبتك فابتعد عنه واتركه لحاله، وابحث عن صديق آخر)).

وكأن القدر أراد أن ينسيهم كل شيء يربطهم ب "حسن"، فرمى آخر ما في جعبته من سهامه قاسية مسمومة ظل يسددها مند عامين تباعا ودون توقف. وأصاب السهم الأخير النعجة (البرقاء (الشاة التي اجتمع فيها بياض وسواد)) التي رباها "حسن"، وجمع لها الحشيش وأشركها طعامه وأنامها فراشه. ماتت، وكذلك اجتاح المحل والقحط (الجدب، احتباس الماء) كل القطيع الذي رباه "شيخ محجوب".


*148*

ثم رفرف طائف (كثير، مجموعة) من السعادة على الوجه الخشن المجعد، "وجه محجوب"، وغابت المرارة التي أحدثها ذكر "حسن" عندما تذكر الرجل قطيع الضأن (الغنم، المعزة) الذي رباه في ذات العام الذي شهد مولد آمنة. قطيعٌ كاملٌ من نعجةٍ واحدةٍ اشتراها بما تجمع عنده من ثمن جيضان (أحواض البصل) البصل. كان يعاملها كما يعامل أبناءه، يحلب لبنها بنفسه ويكوم القش من مَراحها ((بالفتحة) مأواها في الليل. ومراح الابل: مرعاها) ويفك لها صغارها ويلبثُ الساعة والساعتين يداعبُها وينظف وبرها (شعرها)، وتغمره السعادة وهو يشاهدها تناغي (تلاطف، تداعب) صغارها وتشرب الماء المخلوط بالدّريش (الحبوب الكسورة غير المطحونة طحنا جيدا)، وتتناطح فيما بينها. كان يطلق عليها الأسماء كما يسمي الناس أطفالهم، يعرف كل واحدة منها بسيماها (علاماتها) ذات الذيل الأبيض، وذات القبعة السوداء على أم الظهر كسرج (رحل الدابة، ما يوضع على ظهر الدابة ليُركب) الدابة والخروف ذو القرن المكسورِ، والخروفِ ذو القرنين الملتويينِ. وبعد عامين من زواجه اشترى عجلة صغيرة عجفاء (مؤنث أعجف، لا خير فيها) والاها (تابعها) بالعلف والحبوب حتى استوت (استقامت) بقرة جميلة كحيلة العينين لها غرة في جبينها تجر الساقية وتدر (تعطي لبنا كثيراً) اللبن. وفي أثناء ذلك أثمرت نخلة الجدول، أول شيءٍ يمتلِكُ في حياته. وسارت الحياة رغدا (هنيئة، طيبة وواسعة) كأنما استجاب الله دعاءه يوم شق في الأرض على حافة الجدول وغرس النخلة. لقد استغنى عن أبيه وبنى لنفسه بيتا يؤويه مع عائلته وصار


*149*

ثريا يعد المالَ مثل أي تاجر، يجلس في السوق منتصبا تملأه الثقة أمام كوم الذرة، يكيل (كيل القمح وغيره: حدد مقداره بمكيال) منه للمشترين وينتهر زملاءه غير هيابٍ (صيغة مبالغة من هاب، من يخاف الناس ويتقيهم) ولا مكترث. وصار يلبس النظيف ويأكل الطيب، وينام على الفراش اللين ويتدثر في برد الشتاء ببطانية ثقيلة من الصوف أنفق فيها جنيهين. وحينما كان الناس يتبرعون في الأعراس بخمسة قروش كان هو بعشرة، وبزجاجة مليئة من سمن الضأن النقي، وكيلة (وعاء يكال به الحبوب) من أجود أنواع التمر "القنديل" حتى لُقب ب الظيف" بعد أن كان يلقب بالغبيّ، ولولا تعلقه بزوجته لتزوج بنتا بكرا يتهافت عليها خيرة شباب البلدِ.

كل هذا عفا (تجاوزته الأحداث، صار قديما بالياً) على آثاره الزمن. لقد مات الزرع، ويبس الضرع، وعم القحط فاغرق الرخاء، وحبا الشيب فطفا على الشباب، وكان النيل يفيض بين ضفتيه زاخرا (غامر، أمواجه مرتفعة) موارا (مائج، مضطرب)، يسقي الأرض ويخرج ما في باطنها من الخير، فما عاد يفيض إلا بحساب ومقدار، أتراها الخزانات التي أقاموها عليه فحجزت الماء؟ أم تراها نبوءة الشيخ ود دوليب تحققت؟ لقد أنذر الناس في يوم من الأيام انه سيأتي عليهم يوم، يصير فيه اللبن كثيرًا تافِهًا مثل الماء، وتصير كيلة الذرة بقرشين ويصبح ثمن النعجة ريالين. ولكن الناس كدأبهم أبدا سيضيقون بهذا الخير، وسينهمكون في الغيِّ (مصدر غوى. الضلال) وينسون الله؟ فيأخذهم الله في بذنوبهم. وفكر "شيخ محجوب" برهة، وحدث نفسه بأنه لم يرتكب كثيرا من المعاصي. صحيح انه كان يشرب الخمر أحيانا ويرقص في الأعراس ويخالس (ينظر خلسة. يسترق النظر) الحسان النظر على غفلة من أم "حسن". ولكنه لم يؤخر فرضا ولم يهتك عرضا ولم يفعل شيئا من هذه المعاصي


*150*

التي يقول عليها فقهاء القرية أنها كبائر تغضب الله. لابد انه الكبر الذي فت في عضده (أضعفه، أوهن قوته. والعضد: ما بين المرفق إلى الكتف) وأرخى من مفاصله، فما عاد يحتمل لدغة (لفحة) البرد ولا قائظ الحر (الحر الشديد). ولم يكن حريصا على ما عنده من خير، فبدده أول بأول. وفي غمرة (كثرة، زحمة) أتعابه ومرير شيخوخته هجره ابنه "حسن"، وهو أحوج ما يكون إلى ساعده الفتي. وهكذا ظل "محجوب" يكابد (يقاسي شدته، يتحمل) الفاقة (العوز، الفقر) وحده، فاستدانَ ورهن وباع. وليس عنده اليوم من مال الدنيا إلا بقرة واحدة وعنزتان وهذه النخلة التي ظل جاهدا استبقاءها.

وقطع عليه ذكرياته نهيق حمار التاجر، وصوت صاحب الحمار وهو يقول له: "يا رجل إنتَ ساكت زي الأبله مالك؟ ما تدّينا كلمة واحدة خلينا نمشي"؟

وكان "رمضان" قد جاء من طرف السّاقية، وقال "محجوب" ان عشرين جنيها ثمن معقول، خاصة وهو أحوج ما يكون إلى المال. وفكر الرجل برهة مترددا بين الرفض والقبول. عشرون جنيها يستطيع ان يحل منها دينه، ويشتري ضحية العيد، ويكسوا نفسه وأهل بيت. ولكن ريحا قوية هبت تتلاعب بجريد (غصنها المجرد من ورقة) النخلة، فاخذ يوشوش ويتعارك ويتلاطم كغريق يطلب النجاة. وبدت النخلة ل "محجوب" في وقفتها تلك رائعة وأجمل من أي شيء في الوجود. وعفا قلبه لابنه في مصر. ترى هل يحن لنداء الرحم؟ هل تؤثر في قلبه الدعوات التي أرسلها "محجوب" في هدأة الليل، وأحس الرجل بفيض من الأمل يملأ كيانه (ذاته، وجوده) ويطغى على إحساسه، وترقرق في عينيه دمع حبسه جاهدا، وتمتم "يفتح الله. أنا تمرتي ما ببيعها".

وردد الرجل في نفسه: "يفتح الله"! وقاده ذلك إلى التفكير في سورة الفتح من القرآن الكريم - (إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا) - الفاتحة - الفرج،.وأحس لأول مرة بأن في عبارة "يفتح الله" شيئا


*151*

اكتر من كلمة تنهي بها المبايعة (مصدر بايع. عقد البيع)، وتقفل الباب في وجه من يريد الشراء. إنها مفتاح لمن أعسره الضيق وأمضه (آلمه، أوجعه) البؤس واثقلت كاهله أعباء الحياة. وما كان أحوج "محجوب" إلى الفتح والفرج حينئذ.

وجذب التاجر عنان حماره في صلف، ثم همز بطن الحمار بكعب رجله، وقال في صوت بارد كوقع الصوت: "يفتح الله، يفتح الله، باكر بتجي تدور الدين".

وقبل أن ينطلق الحمار بعيدا أبصر "محجوب" ابنته الصغيرة تهرول نحوه مضطربة فرحة. فتحرك في قلبه أمل بدأ عسيرًا مستحيلاً أبعده عنه. ولم ينتظر الطفلة ريثما تصل، بل أسرع نحوها يسألها عن الخبر: "شنو؟ مالك"؟ وحاولت الصبية أن تفض (تلقيه عليه، تخبره) إليه النبأ بصوت متكسر ألثغ (قلب في نقطة حرفا بحرف آخر (كأن يجعل السين ثاءً أو الراء غينا) "الناس.. دالو ود ست البنات من مسر... وداب لنا معاه دواب من حسن اخوي" (جاءت الجملة بهذا الشكل لتبين لثغ الطفلة وعدم استقامة لسانها. والمقصود: الناس.. قالوا ود ست البنات جاء من مصر... وجاب لنا معاه جواب من حسن أخوي: أي ابن السيدة ست البنات جاء من مصر (القاهرة) وأحضر لنا معه رسالة من حسن).

جواب من "حسن"؟ وانطلق الرجل كالمجنون لا يفكر ولا يعي بنبض قلبه معربدا (مكثراً من الضجيج والجلبة) - بين جنبيه. يطغى الأمل بين حناياه مرّةً على اليأس، ويفيض اليأس تارةً فيغرق الأمل. وابنته الصغيرة تمسك بطرف ثوبه المتسخ، تُسرع جاهدة لكي تمشي معه، وهي أثناء ذلك تتباكى محتجةً على خطوات أبيها المسرعةِ.


*152*

وفي بيت "ناس ست البنات" (أي بيت عائلة ست البنات) انتظر محجوب بين صفوف المستقبلين. في غمرة اضطرابه لم يفت عينه المستطلعة رجالٌ يعرفهم جاؤوا يسألون عن أبنائِهم وأقاربهم ونسوة يعرفهن جئن يسألن عن أزواجهن وأبنائهن. كلهم آمال مثل أماله، تجاذب اليأس ويغالبها اليأس. ولم تخطئ عينيه الشاب الذي عاد من مصر، ود ست البنات يرتدي ملابس نظيفةً ككل عائد من السفر، ويتكلم لهجة غريبة على "شيخ محجوب"، بادي الثقة بادي الكبرياء، وأخيرا لمح الشاب "شيخ محجوب" بين المستقبلين فدلف (مشى إليه، اتجه نحوَه) نحوه مبتسما. وشعر الرجل بالضيق والحرج. إذ تحولت كل الأبصار نحوه. ولم يع "شيخ محجوب" من كلام محدثه إلا "حسن مبسوط - قال له تعفي عنه. أرسل لك ثلاثين جنيه وطرد ملابس"!

وفي الطريق إلى بيته تحسس الرجل رزمة المال التي صرها جيدا في طرف ثوبه، ثم غرس أصابعه في الطرد السمين تحت إبطه، وانحدر طرفه في عل (من أعلى) إلى غابة النخل الكثيفة الممتدة عند أسفل البيوت، وتميز في وسطها نخلته، ممشوقة متغطرسة جميلة تتلاعب بجريدتها نسمات الشمال وخيل إليه أن سعف (غصنها) النخلة يرتجف مسبحا: "يفتح الله، يفتح الله".

الطيب صالح (ت. 2009 م)

أديب سودانيّ، أطلق عليه لقبُ: "عبقري الرواية العربية". عاشَ في دولٍ أوروبّية متعددة. تلقى تعليمَه في الخرطوم وحصل على البكالوريوس في العلوم، ثم تابع دراستَه في إنجلترا. تنقل بين عدّةِ مواقعَ مهنيّةٍ، عملَ لسنواتٍ طويلةٍ في القسم العربي لهيئة الإذاعةِ البريطانية، ثمَّ عمل في الإذاعة السودانية لفترة، ثم هاجر إلى دوله قطر وعمل في وزارةِ الإعلام. اهتمَّ بالصراع بين الحضاراتِ، وعبّرَ عن ذلك في بعض أعماله الرّوائية. من آثاره: روايتا "موسم الهجرة إلى الشمال"، و "عُرس الزّين"، ومجموعات قصصيّةٌ.

مقاربات وتلميحات

- نوع الراوي.

- طبيعة القصة الاجتماعية الواقعية.

- الرمز.

- دقه الوصف.

- تجسيد صورة النخلة امرأةً ذات حسن.

- غاية المقارنة بين صورةِ التاجر وصورةِ حمارهِ.

- حالة غياب "شيخ محجوب" عن جزءٍ من حوار المساومة مع التّاجر، والغايةُ منها.

- محاولة الكاتب استدراج تعاطف القارئ معَ "شيخ محجوب".

- النخلة كبركةٍ تولد معَها البركاتُ.

- شخصية "شيخ محجوب" والأطوارُ الّتي مرّت بها.

- الفرج بعدَ الشدة.

- الاسترجاع الفنّيُّ.


*154*

- الدائرية كأسلوب قصصي.

- توظيف اللغة السودانية المحكيّة.

- ملامح الجو الديني.

- تصوير الريف السوداني.

أسئلة وأعمال

1. ما نوع الراوي في القصة؟ إيتِ بأدلة على ذلك من النص.

2. ما مدى دقة الوصف لدى الكاتب؟ استند إلى نموذج واحد من النص.

3. هل القصة ذات نزعةٍ رمزية؟ علّل.

4. إيتِ بدلائل من النص تشير إلى طبيعتِهِ الاجتماعيّةِ - الواقعيّةِ.

5. يجسد الكاتب صورة النخلة امرأة ذات حسن، بين ذلك استنادا إلى النص.

6. يقرن الكاتب، في الفقرة الثانية، بين مساومة التاجر ل "شيخ محجوب" وبين رؤية حمارهِ أتانا ترعى، فما غاية ذلك؟

7. ما غاية "غياب" "شيخ محجوب" عن الواقع، خلالَ حوار المساومة مع التّاجرِ؟


*155*

8. كيف يحاول الكاتب استدراج القارئ للتعاطف مع شخصية "شيخ محجوب"؟ وهل نجحَ في ذلك؟

9. تتجلى النخلة في القضة كشيءٍ له قيمة معنوية عظمى، بحيث كانت بركتها مولدة لغيرها من البركات والخيرات. بين ذلك.

10. تعتبر شخصية "شيخ محجوب" ناميةً، بين ذلك متطرقا إلى الأطوارِ الّتي مرّت بها.

11. يستخدم الكاتب أسلوب الاسترجاع الفني (الفلاش باك). مثل لذلكَ بمثالٍ من النّصِّ، مبيّنًا إحدى غاياتِهِ.

12. تتخذ القصة طابعًا دائريًّا من حيث البداية والنّهاية، بين ذلكَ.

13. لماذا يوظف الكاتب اللغة السودانية المحكية في النص؟ هات ثلاثة نماذج عليها.

14. بين صفات مكان الأحداثِ، والعادات والتّقاليد السودانية.

15. تنضحُ القصة بالأجواءِ الدينية (الشعبية، الصوفية) والإيمانية؛ مثل لذلك بثلاثة نماذج، مع توضيحِ صلتِها بالنّزعةِ الإيمانيّةِ.

16. تكرر التعبير "يفتح الله" عدة مرات في القصة، فما دلالتة في كلِّ مرّةٍ؟


*156*

زكريا تامر (مصادر ومراجع للتوسع: الصمادي، امتنان عثمان. زكريا تامر والقصة القصيرة. بيروت: المؤسسة العربية للدّراسات والنشر، 1995؛ عيد، عبد الرزاق. العالم القصصي لزكريا تامر: وحدة البنية الذهنية والفنية في تمزقها)

موت الشَّعر الأَسود

كانت شمس الظهيرة تسطَعُ بيضاء على حارةِ السعديِّ بينما شيخ المسجد يقول للمصلين أن الله هو الذي خلق الرجال والنساء والأطفال والطيور والقطط والأسماك والغيوم، وهو الذي خلق أيضا عباده الفقراء من تراب، فيهز الرجال رؤوسهم موافقين، فوجوههم تشبه ترابا لم تهطل فوقه قطرة مطر، وبيوتهم من تراب، ويوم يموتون يدفنون في التراب.

ولما انتهت صلاة الظهر، غادر الرجال المسجد يرين (يغلبهم، يغطيهم) عليهم خشوع هادئ وكآبة عذبة، واتجه معظمهم إلى مقهى حارة السعدي، وهناك تكلموا عما حدث قبل أيام، فلقد قصد "منذر السالم" مخفر الشرطة (مركز الشرطة)، وأعلن مرفوع الرأس أنه ذبح أخته لأن العار في حارة السعدي لا يمحوه سوى الدم.

وهكذا فقد ماتت "فطمة"؛ الفاكهة التي تحلم بها كل الأشجار، ففطمة امرأة جميلة، ولكن أجمل ما فيها شعرها الأسود، الماء المظلم الذي لا تتألق (تتوهج، تلمع) فيه نجمة، والخيمة التي تمنح الأمان للمطارد الخائف.

وعندما كانت فطمة صغيرة السن، كان جدها يهوى تمشيط شعرها، وينثر خصلاته الفاحمة (السوداء) بزهو (إعجاب) ونشوة (فرح)، ويغمغم (يتمتم، يقول كلاماً بغير وضوح) بإعجاب: "كنزٌ.. كنزٌ".


*157*

ويوم دخلت "فطمة" بخطى مرتبكة إلى غرفة الضيوف وهي تحمل فناجين القهوة، لفت شعرها أنظار النسوة الخاطبات، ونالت اعجابهن توا، (حالاً) فتعالت الزغاريد بعد أسابيع وصارت "فطمة" زوجة ل "مصطفى"، الرجل الذي يملك وجها لا يبتسم.

ولقد أحب مصطفى "فطمة" وشعرها، ولكنه كان يرى في أثناء نومه حلما واحدًا يركض فيه تحت مطر غزير دون أن تبلله قطرة ماء.

وكان "مصطفى" يقول ل "فطمة": "أنا رجل وأنت امرأة. والمرأة يجب أن تطيع الرجل. المرأة خلقت لتكون خادمة للرجل".

فتقول له "فطمة": "إني أطيعك وأفعل كل ما تريد". فيصفعها قائلا بنزق (الخفة والطيش): "عندما أتكلم يجب أن تخرسي".

فتبكي "فطمة"، ولكنّها كانت كعصفور صغير مرح طائش، فتكف عن البكاء بعد هنيهات (لحظات)، ثم تضحك وهي تمسح دموعها، فيغمض عينيه، ويتخيل "فطمة" تقول له بذُل: "أحبك وأموت لو هجرتني".

ولكن "فطمة" لم تقل له يوما ما يتوق اليه.

وفي يوم من الأيام دخل مصطفى متجهم الوجه الى مقهى حارة السعدي وقال لأخيها "منذر السالم": "قبل أن تقعد كعنتر بين الرجال، اذهب وخذ أختك من بيتي".

فأحنَى "منذر السالم" رأسه خجلا من الرجال المحيطين به، وعض بقسوة على شفته، ثم نهضَ


*158*

فجأة، وانطلق يركض في حارة السعدي.

ولما أبصرت "فطمة" أخاها منقضا عليها شاهرا سكينة، ولولت، وسارعت الى الهرب من البيت، وركضت في أزقة حارة السعدي حاسرة (كاشفة) الرأس، مبعثرة الشعر، وصرخت مستغيثة، غير أن السكين لحقت بها وبلغت عنقها بينما كان الرجال والنساء والأطفال يقفون متجمدين شاحبي الوجوه.

وهكذا مات الشعر الأسود... ولكن "فطمة" لا تزال تركض في حارة السعدي وتطرق أبواب بيوتها مستنجدة... فلا يفتح باب من الأبواب، وتتلطخ السكين بالدّم.

زكريّا تامر (...)

أديبٌ سوريٌّ، ولد عالم 1931 بدمشق. عمل حدّادًا، ثم أخذ يكتب القصة القصيرة وقصص الأطفال. يقيم في لندن منذ العام 1981. ترجمت له كتابات إلى اللغات العالمية. له عدة مجموعات قصصية، أبررها: صهيل الجواد الأبيض، دمشق الحرائق، وتكسير الرّكبِ.

مقاربات وتلميحات

- فكرة أهمية حقوق المرأة في المجتمع الشّرقيّ.

- الرّمزية في القصّةِ.

- سلبية المجتمع المحافظ، وسلبية الشيخ.

- ظلم المرأةِ من أولياء أمرها.

- انتقاد الحميّة في المجتمعِ الشّرقي الذّكوري.


*159*

- صورة فطمة الإيجابية.

- دلالة "المطر" الرمزية.

- اللغة القصصية الشعرية.

- التكثيف.

- المفارقة.

- التصوير.

أسئلة وأعمال

1. في النص ملامح سلبية كئيبة للمجتمع الشرقيِّ، بين ثلاثة منها.

2. كيف ينتقد الكاتب رجال الدّين في النص؟ وما سبب الانتقادِ؟

3. صف شخصية "فطمة" كما وردتْ في النص، مبيّنًا إيجابياتِها.

4. تعالج القصة موضوع الظلم الاجتماعيِّ للمرأةِ، وضح ذلك.

5. اذكر ثلاثة أمور تجمع بين "منذر السّالم" و "مصطفى" في مواجهةِ "فطمة".

6. كيف تبدو علاقة "مصطفى" ب "فطمة"؟ وإلامَ ترمزُ طبيعة هذهِ العلاقةِ؟

7. لماذا، في رأيك، ينتقد الكاتب حمية المجتمع الشّرقيِّ؟


*160*

8. ما دلالة المطر الرّمزية في الحلمِ الّذي رآهُ "مصطفى"؟

9. ما الدّلالة الرمزية لأسماءِ شخصيات كل من "مصطفى"، "فطمة"، و"منذر السّالم"؟

10. بين ميزة واحدة للغةِ القصصيّةِ الشعريةِ في النّصِّ.

11. ما نوع الرّاوي في القصة؟ اشرح.

12. ما الدّافع الّذي حدا ب "منذر السّالم" إلى قتل "فطمة"؟ بين ذلك متعرّضًا إلى مشاعره حين التقى به "مصطفى".


*161*

إميلي نصر الله (مصادر ومراجع للتوسع: طنوس، جان نعوم. قراءة نفسية في أدب إميلي نصر الله. القاهرة: مكتبة الدّار العربية للكتاب، 2002؛ جمعة زينب. صورة المرأة في الرواية: قراءة جديدة في روايات إميلي نصر الله. بيروت: الدار العربية للعلوم، 2005).

ليلى والذّئب

أوصتها أمها، منذ أن خطت خطوتها الأولى، على طريق الرِّحلةِ...

أوصتها لتأخذ حذرها من الذئب... بل إنّ التوصيات سبقت تلك اللحظة بزمان، أي حين كانت ليلى طفلةً في المهد، وأمها ترنم (تغني غناء عذبا) بها أشجى الأنغام، لتغفو وتطبق جفينيها على أحلام ناعمة.

وكانت الأم تدخل بين كل ترنيمة، وتالية لها، كلمات جديدة، وعبارات معترضة ضمن قوسين مثل: (والذئاب تختبىءُ عادةً، في الغابات. تفاجئك عند كل منعطف. أحياناً يرتدي الذئب وجه ثعلب، أحيانا وجه أمينٍ.. يا ليلى، لا يغرنك ذلك. عليك أن تعرفيه فوراً، وتحيدي من طريقه).

نامي / يا بنتي نامي / حتّى أفرش لك / ريش النعام.

(ويا ليلى: حين تبصرينه، قادما من المجهول، سائراً على قائمتين، بدل أربع قوائم، تأكدي بأنه هو، داخل قناه جديدٍ...).

يا الله تنام / يا الله تنام / لأذبح لها طير الحمام / يا حمامات لا تخافوا / عم بضحك عا ليلى تتنام...

(أحيانا يجيءُ، متلبسا بكل الوجوه المألوفة. ويقترب منك بلطف، يقترب ويلقي السلام. يسمعك كلاماً له مذاق العسل. احذريه. إذا قال: أنت جميلةٌ.. يكون هذا الطعم الأول. إذا دعاكِ


*162*

إلى مرافقته يبدأ الخطر يهدد حياتك.. قد يسير معك خطوات في الفلاة، لكنه لا بد وأن يجرك إلى مغارته وهناك يا ابنتي من يدري ماذا يحدث؟!...).

تك تك تك، يا أم سليمان / تك تك تك زوجك وين كان / تك تك تك كان بالحقلة / عم يقطف خوخ ورمان.

(ويا بنية! أحيانا يتجاوز الغابة. يسير معك على هواك. يعرض خدماته. يقول:

أحمل السلة عنك. أرشدك إلى السبيل. أخشى عليكِ من الضياع.

يقول لك:

أنت صغيرة، عديمة الخيرة، والعالم شاسع، والدروب محفوظة (محاطة) بالخطر. أرافقك، يقول، أكون عكازك. لا تصدقيه. وارفضي كل ما يقدمه لك من وعود وخدمات. وإذا أمكن، بدلي الطريق، واسلكي درباً غير دربه...)

يا الله تنام ليلى / يا الله تحب النوم / يا الله تجيها العوافي / وتظل دوم الدوم

(ويكون في بعض الأحيان، مختبئاً في غابةٍ في حفرةٍ، أو في كهف. ربما تبصرينه واقفا فوق قمة التل، عند انحدار الشير (المنحدر الصخري باللبنانية المحكية). تحسبينه ناطورَ الكروم، يا غالية!... لا يخدعنك المظهر الخارجي. إنه الذئب يأتي من كل الطرق، في كل الأماكن يجيء. خصوصاً حين يبصر فتاةً مثلك، لها هذا الجمال، واللطف، والطيبة. حالما تبصرينه، سارعي خطاك ولا تلتفت عيناك إلى حيث يكون، ولا تنظري مرةً إلى الوراء. أبقي بصرك مشدوداً إلى الأمام، باتجاه غاية الرحلة، بيت جدتك الطيبة.


*163*

ولا تتوقفي لتقطفي لها الزهور. أعرف ولعك بزهور البراري يا ليلى. أعرف مدى إغرائها، خصوصاً في هذا الوقت من السنة. تجاوزي إغراء الزهور، ذاكرةً بأن عين الذئب لا تنام، وهي ترصد حركاتك من كل الجهات، ومنذ ما قبل التاريخ. لذا، كان عليك أن تضاعفي يقظتك وحذرك، ولا تدعي الحيل تنطلي (يخدع بها) عليك. آهٍ، كم هو محتال، يا ليلى. كم إنه ذكي ومحتال!)

يا حادي / يا مادي / يا كسار الزبادي / يا الله كسر جوز ولوز / وأطعمها لأولادي.

ليلى في أتم أناقتها. قبعتها الحمراء تتوج رأسها، مثل زهرة (برقوق) عملاقة، وتحتها المعطف من اللون نفسه، والحذاء المربوط بتأن، والسلة معلقة في كوعها، وعيناها منفتحتان، وشفتاها منفرجتان. كذلك أبقت قنوات السمع مفتوحة، لتستوعب كل الكلام، وما بين الكلام والأنغام. لم ترد مرة على أمها. لم تطرح سؤالاً. ربما شاءت أن تطرح سؤالاً، وأحجمت (تراجعت) وفي لحظة الانطلاق. إنها مشتاقة كثيراً لرؤية وجه جدتها. لكن شوقها إلى المغامرة تضاعف الآن. أمها فتحت لها كل الأبواب الموصدة (المغلقة)، في الداخل والخارج ودعتها إلى المسير.

وهي الآن في الطريق، تقفز مرحةً. تنشد بصوتٍ خافت. تتصادم أصداءُ نغمها مع زقزقة العصافير فوق أشجار البستان. سوف تتسارع خطاها وتنطلق، كالسهم إلى الهدف، تماماً مثلما أوصتها أمها. مثلما حلمت طوال الليلة الفائتة. سلتها مملوءة بالكعك، والحلوى اللذيذة، من إعداد يدي أمها، وقد ملأت بطنها جيداً، فزادت فرحتها، وتابعت سيرها قفزاً مرحا.

وطريقها لولبي، يمر وسط الغابة. ليس في الإمكان تجنب ذلك. وصايا أمها تتمشى تحت جلدها ويسبقها الصوت ممتزجاً بذرات الأثير ((الهواء) وسط فضائي لطيف يعم الكون ويتخلل جميع أجزائه):


*164*

(احذري الذئب يا ليلى. كوني يقظةً أبداً... و ... الذئب يأتي من كل الجهات. ويرتدي شتى الوجوه).

ماذا تقول أمها؟

لا ذئاب في هذه الغابة، حيث تتعانق أغصان شجر الشربين (شجرة دائمة الخضرة) والسنديان. هنا تقيم العصافير اللطيفة. ترسل زقزقاتها فتمجد الخالق، ومن قلب الغاب تسمع أصداء موسيقية من نوع آخر، حين ترتطم الرياح، بسيقان القصب والغزار (نبات من القصب الدقيق، تصنع منه أقلام الكتابة)، فتؤلف موسيقى سماوية. لا... هذا المكان الآمن، مأهول بالوداعة والجمال والنغم العذب، ولا مكان فيه للذئاب.

وهي الآن، في منتصف الطريق. انعطف بها دربها، وتقدمت صوب السهول المنبسطة، خضراء ترصع صدرها الأزهار من كل لون. هذه أزهارها البرية المألوفة: السكوكع (نبتة جميلة الرائحة)، والنرجس، وشقائق النعمان، والياسمين البري، وتغمزها أعين الزهر بإغراء، وترفع إحداها الرأس، ليصبح بمستوى سمع الفتاة وتهمس في أذنها:

خذيني معك.

تتوقف ليلى والدهشة تعقل (تربطه، تعجز عن الكلام) لسانها: زهرةٌ، وتتكلم!...

ماذا تقولين؟


*165*

تسألها غير مصدقة. فتكرر الزهرة، المنفتحة كعين الرحمة، تكرر طلبها بما يشبه الابتهال: خذيني معك. اجعليني رفيقة دربك. سيمت الإقامة وسط هذا المكان الجامد.

وترد ليلى:

عجيبٌ كلامك. لست وحدك هنا... وحولك رفيقاتك الأزهار، والنبات من كل صنف. ثم هناك الغابة وسكانها الطيبون وتزورك النسائم من كل الجهاتِ. لماذا لا يكون هذا العالم ممتِعًا؟.. وافترت بتلات (جمع بتلة. الفسيلة التي انفصلت عن أمها، والفسيلة جزءٌ من النبات يفصل عنه ويغرس) الزهرةِ عن شبه ابتسامةٍ، وقالت بأسى:

أنت لا تفهمين حياة الزهور. لا يمكنني أن أتخذ أي قرار. تملى عليَّ الإرادات من كل صوب، وأتلقى، وأنا عاجزة عن الانتقال. عن التحرك من مكاني إلى موقع آخر. انظري كيف تثبتني جذوري في أعماقِ الترابِ.

انحدرت ليلى بنظرها حتى أسفل الجذع، واكتشفت أن ما قالته الزهرة صحيحٌ. لذا رفعت إليها عينين منكسرتين، وقالت:

كلامك صحيح. لا يمكنك الخروج من ارتباطك بالتراب.

إذن، خُذيني إليك...

كرَّرَتِ الزهرة طلبها، فأثارت في صدر الفتاةِ شعورًا غريبا، جعلها تنحني وتقطع الساق الدقيقة... وما إن فعلت ذلك حتى هدر في أذنيها صوت الرعد. ارتجفت خوفًا وتراجعت خطوتين


*166*

إلى الوراء، قبل أن تقرر ماذا عليها أن تفعل.

لكن الزهرة المنتفضة بين أصابعها دفعتها إلى اتخاذ القرار:

أسرعي، لنهرب، قبل أن ينهمر المطر. إنها عاصفة رعدية ثقيلة من الجهة الغربية... أسرعي.

- "وماذا عن رفيقاتك"؟

سألت ليلى، وقد خالجها (نازعها، سبب لها الاضطراب) شعور بالشفقة على الزهرات الصامتاتِ، ولم تسمع من زهرتِها أي جواب، فقررت أن تطوفَ بنفسها، لتبحث عمن تريد مرافقتها.

وهكذا تابعت قفزها الرشيق، وجمعت بضع زهراتٍ، جعلتها باقة بحجم راحَةِ يدِها، وفَكَّرت بأن هذه ستكون هديتها للجدَّة، ونسيت السلة المعلقة بكوعها.

تفجر الرعد من جديد. رفعت ليلى نظرَها إلى الفضاء، فأبصرت الغيوم الرمادية تتسابق في الجو، وكأنها تلاحق فلول (جمع فل، الجيش المنهزم) جيش فار، وفكرت بأنَّ عليها أن تصل دارَ الجدة قبل أن تفرغ السماء غضبها، ثم التفتت إلى الزهرات تطمئنهن:

بعد قليل نبلغ بيت الجدة، وهناك، أضمكن في زهريّةٍ من بلورٍ (زجاج ثمين شفاف)، وأروي سيقانكن بالماءِ النظيف... عمَا قليل، ونبلغ نهاية الرحلة.

لكن العاصفة لم تمهل، وظلت تشقق صدر الفضاء، وراحت المياه تتدفق بغزارةٍ، فتغمر السهول والحشائش، وتغرق ما بقي من الأزهار، وانهمرت المياه الغزيرة فوق رأس ليلى، وكانت العاصفة قد عرتْهُ، حين انتزعت القبعة الحمراءَ، وقذفتها بعيدًا عن مَدى الرؤية. وانهمر المطر


*167*

فوق السله المملوءة بالكعك والحلوى، فاختلطت فيها الأشكال والألوان. وهذا ما أخاف الفتاة، ودفعها إلى الجري بسرعةٍ، علها تنقد ما تبقى.

قبل أن تبلغ دار جدّتها سمعت ليلى وقع قدمين، فعلمت بأن هناك من يتعقبها. وتساءلت إذا كانت أمها قد أرسلت ابن الجيران، ليساعدها. التفتت إلى الوراء لتناديه، فأبصرت مخلوقًا، لم تقع عينها على شبيهٍ له من قبل. كان يرتدي معطفًا تكنس أطرافه الأرض، ويعتمر قبعة سوداء تغمر رأسه، وتهبط لتغطي أذنيه وجزءًا من عنقه، وقد حجب عينيْه بنظارتين سوداوين تخفِيان ثلاثة أرباع وجهه. ارتعدت فرقًا، (خوفاً) وشاءت أن تسأل هذا المخلوق العجيب، من يكون؟ وهل هو الذئب أم رسوله؟ أم عدوة؟ ألم...؟

لم يترك لها الفرصة، اقترب بقامته الشامخة، بصوته اللطيف، النّاضحِ (الراشح، الرطب الندي) إغراءً وشهوة، وبلمساتِهِ الناعِمَةِ، النّاعمة، مرر أصابعه فوق وجهها وهمس سؤاله:

- ما اسمك، أيتها اللطيفة الجميلة!..

- ليلى.

قالت، وهي غير واثقة إذا كانت قد ارتكبت خطاً بإفشاء هذا السر. لكنّه لم يُعطها الفرصة، كي تحاسب ضميرها، راحَ يطرح أسئلته.. يرشقها بها كزخات البرد:

- من أين جئت؟ وإلى أين تذهبين؟ من اشترى لك هذا المعطف الجميل؟ من غرس في وجهك هاتين العينين النرجسيتين؟ ومن حفر في وجهك هذا الفم العسلي، ثم غرس فوقه الأنف الأشمَّ؟.. وشعرك، يا جَميلة!... هذا المنهدل (المسترسل، المرخيّ إلى أسفل) على كتفيك كسنابل القمح.. من أين جئت بهذا الجمال


*168*

كله؟!

أدركت ليلى، بأنها أمام مخلوق لا يشبه أحدًا من الأشخاص الذين عرفتهم في محيطها.. وتساءلت:

أوَ يكون هذا الذئب؟!"

وتذكرت كلام أمها، وتحذيرها، وتوصياتها، لكنّ صَدى الكلامِ ظلَّ بعيدًا عن حاضِرِها.. إنها أمام وضع يتعدى كل التوقعات، وعليها أن تتخذ القرار، وتواجه الواقع بشجاعةٍ. لذا رفعت رأسها وأطلقت السؤالَ:

وأنت... من تكونُ؟ ما هو اسمك؟

"أبو كاسب"؟

صمتت ليلى، وقد أربكها الجواب، ثمّ عادت تقول:

- لم أسأل عن اسم ابنك. أريد أن أعرف اسمك أنت؟ الاسم الحقيقي.

نعم، هذا هو اسمي الحقيقي، والبعض يدعوني "أبو جعدة". يمكنك أن تختاري منهما الإسم الذي يعجبُكِ.

عادت إلى صمتها وارتباكها. أمها لم تخبرها كيف تتصرف في الخطوة التالية. ربما لم تحسبه ذكيا إلى هذا الحد، يخترع الأسماء، ويرتديها مثلما يرتَدِي قناعَ وجهِهِ، وفكرت بأنّ أفضلَ وسيلةٍ تعتمدها هي المواجهة الشجاعةُ، لذا سمعت شفتيها تتمتمان:


*169*

لا أصدق. أعرفك من تكون.. أنت الذئب. أمي أخبرتني. حدثتني عنك قبل أن أبدأ الرحلة.

قال محتالاً:

لن أعارضك. اختاري من الأسماء ما يروقك. ذلك لا يهم ما دمت، لطيفة، طيبة، وجميلة. لكنّك لم تردي على سؤالي: إلى أين أنت ذاهبة؟

- إلى دار جدّتي.

- وجدتك، هل تقيم بعيدًا من هنا؟

- كلا... هناك منزلها، داخل تلك الحديقة.

ومدت إصبعها بسذاجة، تشير إلى المكانِ. وعاد يسألها:

- وجدتك تقيم وحدها؟

- نعم، وأنا ذاهبة كي أسليها. أحمل إليها سلة كعك وحلوى، وباقة أزهار برية. اقترب منها أكثر، ومدّ يده إلى السلة، فغاصت في مزيجٍ رخو:

- لم يعد هناك كعك، ولا حلوى، انظري؟...

وفتح أمام عينيها يده المغمسة بالسائل الدبق (لزج)، حيث اختلطت الحلوى بالكعك.

انهمرت الدموع من عينيها وقالت:


*170*

- الحق على العاصفة الراعدة...

ربت على كتفها محاولاً إعادة الهدوء إلى نفسها:

- أمك لم تحسب حساب العاصفة.. ثم قولي: كيف تركتك تخرجين وحدك؟... والغابة مسكونة بالذئاب والوحوش المفترسة؟

أجفلتها (أفزعتها) كلماتة. ونظرت بطرف عينها، فلم تلمح أية علامة من علامات السخرية. بدا مخلصا في كلامه، ولكي يؤكد إخلاصه، مد أنامله (أصابع) وراح يمسح دموعها ويتمتم بحنان:

- إطمئني، سأبقى معك، ولن أتركك.

شعرت بارتياح يمشي في عروقها، ومدت يدها كي تصافح يد محدثها، وتشكره، ثم تتابع مسيرها. لكنه تطوع بإتمام معروفه؛ ومرافقتها حتى نهاية الطريق. ثم عبر عن اندفاعه عمليا، حين لف ذراعه حول كتفها. ودعاها لتظل بقربه، وتعتمد عليه.

سارت إلى جانبه. ترتشف أذناها كلامه العذب، وحكاياته النادرة، ونسيت كلامَ أمِّها. بل راحت الشكوك تساورها، وهي تتذكر بأن أمَّها خدَعتها، وغرست في صدرها خوفا لا مبرر له. كيف أخافتها وفي الغابة مثل هذا المخلوق، اللطيف حتى الانكسار، الدّافئ الهمس، الرقيق اللمساتِ، والحاضر لحمايتها ورد الحظر عنها؟..

كيف تجهل أمها هذه الأمور عنه؟!


*171*

وقبل أن تبلغ ليلى دار جدتها كانت قد تعرفت إلى رفيق الرحلةِ وارتاحت إليه، وأعلنت الثورة على أمها، وعلى تعاليمها "العتيقة"، وارتمت دائرةٍ رسمها الذئب حولها، ثم أحاطها بالسياج الكثيفِ، ولم تعد تبصر من الوجوه سواه، ولم يعد ينفذ إليها، من وجوه الناس، سوى وجهه، وقد راح ينطبع تدريجيًّا في سواد عينيها ويتحول في ذاتها إلى رسولٍ للخير والحب والجمال.

وضعت السلة بقربها، وقذفت باقة الزهور إلى الأرض المستحمةِ برشق المطر، وتمددت فوق مقعد حجري، تريح جسدها من تعب المسير. وانتشر الضباب حولها، ثم لم تلبث ظلمة المساءِ أن حلَّت على الكونِ، وأوصدت (أغلقت، سدت) الأبواب، وكان يفترض في الصغيرة، أن ترتعد خوفًا، أو تتألم من وخز الضمير، لانحرافها عن هدف الرحلة. لكن الذئب بقي بقربها. يملأ بحضوره كل فراغٍ.

وبينما كانت العاصفة تتابع ثورتها، فتجتاح الغابة والسهول، وتحطم أغصان الشجر، كان الهدوء والطمأنينة والفرح وعناصر الأمن كلها تغمر ليلى، وتمحو، شيئًا فشيئًا، ما بقيَ عالقا في الذاكرة من وصايا أمها مع بداية ذلك اليوم الجديد.


*172*

إميلي نصر الله (...)

أديبة وصحفية لبنانية، وناشطة في مجالِ حقوق المرأةِ. ولدت في جنوب لبنان عام 1931. تلقت تعليمها الجامعي في جامعة بيروت.

لها عدد من الروايات والقصص القصيرة، وقصص الأطفال، منها روايتا: شجرة الدُّفلى؛ والرّهينة، وقصّتا: الجمر الغافي، وأوراق منسيّة. ترجمت بعض كتاباتها إلى الإنجليزية والفرنسية.

مقاربات وتلميحات

- التناص مع الحكاية الشعبية.

- القصة الرمزية.

- النقدُ التربوي - الاجتماعيُّ.

- علاقة الطفل بالأهل.

- الشر في المجتمع الإنساني.

- دقة التصوير والوصفِ.

- الرومانسية - حضور الطبيعةِ.

- سمات الأدب النسويِّ.

- اللغة الشعرية.


*173*

أسئلة وأعمال

1. في القصة تناص مع حكاية "ليلى الحمراء"، قارن بين القصة وبين الأصل الحكائي الموجه للأطفال؛ بم يتفق النصان، وبم يختلفان؟

2. عدد شخصيات القصة، وقارن بين كل منها.

3. ما هو الصراع في القصة؟ وما أطرافه؟ وما نتيجته؟

4. إلام ترمز رحلة ليلى؟ وضح.

5. تنتمي القصة إلى "الأدب النسوي"؛ فما الّذي يرمز إلية الذئب انطلاقا من هذا الانتماءِ؟

6. كيف تظهر علاقة الأهل بالابن وفق النص؟

7. توجه الكاتبة نقدًا لاذعًا للتربية في المجتمع الشرقي، وضح ذلك.

8. كيف يبدو لك أن الكاتبة لا توافق الأمَّ على تحذيرها المفرط ل "ليلى" من الذئب؟ وما تفسير عدم موافقتها لها؟

9. هل الشر مطلق في المجتمع؟ وهلِ الخيرُ كذلك؟ وضح رأيك استنادًا إلى النص؟

10. اذكر ثلاثة نماذج منَ النّضِّ على الرومانسيَةِ.

11. اذكر غايتين من دمج الشعر والغناء والعامية في النص؟

12. مثل، من النص، بمثالين على استخدام اللغة الشعريّةِ.


*174*

أحمد حسين (مراجع للتوسع: إغبارية، أحمد. "جدلية التجربة بين الأصول والشروح - مدخل لقراءة المشروع الشعري والفكري عند أحمد حسين". موسوعة أبحاث ودراسات في الأدب الفلسطيني الحديث - الأدب المحلي، 2. باقة الغربية: مجمع القاسمي للغة العربية، 2012)

انهيار

- سامي درويش طلب!

- حاضر.

- ربحي خالد عبد الله!

- حاضر.

- وائل ذياب الخمرة!… رُدّ! عمى في منظرك!

كانت وحشة اليوم الأول قد ذابت نهائيًا، وتأكدتُ أنَّ مدرستنا الجديدة ليست مريعةً (مخيف) إلى الحدّ الذي صوّرَهُ لي الوهمُ حتى صباح أمس. بل لقد استطعنا - أكرم وأنا - أن نجدَ فيها أشياءَ مهمّةً أو مسلّيةً مثل بعض الشتائم المبتكرة (الجديدة، غير المألوف) التي لم نكن قد سمعنا بها في شارع "الاستقلال" أو في مدرسة "الوحدة". لذلك انتهزتُ فرصةَ انشغالِ المعلّم ومِلْتُ على أذن "أكرم" هامسًا:

- هل تسأله؟

فأجاب بصوت خفيض:


*175*

- لا، يمكن عصبي!؟

كنتُ أشعُرُ بنفس الشعور، فمن الحكمة التحرك بحذر في هذا المكان الذي لا يزال كالمجهول بالنسبة لنا، وربما ليس مأمونًا توجيه الأسئلة إلى معلم لم تَرَهُ من قبل. ولكنّني كنتُ أعيشُ معاناةً حقيقيّةً بلغَتْ أحيانًا حدّ التعاسة. معاناة مركّبة كادت طفولتي الهشّة (اللينة، الرخوة) تنهار تحت وطأة (شدة، الضغط الشديد) انفعالاتها العنيفة، فأولاً تلك المحاولات المرهفة (الرقيقة، الحساسة) والفاشلة لتصوّر العالم، وثانيًا ذلك الشعورُ بالمهانة أمام ادّعاءٍ قذرٍ كنتُ على يقينٍ تامّ من بُطلانه دون أنْ أستطيعَ شخصيًا دحضَهُ (إبطاله، إلغاءه)، وأخيرًا ذلك الإحساسُ بالابتعادِ والشَناءةِ (البغض الشديد) تجاهَ "أكرم" الّذي أخذ يتسرّبُ إلى نَفْسي مُنذ مساءِ البارحة.

كان عالمنا مشتركًا، يكاد يكون واحدًا، ذات البيت، وذات السِّنّ، ولم تكن لعبة أو مشاجرة إلاّ ونحن معًا طرفها أو طرفاها، وشُهرتنا في العضّ وابتكار الألعاب وصلت آخر الشارع. ولم يكن هناك وضع للمكان أو الزمان أو الرفقة، عجزنا عن اختراع لعبة تلائمه. في الليل وحينما نكون وحيدَيْن معًا على سطح المنزل أو أسفل السلّم كنا نتحدَّثُ عن المستقبل، الذي كان دائمًا على بُعد ساعة يوم عنا على أكثر تقدير، وفجأة وبدون سابق إنذار يقول أحدنا:

- أنا فنجان!

فيجيب الآخر على الفور:


*176*

- أنا إبريق!

- أنا طنجرة!

- أنا برميل!

... وهكذا إلى أن يعجز أحدنا عن الاستمرار في مباراة التفوّق هذه.

ومع الوقت أصبح لنا سلاسل مؤلّفة من كل الأنواع، تشمل مملكة النبات والحيوان والجماد حولنا، وكان لكل سلسلة بداية دون أن يكون لها نهاية، فالبحث مستمرّ من الجانبين والمفاجآت تترى (متتابعة، متلاحقة) كل يوم، والسلسلة التي تقف اليوم عند التوتة تقف غدًا عند الجمّيزة، والتي يختمها اليوم الجمل يختمها غدًا الفيل. وكانت السلاسلُ تمتدُّ وتمتدُّ وتنمو كالزواحف مع كل اكتشاف جديد لأحدنا. ما عدا سلسلة واحدة.

كانت تلك سلسلة مغلقة باعتراف الإثنين، ذلك أنها كانت تنتهي بحيفا. ولمّا كان من المستحيل أن يكون هناك بلد أكبر من حيفا فقد أُهمل البحثُ في مجالها.

ولكنَّ ذلك لم يكن يعني أبدًا توقفها عن النمو، فقد كانت هذه السلسلة مُركَّبة من خصوصيّاتنا، تبدأ بالبيت الّذي نسكنه وتجوب حيفا مرورًا بجامع "الحُرّية" فجامع "الاستقلال" فمركز البوليس، فالحسبة، فالشوارع المختلفة، وتنتهي بذلك الاسم العظيم، حيفا! وهذه الأشياء كانت كلّها تحت مراقبتنا المستمرة وكنا نراها تنمو على فترات متفاوتة ولكن باستمرار. حتّى بيتنا الذي كنا نسكنه أكملوا فيه بناء الطابق الثاني بعد أن كان أكثر من نصفه مجرَّد ساحة واسعة على سطح الطابق الأول. كان في هذه السلسلة حيويّة داخليّة تشبه الحيوية الّتي في داخلنا نحن، نحسّ بها دون أن نتتبّعها. ولكن ليس هذا كلَّ ما في الأمر. فالمكانة الخاصة لها في


*177*

نفوسنا كانت أيضًا في نموّ دائم. وعلى ما يبدو، فإنه لم يكن يمرّ يوم واحد دون أن نحبَّ حيفا أكثر، ودون أن نحسّ بذلك أيضًا. ولهذا لم يكن واردًا قط أن نلعب لعبة التفوّق هذه دون أن نبدأها أو نُنهيها بالسلسلة الحيفاوية. وحينما كنا نفعل يبدو الانفعال البهيج واضحًا في صوت الواحد منّا وعينيه، حينما يقول وهو يشدّ رأسَه إلى الأعلى رغمًا عنه:

- حيفا!

وتنغلق السلسلة، وينتظر الثاني دوره ليقول حيفا في المرّة القادمة.

ومساء البارحة، كنت أنا الذي أغلقتُ السلسلةَ. أحسستُ بحلاوة الموقف قبل أن أصل إليه، وشعرتُ بالبهجة تنمو في نفسي مع كل اسم على الطريق إلى الغاية. وأخيرًا شَدَدْتُ قامتي رغمًا عني وقلتُ بذات الانفعال اللذيذ:

- حيفا!

- العالم!

لم يشدّ رأسه إلى الأعلى. ولم يقلها بلهفة وتفاخر كما يفعل الواحد منا عادةً حينما يكتشف حلقةً جديدةً. وقُلتُ باستهجان خالٍ من الغضب:

- ما هذا؟

فقد كنت واثقًا أن ما قاله ليس إلاّ نوعًا من العبث على حساب دَوْري، ولم يخطر ببالي أنه يعني أنَّ العالم أكبر من حيفا حقًا. ولكنه قال بخيبة أمل واضحة:


*178*

- العالم أكبر من حيفا!

- مجنون!!

- أخي "سليمان" قال ذلك البارحة.

- هل تصدّقه!

- إنه في الصف الخامس!

قلت باحتقار لأخيه وللعالم معًا:

- ما هو العالم؟

- بلدٌ!

- أين هو؟

- بعيد جدًا.

- هل ذهب إليه؟

- كلا، ولكنه يعرف.

لم أشكّ للحظة في أنه يكون الأمر ممكنًا أو صحيحًا، ومع ذلك تملّكني ذلك الشعور بالمهانة لمجرد أنْ يفكّرَ أحدٌ في أنَّ هناك بلدًا أكبر من حيفا:


*179*

- أخوك وسخ!

- لا تشتمه! سأشتم أخاك أنا أيضًا.

- لا تلعب معي!

- وأنت أيضًا!

ولكننا ظَلَلْنا واقِفَيْن مطأطِئَي الرؤوس لفترة طويلة، وأخيرًا تغلَّبْتُ على كبريائي وقلتُ:

- تعال نسأل!

- من؟

- أخي.

- إنه في الصف الخامس أيضًا.

كان خائفًا مثلي هو الآخر. وقلت باستسلام مريح.

- صحيح!

وقال بتردّدٍ:

- نسأل المعلم غدًا.

- أي معلم؟!


*180*

- واحدٌ منهم. أي واحد.

- من يسأله؟

لم نجب على السؤال. كان الأمر مخيفًا من أكثر من جانب واحد… السؤال، المعلم نفسه، الحقيقة..

كان المعلم واقفًا عند اللوح تمامًا وقد أمسك طبشورة في يده وهو ينظر إلينا وكأنه يقول: "انتبهوا"...

أدار ظهره ليكتب، وقلت مرّة أخرى:

- اسأله!

- لا.

وكتب المعلم في صدر اللوح بخط كبير: "دين"، ثم وضع الطبشورة من يده، ونفخ على أطراف أصابعه وقال وهو يبتعد عن اللوح إلى ناحيتنا:

- من خلق العالم!

نظرت إلى "أكرم" وقد اتسعت عيناي من الرعب واللهفة، وبدأ قلبي يدقّ بعنف مبالغ فيه.

حاول "أكرم" أن يقول شيئًا فلم يستطع، وبلع ريقه بصعوبة واضحة.

- نعم. ألله! كلكم تعرفون ذلك بالطبع، ولكن ليس هذا هو المهم الآن.


*181*

- انتبهوا للسؤال التالي: في كم خلق الله العالم؟

خيّم الصمت، وجالت (دار، طاف) نظرات المعلم تستعرض الوجوه، ولكن أحدًا لم يكن ليعرف. ألله خلق العالم لأنه هو فقط الذي يخلق. هو الذي خلق الناس أيضًا. خلق الأرض والبحر والشوارع والأولاد والقطط، وخلق العالم بالإضافة إلى ذلك. ولكن متى، وكيف، وكم استغرقه ذلك، فهذا شيءٌ لم نكن نعرفه أبدًا.

وقال المعلم بتأنّ (تمهل، ترفق) واستعلاء:

- خلق الله العالم في ستّة أيام!

ستّة أيام!… شعرت بخفّة مفاجئة لا تُحتمل، واستولى عليّ شعور طاغٍ (جارف (ظالم)) بالبهجة يدفعني دفعًا إلى عمل طائش. أردت أن أقفز، أن أصفّق وأصرخ صرخة الانتصار المعهودة "هووو..". ولم ينقذني من ذلك سوى إحساس بالرثاء (رقة، شفقة) الشديد للعالم وتلك البلاهة (الغباء، ضعف الرأي) الجامدة التي ظلت مستولية على وجه أكرم، ولكزته (ضربه بجمع كفه) بكوعي لكزةً لا بدّ أنها آلمته.

- رأيت!!

ونظر إليّ عابسًا وليس في وجهه علامة واحدة على الفهم. وشعرت بشيء من الغضب عليه ومن أجله:


*182*

- خلق الله العالم في ستّة أيام. ألم تسمع! وقال باستغراب أبله وهو يخفي فمه بكمّه:

- سمعت. سيرانا المعلم!

ولم يكن يهمّني أن يرانا المعلم، وقد زاد غباء "أكرم" من حدّة انفعالي، فقلت وأنا أحاول عبثًا خفض صوتي.

- يا حمار. إذا كان الله قد خلق العالم في ستّة أيام، فإن "وادي النسناس" وحده أكبر من العالم.

وقال باهتمام:

- لماذا؟

قلت بنفس الحماس الأرعن (أحمق، أهوج)، وبنفس الشعور المتزايد من الرثاء للعالم وله:

- كم بيتًا يستطيع الله أن يخلق في اليوم؟

وقال بلهجة قاطعة، ولا أدري لماذا:

- عشرة!

ولم تهمّني مبالغته، وقلت بلهجة المنتصر:


*183*

- كم عشرة بيوت في "وادي النسناس"؟

- ستة فقط!

وبدأ يحسب على ما يبدو، ولكن الأمر لم يطل به، فقال باستسلام:

- أكثر!

فصمت:

- إذن من أكبر! العالم أم "وادي النسناس"؟

- وادي ال...

وصرخ المعلم:

- تعالا إليّ!!

كان غاضبًا حقًا. وحينما اقتربنا منه ونحن نرتجف صرخ بي:

- في كم يوم خلق الله العالم؟

فقلت في عجلة:

- في ستّة أيام.


*184*

واستدار إلى "أكرم" بسرعة، وكأنه يريد أن يفاجئه:

- ماذا فعل في اليوم السابع؟

وحينما لم يسمع جوابًا، تقدّم نحوه ببطء مرعب وقد زاد عبوسه إلى الضِّعف. وضع "أكرم" ذراعيه أمام وجهه وقال بلهجة باكية:

- كان يقول لي أن العالم أصغر من "وادي النسناس".

وتوقّف المعلم فجأة، ونظر إليّ باهتمام، ثم قال بهدوء ينذر بوضوح بالعاصفة المقبلة:

- تنكّت! وفي درس الدين!

ولم أفهم بالطبع أين مجال التنكيت في ما قلت. وشعرت بخوف شديد لهذا الادّعاء الغامض من جانب المعلم، ولشدّة عبوسه وانفعاله. واتخذت وضع أكرم أمامه منذ لحظات وقلت بأمل غامض:

- والله العظيم إنه يكذب. قلت إن حيفا أكبر من العالم.

وبدا على المعلم شيء من التفكير والاستغراب:

- إذن فأنت أبله أيضًا وليس مشاغبًا فقط. اقترب!

وازددت ابتعادًا، فاقترب منّي، وتراجعت حتى التصقت بالحائط:


*185*

- من أكبر، أنت أم إصبعك؟

قلت وأنا أرتجف:

- أنا.

- من أكبر، الباب أم الغرفة؟

- الغرفة.

- كيف تكون حيفا إذن أكبر من العالم، وهي قرية صغيرة فيه، مثل هذه الغرفة التي أنت فيها الآن أيها الفأر الصغير!

وضحك الأولاد. وشعرت بفهم مؤلم يجوس (يحوم، يتردد جيئة وذهابا) داخلي كما تجوس السكين، وبتغيّر مفاجئ في إحساسي بنفسي وبالأشياء. كل شيءٍ صار أكبر مما هو بالنسبة لي، وبدأت أبكي:

- تبكي أيضًا! إذا لم تكن فأرًا فأنت صرصور حتمًا، لأنك أبله ومزعج كالصراصير.

وظللت أبكي إلى أن فقدت المقدرة على التوقف، وعبثًا حاول المعلم إسكاتي. وبعد انتهاء الحصة حاول بعض الطلاب تعزيتي، فشتموا المعلم شتمًا عنيفًا دون أن يعرفوا لماذا كنت أبكي!


*186*

أحمد حسين (...)

كاتب وشاعر. ولد في حيفا عام 1939، ودرس فيها قبل أن يدرس في أم الفحم ثم في الناصرة.

هو شقيق الشاعر الفلسطيني "راشد حسين". عمل مدرسا. له دواوين شعرية، ومجموعات قصصية.

مقاربات وتلميحات

- تصوير المدرسة بصورةِ سيئةٍ.

- الحوار في القصة.

- دور الراوي.

- دمج اللغة الفلسطينية المحكيّة بالفصيحةِ.

- علاقة الكاتب بحيفا.

- شخصيات القصة.

- الواقعية في القصة.

- الغرض من تعدد أسماءِ الأماكن.


*187*

أسئلة وأعمال

1. يصور الكاتب المدرسة بصورةٍ سلبية. بين مظهرين من مظاهر هذهِ السلبية.

2. ما دور الرّاوي في أحداثِ القصة؟ وضح.

3. عدد شخصيات القصة وبين طبيعة دور كلٍّ منها.

4. لماذا اعتبر الراوي مدينة حيفا بالذات أكبر من العالم بأسره؟

5. ما مظاهرُ الواقعيّة في القصّةِ؟

6. عين موضعين يظهرُ فيهما دمج العامية الفلسطينية بالفصيحة.

7. دلل على بساطة اللغة في القصة.

8. ما طبيعة الحوار في القصة؟ وما هي الغايةُ منه؟

9. ما دلالة عنوان القصة؟


*188*

إميل حبيبي (مراجع مساعدة: قاسم، نادر. تجربة إميل حبيبي القصصية والروائية حتى عام 1991. الخليل: مكتب وزارة الثقافة، 2000؛ العافية، محمد. الخطاب الروائي عند إميل حبيبي. الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، 1997؛ محمود، حسني. إميل حبيبي والقصة القصيرة. الزرقاء: الوكالة العربية للتوزيع والنشر، 1984)

بوابة مندلباوم (تقع بوابة مندلباوم بالقرب من "جمعية الشبان المسيحية" YMCA في القدس الشرقية، وقد كانت نقطة العبور الوحيدة بين القدس الشرقية التي كانت في الجانب الأردني وبين القدس الغربية التي كانت في الجانب الإسرائيلي منذ عام 1948، وحتى حرب حزيران 1967، وكانت هذه البوابة ممرا لموظفي الأمم المتحدة والدبلوماسيين ورجال الدين، كما كانت تفتح مرة في السنة، في عيد الميلاد، للمسيحيين من سكان إسرائيل، لزيارة ذويهم في مخيمات اللاجئين في الأردن والاحتفال بعيد الميلاد في بيت لحم. بعد حرب حزيران 1967، وبعد احتلال إسرائيل للقدس الشرقية، تم ازالة بوابة مندلبوم. شاع ذكر هذه البوابة في الأدب الفلسطيني المكتوب في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، وبقيت علامة تاريخية فارقة في الواقع والأدب)

في هذه البلاد المقدسة..

"بل قل يا سيدي، إنها تنوي الخروج من هنا".. صاح الشرطي الإسرائيلي الواقف، مكتوف اليدين، على بوابة مندلباوم، عندما أخبرته بأننا أتينا مع الوالدة التي "تنوي الدخول إلى هناك بعد أن أذِن لها بذلك"، وأشرت إلى الجهة الأردنية من البوابة.

كنّا في آخر الشتاء والشمس تطّل على الربيع.. وحيث أبقى الحطام ترابا تغطّى التراب بالخضرة، وعلى اليمين حطام وعلى اليسار حطام. وأطفال استرسلت (تدلى) شعورهم على سوالفهم كانوا يمرحون بين الحطام وبين الخضرة، يثيرون الدهشة في نفس الأطفال الذين جاؤوا معنا يودّعون جدتهم: "صبيان وذوو ضفائر؟! كيف يكون هذا”؟! وفي الوسط ساحة رحبة من الأسفلت المعفّر (المغطى بالتراب والغراب)، في قلب الناحية التي عرفناها باسم المصرارة. ولهذه الساحة بابان، باب "هنا" وباب "هناك" من الصفيح (رقائق من الحديد) المحشوّ بالحجارة والمطليّ بالكلس الأبيض. كل باب يتسّع لمرور سيارة "خارجة" أو "داخلة".

وأطلق الشرطي كلمة "الخروج" من بين أسنانه في غنّة (صوت يخرج من اللهاة والأنف، وهو صوت يستعمل في التجويد) أراد لها أن يلقّنني درسًا،


*189*

فالخروج، ويريد أن يقول: من الجنّة، هو الأمر الجلل (العظيم)، لا الدخول "إلى هناك"! وعسكري الجمارك لم يشأ أن تفوتنا العبرة. فقال لنا ونحن نتبادل قبلات الوداع مع الوالدة: "من يخرج من هنا لا يعود أبدا"!

وأحسب أن مثل هذه الأفكار كان يلاحق الوالدة في أيامها الأخيرة بيننا، فحين اجتمع الأهل والأصحاب في بيتها عشيّة السفر إلى القدس، قالت: "لقد عشت حتى رأيت المعزّين بي بأم عينيّ". وفي الصباح عندما نزلنا منحدر الزقاق إلى السيارة، التفتت وراءها ولوّحت بيدها لأشجار الزيتون ولشجرة المشمش الجافة ولعتبة الدّار، وتساءلت: "عشرين سنة عشت هنا، فكم من مرة طلعت هذا الزقاق ونزلته"!

ولما مرت بنا السيارة على المقابر، في ضاحية المدينة، هتفت تنادي الموتى من أقربائها ومن أقرانها وتودع قبورهم: "كيف لم يكن من حظي أن أدفن هنا؟ ومن سيضع الزهور على قبر ابنةِ إبني"؟

عندما "حجّت" إلى القدس في سنة 1940، قال لها عراف أنها ستموت في المدينة المقدس، فهل ستتحقق نبوءته في آخر الأمر؟

لقد بلغت الخامسة والسبعين من عمرها ولمّا تجرب ذلك الشعور الذي يقبض على حبة الكبد فيفتتها. ذلك الشعور الذي يخلّف فراغًا روحيًا وانقباضًا في الصدر، كتأنيب الضمير، شعور الحنين إلى الوطن. ولو سئلت عن معنى هذه الكلمة، "الوطن"، لاختلط الأمر عليها كما اختلطت أحرف هذه الكلمة عليها حينما التقتها في كتاب الصلاة: أهو البيت، إناء الغسيل وجرن (حجر منقور يدق فيه اللحم أو غيره) الكبّة الذي ورثته عن أمها.

(لقد ضحكوا عليها حينما أرادت أن تحمل معها في سفرها إناء الغسيل العتيق هذا،


*190*

وأما جرن الكبّة فلم تتجرأ على التفكير بحمله معها!)، أو هو نداء بائعة اللبن، في الصباح، على لبنها، أو رنين جرس بائع الكاز، أو سعال الزوج المصدور (مسلول. مصاب بداء السل في رئته)، وليالي زفاف أولادها، الذين خرجوا من هذه العتبة إلى بيت الزوجية واحدا وراء الآخر وتركوها لوحدها!

هذه العتبة، عتبة الدار التي تلقي عليها الآن آخر نظرة، لتنطق وتشهد! كم من مرة وقفت عليها تودع عرسانها وتغني لهم وهي تشرق بدموعها “جبتك من الهيش (التحرك، والهيج، والحلب الرويد) جلبوط (ذكر الإبل، والمعنى أنها ولدته صغيرا قليل الحيلة، ورعته، حتى إذا كبر تزوج وترك البيت فضاع تعبها سدى) ما عليك الريش. وعلمتك الزقزقة والطير والتعشيش. ومن بعد ما كبرت وصار عجناحك ريش. طرت وراح تعبي عليك بخشيش (بقشيش، عطية أو هبة مجانية، (عامية من أصل تركي)".

ولو قيل لها أن هذا كله هو "الوطن" لما زيدت فهما. ولكنها الآن، وهي تشرف على "الأرض الحرام"، وتنتظر الإشارة لها بالتقدم خطوة إلى أمام، تلتفت إلى ابنتها وتقول: "نفسي في جلسة أخرى على هذه العتبة"!

وأخوها الكهل، الذي جاء من القرية ليودعها، كان يهز رأسه باستمرار وعلى وجهه الألم والتعجب. هذا "الشيء" الغامض، الذي تنتحب أخته لأنها تخلفه وراءها ولا تستطيع أن تحمله معها. هو عزيز عليه وحبيب.

وقال له جارنا:

"ولكنك في نهاية الأمر ستوقع لهم على ورقة البيع، فالقانون معهم".

والتفت الشيخ القروي نحوي وقال:


*191*

- "اسمع يا خالي، كنا مرة نحرس المقتاة (أي المقثاة: الأرض، يزرع فيها وتنبت) أنا وأبي وأخي الأصغر. وإذا برف من الحجل يهبط على الحقل. فاستعجل أخي يحمل بندقية الصيد كأنه الرجل، فغشي (استسلم لضحك شديد) أبي من الضحك. هل تذكر كيف كان يضحك جدك، يا خالي؟ يا ولد صيد الحجل للرجال! ولكن صغيرنا كان عنيدا. فعاد إلينا بعد ساعة وفي يده، يا للعجب، طير من الحجل لا يزال على قيد الحياة. فذُهلنا. وأمّا العفريت الصغير فكان يرقص وهو يتباهى بصيده. وصاح أبي: ولكننا لم نسمع صوت الطلقة!

فأجاب الصياد الصغير: لقد سحرت البندقية بابا... وحلّفني بجدودي وبجدود جدودي ألا أفشي السر أمام والدنا، حتى أخبرني أنه رأى هذا الطير المسكين بين فكّي قط كبير، فظل يركض وراء القط من علّيقة (نبات شائك، يتعلق بالشجر أو بالثياب) إلى علّيقة وبين أعواد الذرة حتى خلّصه منه.. هيه، يا خالي، هل ينتظرون مني أن أوقّع على قسيمة بيع هذه الذكريات؟!.. وما أقصر باع قوانينهم!

إني أنصحك ألا تأتي بوابة مندلباوم وفي صحبتك أطفال، لا لأن البيوت المتهدمة والمقفرة هنا تستدرجهم للبحث في داخلها عن "المصباح المسحور" وعن "مغارة علاء الدين". ولا لأن الشعور المسترسلة على السوالف تضع في أفواههم أسئلة استفزازية قد توقعك في ورطة. بل لأن الشارع الذي يفضي إلى بوابة مندلباوم لا يخلو، ولو للحظة واحدة، من السيارات التي تقطعه، بسرعة أوروبية، إما قادمة "من هناك" وإما خارجة "من هنا"، وهي سيارات أمريكية أنيقة، وراكبوها من الناس الأنيقين، ذوي الياقات (جمع ياقة، ياقة القميص: طوقه، (القبة)) المنشاة (أي: التي نقعت في النشا ثم جففت، وكانت هذه العملية تبقي الياقة واقفة فتغني عن الكي، والنشا مسحوق ناعم يؤخذ من الأرز أو دقيق الذرة أو القمح أو البطاطا)، أو القمصان الملّونة، أو البزّات (جمع بزة، الثوب، اللباس) العسكرية التي خيطت لتصطبغ بقطرات الويسكي لا بقطرات الدّم.

هذه هي سيارات "رجال الهدنة" و "لجان المراقبة” و"هيئة الأمم" وسفراء الدول الغربية وقناصلها وحريمهم وطبّاخي حريمهم، و"باراتهم" وحِسانِهم، وحسان حِسانهم، تقف برهة على


*192*

"بابنا" ليتبادل سائقها التحية مع "شرطيّنا" من باب الذوق والتمدّن - ثم نقطع "الأرض الحرام"، حتى تقف برهة على "بابهم" ليتبادل سائقها التحية مع "شرطيّهم".

ومن باب الذوق والتمدن وتبادل علب السجائر والنكات وغيرها، تقوم هنا منافسة إسرائيلية أردنية، والعكس صحيح أيضًا.

وهؤلاء لا يسري عليهم قانون الموت: من خرج منها لا يعود إليها. ولا قانون الجنة: من دخلها لا يخرج منها. فحضرة المراقب يستطيع أن يتناول الطعام ظهرًا في فندق فيلاديلفيا ومساءً في فندق عدن، والابتسامة المهذبة لا تفارقه في الغدو والرواح (الذهاب والمجيء)!

ولما أخذت أختي تتوسل إلى الجندي الواقف على "بابِنا" أن يأذن لها بتشييع (توديع) والدتها حتى الباب الأردنيِّ، قال لها الجندي: "ممنوع يا سيدتي".

- "ولكنني أرى هؤلاء الأجانب يدخلون ويخرُجون كما لو كانوا في بيتهم وأعزَ"!

- "كل من عليها يا سيدتي يستطيع الدخول والخروج عبر هذين البابين، إلا أهل البلاد يا سيدتي المُحترمة"...

وقال الشرطي: "أرجوكم أن تبتعدوا عن الطريق، هذا طريق عام شديد الازدحام". وقطع كلامه ليتبادل معنا مع راكبي سيارة قادمة (هل هي "خارجة" أم "داخلة") حديثا ضحكوا له وضحك لهم. وأما نحن فلم نفهم النكتة..

وقال عسكري الجمارك: "لكل شيءٍ نهاية حتى لساعة الوداع".

وخرجت من "بابنا" نحو "بابهم" امرأة عجوز تدب على عصاها، وأخذت تقطع "الأرض


*193*

الحرام"، وهي تلتفت وراءَها بين اللحظة والأخرى وتلوح بيدها وتسير إلى أمام. لماذا الآن، والآن بالضبط، تتذكر ابنها الذي مات قبل ثلاثين عاما، حين سقط بين يديها من فوق "المتختة"؟ ولماذا تشعر الآن، والآن بالضبط، بتأنيبِ الضميرِ؟!

وبرز من بين الحطام، من الناحية المقابلة، عسكري فارع الطول على رأسه كوفية وعقال، استقبل المرأة، العجوز، "الداخلة". ووقف يتحدث معها، وكانا ينظران إلى ناحيتنا.

وكنا هنا، مع أطفالنا، نلوح بأيدينا. وقد وقف أمامنا جندي فارع الطول حاسر (مكشوف الرأس) الرأس، وهو يتحدث معنا. وكنا ننظر إلى ناحيتهم. وكان يقول لنا إنه من المستحيل التقدم خطوة أخرى إلى أمام.

- ولماذا؟

قال لنا:

- "كأنّما هي قد قطعت الآن وادي الموت الذي لا رجعة منه. هذا هو واقع الحرب والحدود وبوابة مندلباوم. أرجوكم، أفسحوا مكانا لمرور سيارة الأمم المتحدَةِ"!

وفجأة انفلت من بيننا جسم صغير ينبض بالحياة، ككرة قذفتها قدم لاعب ماهر صوب هدف الفريق الآخر، وراح هذا الشيء الصغير يركض إلى أمامٍ، مخترِقًا ساحة "الأراضِ الحرام". ورأينا، والدهشة تعقد (تسكتها، انعقد لسانه: عجز عن الكلام) ألسنتنا، طفلتي الصغيرة تركض نحو جدتها وهي تنادي "تيتا، تيتا". ها هي تخترق "الأرض الحرام"، ها هي تصل إلى جدتها، وتأخذها بين أحضانِها!

ومن بعيد رأينا صاحب الكوفية والعقال يخفض رأسه نحو الأرض. وأنا نظري حاد، فرأيته


*194*

يفحص الأرض بقدمه. والجندي الحاسر الرأس، الذي كان معنا، ها هو أيضا يخفض رأسه نحو الأرض وها هو يفحص الأرض! وأما الشرطي الذي كان واقفا، مكتوف اليدين على باب مكتبه، فقد دخل إلى مكتبه. وأما عسكري الجمارك فقد كان مشغولا بتفتيش جيوبه عن شيء يظهر أنه افتقده فجأة.

أي أمر عجب حدث الآن؟ طفلة تقطع "وادي الموت الذي لا رجعة منه" وترجع منه وقد نقضت "واقع الحرب والحدود وبوابة مندلباوم".

فهي طفلة جاهلة لا تدرك الفرق بين العسكري الذي يلبس الكوفية والعقال والعسكري الحاسر الرأس. يا لها من طفلة ساذجة، رأت أنها لم تنتقل عبر البحور إلى بلاد أخرى، فتوهمت أنها لا تزال في بلادها. فلماذا لا تسرح ولا تمرح في بلادها؟ ورأت أنه على جانب يقف والدها وعلى الجانب الآخر تقف جدتها، فلماذا لا تسرح ولا تمرح بينهما كما كانت تفعل كل يوم؟ خصوصا وأنها ترى سيارات تروح وتجيء على "الأرض الحرام"، تماما كما تفعل السيارات على الشارع قرب بيتها. هنا يتكلمون العبرية وهناك يتكلمون العربية. وهي أيضا تتكلم اللغتين: مع نينا ومع سوسو!

ويظهر أن عسكري الجمارك يئس من التفتيش عن "الشيء المفقود" (لكل شيء نهاية حتى للورطة..) فقد توقف عن هذه العملية المضنية (المرهقة، المتعبة) فجأة كما ابتدأَهَا. ثم تنحنح. ثم قال للجندي كأنما يبادله العزاء: "طفلة جاهلة"..

- "أرجوكم، أيها السادة، أن تبتعدوا عن الطريق لئلا يسقط طفل من أطفالكم بين عجلات السيارات التي تمر من هنا بسرعة، كما ترون".


*195*

أفهمت لماذا نصحتك ألا تأتي بوابة مندلباوم وفي صحبتك أطفال؟ إن منطقهم بسيط غير مركب. ما أسلمه!

آذار 1954

إميل حبيبي (ت. 1996 م)

أديب وصحفي وسياسي فلسطيني. ولد في حيفا وعاش طفولته فيها، ثم انتقل إلى الناصرة وعاش فيها حتى وفاته. كان أحد ممثلي الحزب الشيوعي الإسرائيلي في البرلمان. رأس تحرير صحيفة الاتحاد.

من آثاره: سداسية الأيام الستة، ولُكَع بن لُكع، والمتشائل، وغيرها.

ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات: الإنجليزية والفرنسية والألمانية والعبرية.

مقاربات وتلميحات

- قضية شتات الشعب الفلسطينيِّ بسبب الاحتلال.

- الشجر والحجر أجزاء من الوطن.

- تماهي الذكريات مع الوطنِ كإحدى سمات الأدب الفلسطينيِّ.

- سبب رحيل الألم.

- المفارقة في حرّيةِ التنقل لدى الغرباءِ وفي حرمان المحليين منها.

- دورُ الراوي في القصّةِ.


*196*

أسئلة وأعمال

1. ما غاية استهلال القصة بشخصيةِ الشّرطي الإسرائيلي؟ وما علاقة هذه الشّخصية بالفكرةِ منَ القصّةِ؟

2. ما هيَ الفكرة من القصة؟ وما علاقتُها باهتماماتِ الكاتبِ؟

3. بين ثلاث صور أو مواقف تبرز النزعةَ الإنسانيّةَ العاطفية للقصّةِ.

4. بين أهمّية تماهي الذّكريات (الذاكرة) مع الوطنِ كإحدى سماتِ الأدبِ الفلسطينيِّ، على ضوءِ القصّةِ.

5. عدد شخصيّاتِ القصّةِ محدّدا دورَ كلٍّ منها في فنية النص.

6. ما مفهوم الوطن لدى الأمِّ؟

7. ما سببُ رحيلِ الأمِّ؟

8. ما نوع الرّاوي في القصّةِ؟

9. ما المفارقة التي يذكرُها الكاتب حول مدى حرّيّةِ التنقل لدى كلٍّ منَ الفلسطينيينَ المحلّيين والموظفينَ الأجانب؟

10. ما الدّلالة الرّمزية التي تحملُها بوابة مندلباوم؟


*197*

زكي درويش (مراجع للتوسع: القاسم، نبيه. "الرجل الذي قتل العالم لزكي درويش". دراسات في القصة المحلية. عكا: مؤسسة الأسوار، 1979).

زهور بيضاء بلون الثلج

في أيامه الأخيرة - وقد بدت له طويلة - كان يُعاني من ضعف في الذاكرة. وحيدا كان يحاول أن يتذكر، الأصح أنة كان يحاول أن لا ينسى الأمور التي يجب عليه إنجازُها قبل النوم (هل أطفأت الأنوار في جميع الحجرات؟). كان المنزل يحتوي على حجرات تفوق احتياج الرجل الوحيد، إلى جانب مشكلة التنظيف والترتيب، فهو لا يحتمل فكرة إدخال امرأة لتقوم بهذه الأعمال. (وصنبور (حنفية، أداة تثبت في انبوب الماء ونحوه وتكون قابلة للفتح والغلق تسمح بمرور السائل أو الغاز) الغاز ومفاتيح الفرن، هل أقفلت تمامًا؟).

حدَثَ مرّةً أن نسيَ أحدَ مفاتيح الفرن مفتوحًا، ولحسن الحظ كان أصغرها، فتسرب الغاز، وبفضل حاسة الشم التي لم تتأثر كثيرا بالشيخوخة نجا من الموت اختناقا أو احتراقًا! (تُرى أيهما أصعبُ؟)

يبدو أن فكرة الموتِ اختناقًا أقلُّ رعبًا، حيث يدخُلُ المرء مرحلة الإغماءِ وفقدان الإحساس بالألم قبل أن يسلم السماءَ روحَه. أما الاحتراق فمجرد التفكير فيه يرسم صورة يوح القيامة، عذاب جهنم الذي ليس له نهاية، فهو احتراق يتلوه احتراق!! (هل أقفلت جميع النوافذ؟). تبدو في الأفق غيوم تزحف من الشمال الغربي - حيث يسكن المطر عادة - بطيئة ولكنّها ستصلُ، تعِدُ بمطر مدرارٍ (غزير، كثير). وهناك رائحة الأرض الّتي لا يمكن أن يخطئها. الأرض المنفتحة لاستقبالِ الماءِ، ورائحة أزهار الكولونيا الّتي تزداد حِدّة كلّما ازدادت الرّطوبة! (والغسيلُ المنشور على الحبلِ لا بدّ من إدخالِه قبل وصول المطرِ).


*198*

آخرَ مرةِ كانَ المطر أقوى منه، تدفعه ريح باردة، فابتلت الملابس المنشورة على الحَبْلِ وأصيب هو بنزلةِ برد ألزمته الفراش أيّامًا، وكانت فكرة البلل تؤرقه دائما، يخاف اليوم الذي سيضطر فيه إلى استعمالِ الحفاظات كي لا يبتل الفراش. سيعود في سنواتِه الأخيرةِ كما كانَ في سنواته الأولى طفلاً.

وحدث مرة أن أفاق من نومه فزعًا على بوادر البلل، ولكن قبل أن يتسرب إلى الفراش، فعانى من ذلك خجلا شديدا مع عليه أن هذا السر لن يصل إلى أحد غيره، فواظب على إفراغ مثانيه قبل أن يدخل الفراش، وتجنب تناول السوائل ساعاتٍ قبل النوم. على أن هذه الذاكرة تشتعل إذا كان الأمر يتعلق بأحد ابنيه، فهو يستطيع أن يذكر أدق التفاصيل عنهما. (هل صحيحٌ أننا عندما ننجب أطفالاً نكف عن كوننا "نحن" فنصير "هم"؟). ولد الأول في ليلة ماطرة، (قال الناس بعد ذلك عن شتاء ذلك العام أنّهم لم يشهدوا له مثيلاً، لكنهم كانوا قد قالوا ذلك عدَّةَ مرّاتٍ عن سنواتٍ سابقةٍ، ثم بعد ذلك عن سنواتٍ لاحقه). وولد الثاني في يوم قائظ (شديد الحر)، ورغم ذلك فقد كانا متشابهين في كل شيء. وكان هذا التّشابهُ يزداد كلّما تقدّما في السن، حتى يخبل للناظر إليهما أنّهما توأمان ولدا من بذرةٍ واحدةٍ. في تلك الليلةِ كان قد أعدَّ كلَّ شيءٍ على أكمل وجهٍ، بل خيل إليه أنه قد بالع قليلاً، لقد تذكر كل ما يحب ولداه وزوجتاهما، أعدَّ الطعام بيديه (وهي مقدرة يحق له أن يفاخر بها) ووضع مفارش جديدة على المائدةِ، بيضاءَ ناصعة) وملاعق وسكاكين وشوكا وكؤوسًا (كؤوسا بلورية ذات نقوش محفورةٍ) تستعمل لأول مرةٍ. كان الضوء يسقط من فوق المائدةِ على البلور فيرسم نجوما صغيرة تطير في فضاءِ الغرفة، مثل ملائكة صغيرةٍ أنيقةٍ تقل وتزيد حسب زاوية النظر، متجهةً دائما نحو السماء. تساءل (في نفسِهِ طبعًا) عن سر هذه المبالغةِ، الليلة يبلغ التاسعةَ والسّبعينَ، فما هو الغريب في هذا الرقم؟ تسع سنوات يغالب الوحدة، فتغلبه ويغلبها. منذ أن رحلت زوجته (قبل تسعِ سنوات) يبتكر عاداتٍ تجعل من الوحدة أمرًا مألوفًا، أو على الأقلِّ محتملاً، فلا يستطيعُ أن يسيرَ وفقَ برنامج محدد (ذلك أن التكرار يستدعي الملل).


*199*

لا مجال للشكوى! فقد عرض عليه كلُّ من ولديه أن يعيش مع أسرتِه، ورحبت الزوجتان، لكنه كان يدرك أن الأمر ليس بالسهولة التي يتصورونها، ويعرف معنى أن يدخل الحمام عدة مرات في النهار والليل، فيحتجزه لفترة طويلةٍ، ويعرف معنى أن ينام في أي وقت يشاءُ، والشيخوخة تفرض نظام يقظةٍ مختلف، والشخير، والسعال (الكحة، طرد الهواء بقوة من المزمار) الّذي لا يلتزم وقتا محدّدا، والّذي يتفاقم في سكون الليل، والوضوء وصلاة الفجر بصوتٍ مرتفعٍ، وما يتلوه من دعاء والناس نيام، ويعرف متعة أن يفرغ غازات بطنه بحرية دون أن يلتفت حوله. إن انتقاله سيفرض تحوّلات في سلوكِ الآخرين هم في غنى عنها، فبقدر ما لا يحب أن يحرجه الآخرون، يمتنع عن فعل ذلك لغيره، فاكتفى بالزّياراتِ المتبادلة المتكررة التي أخذت بالتباعد حتى اقتصرت على الأعياد والمناسبات (لديهم من الهموم ما يكفيهم، ومشاكل الأبناء أعرفها جيّدًا، كان الله في عونهم). أما ليلة ميلاده فهي شيءٌ مختلف، لا يجوز التخلف عنها. كانت في البدايةِ تمر بطريقةٍ متواضعةٍ، ولكن بعد أن انتقل الابنان صارت شيئا آخر. الواقع، لم يكن ممن يكترثون بهذه العادة في السابق، أيام كانت زوجته تجعل منها طقسا لا تتنازل عنه، فتُظهر فيه كل مزاياها، وتجمع كل خبرة السنين في ليلة واحدة. كان يتأفف في البدايةِ، لكن أخيرًا أقنع نفسه بأن ولديه كانا المقصوديْن أكثر بهذه الحفاوةِ، ولكنه ندم على هذا الاقتناع بعد أن رحلت.

دقت الساعة تمام السابعةِ. لأمر ما بدت له الدقات اليومَ مختلفةً، كأنها تخرج من أعماق بئرٍ سحيقةٍ، مبحوحةٍ، أطول من المعتاد، تترك كلُّ دقةِ صدًى يتداخل في الدقة التّاليةِ فيتكون من ذلك لحن حزين، متواصلٌ، مخنوقٌ، أجراس وناياتٌ. المفروض أن يحضروا في الثامنةِ، في تمام الثامنة، وهي عادة استطاع أن يغرسها في من حوله منذ الصغر، حتى إذا ما كبروا وجدوا فيها مزيةً يفتقر إليها أبناؤهم، فانضموا إلى الجيلِ الذي يشكو الجيلَ الّذي يتلوه، كما هي العادة دائمًا.

لم يشعر يومًا بالملل. لقد استطاعَ أن يعبىءَ ساعات النّهار والليل تماما، فليسَ هناك مكانٌ للشكوى. لم يتعلم عادة الجلوس في المقاهِي، (وهي كثيرة وتغص بالعاطلين منذ ساعات الصّباحِ)،


*200*

وهو لا يجيد لعب الورق ولا طاولة الزهر، ولا يحتمل سحب الدخان الأزرق المنبعث من السجائر والنراجيل، ولا يتخيل نفسه يشرب الشاي الثقيل والقهوة وسط الضجيج، فلتناول القهوةِ طقس خاص، وتناول الشاي له ساعات محددة. يقرأ صحف الصباح، ويحب الروايات ذات النزعة الفلسفيّة الّتي تبعثُ على التفكير، يتجنب الرّوايات التي تحكي عن الموت، يستمع إلى الاغنيات القديمة، ولا يتجول في أنحاء البيت إلا بكامل ثيابه، يحدث بالتلفون مع ولديه. كانت المحادثات في البداية تجري كل يوم، تطول وتتطرق إلى مواضيع مختلفة، لكنها أخدت بالتناقص والقصر، وانحصرت في السؤال عن أمور ملحة، صارت برقيات مختزلة تفتقر إلى الحرارةِ والدفءِ.

دقت السابعة والنصف. دقةً واحدةً... لم تكن طويلة، لأنها لم تمتزج بدقّةٍ أخرى تليها، بدَت له مثلَ علامةِ سؤالٍ في ذيل قصير، ثمّ تلاشتْ (ضعفت، وهنت) تمامًا، ورغمَ قصرها بدا الصمت بعدها أكثر وضوحًا. في ساعات الوحدة – وهي طويلة طويلة - لم يستطع أن يمنع نفسه من التفكير وإن كان يحاول جاهدا ما استطاع ألا يفعل ذلك - أصعب شيءٍ - كان يقول - أو أصعب الأمراض هو مرض الشيخوخة. كل شيءٍ يهون ألا أن تصير حياتك عبئا عليك وعلى الآخرين. ذلك أن الآخرين هم جحيم.

إن متاعب تربية الصغار لا شيء أمام عذاب العناية بالكبارِ، فمشاهدة الأجهزةِ الطبية من كراسي عجلات وعكازات بأربع أرجل كانت تبعث به إلى هاوية اليأس. لذلك كان يتجنَّب قدر المستطاع الزيارات الّتي تضعه أمام الضعف البشري في أشد صوره إيلامًا. اللهم أمتني واقفا، كان يقول.

ولأن اللون الأبيض كان يخفي معالمه، فقد استبدل الأغطية والمفارش في السرير باللون السماوي الأزرق، فقد قالت له حفيدته يوما، وقد دخلت إليه وهو مضطجع في السرير، إنّها لم تشاهده في الفراش لأن لون بشرته وشعره الأبيض يشكلان امتدادًا لونيًّا مع الفراش والمخدات، وتساءل في نفسه: هل كان لونه أبيض إلى هذا الحد؟ أم أن الضوء الخافت قد بلبل حفيدته؟ على


*201*

أي حال، لقد أصبح اللون الأبيض يثير فيه قلقا لم يستطع أن يحدد دوافعه بدقةٍ.

أخذت دقات الثامنةِ بالتوالي، وقبل أن تنتهي سمع صوت جرس الباب ممّا خفف حدة الحزن في دقات الساعةِ، أو أن الجرس شغله عن متابعة تداخل دقات الساعةِ. اتجه نحو الباب بخطواته البطيئة. كان حريصًا على ألّا يقومَ بحركة متسرعة تكلفه عثرة أو كسرًا محتملاً في مثل سنةِ. فتح الباب، كان بينه وبين القادم حاجز أبيض، باقة من الزّهور البيضاءِ الناصعة. ناوله القادم الزّهور واختفى. كانت هناك بطاقة صغيرة، وهي أيضا بيضاء اللون، وعليها سطر واحد مكتوب باللون الأزرق:

"آسف، لم نستطِع القدوم، كل عام وأنتَ بخير".

لم يكن الخط أنيقًا. كاتب السطر كتبه والبطاقة مثبتة بطرف الورقة الّتي تضم الزّهور. ليس هذا هو المهم، لعل المانع خير. فكر أن يتصل عن طريق التليفون، لكئ الدقة الثانية على الباب كانت أسرع منه. فتح الباب، تكرّر المشهد ثانيةَ كلمح البصر بدقةٍ غريبةِ، حتى قبل أن يضع باقة الزهور من يده. هناك ما يدعو إلى القلق! قال. ولأن جهاز التليفون كان في حجرة النوم، فقد وضع باقتي الزهور على السرير، أدار قرص التليفون عدّة مرات. لا جواب. لم يأت من الطرف الآخر إلا تعبير واحد: وصلتم إلى... فكر: لو كان الأمر بهذا السوء لما كان لديهم الوقت لإرسال الزهور، ثم انتبه إلى أن الزهور قد أرسلت من نفس المحلِّ!! بات من الواضح أنّهم لن يحضروا.

عليه الآن أن يفكر بطريقةٍ يقطع بها هذا الليل الّذي يبدو منذ البداية طويلا طويلا. أحسَّ بشيءٍ؛ هو خليط من الأسى والأسف، لكن ليش فيه شيء من الغضب. كان هناك فراغٌ يجول في رأسه. وقف أمام الطاولةِ، المائدة. اكتشف لأؤل مرة أنه يقف أمام جثث (كانت قبل قليل في منتهى الجمالِ). هناك فراخ محمرة، ميتة طبعًا.. وهناك أسماك مقليةٌ مرتبةٌ ترتيبًا جيّدًا. ذكّره ذلك كله بصفوف الموتى في أكياسهم البلاستيكيّةِ البيضاءِ أو السوداء أثناءَ الكوارثِ. (ساعتان


*202*

وأنا في بيت لا يحوي إلا الجثث) كان لديه إحساس أكيد بأن ما حدث هذه الليلة سيحدث في السنوات التّاليةِ. تذكر زوجته. كان في أشد الحاجة إليها. امتلأ رأسه بزحام الذكرياتِ بترتيب منطقي منظم أحسن تنظيم. شعر بالضعف – أعني الضعف الجسدي - كان الضعف يصعد من القدمين بطيئا بطيئا، لكنه يصعد باستمرار. كان يشعر بحاجه إلى الجلوس. اتجه إلى غرفة النوم. جلس القرفصاء على الفراش الأزرق السماوي، والذي بدا له آنذاك أكثر زرقة من كل يوم بتجاعيده الّتي تذكر بأمواج البحر تحت المصباح باهر الضوء. الضعف كان يصعد ببطءٍ، ولكنه حتما يصعد. نظر إلى الزّهور البيضاء بلون الثلج. كانت تتجه كلها نحو الضوء، مرتبة أنيقة حزينة باردة جدا. سحب واحدة. شمها، ليست بذات رائحةٍ. بدت له ميتة أو في طريقها نحو الموت. تناول واحدة أخرى. إلى جانب السرير كان هناك درج، فتحه، تناول لفة خيوط. كانت هي أيضًا بيضاءَ. تناول زهرةً ثالثةً وزهرةً رابعةً. أخذ يصل الزّهورَ الواحدةَ بالأخرى. انهمك في العمل. الضعف لم يصل إلى اليدين بعد. كان يستقر في الخوض، ولكنه يصعد. أنهى الباقة الأولى، بقي عليه نصف العمل. تناول زهرة من الباقة الثانية. وصل الضعف إلى أسفلِ الصدر. ألقى نظرة على الزهور. فزع. على السرير السماوي الأزرق كان يتشكل إكليل مستدير من الزهور البيضاء بلون الثلج. أصوات متداخلة غامضة تأتي من بعيد. أجراسٌ عميقة. خيل إليه أنّها تأتي من وراءِ جبالٍ شامخةٍ أو تهبط من سماءٍ عاليةٍ على أجنحةِ حمام أبيض. وضع آخر زهرة في الإكليل. نظر إلى الإكليل المكتمل. عمل متقن. وضع يديه على السرير خلف ظهره مستندا عليهما. كان متعبا، لا، بل هو الضعف قد وصل إلى أعلى الصدر ثم أخذ بالانحدار نحو الذراعين. توقف شيءٌ عن الحركةِ. أغمض عينيْه، شعر أنه يطير ويخترق شيئا أبيض لم يستطع تحديده تمامًا: هل كان ذلك ثلجًا؟ أم ريشًا؟ أم سحابًا رقيقًا محمولاً على أجنحةِ ريحٍ خفيفةٍ خفيفةٍ؟.


*203*

زكي درويش (...)

كاتب فلسطيني، ولد في قرية "البروة" الهجرة عام 1944، ويقيم اليوم في قرية "الجديدة"، وهو شقيق الشاعر المرحوم محمود درويش. يتميز أسلوبه بالواقعية. اهتم بالحديث عن قضيّةِ الشعب الفلسطيني وعن همومه الاجتماعية والإنسانية. صدرت له مجموعات قصصية عديدة، منها: "شتاء الغربة"، و"الرجل الذي قتل العالم"، وغيرهما.

مقاربات وتلميحات

- علاقة العنوان بنهاية القصة.

- وصف الرجل المسن.

- الموت كموتيف.

- المونولوج.

- طبيعة المكان.

- الحدث الداخلي.

- فكرة معاناة المسن نفسيًّا واجتماعيًّا وجسمانيًّا.

- دلالة فصل الشتاء ومظاهرة.


*204*

أسئلة وأعمال

1. ما عدد الشخصيات الظاهرة على مسرح الأحداثِ؟ وكيف يتفق ذلك مع طابع القصّةِ التأملي التفكريِّ؟

2. ما علاقة العنوان بنهاية القصّةِ؟

3. بين مواصفاتِ الرجل المسن: الشكلية والسلوكية.

4. بين جوانب معاناةِ الرجلِ في كلٍّ من الجانب النفسي، الاجتماعي والجسماني.

5. ما طبيعة المكانِ الذي تجري فيهِ الأحداثُ؟ وكيف يساهمُ في تصميمِ جو القصة "المغلق، الداخليِّ"؟

6. ما الغاية من اعتماد الكاتبِ على المونولوج؟ ولماذا يغيبُ الدّيالوجُ؟

7. يجسد الكاتب فكرةَ الموتِ من خلالِ تعابيرَ وصور عدةٍ، مثل لنماذجَ منها.

8. ما دلالة حضور فصلِ الشتاء ومظاهره في النّصِّ؟ وأي غاية يخدم هذا الحضورُ؟

9. هل تتعاطف، كقارىءٍ، مع الرجلِ المسن أم مع أبنائه؟ وهل تعذر الأبناءَ على عدم حضورهم في النهاية؟

10. اختر ثلاثة تعابير / ثلاث صور تساهم في سيادةِ جوِّ الكآبةِ في أجواءِ النص.


*205*

محمد علي طه (مراجع للتوسع: طه، إبراهيم. قص الأثر: تأصيل التجربة القصصية عند محمد علي طه. عكا: مؤسسة الأسوار، 2001؛ القاسم، نبيه. محمد علي طه مبدع راودته الكلمات وراودها. كفر قرع: دار الهدى، 2007)

النخلة المائلة

" اعلم أنّ الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام، الذي هو أول جسم إنساني تكون،وجعله أصلاً لوجود الأجسام الإنسانية، وفضلت من خميرة طينته فضلة (بقية من الشيء)، خلق منها النخلة، فهي أخت لآدم عليه السلام، وهي لنا عمّة، وسمّاها الشّرعُ عمَّةً ،وشبّهَها بالمؤمن، ولها أسرارٌ عجيبةٌ دون أسرار النّباتِ".

الفتوحات المكية - ابن عربي

وأخيرًا أعود إليك يا مبروكة بعد غياب طويل. غياب قسريٍّ (إجباري، مكروه). ملعون أبو الغياب وأبو الفراق. ما أمرّها! الشوق يقتلني.. وعلى كتفيَّ محنة أيوب. صبرت حتى عجز الصبر. اغتالوني وأنا أصب قهوة الصبح في الفنجان. قتلوني مرات عديدة. نهضت من بين جثث الموتى كما قام المسيح.

هي خطوات وسألقى جسدي المتعب على صدرك مثل محارب عائد من الوغى (الحرب) ليرتمي بين ذراعي أمه.. ذراعي زوجته!

قُبلاً سأقبّلك، لم يعرف الحب مثيلاً لها!

سوف تلسع جسدك حرارةُ أنفاسي المتقدَةُ. نارٌ مشتعلة منذ عقودٍ. حرقت جسدي وأضوته (أضعفه. ضوي: ضعف وهزل).


*206*

هل تحتاجين إلى لحظات أو دقائق لتتعرفي عليه؟ عليّ؟ على ما تبقى مني؟!

كانت الحرب سجالاً (لا غالب ولا مغلوب، تعادل القوة فيما بينهما). كرٌّ وفرٌّ (الهجوم والتراجع).

ذُقت حلاوةَ النّصرِ أكثر من مرّةٍ وطعمت (أكلت) حنظل (مر، علقم. الحنظل: نبت مفترش من الفصيلة القرعية فيها لب شديد المرارة) الهزائم مرات. وعلى الجَسَدِ يا مبروكة ندوب (جمع ندبة، أثر الجرح الباقي على الجلد) لا تحصى قد التأمت (التحم وبرأ). وفي الرُّوحِ ندوبٌ عميقةٌ ما زال ينكأها (قشرة قبل أن يشفى، نكأ الندبة: أعاد نبشها من جديد) الزمان صباح مساء!

هل ستتعرفين على شعري الأسود الطويل الذي كانت أمي تتمتع في تسريحه في أثناء زرقة الشمس؟

تركت أصابع الزمان على خصلاته بصماتٍ!

هنا مر الإبهام. وهنا رجّلته (سرحه) السبابة والإصبع الوسطى! وهنا حك الخنصر والبنصر جلدة الرأس!

كان الزمان يسيرُ..

وكنت أعدو..

ما قعدت يومًا وما عرفت القُعُود!


*207*

مستنشقًا هواء الفجر المضمَّخ (ملطخ) بعبير البرتقالة ساعة.. ومنتشِيًا ببرودة نسيم البحر المنعش الذي مسحت وجهه الأسمر وعنقه المتجعد مَشى!!

يقولون إن أيوب وصل إلى شاطئ البحر متحاملاً على جسده الواهي الناحل (رقيق، هزيل) المقروح (المجروح) وألقى جسمه فيه وغاص لحظات فخرج سليمًا معافى..

جسدًا شابًا قويًا يتنشف بالنور!

كان يحاول أن يستنشق الهواء بشراهةٍ لذيذة كأنه غيرُ مصدّق أن هذا الهواء له. هذا الهواء كله له.

يعرف.. رائحة النسيم الذي تربى عليه. يعني شذا الأرض!

الهواء فوق تراب "البيّاضة" بارد ومنعش في الصيف. ونسيم الصباح في "رباع الست" يذكر الفتى بعطر امرأة شابّةٍ تمرّ بجواره... يتضوع في الجو ويملأ الخياشيم (عروق في باطن الأنف) ويحرك الشهوات النائمة. وأما هواء "المراح" فيحمل رائحة الأنعام.. الأبقار والماعز والأغنام.

ويعد الخُطَى.

محمولاً على بساط من الشوق أعود إليك يا مبروكة. مرفوع الصدر. ذراعاي مثل جناحي نسرٍ.


*208*

أسمعك. يا هلا. يا هلا!

ويسيرُ.

نابشًا بليونة الفجر ذاكرته الغنية ليفتح خوخةً للذكريات النائمة في أعماقِها.

يتذكر أسماءَ مواقع الأرض. أسماءَ التلال والدّروب والشِّعابِ (الطرق) والسبل. سائلاً عن رائحة الهواء في هذه الهضبة في سويعات الصباح وعن نعومة النسيم فوق ذاك المنحنى.

قلب العاشق دليله.

من هنا!

يلفظها في سرّه مكويًة بالزّفير.

على هذا المنحنى كنا نعدو مثل الحملان ونطير مثل الفراشات الملونة. نتسابق وراء عصفور بني الذنب. نتسابق على ورده برية شذت بلونِها الليلكيِّ عن أترابها الحمراوات. نعدو من زهرة إلى زهرة وراء طزيز (نوع من الخنفساء، الجُعَل).. من شجيرة قندول تفتحت أزهارها الذهبية وتمايست مع شعاع الشمس تراقص النسيم وقد لف ذراعه حول خاصرتها إلى شجيرة بطم ضحكت أوراقها للنّهار وفاح عطرها في الفضاء. نتعثر بعودٍ يابس استراحَ على الأرض ملتاعًا (احترق من الشوق أو الهم) على الحياة.. بحجر خضبه التراب ولفعه العشب الطريُّ. ننهض ضاحكين. تسخر منا الفراشات. يصفق الطزيز.


*209*

يركض خطواتٍ. تتقافز الحشرات والهوام (الحشرات) والطيور مذعورة تصفق له أوراق العشب.يلهث. يتعب. يقف.

لقد كبرت يا يوسف العلي وكبر الزمان معك، ورسم على وجهك خطًا بل خطين. وبنى سُخامُ (سواد) التبغ في صدرك مداميك (جمع مدماك: صف من حجارة البناء) سوداء مثل الغربة.

ستون عامًا يربضون (وقع على، جثم) على كتفيك بما يحملون من الغربة والذل.. من الجوع والحرمان.. من المطاردة والرّحيل.. من التحدي والإحباطِ.. من الكفر والإيمان.. من الفشل والنجاح.. من الخطأ والصواب!!

ما ضلَّ صاحبك وما هوى!

يحفظ سفر الخروج عن ظهر قلب. رواه يوسف العلي للرفاق على سفوح جبل الشيخ. في الكهوف. في ليالي الشتاء القارس. يحكي عن آدم وحواء، عن قابيل وهابيل، القاتل والقتيل. الفردوس المفقود.

كان يروي السِّفْرَ واقِفًا.

وكان يحكي مستلقيًا والبندقية بجواره.


*210*

وكان ينام وهو يقول.. ويقول..

يقولون له : كفى يا يوسف العليّ! ألا تمل! ألا تضجر! إن كثرة الاستعمال للكلمة تقلل قيمتها وتفقدها جمالها!

ويردّ قائلاً: يقرأ المسلم سورة الفاتحة ثمانيَ وعشرين مرة في اليوم فهل فقدت السورة بلاغتها وجمالها؟!

يرتشف شايه الساخن مع رفاقه في الفجر وهو يحدثهم عن حلم قصير رآه في المنام.

حينما أسندت ظهري إلى مبروكة وأغمضت عيني في غفوةٍ لذيذةٍ سمعت وحيًا يقول: "وهزي إليك بجذع النخلة تساقط رُطباَ جَنِيًّا".

لماذا تضحكون؟

ليست معجزة!

مبروكة تعرفني. تحبني. تنتظرني.

أنا يوسف العليّ ذو الشعر الأسود الطويل والقميص المزركش. كنت أرقصُ حولَكِ مع أخوَتي السبعةِ.

نقفز ونغني.. ونرتمي عليك.

"مبروكة يا مبروكة

يا عين أمك وابوكِ!!"


*211*

تضحكون؟

لا يهمني. قولوا ما شئتم! أنا.. أجل أنا يوسف مبروكة! وهل في هذا عارٌ؟ لا عار إلا العار. والعار هو أن أنساها. لا أحلم بها! ألا أتغنى بها..

قادمًا في ليل الغربة الدامس (المظلم) ممتطيًا جوادًا أصيلا ً من الشوق. في الصدر عشقٌ، وفي الذاكرة حكايا.

كان أبي يسبح في لحظات الوَجد ويقول إنّ الله خلق النخيل في الجنة وفي دار الإسلام، ولم يختر فاكهة سوى التمر لتتغذَّى بها ستنا مريم حينما وضعت سيدنا عيسى عليه السلام. كانت شاهدة الميلاد ولباه وحليبَه!! والنخل ذات الأكمام. يا يوسف العليّ. ليس كل ولادة ولادة، وليست كل قابلةٍ قابلةً. كانت النخلة قابلة مريم ومن رطبها تَلَبّى وليدها!

"مبروكة يا مبروكة.

يا عين أمك وأبوك

بالدم زرعناك

وبالدمع سقيناك

وأجا الغربا سرقوك"

لو كنت معي يا أبي الآن!


*212*

لو تكحلت عيناك بنور الأرض الخضراءِ. بزهر القندول. بشقائق النّعمان. بورق الشجر الطالع مبتسمًا من البراعم.

لو مشيت على سجادة خضراء نسجها مبدع قدير وزركشها بالأقحوان والنرجس والبرقوق وعصا الراعي ولفة سيدي وإبرة ستي وعين البقرة وعرف الديك.. تهمس لك: يا هلا يا عليّ.

ولكنك رحت. مت.

ضيعني أبي صغيرًا وحملني الهم صغيرًا!

اسمعها.. اسمعها تناديني. صوتها الرخيم يقول لي: تعال. أنا ما زلت على العهد. الحارة والزقاق. البيت والمدرسة. الحاكورة والبئر. درب الملايات. السور والياسمينة المتعمشقة على حجارته العتيقة. البوابة وحذوة الفرس والخرزة الزرقاء. الخوخة. القنطرة..

"تعال.. تعال..

يا طيورًا طايره!

يا وحوشًا غابره!

سلمو لي عَ يوسف العليّ

وقولوا له:

تعال شوف مبروكة


*213*

كيف صايره!"

غير مصدق ما ترى عيناه.

لا يعي ما تسمع أذناه.

واقفًا مشدوهًا.

أين؟

يتمتم. يردد.

تخرج الكلمات من شفتيه الناشفتين.

أين؟ أين؟

البيوت. الزقاق. الناس. القنطرة. الخوخة. الياسمينة.

هل لجأوا معنا؟

هل انشقت الأرض وبلعتهم؟

أين آثار خطاي التي شاهدتها في أحلامي الورديّة؟

أين الأمل الضاحك؟


*214*

ماذا بقي من الوطن؟

أين عصافير الدوري التي كانت تقفز حولي في ساحة البيت؟

أين ساحة البيتِ؟

أين البيت؟

ويحدق بعينيه المتعبتين..

ويجد مبروكة.

الشاهد الوحيد.لا شيء سواها!

يعرفها. يسير إليها. يمشي. يهرول. يقفز.. يعدو.

وأخيرًا أعدو إليك يا مبروكة. يا عشيرة الطفولة. يا وفية. يا من حافظت على العهد!!

أتذكرينني؟ أتذكرين أترابي وأخوتي ونحن ندور حولك نرقص

ونغني. نلهو نرتمي على جذعك.

محدقًا في جذعها العتيق باحثًا عن بصمات أصابعِه وآثار قدميه


*215*

الصغيرتين حينما كان يتسلق عليها.

مبروكة الباسقة. ذات الجذع الطويل العالي.

مبروكة التي مات أبوه وهو يحكي عنها. لا تنبت مبروكة إلّا في بلاد المسلمين والجنة.

يعانقها.

تخزه أضلاعها الجافة.

ويتذكر فاطمة. فاطمة الحلوةِ. فاطمة الزهراء. بنت الجيران. كان يكتب لها الرسائل القصيرة ويدسها في جذع مبروكة لتأخذها حينما تأتي لتملأ جرتها من بئر الماءِ.

فاطمة اليانعة.. الخضراء.. جفت مثل عود يابس.

فاطمة التي دفنتها الطائرات في مخيم "عين الحلوة" تحت أنقاض البيوت الطينية.

باحثًا في جذع مبروكة عن فاطمة.

عن ورقةٍ.

هل هي رسالته الأخيرة أم جوابها؟

وفيما هو يبحث تنبه أن جذع النخلة مائلٌ. مائل كثيرًا. مبروكة منحنية.


*216*

مبروكة مائلة.

وتراجع خطواتٍ..

يا الله..

حتى أنت يا مبروكة؟

ما الذي حنى جذعك الباسق؟

الحنين؟

الغربة؟

الزمانُ؟

قولي لي يا مبروكة. قولي لي!!

أود أن أسمع صوتك الذي سمعته في اللّيالي المعكورةِ.

أنا يوسف العليّ.

أنا الفتى الذي كان يقفز حول جذعك الباسق ويتسلق عليك؟

ما الذي حناكِ؟


*217*

هل انحنيت لتصمدي أمام الريح؟ أم انحنيت لتشمي رائحة الأهل في الأرض؟

" مبروكة يا مبروكة

يا عين أمك وابوكِ

لومي مش ع الزمن

لومي ع اللي راحوا وهجروكِ"!!

آذار 1995

محمد علي طه (.....)

كاتب بارز من كتاب القصة القصيرةِ الفلسطينيّةِ المحلّيّةِ، وُلِدَ في قرية "ميعار" عام 1941. لجأَ مع أسرته إلى قرية "كابول" بعد هدم قريته. أنهى دراسته الابتدائية في كل من "كابول" و "كفر ياسيف"، وأنهى دراسته الجامعية في جامعةِ حيفا. انضمّ إلى العملِ السياسيِّ في صفوف الحزب الشيوعي. عمل مدرّسًا ومحرّرًا في جريدةِ "الاتحاد". له أعمالٌ قصصية ترجمت إلى لغاتٍ عدةٍ، إلى جانب كتاباته في أدب الأطفالِ.

من أعماله: "لكي تشرق الشمس"، و "عائد وحفيظة"، وغيرُهما.


*218*

مقاربات وتلميحات

- التناص.

- التأثر بالنص الدّيني.

- التأنيس.

- الريف الفلسطينيُّ.

- أسماءُ الأمكنة.

- الرّمزيةً.

- تجسيد الوطن في صورةِ امرأةٍ.

- الذاكرة كسمةٍ من سماتِ الأدبِ الفلسطينيِّ.

أسئلة وأعمال

1. تزخر القصة بالتناصِّ الشعبي، استخرج مثالاً على ذلك مبينًا التأثير الذي يُحدثهُ في النص.

2. يتأثر الكاتب بالنص الديني الإسلاميِّ والمسيحيِّ، مثل لكل منهما بمثالٍ.

3. كيف يستخدم الكاتب التأنيس في وصفِ النّخلة؟ وضح.

4. اقتبس من النص ألفاظًا تدلُّ على ملامح الرّيفِ الفلسطينيِّ.


*219*

5. ما أسماء الأمكنة المذكورة في النص؟ وما غاية ذكرها؟

6. بين مدى استناد النص، كنص ينتمي إلى الأدب الفلسطيني، إلى الذاكرةِ، والأهمّية المعنوية لذلك.

7. تعتبر القصة رمزيّة، وضح ذلكَ.

8. بين سمات اللغة الشاعريّةِ في القصةِ، مشيرًا إلى علاقتِها بواقعيّةِ الأحداثِ.

9. ما الّذي يربط بينَ القصةِ وبين النص الموازي (المقتبس عن ابن عربيّ)؟ هل يرمز النص الموازي إلى أمرٍ ذي علاقةٍ بالنّخلة ودلالاتِها الرمزيّةِ؟

10. يظهر الصبر ك "موتيفٍ لازمٍ" في القصةِ. بين أوجه هذا "الموتيفَ" والسياقاتِ الّتي ظهرَ بها.


*220*

سعيد حورانيّة (مصادر ومراجع لتوسع: ابن ذريل، عدنان. أدب القصة في سوريا. دمشق: دار الفن الحديث العالمي، 1967)

أخي رفيقٌ

كنت في العاشرة من عمري، حينما جاءتني أمي بثوب جديد رمادي فيه بقع سوداء، ولم يعجبني الثوب لأن جيبه كانت صغيرة، لا تتسع لبذر المشمش الذي ألعب فيه مع رفاقي بالحرام والحلال والزوج والفرد. وكنت واقفاً أمام الدرج أبكي بحرقة حينما جاء أخي رفيق يواسيني وكان شاباً في الخامسة عشرة، يعجبني فيه أناقته وبريق شعره، وكنت أقف ساعات أمام المرآة أحاول أن أقلده..

قال لي بصوت حنونٍ:

- هل تريد أن تذهب معي يا سعيد؟

فقلت بعناد:

- لا.

- طيب اذهب والبس حذاءك، فإني سأذهب أنا وابن عمك عدنان وصياح إلى البرية.

ثم التفت حوله بحذر:

- لا تقل لأخيك خيري، فإننا نريد أن نسبح..


*221*

وأحسست أصابعه تغرق في شعري، وتشده برفق.

- سأحملك على يدي اليمنى وأسبح بك.. هل أنت شجاع؟ ارفع رأسك دائمًا وأنا أحملك، وسترى كم السباحة هينة.

وأسرعت ألبس الصندل العتيق الّذي تقطعت أوصاله فإنَّ رجلي، كما تقول أمي، تهري الحديد. وفجأةً، سمعت صوت أمي:

- أين أنت ذاهب؟

- مع أخي رفيق.

- لا.. لن تذهب، إن أم تحسين الشيخة ستجيء اليوم، وهي تريد أن تراك.

- لا أريد أن أراها إني أكرهها.

فقطبت أمي جبينها وقالت بغضبٍ:

- اخرس... إنها عملت لك حجابًا لتقيك من نزيف الدم الذي يلح عليك.. إنها مبروكة.

فبصقت بشدة فصفعتني أمي وهي تتعوذ باللّه من هذا الجيل الذي هو أفجع، على حد تعبيرها وعند ذلك، قعدت على الأرض الوسخةِ بثوبي الجديدِ، وأنا أبكي وأفحص البلاط بقدمي.

ونظر إلي أخي نظرة عطفٍ، وهو يحمل بيده المؤونة، ثم قال بهمسٍ:

- اسكت.. سأحمل لك معي كثيرًا من القرعون (المشمش غير الناضج).


*222*

ثم خرج وأمي تراقبني حتى لا ألحقه.

وجاءت أم تحسين الشيخة، وكانت كامدة (جامدة الملامح، شاحبة الوجه) صفراء، تبدو كالشيطان، فربتت على كتفي برفق، وشعرت بالاشمئزاز عندما مرت على خدي بيدها الخشنة التي تشبه ليف الحمام، ثم رفعتني إلى حجرها وهي تتمتم ببضع كلمات غامضة، فاستولت علي الرهبة، وأخذت أتابع حركة يدها، وهي تمر بها على أعضاء جسدي وأنا أرتجف، وانتهت التكبيسة (نوع من الرقية، يجمع بين تدليك أعضاء المريض وتلاوة آيات من القرآن) بسلام، فهبطت وأنا أتنهد، ثم أخرجت من صدرها خرقة صغيرة مكومة، وقد ربط على جانبيها خيط أبيض ثخين فعلقته على صدري وهي تدمدم (تحدث صوتا مدويا) وتقول لأمّي:

- مبروك الحجاب يا أم رفيق.

- اللّه يبارك فيك يا أم تحسين، القهوة يا بنت!

فنظرت أم تحسين إلى الحجاب بطرف عينها، ثم قالت بصوت مبحوح:

- واللّه كلفني كثيرًا هذا الحجاب، لقد عذبني كثيرًا الملك الأحمر حتى استطعت تخليصه منه.

- كل ما تريدينه حاضرٌ يا أم تحسين.. ولو... كم أم تحسين عندنا؟!

وفي اللحظة التالية، عدوت نحو الباب، ثم غبت في زحام السوق، واجتمعت برفاق لي في الطريق وأخذنا طريقنا في البرية.. إلى بستان يدعى "البحصة"، وتسلقنا الدّكَّ (جسر خشبي)، ثم قفزنا واحدًا


*223*

واحدًا مجتازين النهر الصغير الّذي ينساب وراء الدّك، وانزلقت رجلي وأنا أقفز، فسقطت فيه، وتلطخ ثوبي الجديد بالوحل، وتصورت الضرب المبرح الذي سيستقبلني به أبي ولكن نظرات رفاقي الخبيثة جعلتني أرفع رأسي بكبرياء، وامتلأت جيوبنا بالقرعون عندما سمعت صوتاً هائلاً يصيح بنا؛ فركضنا مذعورين، وتركت الصندل على الأرض، ثم تسلقت الدك بسرعة، فعلق طرف ثوبي بحجر ناتئ فتمزق، ولكنني لم أبال به، بل ركضت نحو البيت، وأنا أتلفت، وعندما لم أجد أحدًا تنفست بارتياح، ونظرت إلى ثوبي ورجليَّ الحافيتين، فدق قلبي بعنفٍ، وفجأة سمعت صوتاً لصديق لي:

- سعيد.. سعيد!

- نعم.

- لقد مات أخوك.. رفيق.

فاندفعت أقول بغضبٍ:

- اخرس بدون علكٍ (بدون ثرثرة أو كلام زائد، والتعبير مستخدم كثيرا في العامية السورية) أمّا مزحة باردة.. منذ ساعة كان معي.

- واللّه مات.. اختنق في بركة "العرقسوس".. ألا تصدق؟

- من قال

؟

- كل الدنيا عرفت.. امتلأت البركة بأمة اللّه، وقد أخرجته الإطفائية.

تركته وسرت بسرعةٍ، وكانت نظرات الناس لي قد أيّدت الخبر وشعرت بشيءٍ غامض مجهولٍ يقبض على قلبي.. مات أخي.. ما معنى ماتَ؟


*224*

وكان الناس جميعهم ينظرون إليّ بعطف ورثاء، مما أثار في الارتباك المشوب بالزهو، وكنت أهم إذا ما رأيت رجلاً لا يحفل بي.. أمسكه من تلابيبه (جمع ثيابه عند صدرة وجره) وأقول له:

- أخي ماتَ، اختنق.. في بركة "العرقسوس".. واللّه مات، أخرجته الإطفائية.

وعندما اقتربت من البيت سمعت العويل، فدق قلبي واصفر وجهي وارتجفت ركبتايَ، ورأيت جمعًا كبيرًا من الأطفال حول البيت، فدفعتهم عني بعنف متكبر ثم دخلت المناحة.

كانت الدار غاصةً (مليئة) بالنساء، ورأيت أمي منفوشة الشعر، وأنفها يلمع في وجهها المليء الشمندريِّ (نسبة إلى نبات الشمندر الأحمر اللون)، وهي تلطم وجهها وتعول، بينما كانت أختي الكبرى تمسك منديلها الأبيض الصغير وتمسح به دموعها، وصرخات غريبة تتردد لم أفهم منها سوى أنها صرخة لوعة صادقة:

- يا ضيعة شبابك يا حبيبي! يا ليتني مت قبلك يا ابني، لتنطفئ عيوني ولا أراك كذا!

وحيثما تلفت لا أرى حولي سوى وجوه حمر وعيون دامعةٍ، وأكف تلطم الخدود، فوقفت كأنني غريب وحرت فيما أفعل وفي اللحظة التالية لمحتني أمي ممزق الملابس، غارقًا في الوحل، حافي القدمين، فأحسست بالذعر، ولكنها لما قربت مني اشتد بكاؤها، وهزتني بعنف ثم ضمتني وهي تقول، والدموع تقطع آهاتها:

- لقد مات أخوك يا حبيبي مات وذهب إلى الأبد.

وازدادت ضمتها عنفا وشراسة فرأيت الدموع تنساب من عيني بهدوء وشعرت بدوار لذيذٍ، وتمنيت أن أبقى على صدرها إلى الأبد.


*225*

وشعرت أمي ببكائي، فقالت بحنانٍ:

- لا تبكِ يا ولدي.. لا تبكي يا حبيبي..

ثم تركتني ودخلت إلى الصالون الكبير.

وغرقت في الجو حولي، فبكيت طويلاً دون أن أحس بشيءٍ من الحزن. بكيت لأنَّ أمي تبكي، ولأنَّ الجوَّ حولي كله صراخ وبكاء وعويلٌ، وكنت أذهبُ إلى باب البيت الكبير فأرى الأولادَ مجتمعينَ، فيرمقونَني بنظرةِ عطف وإكبار وتهيب، وهم يرون عيوني المحمرة ودموعي المنسابة، ولكنَّني لا أعبأ بهم، بل أقطب جبيني ثمَّ أصفق الباب في وجوههم.

وانتابني عطش شديدٌ، فذهبت إلى "الفيجة" (الحنفية (بالعامية السورية)، فرأيت منظرًا عجيباً، رأيْتُ إحدى قريباتي قد أمسكت بفنجانٍ فيه ماءٌ، وأخذت تصب قطرات في عينيها حتى تظهر كأنها تبكي حقاً، فلما رأتني نظرت إليَّ بذعر ثم هربت، فنظرت حولي بحذرٍ، ثم فعلت مثلها، ولم أكتف بذلك، بل بللت يدي بريقي، وصرت أفرك عينيَّ حتى احمرّتا تماماً، فرجعت مزهوًّا إلى المناحةِ. وسألت عن أمي فقالوا إنها في الصالون، وفي الصالون كانت تستقبلني رائحة نفاذة، ورأيت في الصّدر كومة بيضاء على السرير وقد انتفخ وسطها ونظرت إلى أبي الصّامت وأمي الباكيةِ وإخوتي المطرقينَ، ثم اقتربت بهدوءٍ، فرفعت اللحاف الناصع عن رأس الكومة، فبدا لي وجه أخي المرعب... كانت عيناه مغلقتين، ووجهه أصفر، وقد تلبد شعره الجميل، ولكنه كان لا يزال يبرق، وبرزت العروق من وراء بشرتِهِ الرقيقةِ، وفوق حاجبه الأيسرِ ضربة قد تجمد الدم فوقها، فأرجعت الغطاءَ وجلست وأنا مطرق.


*226*

قال أخي عادل:

- لو أنه نزل البركة من الناحية الثانية.. لم ينتق إلا أعمق الأمكنةِ.

فقال أبي بصوت متهدّج وهو يرفع يديه كمن يستسلم للقدر:

- منيته يا ابني.. منيّتُهُ.. لا تقل من هذه النّاحية أو تلك الناحية، عزرائيل قادَه ولعب بعقله حتى أوقعه، لقد كان ينتظره.

وتابعَ أخي عادلٌ:

- لقد أصيب بالصخرة فارتبك، وكان قاع البركةِ مليئاً بالوحل، فعلقت رجله فيه، ولم يستطع التخلص.. لقد شده أحد الفلاحين من شعره بدون جدوى..

فقال أخي خيري وهو يلثغ ويفرك يديه:

- عندما أخرجه الإطفائي قلب رأسه للأرض.. وأقسم باللّه، خرج من بطنه ماءٌ قدر القربة.

قالَ أبي ثانية بصوتٍ متهدّج:

- حكم اللّه ولا رادَّ لقضائه.. "قل لن يصيبنا إلّا ما كتب اللّه لنا هو مولانا وعلى اللّه فليتوكّل المؤمنون".

فقالت أمّي مندفعةً:


*227*

- اللّه لا يأخذ إلا الطيبين الممتازين.

فقال أبي غاضبًا:

- لا يا أم توفيق استغفري ربك، اللهم لا اعتراض على حكمك.

فتابعت أمّي كأنّها لم تسمع:

- نهلك بالولدِ ونتعب عليه، ونضع له دمَ قلوبنا ونفرشُ له ريف عيوننا، فإذا كبر وصار قصف اللّه عمره.. هذا ظلم!.. هذا..

فقال أبي كمَن يتضعضع:

- صلِّ على النبي يا أمَّ توفيق، هذه حال الدّنيا، إن اللّه مع الصابرين.

قالت أمي وهي تعول وتنظر ناحية الفراش:

- يا ليتَني أموت الآن وألحقك وأتخلص من الدّنيا الملعونة هذه.

قال أخي الكبيرُ:

- الآن هو في الجنة، روحه ترفرف علينا، أليس كذلك يا أبي؟

- نعم نعم. هنيئاً له على هذه الميتة يومَ الجمعةِ، ومات والتذكير يملأُ الفضاء، وبمثل هذه


*228*

السن.. هو الآنَ عصفور في الجنة... اللهم احشرنا في زمرةِ المؤمنين!

ووقع نظري على برميل "البريل كريم" (اسم تجاري لمرهم مرطب ومزين للشّعر) وفكرت حالاً أنه بقي لي الآن، لا ينازعني فيه منازع، وكذلك كل أدوات الزينة التي كانت لأخي أصبحت لي الآن وبذلاتُه الفخمة سأصغّرُها وأفصّلُها جميعًا لي،.. وشعرْتُ بشيءٍ منَ الارتياح، لقدْ أدانني البارحةَ ليرة كاملة استأجرت بها درّاجةً، وذهبت بها حتّى "بكداش" (متجر سوري شهير لبيع البوظة، كان مقرّه سوق الحميدية في دمشق)، فأكلت كأسا من البوظة، وقد ذهبت هذه الليرة ولن يأخذها مني بعد الآن، وفكرت في المدرسةِ، لا شكَّ أنني لن أذهب إليها إلا بعد أسبوع، أتخلص مؤقتا من الشيخ طالب وفلقته، وعبدو أفندي ومسطرته، وسأقضي هذه العطلة في البرّيّةِ فأذهب كل يوم لأنهبَ القرعون، ولن تنتبه إليَّ أمّي وهي مشغولةٌ الآن بموتِ أخي.

وقطع عليَّ تصوراتي صوتُ أمي وهيَ تسألُ:

- هل نزعتَ منهُ الخاتم والسّاعةَ يا عادل؟

- نعم يا أمي.

- وبذلته التي كان يلبسها أين وضعتها؟

- في غرفته.

- سأضع كل أمتعتِهِ في خزانةٍ خاصّةٍ لأشم فيها ريحته كل يوم.

قالت ذلك وهي تضرب كفًا بكف وتتنهد.


*229*

فقال أبي كمن يهرب من حلم:

- توفيق!

- نعم يا أبي.

- هل أعددت معدات الجنازة؟

- كل شيء جاهزٌ.

- إذن فلنقم!

فتعالى صوت أمّي بالبكاء وشاركها إخوتي، ولكن أبي زجرهم برفقٍ، ودموعه تخذل جلده المتكلف، فخرج من الغرفة هاربًا وصوت البكاء يملأ فضاء البيتِ كعويلِ الشياطين في أرضٍ شاسعةٍ خاليةٍ.

كان المساء قاتمًا مزعجًا، والتعب قد هدَّ كياني فانسللت من "الصبحيّة" لأنام، وكانت غرفتي ثانيَ غرفتين الأولى لأخي رفيق، والثانية لي ولأخي الكبير.. وشعرْتُ بالخوفِ وأنا أمرُّ أمامَ غرفتِهِ، وكان كل شيءٍ بالغرفةِ مجللاً بالسوادِ، وكل نتوءٍ يرعبُني، فيخيل لي أنه رأس إنسانٍ.. ماذا لو قام الآن من وراء سريري فبحلق في وجهي؟! لا شك أنني سأصرخ وسألقي نفسي منَ النافذةِ، وتذكرت قصصًا كثيرةً لأمواتٍ يقومونَ، وتذكرت سحنتهُ والجرحَ فوق حاجبيهِ فكادَ يصيبني الدّوار، فهربت إلى غرفتي، واسترعى نظري فورًا البذلة البنية التي كان يلبسُها أخي رفيق اليومَ، لقد وضعَها أخي عادل هنا حتى تضمَّها أمّي إلى الخزانةِ.


*230*

لاحظت الانتفاخ في جيبها اليمنى، فمددْتُ يدي في تهيب، فغرقت في القرعونِ.. إذن، لقد تذكرني أخي قبلَ أن يموتَ، وها هو القرعون الذي وعدَني بهِ، وشعرْتُ لأول مرّةٍ بحزن مبهم.. ورفعت رأسي وأنا أتصوره قد كبر حتى ملأ الغرفة.. هلْ مات حقاً؟.. هل ذهبَ إلى الأبدِ؟.. ما هو الموت؟.. هل هو عصفورٌ في الجنّةِ الآن كما قالت أمّي؟..

في مثل هذا الوقتِ من كل مساءٍ كان يأتي إلى غرفتي فيدخّنُ سيجارةً، وهو يتحدّثُ مع أخي عادل في السياسة والأدب والسينما والممثّلاتِ، وأنا جلس مبهورًا أنظر إليه وإلى شعره اللامع وقسماته النّبيلةِ وأعبدُهُ بصمتٍ.. وكانَ ينظر إليَّ فأحس بعينيهِ الجميلتينِ تغرقانِ وجهي في دغدغةٍ ناعمةٍ كشعرِ حسناءَ، وكان يسألُني عن دروسي ويساعدُني في حلِّ مسائلِ الحسابِ، وإعرابِ بيتِ القواعدِ الّذي يعيدُهُ عليْنا أستاذنا في كلِّ مناسبةٍ:

أنا الّذي نظرَ الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صـمَمُ

ونظرت إلى الباب علّي أرى وجهَهُ الجميلَ، وقامته المهيبةَ، وبشرتَه الرقيقةَ الّتي تظهر عروقَهُ من ورائِها، وشعرت بهوّةٍ تحفر بينَ رجليَّ، وبدوارٍ غامضٍ يهوي على رأسي بمطارقَ قويّةٍ ولكنّها ناعمةٌ.. لقد ماتَ حقًا.. أخي العزيزُ الحبيبُ، ولن أراه إلى الأبدِ.. لن يساعدَني في حلِّ مسائلِ الحسابِ، وسأنظرُ دائمًا إلى أخي عادل، وسينظرُ إليَّ، وسنطرق معًا وننظر إلى مكانِهِ، ويد أخي عادل ترتجف بسيجارتِهِ، ونصمتُ، ثمَّ ينتهي كلُّ شيءٍ.

لأوّلِ مرّةٍ شعرت فجأةً بحزنٍ شديدٍ، ففهمْتُ بكاءَ أمّي وإخوتي ولأوّلِ مرّةٍ أيضًا طمرت رأسي باللّحافِ، وأخذت أبكي بصدقٍ وعنفٍ حتى انطفأتِ النجومُ.

سعيد حورانيّة (ت. 1994 م)

أديب سوريٌّ، ولدَ في دمشق عام 1929 وتعلم فيها، درس التربية، وعملَ في الصحافة سوريا ولبنانَ، أقامَ في موسكو عدّة سنواتٍ. عملَ موظفا في وزارةِ الثقافة. كتب القصة القصيرة وتأثر بالفكر الإشتراكي والشيوعيِّ.

له مجموعاتٌ قصصية أهمّها: "وفي النّاس المسرّةُ"، "شتاءٌ قاس آخر". كما كتب عدّة مسرحيّاتٍ ومقالاتِ.

مقاربات وتلميحات

- الواقعيةُ.

- مواصفاتُ الفقيدِ.

- الرّاوي ودورُه.

- الفقدُ في عينيْ طفلٍ.

- تصويرُ الشخصيّاتِ.

- مفهوم الموتِ وتطوّرُهُ.

- توظيفُ العامّيّةِ في النّصِّ.

- الجو الدّينيُّ.

- الجوُّ الرّيفيُّ.


*232*

أسئلة وأعمالٌ

1. عدّدْ شخصيّاتِ القصّةِ، وبين أيها رئيسيّةٌ وأيها ثانويّةٌ.

2. من الرّاوي في النّصِّ؟ وما حقيقةُ دورِهِ فيه؟ وما نوعُ زاويةِ إشرافِهِ في السّردِ؟

3. كيف يظهر الإحساسُ بالفقدِ في عينِ الرّاوي؟

4. ما مواصفاتُ الفقيدِ "رفيقٍ" على لسانِ الرّاوي؟

5. استخرج منَ النص دلائلَ على جودةِ العلاقةِ بينَ الرّاوي وأخيه رفيقٍ.

6. استخرج منَ النصِّ موقفًا فكاهيًّا ساخرًا، وبين ممَّ يسخرُ الكاتبُ فيهِ.

7. هاتِ منَ ثلاث إشاراتٍ إلى الأجواءِ الدّينيّةِ.

8. إيتِ، منَ النّصِّ، بمثاليْنِ على استخدام ِالعامّيّةِ، مبيّنًا الغايةَ من توظيفِها في القصّةِ.

9. بيّنْ مثالينِ على الوصفِ الواقعيِّ الّذي يستخدمُه الكاتبُ في القصّةِ.

10. يتطوّرُ مفهومُ الموتِ لدى الرّاوي مارًّا بنقطةِ تحوّلٍ. بيّنْ متى وقعَ هذا التّحوّلُ، مقارنًا بينَ المرحلتيْنِ: السّابقةِ لهُ واللّاحقةِ.


*233*

محمّد نفّاع (مصادر ومراجع للتوسع: بولس، حبيب. الرّحلة الأولى: مقالات في الأدب العربيّ الفلسطينيّ الحديث. الناصرة: المطبعة الشّعبيّة، 1986؛ غنايم، محمود. المدار الصعب: رحلة القصّة الفلسطينيّة في إسرائيل. حيفا: منشورات الكرمل، 1993).

مختار السّمّوعيّ

عمي علي ليس شقيق والدي بالضرورة، ولا حتّى من أقاربنا، لكنها عادة نقولها للكبار؛ عمي، خالي، سيدي، وينطبق ذلك على النساء. لذلك اتكلَ والدي على اللهِ وعلى عمّي عليّ، وأرسلني معه.

كان علينا في البداية أن نطلب تصريحًا إلى السّمّوعيّ (قرية فلسطينية مهجرة منذ عام 1948، تقع جنوب غرب مدينة صفد في الجليل. أقيمت على أراضيها بلدة كفار شمّاي)، وهذا ما فعلَه عمّي عليّ، أمّا أنا فعمري دزينة سنوات تحتَ العقلِ، بلا بطاقةِ هويّةٍ، كان هذا قبل عصر أطفالِ الحجارةِ والسجون المخصصة للأطفال.

- تصريح يا خواجا للسمّوعيّ، قالَ عمّي عليّ للموظّفِ.

- كفار شمّاي، قال الموظف.

- للسمّوعي!! إي!!

- اسمها كفار شمّاي.

- تصريح للسموعيّ.. حجزوا لنا هناكَ...


*234*

- قلْنا اسمها كفار شمّاي.. فش سمّوعي اليوم.

- يا عمّي السّمّو..عي، حدّ "فرّاضة" (قرية فلسطينية مهجرة منذ العم 1948، تقع في الجليل، جنوب غرب "صفد". تعبر موقعا أثريًّا يحوي طواحين مهدمة. أقيم على أراضيها "كيبوتس فرود" وبلدة "شيفر")، وَلوْ.

- كيبوتس "فرود"!

- فرّاضة"... ولَو..!!

- كيبوتس كاردوش!!

- فوق كفر عنان (قرية فلسطينية مهجرة، تقع في الجليل في أقصى الجزء الشّرقّي من قضاء عكا. أقيمت على أراضيها بلدة "كفار حنانيا" عام 1977) يا خواجا.

- كفار حنانيا! قالَ موظف الحاكم العسكريِّ.

انخبطت سحنة (لون، هيئة) عمّي عليّ المقلوبةُ اصلًا. عمرُه في حدود السّبعين ويحملُ عكّازًا عليهِ صورةُ حيّةٍ تفتح شدقَها (جانب الخد تحت الفم) للدغ. فسيدي احمد ماهر في هذا الكارِ (حرفة، صنعة)، ينقش على عكاكيز الزّعرور صورَ الحمام والنّسور والأفاعي والأسودِ والنّمورِ، أمّا كيفَ تخيّلَ صورةَ الأسدِ فالعلمُ عند الله فالبقيّةُ من أهل البلدِ.

أعطى الحاكمُ العسكريُّ تصريحًا لكفار شمّاي، وأخذَ عمّي علي التصريحَ للسّموعيّ. ويجب ألّا يقعَ خطأُ بينَ "السّمّوعي و "السمّوعِ" (هي بلدة فلسطينية تقع جنوب الخليل): الأولى عندَ بلادِ صفدَ، هدمَت في النّكبةِ، والثّانية صوبَ


*235*

الخليلِ احتُلَّت في النّكسةِ، لكنَّها ضُربَت ضربةً قاسيةً قبل النكسة. والقربى بينَ البلدينِ هي القُربى بينَ النكبةِ والنّكسةِ.

لا تزالُ بقايا الثّلجِ عندَ عروق السّناسل (جدران حجرية كان يقيمها الفلسطينيون لعدة أغراض، كرسم الحدود بين أصحاب الأراضي، ومنع انجراف التربة في الشتاء في الأراضي المنحدرة)، فسنوات الخمسين جاءَت بالمطرِ والثّلج.

وقامَ عمّي عليّ بواجبِه خيرَ قيام وهو يدلني على مواقع الأرض والجبال وعيونِ الماء في الطريق.

البيوت مكفأة (مقلوبة) مهدمة باردة. وعمي علي يئن ويعنّ (يلعن، يشتم) وأحيانا تخرج كلمات مخنوقة مهدمة، تارة أحسبه يقرأ شيئا من الدين، وأخرى كمن يشتم أحدًا ما.

عمّوري، ابو الشّبا، النبع، زيتون دار كرّوم، بستان العبد صالح، بستان أمين درويش، العين... مضافة دار... كان عمي علي قد فكّ صرة (خرقة لحفظ النقود) الزوّادة وأخذ رغيفا ملفوفا، وفعلت مثله، ولكنه لم يأكل.

- عمي علي أول مرة بتيجي لهون بعد الهجيج (الفرار أو الرحيل، وهو مصطلح متعارف عليه في المحكية الفلسطينية يرمزُ إلى تهجير السكان من بلادهم عامَ 1948)؟

التفت إليَّ بحنق، ويا لهول ما أرى... سحنة سوداء غبراء مقلوبة غاضبة، والدموع تفر من عيون محمّرة. أرجع رغيف الخبز الى الزوادة كما هو، وقرصتني موجةُ حزن عليهِ، وسكتنا.

- كُل عمي كُل!


*236*

قال بصوتٍ باكٍ، فكأنه قالَ: رجّع الرغيف لمطرحه يا ولد!! ففعلت. مع أن الجوع قد قرصني قرصةً منكرةً. وكنا قد قطعنا مسافةً طويلةً.

كان سكان السموعي الجدد قد احتجزوا عنزتين لنا ولعمي علي، وجئنا نفكهما من الحجز.

سألنا واحدا من السكان هناك فقال: إسألوا المختارَ.

ويبدو أن عمّي عليّ قد تهيأ جيدا لزيارة المختار، فدلّنا على بيته. بيت صغير بين أحراش الصنوبر، وهنا وهناك يكاد يخنق الصنوبر من زحف السنديان. كشّر عمي علي من بيت المختار. لا مرابط خيل (حظائر لتربية الخيول والدواب)، ولا ناسَ، ولا مضافة، فدقّ الباب بعكازه.

خرجت امرأة في اواسط العمر بذهول، وخيمت على وجهها موجات من الاستغراب. وهي تنظر إلى الحطّة السوداء.

- وين حضرة المختار؟

- سارح مع المعزى (خرج يرعى الماعز)، وكأنها أنهَت ما عليها وهمّت بإغلاقِ البابِ.

- وين؟! سارح؟!

هتف عمي علي من قحف رأسه.

- اُششش... الولد نايم.


*237*

صعق عمّي عليّ من كلِّ شيءٍ.

وأشارت لنا إلى مكان قريبٍ حيثُ يسرح المختارُ مع المعزى، وأغلقتِ البابَ الضّيقَ بضيقٍ.

"يشرّيني على هيك مختار"!! ترنّم عمّي عليّ بلحن ملعون فظيع، ظلَّ يردّدُه بتنغيمٍ ممطوطٍ.

عمّي عليّ متدين، وتحت حطّتِه السوداء عمامةٌ مجعلكةٌ (غير مرتبة، وهي لفظة فلسطينية عامية) بشكلٍ مهينٍ، ولذلكَ استبدلَ الخاءَ بالشين حتّى لا تكون الكلمة كبيرة ونابية، فهذا غيرُ محلل، أمّا يشرّيني فهيَ دارجة ومقبولة وتعطي نفس المعنى، وهذا لعمرك حسن تخلص مهيبٍ.

- يعطيك العافية! قال عمي علي للمختار، وقد رفع الكلفة تماما. والمختار يلبس جزمة وعلى رأسه طاقية ملفوفة بشكل غريبٍ ومعه قضيبُ غشيم (أي غير مناسب، أو غير جدير، وهي تعني في العامية الفلسطينية أيضا: من لا دراية له)، أين هو من عكّازة عمّي عليّ؟! وسحنة عمّي عليّ تقولُ:

- يشرّيني على هيك مختار"، وقد قضى على الكلفة تمامًا، وشرح له احتجاز العنزتين.

- نصّ ليرة على الواحدة. قالَ المختار وهو من أصل يمني.

- نص ليرة على إيش يا حَ يا خواجا؟

- أكلوا الشّجر، نصّ ليرة.


*238*

فكيف لا يصعق عمي عليَ ويطيرُ صوابُهُ!!

وراح يكرّ (يخط أو يكتب جملاً متتابعة، وهي بالعامية الفلسطينية) بيانا سياسيا مهيبا سمعت منه كلمات متنافرة: العبد الصالح وأمين درويش. بيوت مهدمة، مقطعين موصلين. بداديق (محرفة عن "بناديق"، والبندوق: مجهول النسب)، أيام زمان، بلاد عامرة، مضافات، ملايات مثل الغزلان، قهوة مرة.. السّموعي، فرّاضي، كفر عنان عين الزيتون (قرية فلسطينية مهجرة منذ عام 1948، تقع في الجليل جنوب صفد. أقيمت بالقرب منها بلدة "عين زيتيم")، وادي عامود (أحد الأودية الثلاثة التي تصب في بحيرة طبريا. مشهور بصخرته التي تكونت نتيجة كسر جيولوجي وتآكلت بفعل عوامل الزمن)، نَوَر الله في ملك الله، أيام سودا، أيام سودا...

ودفعنا نص ليرة عن كل واحدةٍ. وفي "مغارة الجوق" تحت عكبرة (قرية فلسطينية مهجرة منذ عام 1948، تقع إلى الجنوب الشرقي من مدينة صفد. أقيمت بجانبها في فترة لاحقة قرية عكبرة الجديدة) وصفد، استقبل القطيع العنزتين استقبال الأبطال، وصار الشم والملامسة والحكحكة ونظرات السؤال والعتابِ والتساؤل والمأمأة من أفرادِ القطيعَ سيد المكان، معَ التهاني بسلامةِ العودةِ من الغربة والمعزى المتحررة تقدم بيانا عما جرى.

وعمّي علي يكاد يغص بالبكاء والغضب، وعاد إلى لازمته ضدَّ المختار اليمنيِّ دون تغيير في الحروف. ولأنّي اُحبُّ عمّي عليّ، نطقت مثله، وكذلَك الرّاعي، والعلم عند الله أنَّ مأمأة القطيع كذلك في لمّ الشمل هذا.


*239*

محمد نفّاع (...)

كاتب فلسطينيٌّ، من أشهر كتّابِ القصة القصيرة الفلسطينية المحلية. ولدَ في "بيت جن" عام 1939. أنهى دراسته الجامعية في "موسكو"، ونالَ شهادة في العلوم السياسيّةِ. عملَ مدرّسًا للغة العربية، ثمَّ أبعدَ عن التعليم بسبب مواقفة السياسيّةِ. التحق بالحزب الشيوعي، ومثل الحزبَ الشيوعي في البرلمان الإسرائيلي "الكنيست". تتميز قصصه بالواقعية، وبالأجواء الشعبية الفلسطينية. ترجمَت قصصه إلى لغاتٍ عالمية عدة. من مجموعاته القصصية: "الأصيلة"، "وريحُ الشمالِ"، و "أنفاس الجليلِ".

مقاربات وتلميحات

- استخدام العامية الفلسطينيةِ.

- الحس الفكاهيُّ النّاقد.

- التقاليد والعادات الاجتماعية الفلسطينية.

- جدلية أسماءِ الأمكنةِ ودلالتها.

- ملامح البيئة الرّيفية الفلسطينيّةِ.

- القصة الواقعيّة.

- الرّاوي ونوعُه.

- الدّفاع عن الممتلكاتِ.

- الدّلالة الرّمزية لنهايةِ القصةِ.


*240*

أسئلة وأعمال

1. تعتبر القصة واقعيّةً، هات دليلين من النص على ذلك.

2. ما غاية استخدام العامية الفلسطينية في القصّةِ؟

3. ما الدلالة الرمزية لكل ممّا يلي:

أ. إصرار العم على استرجاع العنزتين.

ب. استغرابُ امرأةِ المختار من العم علي وحطته

ت. هيئة "عكاز" المختار الوضيعة بالمقارنة مع عكاز العم علي

4. استخرج من النص تعابير وصورًا تدل على الرّيف الفلسطيني.

5. من الراوي في القصة؟ وما نوعُهُ؟

6. ما غاية توظيف أسماءِ الأمكنة في النص؟

7. ما غاية الجدال بين العمّ عليّ والموظّف حول أسماءِ الأمكنةِ؟

8. بين موطنين من مواطن الفكاهةِ والسّخرية في النص.

9. إلامَ يرمز تحرير العنزتين نهايةِ القصة؟

10. كيف تنسجم القصة وأبعادُها السياسية مع سيرة حياةِ الكاتبِ؟


*241*

الفصل الثاني: الرواية


*241*

(مصادر ومراجع للتوسع: العزب؛ محمّد. أصول الأنواع الأدبيّة: الشعر، القصة، الرواية والمسرحية. د.م: د.ن، د.ت؛ الموسويّ، محسن جاسم. الرّواية العربيّة: النشأة والتحوّل. القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1988؛ عيد، عبد الرزاق. في سوسيولوجيا النص الروائي. دمشق: الأهالي للطباعة والنشر، 1988؛ الخطيب، جهينة. تطوّر الرواية العربيّة في فلسطين. 48. بيروت: المؤسسة العربية للدّراسات والنّشر، 2012).

تعتبر الرواية سردًا قصصيًّا طويلاً، تتفق مع القصة القصيرةِ في عناصر الحبكة والزّمانِ والمكان والحوار، غير أنها تختلف عنها في عددِ الشخصيات، وفي تعقيد الأحداثِ، وامتداد الزمان واتساع المكانِ.

ويفضل طول الرّواية، الذي يفوق طول القصة القصيرة، فإنه يمكن لها تناول قضايا الحياةِ والفكر والمجتمع والتاريخ بشيءٍ منَ التوسّعِ والوضوحِ، وبالتّالي فإنها قد تعالج الموضوعاتِ الّتي تحتاج إلى تفصيلٍ، كالسيرةِ الذّاتيّةِ، وأحداثِ التّاريخِ، والفانتازيا والخيالِ، وغير ذلكَ.

لقدْ مرت الروايةُ بمراحلَ منذ العصر الحديثِ، تتلخص فيما يلي:

المرحلة الأولى: مرحلة الترجمة عن الأدب الغربي، وقد بدأ بها ''الطّهطاوي" (ت 1873م)، ثمَّ "محمد عثمان جلال" (ت 1898 م)، و "بطرس البستانيّ" (ت 1883م)، وكذلك ساهمَ "المنفلوطي" (ت 1924 م) في تطوير الأدبِ المترجمِ، إذ تصرف في ترجمةِ قصصِهِ ذات النّزعةِ الرّومانسيّةِ (وأشهرُها روايةُ "الفضيلة").

المرحلة الثانية: بروزُ الاهتمامِ بالقصةِ التّاريخيّةِ، وكانَ جرجي زيدان (ت 1914م) رائدَ الرّوايةِ التّاريخيّةِ، فوضعَ عددًا من الرّواياتِ المستمدةِ منَ التاريخ الإسلاميِّ.


*242*

المرحلة الثالثة: استقلَّ الكتّابُ العرب بتأليفِ الرواية العربية التي تعالج واقع الإنسان العربيّ وهمومَه، ومن أوّلِ رواياتِ هذه المرحلةِ روايةُ "زينبَ" لهيكل (ت 1914م)، وبرزَ طه حسين (ت 1973م) وتوفيق الحكيم (ت 1987م). وأبدعَ عدد كبيرٌ منَ الكتّابِ العرب في تطوير الرّواية، وأبرزُهم نجيب محفوظ (ت 2006 م)، والطيب صالح (ت 2009م) وعبد الرحمن منيف (ت 2004 م).

وفي مرحلة ما بعد الحداثة ظهرَ على الساحة عددٌ منَ الأدباء والأديباتِ كجمال الغيطانيّ (ت 2015م)، وإدوارد الخرّاط (ت 2015م)، وأحلام مستغانمي (...)، وحنان الشّيخ (...)، وغيرهم.

في هذه المرحلة، تلاحظ أهمية اللغةِ في تصميم الشّكل الجديد للرواية العربيّةِ، المتميز بالرمز والإيحاءِ والشاعريّةِ، وبالتفنن في استخدامِ الصورِ البلاغيّةِ المتنوّعةِ. كما قدْ تتداخل الأجناس الأدبيّةُ معًا ضمنَ الرّوايةِ الحديثةِ، فقد تتضمن شعرا، أو خاطرةً، أو رسالةً أو غيرَ ذلكَ.

كما أنَّ الشخصيات لم تعد العنصر الأهمَّ في الروايةِ الحديثة، وذلك أنَّ الشخصيات أصبحت رمزية أو وهميّةً أو غير مفهومة تمامًا للقارئ، تنصهرُ في الأحداثِ الممتدّةِ عبرَ أزمنةٍ غير متسلسلةٍ، يختلط فيها الماضي بالحاضر.

وهذا التّغيُّرُ الكبير في فنية وبناءِ الرواية منبثقٌ عن تيارِ ما بعدَ الحداثةِ في الفلسفةِ النّازع إلى العدميّةِ والفوضويّةِ، حيث كلُّ شيءٍ ممكنٌ، ولا شيءَ ثابتٌ ومفهومٌ بالضرورة.


*243*

الطريق - رواية

نجيب محفوظ (ت. 2006 م) (مصادر ومراجع للتوسع: الندويّ، محمد نجم الحق. نجيب محفوظ في ضوء نزعاته الأدبيّة. إربد: عالم الكتب الحديث، 2011؛ الشطي، سليمان. الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ. القاهرة: الهيئة المصريّة العامة للكتاب، 2004؛ القيسيّ، عودة الله. نجيب محفوظ: نماذج الشخصيات المكررة ودلالتها في رواياته. عمّان: اليازوريّ، 2004).

روائيُّ مصري، مِن ألمعِ كتاب القصة في العالم العربي. تدور أحداث جميع رواياته في مصرَ. تتميّز معظم كتاباته بالواقعية، كما أنَّ بعضَها يتميّزُ بالرّمزيةِ دون أن تغيبَ القضايا الاجتماعيّة عنها.

من أشهرِ رواياتِهِ: الثلاثيّةُ، الطريق، اللص والكلابُ، الحرافيش، بداية ونهاية، إلى جانب عدد كبير من الرّواياتِ. حُوّلَ عدد كبير من رواياته إلى أفلامِ سينمائية ومسلسلات تلفزيونية. كما أنه نشطَ في تأليفِ القصّةِ القصيرةِ.

مقاربات وتلميحات

- الجريمةُ والعقابُ.

- التربية الفاسدة وتأثيرُها على الأخلاقِ.

- الفقر.

- الكسب الحرامُ.

- الانحلالُ الخلقيُّ.

- الفسادُ الاجتماعيّ.

- الأبوّةُ الضائعة.

- الشخصيات ودلالاتها.

- أسلوب الاسترجاعِ الفنّيَّ.

- المونولوج.


*244*

أسئلة وأعمال

1. بين الدّلالات الرمزية لأسماءِ الشخصيات التالية: "سيد الرّحيمي"، "إلهام"، "صابر"، و "كريمة"؟

2. ما علاقةُ "صابر" بأبيهِ؟ وما تأثير ذلكَ على أحداثِ الروايةِ؟

3. ما دلالة عنوان الرواية "الطريق" بالنسبة إلى كل من: "صابر" و "كريمة"؟

4. ما هيَ الجرائمُ التي اقترفها "صابر"؟ وما الدّوافع إلى اقترافه كلا منْها؟

5. هل ترى أنَّ "صابر" يتحمّلُ مسؤوليّةَ أخطائه أم أنّة مجرد ضحيّةٍ للظروفِ الشّديدة التي مرَّ بها؟ علل رأيك.

6. تظهر الأبوة في الرّوايةِ كشيءٍ جديرٍ بالبحثِ، فما الّذي يمثله البحثُ عنها بالنّسبةِ إلى "صابر"؟

7. هل انتهتِ الروايةُ بنهايةٍ مغلقةٍ أمْ مفتوحةٍ؟ وما الغايةُ من انتهائها بهذا الشكلِ؟ علل.

8. ما غاية استخدام المونولوجِ في الروايةِ؟

9. قارن بين المشتركِ والمختلفِ بين شخصيتي كلٍّ مِن "صابر" و "إلهام".

10. ما المشترك بين شخصيتي "صابر" و "كريمة"؟

11. ماذا تمثل "كريمة" بالنسبة إلى "صابر"؟

12. يوظف الكاتب أسلوب الاسترجاع الفني في الرّوايةِ، اذكر غايتين مِن هذا التوظيفِ.


*245*

ذاكرة الجسد - رواية

أحلام مستغانمي (...) (مصادر ومراجع للتوسع: كريزم، رئيسة. عالم أحلام مستغانمي الروائي. عمّان: دار زهران للنّشر والتّوزيع، 2011؛ كمّون، زهرة. الشعري في روايات أحلام مستغانمي. صفاقس: دار صامد، 2007).

كاتبة جزائرية، ولدت في تونس عام 1953 م، كان أبوها ناشطا سياسيًا ضدَّ الاستعمار الفرنسي. عملَتْ في الإذاعةِ الوطنيّةِ، وهذا ما خلقَ لها شهرةً بعدَ ذلك كأديبةٍ. انتقلت إلى فرنسا وتزوجت من صحفي لبناني. نالت شهادة الدكتوراة من جامعةِ السّوربون. من رواياتِها: ذاكرة الجسدِ، فوضى الحواس، عابرُ سريرٍ.

مقاربات وتلميحات

- الرواية كسجلٍّ توثيقيٍّ.

- تاريخ الجزائر.

- قصة حبٍّ.

- المقاومة ضدَّ الفرنسيينَ.

- الحرب الأهلية.

- التّضحيةُ.

- العلاقة بين المقاومين من خلالِ بعض الشّخصياتِ.

- مظاهر الرواية الحداثيةِ.

- إشرافُ الرّاوي.


*246*

أسئلة وأعمال

1. تصور الرواية أكثرَ من علاقةِ حبٍّ بين بعض شخصيّاتها. تعرض إلى اثنتينِ منها، وبين أطراف هذه العلاقةِ.

2. بين الأهمية التوثيقيّةَ للرواية فيما يخصُّ كلًّا منَ الحرب الأهليّةِ الجزائريّةِ، والعلاقة بين الجزائر وفرنسا.

3. ما دلالة زواج "حياة" الوطنيّة من ضابطٍ متقاعدٍ وفاسدٍ؟

4. تكثر الكاتبة من الحديث عن الكتابة والرّواية وعلاقتِها بأبطالِها. ما الهدف من ذلك؟ وضح!

5. ما دلالة حبِّ "حياة" الجزائرية ل "زياد" الفلسطينيِّ؟ هلْ من شيءٍ مشترك بينَ الشخصيتينِ؟

6. تحدّث عن عائلة حياة وانقسامِها بين تيّارات فكريةٍ متضاربةٍ.

7. ما الغاية من تكثيفِ اللغةِ الشعرية في الروايةِ؟

8. ما العلاقة بين عنوانِ الرّوايةِ "ذاكرةُ الجسدِ" ومضمونِ الرّوايةِ وشخصيّاتِها؟

9. ما هيَ مظاهرُ الحداثةِ في الروايةِ والتي تميّزُها عن الرواية التقليديّةِ؟

10. ما نوع الإشراف الرّوائي في نصِّ الرّوايةِ؟


*247*

نهاية رجل شجاع - رواية

حنّا مينة (...) (مصادر ومراجع للتوسع: عبد الفتاح، بلال (وآخرون). تلازم المرأة والبحر في أدب حنا مينا الروائي. الرياض: مؤسسة اليمامة الصحفية، 2006؛ البطرس، عايش. حنّا مينا: المعيش والمتخيّل. دمشق: دار الينابيع، 2004؛ سماحة، فريال. رسم الشّخصية في روايات حنّا مينا. بيروت: المؤسسة العربيّة للدّراسات والنّشر 1999).

أديبٌ سوريٌّ، ولد في مدينة اللاذقية عام 1924. مرّت عائلته بظروفٍ مادية صعبة. تقلب في مهن متعددة. اشتركَ في المظاهراتِ المناوئة للاستعمار الفرنسي، فأدخل السجن. بدأ يكتبُ القصصَ لبعض الصُّحُفِ، ثمَّ عمل محرّرًا صحفيًّا لبعض الجرائدِ.

ساهم في تأسيس رابطة الكتاب السوريين واتحّادِ الكتّابِ العرب. تتميّزُ رواياتُه بالواقعيّةِ. حولت بعض رواياته لمسلسلات تلفزيونيّةٍ. من أبرز أعمالِهِ: "نهاية رجلٍ شجاع"، "المصابيحُ الزرق"، "الشراع والعاصفة" "الولّاعة.

مقاربات وتلميحات

- دواعي تلقيب البطل ب "الوحشِ".

- الأبوة القاسية.

- صورة الأم الحنون.

- التمرد على القيم والأعراف المجتمعية.

- شخصية المختار ومواصفاتها.

- سلبية المعلم.

- خيبة الأمل من المدينة كملاذٍ.


*248*

- دور الحب (المرأةِ) في "ترويض" البطل

- السجن كمحطة لتعليم القراءةِ والفكر والأخلاقِ

- السجن مقابل المدرسةِ

- انتكاسةُ البطلِ وانزلاقة إلى الجريمةِ من جديدٍ

- العودة إلى السجن، والمعاناة الجسديّةُ

- نهاية "مفيد"

- المقابلة بين الميناءِ والبحر في نظر "مفيد"

- موتيف "البحر"

أسئلة وأعمال

1. لماذا لقب "مفيد" ب "الوحش"؟ وما مدى ملاءمة هذا اللّقبِ لهُ، حسبَ رأيِكَ، استنادًا إلى أحداثِ الرّوايةِ؟

2. اشتركَ كلٌّ من البيتِ والمدرسةِ في خلقِ تأثيرٍ سلبيٍّ على شخصيّةِ "مفيد"؛ وضح ذلكَ.

3. قارن بين شخصيّةِ كلٍّ من الأب والأم في الروايةِ.

4. ما هي مواصفات شخصية المختار في الرواية؟ وما مساهمتهُ في تصوير واقع المجتمع المريرِ؟

5. ما مدى مساهمةِ المعلّمِ في رسمِ معالم المجتمع السّلبيةِ؟


*249*

6. كيف تجلى تمرد "مفيدٍ" على القيم والأعرافِ المجتمعيّةِ؟

7. ماذا كانَ طموحُ مفيد الوحش في الميناءِ؟ وهل تحقق ذلك؟

8. قارن بين الميناءِ والبحر في نظر "مفيدٍ".

9. بماذا تتفق كلٌّ من القرية والمدينة بالنسبة إلى "مفيدٍ"؟ ما مدى توفيقه في كل من البيئتين؟

10. قارن بين مدى تناولِ الرواية لكل من المجتمع الذكوري والمجتمع الأنثوي.

11. ما أهمية دور "لبيبةَ" في الروايةِ؟ كيف ساهمت في حياةِ "مفيدٍ"؟

12. قارن بين كلٍّ منَ السجنِ والمدرسة في صقلِ سلوكِ "مفيدٍ".

13. يدخل "مفيد" السجنَ مرّتينِ. فما سبب دخوله إيّاه في كل مرّةٍ؟ وما الفرق بينَ نتائج دخوله السجن في المرّة الأولى، ونتائج دخوله إياه في المرة الثانية.

14. ما المعاناة الجسدية التي عانى منها "مفيد" في نهاية النص؟

15. كيف كانت نهاية "مفيد"؟ وما دلالتها في صياغة عنوان الرواية: "نهاية رجلٍ شجاعٍ"؟

16. بين ثلاثة ملامحَ للواقعيّةِ في الرّوايةِ.

17. هل يعتبر البحر "موتيفًا" في الرواية؟ بيّنْ ذلكَ.


*250*

ظلّ الغيمة - سيرة ذاتيّة

حنا أبو حنا (...) (مصادر ومراجع للتوسع: كامل، رياض. محاورة النص - دراسات في القصة والرّواية. د.م: د.ن، 2003؛ أبو جابر، ريما. "حنا أبو حنا أديبًا وشاعرًا - أهمّ الثيمات والتقنيات: ظل الغيمة وقصائد من حديقة الصّبر نموذجًا". موسوعة أبحاث ودراسات في الأدب الفلسطيني الحديث - الأدب المحلي 1. باقة الغربية: مجمع القاسمي للغة العربية، 2011).

أديب وشاعر محلي، ولد في "الرّينة" عالم 1928، تنقل خلال دراسته المدرسية بين مدارس الناصرة والقدس. درس الأدبين العربي والإنجليزي في جامعتي حيفا وتل أبيب. عملَ مديرًا للكلية العربية الأرثوذكسية في حيفا، ومحاضرًا في جامعةِ حيفا والكلية العربيّة للتربية.

له دواوين شعر أبرزها: "نداء الجرح"، و"عراف الكرمل". كما كتب في السيرة الذاتية من خلال: "ظل الغيمة"، "خميرة الرّماد" و "مهر البومة".

مقاربات وتلميحات

- مقوّمات آدب السيرةِ.

- السيرة كتوثيق للحياةِ الفلسطينيّةِ وعملية تطورها.

- دقة التصوير.

- النزعة العقلية لدى "يحيى".

- العلاقة بينَ المسلمينَ والمسيحيينَ.

- الحس الوطني العالي.

- عادات وتقاليد فلسطينيةٌ.

- الشفافية في عرض العواطفِ والانفعالاتِ.

- المكان في السيرةِ.


*251*

- المعتقداتُ الشعبية.

- المأساة الشخصية جزء من السيرة الذاتيةِ.

- التوثيق التاريخي لأحداثِ فلسطينَ في فترةِ الانتدابِ.

أسئلة وأعمال

1. اذكر ثلاثة عناصر فنية لأدب السيرة الذاتية في سبرةِ "ظل الغيمةِ".

2. ما العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في فلسطينَ، كما وردَ ذلك في السّيرةِ؟

3. توثّقُ السيرة لطبيعةِ حياةِ الفلسطينيين خلال فترةِ الانتدابِ البريطاني. اذكر ثلاثة أمثلةٍ على ذلكَ.

4. يصوّرُ الكاتب حياتَهُ وحياةَ أقرانِهِ منَ الأطفال بدقةٍ. اذكر مثالين على ذلك.

5. كيفَ تبدو لك شخصية "يحيى" في مجالي التفكير والثقافة؟

6. كيف يبين الكاتب تأثير الثقافة الإسلاميّة عليْهِ؟

7. ما مدى تأثّرِ "يحيى" بالمعتقداتِ الشعبيّةِ التي كانت رائجةً في المجتمع أيّامَ طفولتِهِ؟


*252*

8. أين يظهر الحسُّ الوطني لدى الكاتب في النص؟ هاتِ مثالين على ذلك.

9. تظهر في السيرة عاداتٌ وتقاليد فلسطينية شعبية، اذكر ثلاثة منْها.

10. ما مدى شفافية البوح لدى كاتب السيرة؟ دلل على إجابتك بشواهدَ منَ النص.

11. ما الغاية من توظيف الأمثالِ والأشعارِ والحكاياتِ الشعبية في السيرةِ؟

12. ما تأثير مأساةِ الفقد على بطلِ السيرةِ؟ اشرحْ ذلك.

13. إلى أيِّ مدى يمكن اعتبار السيرة توثيقا تاريخيًّا للأحداثِ السياسية لفلسطين خلال الانتداب البريطاني؟ وضّحْ.


*253*

الفصل الثالث: المسرحية


*253*

المسرحية (مصادر ومراجع للتوسع: الحكيم، توفيق. قالبنا المسرحي. القاهرة: دار مصر للطباعة، 1967؛ نجم، محمّد يوسف. المسرحية في الأدب العربي الحديث. بيروت: دار الثقافة، 1967؛ ياغي، عبد الرّحمن. الجهود المسرحية الإغريقية والأوروبية والعربية. بيروت: المؤسسة العربيّة للدراسات والنّشر، 1980؛ هلال، محمّد غنيمي. في النّقد المسرحيّ. القاهرة: دار النهضة العربية، 1965).

يعد المسرح من أقدم الفنون التي عرفها الإنسان، فقد ظهر فن المسرح منذ عصر الإغريق والرّومان، وعرف بتأثيره في النفوس، حيث كان وسيلة التعبير الوحيدة في تلك الفترة.

كلمة "مسرحيةٍ" مشتقة من الفعل "سرح"، الذي يستعمل - فيما يستعمل - لوصف خروج الماشية للمرعى، فيقال: "سرح الراعي بالماشيةِ". كما يستخدم التعبير: "سرحت ما في صدري" أي أخرجتة.

المسرح هو اسم مكانٍ من الفعل الثلاثي "سرح"، وهو أيضا مصدر ميمي من نفس الفعل. وعندما تطلق كلمة "مسرح" يقصد بها المكان الّذي أعدَّ إعدادا ليمثل عليه بعض الأفراد أحداثًا أو قصة أمامَ جمهور من المشاهدين.

المسرحية نسبة إلى هذا المسرح، أي القصة التي تقدم على هذا المكانِ أمامَ جمهور، فالحركة والتنقل في مكانٍ محدّدٍ هو الذي يربط المعنيين اللغوي والاصطلاحي.

قد تطور فن المسرح من روايات خيالِ الظل التي كانت منتشرة في عهد المماليك، إلا أنَّ روايات خيال الظل كانت خالية من الحوار والحركةِ، ويعتبر لبنان القطر العربي الأولَّ الّذي ظهرَ فيه فن المسرح لأول مرةٍ. غير أن مصر كانت المكان الذي ظهرَ فيه تطور المسرح كمًّا ونوعا.

يمكن القول إنَّ للعمل المسرحي جانبين أساسيين هما: النص المؤلف، والأداء التمثيلي، وتتشابهُ المسرحية مع القصة والرّواية في اشتمالِها على عناصر الحبكةِ القصصية، وتطور الحدث ليمرَّ عبرَ


*254*

مراحلِ التمهيد فالتعقيد فالانفراج، بالإضافة إلى الشخصيات. غير أنه يختلف عنه في اعتماده الكامل على الحوار، الذي يحتضن الأحداث ويبرز الشخصيات، وبالأهمّية الخاصة للمكان الذي تجري فيه الأحداث، وبضرورة تجسيد الأحداث على خشبة المسرح، في حين أنَّ القصة والرواية تستعين بالحوار متكئةً على السّرد غالبًا، كما أن القصة تقرأ مطبوعة أو مرئية دون الحاجة إلى تمثيلها.

وتتألف معظم المسرحيات من فصول، وذلك تبعا للمشاهد وطبيعةِ المكان الذي تجري فيه. ولهذا، تحتاج عملية إعداد المسرحية للعرض إلى طاقم متخصص يعمل على تجهيز الديكور وتأثيث المسرح وإعداد الإضاءة وملاءمة اللباس والاستعانة بالمؤثرات الصوتية والموسيقيةِ.

عناصر المسرحيّة:

1. الحدث: وهو عبارة عن سلسلة الأحداث التي يدور حولها الصراع، وهي تتسلسل بشكل منطقي.

2. الشخصيات: وهي التي تجري من خلالها أحداث المسرحية، والتي يدون على ألسنتها الحوار، وتظهر طبيعة كلِّ شخصية من خلال الحوار، وتتخذ الشخصيات، خصائصها الفنية حسب طبيعة دورها في المسرحيّة، فهناك الخصية الرئيسية (المركزية)، والشخصيات الثانوية. كما أن الشخصية قد تكون نامية متطورة، أو ثابتة مسطحة.

3. الفكرة أو الموضوع: وهي القضية أو المبدأ الذي يريد الكاتب التعبير عنه وإيصاله إلى الجمهور، وقد تكون الفكرة اجتماعية (مسرحية تعالج قضية اجتماعية، كالعلاقاتِ بين الناس، قضايا الزواج والطلاق، الطبقات الاجتماعية، وغير ذلك)، أو سياسية (كعلاقة الحاكم بالمحكوم، والحرّيّة والديموقراطية، والفساد السّياسي، وغير ذلك)، أو ذهنية - فلسفية (كالتفكر في الحياة والغاية منها، الموتِ، الخلود، وغير ذلك، أو تاريخية (كعرض طروف قيام حكم أو دولةٍ، أو سقوطِ حكم أو دولة، وغير ذلك).


*255*

4. الحوار: هو ما يدور على ألسنةِ الشخصيات الفاعلةِ في المسرحيّة، وهو أصدق تعبير عن طبيعة الشخصية ومواقفها.

5. الصراع: يدور الصراع بين أطراف، وقد يكون حول وجهة نظر أو موقف ين قضية ما. قد يدور الصراع داخليًّا، في داخلِ الشخصية، أو خارجيًّا، بينَ شخصيتين أو أكثر.

6. الزمان والمكان: يشكلان الإطار الذي تجري فيه الأحداث. يمعن الطاقم الفني في تأثيث المكان وتجهيزه حسب طبيعة الإطار المكانيِّ الّذي تجري فيه الأحداث، بينما يتم الإشارة أو التلميح بالزمان من خلالِ الحوار والأحداث.

7. التقسيم إلى فصولِ ومشاهدَ: تبنى المسرحية غالبًا من عدد من الفصولِ، قد يتكون كل منها من عدد من المشاهد، تبعًا لدواعي تغيير إطار الأحداث الزماني أو المكانيِّ.

أنواع المسرحية:

تنقسم المسرحيه إلى أنواع حسب طبيعيها والغاية منها، ومن أبرز أنواعها:

المأساة: تروي قصة بطلٍ مأساوي، في شخصيته عيب أو ضعف رغم صفاته الحميدةِ، وتحل به مصيبة أو كارثةً، وعادةً ما يكون مصيره الموت.

الملهاة: مسرحيه تتسم بروح الفكاهةِ، قد يكون الهدف منها إضحاك الجمهور فحسب؛ أو السخرية من قضية أو واقع ما، أو نقدًا لاذعًا تجاهَ أمر ما.

المسرحية الجادة: تشارك المسرحية الجادة المأساة في جدِّيَّتها وتركيزها على الأحداثِ التعيسة، لكن أبطالها أقرب إلى الناس العاديين، وقد تنتهي بنهاية سعيدة.


*256*

الطعام لكل فم - مسرحيّة

توفيق الحكيم (ت. 1987 م) (عيد، رجاء، قراءة في أدب توفيق الحكيم. الإسكندرية: منشأة المعارف، 2000؛ عثمان، أحمد. المصادر الكلاسيكيّة لمسرح توفيق الحكيم. القاهرة: الشركة المصريّة العالمية للنشر - لونجمان، 1993؛ دوّارة، فؤاد. مسرح توفيق الحكيم. القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتّاب، 1986 - 195).

كاتب وأديب مصري، من رواد المسرحية العربية، ولد في قريةٍ صغيرة من أعمالِ "دمنهورَ"، عامَ 1898. اشترك في ثورةِ عام 1919 الّتي قادَها "سعد زغلول". درس الحقوق في مصر، ثمَّ تابعَ دراستَه في باريس، حيث اهتمّ بالأدب والفن والتمثيل. درس المسرح اليوناني القديمَ، وتفتق إبداعُهُ عن مسرحية "أهل الكهف" التي تعدُّ بداية لنشأة تيار المسرح الذهني (يتضمن المسرح الذهني تكثيفًا في الاستناد إلى الأفكار الفلسفيّة، ويتخذ من الممثلين (الشخصيات) أداة لتجسيد الأفكار من منطلق رمزي، ويعتبر توفيق الحكيم أول أديب عربي جعل المسرحية "مقروءة أكثر منها مشاهدَة"، بمعنى أنّ قراءتها مطبوعة أدعى إلى فهمها والتأثر بها من مشاهدتها على المسرح، وقد برّر الحكيم نزعته الذهنية هذه إلى رغبته في التأكيد على الصبغة الأدبية للمسرح). استلهم توفيق الحكيم موضوعاتِ مسرحياته من التراث التّاريخي القديم. أمعن في انتهاج الرمزية في بعضِ مسرحيّاته.

كتب أيضا رواياتٍ وقصصًا قصيرةً ومقالاتٍ. من آثاره: روايتا "يوميات نائبٍ في الأريافِ" و "عصفور من الشرق"، ومسرحيّتا: الأيدي النّاعمة" و "بجماليون".

مقاربات وتلميحات

- ملامح المسرح الذهني في النص.

- قضايا المجتمع المصري

- الفكر الاشتراكي.

- دمج الواقع بالخيال.

- دلالةُ عنوان المسرحيّةِ ومدى ملاءمتِه للمضمونِ.


*257*

- الصراع في كل من القصتين: الواقعيّةِ والخياليةِ.

- شخصية المرأةِ في المسرحية.

- التأثر بالثّقافة الأجنبيّةِ.

أسئلة وأعمال

1. في المسرحية تداخل بين عالمين: واقعيٍّ وخياليٍّ، وضح ذلك.

2. ما ملامح كلٍّ من الواقعية والخيال في قصتي المسرحية الواقعية والخياليةِ؟

3. من هي الشخصيات في القصة الواقعيةِ؟ وما أنواعُها؟

4. عدد شخصيات القصة الخيالية، مبينا سماتِ كلِّ شخصيّةٍ.

5. اذكر اثنتين من ملامح المسرح الذهني في المسرحية.

6. كيف تأثرت شخصيات القصة الواقعية بشخصيّاتِ القصة الخيالية؟ وضح.

7. اذكر ملامح البيئة المصرية كما تنعكس في المسرحية.

8. يسعى الكاتب إلى عرض رؤياه للمجتمع المصري المثالي من خلال القصة الخيالية، وضح ذلك.

9. ما هو الصراع في كل من القصتين؟ ومن أطرافه؟


*258*

10. ما هي الفكرة التي أراد الكاتب عرضها من خلال مسرحيّتهِ؟

11. تتجسد صورة المرأةِ المصرية في شخصيّاتِ المسرحية: "سميرة"، "ناديا" و "الألم" و "عطيات". بين جوانب هذهِ الصورة من خلال "التجميع" بين مواصفات الشّخصيات المذكورة.

12. ما إيجابيات وسلبياتُ شخصية "عطيّات" في المسرحيّةِ؟

13. كيف يظهر تأثر الكاتب بالثقافات الأجنبية؟ وما تأثر ذلك على نص المسرحية؟

14. ما التغيير الّذي طرأَ على كلٍّ من شخصيّتي "حمدي" و "سميرة" في نهاية المسرحية؟ وما رأيك به؟

15. ما مدى ملاءمة عنوان المسرحية لمضمونها؟ وهل يصلح لتمثيلِ أسس المبدأِ الاشتراكي الّذي ينادي بالعدالة الاجتماعيّة؟ وضّح.


*259*

توفيق الحكيم

براكسا أو مشكلة الحكم - مسرحية

توفيق الحكيم (ت. 1987 م)

(انظر ترجمته ص 256)

مقاربات وتلميحات

- استلهام التاريخ الرّوماني.

- مبدأ الفكر الدّيموقراطي.

- الفساد السياسيُّ.

- الرمزية السياسية في كلِّ من الشخصياتِ الرئيسيةِ.

- مميزات المسرح الذهنيِّ.

- الحس الكوميدي في المسرحية.

- التأثر بالحضارةِ اليونانيّةِ.


*266*

أسئلة وأعمالٌ

1. عدد شخصيات المسرحية، مبينا أيها رئيسي وأيها ثانوي.

2. بين ثلاثة ملامح حضاريّةٍ في النص تعودُ للتّاريخ الرّوماني.

3. بين سبب فشل كلٍّ من: "براسكا"، "هيرونوميس" و "بلبروس" في تثبيتِ أواصر حكمه في أثينا.

4. ترمز كلٌّ من شخصيّةِ "براسكا"، "هيرونوميس" و "بلبروس" إلى نوع من أنواع الحكم وضح إلامَ يرمز كلٌّ منها.

5. ما الملامح التي تشير إلى تأثر الكاتب بالفكرِ اليوناني الإغريقيِّ؟

6. كيفَ يتجلى الفساد السياسي من خلال أحداث النص؟

7. اذكر ثلاثة من ملامح المسرح الذهني للنّصِّ.

8. أشر إلى ثلاثة مواقف كوميدية في النص.

9. هل تتطابق أحداث المسرحية على الأوضاع السياسية في مصر في فترة تأليفِها؟ وضح ذلك.

10. ما مستوى لغةِ الحوار في المسرحيّة؟ وهل يلائم طبيعتها التاريخيّة الفلسفيّةَ؟

11. ما مواصفات شخصيّةِ "براكسا"؟ وهل تصلح لأن تكون الشّخصية الرئيسية الأهم؟


*261*

ألفريد فرج (فتح الله، رانيا. الاتجاه الملحميّ في مسرح ألفريد فرج. القاهرة: الهيئة المصرية العامّة للكتاب، 1998؛ بو جادي، خليفة. فنّ المسرح عند ألفريد فرج. الكويت: دار سعاد الصباح للنشر والتّوزيع، 1996).

الزير سالم - مسرحية

ألفريد فرج (ت. 2005م)

أديب ومسرحي مصري. ولد في الإسكندرية عام 1929. درس الأدب الإنجليزي من جامعة الإسكندرية. عمل محرّرًا لعدد من المجلات والصحف المصرية. كان من المساهمين في النهضة المسرحية في مصر خلال ستينياتِ القرنِ العشرينِ، مع يوسف إدريس، وسعد الدِّين وهبة وغيرهما.

اهتمَّ الكاتب بالتراث العربي، ووظفهُ في كثيرٍ من أعماله، وقدْ أفادَ من ثقافته الغربية ما جعله يقدم التراث الشرقي بحلةٍ جديدةٍ وعصريّةٍ.

من أبرز مسرحيّاتِه: "حلّاق بغداد"، "الزّير سالم"، "علي جناح التبريزي وتابعه قفّة"، و "سقوط فرعون".

مقاربات وتلميحات

- استلهام التراث العربيِّ.

- النّهاية المأساويّةُ.

- فكرة ُالعدل المطلق.

- تجسيدُ الواقع السياسي العربي المتأزم.

- بطولة الزير سالم.


*262*

- تجسيد "هجرس" لشخصيّةِ الإنسان الواعي لوضعِهِ وحساسية المرحلة.

- العدل النسبي هو العدل الأمثل.

- الملامح السّياسيةُ للنص.

- الاسترجاع الفني.

أسئلة وأعمال

1. عدد شخصياتِ المسرحية مبينا أيها رئيسيٌّ وأيها ثانوي.

2. تعتبر شخصية "هجرس" الوعاء الأهمَّ الذي يحمل فكرة الكاتب من المسرحيّة. بين ذلك.

3. بين ثلاثة ملامحَ تراجيديّة تميز شخصيّةَ الزّير سالم.

4. ما غاية الكاتب من استلهامِ التراث العربي في المسرحيّةِ؟

5. ما هي فكرة العدل المطلق التي أراد الزّير سالم تحقيقها؟ وهل نجح في تحقيقها؟

6. كيف تجسد المسرحية الواقع السياسي العربي المتأزم من وجهة نظر الكاتب في مرحلةِ الستينات من القرن الماضي؟

7. هل يعتبر الزير سالم بطل المسرحية؟ علل.

8. ماذا تجسد شخصية "هجرس" في المسرحيةِ؟

9. هل تعتقد أن البطولة في المسرحيّةِ هي بطولة فردية؟ بين رأيك استنادًا إلى مصائر الشخصيات.

10. قارن بين كل من فكرةِ "العدلِ المطلق" و "العدل النسبي" استنادًا على أحداث المسرحيّةِ.

11. أين يظهر أسلوب الاسترجاع الفنّيِّ في المسرحيّةِ؟ وما الغايةُ منْهُ؟


*263*

سعد الله ونّوس (علقم، صبحة. المسرح السياسي عند سعد الله ونّوس. بيروت: المؤسسة العربيّة للدراسات والنّشر، 2001؛ المخلف، حسن عليّ. توظيف التراث في المسرح: دراسة تطبيقية في مسرح سعد الله ونّوس. دمشق: الأوائل، 2000).

مغامرة رأس المملوك جابر

سعد الله ونّوس (ت. 1997 م)

مسرحي سوري، ولد عام 1941. درس الصحافة في جامعة القاهرة، ومارس عمل الصحافة في عدد من المجلات والصحف، كمجلة "الآداب" اللبنانية، وصحيفة "السفير". عمل مديرًا للهيئةِ العامّةِ للمسرح والموسيقى في سوريا. درسَ فئ المسرح في باريس، وعين مديرا للمسرح التجريبي في مسرح خليل القبّاني في سوريا.

تنطوي مسرحياته على حس نقدي سياسي واجتماعيِّ للواقع العربي. من أبرز أعماله المسرحية: "الملك هو الملك"، "سهرة مع أبي خليل القبّاني"، "حفلة سمر من أجل خمسة حزيران".

مقاربات وتلميحات

- دلالة المكان في الأحداث والقص.

- العلاقة بين الخليفة "شعبان" ووزيره "العلقميّ"، ودلالتها.

- تأثير العلاقة بين الخليفة ووزيره على الرعيةِ.

- مواصفات شخصيّةِ المملوكِ جابر.

- مميزات المسرح السّياسيِّ.

- تجسيد الواقع السّياسي العربي.

- مميزات المسرح الذّهنيِّ.


*264*

- إقحام المسرح داخل المسرح.

- استلهام أبطال التاريخ للخلاص من معاناةِ الشعوب.

- دمج الفصحى بالعامية.

أسئلة وأعمال

1. أين يظهر الرّاوي؟ وأين تجري أحداث المسرحية؟ وما دلالة المكانِ بالنسبة إلى القص وإلى الأحداث؟

2. كيف كانت العلاقة بين الخليفة ووزيره؟ وضح ذلك.

3. ما هو تأثير نوع العلاقة بين الخليفة ووزيره على الرّعية؟ وضّحْ.

4. ما الغاية من دمج الفصحى بالعامّيّةِ في المسرحية؟

5. نلاحظ أن الجمهور شريك فاعلٌ في المسرحية، وكأنَّ مسرحًا أقحِمَ داخل مسرحٍ، فما الغاية من ذلك؟

6. تتداخل شخصيّات الواقع بشخصيّاتِ الخيال في المسرحيّةِ، لكن مع وجود حاجزٍ واهٍ بين كلِّ مجموعةٍ. بين من هي شخصياتُ كل مجموعة، وما الّذي يفصل بينهما.

7. بين مواصفاتِ شخصية المملوك جابر استنادًا على نص المسرحيّةِ.


*265*

8. هل يعتبر المملوك جابر بطل المسرحيةِ؟

9. هل يمكن اعتبار المسرحية تراجيدية؟ علّلْ.

10. ما المغامرة الّتي قرّرَ المملوك جابر أن يخوضها؟ وما غايته منها؟

11. كيف تجسد أحداث المسرحية الواقع السياسي العربي؟ وضح رأيك؟

12. اذكر ميزتين للمسرحية من مميزات المسرح الذّهنيِّ.

13. ما الفكرة التي تحملها المسرحية؟ وما الغاية من توظيف التراث العربي والإسلامي في عملية توصيلها إلى المتلقّي؟

14. لماذا يطلب الجمهور من الحكواتي استحضارَ "بيبرس" كبطلٍ من أبطالِ التراث؟

15. كيف يظهر انتقاد الكاتب لسلبية الشعوب العربية إزاءَ ما يحدث حولَها؟ وما نتيجة هذه السلبية كما يصورها الكاتبُ؟

16. هاتِ مثالين على توظيف الكاتب للإشارات المسرحية والإرشادات الإخراجية في نسيج المسرحيّة، ثمَّ اشرحْ ما الغرض منها.


*266*

(صفحة فارغة)


*267*

الفصل الرّابع: المقالة


*267*

(أبو شريفة، عبد القادر. الكتابة الوظيفية: منهج جديد في فن الكتابة والتعبير. عمّان: دار حنين، 1998؛ أبو أصبع، صالح: عبيد الله، محمّد. فن المقالة: أصول نظرية، تطبيقات ونماذج. عمّان: دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، 2002؛ نجم، محمّد يوسف. فن المقالة. بيروت: دار صادر، 1996).

المقالة (المقال) عبارة عن نص نثري، يدور حول فكرةٍ رئيسيةٍ واحدةٍ، يهدف إلى نقل الخبرة والمعرفة، أو الرّأي، ويناقش موضوعًا معينًا، ويتجنب كاتبُ المقالةِ عادة المقدمة الطويلة والإطناب الممل، إذ يتمحور حول الفكرة الرئيسية على طول المقالة.

تنقسم المقالة إلى فقرات، تشكل معًا وحدة واحدة متلاحمة الأجزاء، تكتب بأسلوب واضح وجذاب، خال من التكلف والإمعان في الصنعة اللغوية والبلاغيّةِ.

قد تكون المقالة أدبيّة، أو سياسية، أو علمية، أو اجتماعية، أو إقناعية، أو ذاتية (تعبر عن تجربةِ الكاتب الشخصية وعن طريقته في التفكير وعن انفعالاته)، أو غير ذلك.

تقسم المقالة إلى ثلاثةِ أقسامٍ:

- المقدمة: التي تمهد للموضوع.

- العرض: استعراض الأفكار والنقاط الرئيسية.

- الخاتمة: خلاصة ما جاء في المقالِ.


*268*

إمام عبد الفتاح إمام

تشجع... واعرف...!

استغرقني هذا الاسبوع قراءة مقال ممتع للفيلسوف الألماني الكبير إيمانويل كانط، المولود (1724-1804) عن معنى التنوير الذي ساد في القرن الثامن عشر، والذي عاش كانط في قلبه ولخصه بفلسفته النقدية، فكان أعظم تعبير عنه! ولقد تُرجم المقال إلى اللغة العربية ترجمة دقيقة وقدم له بمقدمةٍ شيقةٍ صديقنا الدكتور عبد الغفار مكاوي، وكأنه بذلك يستشعر ما نتعطش إلى معرفته، ذلك لأننا في مجتمعنا العربي ما زلنا حتى الآن نكافح لكي نبقى في عصر التنوير الذي بدأ في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر متجها في البداية وجهة (التنوير الديني) على يد الافغاني ومحمد عبده، ثم متجها في أوائل القرن العشرين وجهة علمية على يد شبلي شميل وإسماعيل مظهر وسلامه موسى، ثم تتسرب أشعة التنوير؛ لتضيء جوانب مختلفة من حياتنا الثقافية: في الفلسفة والأدب والفن.. إلخ فتظهر حركة شاملة استهدف النهوض بالحياة الفكريّة في كل أرجائها.

ومن هنا كان من الأهمية بمكان أن نعرف ما المقصود بالتنوير؟! يُعرّفه كانط بأنه: "خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، وهذا القصور هو عجزه عن استخدام عقله إلاّ بتوجيهٍ من إنسان آخرَ ..!" بمعنى أوضح وأصرح: التنوير في رأي كانط هو رفع الوصاية عن الإنسان والإعتراف بأنه قادر على التفكير المستقل، وأن من حقه أن يستخدم عقلَه استخدامًا حرًّا بلا خوف ولا قلق! ومن الطّريف أنّ كانط يلخّص عصر التنوير كله في عبارة للشاعر الروماني (هوراس) تقول: "تشجَّع.. على المعرفة!" وهي عبارة يمكن أن تكون أمرًا مطلقا يتوجه به الفيلسوف إلى كل إنسان ما زال يتخبط في ظلمات العصور الوسطى وتسيطر عليه السلطة أيًّا كان نوعها: السلطة الدينية، أو السلطة المدنية، أو سلطة النصوص والشروح.. إلخ. فهي دعوة إلى التفكير الحر المستقل بعيدا عن الوصاية التي عانى منها الإنسان في الفترات السابقة!


*269*

والحق أنني وقفت طويلا أتأمل هذا الشعار الذي لخص فيه كانط عصر التنوير - (تشجع على المعرفة!) او (تشجع... واعرف!) أو (انهض.. واعرف!) انهض من السبات والاسترخاء والاعتماد على الحلول الجاهزة التي يقدمها لك الآخرون واعرف (بنفسك و لنفسك) أقول إنني وقفت اتأمل هذا الشعار لسببين: الأول أننا ما زلنا في المجتمع العربي في حاجة ماسة إلى رفعه وكتابته في كل شارع، وعلى كل جدارٍ، وتدريسه في كل مدرسة ومعهد حتى ينهض الفرد - والمجتمع!.. لينفض عن نفسه ما ران عليها من جهل وخرافة، ويبدد ما حوله من ظلماتِ القرون التي سادها الحكم التركي بصفة عامة! والسبب الثاني: أنني أخذت أسأل نفسي عن المعنى الذي يتضمنه هذا الشعار العجيب (تشجع.. واعرف!) هل المعرفة تحتاج إلى شجاعةٍ؟! وكيف يكون ذلك..؟!

لا تبدأ المعرفة إلّا نتيجةَ مشكلةٍ، غير أنّ المشكلاتِ لا تفرض نفسَها بنفسها على الانسانِ وإنما الاحساسُ بالمشكلة هو وحده الذي يوقظ المعرفة، وهو الدليل على بزوغ الروح المعرفية الحقة، ومن هنا قيل إن كل معرفةٍ هي حلٌّ لمشكلة، أو بمعنى آخر، هي إجابة عن سؤال، وإذا لم يكن ثمة سؤالٍ فلن تكون هناك معرفةٌ - وهذا يفسر لك لم لا يستفيد الطلاب عندنا مما يعرض عليهم من معلومات وثقافة؟ لأن لديهم بالفعلِ من الأجوبة أكثر بكثير ممّا لديهم من الأسئلة!

المعرفة إذن تحتاج إلى طرح السؤال وطرح السؤال يحتاجُ إلى شجاعة !لقد رفع سقراط العظيم شعاره "أيها الإنسان، اعرف نفسك!" ودار في الأسواق يوقظ الناس لكي يعرفوا، وكان يقول عن نفسه "أنا ذبابة الخيل التي أرسلها الله إلى أناس لكي تزعجهم، وتباغتهم، وتوقظهم من سباتهم العميق!" ولهذا وصف سقراط بأنه " الرجل الذي جرؤَ على السؤال!" أرأيت كيف يتطلب طرح الأسئلة " جرأة" وشجاعةً!

إن المعرفة التي تؤدي في النهاية إلى بناء الشخصية المستقلة التي تفكر لنفسها وتجمع أفكارها بنفسها، والاستقلال يعني الانفصال، بمعنى ألا تكون الشخصية الجديدة مجرد تكرار للشخصية القديمة أو (نسخة) منها، وإنما لا بد لها، على العكس، أن تقف في وجه القديم؛ لتقول: لا! أنا إنسانٌ يريد أن يعرف نفسه، ويكون شخصية خاصة به لا يكون فرداً في قطيع، ومثل هذا


*270*

الموقف الصلب في مواجهة الماضي من ناحيةٍ ومواجهة الحاضر المتعفن من ناحية أخرى يتطلب شجاعةً لا تخفى!

المعرفة التي نتحدث عنها الآن، والتي تحتاج إليها مجتمعاتنا العربية، لا بد أن ترتكز على الحرية، وليست ممارسة الحرية مسألة هينة، ذلك لأن الوجه الثاني من العملة بالنسبة للحرية هو المسؤولية. أنت حر فأنت إذن مسؤول، مسؤول عن افعالك، ومسؤول عن افكارك التي جمعتها بمحض اختيارك! والقدرة على تحمل المسؤولية تحتاج إلى شجاعة قد لا يقوى عليها الكثيرون! ولهذا نجد من الناس من يهرب من ممارسة الحرية، الذي هو نفسه هروبٌ من تحمل المسؤولية! ذلك أن تسأل نفسك لم تحتاج كل "ورقة" رسمية في بلادنا إلى توقيعات لا حصر لها؟! لأن كل موظف لا يريد هو نفسه أن (يتحمل المسؤولية) يعني لا يريد أن يكون حرًّا: إنه يهرب من ممارسةِ الحرية، فيضطر إلى إلقاء المسؤولية على غيره. يريد من الآخرين أن يمارسوا هم الحرية! وهكذا تستطيع أن تحكم وانت مطمئن بأن (البيروقراطية" تعني "العبودية"، وأن المجتمع البيروقراطي مجتمع من عبيد يرفضون ممارسة الحرية وتحمل المسؤولية!

المعرفة التي نتحدث عنها ويحتاج إليها مجتمعنا العربي - هي المعرفة العلمية التي تفسر الأشياء والظواهر تفسيراً علمياً لا خرافياً، ونحن نخطىء كثيراً عندما نظن أن هذه المعرفة الجديدة التي ننشدها سوف تحل في ذهن فارغ أو أن هناك إنساناً يمكن أن نقول عنه إن ذهنه "صفحة بيضاء!" وبعبارة أخرى: إننا قد نتصور، خطأً، أنه يمكن أن يكون هناك إنسانٌ يحمل عقلاً بلا بنية ولا معارف! ومن ثم نذهب إلى القول بأن المعرفة تخرج من الجهل كما يخرج النور من الظلمة..

ويفوتنا كما يقول الفيلسوف الفرنسي المعاصر جاستون باشلار (1962-1884) G. Bachelard "إن الجهل إنما هو نسيجٌ من الأخطاء الموضوعيّةِ المتماسكةِ، وهكذا لا نضع في أذهاننا أنّ الظلمات الروحية لها بنية.. Structure، وأنّ كل معرفة موضوعيّة سليمة يجب أن تكون تصحيحًا لخطأ ذاتي!" فالإنسان الجاهل ليس جاهلا لأنّ ذهنه يخلو من كل معرفة بل هو كذلك


*271*

لان لديه معارف خاطئة والمجتمع المتخلف ليس متخلفا لأنه لا يفسر ظواهر طبيعية أو أحداث التاريخ، وإنما هو متخلف لأن لديه تفسيرات ومعارف كلها خاطئة! فالمعرفة العلمية الجديدة سوف تحل محل معرفة قديمة غير علمية - وأنت عندما تقول للفرد تشجع.. واعرف! فإنك تقول له تشجع وتخلص من المعارف القديمة، كن جريئاً واطرح ما لديك من معلوماتٍ خاطئةٍ!

وفضلا عن ذلك كله فإن المعرفة الجديدة تحتاج إلى صبر ومعاناة وجلد، تحتاج إلى إرادة قوية لا تخاف عندما تصحح ما لديها من أخطاء، لديها الجرأة في أن تضع لنفسها قسماً ومثلاً عليا جديدة، إرادة تسهر الليل؛ لتقرأ وتطالع لا لتسمر مع الأصدقاء، تفضل الكتب على الوجبة الدسمة، تقول لنفسها إنّ "غذاء الفكر" أهم من "غذاء البدن" لأن الإنسان إنما يكون إنسانا لأنه "يفكر" و "يعرف" و "يعقل" - وليس لأنه يأكل ويشرب ويمارس الجنس!

نعم! المعرفة تحتاج إلى إرادةٍ شجاعة تنقل الفرد من حظيرة الحيوان إلى مرتبة الإنسان! ومن ثم فإن الشعار الذي يقول لك "تشجّع.. واعرف!" يقول لك في الوقتِ نفسه "تشجع واستخدم عقلك!" تشجع.. وفكر.. باختصار "تشجّع .. وكن إنسانًا".

إمام عبد الفتاح إمام

أفكار ومواقف، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1996.


*272*

مقاربات وتلميحات

- نوع المقالة وملامحه.

- المقدمة ومضمونها.

- منهج الكاتب.

- مميّزات لغةِ المقالةِ.

- الفكرة الرئيسية من المقالةِ.

- أسلوبُ الكاتب.

- الخاتمة ومضمونها.

- شموليّة المنهج التنويريِّ.

- موقف الكاتب من التنوير.

- فائدة مبدأ التنوير.

أسئلة وأعمال

1. ما نوع المقالةِ؟ اذكر ثلاث مميّزات لَها.

2. بين ما تتضمّنُه مقدمة المقالةِ.

3. ما منهجية الكاتبِ في تنظيم المقالةِ؟

4. ما الغايةُ من ذكر أسماء الفلاسفة والمفكرين في المقالةِ؟


*273*

5. ما الغاية من التفقير (التقسيم إلى فقراتٍ) في المقالةِ؟ وضّح.

6. ما مستوى لغة الكاتبِ؟ وكيف يخدمُ هذا المستوى نوعَ المقالةِ وموضوعَها؟

7. اذكر ثلاثَ مميزات أسلوبيّةٍ للمقالةِ، مع التمثيلِ لكلٍّ منها بمثالٍ من النص.

8. ما غاية الفقرة الأخيرةِ من المقالةِ؟ اشرحْ.

9. ما موقف الكاتب من المجتمع العربي؟ بين استنادًا إلى النص.

10. بماذا ينتقد الكاتب الطلاب في المجتمع العربي؟

11. ما موقف الكاتب الشخصي من الفكر التنويري؟ وما موقفه من "كانط"؟

12. هل تشتمل المقالة على الصور البلاغية والمحسنات البديعية؟ لماذا؟

13. ما القضية المركزية التي يتناولها النّصُّ؟ وما موقفك منها؟

14. ما الذي يمكن تعلمهُ واستفادته من النّصِّ؟


*274*

محمد علي بديوي

استنساخ الأجنة: ثورة علمية.. أم كارثة إنسانية؟

شهوة المعرفة لدى الإنسان صارَت تدفع العلماء إلى حدودٍ قصوى من التجريب العلمي، لكنَّ التاريخ علّمَنا أنَّ التجارب تتحول يومًا ما إلى ممارساتٍ شائعةٍ، وها هو التجريب العلمي يفتح بابًا خطيرًا وصادمًا لمألوفِ الإنسانية.

بينَ الحينِ والحينِ يفاجئنا العلماء بكشفٍ علميٍّ جديدٍ أو بتجربةٍ جديدةٍ تؤدّي إلى نتائج متعددة؛ كبيرةٍ في شتى مناحي الحياةِ سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وأخلاقيًّا، فكل جديد تتبعه ثورة شاملة، فانشطار الذرة وصناعة الكمبيوتر، وتجارب الهندسةِ الوراثيةِ، كل ذلك تلتهُ ثوراتُ تغييرٍ جذريّةٌ امتدّت لتصل إلى كلِّ مناحي الحياةِ، وبالأمسِ القريبِ أجرى العالمان الأمريكيّان د. جيري هولم وروبرت ستيلمان تجربةً بالغةَ الخطورة ومتعددة النتائج لاستنساخ الأجنةِ، والحقيقة أن تجربة جيري وروبرت ما هي إلا الحلقة الأخيرة في سلسلةِ متتابعة من المحاولاتِ المختلفة التي تمت عبرَ القرون الثلاثة الأخيرةِ، فأول تجربة تلقيح صناعيٍّ في العالم أجريَت عامَ 1799، وأول محاولةٍ لعمل أطفالِ الأنابيب في الحيواناتِ كانت عامَ 1944، وأوّلُ تجربة تلقيحٍ ناجحةٍ خارجَ الرَّحمِ كانت عامَ 1951، وتمَّ تجميد الحيواناتِ المنوية لإعادة التلقيح بها في الماشية عام 1952، وفي الإنسان عام 1953، أما تجميد الأجنة لإعادةِ زراعتها فقد تمَّ عامَ 1973م، أما أول طفلةِ أنابيب في العالم فقد كانت الإنجليزية لويزا براوْن عامَ 1978، أمّا استنساخ الأجنّةِ فقد بدأت التجارب عليه في الأبقار عام 1981، إلى أن جاءَ عالم 1993، وأثناءَ انعقاد مؤتمر جمعيَّةِ الخصوبة الأمريكية بمونتريال بكندا ليعلن د. جيري هولم عن نجاح تجاربه لنسخ الأجنَّة في الإنسانِ.


*275*

إن فكرة تحسين النّسلِ البشريِّ بطريق الاستنساخ هي فكرة قديمة نسبيا، فقد كتب عنها بعض العلماء والكتّاب كنوعٍ من الخيال العلمي المستقبليِّ، فكتب عنها ألدوس هيكسْلي منذ 61 عامًا، والأساس الذي انبنت عليه، أوحى بأفكار مماثلةٍ، ومنها فكرة فيلم "الحديقة الجوراسيّة" الشهير الذي يدور حول فكرة العثور على حشرةٍ صغيرةٍ قدرَ عمرها بأكثرِ من 135 مليون سنة، وطولها 3 ملم، وجدت داخل ترسيبات الكهرمان الذي حافظ عليها سليمةً، ويبذل العلماء جهودا جبارة لاستخراج مادةِ DNA الخاصة بالديناصوراتِ من هذه الحشرةِ الّتي كانت تتطفل على الديناصورات على أساس أن مادة DNA لا تقنى ولا تتأثر مهما مر عليها من زمن، ويبذل العلماء جهودًا أخرى لإنتاج ديناصور جديد من هذا الحامض النوويِّ، وفكرة أخرى ظهرت في أحد كتب الخيالِ العلمي عن محاولةِ أحد العلماء التسلط على أهل الأرض باستخدام شعرةٍ من شعر هتلر واستخلاصِ مادّةِ DNA منها، وتخليق نسخ ضخمةٍ من هتلر يكون هو زعيمهم للسيطرةِ على الأرضِ.

هذا هو الجانب الخيالي في الموضوع، أما الجانب الحقيقي المتمثل في تجربةِ جيري وروبرت فيعتمد على أنَّ أصل أي كائنٍ حيٍّ هو خليّة واحدة تنقسم إلى اثنتين ثمّ أربع وهكذا، والذي حدث أن العالمين استطاعَا فصل الخليتين الأوليَيْن كيميائيًا - وهذا يتم بصورةٍ طبيعيّةٍ أثناء تكوين التوائم في رحم الأمِّ - ثم بعد ذلك احتفظا بإحدى الخليتين مجمدة ولم يسمحا لها بالتكاثر ثم أذابا الغشاء المحيط بالأخرى والمسمى "Zona pellucida" واستعاضا عنه بغشاءٍ صناعيٍّ مكون من مادةٍ هلامية (جِل) مستخلصةٍ من أعشاب بحريّةٍ، ثم سمحا لهذه الأجنة المستنسخة بالنمو. وحصل العالمان على 48 نسخةً جديدة من أصل 17 جنينًا في بدايةِ التجربة، ولكنّ أيا من هذه الأجنة لم يعش أكثرَ من ستة أيّامٍ؛ لأن جيري وروبرت قاما بتلقيح البويضة الأم بحيوانين منويّيْن، والمعروف أنّ هذه الأجنَّة تموت مبكرًا في مرحلةِ العلقة، والنتائج الأولية لهذه التجربة مثيرة وخطيرة في آنٍ واحدٍ وتتلخص في:


*276*

1. أنه يمكن استنساخ أي عدد من الأجنة من أصلى خليَّةٍ واحدةِ.

2. أنه يمكن الاحتفاظ بأيٍّ من هذه النسخ المتطابقة وراثيًّا مجمدةً لأي فترة ثم يسمح لها بالنمو مرةً أخرى، مما يؤدّي إلى نمو جنينين متطابقين وراثيًّا ومختلفين عمرًا، ولأي فترة مطلوبة حسبَ طول أو قصر فترةِ التّجميد.

وهل من إيجابياتٍ؟

إنَّ الآثارَ المترتبة على هذه التجربة مرعبةٌ حقًا، وقد تكون في غالبيتها سلبيه إذا أسيءَ توظيفُها، وقد تكونُ في غالبيّتِها إيجابيةً إذا أحسن توظيفها مثلاً، تمامًا مثل الانشطار النوويِّ، ويمكن تلخيصها فيما يلي:

أ. الآثار السلبيَّةُ:

1. من الناحية الأخلاقيةِ: قد يؤدّي الحصولُ على نسخٍ بشريةٍ متطابقةٍ إلى استخدام أعضاءِ هذه النُّسخ كقطعِ غيار، فإذا أصيب الكبدُ مثلاً إصابةً جسيمةً استدعت تغييره بآخر، فما على الطالبين إلّا تنميه النّسخة الأخرى المجمدة إلى مرحلةٍ مناسبةٍ تمكن من انتزاعِ الكبدِ منها لزراعتِهِ مكان الآخرِ الذي أصابَه العطَبُ، ثمّ يلقى بما تبقى من هذه النّسخة في سلّةِ المهملات، وقد يؤدّي هذا إلى استحداثِ سوقٍ رائجةٍ لهذه التجارة المرعبة.

وقد يؤدي ذلك إلى استعاضة الأسرة عن أحد الأبناءِ الذي توفي بالجنين الذي فُصلَ عنه في البداية ليكون صورة طبق الأصلِ من المتوفى، وقد يؤدّي ذلك إلى الحصولِ على توائم مختلفة في العمر، كأن يكونَ أحدُهم عمره خمسُ سنوات والآخرُ عمرُه عشرُ سنواتٍ مثلًا.


*277*

أما المضحك المبكي في هذا الأمر فهو أن المرأة قد تحمل توأمها الذي فصل عنها، وهي جنين لتلده بعد ذلك فتصبح أمًّا لأخيها أو أختها، وقد تحمل توأم زوجها الذي فصل عنة، وتمّ تجميده لتلدَه بعد ذلك فتصبح أمًّا لشقيق زوجها!!

2. من الناحية الاجتماعيّةِ: إن استنساخ الأجنّةِ قد يؤدّي إلى القضاء على مفهوم العائلةِ تمامًا، لأن هذه النسخ ليست بحاجةٍ إلى أب أو أم بقدر ما هي بحاجة إلى مؤسّسه تقوم برعايتها، وقد تمَّ إنماؤُها في أجهزةٍ خاصةٍ، وعندئذ سوف تصبح مصطلحاتُ الأمومة والأبوَّةِ والتواصل الأسري والعاطفةِ من مخلفاتِ الماضي السحيقِ.

3. القضاءُ على تفرد الأنسان واستقلاليّته: فلا ريبَ أنه حق لكلٍّ منّا أن تكون له شخصيّتُه المستقلة وصفاته التي لا يشاركه فيها أحد، وإنتاج النسخ المتشابهةِ ذات الصفات الموحدة يقضي تمامًا على هذا التّمايز، إذ سيصيح الإنسان نسخة مكررة لآلاف غيرَه.

4. الإنسان السوبر: إنّ اختيارَ صفاتٍ وراثيّةٍ معينةٍ لتكون الأصلَ في إنتاح هذه النسخ المتشابةِ من ناحيةِ القوةِ الجسمانية والأداء العقليِّ سوف يؤدّي إلى استحداث مجتمع العمالقة، ولنا أن نتخيل مجتمعًا أفراده في قوّة أبطالِ المصارعةِ أو في عقليّة علماء الذّرّةِ.

ب. الآثار الإيجابيّة (وهي موضع اختلافٍ أخلاقيٍّ كبيرٍ):

1. دراسة الأمراضِ الوراثيّة وطرق علاجِها:

فلا شكَّ أنّنا نعرف القليل عن الأمراض الوراثية مثل ضمور المخ الوراثي، وعمى الشبكية الوراثي، وأمراضِ الدّم الوراثيّةِ، والصرع الوراثي. ولما كانت معرفتنا قليلة، فإنّ علاج هذه الأمراض غير ناجح، لذا فإذا استحدثنا نسخًا مصابةً بأمراض وراثيةٍ، فإنّه يمكننا دراستُها باستفاضةٍ ورويَّةٍ.


*278*

2. مساعدة المصابين بالعقم: فإذا كان الزوج مثلا يعاني من نقص شديدٍ في الحيوانات المنوية، فإننا باستخدام حيوانٍ منوي واحد وبويضة واحدةٍ يمكننا استنساخ عدة أجنةٍ عن طريق تجميدها لفترات مختلفةٍ.

3. دراسة وعلاج التشوهات الجنينية: وذلك يتمُّ بصورةٍ مشابهةٍ لدراسةِ وعلاج الأمراض الوراثية.

4. نقل الأعضاء: يمكن أن يقي الفرد نفسه صحّيًّا باستنساخ نسخةٍ أخرى منه إلى سن معين، ثم يستفيد من أنسجتِه وأعضائه إذ إنَّ هذه النسخة مُطابقةٌ له تمامًا، وفي ذلك تغلب على أخطر مشكلات نقل الأعضاء وهي عدم توافق أنسجةِ المتبرع مع أنسجةِ المريض، ولكن ما هي حقوق النسخة الأخرى؟ وهل تقبل أن تكون قطع غيارٍ للنسخة الأصليةِ؟

هذه التساؤلات الحائرةُ وغيرها تنقل هذه الإيجابياتِ في معظمِها - فورا إلى دائرةِ السلبياتِ، فهي تهدر كرامةَ الإنسانِ وشرف وجودِه.

أمّا العلماءُ.. فقد انقسموا إلى بعض المؤيّدين وفريق ضخم من المعترضين، أمّا المؤيدون فحجتهم تتمثل في "الإيجابيات" التي أسلفنا الحديث عنها، وهم يرون أن هذه التكنولوجيا المتقدّمة ليست مشكلةً في حدِّ ذاتِها، ولكن المشكلة فيمن سيجعلها في حيز التطبيق، أي أن المشكلة في المنفذ وليست المشكلة في النتائج التي أدت إليها التجربة، فإذا استخدمها منقذها لمنفعةِ الجنس البشري فهذا هو الهدف، أمّا إن كان متسلطا فإنّه ليس في حاجةٍ إلى هذه التكنولوجيا لكي يسعى إلى الدَّمارِ، فهو بها أو بغيرِها سوف يدمّر نفسه ويدمر مَن حولَه؛ تمامًا مثل الذي يستعمل السكين الّذي يعود عليه بالنفع في ذبح الآخرين.

أما المعترضون فحجتهم ما أسلفنا الحديثَ عنه من سلبيّاتٍ، ويرون أنّ مبعثَ القلق هو النّظرةُ إلى الإنسانِ على أنّه مجرد أعضاءٍ فيها خطأٌ فاحشٌ؛ إذ إن الإنسان "النفس" لا ينفصل


*279*

بحال من الأحوال عن الإنسان "الجسم".

أمّا عن العامّةِ فقد أظهرت استطلاعاتُ الرأي التي أجرتها معظم المجلات الغربية الشهيرة ومحطات الإذاعة والتلفزة أن الغالبية العظمى لا توافق على استنساخ الأجنة مهما كانت المبرراتُ، وترى أنَّ هذه عملية غير أخلاقية، وتطالب بأن توقف هذه الأبحاث حاليًّا وأن تمنع في المستقبلِ. وهم يرَوْن أنّه حتّى لو وضعت قوانين لمنع أي سلوك غير قويم بشأنِها فلن يكون هناك ضمان من ظهور ديكتاتور أو متعصب أو مجرم يسعى إلى تحقيقِ أهدافٍ غير إنسانيه برغم وجودِ الضوابط والموانع.

ولم تقف الدول مكتوفة الأيدي أمام هذه المعضلة؛ ففي بريطانيا يتطلب الأمر موافقة من الحكومة بعد دراسةٍ صارمةٍ، وفي ألمانيا فإنّ العقوبة قد تصل إلى السجن لمُدَدٍ متفاوتةٍ والقانونُ في اليابانِ يمنع تخليق أو مضاعفة أو نسخ الأجنّة البشرية، وسوفَ تحذو كثيرٌ من الدول حذو هذه البلدانِ في القريبِ العاجلِ، لأن الأمر جد خطيرٌ فهو متعلق بمصير الإنسانِ.

وإذا قيلَ إنّنا بعيدون تقنيا عن الوصولِ إلى هذه المعضلة، بمعنى أن مستوانا العلميَّ ينقذنا من الوقوع في مشكلةِ الاختيار والرّأي في مواجهة موضوعِ استنساخ الأجنّة، فإن هذا لا يمنع من وقوع بعضنا في براثن هذه المعضلة، ولو كمستهلكين، وهو أمر خطير يتطلب كثيرًا من الوضوح في المواقفِ.. علميًّا، وأخلاقيًّا، وقبلَ هذا كله دينيًّا، فهل نتحركُ، ولو بالرّأي، قبلَ وقوع الواقعةِ؟!

محمد علي بديوي

مجلة العربي ع 1996/454


*280*

مقاربات وتلميحات

- نوع المقالةِ وملامحه.

- مقدمة المقالةِ.

- منهجية الكاتب.

- إيجابيّاتُ ظاهرةِ الاستنساخِ.

- سلبيات ظاهرةِ الاستنساخ.

- لغة الكاتب.

- أسلوب الكاتب.

- خاتمة المقالةِ.

- موقف الكاتب من الاستنساخِ.

أسئلة وأعمال

1. ما نوع المقالةِ؟ اذكر ثلاثة ملامحَ تشيرُ إلى ذلكَ.

2. ما الفكرة الرئيسية للمقالةِ؟

3. ما المقصود بظاهرة "استنساخ الأجنّةِ"؟ وما الدّواعي إلى نشوئِها؟

4. بين ما تتضمنه مقدّمة المقالةِ.

5. ما منهجية الكاتب في تنظيم المقالةِ؟


*281*

6. اذكر اثنتين من إيجابيات ظاهرة استنساخ الأجنّةِ واشرحهما.

7. اذكر اثنتين من سلبيات ظاهرةِ استنساخِ الأجنة واشرحهما.

8. ما مستوى لغةِ الكاتبِ؟ وكيفَ يخدم هذا المستوى نوعَ المقالةِ وموضوعَها؟

9. اذكر ثلاث مميزات أسلوبيّةٍ للمقالةِ، معَ التمثيلِ لكلٍّ منها بمثالٍ من النص.

10. ما الغاية من التّفقير (التقسيم إلى فقراتٍ) في المقالةِ؟ وضّح.

11. بين موقف كلٍّ مما يلي من القضيةِ المطروحةِ في المقالةِ:

أ. الأديان

ب. العامة

ج. علماء الهندسة الوراثيّةِ

12. ما الغاية من ذكر أسماءِ العلماءِ، وسنواتِ التجارب، والمصطلحاتِ المكتوبةِ بالّلاتينية في النّصِّ؟

13. لماذا اختلف العلماءُ حولَ ظاهرةِ الاستنساخِ؟

14. ما موقف الكاتب الشخصي منَ الاستنساخِ؟

15. ما الّذي تتضمنه خاتمةُ المقالةِ؟

16. ما موقفك من القضية الّتي تتناولها المقالة؟ وضح.

17. استخرج من النص نماذج لجملٍ تعبر عن رأيٍ وأخرى تعبر عن حقيقةٍ.


*282*

(صفحة فارغة)


*283*

ملحق: مسرد بالمصطلحات الأدبية


*283*


*284*

الأساليب البلاغية:

هي الأساليب والتقنيات التي تندرج تحت علوم البلاغة الثلاثة: البديع، البيان والمعاني. تُستخدم هذه الأساليب بغية وتجميل الكلام وتزويق اللفظ، وتعميق الدّلالات و / أو نقلها من مستوى إلى آخر. من أبرز هذه الأساليب: الجناس، الطباق، الكناية، الاستعارة والتشبيه.

الاستطراد:

هو أن يخرج المتكلم من الغرض الذي هو فيه إلى غرض آخر لمناسبة بينهما، ثم يرجع فينتقل إلى إتمام الكلام الأول. وقد اشتهر الشعر الجاهلي عمومًا بانتهاج الاستطراد، وكذلك بعض كتاب العصر العباسي، وخصوصًا الجاحظ. من شأن الاستطراد إثراء النص بمزيد من المواقف والأوصاف والمعلومات، غير أنه قد يحوّل انتباه القارىء أو السامع عن موضوع النّصّ الأساسيّ وعن غرضه الرئيسيّ.

الاستعارة:

هي تشبيه بليغ حذف أحد طرفيه؛ المشبه أو المشبّه به. ويقصد به التشخيص أو الإيهام أو التأكيد أو غير ذلك. تنقسم الاستعارة إلى أنواع أبرزها: الاستعارة التصريحية، والاستعارة المكنية.

مثال ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي:

وإذا المنيةُ أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمةٍ لا تنفعُ

الاستفهام الإنكاريّ (البلاغيّ):

هو الاستفهام الّذي لا نجيب بعد إلقائه وإنّما يكون له معانٍ أخرى. هذا النوع من الاستفهام لا يقصد به الاستفهام بعينه، بل يراد منه قصد آخر غير الاستفهام كأن يكون لغرض التوبيخ أو التقرير او التّشويق أو التّمني وغير ذلك. إذ أنّ الغرض منه هو غرض بلاغيّ وليس الاستفهام الحقيقيّ.

ومثال ذلك قول الرسول صل الله عليه وسلم لأحد الباعة: "أحشفًا وسوء كيلةٍ".

الاستهلال:

هو واجهة الكلام، الّتي من خلالها تكون الإشارة إلى موضوع النص، وذلك بغية لفت انتباه السّامع أو القارئ إلى الموضوع الّذي يتناوله النّصّ.

الأسطورة:

هي نوع من السّرد القصصيّ المبتدع شعبيًّا، وهو معدّ في الأساس لتفسير ظواهر عجز الإنسان عن فهمها. غالبًا ما تظهر شخصيّات خياليّة وقوًى خارقة في الأساطير. تظهر الأساطير في بعض الأشعار الكلاسيكيّة.


*285*

الإغراب:

هو استخدام اللغة غير المألوفة في الكلام الأدبيّ الدّارج بين الأدباء، وذلك بهدف إظهار البراعة اللغوية والقدرات البلاغية لدى الأديب. واشتهر "أبو العلاء المعرّي" بهذا الأسلوب في رسالة الغفران.

كما أنّ الإغراب أيضًا صياغة الكلام بصورة غير مألوفة، في الأدب الحديث، بغية خلق جوّ من الغرابة يهيىء لاستخدام الرمزية.

الاقتباس:

هو عبارة عن اشتمال كلام الأديب كلامًا منسوبًا لغيره. قد يكون هذا الكلام المقتبس شعرًا أو نثرًا. وقد يعمد إليه الكاتب أو الشاعر في الأجدب الحديث، يصدّر به نصّه بغية التّمهيد له. مثال ذلك اقتباس محمّد علي طه كلام ابن العربي في مستهلّ قصّته "النّخلة المائلة".

الالتفات:

هو انتقال جهة الكلام من أسلوب لآخر، كأن ينتقل المنشىء من ضمير المخاطب إلى الغائب أو بالعكس، أو من أسلوب الإخبار إلى النّداء.

الأنا الشّعرية:

هي توظيف ضمير المتكلّم في النّصّ الشّعريّ. وبهذا التّوظيف ينطلق الشّاعر من ذاته للتعبير عن مشاعره ومواقفه من الحياة، ويبدو منقطعًا عن العالم المحيط به، وبعيدًا عن الموضوعية. يكثر استخدام هذا الأسلوب في النّصوص الحداثيّة.

الانتحال:

هو أن يأخذ الأديب، شاعرًا كان أو كاتبًا، كلام أديب آخر، بلفظه أو بمعناه أو بأسلوبه، دون أن يشير إلى صاحبه، وهو نوع من السرقة الأدبيّة. ومن أمثلة ذلك البيت التّالي، وهو منسوب إلى كل من أوس بن حجر وزهير بن أبس سُلمى، وهما شاعران جاهليان:

إذا أنتَ لم تعرض عنِ الجهل والخنا أصبت حليمًا أو أصابَكَ جاهلُ

الإنشاء:

هو الكلام الّذي لا يحتمل الصّدق أو الكذب. وهو على ضربين: طلبيّ؛ كالأمر والنّهي والاستفهام والتمني والنّداء، وغير طلبيّ؛ كالمدح والذّمّ والتعجّب والقسم والرّجاء.


*286*

من أمثلة الإنشاء الطلبي قول حسان بن ثابت:

ألا أبلغ أبا سفيان عنِّي فأنت مجوف نخب هواء

ومن أمثلة الإنشاء غير الطلبي قول جرير:

يا حبذا جبل الريان من جبلٍ وحبذا ساكن الريان من كانَا

الإيجاز:

هو اختصار الكلام وتقليل ألفاظه مع بلاغته، يقال لغة: أوجز الكلام إذا جعله قصرًا ينتهي من نطقه بسرعة. فهو إذن صياغة كلام قصير يدلّ على معنّى كثير واف بالمقصود، عن طريق اختيار التعبيرات ذات الدلالات الكثيرة، كالأمثال والاستغناء بدلالة القرائن على ما حذف، أو عن طريق استخدام ما بني على الإيجاز في كلام العرب، كالحصر، والعطف، والضمير، والتثنية، والجمع، وأدوات الاستفهام، وغير ذلك.

الإيحاء:

هو نقل فكرة الأديب أو مشاعره إلى المتلقي من خلال النص بطريقة خفية، وبذلك يتحقق تأثره بها فيخلق في نفسه تفهما وتذوّقًا للمضمون. والنّصوص الأدبية عمومًا تمتاز بدرجات متفاوتة من الإيحاء، تزداد في النصوص الشّعريّة، وخاصّة النّصوص الحديثة منها.

البيت المدوّر:

هو البيت الّذي تقع فيه كلمة بين شطري البيت ليستقيم الوزن. ومثال ذلك الأبيات 2، 8، 9، 14 في قصيدة "إيوان كسرى" للبحتري.

التأنيس:

هو منح صفات الإنسان وأعماله لغير الإنسان، سواء كان من الكائنات الحيّة أو من الجمادات. يعتبر التأنيس نوعًا من التّشخيص، ونجده ضمن الاستعارات. ويسمّي البعض هذا الأسلوب أيضًا "الأنسنة".

مثال ذلك قول إبراهيم طوقان في قصيدته "الحبشي الذّبيح":

قالوا حلاوة روحه رقصت به فأجبتهم ما كل رقص يطرب

التجريد:

هو أسلوب يعتمد على تجريد الشّاعر من نفسه ذاتًا أخرى، يقوم بمخاطبتها. من أمثلة ذلك قول الخنساء:

قذى بعينك أم بالعين عوار أم ذرقت إذ خلت من أهلِها الدّارُ


*287*

الترادف:

هو دلالة عدد من الكلمات المختلفة على المعنى الواحد، بهدف إثراء دلالات الألفاظ والتّأكيد على معانيها.

الترخيم:

هو حذف آخر الاسم المنادى بهدف ترقيق الصوت وجعل لفظ الاسم أكثر عذوبة. مثال ذلك قول عنترة في معلّقته:

يدعون عنتر والرّماح كاًنّها أشطان بئر في لبان الأدهمِ

الترديد:

هو تكرار لفظ معين في البيت الواحد، مع اكتساب دلالات معنويّة إضافية من تكراره. ومثال ذلك قول أبي تمّام:

فبين أيامك اللاتي نُصرت بها وبين أيام بدر أقرب النسب

وقول ابن زيدون في قصيدته "أضحى التنائي":

بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا

التشطير:

هو التصريح الداخلي في الشعر، ويكون في كل من الصدر والعجز.

مثال ذلك قول أبي تمام في "فتح عمّوريّة":

تدبير معتصم بالله منتقم لله مرتقب في الله مرتغب

الترصيع:

هو توافق الألفاظ داخل البيت الشّعريّ الواحد، أو العبارتين المتتاليتين في النّثر، بحيث تكون متقابلة تناظريًّا. والترصيع مأخوذ من ترصيع العقد وذلك أن يكون في أحد جانبيه من اللآليء مثل ما في الجانب الآخر. فالمفهوم العام للترصيع هو جعل أجزاء البيت الدّاخلية جملاً متوازنة متشابهة النهايات كالسّجع. مثال قول أبي صخر الهُذليّ:

سود ذوائبها بيض ترائبها محض ذوائِبُها صيغت على الكرم

التّشبيه:

هو أسلوب يدل على مشاركة أمر لأمر آخر في صفته الواضحة؛ ليكتسب الطرف الأول، وهو المشبّه، من الطرف الثاني، وهو المشبّه به، قوّته وجماله. وللتّشبيه أركان أربعة، وهي:

- المشبه: وهو الموضوع المقصود بالوصف؛ لبيان قوته أو جماله، أو قبحه أو غير ذلك.


*288*

- المشبه به: وهو الشيء الّذي جئنا به نموذجًا للمقارنة؛ ليعطي للمشبّه القوّة أو الجمال، أو غير ذلك، على أن تكون الصفة فيه أوضح.

- وجه الشبه: وهو الوصف الّذي يستخلص في الذهن من المقارنة بين المشبّه والمشبّه به، أو هو الصفة المشتركة بين الطّرفين المذكورين.

- أداة التّشبيه: هي الرّابط بين الطرفين (المشبّه والمشبّه به).

وقد تكون الأدوات حروفًا (الكافِ، كأن)، أسماءً (مثل، شبه، شبيه، نظير)، أو أفعالاً (يحاكي، يشبه، يماثل..).

وقد يُحذف وجه الشّبه أو أداة التّشبيه أو كلاهمها.

ومن أمثلة التّشبيه قول أبي تمّام:

حتّى كأنَّ جلابيب الدُّجى رغبت عن لونِها وكأنَّ الشمس لم تغِبِ

التشخيص:

هو خلع صفات الأحياء على الأشياء وإلصاقها بها، ويكثر التشخيص في الاستعارات. ومثال ذلك قول الفرزدق في وصف الرّبيع:

أتاكَ الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كادَ أن يتكلما

التشطير:

هو إجراء تصريع داخليّ على كل من الصدر والعجز في البيت الشعريّ. ومثال ذلك قول أبي تمّام:

تدبير معتصمٍ بالله منتقم بالله مرتعب في الله مرتقِبِ

التّصريع:

هو اتفاق قافية الشطر الأول من البيت الأول مع قافية القصيدة، ويكون في البيت الأول غالبًا. ومثال ذلك قول الأعشى:

ودع هريرة إنَّ الرّكب مرتحل وهل تطيق وداعا أيها الرجل

وقول الكميت في قصيدته "طربت وما إلى شوقا إلى البيض أطرب":

طربت وما شوقا إلى البيض أطرب ولا لعبا منّي وذو الشّيب يلعبُ

التضمين:

هو عدم إتمام المعنى في البيت الواحد، ولجوء الشّاعر إلى بيت إضافيّ أو أكثر لإتمامه. وقد عد التّضمين عيبًا من عيوب الشّعر القديم. ويسمى في الشعر الحديث "الجريان"، إذ تبدو القصيدة الحديثة من خلاله كسيل جارٍ من التّعابير تكتسب معه الانسيابية. ومن أمثلة ذلك في الشعر الكلاسيكي قول الخنساء:


*289*

وما عجول على بوٍّ تطيف به لها حَنينانِ إعلان وإسرارُ

يومًا بأوجدَ إذ فارقني صخر وللدهر إحلاءٌ وإمرار

ومن أمثلة ذلك في الشعر الحديث قول عبد الوهاب البياتي في "ذكريات الطفولة":

كنا نقول كما نشاءْ

حتّى النّجومْ

كنّا نقول بأنّها كانت عيونْ

للأرض تنظرُ في فتونْ

التفعيلة:

هي مجموعة الحركات والسّكنات الّتي يتكوّن منها الوزن الموسيقيّ في الشّعر العربيّ. والتّفاعيل هي: فعولن، وفأعلن، مفاعلتن، فاع لاتن، مستفعلن، فاعلاتن، متفاعلن، مستفع لن، مفعولات.

التكثيف:

هو الإيجاز والاقتصاد في المعطيات القصصية أو الشعرية، يقوم على الحذف والإضمار أو على التلميح والرّمز والخيال، وكلّ ذلك بهدف استثارة القارئ للتعاطي مع النّصّ تأويلاً وتفاعلًا.

التّكرار:

هو الرّجوع على لفظة (كلمة أو أكثر) بنفس معناها مرّتين أو أكثر، ويكون ذلك لغرض بلاغيّ، كالتأكيد، والتهويل، والتوبيخ والتحبب، وما إلى ذلك. وقد يكون أيضًا للإيقاع الموسيقيّ.

ومثال ذلك قول الخنساء:

تبكي خناس فما تنفك ما عمرت لها عليه رنين وهي مفتارُ

التكلف:

وهو المبالغة في توسّم البديع والزّخرفة الأسلوبيّة في النص الأدبي. وقد يقصد إليه الأديب قصدًا، فيكون عندئذٍ غايةً لا وسيلة. وتمتاز المقامات عمومًا بذلك، وخاصّة مقامات الحريريّ.

التناص:

هو كتابة نص على نص، (مثل بيت شعر على حديث نبويّ أو آية قرآنيّة، أو جملة نثريّة على كلام مأثور)، أو إجراء مشاركة بين نصّ وآخر.


*290*

والتناص هو من المصطلحات الحديثة التي دخلت على الأدب العربي. إلّا أن له جذورا في التراث العربي. واعتبر عند بعض البلغاء نوعًا من السّرقة الأدبيّة والانتحال.

ومن أمثلة التناص قصيدة "حكاية قديمة" لصلاح عبد الصّبور، وقصيدة "أنا يوسف يا أبي" لمحمود درويش.

التّورية:

هي ذكر لفظ ذي معنيين قريب وبعيد، بحيث يراد منه البعيد لا القريب. ومثال ذلك قول ابن نباتة:

كأنّا للمجاورةِ اقتسمنا فقلبي جارهم والدمع جاري

الجناس:

هو تشابه تامّ أو كلي بين لفظتين أو أكثر، مع اختلافهما في المعنى. من أشهر أنواعه الجناس التّامّ والجناس غير التام. ومن أمثلة الجناس غير التام قول القائل:

وكنّا متى يغزو النبيُّ قبيلة ندافع عنه بالقنا والقنابل

الحبكة:

هي سلسلة الأحداث المتتابعة من بداية العمل القصصيّ إلى نهايته، مرورًا بالعقدة (الذّروة). تعكس الحبكة القصصيّة وعي القارىء وإحساسه بأحداث القصّة.

الحداثة:

هي تيّار فكريّ غربي الاصل، ظهر في فرنسا منتصف القرن التّاسع عشر، وانتشر في أرجاء واسعة من العالم، حتّى وصل إلى العالم العربيّ. يرفض هذا التيار القديم بأشكاله ومضامينه، ويدعو إلى تقويض القوالب التراثية المعمول بها، وإلى إعادة بناء تفكير الإنسان، فنادى بالعبثيّة والفوضويّة والتّجريب على اعتبار أنها إبداع يناسب العصر الحديث. ونتيجة لتأثير هذا التيار في الأدب العربي، ظهر شعر التفعيلة (الشعر الحر) وقصيدة النثر. كما تبنّت الأعمال الروائية تقنيّات غير مألوفة، كتداخل الأزمنة، وتنويع طرائق السّرد، وتكثيف الخيال والرّمز، وتهميش الشخصيات، وغير ذلك.

من دعاة الحداثة في الأدب العربيّ: يوسف الخال، أدونيس، وصلاح عبد الصّبور.

الحَشو:

هو إدخال عبارات يمكن الاستغناء عنها دون أن يفقد النص شيئًا من معناه. وقد يكون في الشعر كما يمكن أن يكون في النثر. ليس هناك اتفاق بين القرّاء على "مقدار" الحشو في النّصوص، لأن ذلك يتوقف على مدى تعمّق القارىء وعلى نظرته إلى النّصّ.


*291*

الحقل الدّلاليّ:

هو مجموع الألفاظ التي تشرك في مجال دلاليّ معين، كألفاظ: "الخيل"، "الوقيعة"، "الوغى"، "مدجج"، "الكماة"، "نزاله"، "طعنة"، الرمح"، "القنا"، الرّماح".. وهي من الفروسيّة والحرب، نجدها في معلّقة عنترة.

الحوار:

هو كلام يدور بين اثنين أو أكثر، يكشف عن طبيعة الشخصيات، نوايا وأفكارها، كما يكشف عن الأحداث ماضيها، حاضرها ومستقبلها. يمكن أن يكون الحوار خارجيًّا (بين أكثر من شخصيّة)، أو داخليًّا (حوار بين المرء وذاته).

الخبر:

هو الكلام الذي يحتمل الصّدق والكذب لذاته، وهو كقول المتنبي:

وتغضبون على من نالَ رفدكم حتى يعاقبه التنغيص والمنن

الرسالة:

هي أحد أبرز الأنواع الأدبيّة النثرية الكلاسيكيّة، وتنقسم إلى أنواع:

الرسائل الإخوانية: وهي التي تختص بتبادل المشاعر بين الإخوان والأصدقاء، وتنطوي على أغراض متعدّدة كالمديح والعتاب والاعتذار والتهنئة والتعزية وغير ذلك.

الرسائل الديوانية: وتدور حول إدارة الدولة والدواوين، وتتصل بموضوعات السياسة والاقتصاد والفقه والحساب وغير ذلك.

الرسائل الأدبية: وتختص بالتعبير عن مواقف الأدباء من الحياة والفكر والفلسفة والأدب، كرسالة الغفران للمعرّيّ، ورسالة التوابع والزوابع لابن شهيد.

النيوكلاسيكيّة:

هو تيار أدبي ظهر في نهاية القرن التّاسع عشر، يقوم على التّشبّه بالشعر الكلاسيكي في متانة أسلوبه ورصانة ألفاظه. فاعتمد شعراء هذا التيار على تركيبة القصيدة الكلاسيكيّة الشكلية، فاعتمدوا حرف الرّويّ الموحد، والقافية الموحدة والوزن الواحد، واستهلّوا قصائدهم غالبًا بالنّسيب. وقد تختلف موضوعات القصيدة النّيوكلاسيكيّة عن نظيرتها الكلاسيكيّة تأثرًا بالظروف الحياتيّة والحضاريّة التي واكبت نهاية القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين، إذ تبوأت موضوعات القومية والوطنية والصراعات الاجتماعيّة مكانًا بارزًا فيها.

من أبرز شعراء النّيوكلاسيكيّة أحمد شوقي والبارودي وحافظ إبراهيم. ومثال ذلك قصيدتا "ردوا علي الصبا" للباروديّ و "سوريّا ومصر" لحافظ إبراهيم.


*292*

الرومانسيَة:

هو تيار أدبي ظهر في الآداب الأوروبية خلال القرن الثامن عشر، يقوم على التأمّل الفلسفيّ العميق في الحياة والطبيعة والمجتمع. ظهر تيّار الرومانسيّة في الأدب العربي في أواسط القرن العشرين، حيث ميّز الشعر المهجريّ وجماعة أبولّو، بالإضافة إلى كتابات بعض الرّوائيين كيوسف السباعيّ.

الرّويّ:

هو أحد حروف القافية الّذي تبنى عليه القصيدة، ويتكرّر مع تكرار أبياتها، وهو لازم في كل بيت في القصيدة العموديّة. اشتهرت معظم القصائد الكلاسيكية به، كلاميّة العرب للشّنفرى، ورائيّة عمر بن أبي ربيعة، وسينية البحتري وغيرها.

السّجع:

هو من المحسنات اللفظية في الكلام المنثور، وهو أن تتفق الفاصلتان في الحرف الأخير (الفاصلة في النثر كالقافية في الشعر). والسجع مأخوذ من سجع الحمامة. عد السجع من الأساليب المذمومة في صدر الإسلام نظرا إلى اتباعه من قبل الكهنة في الجاهلية فيما يعرف ب "سجع الكهان".

يهدف السّجع إلى تعزيز الإيقاع الموسيقيّ في الكلام المنثور، وإبراز نوع من التوافق اللفظيّ، والفصل بين الجمل. ازدهر السجع في القرن الرابع الهجريّ / العاشر الميلاديّ في أدب المقامات والرّسائل. كما عرف السجع أيضًا في الخطب الّتي تعود إلى العصر الجاهلي. بالإضافة إلى ذلك، نجد السجع في بعض الخطب الإسلامية، لكنه ليس سجعا يلتزم به الخطيب. ومن أمثلة السجع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "رحمَ الله عبدًا قال خيرا فغنم، أو سكت فسلم".

السيرة الذاتية:

هي أحد أنواع السّرد القصصي الهادفة إلى كتابة ترجمة حياتي، خاصة بالكاتب، أي أن الكاتب هو الّذي يكتب عن حياته ويوثقها، سواء استخدم ضمير المتكلم أو ضمير الغائب. يحتاج أدب السّيرة الآتية إلى نوع من الجرأة، إذ يغلب فيه أن يسجل الكاتب اعترافات قد لا يفضل الإنسان العاديّ التعبير عنها. من أمثلة الأعمال السيرية في الأدب العربي: "الأيّام" لطه حسين، "البئر الأولى" لجبرا إبراهيم جبرا، "غربة الرّاعي" لإحسان عبّاس، و "رحلة جبلية، رحلة صعبة" لفدوى طوقان.

الشخصيّة:

تعتبر الشخصية أحد عناصر العمل القصصيّ. ولها عدّة أنواع:

الشخصية الرئيسية: وهي التي تدور حولها معظم أحداث النص، ولها حضور فاعل في الحبكة القصصية على


*293*

طول النّصّ.

الشخصية المدورة: وهي الشخصية النامية، التي تتطوّر خلال الأحداث بصورة تفاجىء القارىء أحيانًا. الشخصية المسطحة:

وهي الشخصية الجانبية التي تبدو محدّدة الملاح، فلا تتطور ولا تتغيّر مواقفها. تستخدم لتوطيد أركان العمل القصصيّ ومنحه ثباتًا، بالإضافة إلى أنّها تخدم كلًّا من الشخصية المدوّرة والشخصية الرئيسية.

الشخصية النمطيّة:

وهي الشخصية التي يمثل طبقة أو شريحة من طبقات أو شرائح المجتمع، بحيث لا تكون لها ملامح "شخصية" محدّدة، بل ملاح عامّة، فقد تدلّ هذه الشخصية مثلا على طبقة العمّال، أو المسقفين، أو البخلاء، أو النساء، أو غير ذلك.

شعر التفعيلة:

هو أحد أنماط الشعر الحديث، وهو نمط يخرج على قالب القصيدة الكلاسيكيّة، ويعتمد على التّفعيلة الواحدة كوحدة مستقلّة للوزن الموسيقي. ينسب تأسيس هذا النّوع من الشعر إلى كل من الشاعرين العراقيّين السياب ونازك الملائكة. يمتاز هذا الشعر بالوحدة الموضوعية، وبتعدّد حروف الرّويّ وبالغموض، كما يتجه إلى توظيف الأسطورة والرمز. يسمّى هذا الشعر أيضًا "الشّعر الحرّ".

الصنعة:

هي عبارة عن الجهد الذي يبذله الأديب لإنشاء النّصّ الأدبي خاصته، ويشمل الأساليب البلاغيّة المتوسّمة، والمحسنات اللغوية، إلى جانب ابتكار المعاني والأغراض.

الصورة الشعرية:

هي تركيب لغوي يمكن الشاعر من تصوير مشاعره وعواطفه بصورة محسوسة، ويجعله حاضرًا على أرض الواقع أمام المستمع، معتمدًا على التشخيص، والتشبيه وتفعيل الحواس.

الطباق:

هو الجمع بين كلمتين متضادّتين في الشعر أو النثر. ومن خلال النّظر إلى الأمر وضدّه معًا، يمكن إجراء نوع من المقارنة بينهما بهدف إبراز التّباين بين المتضادّين. فكلّ ضدّ كفيل بإبراز ضدّه. من أمثلة الطباق قول الشاعر في البيت الثّاني أدناه:

إنما الدنيا هبات وعوار مستردة

شدة بعد رخاء ورخاء بعد شدَّة


*294*

علم العَروض:

هو علم يبحث في أوزان الشعر العربي، يقوم على التّقطيع، أي مقابلة ألفاظ الشعر بالألفاظ التي تؤلف الوزن. وهذه الألفاظ تسمّى "التفعيلات". من أوزان الشّعر العربي: الطّويل، البسيط، الكامل، الوافر، الهزج، الرّجز، الرمل، وغيرها.

الفولكلور:

وهو مصطلح غربيّ، يعني عادات الشعب وتقاليده الرّاسخة في آثاره الشفويّة وممارساته العمليّة. تظهر ملامح الفولكلور في النّصوص الأدبية أحيانًا كثيرة، كالشعر والقصة القصيرة والرّواية والمسرحيّة.

القافية:

هي المقاطع الصوتيّة التي تكون في أواخر أبيات القصيدة، وهي الّتي يلزم تكرار نوعها في كلّ بيت. وتعرف بأنّها من آخر البيت إلى أوّل ساكن يليه مع المتحرّك الّذي قبل السّاكن. وتشمل القافية حرف الرّوي بطبيعة الحال. وقد تكون القافية مطلقة، أي متحركة، كما يمكن أن تكون مقيدة، أي ساكنة. وللقافية المقيدة دلالات معنوية كالدلالة على السكينة والهدوء، أو الرّهبة والحزن، أو غير ذلك.

قصيدة النثر:

هو شعر لا يلتزم بالوزن أو التّفعيلة، ويكتب بشكل نثري، إلاّ أن لغته شعرية، فيعتمد بكثرة على الصور الشعرية، وعلى التكثيف. من شعراء قصيدة النثر "أنسي الحاجّ" و "محمّد الماغوط".

الكناية:

هي لفظ أربد به غير معناه الأصليّ، مع جواز إرادة ذلك المعنى. فهو أسلوب غير مباشر، يستخدم التلميح بدلاً من التصريح، لإيصال المعنى المراد. وللكناية أركان ثلاثة؛ اللّفظ المكنى به، المعنى المكنى عنه، والقرينة الّتي تجعل المعنى الحقيقيّ غير مراد. ومن أمثلة الكناية قول ابن هرمة يفخر بكرمه:

وما يك فيَّ من عيبٍ فإنني جبان الكلب مهزول الفصيل

المبنى الدّائريّ:

هو أن ينتهي النّصّ الأدبي من حيث بدأ، سواء كان ذلك مع تغيير لفظيّ أم دون تغيير. وهذا المبنى قد يكثف الفكرة المركزية الّتي يتناولها الشّاعر. من أمثلة القصائد الّتي تنتهج المبنى الدائري قصيدة "أيّها القادم" لهد أبو خضرة.


*295*

المثل:

هو قول بليغ موجز، متوارث شفاهًا جيلاً عن جيل، ينطوي على حكمة. للمثل قصة جرت عليها تغييرات الرّواة عبر العصور، لذلك لم يتفق مدوّنو الأمثال على صحّة قصص الأمثال. ولما كان المثل قد قيل في مناسبة معيّنة، فإنه يضرب مثلا لكل حال شبيهة، ويعاد ذكره في المناسبات المشابهة. اشتهرت مصنفات في أمثال العرب، أبرزها: مجمع الأمثال للميدانيّ، وجمهرة الأمثال للعسكريّ، وأمثال العرب للمفضّل الضبّيّ.

مزج الحواسّ:

هو أحد أنماط بناء الصورة الشعرية، حيث يعتمد الشاعر فيه على الدّمج بين الحواس لإدراك الصورة الواحدة، وذلك بغية إثارة خيال المتلقي وتفعيله وجدانيًّا مع الصورة. ومثال ذلك قول أبي نواس في وصف الخمرة:

صفراء لا تنزل الأحزان ساحتَها لو مسها حجر مسته سراء

وقول محمود درويش في قصيدة "ونحن نحب الحياة":

"وننفخ في الناي البعيد لونَ البعيد البعيد، ونرسم تراب الممر صهيلاً".

المقابلة:

هي تناظر بين عبارتين، في الشعر أو النثر. وهي تشبه الطباق من حيث المبدأ. غير أن الطباق لا يكون إلاّ بين معنى واحد وما يقابله، أما المقابلة فهي أن يؤتي بمعنيين أو أكثر ثم بما يقابل هذه المعاني. ومثال على ذلك قول المتنبي:

إذا أنتَ أكرمْتَ الكريمَ ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدَا

المنصفات:

وصف لقصائد جاهليّة قيلت في الحميّة ووصف العدوّ، عرفت في سيرها في اتجاه معاكس لمعظم اتّجاه الشّعراء الجاهليّين الذين غالوا في الفخر بقبائلهم وذويهم وذواتهم، وبالغوا في ازدراء أعدائهم والتقليل من خصومهم. ففي القصائد المنصفات يعطي الشاعر خصمه حقّه من "التقدير"، منطلقًا من الموضوعيّة ليذكر شجاعته وقوته. وتميّز جزء من معلّقة عنترة بن شدّاد بإنصاف الخصم.

المضمون:

هو الفحوى المعنوي الّذي يعبر عنه بالألفاظ والصيغ الأدبيّة في النص.

الموتيف:

هو لفظ أو فكرة أساسية يتكرّر ذكرها في النّصّ أو لدى الأديب. فلدى أبي العتاهية يلاحظ موتيف الموت، ولدى نزار قباني موتيف المرأة.


*296*

النثر الفنّيّ:

هو النثر الّذي يقصد به إلى الجمال الفني، متوسما بالأساليب البلاغية والمحسنات اللفظية، بغية التأثير في نفس المتلقي في المستويين العقليّ والعاطفيّ.

النثر المرسَل:

هو النثر الذي يكون فيه الكلام خاليًا من التزام السّجع في أواخر عباراته، فهو غير مقيد بأثقال الوزن. ولهذا، فقد كتبت به العلوم والآثار التاريخيّة والفلسفيّة والفقهيّة وغيرها.

النثر المسجوع:

هو النثر الّذي يلتزم فيه منشئه السجع التزامًا واضحًا، وشاع استخدامه في العصر الجاهلي. اشتهر سجع الكهّان ضمن هذا النوع من النثر. استخدم النثر المسجوع في فواتح بعض الرّسائل في العصر العباسيّ، كما استخدم في أجزاء من المقامات.

النّسيب:

هو الغزل في مقدمة القصيدة الجاهلية. وهو عبارة عن المطلع التقليديّ للقصيدة الكلاسيكيّة. التزم النسيب في الشعر الجاهلي وفي صدر الإسلام بصورة عامة، قبل أن ظهر شعراء تجنّبوه ولم يبدأوا قصائدهم به، وذلك في العصر العبّاسيّ.

نهاية الكتاب