بيادر الأدب الحديث

المرحلة الثانوية

الوحدة الأولى في الأدب

تأليف: كوثر جابر قسّوم

محمّد حمد

حسب مناهج الأدب الحديث

(2012) لوزارة التربية والتعليم

صفحات بخط عادي 1-293

الناسخة: دعاء عامر

المكتبة المركزية للمكفوفين

وذوي عسر القرائي

نتانيا  اسرائيل  2017م

نسخ أو نقل النسخة الملائمة معارضة لأوامر قانون تنسيق الاعمال، تنفيذ وبث للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة 2014 تشكل خرقًا لحقوق المنتجين

أعزاءنا الطّلاب والطالبات، المعلّمين والمعلّمات في المدارس الثانويّة العربيّة

نضع بين أيديكم كتاب بيادر الأدب العربيّ، بجزيئه: بيادر (الأدب القديم) وبيادر (الأدب الحديث)، مشتملَيْنِ على موادّ الوحدة الإلزاميّة الأولى في الأدب، حسب المنهاج الجديد (2012) الذي أقرّته وزارة التربية والتعليم.

جاءَ الكتابُ تسهيلاً لعمل المعلّم أو المعلّمة واستيعاب الطالب أو الطالبة ويهدف إلى طرح منهجيّة جديدة ورؤية حداثيّة في تناول موضوع الأدب، عمادُها إقصاء عمليّة التلقين، واستبدالها بتفعيل الطالب أو الطالبة ذهنيّاً وعاطفيّاً ونفسيّاً، ممّا ينمّي القدرة على التحليل وفق مهارات التفكير العليا، ويمرّن الذائقة الأدبيّة في استشعار جماليّة النصّ وشعريّة اللغة. ومن هذا المنطلق، فقد خلت النصوص من التحليل الجاهز الذي يحدّ من قابليّة التفكير الإبداعيّ والناقد، وإنّما أثبتنا شروحاً للمفردات الصعبة، ومفاتيح تأويليّة لكلّ نصّ، من شأنها أن تفتح طريقاً للتحليل الثاقب عند الطالب أو الطالبة والمعلّم أو المعلّمة، ثمّ أثبتنا مجموعة من الأسئلة التي تتعامل مع المضمون والشكل كوحدة واحدة لا تقبل التجزئة، الأمر الذي يتيح المجال أمام المعلّم أو المعلّمة والطالب أو الطالبة في استقراء النصوص الأدبيّة من خلال فعل القراءة الإنتاجيّة الإبداعيّة.

بالإضافة إلى ذلك، يحتوي الكتاب على تقديمات، تتضافر قيمتها النقديّة وإسهاماتها في تأويل النصّ، مثل: نبذة عن حياة الكاتب أو الكاتبة، تعريف بالمصطلحات والألوان الأدبيّة، تقديم عن العصور الأدبيّة، إضافةً إلى قائمة بالمصادر والمراجع التي يمكن الاستزادة منها، وأخرى بالمصطلحات (مُعرفّةً) كما وردت في الكتابيْن.

نلفت عنايتكم إلى أنّ صيغة الكتاب والأسئلة مُوَجّهة للمؤنث والمذكّر على حدٍّ سواء. كلّنا أمل بأن نكون قد وفّقنا في مسعانا وجهدنا، والله وليّ التوفيق.

نرجو لكم سنة دراسيّة ممتعة وموفقّة وكل عام وأنتم ولغتنا العربيّة بخير مع فائق الاحترام والتقدير المؤلّفان

فهرس الكتاب

الباب الأوّل - الشعر الحديث

الفصل الأوّل - الشعر في العصر الحديث صفحة 8

ردّوا عليّ الصبا - محمود سامي الباروديّ صفحة 10

سوريّة ومصر - حافظ إبراهيم صفحة 13

قلعة بعلبك، تذكار صبا - خليل مطران صفحة 16

غرفة الشاعر - علي محمود طه صفحة 19

نشيد الجبّار أو هكذا غنىّ بروميثيوس أبو القاسم الشابّيّ صفحة 22

أبو العلاء - محمّد مهديّ الجواهريّ صفحة 25

الباب تقرعه الرياح - بدر شاكر السيّاب صفحة 28

ذكريات الطفولة - عبد الوهاب البياتيّ صفحة 32

حكاية قديمة صلاح عبد الصبور صفحة 37

الخيول - أمل دنقل صفحة 41

يا تونس الخضراء نزار قبائي صفحة 48

قارئة الفنجان س نزار قباني صفحة 51

الفصل الثاني - الشعر الفلسطيني المحلّيّ صفحة 54

الحبشيّ الذبيح - إبراهيم طوقان صفحة 56

اِبنة بلادي أبو سلمى صفحة 59

نيران المجوس - توفيق زيّاد صفحة 62

أَيّها القادم - فهد أبوخضرة صفحة 66

أَنا يوسف يا أبى محمود درويش صفحة 70

ونحن نحبّ الحياة - محمود درويش صفحة 73

إلى أطفال بلادي - راشد حسين صفحة 75

ليلا على باب فدريكو - سميح القاسم صفحة 80

الباب الثاني - الشعر الحديث

الفصل الأوّل - القصّة القصيرة صفحة 84

حالة تلبّس - يوسف إدريس صفحة 88

التمرين الأوّل - يوسف إدريس صفحة 99

نخلة على الجدول - الطيّب صالح صفحة 112

الراية والبراءة مجيد طوبيا صفحة 123

موت الشعر الأسود - زكريّا تامر صفحة 133

ليلى والذئب - إميلي نصرالله صفحة 137

اِنهيار - أحمد حسين صفحة 147

بوابة مندلباوم - أميل حبيبي صفحة 157

زهور بيضاء بلون الثلج - زكي درويش صفحة 165

النخلة المائلة محمّد عليّ طه صفحة 173

مختار السمّوعيّ محمّد نفّاع صفحة 183

أخي رفيق - سعيد حورانيّة صفحة 190

الفصل الثاني - الرواية صفحة 200

ذاكرة الجسد - أحلام مستغانمي صفحة 204

الطريق - نجيب محفوظ صفحة 207

نهاية رجل شجاع - حنّا ميتة صفحة 209

ظل الغيمة سيرة ذاتيّة - حنّا أبو حنّا صفحة 212

الفصل الثالث - المسرحيّة صفحة 215

الطعام لكل فم - توفيق الحكيم صفحة 220

براكسا أو مشكلة الحكم توفيق الحكيم صفحة 223

الزير سالم - ألفريد فرج صفحة 225

مغامرة رأس المملوك جابر - سعدالله ونّوس صفحة 227

الفصل الرابع - المقالة صفحة 230

استنساخ الأجنّة: ثورة علميّة آم كارثة إنسانيّة صفحة 231

تشجّع. واعرفْ! صفحة 237

الفصل الخامس - المطالعة الحرّة صفحة 242

السجّادة العجمّية - حنان الشيخ صفحة 242

النمل والقات صفحة 246

وجه جديد - حليم بركات صفحة 249

قائمة المصطلحات صفحة 255

المصادر صفحة 293

الباب الأوّل الشعر الحديث


*8*

الفصل الأول: اَلشعرُ في العصر الحديث


*8*

شهدَ النصفُ الثاني من القرنِ التاسعَ عشرَ نهضةً شعريّةً تتمثَّلُ بالعودةِ؛ إلى الجذور والأصالةِ، واتَّخذتْ مِن القليدِ والتجديدِ مبدأينِ أساسيّينِ لتوجّهاتِها. كانت فترةُ عصرِ الانحطاطِ سببًا في تدنّي قيمةِ الشعرِ، وكانَ التركيزُ فيها على التكلّفِ في الصنعةِ، واستخدامِ المحسّناتِ البديعيّةِ، وفقدتِ القصيدةُ روحَها ومضمونَها ومتانتَها. وكان محمود سامي الباروديّ أحدَ الشعراءِ الذين كانوا على رأسِ مدرسةِ سمّيت بالكلاسيكيّةِ الجديدةِ أو مدرسةِ الإحياء، انضمَ إليها شوقي وحافظ إبراهيم فيما بعدُ، ورفّداها بشعرٍ متينِ العبارةِ، متعدّدِ المضامينِ، وخاصَة المضامينَ الوطنيّةَ والسياسيّةَ، وما يجري من حراكٍ داخلَ المجتمعِ، وما يحدثُ في العالمِ من تطوّرٍ في الرؤيةِ الفنّيّةِ والنقديّةِ.

لقد كانَ للمشهدِ الثقافيِّ الغربيّ تأثيرٌ كبيرٌ على الشعرِ العربيّ، خاصَةً أنّ قسمًا من الشعراءِ العربِ، اطَلعوا على القدِ والمدارسِ الأدبيةِ والشعرِ في فرنسا وإنجلترا وإسبانيا وغيرها.

استفادَ شوقي أكثرَ من غيرهِ، من اطّلاعه على الحضارةِ؛ الغربيّةِ، فكتبَ المسرحيّاتِ الشعريةَ، وكتبَ شعرًا للأطفالِ، لكنّه حافظَ على منظومةِ الشعرِ القديمِ، من وزنِ وقافيةٍ؛ ورويٍّ، وعارضَ قصائدَ قديمةَ، وبثَ فيها روحَ الحياةِ من جديدٍ، واهتمّ بالجانب البيانِّي والصورةِ؛ الشعريّةِ.

تأثّرَ الشعرُ العربيُّ بالمدرسةِ الرومانسيّةِ، لأسبابِ تتعلّقُ بالظروفِ السياسيّةِ، ونتيجةً للظلمِ والكبتِ، فرفضَ بعضُ الشعراءِ التقليدَ، وخرجوا عنهُ، ومالوا إلى الطبيعةِ وجمالِها، وغاصوا في وحدانيّتِهِمْ وذاتيّتِهِمْ، وعبّروا عن أنفسهِمْ ببساطةٍ وبونَ تعقيدٍ، ومزجوا مركّباتِ الطبيعةِ الريفيّةِ في وجدانيّاتهِمْ. من هؤلاء الشعراءِ العقّادُ والمازنيُّ وعبدُ الرحمن شكري الذين أسّسوا مدرسةَ الديوانِ، وأحمد زكي أبو شادي وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه الذين أسّسوا مدرسةَ أبولو، ومن الرومانسيّينَ المهجريّينَ جبران ونعيمة وأبو ماضي ورشيد الخوري وغيرُهُمْ.

كما تأثّرَ الشعرُ العربيُّ بمدارسَ أخرى كالمركزيّة التي اعتمدتِ الغموضَ والإيحاءَ وموسيقى الشعرِ، والمدرسةِ الواقعيّةِ التي تبلورت بشكلٍ واضحٍ بعد الحربِ العالميّةِ الثانيةِ، ووقفتْ


*9*

أمامَ المثاليّةِ؛ والرمزيّةِ والرومانسيّةِ، وتبنّت مبدأَ المادّيّةِ والعلمانيّةِ مقابلَ الروحانيّاتِ، وهدفتْ إلى شدِّ الإنسانِ بواقِعهِ، ومحاولةِ إصلاحهِ ومواجهتهِ للواقعِ، وكانت الحداثةُ في الشعرِ إحدى تداعياتها.

بدأت بوادرُ الحداثةِ في الشعرِ، أو ما أُطلقَ عليهِ فيما بعد شعرُ التفعيليةِ؛، في أواخرِ النصفِ الأوّلِ من القرنِ العشرينَ، وكانتِ العراقُ مركزًا لهذا الحراكِ الأدبيِّ في المشهدِ الشعريِّ العربيِ، فقد قامَ بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة بتبنّي قصيدةِ التفعيلِةِ، وهي قصيدةٌ تتحرّرُ من القافيةِ، وتتبنى تفعيلةً واحدةً وتقومُ بتكرارِها عددًا غيرَ محدّدٍ؛ من المرّاتِ، ممّا كوّن قصيدةً غيرَ عموديّةٍ وغيرَ متساويةِ؛ الأسطرِ طولًا، تمتازُ بجريانِها، ولا مكانَ فيها لوحدةِ البيتِ، وكانت الوحدةُ العضويّةُ أفي مقوّماتِها.

وفي لبنان أنشأَ أدونيس ويوسف الخال مجلّة شعر، ثمَ انضم أنسي الحاجّ ومحمّد الماغوط، وكان لها موقفٌ من التراثِ والأصالةِ، وسعت إلى تقويضِ القديم، دونَ أن يكونَ الجديدُ بديلًا متكاملًا.

لقد خلقتْ ظاهرةُ الحداثةِ الشعريّةِ بلبلةً ونقاشًا حادًا، فَقسمٌ التزمَ بها، كالبياتيّ وصلاح عبد الصبور اللذين شقّا طريقَهُما كلّ بأسلوبهِ الخاصِّ، لكنّهما اعتمدا الكثيرَ من أسسِ الحداثةِ الشّعريّةِ، كالترميز والقناعِ وتوظيفِ الأساطيرِ، في حينِ التزمَ نزار قبّاني بأشكالِ التعييرِ النمطيّةِ، ومال إلى موسيقيّةِ القصيدةِ ومضمونِها المباشرِ.

أخذَ المشهدُ الشعريُّ يزداد تعقيدًا حينما ظهرت قصيدةُ النثرِ، وهي قصيدةٌ لم تلتزم بالوزنِ والقافيةِ، واستعاضتْ عنهما بمجموعةٍ من العناصرِ الإيقاعيّةِ، التي تشكّلُ في مجموعها نسقًا موسيقيًّا ليسَ له ضابطٌ منتظَمٌ كان أنسي الحاجّ والماغوط وأدونيس أبرزَ من انتهجَ هذا الشكلَ، لكنّ أدونيس كتب أيضًا شعرَ التفعيلة، وتراجعَ عن بعضِ مواقفهِ الحداثيّةِ، واهتمَ بالتراثِ مؤكّدًا على أهمّيّته. ومن شعراءِ قصيدةِ النثر المعاصرينَ عبد القادر الجنابيّ وسركون بولس.

كان لمدارسَ أدبيّةِ أخرى تأثيرٌ على الشعرِ العربيِّ، ولكنْ بدرجةٍ قليلةٍ، محنها السورياليّة والعبثيّة والوجوديّةِ والداديّة وغيرُها.


*10*

ردّوا عليّ الصبا - محمود سامي الباروديّ


*10*

محمود سامي الباروديّ (1839-1904)

محمود سامي الباروديّ شاعرٌ مصريٌ من أصلٍ شركسيٍّ، اعتُبرَ رائدًا في تجديدِ الشعرِ العربيّ، وقد وقفَ في طليعةِ المدرسةِ الكلاسيكيّةِ الجديدةِ. وُلدَ في القاهرة، ولم يكمل دراستَهً العليا، والتحقَ بالجيشِ السلطانيّ.

عملَ في مناصبَ دبلوماسيّةَ في إستانبولَ، وأخرى عسكريّةَ في حكومةِ الخديوي إسماعيلَ، واشتركَ في ثورةِ أحمد عرابي ضدّ الاحتلال الإنكليزيِّ لمصرَ، فنُفيَ إلى جزيرةِ سرنديبَ في المحيطِ الهنديّ.

ظلّ الباروديّ في المنفى سبعةَ عشرَ عامًا يعاني الوحدةَ والمرضَ والغربةَ؛ عن وطنِهِ، فانعكست هذهِ المضامينُ والمشاعرُ في شعرِهِ حنينًا وألمًا.

أعيدَ إلى مصرَ بعد أن اشتدَت عليهِ وطأةُ المرضِ وضعفَ بصرُهُ، وهو ابنُ ستينَ عامًا، وعاشَ بعدها خمسَ سنواتٍ ثمّ توفّيَ.

كانَت للباروديّ موهبةٌ شعريّةٌ حقيقيّةٌ؛ ظهرت في طفولتِهِ، ونشأ عنى علمٍ وثقافةٍ أدبيّةٍ عربيّةٍ وتركيّةٍ وفارسيّةٍ وإنكليزيّةٍ، ولُقبَ فارسَ السيفِ والقلمِ، وكان مجدَدًا في مضمونِ القصيدةِ العربيّةِ، محافظا على عمودِ الشعرِ ومبناها التقليديّ.

للباروديّ ديوانُ شعرٍ مطبوعٌ (جزءان)، وكشف الغمّة في مدح سيّد الأمّة - شعر (1909).


*11*

محمود سامي الباروديّ

رُدّوا عليّ الصبا (مطلع القصيدة: ردّوا عليّ الصبا من عصريّ وهل يعودُ سوادُ اللمّةِ البالي؟).

1. لا عَيْبَ فِيَّ سِوى حُرِّيَّةٍ مَلكَتْ أَعِتَّنِي (أعتني: جمع عنان وهو سير اللجام. ويقصد أنّ الحرَيّة سيطرت عليّ، فجريت على سننها وهكذا كناية عن تمسّكه بها، وحرصه عليها ودفاعه عنها) عَنْ قُبولِ الذُلِّ بالْمَالِ.

2. تَبِعْتُ خُطَّةَ آبائِي فَسِرْتُ بِهَا عَلى وَتِيرَةِ آدَابٍ وَآسَالِ (آسال: شبه وعلامة. فلان على آسال من أبيه أي على شبه منه وتأسَل أباه: أشبه واقتدى به، وتخلّقَ بأخلاقه).

3. فَمَا يَمُرُّ خَيَالُ الْغَدْرِ فِي خَلَدِي وَلاَ تَلُوحُ سِمَاتُ الشَّرِّ فِي خَالِي

4. قَلْبِي سَليمٌ، وَنَفْسِي حُرَّةٌ وَيَدِي مَأُمُونَةٌ، وَلِسانِي غَيْرُ خَتَّالِ (ختّال: خدّاع)

5. لكنّني في زَمَانٍ عِشْتُ مُغْتَرِبًا فِي أَهْلِهِ حِينَ قَاَّتْ فِيهِ أَمْثَالِي

6. بلوتُ دَهْرِي فَمَا أَحْمَدْتُ سِيرَتَهُ (ما أَحْمَدْتُ سِيرَتَهُ: لم أجدها محمودة) فِي سَابِقٍ مِنْ لَيَالِيهِ وَلاَ تَالِ

7. لَمْ يَبْقَ لِي أَرَبٌ (أرب: حاجة) فِي الدَهْرِ أَطْلُبُهُ إِلا صَحَابَةُ حُرٍّ صَادِقِ الْخَالِ (صادق الخال: يصدق ظنه بي ويصدق ظنّي به)

8. لَا فِي سَرَنْدِيبَ (سرنديب: جزيرة سيلان، كانت مستعمرة إنكليزية حتى سنة 1948 وهي منفى الشاعر عقب إخفاق ثورة أحمد عرابّي ضدَ الاحتلال الإنكليزيّ لمصر) لِي إِلْفٌ (إلفٌ: أليف مؤانس) أُجَاذِبُهُ فَضْلَ الْحَدِيثِ، وَ لاَ خِلٌّ فَيَرْعَى لِي

9. إذا تَلَفّتُّ لَمْ أُبْصِرْ سِوَى صُوَرٍ فِي الذِّهْنِ، يَرْسُمُها نَقَّاشُ آمالِي

10. أَصْبَحْتُ لَا أَسْتَطيعُ الثَوْبَ أسْحَبُهُ وَقَدْ أَكُونُ وَضَافِي (الضافي: السابغ التام، اسم الفاعل من ضفا الثوب أي سبغ وطال الى الارض) الدِرْعِ سِرْبَالِي (السربال: القميص أو كل ما يُلبس)

11. وَ لاَ تَكادُ يَدِي شَبا (شباه القلم: إبرته وسنّه) قَلَمِي وَكَانَ طَوْعَ بَنَانِي (البنان: أطراف الأصابع) كُلُّ عَسَّالِ (العَسال: الرمح اللدن، المهتزّ)


*12*

12. فَإِنْ يَكُنْ جَفَّ عُودِي (كنايه عن الضعف) بَعْدَ نَضْرَتِهِ فَالدَّهْرُ مَصْدَرُ إِدْبَارٍ وَإِقْبَالِ (إدبار: مصدر أدبر أي ذهب، وعكسه الإقبال)

13 فانظُرْ لِقَوْلِي تِجِدْ نَفْسِي مُصَوَّرَةً فِي صَفْحَتَيْهِ (صفحتيه: يقصد صفحاته أي أدبه كله) فَقَوْلِي خَطُّ تِمْثَالِي (قولي خط تمثالي: أي أدبي وشعري يمثلني

مفاتيح النصّ:

شعرُ المنفى، مناسبةُ القصيدةِ، الشاعرُ الملتزمُ، المقاومةُ بالكلماتِ، موقفُ المستعمِر، حرّيّةُ التعبيرِ، مفهومُ الزمنِ، الزمنُ النفسيُّ، المعاناةُ، الحنينُ إلى الوطنِ، الكلاسيكيّة الجديدةُ.

مهامّ:

1. ما هي القيمُ الإيجابيّةُ والقيمُ السلبيّةُ التي تتجلّى في الأبياتِ الأربعةِ الأولى؟ وما هو موقفُ الشاعرِ منها؟

2. اِستخرجْ منَ النصِّ كلماتٍ وتعابيرَ تدلُّ على الزمانِ. هل سياقُ هذه التعابير سلبيٌّ أم إيجابيٌّ؟ ولماذا؟

3. حدّدِ البيتَ الذي يذكر الشاعر فيه مكان منفاهُ. ما هي الشاعرُ الّتي يحسُّ بها عند ذكرِ هذا المكانِ؟

4. هاتِ دليلينِ من النصِّ يدلّانِ على أنّ الشاعرَ يستعملُ لغةً كلاسيكيّةً.

5. يُكثرُ الشاعرُ من استخدامِ الضمير أنا في النصِّ. وضّحِ الغرضَ من ذلكَ.

6. اِستخرجْ ثلاثةَ أساليبَ بلاغيّةٍ مختلفةٍ مِنَ النصِّ، مبيّنًا الغرضَ من استخدامِها.

7. ما هي العلاقةُ بين عنوانِ القصيدةِ ومطلعِها المُدَوَّنِ في الحاشيةِ؟ ماذا تستنتجُ بالنسبةِ لنظامِ عَنْوَنَةِ القصائدِ؟

8. هل لديكَ اقتراحٌ آخرُ لعَنْوَنَةِ القصيدةِ؟ ما هوَ؟

9. ما هوُ أثرُ المنفى على نفسيّةِ الشاعرِ وعلى رؤيتِهِ وأفكارهِ؟

10. اِستخرجْ مِنَ النصّ كلماتٍ لها علاقةٌ بالتراثِ وأخرى لها علاقةٌ بالحياةِ المعاصرةِ.


*13*

سورية ومصر - حافظ إبراهيم


*13*

حافظ إبراهيم (1872-1932)

حافظ إبراهيم شاعرٌ مصريٌّ كلاسيكيٌّ من أنصارِ الكلاسيكيّةِ الجديدةِ، وُلدَ لأبٍ مصريٍّ وأمٍّ تركيّةٍ، توفّيا وهو صغيرٌ، فعاش في كنفِ خالِهِ.

اتّصلَ بالمحامي محمّد أبو شادي، أحدِ زعماءِ ثورةِ (1919)، واطلّعَ على كتبِ الأدبِ، وأُعجبَ بمحمود سامي الباروديّ. عملَ محاميًّا ثمّ ضابطًا عسكريًّا.

كان حافظ إبراهيم صديقًا لأحمد شوقي، ومرافقًا لهُ في أسفارِهِ، وقد ساعدَهُ شوقي في الحصول على لقب بك، وكانت بينهما مناظراتٌ ظريفةٌ، وعندما حصلَ شوقي على إمارةِ الشعر، قام حافظِ بتهنئتِهِ شعرًا.

لُقّبَ حافظ إبراهيم بشاعرِ النيل، وعندما مات رثاهُ شوقي بقصيدةِ مطلعها:

قد كنتُ أوثرُ أن تقولَ رثائي يا مُنصفَ الموتى من الأحياءِ

لحافظ إبراهيم ديوانٌ مطبوعٌ، وليالي سطح (في النقد الاجتماعيّ)، البؤساء (مترجم عن فكتور هوغو)، في التربية الأوّليّة (مترجم عن الفرنسيّة)، الموجز في علم الاقتصاد بالاشتراك مع خليل مطران.


*14*

حافظ إبراهيم

سورِيّةُ ومصرُ (أنشدها في حفل تكريم أقامتّهُ جماعةٌ من السوريّين بفندق شبرد في القاهرة، وقد نُشرت في 25 آذار سنة 1908 ميلادي)

1. لِمِصْرَ أَمْ لرُبُوعِ الشَامِ تَنْتَسِبُ هُنا العُلا وهُناكَ المجدُ والحَسَبُ

2. أُمُّ اللُّغاتِ غَداة َ الفَخْرِ أَمُّهُما (يقصد الشعبين السوريّ والمصريّ) وإنْ سَأَلْتَ عن الآباءِ فالعَرَبُ

3. إذا ألَمَّتْ بِوادِي النِّيلِ نازِلَة ٌ باتَتْ لها راسِياتُ (راسيات: جبال) الشامٍ تَضْطَرِبُ

4. وَإِنْ دَعَا في ثَرَى الأَهْرامِ ذُو أَلَمٍ أَجَابَهُ في ذُرَى (ذُرى: جمع ذروة (بضم الذال وكسرها): المرتفعات والأعالي) لُبْنانَ مُنْتَحِبُ (مُنتحب: باكٍ بصوت مرتفع)

5. لَوْ أَخْلَصَ الِّنيلُ والأرْدُنُّ (الأردن: نهر الأردن) وُدَّهُما تَصافَحَتْ منهما الأَمْواهُ (أمواه جمع ماء) والعُشُبُ

6. نسيمَ لُبنانَ كم جادَتْكَ عاطِرَة ٌ مِنَ الرِياضِ وَكَمْ حَيّاكَ مُنْسَكِبُ (منسكب: يقصد المطر والندى)

7. في الشَرقِ والغَربِ أنْفاسٌ مُسَعَّرَة ٌ (مسعّرة: ملتهبة من الشوق) تَهْفُو (تهفو: تميل. ويشير إلى حنين اللبنانيّين المغتربين عن وطنهم لبنان) إِلَيْكَ وأَكبادٌ بها لَهَبُ

8. لولا طِلابُ العُلا لَم يَبْتَغُوا بَدَلاً مِنْ طِيبِ رَيّاكَ (الريّا: الرائحة الطيبة) لكِنَّ العُلا تَعَبُ

9. رَادُوا (رادوا: طلبوا) المَناهِلَ (المناهل: الموارد) في الدُنْيا ولو وَجَدُوا إلى المَجَرَّة ِ رَكْبًا صاعِدًا رَكِبُوا

10. أَوْ قِيلَ في الشَمسِ للراجِينَ مُنْتَجَعٌ (منتجع: منزل لطلب الرزق) مَدُّوا لها سَبَبًا (سبب: جبل) في الجَوِّ وانْتَدَبُوا (انتدابَ: خفّ إلى طلب الشيء)


*15*

11. سَعَوْا إِلى الكَسْبِ مَحْمُودًا وَما فَتِئَتْ أُمُّ اللُغاتِ بذاكَ السَعْي تَكْتَسِبُ (أمّ اللغات تكتسبُ: تنتشر اللغة العربيّة بفضل سعيهم في طلب الرزق)

12. هذِي يَدِي عَنْ بَنِي مِصْرٍ تُصافِحُكُم فصافِحُوها تُصافِحْ نَفْسَها العَرَبُ

13. إِنْ يَكْتُبوا لِيَ ذَنْبًا في مَوَدَّتِهمْ (الضمير في مودتهم للسوريّين) فَإِنّما الفَخْرُ في الذَنْبِ الذي كَتَبُوا

مفاتيح النصّ:

شعرُ المناسبات، الوحدةُ العربيّةُ، البعدُ القوميُّ، الانتماءُ والهويّةُ، أهمّيّةُ اللغةِ العربيّةِ، المغتربون، إحياءُ المغتربينَ للّغةِ والأدبِ، الحنينُ إلى الوطنِ، جغرافيا الوطنِ العربيّ، مدرسةُ الإحْياءِ، المحسّناتُ البلاغيّةُ.

مهامّ:

1. تدخلُ هذه القصيدةُ بابَ الاجتماعيّات في ديوانِ حافظ إبراهيم. لماذا في رأيِكَ؟

2. ما هي الدلالةُ الّتي يمثّلُها نهرا اليل والأردنِّ في القصيدةِ؟

3. كيف تنعكسُ اللغةُ العربيّةُ؟ من خلال البيتينِ الثاني والحاديَ عَشَرَ؟

4. هات دليلًا من النصِّ يثبتُ أنَّ الشامَ تحملُ دلالةً إقليميّةً ولا تعني سوريّا فقط.

5. في النصِّ التفاتٌ من ضميرِ الغائبِ إلى ضمير المخاطَبِ. هاتِ مثالًا عنى ذلكَ مبيّنًا الغرضَ من استخدامهِ.

6. كيف تنعكسُ صورةُ المغتربِ اللبنانيِّ في الأبياتِ (7، 8، 9، 10، 11)؟

7. بيّن المبالغةَ في البيتينِ التاسعِ والعاشرِ وأهمّيّةَ استخدامها.

8. اِشرحْ ظاهرةَ التصدير الموجودةَ في البيتينِ الحاديَ عَشَرَ والثالِثَ عَشَرَ وأهمَيَةُ استخدامِها.

9. أعطِ مثالًا على ظاهرةِ التكرارِ وآخرَ على الطباقِ في القصيدة مبيّنًا الغرضَ منْ توظيفِهما.

10. اِستخرجْ من البيتِ الثانيَ عَشَرَ مثالًا على ظاهرة الترديد. ما الفرقُ بينَهُ وبينَ التكرارِ؟

11. اُكتبْ مجموعةً من الكلماتِ الّتي تنتمي للحقلِ الدلاليّ الجغرافيِّ في القصيدةِ.


*16*

قلعةُ بعلبكَّ، تذكارُ صِبًا - خليل مطران


*16*

خليل مطران (1872-1949)

خلل مطران شاعرٌ لبنانيٌّ رومانسيُّ النزعةِ، وُلدَ في بعلبكّ، وتتلمذّ في بيروت على يد الشيخينِ خليل البازجيّ وأخيهِ إبراهيم، فحصلَ على ثقافةٍ عربيّةٍ واسعةٍ.

سافرَ إلى فرنسا واطّلعَ علي الأدبينِ الفرنسيّ والإنكليزيِّ، واتّصلَ برجالِ الحركةِ الوطنيّةِ التركيّةِ من أعضاءِ حزبِ تركيّا الفتاة، وذلكَ، بسببِ الثوريّةِ ضدّ السلطانِ العثمانيّ الذي لاحقَهُ وضيّقَ عليهِ.

انتقلَ مطرانُ إلى مصرَ، حيثُ عملَ بالصحافةِ وتعرّفَ على أحمد شوقي وصادقَهُ، واسترشدَ بهِ في علمِ العَروض.

لُقّبَ بِشاعرِ القطرينِ (لبنان ومصر) وشاعرِ الأقطارِ العربيّةِ.

له ديوانُ شعرٍ بعنوان ديوان الخليل (أربعة أجزاء)، ديوان إلى الشباب، وهو أراجيزُ في الحكمِ والأخلاق، كتاب مرآة الأيّام في ملخّصِ التاريخ العامّ، وترجم مسرحيّات شكسبير: ماكبث، هاملت، عطيل، تاجر البندقيّة، السيّد، سنا.


*17*

خليل مطران

قلعةُ بَعْلَبَكَّ، تذكارُ صِبا

1. هَمَّ فَجْرُ الْحَيَاةِ بالإِدْبارِ فَإِذا مَرَّ فهيَ فِي الآثارِ

2. يغْنَمُ الْمَرءُ عَيْشَهُ فِي صِبَاهُ فَإِذا بَانَ (بانَ: زالَ) عَاشَ بِالتَذْكَارِ

3. وَوُقيتِ العَفَاءَ (العفاء: التراب) مِنْ عَرَصاتٍ (عرصات: ديار) مُقْوِياتٍ (مقويات: خاليات من السكان) أَواهِلٍ بِالفَخَارِ

4. مُسْتَطَابِ الحَالَينِ صَفْوًا وَشَجُوًا مُسْتَحَبٍّ فِي النَفْعِ وَالإِضْرَارِ (يقصد عهد الطفولة والصبا)

5. كَان ذَاكَ الْهَوَى سَلاَمًا وَبَرْدًا فَاغْتدَى حِينَ شَبَّ جَذْوَةَ نَارِ

6. حَبَّذا (هِنْدُ) ذلِكَ العَهْدُ لَكِنُ كُلُّ شَيءٍ إِلَى الرَدَى (الردى: الموت) وَالبَوَارِ

7. وَسَقاها ((الها) في سقاها وشربتها تعود إلى شامات سوداء على بياض تزيّن المعبد وردت في بيت محذوف، تفتقر إلى وظمأى له) النَدَى رَشاشَ دُموعٍ شَرِبَتْهَا ظَوَامِئُ الأنوَارِ

8. زَادَهَا الشَيْبُ (الشيب كناية عن اللون الأبيض ويقصد لون الأعمدة الرخاميّة وتيجانها البيضاء) حُرْمَةً وَجَلَالًا تَوَّجَتُها بِهِ يَدُ الأَعْصَارِ (الأعصار: جمع عصر)

9. رًبَّ شَيْبٍ أَتَمَّ حُسْنًا وَأَوْلَى وَاهِنَ العَزْمِ صَوْلَةَ الْجَبَّارِ (الشيب جمال وقوّة للضعيف)

10. مَعْبَدٌ لِلأَسْرَارِ قَامَ وَلَكِنْ صُنْعُهُ كَانَ أَعْظَمَ الأَسْرَارِ

11. وَضُروبًا مِن كُلَّ زَهْرٍ أَنيقٍ (يقصد أنهم صنعوا من حجارة المعبد أنواعًا من الزهور الأنيقة) لَمْ تَفُتْهَا نَضَارَةُ الأَزْهَارِ


*18*

12. وَشُمُوسًا مُضِيئَةً وَشِعَاعًا بَاهِرَاتٍ لَكِنَّهَا مِنْ حِجَارِ

13. وَطُيُورًا ذوَاهِبًا آيِبَاتٍ (آيبات: عائدات عكس ذواهب) خَالِدَاتِ الغُدُوٍّ (الغُدُوّ: الإبكار، سير أول النهار) وَالإِبْكارِ

14. فِي عَرَانِينِها (عرانين: جمع عرنين وهو الأنف. يقصد أنوف الأسود المنحوتة من الحجارة) دُخَانٌ مُثارٌ وَبِأَلْحَاظِها سُيُولُ شَرارِ

مفاتيح النصّ:

تَذكار العمرِ، البعدُ الذاتيُّ، عالمُ الطبيعةِ، الوصفُ التأمَليُّ، تَذكارُ الحجرِ، الطللُ والمحبوبةُ، فنُّ النحتِ، التصويرُ والتجسيدُ، التخليدُ، الرومانسيّةُ، الأساليبُ البلاغيّةُ.

مهامّ:

1. في البيت الثاني حكمةٌ جميلةٌ. اشرحْها.

2. كيفَ تتجلّى طفولةُ الشاعرِ التي يتمنّى عودتَها من خلالِ البيتِ الرابعِ؟

3. كيفَ تتقاطعُ لغةُ البيتِ الخامسِ مع الآيةِ (قلنا يا نارُ كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم)؟

4. إلى أيِّ مدًى يسهمُ فنُّ النحتِ في إظهارِ جمالِ آثار بعلبكَّ من خلالِ الأبياتِ (11-14)؟

5. ما هيَ دلالاتُ اللونِ الأبيضِ في البيتينِ الثامنِ والتاسعِ؟

6. يبرزُ في النصّ أسلوبُ الوصفِ التصويريِّ. اِستشهدْ بدليلينِ مناسبينِ.

7. ما المقصودُ بقولِ الشاعرِ معبدٌ للأسرارِ في بيتِ العاشِرِ؟

8. يُعتبرُ مطران أحدَ أنصارِ المدرسةِ الرومانسيَّةِ. كيفَ تنعكسُ الرومانسيّةُ من خلالِ النصِّ؟

9. هاتِ مثالًا على الترادفِ والطباق في النصِّ مُبيّنًا أهمّيّةَ استخدامِهِما.

10. ما هوَ موقفُكَ منَ اللغةِ العاليةِ للقصيدةِ؟

11. بيّن مظاهرَ الانزياح عن الواقعِ في البيتِ الأخيرِ.


*19*

غرفةُ الشاعرِ - علي محمود طه


*19*

علي محمود طه (1902-1949)

علي محمود طه شاعرٌ مصريٌّ رومانسيٌّ النزعةِ، أحدُ أعلام جماعةِ أبولّو. وُلدَ في المنصورةِ، ودرسَ الهندسةَ التطبيقيّةَ، ثمّ عملَ مهندسًا حكوميًّا لسنواتٍ طويلةٍ، ووكيلًا لدارِ الكتبِ.

تفرّغَ للشعرِ والإبداعِ، لكنَهُ توفّيَ بصورةٍ مفاجئةٍ بعدَ إصابتِهِ بالشللِ النصفيّ.

اشتُهرَ علي محمود طه بقصيدته الجندول التي غنّاها محمّد عبد الوهاب.

يمتازُ شعرُهُ بالتوجّهِ الجماليّ التأمّليّ، والصورِ الحسيّةِ الموحيةِ التي تخاطبُ النفسَ دونَ مشقّةٍ أو حاجزٍ.

صدرَ لهُ: الملّاح التائه (1934)، ليالي الملّاح التائه (1940)، أروح وأشباح (1942)، شرق وغرب (1943)، زهر وخمر (1943)، أغنية الرياح الأربع (1943)، الشوق العائد (1945)، وغيرها.


*20*

علي محمود طه

غرفة الشاعر

1. أيّها الشَاعِرُ الكئيبُ، مضى الليلُ وما زلتَ غارِقًا في شُجونِكْ (شجون: أحزان)

2. مُسْلِمًا رَأسَكَ الحزينَ إلى الفكرِ وللسُهدِ (السهد: الأرق والسهر) ذابلاتِ جُفونِكْ

3. وَيَدٌ تُمسِكُ اليَرَاعَ (اليراع: القلم) وأُخرى في ارتعاشٍ تمرُّ فوقَ جَبينِكْ

4. وفمٌ ناضبٌ (نضبَ: جفّ) به حَرُّ أنفاسِكَ يطغى على ضَعيفِ أنينِكْ

5. لستَ تُصْغِي لقاصفِ الرَعْدِ في الليلِ ولا يزدهيكَ (يزدهيكَ: يستخفُّكَ) في الإبراقِ

6. قَد تَمشَّى خِلالَ غرفتِك الصمتُ ودبَّ السكونُ في الأعماقِ

7. غيرَ هذا السراجِ، في ضوئهِ الشَاحِبِ يهفو عليكَ من إِشفاقِ

8. وَبقايا النيرانِ، في الموقِدِ الذَابِلِ، تبكي الحياةَ في الأرماقِ (أرماق: جمع رمق وهو بقيّة الحياة)

9. أَنتَ أذبلت بالأسى قلبَكَ الغضّ وَحطَّمتَ مِنْ رقيقِ كيانكْ

10. آهِ، يا شاعري، لقد نَصَلَ الليل وَما زلتَ سادِرًا (السادر: المتحيّر) في مَكانِكْ

11. ليسَ يحنو الدجى عَليكَ ولا يأسى لتلكَ الدُموعِ في أجفانِكْ

12. ما وَراءَ السُهادِ في ليلك الدَاجي، وهلّا فرغتَ من أحْزانِكْ

13. فَقُمِ الآنَ من مَكانِكَ واغنمْ في الكَرَى غَطَّةَ (غطّة: نخرة النوم) الخَلِيِّ (الخليّ: الفارغ من الهموم) الطَروبِ


*21*

14. والتمسْ في الفِراشِ دِفْئًا يُنَسِّيكَ نهارَ الأسى وليلَ الخُطوبِ (الخطوب: جمع خَطْب وهو الأمر أو الشأن)

15. لستَ تُجزى من الحَياةِ بما حُمِّلْتَ فيها من الضَنى والشُحوبِ

16. إنَّها للمُجونِ (المجون: أن لا يبالي المرء بما يصنع، ويقصد به العمل الفاسد) والخَتْلِ (الختل: الخداع عن غفله) والزَيفِ، و ليستْ للشَاعرِ الموهوبِ!

مفاتيح النصّ:

التأمّلُ الذاتيُّ، الشاعرُ في مرآةِ نفسِهِ (الميتا شعر)، الرومانسيّةُ، الطبيعةُ، تأثيثُ المكانِ، الحالةُ النفسيّةُ، النظرةُ إلى الحياةِ، مسؤوليّةُ الشاعرِ وهمومُهُ، شكلُ القصيدةِ وقافيتُها، الاستعارةُ.

مهامّ:

1. ما هيّ أعضاءُ الجسمِ الواردةُ في النصِّ وكيفَ تنعكسُ حالتُها؟

2. بماذا أثّثَ الشاعرُ غرفتَهُ؟

3. تكثرُ في القصيدةِ الكلماتُ المحسوسةُ وَالكلماتُ ذاتُ الدلالةِ السلبيّةِ. مثّلْ لكلٍ منها بمثالين مبيّنًا الغَرضَ من استخدمِها.

4. كيف تتماهى الغرفةُ ومحتوياتُها مع نفسيّةِ الشاعرِ؟

5. ما هوَ الجوَ السائدُ في النصِّ بالاعتمادِ على كلماتٍ مفتاحيّةٍ؟

6. صفْ تأثيرَ الحزنِ والسهادِ على نفسيّةِ الشاعرِ وجسمِهِ.

7. ما هِيَ نظرةُ الشاعرِ إلى الحياةِ وهل توافقهُ على ذلكَ؟

8. كيفَ تنعكسُ ملامحُ المدرسةِ الرومانسيّةِ مِنْ خلالِ النصِّ؟

9. ما هوَ التجديدُ الذي يجريه الشاعرُ في شكلِ القصيدةِ؟

10. كيفَ ينعكسُ الشاعرُ في مِرْآةِ نفسِهِ منْ خلالِ القصيدةِ؟

11. هاتِ مثالينِ على الاستعارةِ في النصِّ مُبيّنًا الغرضَ في استخدامِها.


*22*

نشيدُ الجبّار أو هكذا غنّى بروميثيوس - أبو قاسم الشابيّ

أبو قاسم الشابيّ (1909-1934)

أبو القاسمِ الشابيّ شاعرٌ تونسيٌّ، وأحدُ أعلامِ المدرسةِ الرومانسيّةِ. وُلدَ في الشابةِ من ضواحي مدينةِ توزرَ، ونشأَ في بيئةٍ مثقّفةٍ، وكانت صلتهُ حميمةُ جدًّا بوالدهِ الذي عملَ قاضيًا في المدنِ التونسيّةِ والأريافِ، فتسنّى للشابيّ مرافقتُهُ والاطّلاعُ على هذا الجانبِ من الحياةِ، وكانَ لوفاةِ والدهِ أثرٌ عميقٌ في نفسيّتِهِ ومشاعرِهِ.

كانَ الشابيّ مريضًا بالقلبِ منذُ صغرِهِ، وقد قيّدت تعليماتُ الأطبّاءِ تحرّكاتِهِ، فشعرَ بالمرارةِ والتعبِ.

يغلبُ طابعُ التحدّي على شعرِهِ، ولغتُهُ رومانسيّةٌ تصويريّةٌ موسيقيّةُ الإيقاعِ، ولهُ عددٌ من القصائدِ المغنّاةِ، وديوانُ شعرٍ بعنوان أغاني الحياة وقصائد أخرى، وعددٌ من الرسائل.


*23*

أبو القاسم الشابيّ

نشيد الجبّار أو هكذا غنّى بروميثيوس

1. سَأعيشُ رَغْمَ الدَّاءِ والأَعْداءِ كالنِّسْر فوقَ القِمَّة ِ الشَّمَّاءِ

2. أَرْنُو إِلَى الشَّمْسِ المضِيئّة ِ هازِئاً بالسُّحْبِ والأمطارِ والأَنواءِ (الأنواء: جمع نَوْء وهو المطر)

3. لا أرْمقُ الظِلَّ الكئيبَ ولا أَرَى مَا في قرار الهُوَّة ِ السوداءِ

4. وأَسيرُ في دُنيا المشَاعِرِ حَالمًا غرِدًا وتلكَ سَعادة ُ الشُعَراءِ

5. أُصْغِي لموسيقى الحَياة ِ وَوَحْيِها وأذيبُ روحَ الكَوْنِ في إنْشَائي

6. وأُصِيخُ (أصيخ: أصغي وأستمع) للصَوتِ الإلهيِّ الَّذي يُحْيي بقلبي مَيِّتَ الأَصْداءِ

7. وأقولُ للقَدَرِ الَّذي لا يَنثني عَنْ حَرْبِ آمالي بكلِّ بَلاءِ

8. لا يُطْفِئُ اللَهبَ المؤجَّجَ (المؤجّج: المشتعل) في دمي موجُ الأسى وعواصفُ الأَرْزاءِ (أرزاء: جمع رُزء وهو المصيبة)

9. فَاهْدِمْ فؤادي ما اسْتَطَعْتَ فإنَّهُ سيكونُ مثلَ الصَخْرةِ الصَمَّاءِ

10. لا يعرفُ الشَّكوى الذليلَة َ والبُكا وضراعَة َ الأَطفالِ والضُعَفاءِ

11. وَيَعيشُ جَبّارًا يُحَدِّقُ دائِمًا بالفجرِ بالفجرِ الجميلِ، النَائي

12. وامْلأْ طريقي بالمخاوفِ، والدُجى وزوابعِ الاَشْواكِ، والحَصْباءِ (الحصباء: الحصى)

13. وانْشر عليهِ الرُّعبَ، وانثُرْ فوقَهُ رُجُمَ الرَدى وصواعِقَ البَأْساءِ

14. سَأَظلُّ أمشي رَغْمَ ذلِكَ، عازفًا قيثارتي، مترنِّمًا بغنائي

15. أَمشي بروحٍ حالمٍ متَوَهِّجٍ في ظُلْمة ِ الآلامِ والأَدْواءِ

16. النُور في قلبي وبينَ جوانحي فَعَلامَ أخشى السَيرَ في الظلْماءِ؟


*24*

مفاتيح النصّ:

البعدُ الذاتيُّ والرومانسيُّ، مرضُ الشاعرِ، الأسطورةُ في الشعرِ، بروميثيوس سارقُ النارِ، عقابُ بروميثيوس، التفاؤلُ، أملُ الحياةِ، تحدّي القدرِ، روحُ الشاعرِ، موسيقى الشعرِ، صِيَغُ الأفْعالِ توظيفُ الحواسِّ، دلالةُ العنوانِ.

مهامّ:

1. ماذا هدفَ الشاعرُ من توظيفِ أسطورةِ بروميثيوس في القصيدةِ؟

2. ما هو مصدرُ التفاؤلِ عند الشابيّ؟ هل لهذا علاقةٌ بنجاةِ بروميثيوس منَ العقابِ؟

3. صفْ ملامحَ الشاعرِ كما تنعكسُ في البيتِ الرابعِ والخامسِ والرابعَ عَشَرَ.

4. اُكتبِ الأبياتَ التي وردتْ فيها لفظةُ قلب أو فؤاد. كيفَ تنعكسُ هاتانِ اللفظتانِ في القصيدةِ؟

5. يسودُ البعدُ الذاتيُّ أجواءَ القصيدةِ. هاتِ ثلاثةَ أمثلةٍ على ذلكَ.

6. لماذا يكثرُ الشاعرُ من توظيفِ الفعلينِ المضارعِ والأمرِ في القصيدةِ؟

7. اِبنِ جدولًا من عمودين: الأوّل لكلماتٍ ذاتِ دلالةٍ سلبيّةٍ والآخر لكلماتٍ ذاتِ دلالاتٍ إيجابيّةٍ، وردتْ في القصيدةِ.

8. اِبنِ جدولًا من ثلاثةِ أعمدةٍ تضعُ فيه تعابيرَ تنتمي للحواسّ التاليةِ: البصر، السمع،اللمس.

9. اِستخرجْ ثلاثةَ أساليبَ بلاغيةٍ مستشهدًا بأمثلةٍ، مبيّنًا الغرضَ من استخدامِها.

10. تعتبرُ القصيدةُ نموذجًا للشعر الغنائيّ الوجدانيّ. وضّح ذلكَ.

11. اِشرحْ دلالةَ العنوانِ وعلاقَتها بالفكرةِ المركزيّةِ للنصّ.

12. اِخترْ بيْتًا من القصيدةِ ترى فيهِ تعبيرًا عن موقفكَ تجاه الحياة معلّلًا سببَ اختيارِكَ.


*25*

أبو العلاء - محمّد مهدي الجواهريّ


*25*

محمّد مهدي الجواهريّ (1899-1997)

محمّد مهدي الجواهريّ شاعرٌ عراقيٌّ شيعيٌّ كلاسيكيٌّ، وُلدَ في النجفِ في بيت دينٍ وعلمٍ وأدبٍ، واطّلعَ منذُ نعومةِ أظفارِهِ على القرآنِ الكريمِ وعلومِ اللغةِ والأدب، وقد أسعفتُهُ ذاكرةٌ قويّةٌ في استيعابِ مخزونٍ وفيرٍ من الثقافةِ العربيّةِ والإسلاميّةِ.

عملَ في الصحافةِ في بغدادَ وأصدرَ عددًا من الصحفِ، وانتُخبَ عددًا من المرّاتِ رئيسًا لاتّحادِ الكُتّابِ العراقيّينَ. اِنخرطَ في العملِ السياسيّ فترةً، لكنهُ واجهَ مضايقاتٍ مختلفةً فاضطرَّ إلى التنقّلِ بين إيرانَ ولبنانَ وتشيكيا والمغربِ ومصرَ والأردنَ وسوريّا.

يمتازُ شعرُ الجواهريّ بالأصالةِ والنَفَسِ الطويلِ واللغةِ المتينةِ العاليةِ، وفي قصائدهِ تسكنُ روحُ القصيدةِ العربيّةِ الكلاسيكيّةِ.

لُقّبَ الجواهريّ بشاعرِ العربِ الكبيرِ، واشتُهرَ بعددٍ من القصائدِ أشهرها العينيّة التي كُتبت بماءِ الذهب في مرقدِ الإمام الحسينِ بنِ عليّ.

توفّيَ الجواهريّ في دمشقَ ودُفنَ فيها عن عمرٍ ناهزَ الثامنةَ والتسعينَ.

صدَرَ لهُ شعرًا: حلبةُ الأدب (1927)، بينَ الشعورِ والعاطفة (1928)، بريد الغربة (1965)، بريد العودة (1969)، خلجات (1971).


*26*

محمد مهدي الجواهريّ

ا

أبو العلاء

1. قِفْ بالمَعرَّةِ (المعرّة: بلدة من ملحقات حلب، مولد أبي العلاء المعريّ ومرقده) وامسَح خَدَّها التَرِبا (الترب: الذي يكسوه التراب) واسْتَوْحِ مَنْ طَوَّقَ الدُنيا بِما وَهبَا

2. واستَوحِ مَنْ طَبّبَ الدُنيا بحكْمَتِهِ وَمَنْ على جُرحِها مِن روُحِهِ سَكَبا

3. على الحصيرِ وكوزُ الماء يَرْفِدُهُ وذِهنُهُ وَرُفوفٌ تحمِلُ الكُتُبا

4. أقامَ بالضَجّةِ الدُنيا وأقعدَها شيخٌ أطلَّ عليها مُشفِقًا حَدِبا

5. بَكى لأَوْجاعِ ماضيها وحاضِرِها وشامَ (شامَ: ترقّبَ وانتظرَ) مُستقْبَلًا مِنْها ومُرْتقَبا

6. وللكآبةِ أَلْوانٌ، وأفجَعُها أنْ تُبْصرَ الفَيْلَسوفَ الحُرَّ مُكْتئِبا

7. تَناولَ الرثَّ (الرثّ: سقط المتاع، ويقصد أنّه كان ينتقد سفاسف الأمور، إمّا من طبعه وإمّا من رغبته في الإصلاح) من طَبْعٍ ومُصْطَلحٍ بالنقْدِ لا يتأبّى أيَّةً (أيّةً: أيّا من كانَ، أو أيّ شيء) شَجَبا

8. وأَلْهَمَ الناسَ كي يَرضَوا مغبَّتَهُمْ أنْ يُوسِعوا العَقْلَ ميدانًا ومُضْطَربا

9. وأنْ يُمدُّوا بهِ في كلِّ مُطَّرَحٍ وإنْ سُقوا مِن جَناهُ الوَيْلَ والحَرَبا (الحَرَبُ: نَهْبُ الإنسانِ مالَهُ فلا يبقى له شيءٌ)

10. لِثورةِ الفكْرِ تأريخٌ يحدّثُنا بأَنَّ ألفَ مسيحٍ دونَها صُلِبا

11. إنَّ الذي أَلْهبَ الأَفْلاكَ مِقْوَلُهُ (المِقوَلُ: اللسانُ) والدَهرَ لا رَغَبًا يرجو ولا رَهَبا

12. لم ينسَ أنْ تشمُلَ الأَنْعامَ رحمتُهُ ولا الطيورَ ولا أفراخَها الزُغُبا (الزَغب: الفراخ التي يكسوها أوّل ما لاح من الريش)

13. حَنَا على كُلِّ مَغْضوبٍ فضمَّدَهُ وشجَّ مَنْ كان، أيًّا كانَ، مُغْتَصِبا


*27*

مفاتيح النصّ:

تقديرُ العلماءِ، التواصلُ مع رموزِ التراثِ، مصادرُ الثقافةِ الأدبيّةِ، الجرأةُ على النقدِ، الرفقُ بالحيوانِ، مقاومةُ الغاصبِ، تحكيمُ العقلِ، بساطةُ العيشِ، مؤازرةُ المظلومِ، التضحيةُ والفداءُ، الطباقُ، التناصُّ.

مهامّ:

1. كيفَ تُرتسمُ صورةُ أبي العلاءِ المعرّيّ من خلالِ البيتينِ الأوّلِ والثاني؟

2. صفْ شخصيّةَ المعرّيّ من الداخلِ والخارجِ بالاعتمادِ على البيتِ الثالثِ.

3. تحدّثْ عن مواقفِ، المعرّيّ في الحياةِ من خلالِ الأبياتِ (4-9).

4. اِستخرجِ البيتَ الذي يشيرُ إلى أنّ أبا العلاءِ المعرّيّ كان نباتيًّا.

5. إلى ماذا يرمزُ المسيحُ في البيتِ العاشرِ؟ وما الهدفُ مِنْ هذا التناصِّ؟

6. اِستخرجْ منَ النضِّ دليلينِ يثبتانِ أنّ المعرّيَّ لم يقفْ مساندًا للظلم ولم يَخَفِ السلطةَ.

7. ما رأيُّكَ بما يقولهُ الجواهريّ عنِ الفيلسوفِ في البيتِ السادسِ؟

8. ما هيَ الصفاتُ التي يقدّرها الجواهريّ في أبي العلاء المعرّيّ؟

9. اِستخرجْ مثالينِ على الطباقِ في القصيدةِ مُبيّنًا أهمّيّةَ استخدامهِ.

10. هاتِ دليلينِ يدلّانِ على أنّ القصيدةَ كلاسيكيّةٌ.


*28*

البابُ تقرعُهُ الرياحُ - بدر شاكر السيّاب


*28*

بدر شاكر السيّاب (1925-1964)

بدر شاكر السيّاب شاعرٌ عراقيٌّ، رائدٌ في شعرِ الحداثةِ العربيّةِ، وأوّلُ من طرقَ، مع نازك الملائكة، أبوابَ شعرِ التفعيلةِ.

وُلدَ في جيكورَ قربَ البصرةِ، ودرسَ اللغةَ العربيّةَ والأدبَ الإنكليزيَّ في دار المعلّمينَ في بغداد. عملَ مُدرّسًا، لكنّهُ أقيلَ من عملِهِ وسجنَ بسببِ آرائِهِ السياسيّةِ.

غادرَ العراقَ إلى إيران ومنها متسلّلًا إلى الكويت عامَ (1952) بسببِ الاضطراباتِ سياسيّةِ في بغدادَ، وخوفًا على نفسِهِ من الاعتقالِ. وفي الكويتِ عاشَ حياة الفقرِ والتشرّدِ والغربةِ والحنينِ إلى العراق، فكتبَ هناكَ قصيدتَهُ المشهورةَ غريبٌ على الخليج.

مرضَ في السنوات الثلاثِ الأخيرةِ من حياتِهِ، وماتَ وهو في زهرةِ شبابِهِ.

صدرَ لهُ؛ أزهار ذابلة (1947)، حفّار القبور (1952)، المومس العمياء (1954)، الأسلحة والأطفال (1954)، مختارات من الشعر العالميّ الحديث - قصائد مترجمة (د.ت)، أنشودة المطر (1960)، المعبد الغريق (1962)، منزل الأقنان (1963)، شناشيل ابنة الجلبيّ (1964).


*29*

بدر شاكر السيّاب

البابُ تقرعُهُ الرياحُ

البَابُ مَا قَرَعَتْهُ غَيْرُ الرِيحِ في اللَيْلِ العَمِيقْ

البَابُ مَا قَرَعَتْهُ كَفُّكِ.

أَيْنَ كَفُّكِ وَالطَّرِيقْ

نَاءٍ بِحَارٌ بَيْنَنَا، مُدُنٌ، صَحارى مِنْ ظَلامْ

الرِيحُ تَحْمِلُ لِي صَدَى القُبْلاَتِ مِنْهَا كَالْحَرِيقْ

مِنْ نَخْلَةٍ يَعْدو إِلى أُخْرى وَيَزْهو في الغَمامْ

البابُ مَا قَرَعَتْهُ غَيْرُ الرِيحِ

آهِ لَعَلَّ رُوحًا في الرِياحْ

هَامَتْ تَمُرُّ عَلى الْمَرَافِئ أَوْ مَحَطَّاتِ القِطارْ

لِتُسَائِلَ الغُرَبَاءَ عَنِّي، عَن غَرِيبٍ أَمْسِ رَاحْ

يَمْشي عَلى قَدَمَيْنِ، وَهْوَ اليَوْمَ يَزْحَفُ في انْكِسَارْ.

هِيَ روحُ أُمِّي هَزَّها الحُبُّ العَمِيقْ،

حُبُّ الأُمُومَةِ فَهْيَ تَبْكِي:

آهِ يَا وَلَدِي البَعِيدَ عَنِ الدِيارْ!

وَيْلاَهُ! كَيْفَ تَعُودُ وَحْدَكَ لاَ دَلِيلَ وَلاَ رَفِيقْ؟

أُمَّاهُ لَيْتَكِ لَمْ تَغيبي خَلْفَ سُورٍ مِنْ حِجَارْ

لاَ بابَ فِيهِ لِكَي أَدُقَّ وَلاَ نَوَافِذَ في الجِدَارْ!


*30*

كَيْفَ انْطَلَقْتِ عَلى طَرِيقٍ لاَ يَعُودُ السَّائِرُونْ

مِنْ ظُلْمَةٍ صَفْرَاءَ فِيهِ كَأَنَّهَا غَسَقُ (الغَسَق: ظلمة أوّل الليل) البِحَارْ؟

كَيْفَ انْطَلَقْتِ بِلاَ وَدَاعٍ فَالصِغَارُ يُوَلْوِلُونْ،

يَتَرَاكَضُونَ عَلَى الطَرِيقِ وَيَفْزَعُونَ فَيَرْجِعُونْ

وَيُسَائِلُونَ اللَّيْلَ عَنْكِ وَهُمْ لِعَوْدِكِ في انْتِظَارْ؟

البَابُ تَقْرَعُهُ الرِيَاحُ لَعَلَّ رُوحًا مِنْك ِ زارْ

هَذَا الغَرِيبُ!! هُوَ ابْنُكِ السَهْرَانُ يُحْرِقُهُ الحَنِينْ

أُمَّاهُ لَيْتَكِ تَرْجِعِينْ

شَبَحًا. وَكَيْفَ أَخَافُ مِنْهُ وَمَا أَمَّحَتْ رَغْمَ السِنِينْ

قَسَمَاتُ وَجْهِكِ مِنْ خَيَالِي؟

أَيْنَ أَنْتِ؟ أَتَسْمَعِينْ

صَرَخَاتِ قَلْبِي وَهْوَ يَذْبَحُهُ الحَنِينُ إِلَى العِرَاقْ؟

البَابُ تَقْرَعُهُ الرِّيَاحُ تَهُبُّ مِنْ أَبَدِ الفِرَاقْ.

لندن 13/3/1963

مفاتيح النصّ:

فقدان الأُمِّ، الحنينُ للأُمِّ، الحنينُ للطفولةِ، الحنينُ للوطنِ، الغربةُ، المرضُ، الحنينُ إلى العراق، الموتيف، التكرارُ، أصواتُ الشخصيّات، الفعلُ المضارعُ، العناصرُ الإيقاعيّةُ، قصيدةُ التفعيلةِ، القافيةُ الساكنةُ، الاستفهام البلاغيّ.


*31*

مهامّ:

1. صفْ معاناةَ الشاعرِ من خلالِ الجوِّ العامِّ للقصيدةِ.

2. في القصيدة ثلاثةُ محاورَ أساسيّةٌ: المعاناةُ من المرضِ، الحَنينُ الى الأمِّ، الحنينُ الى

الوطنِ. بيّنهْا.

3. يعبّرُ السيّابُ عن غُرْبتينِ: غربةٍ عنِ الأُمِّ وغربةٍ عن الوطنِ. أيُّهما الأهمُّ في نظرهِ ونظرِكَ؟

4. كيف تُرْتسمُ صورةُ القبرِ والموتِ في القصيدةِ؟

5. اِشرحِ التدرّجَ في تكرارِ الباب ما قرعتهُ غيرُ الريح والتناقصَ الحاصلَ فيهِ. ما الهدفُ من هذا التناقصِ؟

6. ما هيَ الأصواتُ التي نسمعُها في القصيدةِ؟ أعطِ مثالًا على كلّ صوتٍ.

7. تحدّثْ عن مبنى قصيدةِ التفعيلةِ من خلالِ هذهِ القصيدةِ.

8. يُكثرُ الشاعرُ من الأساليبِ الإنشائيّةِ. هاتِ مثالًا على: الاستفهامِ، النداءِ، التمنّي، الرجاءِ، التفجّع والندبةِ.

9. اِطرحْ سؤالًا يتعلّقُ بتكرارِ الفعلِ المضارعِ في سياقِ النصِّ.

10. ما هي أهمّيّةُ أسلوبِ الحوارِ في القصيدةِ؟

11. هات مثالينِ على العناصرِ الإيقاعيّةِ في القصيدةِ.

12. وضّحْ ملامحَ الشعرِ الغنائيّ الوجدانيّ في القصيدةِ.

13. ما هي دلالةُ القافيّةِ الساكنةِ في القصيدةِ؟

14. هاتِ مثالًا على الجريان في القصيدةِ مبيّنًا الهدفَ من استخدامهِ.


*32*

ذكرياتُ الطفولةِ - عبد الوهاب البياتيّ


*32*

عبد الوهاب البياتيّ (1926-1999)

عبد الوهاب البياتيّ شاعر عراقيّ من أعلامِ الشعرِ الحديث، وأحدُ رُوّادِ شعرِ التفعيلةِ. وُلدَ في بغدادَ، ورسَ اللغةَ العربيّةَ وآدابَها، ثمّ اشتغلَ مُدرّسًا، لَكنّهُ أقيلَ من عملِهِ بسببِ مواقفِهِ السياسيّةِ، كما سُحبت منهُ الجنسيّةُ العراقيّةُ في فترةٍ لاحقةٍ.

عاشَ البياتيّ معظمَ حياتِهِ في المنفى، متنقّلًا بينَ العواصمِ العربيّةِ وعددٍ من الدول الأوروبيّةِ والاتّحاد السوفياتيّ، خاصّةً إسبانيا التي قضى فيها سبعَ سنواتٍ، انخرطَ خلالها في الحياةِ الأدبيّة والشعبيّةِ فيها.

قضى البياتيّ معظمَ الوقتِ من حياتِهِ في عمّانَ، ثمّ انتقلَ إلى دمشقَ، فبقيَ فيها حتّى وفاتِهِ. وكانَ لهُ صداقاتٌ مع كبارِ الشعراءِ العربِ، وعددٍ من الشعراءِ العالميّين، كالشاعرِ التركيّ ناظم حكمت، والشاعر الإسبانيّ رفائيل ألبرتي، والروسيّ يفتشنكو.

يمتازُ شعرُ؛ البياتيّ بنزعةٍ وجوديّةٍ عالميّةٍ، وامتزاجٍ بالرموزِ التراثيّةِ والصوفيّةِ والأسطوريّةِ، ولهُ رصيدٌ كبيرٌ من الإنتاجِ الشعريِّ والإبداعِ الحداثيِّ.

صدرَ لهُ: ملائكة وشياطين (1950)، أباريق مهشّمة (1955)، رسالة إلى ناظم حكمت (1955)، أشعار في المنفى (1957)، ديوان عبد الوهاب البياتيّ (1972)، سيرة ذاتيّة لسارق النار (1974)، بستان عائشة (1989)، كتاب المراثي (1995)، ينابيع الشمس - السيرة الشعريّة (1999)، وغيرها.


*33*

عبد الوهاب البياتيّ

ذكرياتُ الطفولةِ

بالأمِس كُنّا، آهِ مِن كنّا: ومِن أمسٍ يَكونْ

نعدو وراءَ ظِلالِنا كُنّا، ومِن أمسٍ يَكونْ

لا نَرهَبُ الصمتَ الذي تُضفيهِ (أَضفى: أَسبغَ، غَمَرَ) أشباحُ الغُروبْ

فَوقَ الحدائقِ والدروبْ

لا نَرهَبُ السورَ الذي مِنْ خَلفِهِ يأتي الضياءْ

ولربّما ماتَ الضياءُ ولم يَعدْ ونقولُ: جاءْ!

كُنّا نَقولُ كَما نَشاءُ

حتّى النجومْ

كُنّا نَقولُ بأنّها كانَتْ - عيونْ

لأرضِ تَنظُرُ في فُتونْ (فُتون: إعجاب)

حَتّى النجومْ

كانتْ عُيونْ

لا نَعرِفُ الشيءَ الصّغيرَ ولا نُصدّقُ ما يُقالْ

ولا نَزالْ

لا نَعرفُ الشيءَ الصغيرَ ولا نُصدّقُ ما يُقالْ

ولربّما كُنّا نُحدّقُ في الفراغِ ولا ننامْ


*34*

وفي الظلامْ

مأوى العفاريتِ الضخامْ

كانتْ مَدائِنُنا الجديدةُ في الظلامْ

بمنازلِ الأَمواتِ، أشبهَ، أو قُرى

النّملِ - الجديدةِ في الظلامْ -

كانتْ مَدائِنُنا تُقامْ

وفي الظلامْ

كُنّا نحدّق في الفراغِ، ولا ننامْ

إلّا على أصواتِ عالمِنا المُقَوَّضِ (مُقوّض: مُهدّمّ)، والعبيد

يتسكّعونَ، ومن جديدْ

يستقبلونَ - هُناكَ - طاغيةٌ جديدْ

وخيولُنا الخشبيّةُ العرجاءُ، كُنّا في الجدارْ

بالفحمِ نرسُمُها، ونرسُمُ حولها حقلًا ودارْ

حقلًا ودارْ

ونُطاردُ القططَ الهزيلةَ في الأزقّةِ بالحجارْ

وإلى الحبيبةِ كان يدفعُنا، ويدفعُنا الحنينْ

في بيتها نقضي أماسينا الطويلةَ حالِمينْ

كُنّا لخفقِ نِعالِها الفضّيِّ، نُصغي ساهمينْ (ساهِمينَ: متغيّري اللون من همّ أو هزالٍ أو غضبٍ)

بعد المساءِ، وبعد حينْ

وتثورُ أحقادُ السّنينْ


*35*

فنعودُ، نبحثُ في بقايا الذكرياتِ عن الحياةْ

الأمسُ ماتْ

الأمسُ ماتْ

لم يبقَ حولَ مدينةِ الأطفالِ إلّا ما نشاءْ

إلّا السماءْ

جوفاءَ، فارغةً، تحجّرَ في مآقيها (مآقي: عيون) الدخانْ

إلّا بقايا السورِ والشحاذُ يستجدي (يستجدي: يطلب الجدا (العطاء) وأقدامُ الزمانْ

إلّا العجائزُ في الدروبِ الموحشاتْ

يسألنَ عنّا الغادياتِ، الرائحاتْ

ولربّما مرّت بهِنَّ بهِنَّ هذي الذكرياتْ

السورُ والشحاذُ الطفلُ الذي بالأمسِ ماتْ

مفاتيح النصّ:

طفولةٌ جميلةٌ، طفولةٌ بائسةٌ، الأشباحُ، الخوفُ، عالمٌ مقوّضٌ، عالمُ الظلامِ، عبوديةٌ وحاكمٌ مستبدٌّ، الحبيبةُ والحكاياتُ الجميلةُ، فقدانُ الأملِ، السماءُ الموحشةُ، معالمُ الفناءِ والدمارِ، الموتيف، التكرارُ، الاسترجاعُ، القافيةُ الساكنةُ.


*36*

مهامّ:

1. يرسمُ البياتيّ في القصيدةِ شكلينِ من الطفولةِ. ما هما؟ اِستعنْ بجملٍ مفتاحيّةٍ من النصِّ.

2. ما هي ملامحُ الواقعِ السياسيّ الذي يصوّرهُ النصُّ؟

3. بماذا تقترنُ ذكريات الأنا الشعريّ (الراوي) عند ذِكْرِ الحبيبةِ؟

4. تظهرُ في النصِّ براءةُ الطفولةِ وشقاوتُها. اِطرحْ سؤالًا حولَ هذهِ الثيمةِ (الفكرةِ).

5. ما هي مكوّناتُ عالمِ الظلامِ في القصيدةِ؟

6. بدأ الشاعرُ بالحديثِ عن الطفولةِ وأنهى بالحديثِ عن العجائزِ. ما الهدفُ من ذلكَ؟

7. هلِ القصيدةُ ذاتُ وحدةٍ عضويّةٍ متلاحمةٍ؟ علّلْ إجابَتَكَ.

8. وضعَ البياتيّ بعضَ الكلماتِ والجملِ بين قوسينِ. ما الرابطُ بين هذهِ الكلماتِ والجملِ؟

9. تنتمي القصيدةُ إلى شعرِ التفعيلةِ. اِشرحْ بعضَ خصائصِها الشكليّةِ.

10. كيفَ انتهتِ القصيدةُ؟ وما رايُكَ بهذهِ النهايةِ؟

11. تكثرُ في القصيدةِ العناصرُ الإيقاعيّةُ. اِشرحْ ثلاثةً منها معَ الأمثلة.

12. كيفَ ينعكسُ أسلوبُ الاسترجاعِ في القصيدةِ؟ ما الهدفُ مِنَ استخدامهِ؟

13. اِستخدمَ الشاعرُ تكرار الصدى في السطر الثاني. ما المقصودُ بذلكَ وما الهدفُ منَ استخدامهِ؟

14. ما الهدفُ منَ استخدامِ الأنا الشعريِّ بضميرِ الجمعِ نحن؟

15. يقول البياتيّ: لا نعرفُ الشيْءَ الصغيرَ ولا نصدّقُ ما يقال. ما المرموزُ له بالشيْءِ الصغيرِ حسبَ رأيكَ؟


*37*

حكايةٌ قديمةٌ - صلاح عبد الصبور


*37*

صلاح عبد الصبور (1931-1981)

صلاح عبد الصبور شاعرٌ مصريٌّ، ورمزٌ من رموزِ الشعرِ العربيِّ الحديثِ، ورائدٌ من رُوّادِ شعرِ التفعيلةِ، مسرحيٌّ وناقدٌ أدبيٌّ مرموقٌ، ودبلوماسيٌّ عملَ في السفارةِ المصريّةِ في الهندِ.

وُلدَ في إحدى قرى دلتا النيلِ، ودرسَ اللغةَ العربيّةَ في جامعةِ القاهرةِ، وتتلمذَ على المفكّرِ العربيِّ أمين الخوليّ، فكانَ من الفاعلينَ بمعيّتِهِ في الحراكِ الأدبيّ في مصرَ.

ثقافةُ عبد الصبّور عربيّةٌ عالميّةٌ، اتّخذت من الرموزِ الصوفيّةِ العربيّةِ قناعًا لها في شعرِهِ، ومن الكتبِ السماويّةِ والحضارةِ الغربيّةِ استمدَّ رموزَهُ، فجاءت تصوّراتُهُ ودلالاتُهُ فلسفيّةً سياسيّةً اجتماعيّةً نقديّةً. لا تنزاحُ لغةُ عبدِ الصبّورِ عن المألوفِ والعاديّ، لكنّها مترعةٌ بفرادة الصورةِ وثنائيّةِ السخريةِ والمأساةِ.

صدرَ لهُ: الناس في بلادي (1957)، أقول لكم (1961)، أحلام الفارس القديم (1964)، تأملات في زمن جريح (1970)، شجر الليل (1973)، الإبحار في الذاكرة (1977).

ومن مسرحيّاتِهِ الشعريّةِ: ليلى والمجنون (1971)، مأساة الحلّاج (1964)، مُسافر ليل (1968)، الأميرة تنتظر (1969)، وبعد أن يموت الملك (1975)، وله كتاباتٌ نثريّة.


*38*

صلاح عبد الصبور

حكايةٌ قديمةٌ

كانَ لَهُ أصْحابُ

وعاهدوهُ في مساءِ حُزْنِهِ

ألّا يسلّموهُ للجُنودْ

أوْ ينكروهُ عندما

يطلبُهُ السلْطانْ

فواحدٌ أسلمَهُ لقاءَ حَفْنةٍ من النقودْ

ثمّ انتحرْ

وآخرٌ أنكرهُ ثلاثةٌ قبل انبلاجِ (انبلاج: طُلوع) الفجرْ

وبعد أنْ ماتَ اطمأنّت شَفَتاهْ

ثمّ مشى مُكَرِّزًا (مُكَرِّزًا: واعظًا ومبشّرًا بالإنجيلِ والتعاليم المسيحيّة) مُفاخِرًا بأنّه رآهْ

وباسمهِ صارَ مُبارِكًا مُعَمَّدا (مُعَمَّدا: مغسولًا بماءِ المعموديّةِ، والتعميدُ طقسٌ دينيٌّ لتطهيرِ المسيحيّ مِنَ الخطيئةِ الأولى (خطيئةِ آدم))

والآن يا أصْحابْ

أسألكُم سؤالَ حائرْ

أيّهُما أَحَبَّهُ؟


*39*

مَنْ خسرَ الروحَ فأرخصَ الحياة؟

أَمْ مَنْ بنى لَهُ معابدًا

وشادَ باسمهِ مَنائرْ (مَنائر: جمع منارة، وهي ما توضعُ عليه الشعلةُ)

قامَتْ على حياةْ

نَجَتْ لأنّها تنكّرتْ

والآنَ يا أصْحابْ

أَيّهُما أَحَبّهُ؟

أَيّهُما أَحَبَّ نفسَهُ؟

أَيّهُما أحَبَّنا؟

مفاتيح النصّ:

مفهومُ الصداقةِ، الصدقُ، الوفاءُ، الخيانةُ، تسليمُ السيّدِ المسيحِ، صلبُ المسيحِ، المحبّةُ، المنتفعونَ باسمِ الدينِ، المنفعةُ الشخصيّةُ، المنفعةُ العامّةُ، التناصُّ الدينيُّ، تكرارُ الصدارةِ، العنصرُ القصصيُّ.


*40*

مهامّ:

1. كيفَ تتقاطعُ القصيدةُ مع قصّةِ تسليمِ السيّدِ المسيحِ وصلبهِ؟

2. كيفَ ينعكسُ مفهومُ المصلحةِ الشخصيّةِ في القصيدةِ؟

3. ما المقصودُ بحياةٍ نجتْ لأنّها تنكّرتْ؟

4. قارنْ بينَ حياةٍ خسرتِ الروحَ وأخرى كَسِبَتْها من خلال مثالٍ تعرفُهُ.

5. ما هوَ مفهومُ الصداقةِ والوفاءِ منْ خلالِ النصِّ؟

6. اُكتبْ موقفًا حياتيًّا معاصرًا تنطبقُ عليهِ القصيدةُ.

7. ما هيَ دلالةُ تكرار الصدارةِ (القافيةِ الاستهلاليّةِ) في نهايةِ القصيدةِ؟

8. يتكرّرُ موتيفُ المحبَّةِ في النصِّ. ماذا يقصدُ الشاعرُ في هذا الموتيفِ؟

9. ما هيَ أهمّيّةُ العنصرِ القصصيِّ في القصيدةِ؟

10. ما هي وظيفةُ أسلوبِ الاستفهامِ في القصيدةِ؟

11. يتغيّرُ نوعُ الراوي في المقطعِ الأوّلِ عنِ المقاطعِ الأُخرى. ما الهدفُ من ذلكَ؟


*41*

الخيول - أمل دنقل


*41*

أمل دنقل (1940-1983)

أمل دنقل شاعرٌ مصريٌّ من أعلامِ الشعرِ الحديثِ. وُلدَ في قريةِ القلعة في الصعيد، في بيئةٍ مثقّفةٍ، لأبٍ عالمٍ في علومِ الدينِ واللغةِ، شاعرٍ يمتلكُ مكتبةً غنيّةً بأمّهاتِ الكتبِ وذخائرِ التراثِ.

فقدَ أمل دنقل والدَهُ وهو في العاشرة، فاضطُرَّ لإعالةِ أمّهِ وشقيقَيْهِ. التحقَ بكلّيّةِ الآدابِ في جامعةِ القاهرةِ، لكنُهُ انقطعَ عن الدراسةِ منذ العامِ الأوّلِ، ليعملَ موظّفًا في مرافقَ مختلفةٍ.

عُرفَ دنقل بمواقفِهِ القوميّةِ وقصيدتِهِ السياسيّةِ اللاذعةِ، واعتمادِهِ على استيحاءِ رموزِ التراث العربيّ، تأكيدًا وانسجامًا مع موقفهِ القوميّ، وهو بذلك بشكّلُ ظاهرةٌ خارجةٌ عن السربِ، استلهمَ فيها شعراءُ الخمسينيّاتِ رموزَهُم من الميثولوجيا اليونانيّةِ والأساطيرِ الغربيّةِ، والشرقيةِ من بابليّةٍ؛ وفينيقيّةٍ؛ وفرعونيّةٍ.

صدرَ له: البكاء بين يدي زرقاء اليمامة (1969)، تعليقٌ على ما حدث (1971)، مقتل القمر (1974) العهد الآتي (1975)، أقوال جديدة عن حرب البسوس (1983)، أوراق الغرفة 8 (1983).

توفّيَ بالسرطانِ بعد أن لازمَهُ ثلاثَ سنواتٍ، لكنّهُ لم يثنهِ عن الكتابةِ حتّى آخرِ اللحظات.


*42*

أمل دُنْقُل

الخيول

(1)

الفتوحاتُ - في الأرضِ - مكتوبةٌ بدماءِ الخيولْ

وحدودُ المَمالِكْ

رَسمَتْها السنابِكْ

والركابانِ: ميزانُ عَدْلٍ يميلُ معَ السيفِ

حيثُ يَميلْ

اُرْكضي أوْ قِفي الآنَ أيّتها الخيلُ:

لستِ المُغيراتِ صُبْحا

ولا العادياتِ - كما قيلَ - ضَبْحا

ولا خضرةٌ في طريقكِ تُمْحى

ولا طفلٌ أضحى

إذا ما مَرَرْتِ به يتنحَّى

وها هي كوكبةُ الحَرَسِ المَلَكِيّ

تُجاهدُ أنْ تبعثَ الروحَ في جَسدِ الذكريات

بدقّ الطبولْ

اُرْكضي كالسلاحِفْ


*43*

نحوَ زوايا المتاحِفْ

صيري تماثيلَ من حَجَرٍ في الميادينِ

صيري أراجيحَ مِن خَشَبٍ للصغارِ - الرياحينِ

صيري فوارسَ حَلْوى بموسمِكِ النبويِّ

وللصبيةِ الفقراءِ حصانًا من الطينِ

صيري رُسومًا ووشْمًا

تجفُّ الخطوطُ بهِ

مِثلَما جفَّ - في رئتَيْك - الصهيلْ!

(2)

كانتِ الخيلُ - في البدءِ - كالناسِ

برِّيَّةً تتراكضُ عَبْر السهولْ

كانتِ الخيلُ كالناس في البدءِ

تمتلكُ الشمسَ والعُشْبَ

والملكوتَ الظليلْ

ظَهْرُها لم يُوطأْ لكيْ يركبَ القادةُ الفاتحونَ

ولم يَلِنِ الجسدُ الحرُّ تحتَ سياطِ المُرَوِّضِ

والفمُ لم يمتثلْ لِلّجامِ

ولم يَكُنِ الزادُ بالكادِ،


*44*

لم تَكُنِ الساقُ مشكولةً،

والحوافرُ لم يكُ يُثْقِلُها السُنْبكُ المعدنيُّ الصقيلْ

كانتِ الخيلُ برِّيَّةً

تتنفَّسُ حُرّيَّةً

مثْلَما يَتنفّسُها الناسُ

في ذلك الزمنِ الذهبيِّ النبيلْ

اُركضي أَوْ قِفي

زمنٌ يتقاطعُ

واخترتِ أن تذهبي في الطريقِ الذي يتراجعُ

تنحدرُ الشمسُ

ينحدرُ الأمسُ

تنحدرُ الطرقُ الجبليّةُ للهُوَّةِ اللانهائيّةِ:

الشُهْبُ المتفَحَّمَةُ

الذكرياتُ التي أشَهَرت شَوْكَها كالقنافذِ

والذكرياتُ التي سلخَ الخوفُ بَشْرَتَها

كُلُّ نهرٍ يحاولُ أن يلمسَ القاعَ

كلُّ الينابيعِ إن لمستْ جدولًا من جداولِها

تختفي


*45*

وهي لا تكتفي!

فاركضي أَوْ قِفي

كلُّ دربٍ يقودُكِ من مُسْتحيلٍ إلى مُستحيلْ!

(3)

الخيولُ بساطٌ على الريح

سارَ - على مَتْنهِ - الناسُ للناسِ عَبْرَ المكانْ

والخيولُ جدارٌ به انقسمَ

الناسُ صِنْفَيْنِ:

صاروا مشاةً ورُكبانْ

والخيولُ التي انحدرت نحو هُوّةِ نسيانِها

حملتْ معَها جيلَ فرسانِها

تركتْ خلفَها: دمعةَ الندمِ الأبديِّ

وأشباحَ خيلٍ

وأشباهَ فرسانْ

ومُشاةً يسيرونَ - حتّى النهاية - تحت ظلالِ الهَوانْ

اُركُضي للقرارْ

واُرْكُضي أوْ قِفي في طريقِ الفرارْ

تتساوى مُحَصّلةُ الركضِ والرفضِ في الأرضِ

ماذا تبقّى لكِ الآنَ:


*46*

ماذا؟

سوى عَرَقٍ يتصبّبُ من تعبٍ

يستحيلُ دنانيرَ من ذهبٍ

في جيوبِ هواةِ سُلالاتكِ العربيّةِ

في حَلَباتِ المُراهنةِ الدائريّةِ

في نُزْهةِ المَرْكباتِ السياحيّةِ المشتهاة

وفي المتعةِ المُشتراه

وفي المرأةِ الأجنبيّةِ تَعْلوكِ في تحتَ

ظلال أبي الهولْ

(هذا الذي كَسَرَتْ أنْفَهُ لعنةُ الإنتظارِ الطويلْ)

اِستدارَتْ - إلى الغربِ - مِزْوَلةُ الوقتْ

صارتِ الخيلُ ناسًا تسير إلى هُوّةِ الصمتْ

بينما الناسُ خيلٌ تسيرُ إلى هُوّةِ الموتْ!

(1981-1982)


*47*

مفاتيح النص:

الخيولُ في التراث، الأصالةُ، الشعوبُ العربيّةُ، الماضي، الحاضرُ، الإنجازاتُ، حرّيّةُ الإنسانِ، تحوّلاتُ الخيولِ، القيمةُ والدوْرُ، فقدانُ الإرادةِ، الشرقُ والغربُ، الصمتُ، الموتُ، التناصُّ، الرمزُ، المبنى المقطعيُّ، المُعادلُ الموضوعيُّ.

مهامّ:

1. كيفَ تظهرُ صورةُ الخيولِ في الماضي من خلالِ النصِّ؟

2. كيفَ تظهرُ صورةُ الخيولِ في الحاضرِ من خلالِ النصِّ؟

3. اِشرحِ التناصَّ في قولهِ العادياتِ ضبحًا والمغيراتِ صبحًا، مع بدايةِ سورةِ العاديات.

4. ماذا يقصدُ الشاعرُ بتحوّلات الخيولِ إلى ألعابٍ وحلوى؟

5. اِشرحْ وجهَ الشبهِ بين الخيولِ والناسِ اعتمادًا على المقطعِ الثاني.

6. ما الهدفُ منَ استحضارِ تمثالِ أبي الهول في النصِّ؟

7. ما المقصودُ بقولِ الشاعر صارتِ الخيلُ ناسًا؟

8. كيفَ تنعكسُ علاقةُ الشرقِ بالغربِ من خلالِ القصيدةِ؟

9. يكثرُ الفعلُ المضارعُ الدالُّ على الماضي أو الحاضرِ في القصيدةِ. ما الهدفُ من ذلكَ؟

10. تخلو القصيدةُ من زمنِ المستقبلِ. لماذا بِرأيكَ؟

11. كيفَ تنزاحُ الخيولُ عن وظائفِها النمطيّةِ في النصّ؟

12. اِشرحْ أسلوبَ التضادّ من خلال نماذجَ من القصيدةِ.

13. ما هُوَ المُعادلُ الموضوعيُّ للانفعالِ السائدِ في النصِّ؟

14. لماذا يكثرُ الشاعرُ استخدامِ الجَرَيانِ في القصيدةِ؟

15. ما الهدفُ منَ استخدامِ فعلِ الأمرِ وتكرارهِ في القصيدةِ؟


*48*

يا تونسُ الخضراءُ - نزار قبّاني


*48*

نزار قبّاني (1923-1998)

نزار قبّاني شاعرٌ سوريٌّ معاصرٌ. وُلدَ في دمشقَ، ودرسَ الحقوقَ في الجامعةِ السوريّةِ، وتفرّغَ للعملِ الدبلوماسيّ في سفاراتٍ مختلفةٍ. طالبَ رجالُ الدينِ في سوريّا بفصلِهِ عن هذا العملِ بسببِ قصيدتِهِ الشهيرة خبز وحشيش وقمر، لكنّهُ ظلّ متمسكًا بعملِهِ حتّى استقالَ بمحضِ إرادتِهِ عام (1966).

كتبَ القصيدةَ العموديّةَ، وكانَ من الروّادِ الذين كتبوا شعرَ التفعيلةِ، وقد اعتُبرَ شاعرَ المرأةِ لكثرةِ ما كتبَ فيها، وكان مقتلُ زوجتِهِ بلقيس، مبعثَ همَّ وغضبٍ في نفسِهِ، فثارَ وكتبَ قصيدةً تحملُ اسمَها، حمّلَ العالمَ العربيَّ مسؤوليّةَ مقتلِها.

تُعتبر نكسةُ (1967) نقطةَ تحوّلٍ في كتابةِ نزار قبّاني، إذ تحوّلَ بنقلةٍ نوعيّةٍ من شاعرٍ للحبِّ، إلى شاعرٍ مجنّدٍ سياسيًّا، وكانت أولى رصاصاتِهِ قصيدتُهُ المشهورةُ هوامش على دفتر النكسة.

صدرَ لهُ: قالت ليَ السمراء (1944)، طفولة نهد (1948)، الرسم بالكلمات (1966)، قصائد متوحّشة (1970)، كلّ عام وأنت حبيبتي (1978)، قاموس العاشقين (1981)، بلقيس (1982)، ثلاثيّة أطفال الحجارة (1988)، أبجدية الياسمين (1998)، وكتابات شعريّة ونثريّة أخرى.


*49*

نزار قبّاني

يا تونسُ الخضراءُ

1. يا تونسُ الخضراءُ جئتُكِ عاشقًا وعلى جبيني وردةٌ وكتابُ

2. إنّي الدمشقيُّ الذي احترفَ الهوى فاخْضَوْضَرَتْ لغنائِهِ الأعشابُ

3. أنا فوقَ أجفانِ النساءِ مُكَسَّرٌ قِطَعًا فعُمري الموجُ والأخشابُ

4. هل دولةُ الحبِّ التي أسّسْتُها سقطتْ عليَّ وسُدّتِ الأبوابُ

5. من أين أدخلُ، في القصيدة يا تُرى وحدائقُ الشِعرِ الجميلِ خرابُ

6. لم يبقَ في دارِ البلابلِ بُلْبلٌ لا البحتُريُّ هنا ولا زريابُ (زرياب: طائر أسود عذب الصوت، لقبٌ لِعليّ بن نافع المغنّي المشهور الذي عاش في زمن المهديّ والرشيد، ثمّ ارتحل إلى الأندلس، فأبدع في الموسيقى والغناء، وهو من أضاف وترًا خامسًا على العود، وجعل مضربه من ريش النسر بعد أن كان من الخشب)

7. قمرٌ دمشقيٌّ يسافرُ في دمي وبلابلٌ وسنابلٌ وقِبابُ

8. أمشي على ورقِ الخريطةِ خائفًا فعلى الخريطةِ كلُّنا أغرابُ

9. يا تونسُ الخضراءُ كأسي علْقمٌ أَعَلى الهزيمةِ تُشربُ الأنخابُ

10. لا تعذليني (تعذلين: تلزمين، تعتبين) إن كشفتُ مواجِعِي وجهُ الحقيقةِ ما عليه نِقابُ (نقاب: قناع)

11. إنَّ الجنونَ وراءَ نِصْفِ قصائدي أوَلَيْسَ في بعضِ الجنونِ صوابُ؟

12. فإذا صرختُ بوجهِ مَنْ أحْبَبْتُهُم فَلِكَي يعيشَ الحبُّ والأحبابُ


*50*

مفاتيح النصّ:

ما بين تونسَ ودمشقَ، شاعرُ المرأة، تواصلٌ معَ التراثِ، حالُ العروبةِ، غربةٌ في الوطنِ، جنونُ الشاعرِ، صرخةُ العتابِ، التناصُّ، أدبُ الالتزامِ، الرومانسيّةُ، المحسّناتُ البلاغيّةُ.

مهامّ:

1. كيفَ يقلّدُ الشاعرُ في البيتيّن الأوّل والثاني نهجَ القدماءِ في الغزلِ؟

2. كيفَ تنعكسُ شخصيّةُ الشاعرِ في عيونِ النساءِ حسَبَ البيتِ الثالثِ؟

3. يظهرُ الشعرُ بصورةٍ سلبيّةٍ في القصيدةِ. اِشرحْ ذلكَ.

4. صفْ حالَ العروبةِ في نظرِ الشاعرِ بالاعتماد على البيتِ الثامن والتاسعِ والثانيَ عشرَ.

5. لماذا يصوّرُ الشاعرُ نفسَهُ نصفَ مجنونٍ في البيت الحاديَ عشرَ؟

6. ما رأيُّكَ بصرخةِ العتابِ التي يوجّهُها الشاعرُ تجاهَ من يحبُّ؟

7. ما هي صورةُ الهُوِيّةِ السوريّةِ في عروقِ الشاعرِ؟

8. في البيت السادس تناصٌّ معَ الرموزِ التراثيّةِ القديمةِ. ما الهدفُ من هذا التناصِّ؟

9. يغلبُ على نزار قبّاني التوجّهُ الرومانسيُّ وميلُهُ للغزل. ما رأيكَ في ذلك؟

10. في القصيدة منحًى سياسيٌّ واضحٌ. اِشرحْ ذلك.

11. اسِتخرجْ كنايةٌ من البيت السادسِ واستعارةً من البيت السابعِ، مبيّنًا الهدفَ منَ استخدامهما.


*51*

قارئة الفنجان - نزار قبّاني


*51*

جَلَسَتْ والخوفُ بعينيْها

تتأمَّلُ فنجاني المقلوبْ

قالتْ: يا وَلَدِي. لا تَحْزَنْ

فالحبُّ عليكَ هو المكتوبْ

يا وَلَدِي. قد ماتَ شهيدًا.

مَنْ ماتَ على دينِ المحبوبْ

فنجانُكَ دنيا مُرْعبةٌ

وحَياتُكَ أسفارٌ وَحُروبْ

سَتُحِبُّ كثيرًا كثيرًا

وتموتُ كثيراً كثيرًا

وستعشقُ كلَّ نساءِ الأرضِ

وترجعُ كالملِكِ المغلوبْ

بحياتِكَ يا وَلَدِي امرأةٌ

عيناها سُبْحانَ المعبودْ

فَمُها مَرْسومٌ كالعُنْقوُدْ

ضِحْكَتُها مُوسيقى وَوُرُودْ

لكنَّ سماءَكَ مُمْطِرَةٌ

وطريقُكَ مَسْدودٌ مَسْدودْ

فحبيبَةُ قلبك يا وَلَدِي


*52*

نائمةٌ في قصرٍ مرصودْ (مرصودٌ: له رصدٌ يحرسونه، وفي الغالبِ هم من الجنّ في القصص التراثيّة)

والقصرُ كبيرٌ يا وَلَدي

وكلابٌ تحرسهُ وجُنُودْ

وَأَميرَةُ قلبِكَ نائمَةٌ

مَنْ يدخُلُ حجرتَها مفقودْ

مَنْ يَطلبُ يَدَها مَنْ يدنو

مِنْ سُورِ حَديقَتها مفقودْ

مَنْ حاول فَكَّ ضفائِرِها (ضفائر: جدائل الشعر)

يا وَلَدي مفقودٌ مفقودْ

بصرت (بصّرت: نجّمت) ونَجَّمْتُ كثَيرًا

لكنِّي لم أقرَأْ أبدًا

فنجانًا يُشْبِهُ فنجانَكْ

لم أعرفْ أبدًا يا وَلَدِي

أحْزانًا تُشْبهُ أحزانَكْ

مقدُورك أن تمشي أبدًا

في الحبِّ على حَدِّ الخِنَجْر

وتظلَّ وحيدًا كالأصْداف

وتظلَّ حزينًا كالصفصافْ

مَقدُورُكَ أنْ تمضِي أبدًا

في بحر الحُبِّ بغير قُلوعْ (القلوع: جمع قِلع وهو الشراع)

وتُحبَّ ملايينَ المرّاتِ

وترجعَ كالملِكِ المخلوعْ


*53*

مفاتيح النصّ:

العرافةُ، الكهانةُ، علمُ التنجيمِ، معرفةُ المستقبلِ، علمُ الغيبِ، القضاءُ والقدرُ، شهيدُ الحبِّ، المحبوبةُ، حبُّ الطبقةِ الأرستقراطيّةِ، عذابُ العاشقِ، الفعلُ المضارعُ، المعادلُ الموضوعيُّ، العنصرُ القصصيُّ، المبنى المقطعيُّ.

مهامّ:

1. ما العلاقةُ بين عنوانِ النصِّ ومضمونِهِ؟

2. من هي الأصواتُ المتكلّمةُ في النصّ؟

3. ما رأيكَ بمن يتوجّهونَ إلى المنجّمينَ لمعرفةِ المستقبلِ والحظِّ؟

4. ما هو الطالعُ الحزينُ الذي قَرَأَتُهُ قارئةُ الفنجانِ؟

5. اِستخرجْ منَ النصِّ التشابيهَ التي تصفُ الحال؟ النفسيّةَ للعاشقِ، والمُعادِلَ الموضوعيَّ في النصِّ.

6. هنالك صورةٌ شعريّةٌ في المقطعِ الأخيرِ استُوحِيَتْ مِن عبور الصراطِ. اِشرحْ هذه الصورةَ.

7. اِستخرجْ من النصِّ دلائلَ تثبتُ أنّ المحبوبةَ تنتمي للطبقةِ الأرستقراطيّةِ.

8. وضّحْ كيف تتناغم صيغةُ المضارع في الزمنِ المستقبلِ مع فكرةِ قراءةِ الفنجان.

9. تتكرّرُ كلمةُ مفقود كثيرًا. كم مرَّة تكرّرت هذه الكلمةُ وما الهدفُ من تكرارِها؟

10. كيف يتقاطعُ الحديثُ الشريفُ من عشقَ فعفَّ فكتمَ فماتَ، ماتَ شهيدًا مع النصِّ؟

11. هل تُقِدّمُ القصيدةُ بديلًا لمصيرِ العاشقِ؟ ما تعقيبُك على نهايتِها؟

12. اِستمعْ الى القصيدةِ بصوتِ الفنّان عبد الحليم حافظ وَبَيّنِ التغييرات التي أُجْريتْ على القصيدة المغنّاة.


*54*

الفصل الثاني - الشعر الفلسطينيّ المحلّيُّ


*54*

تعتبرُ الوقائعُ التاريخيّةُ والأحداثُ السياسيّةُ مفاصلَ هامّةً ذاتَ تأثيرٍ كبيرٍ في مسيرةِ الشعرِ الفلسطينيِّ، فالمشهدُ الشعريُّ قبلَ النكبةِ كانَ محفوفًا بواقعِ الانتداب البريطانيِّ على فلسطينَ، والهجرةِ اليهوديَةِ والصراعِ على الأرضِ، وموقفِ الرأيِ العامّ العالميّ من هذهِ القضيّةِ، في ظروفِ الحربينِ العالميّتينِ.

برزَ قبلَ النكبةِ شعراءُ التزموا بالقضيّة الوطنيّةِ، وعبّروا عن انتماءاتهم من خلالِ مواقعِهم، كإبراهيم طوقان الذي اتّخذَ من الإذاعةِ منبرًا لفكرهِ القوميّ والوطنيّ إلى أن أقالتْهُ السلطاتُ البريطانيّةُ، وأبي ملمى وعبد الرحيم محمود اللذين نشطا في العملِ السياسيّ، فاستشهدَ الثاني في معركةِ السجرة، وهُجّرَ الأول إلى سوريّا، فنشطَ هناكَ.

إنّ التلاحمَ بين الشعراءِ الفلسطينيّين في الداخلِ وفي الشتاتِ كان قويًّا بسببِ القضيّةِ الوطنيّةِ المشتركةِ التي استحوذت على فكرِهم وإبداعِهم الشعريّ، ولم يمنع الالتزامُ هؤلاءَ الشعراءَ التعبيرَ عن قضيّتهم بشعريّة راقيةٍ بعيدةٍ عن التقريريّة والمباشَرةِ وما يقتضيهِ الموقفُ الأدبيُّ الملتزمُ، وهذا ما نراهُ بوضوحٍ عند محمود درويش الذي استطاعَ تجاوزَ المحورِ الوطنيّ الفلسطينيّ إلى أفقٍ عالميٍّ إنسانيٍّ، فيه تفجّرت شعريةٌ خاصّةٌ ولغةٌ محفوفةٌ بالإبداعِ والخلقِ.

في المشهد الشعريّ المحلّيِّ كان للحياةِ السياسيّة تأثيرٌ كبيرٌ على نشوئِهِ ومضامينِهِ، فالدولةُ تعاملت مع الشعرِ الفلسطينيّ بحسّاسيّةٍ كبيرةٍ، وكانت أجواءُ الحكمِ العسكريٍّ تُلْقي بظلالِها وتملي بتعاملاتِها مع عددٍ من الشعراء الذين سُجنوا أو فُرِضت عليهم الإقامةُ الجبريّة، كمحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد وراشد حسين. لقد أثرى هؤلاء وغيرهم الحياةَ الثقافيّة المحليّة بنماذج خالدة من شعرِ المقاومةِ، وكانت أيدولوجيّة الحزبِ الشيوعيّ تروّجُ لهذا الفكرِ وتقدّم له منابرَها كالصحفِ والمؤتمراتِ.


*55*

يُعتبرُ خروج راشد حسين من البلاد، ومن بعدهِ محمود درويش، بمثابةِ الخروجِ عن الطوقِ الإسرائيليّ، والقيودِ المفروضةِ على حرّيّةِ الإبداعِ. وقد أسهمَ ذلكَ في تحرّرِ الشعرِ عندهما من نمطيتِهِ ولغتِهِ الأحاديّةِ الدلالةِ، وصبّ في دائرةٍ إنسانيّةٍ، قدّمت للآخر نموذجًا شعريًّا ملتزمًا راقيًّا من الناحيةِ الفنّيّةِ، وأسهمَ هذا النموذجُ في خدمةِ القضيَةِ الفلسطينيّةِ والتعاطفِ معها عالميًّا، من خلالِ الانفتاحِ على حضارةِ الآخر والأفكارِ التحرّريّةِ في المجتمعاتِ الغربيّةِ، كما أمكنَ من التواصلِ بينَ الشاعرِ الفلسطينيّ وإخوانِهِ العربِ في الأقطارِ العربيّة، ومعِ الشعراءِ الفلسطينيّينَ في الشتاتِ، مع بقاء قناة التواصلِ مفتوحةً مع الشعراءِ المحلّيّين داخل الخطّ الأخضرِ.

أسهمت الأحداثُ السياسيّةُ المتلاحقةُ كالنكسةِ (1967) والانتفاضةِ الأولى (1987) في رفدِ المشهدِ الشعريِّ المحلّيِّ، وقد برزَ سميح القاسم كأحد الأصواتِ الشعريّةِ الغزيرةِ في إنتاجها، والبارزة في حضورها إعلاميًّا، وكان لتواصلِهِ مع العالمِ العربيّ ومشاركتِهِ في مؤتمراتٍ دوليّةٍ حول القضيّةِ الفلسطينيّةِ ما أعطى للشعرِ رونقَهُ الحضاريّ الملتزمَ.

قلّت الأصوات النسائيّة في المشهدِ الشعريّ الفلسطينيّ والمحلّيّ، وكان لفدوى طوقان نصيبٌ بارزٌ، وأمّا محلّيًّا فكانت أصواتٌ نادرةٌ مثل سعاد قرمان، تلتها براعمُ شابّةٌ تضعُ خطواتِها على جادّة الممشى.

لا تختلفُ أشكالُ القصيدةِ الفلسطينيّة عن القصيدةِ العربيّة، فقصيدةُ التفعيلة هي الأكثرُ شيوعًا، لكنّ بعضَ الشعراء كانوا كلاسيكيّين على الغالبِ كجمال قعوار وجورج نجيب خليل وسالم جبران وتوفيق زيّاد، في حين استفادَ حنّا أبو حنّا وفهد أبو خضرة ودرويش والقاسم من تجربةِ الحداثة ومزجوا بين الكلاسيكيّةِ الجديدةِ وقصيدةِ التفعيلةِ، وبرز من شعراءِ قصيدة النثرِ ميشيل حدّاد وطه محمّد علي.


*56*

الحبشيّ الذبيح - إبراهيم طوقان


*56*

إبراهيم طوقان (1905-1941)

إبراهيم طوقان شاعرٌ فلسطينيّ ملتزمٌ، أخو الشاعرة فدوى طوقان، وُلدَ في نابلس، وتلقّى تعليمَهُ الجامعيّ في الجامعةِ الأمريكيّةِ في بيروتَ، وعلّمَ فيها لمدّة سنتين.

عملَ مُديرًا للبرامج العربيّةِ في إذاعةِ القدس، زمنَ الانتدابِ، لكنّهُ أقيلَ من منصبهِ بسبب مواقفِهِ القوميّةِ ضدَّ الاستعمارِ، فتوجّهَ إلى العراقِ واشتغلَ مدرّسًا لمدّةِ سنتينِ، لكنّ المرضَ عاجلَهُ، فتوفيّ عن ستٍّ وثلاثينَ سنةً.

صدرَ لهُ بعدَ موتِهِ: ديوان إبراهيم طوقان (1955) وله مقالاتٌ وأحاديثُ إذاعّيةٌ ورسائلُ وقصائدُ لم تُنشر، أصدرها المتوكّل طه في كتاب بعنوان (الكنوز، ما لم يُعرف عن إبراهيم طوقان) (1999).


*57*

إبراهيم طوقان

الحبشيّ الذبيح

هذهِ الدِيَكَةُ الحبشيّةُ أو الدِيَكَةُ الهنديّةُ - إذا شئتَ - التي يذبحونَها على رنينِ الأجراسِ وأفراحِ المعيّدينَ لتكونَ (عروسَ المائدةِ) تُعْمِلُ فيها المُدى تقطيعًا وتشذيبًا لتمتلئَ بها البطونُ مرويّةً بكؤوسِ الخمرِ من بيضاءَ وحمراءَ.

كذلكَ هي الأممُ المغلوبةُ على أمرِها كانَتْ، وما بَرِحَتْ (عروسَ الموائد) شأنَ الحبشيِّ الذبيحِ أمّا ريشُهُ، فتُحشى به الوسائدُ، وأمّا لحمُهُ فتُحْشى به البطونُ.

جريدة البرق 1931

1. برَقتْ لَهُ مَسْنونَةً تتلهَّبُ أمضى مِنَ القَدَرِ المُتاحِ وأغلَبُ

2. حَزّتْ فلا خدُّ الحديدِ مُخضَّبٌ (مخصّب: ملطّخ بالخصاب (الحنّاء) كناية عن الدم) بدمٍ ولا نَحْرُ (نَحْر: مكان النحر من الرقبة) الذبيحِ مُخضَّبُ

3. وجرى يصيحُ مُصفِّقًا حينًا فلا بَصَرٌ يزوغُ (زاغَ البصرُ: كَلَّ) ولا خَطّى تتنكَّبُ (تتنكبُ: تميل بعضَ الشيء في مشيها)

4. حَتّى غَلَتْ بي رِيبَةٌ فسألتُهم خانَ السلاحُ أَمِ المنيَّةُ تَكذبُ؟

5. قالوا حلاوةُ روحِهِ رقصتْ بهِ فأَجَبْتُهُمْ ما كُلُّ رقْصٍ يُطرِبُ

6. هيهاتَ، دونَكَهُ (دونكَهُ: اسم فعل أمر بمعنى خذهُ، المقصود خذه بعد أن لفظ أنفاسه) قَضى، فإذا به صَعِقٌ يُشَرّقُ تارةً ويُغرِّبُ

7. وإذا به يَزْوَرُّ مختلِفَ الخطى وزكيّةٌ مَوْتورَةٌ (المَوْتور: الذي قُتِل له ولم يؤخذ بدمه) تَتصبَّبُ

8. يعدو فيَجذِبُهُ العياءُ (العياء: التعب) فيرتَمِي ويكادُ يَظْفَرُ بالحياةِ فتهرُبُ

9. مُتَدَفِّقٌ بدمائِهِ متقلّبٌ مُتَعَلِّقٌ بذَمائِهِ (ذَماء: بقيَة الروح) مُتَوثّبُ

10. أَعَذابُهُ يُدْعى حَلاوَةَ روحِهِ؟ كَمْ مَنطقٍ فيه الحقيقةُ تُقْلَبُ


*58*

11. إنَّ الحلاوَةَ في فمٍ مُتَلَمِّظٍ (تلمّظ: تتبّع بلسانه ما بقي من طعام في فمه) شَرَهًا لِيَشربَ ما الضحيَّةُ تَسْكُبُ

12. هيَ فرحةُ العيدِ التي قامت على أَلَمِ الحياةِ، وكلُّ عيدٍ طَيّبُ

مفاتيح النّص:

المستعمرُ الطامعُ، القتلُ بدمٍ باردٍ، معاناةُ الضحيّةِ، الساديّةُ والتلذّذُ على مُصابِ الآخرينَ المفارقةُ في الحياةِ، الفرحُ على حسابِ المأساةِ، العيدُ المؤلمُ، الأمثولةُ، لغةُ النصِّ، الموتيفُ، عتبةُ النصِّ، القصيدةُ الكلاسيكيّةُ.

مهامّ

1. اِشرح المفارقةَ القائمةَ في التعبيرِ حلاوةُ الرّوحِ.

2. صفْ معاناةَ الدّيكِ الحبشيِّ بعد أن ذُبحَ.

3. هل توافقُ الشاعرَ على قولهِ ما كلَّ رقصٍ يطربُ؟ علّلْ.

4. حلّلِ العناصرَ الجماليّةَ في البيتِ التاسعِ.

5. اِشرحِ العناصرَ القصصيّةَ في القصيدةِ.

6. هل موقفُ الكاتبِ صريحٌ في النصِّ؟ علّلْ إجابتَكَ من خلالِ شواهدَ.

7. يُعتبر الدمُ موضوعًا دالًّا في القصيدة. اِستخرجِ الألفاظَ والتعابيرَ المرادفةَ له.

8. ماذا يقصدُ الشاعرُ من توظيفِ موتيف الدم؟

9. ما الدليلُ، في البيتين الأوّل والثاني، أنّ فاعِلَ بَرَقتْ محذوفٌ وتقديرهُ المُديةُ أو

السكّينُ؟

10. النصُّ عبارةٌ عن أمثولةٍ ترمزُ لفكرةٍ سياسيةٍ. وضّحْ ذلكَ.

11. اُكتب فقرةً تصفُ بها لغةَ النصّ.

12. ما هي أهمّيّةُ العتبةِ التي بينَ العنوانِ والنصِّ في تَفْعيلِ القارئِ؟


*59*

اِبنةُ بلادي - أبو سلمى


*59*

أبو سلمى (1909-1980)

عبد الكريم الكرميّ، أبو سلمى، شاعرٌ فلسطينيٌّ، وُلدَ في طولكرم لأسرةٍ مثقّفةٍ اشتُهرت بالعلمِ والدينِ والأدبِ، نبغَ فيها عددٌ من العلماءِ والأدباءِ. درسَ دراستَهُ الثانويّةَ في دمشقَ، وهناكَ أحبّ فتاةً اسمها سلمى، فكتبَ فيها قصيدةً، فاشتُهرَ بها. عادَ إلى القدس وأصبحَ مُدرّسًا، ودرسَ الحقوقَ فيها وعمل محاميًا. أقالتْهُ السلطاتُ البريطانيّةُ من عملِهِ في التدريسِ بسببِ قصيدةٍ وطنيّةٍ هاجمَ فيها الاستعمارَ، وضمّهُ إبراهيم طوقان إلى إذاعةِ القدسِ، لكنّه استقالَ منها بعدَ فترةٍ وجيزةٍ.

زاولَ أبو سلمى مهنةَ المحاماةِ في حيفا حتّى النكبةِ (1948)، وبعدها نزحَ إلى دمشقَ، وهناكَ عملَ مدرّسًا ومحاميًّا ثمّ موظّفًا في وزارةِ الإعلامِ السوريّةِ، وقد شاركَ في العديدِ من المؤتمراتِ الدوليّةِ.

صدرَ لهُ شعرًا: المشرّد (1951)، أغنيات بلادي (1959)، في فلسطين ريشتي (1971)، المجموعة الكاملة (1978)، وله مسرحيّة ودراسات.


*60*

اِبنةُ بلادي

1. أَيْنَ الشَذا والحُلُمُ المُزْهِرُ أهكذا حُبُّكَ يا أسمرُ

2. أهكذا تذوي أزاهيرُنَا وكانَ فيها المِسكُ والعَنْبَرُ

3. الشَفَةُ الحُلْوةُ ما بالُها تَحْمِلُ ليَ الخَمْرَ ولا تُسْكَرُ!

4. وَالعَيْنُ لا تَبْسِمُ عندَ اللقا السِحرُ في العِينِ (العين: البقر الوحشيّ المعروف باتّساع عينيهِ، والحور العين في الجنّة بهذه الصفة)

5. أشعارُنا كانَت تُوَشّي (توَشّي: تنمنم وتنقش وتزيّن) الدُنَى والليلُ مِنْ أَشْوَاقِنا مُقْمِرُ

6. نَطِيرُ من نَجْمٍ إلى نجمَةٍ يَلُفُّنا وِشاحُكِ الأَصْفَرُ

7. فَمِنْ شُعاعِ الْشَمْسِ أَهْدابُهُ تُضِيءُ مِنْ إشْعاعِه، الأعصُرُ (أعْصُرُ: جمعَ عَصْر وهو الدهر، أو الوقت من آخر النهار الى احمرار الشمس)

8. كَيفَ الهوى يَمْضِي كَعُمرِ النَدى وَفي بلادي مَرْجُهُ الأخضَرُ؟

9. أهواكِ في أُغْنِيةٍ حُرَّةٍ يَخفُقُ فيها النايُ والمِزْهَرُ (المزهر: آلة العود)

10. في طَلَّةِ الفَجْرِ على المُنْحَنى يَهفُو (يهفو: يخفّ ويسرع) اليهِ الكَرمُ وَالبَيدَرُ

11. في النَهْرِ الضاحِكِ بينَ الرُبى تَحسدُهُ على الهَوى الأَنْهُرُ

12. في الشاطئِ الغَرْبِيّ تَغْفُو على أَلحانِهِ الأَمواجُ والأَبْحُرُ

13. في نَغَمِ البلبلِ يَشْدُو على صَنَوْبَرِ السَفحِ ولا يَهْجُرُ

14. في عَبَقِ الوردِ وفي لَوْنِهِ يزفُّه وادِي الحِمَى الأطهَرُ


*61*

15. في مَوكبِ النَصْرِ وفي رايةٍ على ذُرَى (ذُرى: جمع ذُرْوَة، قمّة) تاريخِنا تَخْطُرُ

16. وفي أماني أُمَّتِي تَنْتشِي فيها المروءاتُ وتَسْتَكبرُ

17. أهواكَ في شَعْبِي وفي موطني فأنتِ لا أحلى ولا أنضَرُ

مفاتيح النصّ:

الرومانسيّةُ، جمالُ المحبوبةِ، وصفُ الجسدِ، الطبيعةُ الساحرةُ، معالمُ البلادِ، عبقُ التاريخِ، حبِّ الوطنِ، الألحانُ والموسيقى، الحقلُ الدلاليُّ، أدبُ الالتزامِ، الكلاسيكيَّةُ الجديدةُ، تماهي المحبوبةِ معَ الوَطنِ.

مهامّ:

1. تتشكّل القصيدةُ من مفرداتِ الحواسِّ المختلفةِ. وضّحْ ذلكَ من خلالِ أمثلةٍ

2. صفْ محبوبةَ الشاعرِ وصفًا حسّيًّا معتمدًا على ما جاءَ في النصِّ.

3. تتوحّدُ المحبوبةُ وتتماهى معَ الوطنِ والطبيعةِ. اِشرحْ كيفيّةَ ذلكَ.

4. ما هيَ معالمُ البلادِ التي تظهرُ من خلالِ النصّ؟

5. اِشرحِ الجناسَ الموجودَ في البيتِ الرابعِ.

6. تظهرُ في القصيدةِ أَلوانٌ مخْتلفةٌ. ما هيَ هذهِ الألوانُ؟

7. استخرجِ الاستفهاماتِ الواردةَ في النصِّ واشرحِ الغايةَ من توظيفِها.

8. حلّل التشبيهَ في البيت الثامنِ إلى عناصرِهِ.

9. ما البيتُ الذي أعجبَكَ في القصيدةِ؟ علّل موقفكَ.

10. اِطرحْ سؤالًا يتعلّقُ بموقفِ الشاعرِ من الوطنِ.


*62*

نيرانُ المجوس - توفيق زيّاد


*62*

توفيق زياد (1929-1994)

توفيق أمين زيّاد، شاعرٌ محلّيٌّ وسياسيّ ملتزمٌ، وُلدَ في الناصرة، ودرسَ الأدب السوفياتيّ في موسكو. كانَ عضوًا في الحزبِ الشيوعيِّ الإسرائيليِّ، وفي القائمةِ الجديدةِ للحزبِ الشيوعيِّ، وفي ما بعدُ في الجبهةِ الديموقراطيّةِ للسلام والمساواة، وانتُخبَ ستّ مرّاتٍ عضوًا في البرلمانِ الإسرائيليّ (الكنيست) مندوبًا عن هذهِ الأحزابِ. كما شغلَ منصبَ رئيسِ بلدّيةِ الناصرةِ لثلاثِ فتراتٍ انتخابيّةٍ.

كانَ زيّاد شخصيّةً سياسيّةً أدبيّةً ديناميّةً في المشهدِ الفلسطينيِّ السياسيِّ والأدبيِّ في البلاد، وامتازَ بجرأتِهِ وتفانيهِ في قضايا شعبِهِ، وكان خطيبًا بارعًا سريع البديهةِ تجاهَ خصومِهِ.

تُوفيّ 5 أبّار في حادثِ طرق على طريقِ القدس أريحا بعد عودتهِ من استقبالِ الرئيسِ الفلسطينيّ ياسر عرفات بعد اتّفاقيّةِ أوسلو.

ترجمَ عن الأدبِ الروسيّ، ومن أعمالِ الشاعرِ التركيِّ ناظم حكمت.

صدرَ له: أشدّ على أياديكم (1966)، اِدفنوا موتاكم وانهضوا (1969)، أغنيات الثورة والغضب (1969)، شيوعيّون (1970)، كلمات مقاتلة (1970)، سجناء الحرّيّة وقصائد ممنوعة أخرى (1973)، وله يوميّات بعنوان: نصراويّ في الساحة الحمراء (1973)، ومجموعة قصصيّة بعنوان: حال الدنيا - حكايات فولكلوريّة (1975)، ولهُ أيضًا دراسات عن الأدب الفلسطينيّ.


*63*

توفيق زيّاد

نبرانُ المَجوس

على مَهْلي!!

على مَهْلي!!

أشدُّ الضوءَ، خيطًا ريّقًا (الريّقُ من كلّ شيء: أفضله وأوّله)،

من ظُلمةِ الليلِ

وأرعى مشتلَ الأحلامِ،

عِندَ مَنابعِ السيلِ

وأمسحُ دمعَ أحبابي،

بمنديلٍ من الفُلِّ

وأغرسُ أندرَ الواحاتِ،

وَسْطَ حرائقِ الرملِ

وأبني للصعاليكِ الحياةَ

مِنَ الشذا،

والخيرِ

والعدلِ

وان يومًا عَثَرتُ، على الطريقِ،

يرُدّني أَصْلي

على مَهْلي!

لأنّي لستُ كالكبريتْ


*64*

أُضيءُ لمرّةٍ وأموتْ

ولكنّي

كنيرانِ المَجوسِ: أُضيءُ

مِنْ مَهدي، إِلى لَحدي!

ومِنْ سَلَفي، إِلى نَسْلي!

طويلٌ كالمَدى نَفَسِي

وأُتقنُ حِرفةَ النملِ

على مَهْلي!

لأنّ وظيفةَ التاريخِ

أن يمشي كما نُملي!!

طُغاةُ الأرضِ حَضّرْنا نهايتَهُمْ

سَنجزيهِمْ بِما أَبْقَوا

نُطيلُ حِبالَهُمْ، لا كَيْ نُطيلَ حَياتَهُمْ

لكنْ

لِتَكفِيَهُمْ لِينْشَنِقوا!!


*65*

مفاتيح النصّ:

المجوسُ وميلادُ السيّدِ المسيحِ، ظهورُ النجمِ، رسالةُ الشاعرِ، المواساةُ، الأملُ والحياةُ، الصعاليكُ، الاستمراريّةُ، تواصلٌ عبرَ الأجيالِ، صياغةُ التاريخِ، محاكمةُ الطغاةِ، التناصُّ، الهيئةُ الطباعيّةُ، الجريانُ، التحدّي والصمودُ، شعرُ التفعيلةِ، شعرُ المقاومةِ.

مهامّ:

1. ما العلاقةُ بين نيرانِ المَجوسِ والضوءِ الأبديِّ كما يظهرُ في النصِّ؟

2. ما وجهُ الشبهِ بينَ رسالةِ الأنا الشعريِّ ورسالةِ السيّدِ المسيحِ؟

3. مَنْ هُمُ الصعاليكُ وكيفَ ينعكسونَ في رؤيةِ الأنا الشعريِّ؟

4. ما هيَ وظيفةُ التاريخِ في نَظر الشاعرِ؟

5. ما رأيُك برأيِ الشّاعرِ أنّ التاريخَ خاضعٌ للإرادةِ؟

6. بماذا تتميّزُ نهايةُ القصيدةِ؟

7. ما رأيُك بهذهِ النهايةِ لطغاةِ الأرضِ؟

8. كُتبتِ، العبارةِ من مهْدي إلى لحْدي وما بعدَها عموديًّا. ما السببُ؟ وما علاقةُ ذلكَ بقولِ الشاعرِ: طويلٌ كالمدى نفَسي؟

9. لماذا يُكثرُ الشاعرُ منَ استخدام الفعلِ المضارع في النصّ؟

10. التعبيرُ "حرائقُ الرملِ كنايةٌ عن الصحراءِ. ما رأيُك بهذهِ الكنايةِ؟

11. بيّنْ مميّزات شِعرِ المقاومةِ من خِلالِ القصيدةِ.

12. اُكتبْ بعضَ مميّزات قصيدةِ التفعيلةِ مِنْ خلال النصِّ.


*66*

أيُّها القادمُ - فهد أبو خضرة

فهد أبو خضرة (وُلدَ - 1939)

فهد أبو خضرة شاعرٌ محلّيٌّ، محاضرٌ وناقدٌ أدبيٌّ. وُلدَ في الرينة، ودرسَ اللغةَ العربيةَ وآدابَها، وحصلَ على شهادة الدكتوراة من الجامعةِ العبريّةِ في القدسِ، على رسالةٍ بعنوان اِبنُ المعتزّ - الرجلُ وإنتاجُهُ الأدبيّ.

عملَ محاضرًا في الكلّيّةِ العربيّةِ للتربيةِ في حيفا، ويعملُ محاضرًا في قسمِ اللغةِ العربيّةِ وآدابِها في جامعةِ حيفا.

يشغلُ رئيسَ تحريرِ مجلّةِ مواقف الصادرةِ عن مؤسّسةِ المواكبِ.

يكتبُ القصيدةَ العموديّةَ وقصيدةَ التفعيلةِ، والمقالةَ النقديّةَ ولهُ دراساتٌ جادّةٌ في البلاغةِ العربيّة، وعددٌ من كتبِ تدريسِ اللغةِ العربيّةِ في كافّةِ المراحل العمريّةِ.

صدرَ له شعرًا: الزنبق والحروف (1972)، البحث عن أجنحة (1978)، الندى والآقاح (1986)، النسور (1990)، كتابات على طريق الوصول (1994)، مسارات عبر الزوايا الحادّة (1998)، عائدون إلى الورد (2012).


*67*

فهد أبو خضرة

أيّها القادم

أيُّها القادمُ في مَرْكبةِ الشمسِ إلى أرضِ الفداءِ

لم يَحِنْ وقتُكَ بعدُ

ها هنا في قمّةِ الأحقادِ والويلِ المُعادْ

لم تزلْ تنتظرُ الأيّام نيرونَ (نيرون: إمبراطور رومانيّ طاغية، حرق روما واتّهم المسيحيّين بحرقها، فقام بتعذيبهم سنة 64 ميلادي، وكان من ضحاياه بولس وبطرس) الجديدْ

علّها تُحرقُ في ذاكرةِ الحاضرِ روما، والرمادْ يُبرئُ الأعيُنَ من داءٍ طواها ألفَ عام.

ها هنا الآخرُ ملءُ الذاتِ، والذاتُ ضحيّهْ،

والغدُ المُقبلُ طوفانٌ من الشكِّ،

وحُلمُ الأبديّهْ

لم تزلْ ترفعُهُ الأهواءُ في الأفقِ هدايا وقرابين لأصحابِ المقامات السَّنِيَّهْ (سَنِيّة: رفيعةُ المقام).

ها هنا الوهمُ هوَ السيّدُ، والفكرُ المُضاءْ


*68*

وَجَعُ الأعماقِ أو سخريةُ الآفاقِ، أو جَرْحُ السفيهِ أيُّ تيهِ

يحجبُ الضوءَ الذي يقبَعُ في حِضن الغمام!

أيّها القادمُ في مَرْكبةِ الشمسِ! إذا وقتُكَ حانا

أَتُرى ما كانَ بالأمسِ يُعاد؟

أُتُرى تورقُ في الصحراءِ أغصانٌ

وتخضرُّ دروبُ؟

أَتُرى يُقتلَعُ الوهمُ الذي سادَ الزمانا؟

أيُّها القادمُ في مَرْكبةِ الشمسِ إلى أرضِ الفداءِ!

أَتُرى وقتَكَ وقتي؟


*69*

مفاتيح النصّ:

المسيحُ المنتظرُ، آخرُ الزّمانِ، طاغيةٌ مُعاصرٌ، حرقُ روما، حبُّ الذاتِ، أحلامٌ بالخلاص، الكلمةُ والتنويرُ، الأملُ البعيدُ، التناصُّ، الرمزُ، الثليثُ، تكرارُ الصدارةِ، شعرُ التفعيلةِ، الدائريّةُ.

مهامّ:

1. مَنْ هوَ القادمُ في مركبةِ الشمسِ وما هو سببُ قدومِهِ؟

2. يرى الشاعرُ أنّ وقتَ قدومِ هذا القادم لم يحنْ بعدُ. لماذا؟

3. إلى ماذا يرمزُ نيرونُ الجديدُ وحرقُ روما؟

4. في النصِّ رموزٌ وإشاراتٌ من الديانةِ المسيحيّةِ. وضّح ذلك.

5. كيف تنعكسُ صورةُ الفكرِ النيّرِ حسبَ النصِّ؟

6. ما هدفُ الاستفهامِ الذي تنتهي به القصيدةُ؟

7. يخاطبُ الشاعرُ القادمَ ثلاثَ مرّاتٍ. ما علاقةُ هذا الرقمِ بالديانةِ المسيحيّةِ؟

8. ما العلاقةُ اللغويّة والسببيّة بينَ الرمادِ وداءِ الأعيُنِ المذكورَينِ في المقطعِ الأوَلِ؟

9. كيف تنعكسُ صورةُ الفردِ وصورةُ الجماعةِ في النصِّ؟

10. هاتِ مثالًا على القافيةِ الاستهلاليّةِ (الأنافورا) في القصيدةِ، مبيّنًا الهدفَ من استخدامها.

11. تنتهي القصيدةُ حيثُ تبدأُ. قارنْ بينَ بدايةِ القصيدةِ ونهايَتِها، وما الهدفُ في توظيفِ أسلوبِ الدائرية في النصِّ؟

12. كيف يتعالقُ مفهوما الزمانِ والمكانِ في القصيدة؟

13. يكرّر الشاعرُ عبارة ها هنا تكرارًا ارتكازيًّا. ما المقصود بذلك، وما الهدفُ التوظيفِ؟


*70*

أنا يوسفٌ يا أبي - محمود درويش


*70*

محمود درويش (1941-2008)

محمود درويش شاعرٌ فلسطينيٌّ وأحدُ أبرز أعلامِ الشعرِ العربيِّ الحديثِ. وُلدَ في البروة، ونزحَ عنها إلى لبنانَ أثناء النكبةِ، ليعود لاجئًا إلى وطنِهِ ويسكنَ في دير الأسد، ثمّ في الجديدة. أثّرت هذه الطفولةُ في نفسيّتِهِ وأطلقَ عليها اسم الطفولة المنفيّة.

عملَ محرّرًا لمجلّةِ الجديد التي كانت تصدرُ عنِ الحزبِ الشيوعيّ، واعتُقلَ عدّةَ مرّاتٍ بسببِ مواقفِهِ السياسيّةِ. تركَ البلادَ فجأةً بعد أن سافرَ إلى موسكو، ومنها انتقلَ إلى مصرَ وقرّرَ عدمَ العودة إلى البلاد. سافرَ إلى لبنان والتحقَ بمنظّمةِ التحريرِ، لكنّه استقالَ منها وبقي يعملُ في مؤسّساتِ النشرِ فيها في بيروت. عادَ إلى رام الله بعد معاهدةِ أوسلو (1993)، وأصبحَ يتنقّلُ بينها وبين عمّان، وتابعَ في رام الله إصدار مجلّة الكرمل، بعد أن كان يصدرها من قبرص.

حصلَ محمود درويش على عددٍ من الجوائزِ العالميّةِ، وكان على صلةٍ بكبارِ الشعراءِ العربِ وعددٍ من الشعراءِ العالميّين.

كتبَ درويش القصيدةَ العموديّةَ وشعرَ التفعيلةِ، وارتقى في كتاباتِهِ إلى دائرةٍ إنسانيّةٍ تجاوزتِ الذاتيّةَ والوطنيّةَ، وقد كانَ لثقافتِهِ الواسعةِ إسهامٌ في تطويرِ قدراتِهِ التعبيريّةِ، والنهوضِ بالقصيدةِ الفلسطينيّةِ إلى أبعادٍ أكثرَ شعريّةِ وتكثيفًا وإيحاءً.

تُوفيّ في، الولايات المتّحدة يوم 9 آب 2008 بعد إجرائِه لعمليّةِ القلبِ المفتوحِ في مركزِ تكساس الطبّيّ في هيوستن.

صدرَ لهُ: عاشق من فلسطين (1966)، مديح الظلّ العالي (1983)، حصار لمدائح البحر (1984)، هي أغنية (1986)، وردٌ أقلّ (1986)، أحد عشر كوكبًا (1992)، لماذا تركتَ الحصانَ وحيدًا (1995)، سرير الغريبة (1999)، لا تعتذر عمّا فعلت (2004)، كزهر اللوز أو أبعد (2005)، أثر الفراشة (2008)، لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي: المجموعة التي صدرت بعد وفاتِهِ (2009)، وغيرها.


*71*

محمود درويش

أَنا يوسُفٌ يا أَبي. يا أَبي، إخوتي لا يحبُّونني، لا يريدونني بينهم يا أَبي.

يَعتدُون عليَّ ويرمُونني بالحَصَى والكلامِ يرِيدونني أَن أَموتَ لكي يمدحُوني.

وَهُمْ أَوصدُوا بابَ بيتِكَ دوني. وَهُمْ طردوني مِنَ الحقلِ. هُمْ سمَّمُوا عِنَبي يا أَبي. وَهُم حطَّمُوا لُعَبي يا أَبي. حين مرَّ النَّسيمُ ولاعبَ شَعْرِي غاروا وثارُوا عليَّ وثاروا عليكَ، فماذا صنعتُ لهم يا أَبي؟ الفراشاتُ حطَّتْ على كتفيَّ، ومالتْ عليَّ السَّنابلُ، والطَيْرُ حطَّتْ على راحتيَّ فماذا فعَلْتُ أَنا يا أَبي، ولماذا أَنا؟ أَنتَ سمَّيتَني يُوسُفًا، وهُمُو أَوقعُونيَ في الجُبِّ، واتَّهموا الذِّئبَ؛ والذِّئبُ أَرحمُ من إخوتي أبتِ! هل جنَيْتُ على أَحدٍ عندما قُلْتُ إنِّي: رأَيتُ أَحدَ عشرَ كوكبًا، والشَمسَ والقمرَ، رأيتُهُم لي ساجدينْ؟


*72*

مفاتيح النصّ:

سورةُ يوسُفَ، مأساةُ يوسُفَ، غيرةُ الإِخْوة، انتقامٌ وثورةٌ، الذئبُ، حلمُ يوسُفَ، التناصُّ الدينيُّ، العنصرُ القصصيُّ، الرمزُ، أدبُ الالتزامِ، الهيئةُ الطباعيّةُ، القناعُ.

مهامّ:

1. مَنْ هُوَ الأنا الشعريُّ؟ ماذا يفيدُ التكلّمُ بضمير الأنا؟

2. تعتمدُ القصيدةُ على أسلوبِ التناصّ مع قصةِ النبيّ يوسف. ما الهدفُ من ذلكَ؟

3. لمن يرمزُ الذئبُ في القصيدةِ؟

4. ما هوَ المُعادلُ الموضوعيُّ الذي أسهمَ في الحالةِ الانفعاليّةِ للأنا الشعريِّ في النصِّ؟

5. ما دلالةُ أن يكونَ ليوسفَ حلمٌ ورؤيا دون إِخْوَتِهِ؟

6. ينوّنُ الشاعرُ كلمةَ يوسف وهي ممنوعةٌ من الصرفِ. ماذا يخدمُ هذا التنوينُ؟

7. مَنْ هوَ أبو يوسفَ المقصودُ في القصيدة؟

8. لماذا، في رأيك، تمّت كتابةُ القصيدةِ بشكلٍ نثريٍّ؟ وما الغرضُ من ذلك؟

9. صفْ ملامحَ البراءةِ والطفولةِ في شخصيّةِ يوسف.

10. يستخدمُ درويش شخصيّةَ يوسف قناعًا له. ما المقصودُ بالقناعِ وما الهدفُ من استخدامهِ؟

11. كيفَ ينعكسُ أدبُ الالتزامِ والهمُّ الجماعيُّ في القصيدةِ؟

12. يقسمُ درويش القصيدةَ إلى مفصلين، تَسودُ في كلّ مَفْصَلٍ منهما صيغةُ فعلٍ مختلفةٌ. عيّنْ هذين المفصلينِ واشرحْ أهمّيّةَ هذهِ البُنْيةِ الشعريّةِ دلاليًّا.


*73*

محمود درويش

ونحنُ نحبُّ الحياة

ونحنُ نُحِبُّ الحياةَ إذا ما اسْتَطَعْنا إليها سَبيلا

ونرقصُ بينَ شهيديْنِ نرفعُ مئذنةً للبنفسجِ بينَهُما أو نخيلا

نحبُّ الحياةَ إذا مَا اسْتَطَعْنا إليها سَبيلا

ونسرِقُ من دودةِ القزِّ خيطًا لنبني سماءً لنا ونسيّجَ هذا الرحيلا

ونفتحُ بابَ الحديقةِ كي يخرُجَ الياسمينُ إلى الطرقاتِ نهارًا جميلا

نحبُّ الحياةَ إذا ما اسْتَطَعْنا إليها سبيلا

ونزرعُ حيثُ أقمْنا نباتًا سريعَ النمُوِّ، ونحصدُ حيثُ أقمْنا قتيلا

وننفخُ في النايِ لونَ البعيدِ البعيدِ، ونرسُمُ فوقَ ترابِ الممَرِّ صهيلا

ونكتبُ أسماءَنا حَجَرًا حَجَرًا، أيُّها البرقُ أوضِحْ لنا الليلَ، أوضِحْ قليلا

نحبُّ الحياةَ إذا ما اسْتَطَعْنا إليها سَبيلا


*74*

مفاتيح النصّ:

حبُّ الحياة، التضحيّةُ بالشهداءِ، التفاؤلُ والأملُ، البناءُ والإنتاجُ، التوثيقُ والتخليدُ، إضاءةُ المعالمِ، توثيقُ الأسماءِ، الصوتُ الجماعيُّ، الإحالةُ إلى الواقعِ بصورٍ رومانسيّةٍ، شكلُ القصيدةِ.

مهامّ:

1. تُعتبرُ القصيدةُ تفاؤليّةٌ. أثبتْ ذلكَ من خلال النصِّ.

2. كيفَ ينسجمُ الموتُ والتضحيةُ معَ الأملِ في الحياةِ حسبَ النصِّ؟

3. ما هي أهمّيّةُ توفيقِ الأسماءِ في معالمِ المكانِ؟

4. يشيرُ النصُّ إلى إمكانيّاتٍ متواضعةٍ لبناءِ الحلمِ. وضّح ذلك.

5. كيف تتقاطعُ الرومانسيّةُ معَ الواقعيّةِ في النصِّ؟

6. بماذا يخدمُ تكرارُ العبارةِ (نحبُّ الحياةَ إذا ما اسْتَطَعْنا إليها سبيلا) المضمونَ والشكلَ؟

7. أيُّ الحواسِّ أكثرُها حضورًا في النصِّ؟

8. ما هي وظيفةُ ضميرِ الجمعِ نحنُ في التّعبيرِ عن دلالةِ القصيدةِ؟

9. ماذا يقصدُ الشاعرُ بالبرقِ والليلِ؟

10. قد تنطقُ القصيدةُ بلسانِ كثيرٍ من الشعوبِ والمجتمعاتِ، إلّا أَّنّها تحملُ خصوصيّةٌ أكبرَ للشعبِ الفلسطينيّ. كيفَ ترى ذلك؟ علّل.


*75*

إلى أطفالِ بلادي - راشد حسين


*75*

راشد حسين (1936-1977)

راشد حسين شاعرٌ فلسطينيٌّ ملتزمٌ. وُلدَ في قرية مصمص في المثلّث، وتعلّم في حيفا والناصرة. بدأَ كتابةَ الشعرِ وهو صغيرٌ، وسرعانَ ما انخرطَ في العملِ السياسيّ من خلال الحزب الشيوعيّ، وأصبحَ شاعرَ الجماهيرِ وصوتَهم الناطقَ بالمقاومةِ.

تعرّضَ للملاحقةِ، وأقيلَ من عملِهِ كمدرّسٍ، فأصبحَ محرّرًا لمجلّة الفجر، المرصاد، والمصوّر.

سُحبت منهُ الجنسيّةُ الإسرائيليّةُ عام (1965) حينما كان في بعثةٍ دراسيّةٍ في الولايات المتّحدةِ، ومُنعَ من دخولِ البلادِ، وماتَ وهو خارجَ الوطن.

سافرَ إلى سوريّا واشتغلَ في الإذاعةِ، كما انضمّ لمنظّمة التحريرِ الفلسطينيّةِ، وساهمَ في تأسيسِ مؤسّسةِ الدراساتِ الفلسطينيّةِ. مارسَ نشاطًا إعلاميًّا ملحوظًا في الولاياتِ المتّحدةِ لصالحِ القضيّةِ الفلسطينيّةِ.

ماتَ اختناقًا في شقّتِهِ في نيويورك إثرَ حريقٍ غامضٍ، ودُفنَ في البلادِ، في مسقطِ رأسِهِ، بعد ضغوطٍ مكثّفةٍ على الحكومةِ الإسرائيليّةِ.

صدرَ لهُ: معَ الفجر (1957)، صواريخ (1958)، أنا الأرض لا تحرميني المطر (1976).


*76*

إلى أطفال بلادي

ما زالَ في بَصَري سماءٌ مِنْ عيونٍ حالمة

زَرقاءَ أوْ سوداءَ تلمعُ في الوجوهِ الباسمة

وخواتمِ الكَعْكِ، الكبيرةِ والشفاهِ الناعمة

ما زالَ في عينيِّ طفلٌ في شوارعِ تل أبيبْ

وصغيرةٌ في قريةٍ سمراءُ تحلمُ بالحليبْ

ما زال أطفالُ الحياةِ نحومَ أرضي القاتمة

يتلألؤون بكلِّ وَجْهٍ نجمتانْ

بِكلِّ كفٍ كعكةٌ أو كعكتانْ

ولأجلِهِمْ ولأجْلِ كعكِهِم أُغنّي للسلامْ

يا أنجمًا شقراءَ أو سمراءَ ضاحكةَ العيونْ

إِنّي أراكُمْ تحلُمونَ وتلعبونَ وتحلُمونْ

هل تعلمونَ بما صنعتُ لأجلكُمْ هل تعلمونْ

أعددتُ في قلبي سريرًا من حريرِ الأمنياتْ

هو واسعٌ حتّى ليحتضنَ الأُلوفَ معَ المئاتْ


*77*

فأنا سريري من خيوطِ الحُبِّ فَرْشَتُهُ الحَنونْ

وخيوطُ ثوبِ الحُبِّ أصغرُها دِثارْ (دِثار: غطاءُ النائم، ثوبٌ يلبسُ فوقَ الملابسِ، ثوبٌ يكونُ فوقَ الشِعارِ)

تكفي لتدفئةِ الألوفِ من الصغارْ

وَلأجلكم ولأجلِ نومِكُمُ أُغنِّي للسلامْ

لي مثلُكم وبمثلِ طُهْرِكُمُ النقيِّ أخٌ صغيرْ

إنَّ اسمَه فتحي نوادرُهُ حقولٌ من عبيرْ

خصلاتُهُ شقراءُ والعينانِ في لون الغديرْ

اَلشرقُ فيهِ قدِ التقى بالغربِ في ثوبٍ جديدْ

فاللونُ غربيٌّ ولفظُ الطفلِ شرقيٌّ مجيدْ

وعروقُهُ كعروقِكُم فيها دماءٌ لا عصيرْ

ألعابُهُ، من طينِ قريتِنا، هضابْ

فيصوغُ مثلَ اللهِ آدمَ من ترابْ

ولأجل لعبِ أخي ولعبكُمُ أُغنيِّ للسلامْ


*78*

مفاتيح النصّ:

نظرةٌ تفاؤليّةٌ، أبناءُ الأرضِ، أغنيةٌ للسلام، أمنياتٌ جميلةٌ، حبُّ الأطفالِ، الطفلُ العربيّ المولّد، علاقةُ الشرقِ بالغربِ، ألعابُ الطفولةِ، الاسترجاعُ، العنصرُ القصصيُّ، نهاياتُ المقاطعِ، البعدُ الإنسانيُّ، صورةُ الآخرِ.

مهامّ:

1. تتجسّدُ في القصيدةِ نظرةٌ تفاؤليّةٌ. وضّحْ ذلكَ.

2. ما هيَ ملامحُ الطفولةِ كما يرسُمها راشد حسين بالكلماتِ؟

3. كيفَ تنعكسُ علاقةُ الشرقِ بالغربِ في النصّ؟

4. هل في حياةِ راشد حسين ما يجسّدُ هذهِ العلاقةَ؟ علّلْ.

5. ما الغايةُ من سردِ قصّة فتحي في النصّ؟

6. تنتهي المقاطعُ الثلاثةُ بعبارةٍ لها علاقةٌ بالسلام. وضّحْ دلالةَ ذلكَ.

7. ما موقفُكَ من تشبيهِ ألعاب الأطفالِ بالتراب، بخلقِ اللّه لآدمَ؟

8. ما هيَ دلالةُ الألوانِ المذكورةِ في النصّ؟

9. هاتِ مثالينِ على التكرارِ في القصيدةِ مبيّنًا الهدفَ منَ استخدامِه.

10. كيفَ ينزاحُ راشد حسين عن رتابةِ القصيدة العموديّة؟ وضّح من خلال أمثلةٍ.

11. كيفَ تتجَسَّدُ صورةُ الآخرِ من خلالِ القصيدةِ؟


*79*

ليلًا على باب فدريكو - سميح القاسم


*79*

سميح القاسم (وُلدَ 1939)

سميح القاسم شاعرٌ محلّيّ ملتزمٌ، ومن أبرزِ الشعراءِ الفلسطينيّينَ وأغزرِهم إنتاجًا. وُلدَ في الزرقاءِ في الأردنَ لعائلةٍ درزيّةٍ، وتعلّمَ في مدارسِ الرامةِ حيثُ يقطنُ، والناصرةِ. انضمّ إلى الحزبِ الشيوعيّ ثمّ انفصلَ عنهُ. سُجنَ ووُضعَ تحتَ الإقامةِ الجبريّة بسببِ مواقفِهِ السياسيّة.

عملَ محرّرًا في صحيفةِ الاتّحادِ وفي مجلّتَي الغدِ والجديد، ورئيسَ تحريرِ صحيفةِ كلّ العرب. كتبَ عددًا كبيرًا من المجموعاتِ الشعريّة، وبعضَ الروايات والمسرحيّات والرسائل الموجّهة لمحمود درويش، وشاركَ في عشرات المهرجانات الشعريّة والمؤتمرات خارجَ البلاد.

للقاسمِ إلقاءٌ مميّزٌ وحضورٌ ديناميّ أمامَ الجمهور، وقد كانَ لشخصيّتِهِ دورٌ في انتشارِ قصيدتِهِ في العالمِ العربيّ. تمتازُ قصائدُهُ بطولِ النَفَسِ الشعريّ وإيقاعِها الموسيقيّ، وببُعْديها الفلسطينيّ - العربيّ والإنسانيّ، وقد كتبَ عددًا من السربياّت (مطؤلات شعرية).

صدرَ لهُ: مواكب الشمس (1958)، أغاني الدروب (1964)، دمي على كتفي (1967)، دخان البراكين (1968)، سقوط الأقنعة (1969)، ويكون أن يأتي طائر رعد (1969)، قرآن الموت والياسمين (1971)، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم (1976)، ديوان الحماسة (جزءان، 1978 / 1979)، الجانب المعتم من التفّاحة، الجانب المضيء من القلب (1981)، برسونا نون غراتا: شخص غير مرغوب فيه (1986)، لا أستأذن أحدًا (1988)، سبحة للسجلّات أخذةُ الأميرةِ يبوس (1989).

ومن السربيّات: إلهي إلهي لماذا قتلتني؟ (1974)، ثالث أكسيد الكربون (1976)، خذلتني الصحارى (1998)، كلمة الفقيد في مهرجان تأبينه (2000).

وله سيرة ذاتية بعنوان (إنّها مجرّد منفضة) (2011).


*80*

سميج القاسم

ليلًا على بابِ فِدِريكو

فِدْريكو

اَلحارسُ أطفأَ مِصْباحَهْ

اِنْزلْ

أَنذا مُنْتظرٌ في السّاحة

فِدْ ري كو

قِنْديلُ الحزنِ قَمَرْ

اَلْخوفُ شَجَرْ

فَانْزِلْ

أنا أعْلمُ أنَّكَ مختبئٌ في البيتْ

مسْكونًا بالحمّى

مشْتعلًا بالموتْ

فَانْزلْ

أَنَذا مُنْتظرٌ في الساحةْ

مُشْتَعِلًا بلهيبِ الوَرْدةْ

قلبي تفّاحةْ

اَلديكُ يصيحُ على قرميدِ السّطحْ

فِدْريكو

اَلنَجْمةُ جُرحْ

والدمُ يصيحُ على الأوتارْ


*81*

يَشْتعلُ الجيتارْ

فِدْريكو

اَلْحَرَسُ الأسودُ ألقى في البئر سلاحَهْ

فانْزِلْ للسّاحةْ

أعْلمُ أنَّكَ مختبئٌ في ظلِّ ملاكْ

ألْمحُكَ هناكْ

زنبقةً خلفَ ستارةِ شبّاكْ

ترتجفُ على فمِكَ فراشةْ

وتُمَسِّدُ (تُمَسّدُ: تدلُكُ، تُليّنُ بتمرير الكفِّ عليهِ) شَعرَ الليلِ يداكْ

اِنزِلْ فدريكو

وافتحْ لي البابْ

أَسْرِعْ

أنذا أنتظرُ على العَتَبةْ

أَسْرِعْ

في مُنْعطفِ الشارعْ

جَلَبَةُ ميليشْيا (ميليشْيا: جماعةٌ مسلّحَةٌ مكَوّنةٌ من مواطنينَ، تظهرُ في حالاتِ الطوارئ، وتأخذُ محلَّ الجيشِ النظاميّ) مُقْتَربةْ

قَرْقعةُ بنادقْ

وصَليلُ (صليل: قرقعةُ السلاح) حِرابْ

اِفْتَحْ لي البابْ

أَسْرِعْ

خَبِّئْني


*82*

فِدْريكو

فِدْ ري كو!

مدريد 27/5/1985

مفاتيح النصّ:

اغتيالُ لوركا (فدريكو جارسيا لوركا (بالإسبانيّة: Federico Garcia Lorca) (ولد في 5 يونيو 1898 - توفيّ في 19 أغسطس 1936) شاعر إسبانيّ شهير. بالإضافة إلى الشعر كان رسّامًا وعازف بيانو ومؤلّفًا موسيقيًّا. كان أحد أفراد ما عرف باسم الجيل 27، وهم مجموعة عن الأدباء والمفكّرين والفنّانين ظهرت عام 1927 في إسبانيا وأمريكا اللاتينيّة، ومارست حضورًا إبداعيًّا مميّزًا في المشهد الثقافيّ آنذاك. اِغتاله الثوار الوطنيّون وهو في الثامنة والثلاثين من عمره في بدايات الحرب الأهليّة الإسبانيّة. يعدّه البعض أحد أهمّ أدباء القرن العشرين)، ما قبلَ الموتِ، الحزنُ، الخوفُ، دعوةٌ للنجاةِ، طلبُ الحمايةِ الاستجارةُ بلوركا، العنصرُ القصصيُّ، تصويرُ الطبيعةِ، الهيئةُ الطباعيّةُ، نظامُ التقفيةِ، التماهي، قصيدةُ القِناعِ.

مهامّ:

1. صفْ مشهدَ القتلةِ وهم يحاصرونَ بيت فِدريكو.

2. لماذا ينادي الأنا الشعريّ (الراوي) على فِدريكو؟

3. كيفَ يتخيّلُ الراوي فِدريكو وهو في شقّتهِ أثناءَ الحصار؟

4. متى تحوّلَ الراوي من دورِ المساعدِ لفِدريكو إلى دورِ المُسْتجيرِ بهِ؟

5. كيفَ يعكسُ هذا التحوّلُ عندَ الراوي الشعورَ بالأمانِ عندَ فِدريكو؟

6. كيفَ تنعكسُ المشاعرُ والمواقفُ من خلالِ الطبيعةِ وعناصرِها؟

7. يكثّفُ سميح القاسم توظيفَ فعلِ الأمرِ في القصيدةِ. ما الهدفُ من ذلكَ؟

8. ما الهدفُ من تقطيعِ كلمة فِدريكو في النهايةِ؟

9. اِشرحْ نظامَ التقفيةِ وأحرفَ الرويِّ في القصيدةِ.

10. يتّخذُ القاسم فدريكو قناعًا لِأفَكارِهِ. وَضّحْ مفهومَ القناعِ مِنْ خلالِ القصيدةِ.


*83*

الباب الثاني النثر الحديث


*84*

الفصل الأول: القصّة القصيرة


*84*

تعريف القصّة القصيرة

سردٌ قصصيٌّ قصيرٌ نسبيًّا (قد يقلّ عن عشرة آلاف كلمةٍ)، يهدفُ إلى إحداثِ تأثيرٍ مفردٍ مُهَيْمنٍ ويمتلكُ عناصرَ الدراما. وفي أغلبِ الأحوالِ تُركِّزُ القصّةُ القصيرةُ على شخصيَّةٍ واحدةٍ في موقفٍ واحدٍ في لحظةٍ واحدةٍ. وحتّى إذا لم تتحقّقْ هذه الشُروطُ فلا بدَّ أن تكونَ الوَحْدَةُ هي المبدأُ الموجِّهُ لها. والكثيرُ من القصصِ القصيرةِ يتكوَّنُ من شخصيّةٍ (أو مجموعةٍ من الشخصيّاتِ) تُقَدَّمُ في مواجهةِ صراعٍ ما أو خلفيَّةٍ ما أو وضعٍ ما. وهذا الصِراعُ الدراميُّ أي اصطدامُ قوًى متضادَّةٍ مائلٌ في قلبِ الكثيرِ من القصصِ القصيرةِ الممتازةِ. فالتوتُّرُ من العناصِرِ البنائيّةِ للقصّةِ القصيرةِ كما أنّ تكامُلَ الانطباعِ من سماتِ تَلقّيها بالإضافةِ إلى أنّها كثيرًا ما تُعبِّر عن صوتٍ منفردٍ لواحدٍ من جماعةٍ مغمورةٍ.

وقد ازدهرتِ القصّةِ القصيرةُ في العالَمِ العربيِّ على أيدي يوسف إدريس ونجيب محفوظ في مصر، وزكريّا تامر في سوريّا، وتوفيق يوسف عوّاد في لبنان، وغيرهم الكثيرون.

كذلك خطّت القصَّةُ القصيرةُ خُطواتٍ في التحديثِ والتجديدِ في العقود الأخيرة من القرنِ العشرين، وانبثقت منها أنواعٌ قصصيّة جديدةٌ، مثل: القصّة القصيرة جدًّا، والقصّة الشعرية / القصيدة.

القصّة القصيرة جدًّا:

ظهرت القصّةُ القصيرةُ جدًّا منذ التسعينيّات من القرنِ العشرين، استجابَةً لمجموعةٍ من الظُروفِ الاجتماعيّةِ والاقتصاديّةِ والسياسيّةِ والثقافيّةِ المُعقَّدةِ والمُتشابكَةِ التي أقلقت الإنسانَ وما تزالُ تقلِقُهُ. وهي نوعٌ قصصيٌّ، يتميّز بالقصرِ والإيحاءِ المكثَّفِ والنزعةِ القصصيّةِ الموجزةِ،


*85*

والرمزيَّةِ المباشرةِ وغيرِ المباشرةِ، فضلًا عن خاصّيّةِ التلميحِ والاقتضابِ، بالإضافةِ إلى سماتِ الحذفِ والاختزالِ والإضمارِ.

كما يتميّزُ هذا الخطابُ الفنّيُّ الجديدُ بالتصويرِ البلاغيِّ الّذي يتجاوزُ السردَ المباشرَ إلى ما هو شعريٌّ وبيانيٌّ ومجازيٌّ ضمنَ بلاغةِ الانزياحِ والخرْقِ الجماليّ. ومن أعلامِ هذا التيّار: وليد إخلاصيّ ومروان المصريّ من سوريّة، حسن برطال وعبد الحميد الغرباويّ من المغرب، إبراهيم درغوثيّ من تونس، فهد المصبح من السعوديّة وغيرُهُمْ.

القصّة القصيدة / الشعريّة:

ظهرت القصّةُ الشعريّةُ بشكلٍ واضحٍ في العقديْن الأخيريْن من القرنِ العشرين، وهي قصّةٌ تحتوي على بُنيةٍ سرديّةٍ، إلّا أنّ المقوّماتِ الشعريّةَ والإيحائيّةَ هي الّتي تطغى عليها. من سماتِها: الإيجازُ والتكثيفُ والتركيزُ، والتعبيرُ بالصورةِ والمَجازِ، وقلّةُ الحشوِ والإسهابِ وموسيقيّةُ الجملةِ والتركيبِ. بالإضافةِ إلى شيوعِ المونولوج والحُلم وتيّارِ الوعي. من أعلامِ هذا التيّار: إدوار الخرّاط وبدر الديب ومنتصر القفّاش واعتدال عثمان ومحمّد المخزَنجي من مصر، وغيرهم.

عناصر القصة:

1. الفكرةُ والمغزى:

وهو الهدفُ الّذي يحاولُ الكاتبُ عرضَه في القصَّةِ، أو هو الدرسُ والعِبرةُ الّتي يريدُنا تعلُّمَها؛ لذلك يُفَضَّل قراءةُ القصّةِ أكثرَ من مرّةٍ، واستبعادُ الأحكامِ المُسبَقةِ، والتركيزُ على العَلاقةِ بين الأشخاصِ والأحداثِ والأفكارِ المطروحةِ، ورَبْطُ كلِّ ذلك بعنوانِ القصّةِ وأسماءِ الشُخوصِ وطبقاتِهم الاجتماعيّةِ.

2. الحدَث:

وهو مجموعةُ الأفعالِ والوقائِعِ مرتَّبةً ترتيبًا سببيّاً، تدورُ حولَ موضوعٍ عامٍّ، وتصوِّرُ الشَخصيَّةَ وتكشِفُ عن صراعِها مع الشَخصيّاتِ الأخرى وتتحقّقُ وَحْدَةُ الحَدَثِ


*86*

عندما يُجيبُ الكاتبُ على أربعةِ أسئلةٍ هي: كيف وأين ومتى ولماذا وقع الحدثُ؟. ويعرض الكاتبُ الحدثَ بوجهةِ نظرِ الراوي الّذي يقدِّمُ لنا معلوماتٍ كلّيَّةً أو جُزئيّةً، فالراوي قد يكونُ مُشْرفًا كلّيًّا وقد يكون مُشْرفًا جزئيًّا، وقد يكون بصيغة الأنا (السردِيّ)، وقد لا يكونُ في القصَّة راوٍ، وإنّما يعتمدُ الحدثُ حينئذٍ على حوارِ الشخصيّاتِ والزمانِ والمكان وما ينتجُ عن ذلكَ من صراعٍ يطوِّر الحدثَ ويدفعُهُ إلى الأمامِ، أو يعتمدُ على الحديثِ الداخليِّ (المونولوج)

3. الحبكة:

وهي مجموعةُ الأحداِث في القصّةِ في ارتباطها الزمنيّ والسببيِّ. ومعيارُ الحَبْكةِ الممتازةِ هو وَحْدتُها، ولفهمِ الحَبكةِ يمكنُ للقارئِ أن يسألَ نفسَه الأسئلةَ التّاليةَ:

- ما الصّراعُ الّذي تدورُ حولَهُ الحَبْكَةُ؟ أهو داخليٌّ أم خارجيٌّ؟

- ما أهمّ الحوادثِ الّتي تشكِّلُ الحَبْكةَ؟ وهلِ الحوادثُ مرتَّبَةٌ على نَسَقٍ تاريخيٍّ أم نفسيٍّ؟

- ما التغيُّراتُ الحاصلةُ بين بدايةِ الحَبكةِ ونهايتِها؟ وهل هي مُقنِعة أم مُفتعَلة؟

- هل الحَبكةُ متماسِكةٌ؟

- هل يمكنُ شرحُ الحبكةِ بالاعتمادِ على عناصرِها من عرضٍ وحدثٍ متصاعدٍ وأزمةٍ، وحدثٍ متهافتٍ وخاتمةٍ؟

العقدةُ / الذروة / لحظةُ التأزُّم:

وهي اللحظةً الّتي يصلْ فيها الصِراعُ، أو تصلُ فيها الأزمةُ إلى أشدِّ نقاطِها كثافةً وتكونُ قد اقتربَت من الحلِّ في بعضِ الأوجهِ. والعقدةُ تشيرُ إلى نقطةِ تحوُّلٍ في الفعلِ الدراميِّ في القصّةِ بمقدارِ ما تشيرُ إلى انفعالِ القارئِ واستجابتِه لهذا التعقيدِ. وتأتي بَعْدها لحظةُ التنوير، وهي بدايةُ الانفراجِ نحو الحلّ أو النهايةِ.


*87*

4. الشخصيّات:

يختارُ الكاتبُ شخصيّاتِه من الحياةِ عادةً، ويحرِصُ على عرضِها واضحةً في الأبعادِ التاليةِ:

أوّلًا: البعدُ الجسميُّ: ويتمثّلُ في صفاتِ الجسمِ من طولٍ وقصّرٍ وبدانةٍ ونحافةٍ وذكرٍ أو أنثى وعيوبِها، وسنِّها.

ثانياً: البعدُ الاجتماعيُّ: ويتمثّلُ في انتماءِ الشخصيّةِ إلى طبقةٍ اجتماعيّةٍ وفي نوعِ العملِ الّذي يقومُ به، وثقافتهِ ونشاطِه، وكلِّ ظروفِه المؤثِّرةِ في حياتِه، ودينِه وجنسيّتِه وهواياتِه.

ثالثاً: البعدُ النفسيُّ: ويكونُ في الاستعدادِ والسلوكِ من رغباتٍ وآمالٍ وعزيمةٍ وفِكْرٍ، ومِزاجِ الشخصيّةِ من انفعالٍ وهدوءٍ وانطواءٍ أو انبساطٍ.

البيئةُ / الزمان والمكان:

تُعدُّ البيئةُ الوسطَ الطبيعيَّ الّذي تجرِي ضمنَه الأحداثُ وتتحرَّكُ فيه الشخوصُ ضمنَ بيئةٍ مكانيّةٍ وزمانيّةٍ تمارسُ وجودَها.


*88*

حالة تلبُّس - يوسف إدريس


*88*

يوسف إدريس (1927-1991)

يوسف إدريس عليّ، كاتبٌ قصصيٌّ، مسرحيٌّ، وروائيٌّ مصريٌّ، وُلد في البيرومِ في مصرَ. يُعبرُ أحدَ أكبرِ روّادِ القصّةِ القصيرةِ في العالمِ العربيّ. حازَ على بكالوريوس الطبّ عام 1974-1951 وتخصّصَ بالطبّ النفسيّ، كتبَ القصّةَ القصيرةَ منذَ سنواتِ الدراسي الجامعيّةِ حيثُ لاقَت قصَصُه شهرةً كبيرةً بين زملائِهِ. وبدأت قصَصُه القصيرةُ تظهَرُ في مجلَّتَيِ المَصريّ وروز اليوسف. في عام 1960 انسحبَ من مهنةِ الطبِّ وعُيّنَ محرّرًا بجريدة الجمهوريّة وقام بسفراتٍ متعدّدةٍ في العالمِ العربيِّ فيما بينَ 1956-1960. تزوّجَ عام 1957، وفي عام 1963 حصلَ على وسامِ الجمهوريّةِ واعتُرفَ به ككاتبٍ من أهمِّ كتّابِ عصرِه. كتبَ القصّةَ القصيرةَ والروايةَ والمسرحيّةَ والمقالةَ. تتميَّزُ كتاباتُه بالواقعيّةِ وسهولةِ اللغةِ، حيثُ صوَّرَ الحياةَ اليوميّةَ، لاسيّما فئاتِ المهَمَّشينَ في المجتمعِ، كما أنّه برعَ في رَسمِ الشخصيّاتِ، وعَمَدَ إلى التكثيفِ والتركيزِ و استخدامِ العاميّةِ المصريّةِ.

من مؤلّفاته:

قصص: أرخص ليالي (1954)، أليس كذلك (1958)، آخر الدنيا (1961)، لغة الآي آي (1965)، الندّاهة (1970).

رواياتك الحرام (1959)، العيب (1962) نيويورك 80 (1980)، ومن رواياته ما أُخرِج في أفلام سينمائيّة مثل فيلم الحرام.

مسرحيات: الفرافير (1964)، اللحظة الحرجة (1958).


*89*

حالةُ تَلبُّسٍ

يوسف إدريس

حينما ضبطَ المَنْظَرَ، لم يكُنْ عميدُ الكلّيّةِ هو الّذي غضِبَ والتهَبَتِ الدِماءُ في عُروقِهِ، ولكنّه الطفلُ الّذي وُلدَ وتربَّى في سوهاج (سُوهاج: إحدى محافظات صعيد مصر). ومنذُ أن بدأَ يَعِي، فهِمَ أنّه قد يكونُ مُباحًا للرّجلِ وعيْبًا للشبابِ، ومُحرَّمًا تحريمًا قاطِعًا على الأطفالِ، ولكنّه للنساءِ جريمةٍ، أكثرُ من جريمةٍ، قد يوازِي هَتكَ العِرْضِ، فما بالُكَ وهي ليست رجلًا ولا طفلًا ولا حتّى سيّدةً، ولكنّها فتاةٌ، بنتٌ لا تتعدّى السابعةَ عشرَةَ بأيِّ حال.

وحينَ وصلَ الغضبُ قشرَةَ العقلِ المُكتَسَبَةَ، وانفعلَ العميدُ الّذي فيه، كانَ أكثرُ ما ضايَقَه أنّها لا بدّ في السنة الأولى، طالبةٌ جديدةٌ، يعني بالأمسِ فقط كانت طفلةً في ثانَوِي (في ثانوي: أي في المرحلة الثانويّ (محكيّو مصريّة)).

ورغمَ كلِّ غضبِهِ لم يتحرَّك إلّا حينَما تحرَّكَ الوالدُ الّذي فيه وتملمَلَ، وأدركَ كالمَدهوشِ، أنّها تكادُ تكونُ في سنِّ ابنتِهِ (لمياء)، حينئذٍ فقط استدارَ مَغادِرًا النافذةَ في طريقِهِ، إلى حيث أزرارُ الجرسِ الموضوعةُ في مكانِها الخالدِ الّذي يتوارثُهُ العُمّداءُ فوقَ المَكتَبِ.

وربّما لو كانَ في الحجرةِ أحدٌ أستاذٌ أو لجنةٌ أو حتّى لو كانَ في انتظارِ مقابلةِ كائنٍ ما، لكانتِ الحرَكَةُ قد اكتمَلَت وكانت يدُهُ حتمًا قد وصلَتْ إلى الزِرِّ والساعِي المرابطُ (المُرابط: المُقيم، المُلازم للمكان) أمامَ البابِ حضَرَ، والفصْلُ لأسبوعٍ أو لأكثرَ مِن الكلّيِّة أو حتّى الزجرُ والضربُ قد حدثَ.

ولكنّه كانَ وحدَهُ في حُجرةِ العميدِ الواسعَةِ المَهُولةِ (مَهْول: يبعث على الخوف والذعر) ذاتِ النافذةِ الجانبيّةِ الضيّقةِ، والحُجرةُ المَهُولةُ تُغري بالتريُّثِ (التريّث: التمهّل)، والنافذةُ الضيّقةُ تُغرِي بتدقيقِ النظرِ، وفي حالتِهِ كانَ الإغراءُ كبيرًا بإعادةِ النطرِ.

وعادَ إلى استمرارِ النظرِ.


*90*

الحجرةُ في دور أوّل لا يرتفعُ عن الأرضِ إلّا قليلًا، والفِناءُ (الفِناء: ساحة واسعة مُحاطة بأسوار أو أبنية، ساحة المبنى) الخلفيُّ الّذي تُطِلُّ عليه النافذةُ الجانبيّةُ خالٍ، تمامًا من الطلبَةِ، فهو في العادةِ مكانٌ غيرُ مرغوبٍ من الطلبةِ، والسّاعةُ اقتربتْ من الثالثةِ، واليومُ الدراسيُّ انتهى، ولولا مراجعةُ جدولِ الامتحانِ لما كانَ هو نفسُهُ قد بقيَ الى هذا الوقتِ. ولمّا قامَ من النافذةِ مُنهَكًا يتثاءَبُ ويتمَطّى (يتمَطّى: يتمدّد) ويأخُذُ فكرةً عن الجوِّ بالخارجِ، ولمّا شاهَدَها، تلكَ الطالبةَ الصغيرةَ الّتي ما أن بدأَ عقلُهُ يتساءَلُ عمّا أتَى بها إلى هذا المَكانِ المهجورِ، وبعدَ انتهاءِ الدِراسةِ حتّى كانَ الغضَبُ قد اجتاحَهُ (اجتاحَ: غزا، احتلَّ) إذ وجدَهَا بكلِّ بساطةٍ وتحتَ أنفِ نافذتِهِ تُخرِجُ، بل أخرجَتْ فعلًا عُلبَةَ سجائِرَ من حقيبةِ يدٍ مُستطيلةٍ ضخمةٍ وعَبثَتْ بكَراريسِ المُحاضراتِ المُختلطَةِ بأدواتِ التجميلِ قليلًا، وما لبِثَتْ أن أخرجَت عُلبَةَ كبريتٍ أيضًا.

طالبةٌ، واضحٌ تمامًا أنّها لا بدّ في السنةِ الأولى، تدخُلُ وتحمِلُ معَهَا في الحقيبَةِ علبةَ سجائِرَ وعُلبةَ كبريتٍ!

هكذا من النظرةِ الأولى تفَجَّرَ الغضَبُ.

ولكنّ النظرةَ التاليةَ كانت نظرةَ مَذهولٍ يستبعِدُ تمامًا أن يُصدِّقَ أنّ شيئًا كهذا ممكنٌ أن يحدثَ، مؤجِّلًا التصديقَ إلى أن يَرَاها فعلًا وهي تُدخِّن خاصَّةً والفتاةُ كانت لا تزالُ ممسِكَةً السيجارةَ في يدٍ، والكبريتَ في يدٍ أُخرى وكأنّما لم تقرِّرْ بعدُ ماذا تفعلُ بشأنِهِما

تأمَّلَها العَميدُ، كانت طالبةً عاديّةً، لا يمكنُ إذا رآها في مجموعةٍ أن تستوقِفَ النظَرَ، شعرُها مُهَوَّشٌ (مُهَوَّش: مُشَوَّش، نافر) على طريقَةِ الجيلِ الجديدِ في الأناقةِ، وعيناها ذابلتان لا بدّ من المُذاكرَةِ والسهَر، مُتّكِئَةً، تكادُ تكونُ مُستلقيَةً بعدَ يومٍ مُتعَبٍ حافِلٍ على الأَريكَةِ المُهمَلَةِ الّتي لا يستعمِلُها أحدٌ، ولكنّ شبابَها الفائِرَ يكادُ يقفِزُ من وجنتيْها المُحمَرَّتيْن رغمَ قمحيَّةِ بَشَرَتِها، ومن جسِدها البارزِ في أكثرَ من مكانٍ من ملابسِ الطالبةِ الرَخيصَةِ الّتي ترتَدِيها.

وبُوغِتَ العَميدُ حقيقةً وهو يلحَظُ فجأةً أنّها بأصابعِ اليَدِ الواحدةِ أصابعَ تلوِّنُ سبّابتَها آثارُ الحِبرِ، قد فتَحَت علبَةَ الكِبريتِ، وبالَيدِ الأُخرى، بيدٍ ثابتَةٍ لا اضطرابَ فيها ولا خوفَ، وبحركاتٍ تلقائيَّةٍ ليسَ فيها من مجهودِ الإرادَةِ شيءٌ، ثبَّتَتِ السيجارةَ في فمِهَا وأدارَتْها دائرةً


*91*

كاملةً بينَ شفتيْها وكأَنَّما لِتُبَلَّلَ، كالمُدخِّنين العُتاةِ (عُتاة: جمع عاتٍ: متكبّر، ظالم، قاسي القلب)، فَمَها (الفِلْتَر)، وبنفسِ التُؤَدَةِ (التؤُدة: التأنّي، التمهّل، الرزانة) والتلقائيّةِ، وبضربَةٍ لا أثَرَ للتدبيرِ فيها، أشعَلَتِ العُودَ ولم تقرِّبْهُ من السيجارةِ في الحالِ، أهمَلَتْهُ بين إصبَعَيْها قليلًا وكأنّما تستمتِعُ برُؤيتِهِ يحترِقُ، ثمّ ما لبثّتْ ببطءٍ، ودونَ أن تنظُرَ، وبعينيْن هائمتيْن (هائم: متحَيِّر، تائه) في جدارِ الفِناءِ البعيدِ، أن قَرّبتِ العُودَ بحيثُ لامسَتْ شُعلتُه طَرَفَ السيجارةِ دون أنْ تحيدَ يمينًا أو يسارًا وكأنّما يدُها مُدرَّبَةٌ على الطريقِ، وجذَبَت نَفَسًا واحدًا اشتَعَلت بعدَهُ السيجارةُ، وبالدُخانِ الخارِجِ، بعدَ ابتلاعِهِ، من فمِهَا، أطفأَتِ العُودَ، ثمّ لم تلبَثْ أن أَلقَتْهُ في إهمالٍ غريبٍ، فوقَ عُشبِ المَمْشى القريبِ.

وجُنَّ جنونُ العميدِ، إنّها مُدمنَةٌ داعِرَةُ الإدمانِ أيضًا، إنّه هو نفسَهُ يدخِّنُ ولا يفعلُ شيئًا كهذا، إنّه يشعلُ السيجارةَ كُلشِنْكان (كُلشِنْكان: عبارة تركيّة، وهي اختصار للتعبير: كُلّ شيءٍ كان، أي أنّه يدخّن السيجارة كيفما كان) ويدخنّها كيفما اتّفق، ولكنّ هذه، متى وكيفَ وفي أيِّ بؤرةِ فَسادٍ قد تعلَّمَت كلَّ هذا؟ إنّها حتّى لا تشعِلُ الكبريتَ كالنِساءِ الّتي قرَأَ مرّةً أنّهنّ يُشعِلْنَ العُودَ الى الناحيةِ البَعيدةِ عنهُنّ خوفًا غريزيّاً من نارِهِ على ملامِحِهنّ وشعرِهِنّ، وفقط بعدَ الاطمِئنانِ إلى شعلتِهِ بعَد خُفوتِها يجرُؤْنَ على تَقريبِهِ منهُنّ أمّا هذه الطالبةُ، طالبةُ أُولى هذه لا تخافُ العودَ ولا النارَ، ويبدو أنّها لا تَخشى شيئًا في الوُجودِ إنّها لا يمكنُ أن تكونَ في السابعَةَ عشرَةَ سِنِّ ابنتِهِ لا بدّ أنّها أكبرَ بكثيرٍ بسنتيْن لا بدّ أو حتّى بأيّام إنّها جُرثومةٌ، إنّ الفصلَ أسبوعًا واحدًا لا يكفِي أبدًا الرَفدُ (الرَفد: تعبير عامّيّ من اللهجة المصريّة، والمقصود: الرفض) النّهائيّ هوما يجبُ عملُهُ، لا أقلّ من الرفد النهائيّ.

ولكنّه لم يعرفْ كيفَ حدثَ هذا، فقد وجَدَ شيئًا أكبرَ بكثيرٍ من كلِّ غضبِهِ وكلِّ حماسِهِ للضغطِ على الجرَسِ واستدعاءِ الساعِي واتخاذِ بقيَّةِ الإجراءاتِ، شيئًا أجبَرَه على أن يقِفَ في مكانِهِ لا يتحرّكُ، وينتظرُ ويراقبَ ويعاوِدَ الرُؤيةَ ورفعتِ الفتاةُ يدَهَا إلى فمِهَا مرّةً أخرى، ولكنّها انتظرَت قليلًا بفَمِ السيجارةِ قريبًا من فمِهَا، ثمّ بَدَا وكأنّ الوقتَ قد حانَ، وهكذا ببطءٍ لا تلكُّؤَ (التلكؤ: التباطؤ) فيه أسبَلَتْ جُفونَها حتّى كادَتا تُغلَقان تمامًا، ثمّ ضَمَّتْ شفتيْها حتّى ضاقَتِ الفتْحَةُ بينَهُما وتَكَرمشَ (تَكَرمَشَ: تقبّض، انضمّ بعضه إلى بعض) غِشاؤُهُما ومن الفتحَةِ الضيّقةِ أدخلَتْ فمَ السيجارةِ، وجَذَبَت نفّسًا، لا لم


*92*

يكُن جَذْبًا، كانَ امتصاصًا، ليسَ امتصاصَ دُخانٍ، لكأنّه رشْفُ أعظَمِ سعاداتِ البَشرِ، رشفةٌ ببطءٍ وباستعذابٍ وبملايينِ الأفواهِ، كلُّ خليّةٍ من خلاياها بدَتْ وكأنّما أصبحَ لها فمٌ تجذِبُ به وترتَشِفُ ويتموَّجُ جسدُها كلُّه تموُّجًا غيرَ منظورٍ، وعلى دُفُعاتٍ وكأنّه عطشانُ يجرَعُ أعذَبَ، الماءِ ويريدُ أن يستمتِعَ بكلِّ قطرةٍ من قَطَراتِهِ، حتّى إذا ما بدا أنّ كلَّ دقيقةٍ فيها قد أخذَت كفايتَها وظفِرَت بسعادَتِها الخاصّةِ، رفعتِ السيجارةَ عن فمِها ببطءٍ، وكبرياءٍ وعينين قد فُتحَتا ببُخلٍ شديدٍ وكأنّها تخافُ أن تهرُبَ من فتحتيْها النشوةُ.

واستحالَ غضَبُ العميدِ إلى لحظَةِ صدمةٍ مُفاجِئةٍ تكادُ تتحوّلُ إلى ذُعرٍ خوفٍ شديدٍ أن يستمرَّ في الرؤيةِ، خوفِ الخائِفِ على نفسِهِ هو من استمرارِها، والفِناءُ بدا له كالبُقعَةِ المهجورَةِ المقطوعَةِ عن العالمِ، يحفلُ بسُكونٍ، وزَمَتَةٍ (زَمتة: زماتة: سكون، وقار، رزانة)، ورائحةِ ربيعٍ مُقبلٍ مُخيفٍ، وقُربِ أيّام نهايةِ العامِ، والامتحانِ، والفتاةُ كأنّها جنّيّةٌ من جنّيّاتِ الظُهر انشقّت عنها خرابَةُ الفِناءِ فجأةً، مُتّكئةٌ، تكادُ تكونُ مستلقيةً فوقَ الأريكَةِ ذاتِ الحديدِ المُتراكِمِ فوقَهُ الزَمنُ والصَدَأُ، الناقصِ مقعدُه خشَبَةَ الوسَطِ.

وبرهبةِ المذهُولِ هذه المرّة راحَ يترقَّبُ كيفَ تُخرِجُ النَفَسَ فمُهَا المَضمومُ أبقتْهُ مضمومًا هُنيهَةً، ثمّ فتحتْهُ نصفَ فتحَةٍ وبحرَكَةٍ؛ فيها كَسَلٌ أُنثويٌّ ضاقَت له عيناهُ راحَت توسِّعُ من فتحتِهِ قليلًا قليلًا في نفسِ الوقتِ الّذي كانَ صدرُها قد بدأَ يتّسعُ وكأنّها بسبيلِها إلى التنهّد حُرقةً ولوعَةً، ربّما على فراقِ تلكَ السحابَةِ الدخانيّةِ الصغيرةِ الّتي فجّرَت في جسدِهّا المُستلقي تعبًا واسترخاءً، حيويَّةً، وأضافَت إلى صِباها صِبًا يتّسِعُ حتّى لِيجذِبَ الدُخانَ إلى أعمَقِ أعماقِها، ليلامِسَ أقصى أرجائِها وليلتقيَ بكلِّ جزءٍ من صميمِ صميمِها لقاءَ الوداعِ، وفي نفسِ الوقْتِ الّذي يعودُ فيه الصدرُ إلى وضعِهِ الطبيعيِّ وحجمِهِ، يكونُ الدُخانُ هو الآخرُ قد بدأَ يخرجُ، من الشفتيْن المُنفرجتيْن (انفرج الشيء: انفتح، اتّسع) أضيقَ، أوسعَ انفراجٍ تخرُجُ دفعاتُه الأولى مُرسَلَةً على سجيّتِه (سجيّة: الطبيعة والخلق والجمع: سجايا) دون ضغطٍ أو إكراهٍ، تصنعُ دوائرَ لولبيَّةً وضَباباتٍ ثمّ تَتلُوهَا الدُفُعاتُ الخارجَةُ بالإرادَةِ متأنّيةً مُوجَّهَةً قد شحُبَ دخانُها وتغيَّرَ لونُهُ وكأنّما امتصّت منه كلَّ النَضرةِ والحياةِ.

قطعًا لا بدّ من فَصلِها، في منتصَفِ السيجارةِ تمامًا والجريمةِ، سَيَدُقُّ الجرَسَ ويهمِسُ إلى


*93*

الساعي ويذهَبُ الرَجلُ ويُطبِقُ عليها وساعتَهَا سيعرِفُ اسمَهَا ويفصِلُها.

ذلك كان قرارُهُ، ولكن ما ضايَقَه في الحقيقةِ أنّه بدا وكأنّه قرارُ شخصٍ آخرَ، بعيدًا عنه جدًّا، ذلك البُعْدَ الّذي أصبَحَ بينَ عقلِهِ وإرادتِهِ، إرادةٍ لا يدري لماذا هي رَخْوَةً لا تسطيعُ أن تنفِّذَ أمرًا وكأنّما هي واقعةٌ تحتَ تأثيرِ مُخدِّرٍ سخيفٍ ملعونٍ لا يعرفُ كُنهَهَ (كُنهُ الشيء: جوهره، حقيقته)، إرادةٍ لم تعُد تستطيعُ أن تفعلَ إلّا أن تنظرُ وتستمِرَّ تنظُرُ.

وأخَذتِ الفتاةُ نَفَسًا آخَرَ، وهذه المرَّة أَخرجَت دُخانَهُ مِن فمِها وأنفِها معًا، أنفٍ فتحاتُه صغيرةٌ دقيقةٌ كأنّها براعمُ فتحاتٍ يخرُجُ منها الدُخانُ باهتًا مُعتصِرًا ليصطَدِمَ بالدُخانِ الخارِجِ من الفمِ الضيِّقِ المَضمومِ المُكَرَمَشِ.

وأحسَّ العميدُ بأشياءَ داخِلَهُ تتنَبّهُ، وتلفَحُهُ سُخونةٌ ليسَ مَبْعَثَها الجَوُّ وسرعةٌ في دقّاتِ القلبِ لا عَلاقَةَ لها بمرضِ الضَغطِ.

وتَوالَتِ الأنفاسُ، وفي كلِّ مرّةٍ تجذِبُ النَفَسَ على مَهلِهَا وبتلَذُّذٍ سعيدٍ تنغَلِقُ لهُ عيناها، وكأنّ شفتيْها المضمومَتْين على فمِ السيجارةِ تبتهلان لشيءٍ أو ترشِفانِ شيئًا، رحيقَ السعادة رّبما، أو إكسيرَ الحياةِ، ويسترخي جسَدُها ويتدغدَغُ للَنفَسِ ثمّ تبدأُ عمليّة الإخراجِ، وتفعلُ هذا كلَّه باندماجٍ شاملٍ تاٍّم وبلا إرادةٍ وبطبيعيّةٍ لا تكلُّفَ فيها ولا اصطناعَ، والأنفاسُ تَتَوالى ويستحيلُ ما يحسُّهُ العميدُ إلى تيّارٍ غريبٍ يجوبُ جسدَه كلَّه مع كلِّ نَفَسٍ، ولا يوقِظُه من تعبِ يومٍ أو إنهاكِهِ، ولكن يوقظُ أجزاءَه وأجهزتَه من رقدَةِ عُمرٍ طويلٍ، ويمحو هكذا في ومضةٍ آثارَ سنينَ وأمراضٍ ومشاغلَ وحياةٍ تصلّبَت وجفّت واستَحَالت إلى دربٍ ضيِّقٍ محدودٍ، في ناحيةٍ منهُ زوجةٌ جفَّ منها ماءُ الحياةِ ولم تعُدْ تفعلُ إلّا أن تُناكِفَ (تُناكِف: تقابلُه بمثل كلامِه في عُنفٍ. لا تكفُّ عن الجدال وكثرة الأسئلة) وتُضايِقَ، وفي الناحيةِ الأخرى عملٌ وروتينٌ لا جِدَّةَ فيه ولا أمَل، وصراعٌ، وما بينَه وبينَ رئيسِهِ مديرِ الجامعةِ من حزازاتٍ، وهو كالبَندُولِ (البَندول: رقّاص السَاعة) رائحٌ غادٍ بينهما، الكلّيّةُ تدفعُهُ إلى البيتِ والبيتُ يدفعُهُ إلى الكلّيَةِ، بَندولٌ عجوزٌ مُصابٌ بأكثر من مرضٍ ووجعٍ وفي صدرِهِ أحقادٌ.

ومُنتصفُ السيجارةِ الّذي كان قد حدَّدَه، وصَلَتْهُ الطالبةُ، ولكنّه كان في حالٍ لم يُعد يعرفُ فيها


*94*

إن كانَ ما يحسُّهُ سُخطًا أم إعجابًا أو إن كان انفعالُهُ انفعالَ نشوةٍ أم اشمئزازٍ، كلّ ما أصبحَ يفعلُهُ، حتّى ولو لم ترضَ إرادتُهُ، أن يظلَّ يرى الفتاةَ ويراقبَها جسدُه نَفَسُهُ، عيناه، أنفاسُه، لسانُهُ الّذي بدأ يجفُّ في حلقِهِ، ساقاه اللّتان شُدَّت عضلاتُهُما واشرأَبَّت (اشرأَبَّ: مدّ عنقَه)، كلُّها تراقِبُ، كلُّها مع الفتاةِ، وسيجارتُها في التحامٍ لا يمكنُ فصلُهُ أو إنهاؤُهُ، التحامٍ متواصلٍ حيٍّ ينبِضُ نَفْسَ نبضِها حين تُطبِقُ بفمِها الضيِّقِ على فمِ السيجارةِ وتجذِبُ وتدوخُ بالنشوةِ، ثمّ حين تفتحُهُ نصفَ فتحَةٍ وبِهِ أو بأنِفِها أو بهِما معًا تُخرجُ اللوعَةَ والحُرقةَ والنَفَحاتِ (النَفَحات: جمع نفْحَة. الرائحة الطيّبة) الهاربةَ، وفي أعقابِها تلكَ الّتي تدفعُها لتخرجَ برفقٍ وحنانٍ وتُؤَدَةٍ نبضٍ متوالٍ متسارعٍ، والتحامٍ ذي حرارةٍ مستمرّةٍ متزايدَة تتصاعَدُ إلى أعلى مراتِبِ عقلِهِ وتذيبُ، تذيبُ أشياءَ كثيرةً، تذيبُ أفكارًا تحجّرَت كالمومياءِ المُصَبَّرَة (المُصَبَّرَة: المُحنَّطَة) وأصبحت حِكَمًا وعقائِدَ، وتفتحُ مناطقَ حاصرتْها التقاليدُ وعَزَلتْها، وَتفِدُ الأفكارُ بسهولةٍ وتنطلقُ بسهولةٍ ويبدو المستحيلُ مُمكنًا، ولماذا الحَرسُ والساعي والتأنيبُ والفصلُ ألأنّها تدخِّنُ وسنُّها سبعةَ عشرَ عامًا؟ ولأنّها طالبةٌ؟ وما الفرقُ بين أن تدخِّن وهي طالبةٌ وتدخِّنَ وهي خرّيجةٌ وكلُّهُ تدخينٌ في تدخين؟ ولماذا نحرمُهُ على جسدٍ شابٍّ فائرٍ، ونحلِّلُهُ لسيّدةٍ أو لعجوزٍ تسعُلُ وتَكُحُّ وتبصُقُ كلّما جذَبت نَفَسًا؟ أليسَ هو قائلَ نفْسِ المبادئِ وهو في العشرين والثلاثين حين كان في بعثَتِهِ يرى أنّ مشكلةَ مجتمعِهِ الأساسيّةَ أنّ أفرادَهُ يحيَوْن في عصرٍ بتقاليدِ قرونٍ مُظلمَةٍ مضت؟ وأنّ بلادَه لا يمكنُ أن تصلَ إلى أيِّ تقدُّمٍ علميٍّ أو صناعيٍّ أو حضاريٍّ إلّا إذا تمَّ التحرُّرُ، وعاشَ الناسُ فيه بتقاليدِ عصرِهِم نفسِهِ وقيَمِهِ وأنواعِ حُرّيّاتِهِ بإعطاءِ أفرادِهِ حتّى حرّيّةَ الخَطَأِ وألّا نمنَعَهم بالنُصْحِ والزَجرِ (زجره: صاحِ به وانتهره. والزَجر: النهي، المنع) عن خوْضِ التجاربِ ونورثَهم صوابَنا نحنُ وخطأَنا، بل تتركَهُم لكي يستخلصُوا هم من تجارِبِهم ما يَروْن أنّه الصّوابُ وما يرونَ أنّه الخطأ.

وبدأ جسَدُ الطالبةِ الصغيرةِ يتمَلمَلُ (تمَلمَل: مال وتقلّب) ويتلوّى، ونَهَمُه (النَهَم: زيادة الرّغبةِ في الشّيء) إلى جذب الأنفاسِ يشتدُّ ويتلاحَقُ وكأنّ في داخِلِها تحفِزُ فَجَواتٍ هائلةً، تُحدِثُ، فراغاتٍ سريعةً مذهلةً تطلُبُ الامتلاءَ لا بالدخان ولكن بالمُتعَةِ الحادثَةِ من حرّيَّتِها في أن تنفردَ بنفسِها وبالسيجارةِ وتمتصَّ منها ما تشاءُ وتبتَلِعَ ما تشاءُ، والعميدُ يُحِسُّ بجفافِ ريقِه يزدادُ، وحنَجْرَتُهُ تتّسع وتزدادُ قدرتُها على الرنينِ وكأنّها


*95*

تستعدُّ لإطلاقِ صرخةِ العُمرِ، وعرقٌ غريبٌ ذو رائحةٍ نفّاذةٍ لم يَشُمَّها من سنينَ ينبُتُ تحتَ إبطيْه، وعَرَقٌ آخرُ أكثرُ غزارةً يبلِّلُ وجهَهُ ويضبِّبُ زجاجَ نظّارتِهِ حتّى ليُخرِجُ مِنديلَه بسرعةِ المحمومِ ويمسَحَ زجاجَها لكي لا ينقطِعَ أبدًا إبصارُه، والدنيا حافلةٌ بمؤامرةِ صمتٍ تامٍّ، سكونٍ غريبٍ لا يمكنُ أن يكونَ إلّا بِفعلِ قوّةٍ خارجيّةٍ قاهرةٍ، سكونٍ مُركَّزٍ في تلك البقعةِ من الفِناءِ الخلفيِّ، سكونٍ ليسَ خارجَهُ سوى العدمِ، سكونِ عالمٍ خالٍ من الحيلةِ تمامًا ليس فيه حياةٌ سِواه وسِواها. هي في أقصى درجاتِ الاستمتاعِ، وهو في أقصى درجاتِ الانفعالِ وبينَهما، تفصلُهُما تمامًا، وتربطُهُما تمامًا، تلك السيجارةُ.

والحياةُ تبدو حُلوةً جدًّا، كلُّ لحظةٍ فيها عُمْرٌ بأكملِهِ، وإرادتُه قادرةٌ على اكتساحِ الجَبَلِ، ولا شيءَ في الوُجودِ مستحيلٌ ولن يرضى بأقلَّ من أجمَلِ وأغنى بناتِ العالمِ زوجةً له، وخمسُ سنواتٍ فقط يصبحُ فيها أعظمَ علماءِ مصرَ بل الشَرقِ والغربِ معًا، وماذا تكونُ جائزةُ نوبلَ مكافأةً له؟ وحقيقةً، ما هذه الحزازاتُ (حزازات: عداوات، ضغائن. جمع حزازة، والحزازة: الألم الذي يحزُّ في القلب) بينَهُ وبين المديرِ أليس هو أكبرَ منها وأقدرَ بكثير؟ ولماذا الحزنُ والمرارةُ لكلِّ ما فاتَ والآتي أروعُ منه بكثير؟ ولماذا التعنُّتُ (التعنُّت: المعاندة، التعصّب في الرأي) مع أستاذِ القسمِ المساعدِ؟ لماذا لا يُعطيه الفرصةَ؟ إنّه شابٌ ومن حقِّهِ أن يطمحَ إلى كرسيِّ الأستاذِ المشاكلُ نحنُ بخلُقُها حينَ نفتقرُ إلى التفاؤلِ، والتفاؤلُ هو الإرادةُ، وبالإرادةِ القويِّةِ تصبِحُ الحياةُ كالبساطِ الممَهَّدِ، بساطِ الريحِ عِشْ واضحَكْ وامرَحْ واطلُبِ القمرَ يأتِكَ أرِدْهُ إرادَةً قويَّةً حقيقيَّةً يأتِكَ وكلُّهُ كلُّ ما في الحياةِ آتٍ لا ريبَ فيه.

واقترَبَتِ السيجارةُ من نهايتِها، وتلاحَقَتْ أنفاسُ الفتاةِ في صُعودِ القِمَّةِ ومَضَى جسدُها يتهدَّجُ وقد أصبحَ كلُّهُ صدرًا يلهثُ وشِفاهًا بدأت من الجُرعاتِ المُتلاحقَةِ ترتَعِش وتضطَربُ، اضطرابَ الحُمّى، حُمّى شمِلتْهُ هو كلَّه واليُنبوعُ الخفِيُّ فيه يتفجّرُ بأقصى قوَّتِهِ ويصلُ به إلى قمَّةِ الانفعالِ تلك الّتي ينتَفي معَها الزَمنُ، ولو للحَظاتٍ يتوقَّفُ يغرُبُ إلى ما وراءَ الإدراكِ، ويُصبِحُ الحاضِرُ مجرَّدَ لونٍ، لونٍ أحمَرَ مُدَمَّمٍ في لونِ الشَفَق.

وأخَذَتٍ الفتاةُ من السيجارَةِ الّتي كانت نارُها تُحرِقُ الأصابعَ نَفَسًا كآخِرِ شَهقَةٍ. ثمّ سَكَنَت تمامًا وكأنّما غابَت عن الوُجودِ ومن بين إصبعيْها اللّذيْنَ انفرَجَا استرخاءً انفلتَتْ بَقيَّةُ السِيجارةِ،


*96*

واستقرَّت ذابلةً ممصوصَةً مُغَضَّنَةً (مُغَضَّنَة: مثنيّة، مُجعَّدَة) على الأرض.

وأحسَّ العميدُ بعدَ الرُعودِ والانفجاراتِ والحُمّى بسلامٍ مُفاجئٍ مُمتَدٍّ كأنّه سيبقى إلى الأبَدِ، يشملُهُ ويجعلُهً يتَمَنّى أن يكفَّ الكوْنُ عن حركَتِهِ لتبقى اللحظةُ في ديمومَةٍ لا تنتهي.

ولكنّ الديمومةَ انتهت؛ فَلأَمْرٍ ما بَدَت الفتاةُ وكأنّ العيونَ المُستترَةَ الّتي تُحِسُّ الخطرَ دونَ أن تراهُ قد أدركَتْ شيئًا، فقد ضمَّت جَفنيْها بشِدَّةٍ ثمّ فتحَتْهُما على آخرِهما ليلتقِيَا، هكذا كالطَلقةِ المُصَوَّبَةِ بدقَّةٍ، بِعَيْنَيِ العَميدِ في تطلُّعِهِما من خلفِ زُجاجِ النظّارة.

وللازَمَنٍ التقَتِ النَظَراتُ، ولكنّهُ لم يكن لقاءً ولا وقتًا ولا شيئًا يُقاسُ، كان ارتطامًا، سُقوطًا من حالِقِ (حالقِ: المكان المرتفع، الأعلى) ربّما، ماءً باردًا كالثَلجِ، بُرودَةَ الواقِعِ الّذي ترتَجِفُ لهَوْلِهِ المَدارِكُ (المَدارك: الحواسّ) الثَلجِ الصاعِقِ.

وتَكهْرَبَت النَظرَتان بخجلٍ، لا قِبَلَ (لا قِبَلَ: لا طاقةَ، لا قُدرةَ) لِأيِّهِما، خجَلٍ سريعٍ مُغوِّرٍ (مُغوِّر: عميق)، جارحٍ.

وفي جزَعَ هائلٍ انتفضَتِ الفتاةُ جالسةً وقد غاصَ قلبُها وبِيَدٍ ترتَجِفُ بالرُعبِ دَلَقَت (دَلَقَ الشيء: أخرجه) كلَّ مُحتويَاتِ حقيبتِها لتستَخْرِجَ في لمْحِ البَصَرِ كتابًا، تعودُ معَه تنْكَبُّ (تنْكَبُّ: تقبل عليه، تنشغل به)، كالطالبةِ المُجتهدةِ على صَفَحَاتِه.

وكانت حَرَكتُهُ ليعودَ عميدًا أبطَأَ ممزوجةً بخجلٍ أعظَمَ وبتأنيبٍ أشَدَّ هَوْلًا، وتحرَّكَ خافِضَ البَصَرِ طويلًا نحيلًا عجوزًا محنِيَّ الأكتافِ حامِلًا مَتاعِبَ الدُنيا كلَّها من جديدٍ، وليس في رأسِهِ واضحًا سِوى الواجِبِ، وما لا بُدَّ من عَملِهِ والدائرَةِ البيْضاءِ المَلساءِ الصغيرةِ فوقَ مكتبِهِ، والعِقابِ.

وبإصبعٍ عادَت إليها كلُّ عصبيَّتِهَا وكأنَّما تمتَدُّ من صدرٍ ضاقَ بالدُنيا، ضغَطَ على زِرِّ الجَرَس.

ولكنَّ إصبعَهُ كانت لا تزالُ بها بقيَّةٌ من ارتِعاشٍ، ارتعاشٍ ليس الكِبَرُ أو الضَغطُ سبَبَهُ.

ديسمبر 1962

لغة الآي أي.


*97*

مفاتيح النصّ:

أزمةُ الجنس، التداعي وتيّارُ الشعور، التحوّل النفسيّ الداخليّ في شخصيّةِ المُديرِ، التناقضُ والتقابلُ بينَ عناصِرِ الصراعِ (شخصيّة الفتاة والمُدير)، مميّزات اللغةِ والأسلوبِ القصصيّ.

مهامّ:

1. عَدِّد الأبعادَ الاجتماعيّةَ والثقافيّةَ الّتي تنطبعُ عليها شخصيّةُ العَميد.

2. ما هو الصراعُ الّذي نَشَبَ في نفسِ العميد؟ عيّن بعضَ الجُمَلِ الّتي تدلُّ على ذلك.

3. قارِن بينَ شخصيّةِ الفتاةِ وشخصيّةِ العميدِ من حيث الميزات الخارجيّة والداخليّة.

4. تعتمدُ القصّةُ على توظيفِ الحواسِّ الخمسِ في صُوَرٍ حسّيّةٍ تثيرُ خيالَ القارئِ وفكرَه. مثَلْ لِكلِّ حاسةٍ بجملٍ وتعابيرَ مناسبةٍ من النصِّ تدعمُ ذلكَ.

5. أيّ من التيارين انتصرَ في النهاية: التربيةُ وتقاليدُ المجتمعِ أم الفكرُ التحرَريُّ ومنطقُ التحضُّرِ؟

6. تتبَّعِ البناءَ الفنّيِّ للقصّةِ وَفقَ الشكلِ الكلاسيكيّ: البداية، التأزّم، النهاية.

7. ما نوعُ الراوي في القصّةِ؟ اِشرحْ.

8. ما الأسلوبُ الفنّيُّ الّذي وظّفَه الكاتبُ في جملةِ (عِش واضحكْ وامرحْ واطلبِ القمرَ يأتِك أرِده إرادةً قويَّةً حقيقيّةً يأتِكَ وكلُّه كلُّ ما في الحياةِ آتٍ لا ريبَ فيه)؟ بيّن ميزتيْن من ميزاتِهِ.

9. يُقال إنّ يوسف إدريس (قد كسر التابو اللغويَّ باستخدامِه الخاصِّ للعاميّةِ في الأدبِ). ما معنى هذا؟ وما الغرضُ من توظيفِ العاميّةِ في النصّ برأيك؟

10. ما موقفُكَ مِنْ شخصيّةِ الفتاةِ والنموذجِ التحرَريِّ الذي تمثّلُهُ؟


*98*

11. صِفْ مكانَ وجودِ كُلِّ مِنَ العميدِ والفتاةِ شارِحًا أَهمّيّةَ هذا المكانِ في دلالةِ القصّةِ.

12. ما هي دلالةُ العنوانِ حالة تلبّس؟ ومن هو المضبوطُ متلبّسًا في رأيك؟ علّل.

13. تظهرُ شخصيّةُ العميدِ في بدايةِ القصّةِ بثلاثةِ أدوارٍ، عيّنها. وما الدورُ الأكثرُ تأثيرًا على أحداثِ القصّةِ؟ علّل.

14. كيف تنعكسُ أزمةُ الجنسِ لدى كُلُّ منَ العميدِ والفتاةِ من خلالِ القصّةِ؟

15. يستخدمُ يوسف إدريس في القصة ما يسمى تبثير الحدث الداخليّ اِشرحْ ذلك مستعينًا بأهمّ الأساليبِ الفنّيّةِ التي وظّفها إدريس لخدمة هذا التبثير.

16. اِشرحْ أُسلوبَ الوصفِ التصويريّ في القصّةِ من خلالِ مثالينِ. ما الهدفُ من استخدامِ إدريس لهذا الأسلوبِ؟


*99*

التمرين الأول - يوسف إدريس


*99*

يوسف إدريس

كانَ عجيبًا هذا الإحساسُ المفاجِئُ الّذي أصابَ طَلَبَةَ (ثالثَة رابِع) (ثالثَة رابعِ: أي: ثالث د (محكيّة مصريّة)) وجعَلهُم يستمرّون في أداءِ التمريناتِ الرياضيّةِ بعدَ انتهاءِ الحِصَّةِ وأيضًا أثناءَ الفُسحةِ (الفُسحة: الأستراحة ما بين الحصص (محكيّة مصريّة)) الّتي بين الحصّتين ثمّ يأخُذونَ خمسَ دقائقَ أُخرى من الحصَّةِ التاليةِ.

كانَ هذا عجيبًا، إذ طَوالَ أيّام الدِراسةِ كانت أُمْنيَةُ كلٍّ منهُم أن يصحُوَ من نومِهِ فيجدَ المدرسةَ قد نسَفَها طوربيدٌ (طوربيد: قذيفة ضخمة تطلقها غوّاصة أو زورق أو طائرة على سفن العدّو أو مواقعه، مُصمَّمة للانفجار عند التلامس أو عند مجاورة الهدف) أو ابتلَعَها بُركانٌ.

كانوا، كغيرهِم من الطلَبَةِ، يكرهُون المدرسةَ كُرهًا لا يعرفونَ له سببًا، ويبدأُ ذلك الكُرهُ مع بَدءِ كلِّ يومٍ، بل قبلَ أن يبدأَ اليومُ. فالطَالِبُ لا يستيقظُ من نومِهِ إلّا مقروضًا أو معضوضًا أو مطروحًا أرضًا، ثمّ يُدفعُ إلى المدرسةِ دفعًا، ودائمًا في وداعِهِ شيءٌ دعوةٌ عليه، شتمَةٌ، أو فردةُ شِبشِبٍ. وينسلُّ إلى الشارِعِ ويظلُّ يجرِي ويجرِي مُلتصِقًا بعمودِ تِرام (تِرام: مركبة عامّة تسير بالكهرباء على قُضبان حديديّة في المدن وضواحيها) أو مُهَرْوِلًا فوقَ رصيفٍ، والشتاءُ باردٌ والصُبحُ أَبْرَدُ أبرَدُ من الحِصَصِ الإضافِيَّةِ، والرُعبُ يملأُ قلبهُ مخافَةَ أن يصِلَ مُتأخِّرًا ويجدَ بابَ المدرسَةِ مُغلقًا ويضيعَ اليومُ، ويُقَيَّدَ غائِبًا ويروحَ في داهِيَةٍ (يروح في داهِيَةِ: الداهِية: المُصيبة. أي: يقع في مصيبة).

وما يكاُد يصلُ إلى المدرسَةِ ويجدُها قد امتَلَأَت بالأشباحِ المَقرورَةِ (المَقرورَة: الباردة) من أمثالِهِ الّتي تَبحَثُ عن الشَمسِ، فالشَمسُ ليست مثلَهُم، تلميذةٌ في مدرسةٍ؛ إنّها لا تصحُو ولا تُضيءُ صباحَ


*100*

الشِتاءِ إلَا في العاشرةِ أو ما بعدَها. ما يكادُ يصِلُ وما تكادُ المدرسةُ تفتَحُ ذراعيْها وتضمُّ تلك المجموعَةَ الضَخمَةَ من الفِتيانِ، وما تكادُ جُدرانُها تَهُبُّ من رُقادِها (رُقادها: نومها) الطويلِ الوحيدِ وتُشاركُ الطَلَبَةَ مَرَحَهُم وتردِّدُ لهم أصواتَ زعيقِهِم وضَحِكاتِهِم، ويتَلَمَّظُ (يتَلَمَّظ: يتذوّق) حَصى الفِناءِ (الفِناء: ساحة المدرسة (أو البيت)) مُنَتَشِيًا (مًنتَشيًا: فرحًا، يتملَّكُهُ السّرور) وهو يستقبلُ الأقدامَ الصَغيرةَ الشَابَّةَ ويلثِمُها (يلثُمها: يقَبّلُها) وقد طالَ شوقُهُ إليها وما تكادُ الأشجارُ تُهَفْهِفُ (تُهَفْهِفُ: تميلُ) بأوراقِهَا وتُشَقْشِقُ (تُشَقْشِق: تهدِرُ، تُصدر صوتًا) سعيدةً بِجَرْيِ (جَرْيٌ: رَكْض، عَدْوٌ) الطَلَبةِ حولَها وجَذْبِ، شُعورِها وأغصانِها ولا تتألَّمُ حتّى حين يَحفِرون أسماءَهُم عليْها، ما يكادُ الطَلَبةُ يُحِسّوَن أنّهم كائناتٌ حيِّةٌ لها أمانٍ ورَغَباتٌ وأحلامٌ وأحاديثُ، ما يكادُ هذا يحدُثُ حتّى يُدَقَّ الجرسُ تِتِمّ تِتِمّ تِتِمّ.

وفي الحالِ تَهمَدُ (تَهمَدُ: تسكُنُ، تسكتُ) الحركَةُ وتَخرَسُ الألسِنَةُ وتتجمَّدُ الرَغَبات. إذ ما يكادُ الجرسُ يُدَقُّ حتّى يُغلَقَ البابُ بابٌ لا بدَّ ضَخمٌ متينٌ كأبوابِ السُجونِ. يكادُ البابُ يُغلَقُ حتّى يَفطَنَ الطَلَبةُ إلى وجودِ السُورِ سورٍ لا بدّ عالٍ هو الآخرُ، ومُزَوَّدٍ بالأسلاكِ الشائكَةِ إن أمكَنَ.

ومع دَقَّةٍ أُخرى من الجَرَسِ يزحفُونَ صَوْبَ مكانِ الطابورِ (الطابور: الصفّ، اصطفاف الطّلاب صباحًا) مُطأطِئِي الرؤوسِ وقد تضاءِلَت أمانيهِم وانكمَشَت، وأصبحَ الواحِدُ منهُم مُجرَّدَ تَختَة (تَختَة: مقعد خشبيّ يجلس عليه التلاميذ في المدارس، (أو السَبُّورة وهو لوح كبير يعلَّق على الحائط، يكتب عليه) أو دَوّايَة (دَوّاية: عُبُوّة الحبر لتعبئة قلم الحبر (محكيّة مصريّة) أو قلم بَسْطٍ (قلم بَسْطٍ: قلم الرصاص (محكيّة مصريّة) رخيصٍ عليه أن يكتُبَ يكتُبَ ولا ينقِصفَ سنُّه (ينقصِفَ سِنُّهُ: ينكسر طرفُه المُحدَّد، المُدَبّب) أبدًا.

تلك التمتمات (التمتمات: كلمات غير مفهومة) الثلاثُ كانت تعنِي أنّ اليومَ الِدراسِيَّ قد ابتدَأَ، وويْلُهُم من اليومِ الدِراسيِّ حينَ يبتدِئُ! حتّى الجرَسُ اّلذي يُبدأُ به اليومُ، جرسٌ كالِحٌ (كالحٌ: شديد العُبوس) قديمٌ عليه صدَأٌ أزرَقُ، وله بُلبُلَةٌ (بُلبُلةٌ: لسان الجرس، قطعة معدنيّة تدقّ في جدار الجرس الداخليّ)


*101*

أضخَمُ مِن حجمِهِ، واقفةٌ في وَسطِهِ كما تقفُ اللُقمةُ في الزَوْرِ. حتّى صوتُ الدَقّاتِ يَخرُجُ وفيه من الأنينِ أضعافُ ما فيه من رنينٍ، أنينٍ يعلوهُ الصَدَأ هو الآخرُ صدأٌ أزرقُ كالحٌ كثيبٌ.

حتّى الفَرّاشُ (الفَرّاشُ: عامل النظافة (محكيّة مصريّة)) الّذي يدُقُّ الجرَسَ لا بدَّ أن يكونَ عَجوزًا خطيرَ الملامِحِ، ولا بدَّ أن يكونَ له شاربٌ كثٌّ (كثّ: كثيف) يُخيفُ، ولا بدَّ أنّه يُحِسُّ أنّه نابُليون (نابُليون: قائد عسكريّ شهير. إمبراطور فرنسا. عاش أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. ويرتبط اسمه بالحملة الفرنسيّة على مصر وبلاد الشام) زمانِهِ أو إسرافيل (إسرافيل: أحد الملائكة، وهو المُوكَّل بالنفخ في الصور يوم القيامة لإعلان قيام الساعة) عصرِهِ وأوانِهِ، ولا بدَّ له ساعَةٌ أخطرُ من أيَّةِ ساعةٍ في الدُنيا هي الّتي تُحرِّكُ عقاربُها المدرسَةَ كلَّها، ولهذا لا بدَّ لها من مِخلاةٍ (مِخلاة: كيس يحوي لوازم الشخص) سوداءَ صغيرةٍ يضعُها فيها مبالغَةً في الحِرْصِ عليها، ولا بدَّ أن تجدَه واقفًا تحتَ الجرَسِ ينتظرُ، مُمسِكًا بالساعَةِ مُحدَّقًا فيها، حريصًا عليها في يدِهِ كلَّ الحِرصِ، وكأنَّها قُنبلَةٌ زمنيَّةٌ إذا حرَّكَها ستنفجِرُ. وقبل أن يَحينَ الحَيْنُ (الحَيْنُ: الهلاك، الموت) يَقبِضُ على سلسلَةِ الجرَسِ سلسلةٍ لا بدَّ قديمَةٍ أو موصولةٍ بدوبارَةٍ (بدوبارَةٍ: خيط سميك من الكِتّان ونحوه، يُخاط به أو يُشَدّ)، ثمّ تأتي اللَحظةُ فيجذِبُ السِلسِلَةَ، يجذبُها بِتُؤَدَةٍ (تُؤَدَة: تَأَنٍّ، تمهُّل) وثِقْلٍ وكأنّه يُفرِغُ الحِكمَةَ العُليا في تمتماتِهِ الثَلاتِ.

وأوَّل ما يُسمَعُ بعدَ الجرَسِ من الأصواتِ هو:

- اخرَسْ بَطَّلْ كَلام.

وبهذا الأمرِ تُقطَعُ كلُّ صِلَةٍ للطَلَبةِ بأنفُسِهِم ويخرَسُون، ويبدأُ المدرِّسون الّذين يفتِّشون على الطابورِ في الكَلامِ، ويخرُجُ كلامُهُم طازَجًا على الصُبحِ ومُنتَقَيًا بعنايَةٍ بحيثُ لا تَنْتَدَسُّ (تَنْتَدَسُّ: تتسَرَّبُ، تتَسلّل خفيةٌ) بينَه أبدًا كلمَةٌ حُلوةٌ، يُفرِغُون فيه كلَّ ضيقِهِم باليوم الّذي أصبَحُوا فيه مُدرَّسين، وبالمِهنةِ الصَعبةِ الّتي اختاروها لأكلِ العَيْشِ (أكلِ العَيْشِ: العيش: الخبز (محكيّة مصريّة)، أي: الرزق)، وينتقمونَ من مَشاكِلِ الكادِرِ (الكادِرِ: طاقم المعلّمين) والأمْسِ وشتائِمِ الحَماةِ ومَرَضِ الطِفلِ وارتفاعِ أسعارِ الصُوف.


*102*

ثمّ يظهَرُ الناظِرُ.

يُطِلُّ على الطّابورِ الصامِتِ بوجهٍ لا صَباحَ فيه ولا خَيْرَ يُحدِّقُ (يُحدِّقُ: يمعن النّظر، يركّز فيه) في الطَلبَةِ فيموتُ الطَلَبَةُ، وفي المُدرِّسينَ فينْكَمِشُ (فينْكَمِشُ: يتقلّص، ينطوي على نفسه) المدرِّسون، وفي الصَمتِ فيقْشَعِرُّ الصَمتُ.

ولا بدَّ أن تكونَ لدى الناظِرِ مفاجأةٌ لا بدَّ لها من مقدِّمَةِ شتائِمَ طويلةٍ، ثمّ حديثٍ عن النِظامِ مَثَلًا، وكيفَ أنَّكَ لكي تدخُلَ الجَنَّةَ إذا أردتَ دُخولَ الجنَّةِ فعليك أن تبدَأَ السَيرَ في الطَابورِ بالسَاقِ اليُمنى، وأن تسيرَ اثنيْن اثنيْن، وكيف أنّه لكي تَحُلَّ مسألَةَ الجَبْرِ لا بدَّ أن ترتِّبُ ملابِسَكَ بنسِكَ في دولابِكَ الخاصِّ، وكأنّ لدى كلِّ طالبٍ ملابسَهُ الخاصَّةَ بل ودولابَهُ الخاصَّ.

أو يتحدَّثُ عن الطالِبِ الّذي ضُبِطَ وهو يسرِقُ البَيْضَ من المطعَمِ، وأحيانًا لا يكتفي بالحديثِ فيخرِجُ الطالبَ نفسَهُ ليُرِيَهُ للجميعِ، ويجعلَ منه أُمثولَةً (أُمثولَةً: درس، عِبرة، عِظة) وعبرَةً.

أو يُنبِّهُ تنبيهًا صارِمًا قاطِعًا أنَّ كلَّ مَن لم يدفَعِ المَصَاريفَ عليه بمغادَرَةِ الطابورِ، ومِن ثمّ المَدرسَةِ كلِّها فب الحالِ.

ووجْهُهُ طِوالَ حديثِ الصَباحِ جامِدٌ عابسٌ. والطَلَبةُ واقفوُن الدقائِقَ الطِوالَ كالخَشَبِ الخائِفَةِ المُسنَّدَةِ لا يعرفون سببًا لذلك الرُعبِ المُفاجِئِ، ولا سِرًّا للعُبُوسِ الشَديدِ في وجهِ الناظِرِ، هل ماتَ لهُ قريب؟! غيرُ معقولٍ هذا، فهو كلَّ يومٍ عابسٌ وليس معقولًا أن يموتَ له كلَّ يومٍ قريبٌ، عسى أن يموتَ له كلَّ يومٍ قريبٌ!

ثمّ يدورُ الطابُور إلى اليمينِ أخيرًا وإلى اليسارِ، وكلٌّ يبتلِعُ ريقَهُ ويَتحسَّسُ رقبتَهُ ويتنَفَّسُ الصُعداءَ فقد نَفَذَ (نَفَذَ: جاوَزَ) هذه المرّةَ ولم يكُن الطالبَ، الّذي سرَقَ البَيْضَ، ولم يُخطِئ ويبْدَأِ المَشيَ بالساقِ اليُسرى، ولكنْ تراهُ كيف يَنفُدُ في المرّاتِ القادمَةِ؟

ومن خِلال مَمَرّاتٍ كئيبَةٍ طويلَةٍ مُتشابِهةٍ يدلِفُون (يدلِفُون: يتّجهون، يسيرون) إلى الفُصولِ فصولٍ مُكرَّرةٍ، حيطانُها طويلةٌ هيفاءُ عاليةٌ، ولونُها تُصِرُّ الوزارةُ على اختيارِهِ حِشمَةٌ ليَنظُرَ إليه النَاظِرُ ويُرسِيَ في قلبِهِ الوَقارَ.


*103*

وما تكادُ الحياةُ تَدِبُّ في الفصلِ وتتحرَّكُ التُخَتُ (التُخَت: الطاولات) والمَقاعِدُ ويذهب عنها الروماتيزم (الروماتيزم: داءٌ يُصيبُ العَضَلاتِ والْمَفاصِل) الّذي يُصيُب مفاصِلَها كلَّ ليلٍ، حتّى يُقبِلَ المُدرِّسُ فجأةً، لا بدَّ أن يُقبِلَ المُدرِّسُ فجأةً - وكأنّه ضابطُ مَباحِثَ (ضابطُ مَباحِثَ: محقّق، شرطيّ يعمل في قطاع البحث الجنائي) في طريقِهِ إلى ضبْطِ واقعَةٍ (واقعَة: مُصيبة) - لعلَّهُ يَسعَدُ ويُحِسُّ السُلطَةِ حين يُحدِثُ ظهورُهُ المُفاجئُ سُكوتًا مُفاجِئًا، يُقبِلُ ولا ينفرِجُ وجهُه مَخافةَ أن تَضيعَ الهَيْبَةُ.

- قِيام!

وإذا بالفَصلِ كلَّهِ يتَلكَّأُ (يتَلكَّأُ: يتباطأ) ويقومُ، ولا يدري لماذا يقومُ.

ويُحدِّقُ المُدَرِّسُ طويلًا في تلاميذِهِ وكأنَّهم يُحرِزُون (يُحرِزُون: يخبّئون، يدّخرون) مَوادَّ ممنوعَةً وهو يُفتِّشُهُم بعينيْه تفتيشًا دقيقًا. فإذا عثَر على الهَفْوَةِ (الهَفْوَةِ: الزلة، السقطةِ) كانَ بها، وإلّا فإنّه يقولُ:

- جُلوس!

يقولُها قَرفانًا وكأنّه يمُنُّ عليهِم بفضلٍ (يمُنُّ عليه بفضلٍ: يتفضّل عليه، يستكثر عليه الإحسان) من عنِدِه.

وتتَوَالى (تَتَوالى: تَتَتَابع) الحصصُ ويتوالى المدرِّسون وكلٌّ منهُم كالجِهازِ المُعَبَّأِ الّذي يُفرِغُ شِحْنتَه بمِقدارٍ، إذ هو الآخرُ ليس أكثرَ من مُوظَّفِ حُكومةٍ له عملٌ يؤدّيه ثمّ يمضِي. وكلُّ ما يسمعُهُ الطَلَبَةُ أوامرُ تُترى (تُترى: تَتَتابع، تَتَتالى)، وأشياءُ غريبةٌ تَخرِقُ أسماعَهُم وتتفَجَّرُ كالصَواريخِ في عقولِهِم. سَمِّعْ يا ولد ما قالَهُ الكُميْتُ (الكميْتُ بن زيد الاسديّ: شاعر عربيّ شعراء العصر الأمويّ) في وصفِ ناقتِهِ اذكُرْ ثلاثين شرْطًا من شُروطِ الصُلحِ في معاهدة واقِ الواقٍ (واقِ الواقِ: هي مجموعة من الجُزُر تمّ ذكرُها في كتب التراث العربيّة القديمة، لكن ليس هناك دليل على ما إذا كانت خياليّة أم حقيقيّة. تُحدّدُ أغلبُ الكتب موقعَها في بحر الصين أو بحر الهند)، وإذا نَسيتَ شرطًا فبِعَصايةٍ. ما اسمُ البلادِ الّتي تَزرعُ الشُوفان (الشوفان: نبات عُشبيّ يُزرع ويُتّخذ عَلَفًا للماشية) (والمدرِّسُ نفسُهُ لا يعرفُ ما هو الشُوفان). تخيَّلْ أنّك على خطّ عرضِ 23 وتريدُ أن تسافِرَ إلى خطِّ 85 بطريقِ البَرِّ فأيَّ


*104*

الطُرُقِ تسلُكُ؟ أعرِبْ أَبَيْتُ اللَعنَ، ما هي حالةُ الطوارِئِ الّتي يَصِحُّ فيها رفعُ المُستثنى بإلّا؟ تكلّمْ على لسانِ طائرةٍ تُريدُ أن تُفاخِرَ السيّارةَ وتَتِيهَ عليها فماذا تقولُ؟

ومع توالِي الحصَصِ وتنَوُّعِ الدُروسِ تتنوَّعُ الشتائِمُ وتتنوَّعُ كذلك لغتُها، فهناكَ شتائِمُ فرنسيّةُ رقيقَةٌ، وشتائمُ نَحْوِيَّةٌ فُصحى، وشتائمُ كيميائيَّةٌ مُركَّبَةٌ ومخلوطَةٌ، وأقلُّ ما فيها: نزِّلْ إيدك يا ولد. وِشَّكْ (وشَّكْ: أي وجهك (محكيّة مصريّة)) في الحِيط يا أحمق. اطلَعْ برَّه يا صُعلوك. التفِتْ يا لُوح. حُلَّ المَسألَةَ يا أغبى مخاليق الله.

وأحيانًا يفيضُ الكيْلُ ولا يعودُ ثَمَّةَ بُدٌّ من المُواجهةِ السافرةِ فتنطَلِقُ الكلماتُ: ما تِنْحِرِق انتَ وهُوّ. اتْنَيِّلْ (اتْنَيِّلْ: (شتيمة بالمحكيّة المصريّة: أي أصابتك مصيبة)) يا شيخ. اِتْلهيِ (اِتْلهيِ: أي انصرف (محكيّة مصريّة)). اِنتُم تِنْفَعُوا اِنْتُم؟ اِنْتُمْ بَلاوِي (بَلاوي: أي بلايا، جمع بليّة، مصيبة (محكيّة مصريّة)). اِنْتُم رِمَمْ (رمَمْ: حُثالة، أوساخ). اِنْتُمْ جايِين هِنا ليه. اِنْتُمْ مالْكُمْ ومالِ المَدارِسْ رُوحُوا لِمُّوا سَبَارِسْ (لِمُّوا سَبَارِسْ: سَبارس: بقايا السجائر المُلقاة، يلمّها بعض الفتيان الفقراء من المدخّنين ليدخّنوا ما بقي منها. (محكيّة مصريّة)).

حتّى الكّرارِيسُ (الكَراريس: الدفاتر)، كانت هي الأُخرَى تُشاطِرُ (تُشاطِر: تُقاسم) الناظِرَ والمدرِّسينَ وجِلدتُها (جِلدتُها: غلافُها) مملوءةٌ بالأوامِرِ والنواهِي لا تبلَعِ الطَّعامَ. لا تَمضُغْ. لا تستنشِقِ الهَواءَ. لا تَمشِ. لا تَجلِسْ. لا تتحدَّثْ. عليكَ بالحِلْمِ. عليك بالطاعِة. عليك بإمساكِ نفسِكَ ساعَةَ الغضَبِ.

ورَغمَ هذا النِظامِ الصارِمِ، ورغمَ أنّ المدرسَةَ كانت على حدَّ قوْلِ الناظِرِ تَمشِي كالساعةِ، ونسبَةُ الحُضُورِ أعلى النِسَب، وأحذيةُ الطَلَبةِ كلُّها تلمعُ، والحُوْشُ الواسِعُ خالٍ تمامًا من الأوراقِ. ورَغمَ أنّ الأولادَ - على حدِّ قولِ أولياءِ الأُمورِ - كانُوا لا يلعبُون، ويذاكِرُون، إذ هُم واقِفون لهم بالمِرصادِ، ما تكادُ المدرسةُ تتْرُكُهُم حتّى يتَسَلَّمَهُم الأولياءُ، والويْلُ للتلميذِ إذا تأخَّرَ بَرَّه أو لم يقضِ الساعاتِ، مُنْكَبًّا (مُنْكَبًّا: مشغولًا، مقبلًا عليه) على كُتٌبٍهٍ يَتْلو (يَتْلو: يقرأ) ويُذاكِر (يُذاكِر: يدرس (محكيّة مصريّة)). رغم هذا إلّا أنّ الطَلَبَةَ


*105*

كانوا لا ينجَحُون، ويفشَلُون بالمِئاتِ والعَشَراتِ، ويُقابِلون الدراسةَ باستِهتارِ، وينامُون، في الحِصَصِ، وإن واتاهُمُ (واتاهُمُ: طاوَعَهم) الأَرَقُ (الأرَق: السهر، الامتناع عن النوم) أقامُوا حَفَلاتِ ترفيهِ، وتبادَلُوا القَرْصَات والزَغْداتِ (الزَغْداتِ: التحرُّشات) والضَرْبَ على القَفَا، وكتابَةَ الخِطاباتِ المَملوءَةِ بالشَتائِمِ، وتكوينَ العِصاباتِ وشُربَ السَجَائرِ وسَبَّ المُدرِسِين، ومُزاوَلَة (مُزاوَلة: ممارسة) العاداتِ في السِرِّ والعَلَنِ.

وكانَ الطَلَبةُ أيضًا ورَغمَ كلِّ شيءٍ يتساءلُون همُ الآخرون لماذا يرسُبُون؟ ولماذا يكرَهُون المدرسَة؟ ولماذا يُعاكِسون المدرِّسين؟ ولماذا يَقضُون أتعسَ الأوقاتِ مع أنَّهم يَسمَعُونَ الناسَ تقول إنّ أحلى أيّامِ العُمْرِ هي أيّامُ الدراسَةِ؟

كان الناظِرُ والمدرِّسون يُحاولون تفسيرَ الأمرِ ويقولون: إنّهم طَلَبةُ هذه الأيّامِ ومساخِرُهُم (أي أعمالهم الطائشة (محكيّة مصريّة)) وتفاهتُهُم.

وكانَ أولياءُ الأُمورٍ يقولون: هي حكمَةٌ الله الّذي يرزُقُ من يشاءُ بغيْرِ حسابٍ. وكانَ الطَلَبَةُ يقولون: بل هو الحظُّ، بضربةِ حظٍّ تنجَحُ، وبضربَةِ أخرى تَفشَلُ، يا ربّ كثيرًا من الحظِّ يا ربِ كثيرًا من الحظِّ.

ذاتَ يومٍ أُتيحَ لطَلَبةِ ثالِثَة رابع أن يمرُّوا بتجربَةٍ.

كان مُدرِّسُ الرياضةِ البدنيَّةِ عِملاقًا ضخْمًا رهيبًا، كَتِفُهُ تَهْدُّ الحَبَلَ وزِندُهُ في حجْمِ الفخذِ وقبضتُهُ تُحيلُ (تُحيلُ: تحوّل، تغيّر) الرُؤوسَ إلى جَماجِمَ، ولم يكن في حِصَّتِهِ مكانٌ للترفيهِ أو العبثِ. فقد كانَ طلبةُ ثالِثَة رابع كغيرِهِم من الفُصولِ يخافونَهُ، ويخافونَ إذا عَنَّ له (عَنَّ له: خطرَ في باله) لواحِدِ منهم أن يعبَثَ في حِصَّتِهِ ألّا يُرسِلَهُ كالعادةِ إلى المُشرِفِ (المُشرِف: المسؤول في المدرسة عن مجموعة صفوف أو طبقات) أو يُخرِجَهُ من الفصلِ مثلًا، وإنّما يتولّى (يتولّى: يلزم، يتحمّل مسؤوليّة) العقابَ بنفسِهِ وقد يتولّاه بقبضَتِهِ، والكَفُّ عن العبَثِ بالتَأكيدِ أسلَمُ نتيجَةً من عِقابٍ يتولّاه مُدرَّسُ الألعابِ بقبضَتِهِ.


*106*

كان يأتي، وقبلَ أن يدخُلَ الفصلَ (الفصل: الصفّ في المدرسة) يكونُ الفصلُ واقفًا كلُّهُ، وبإشارةٍ منه يَخرُجُ الطَلَبَةُ عن الأدْراجِ (الأدْراج: جمع دُرج، الطاولة في الصفّ)، وبإشارةٍ أُخرى يصطَفُّون ويهبِطُون السَلالِمَ دونَ أن ينبِسَ أحدٌ ببنتِ شَفَةٍ (دونَ أن ينبِسَ أحدٌ ببنتِ شَفَةٍ: بنت الشفة هي الكلمة، أي لا ينطبق بكلمة، يلتزم الصمت)، وفي سُكونٍ تامٍّ يخلعُون الجاكِتاتِ، ثمّ يتسلَّمُهُم العِملاقُ بتمريناتِهِ.

ثَنْيٌ. مَدٌّ. رَفْعٌ. ضَمٌّ. افتَحْ سِدْرَكْ. شِدّ وِسْطَك. اخبَطْ الأرض بِدْماغَكْ. وِشَّطْ فُوق. عايِزْ الجَرْمَة تِطَلَّع شَرَار.

وهكذا إلى نهاية الحِصَّة، حتّى تتدلّى الألسِنَةُ من الأفواهِ وتتجمَّعَ الرَغاوي (الرَغاوي: جمع رغوة، الزَبَد الذي يخرج من الفم) وتتشقَّقَ الحُلُوقُ وتتقطَّعَ الأنفاسُ، ولا يجرُؤُ واحدٌ أن يقولَ: آه أو لا.

عقلٌ سليمٌ جسمٌ سليمٌ، هكذا كان يقولُ. رياضَة يعنِي رياضَة. عايزين رِجّالَة مِش حَريم. دَلَعْ مِشْ عايزِ دلَعْ. كلِمَة واحْدة أقطُم رقَبْتَكْ (أقطُم رقَبْتَكْ: أقطعها (محكيّة مصريّة)). بُصّ قُدّامَك (بُصّ قُدّامَك: انظر أمامك (محكيّة مصريّة)). لِمِّ نَفْسَك. تخَشِّبْ. التمرين الأوّل. اِبْتِدِي.

وكانَ الطَلَبَةُ حين تنتَهِي الحِصَّةُ يقضُون بقيَّةَ اليوم في ترمِيمِ (ترميم: إصلاح) أنفسِهِم والْتِماسِ النَقاهَةِ، ويقضُون بقيّةَ الأُسبُوعِ في تَمَنَّ (تَمَنَّ: أمنية) أن ينسِفَ الطوربِيدُ مَدرستَهُم على الأقلِّ قبلَ حُلولِ حِصَّةِ الألعابِ التاليَةِ.

وفوجِئَ الطَلَبَةُ ذاتَ يومٍ بخَبَرِ نقْلِ مُدرِّبِ الألعابِ مَجيءِ مُدرِّسٍ جديدٍ. ولم يتحمَّسِ الطَلَبَةُ للخبَرِ فكلُّ المُدرِّسينَ كانُوا لديهِم سواءً كلُّهُم رجالٌ كِبارٌ حُكماءُ معصومون من الخَطَأِ وأذكياءُ جدًّا ومتعلِّمون بغزارَةٍ، وبعيدون عنْهُم تمامًا، هُم الصِغار الحَمْقى الجُهَلاءُ الّذين تكْمُنُ فيهِم كلُّ العُيوب والّذين لا يفعَلُون سِوى ارتكابِ الأخطاءِ تِلْوَ الأخطاءِ. وجاءَت حصَّةُ الرِياضَةِ البدنيَّةِ.

ودَخَلَ الحِصَّةَ شابٌّ لا لِحْيَةٌ لهُ ولا شارِبٌ، ولا يرتَديِ رِباطَ عُنُقٍ وأنّما وَضَعَ ياقَةَ (ياقَةَ: الطوق في أعلى الثوب، القَبَّة) القَميصِ


*107*

فوقَ ياقَةِ الجاكِتَّةِ وفَتَحَ صدرَهُ. وعادةُ المُدرَّسينَ أن تكونَ الياقَةُ مُنطَبِقَةً على العُنُقِ وعلى رِباطِ العُنُقِ تمامَ الانطِباقِ.

وغادرُوا الفصلَ وهبطُوا السَلالِمَ وخلَعُوا الجاكِتّاتِ، ووقَفُوا كَما كانُوا يقِفُون وراحُوا يُؤَدّون التمرينَ الأوَّلَ كما كانُوا يُؤدُّونَهُ أيَّام المُدرِّسِ السابِقِ.

غير أنَّهُ لم تكَدْ تمضِي دقيقةٌ واحدةٌ حتّى طَلَبَ منهُمُ المُدرِّسُ أن يتوَقَّفُوا. وفَعَلُوا هذا مُستغربين وقالَ المُدرِّسُ:

- اسمَعُوا يا جماعة أنا أحبّ الصرَاحَة واِنْتُم واضِحْ مِنْ حَرَكاتْكُم إنَّ ما عَنْدِكُوْش أيِّ حَمَاسْ لِلَّعْبْ. فَبْصَرَاحَة مِين فيكُمْ يِحِبّ يِلعَبْ؟ اللّي عايِزْ يِلعَبْ يِرْفَعْ إيدُه.

لم يَكُن المُدَرِّسُ نفسُهُ يعلَمُ ماذا دعاهُ لإلقاءِ هذا السُؤالِ لعلَّهُ خاطِرٌ عَنَّ له لعلّه لم يقصِدْ.

ورَفَعَ الطَلَبَةُ كلُّهُم أيْديَهُمْ مَخافَةَ أن تكونَ خِدعَةً مقصودًا بها كشفُ الّذين لا يُريدون، فمدرِّسُ الفَرنْساوِيّ عوَّدَهُم أن يبتسِمَ للواحِدِ منهُم وهو يُعطيهِ الزيرو (أي علامة الصفر (محكيّة مصريّة)).

- أنا لا أحِبّ الكذب أبدًا، وغير مَعقول إنّ كُلُّكُمْ عايْزينْ تِلعَبُوا. أنا أحِبّ العَلاقَة بيننا يكون أساسُها الصِدْقْ. اللّي عايِزْ يِلْعَبْ من فَضْلُكُمْ يِرْفَعْ إِيدُه.

بَدَا الأمرُ جِدًّا لا هَزْلَ فيه إنّ المُدرِّسَ يُريد حقيقةً أن يعرِفَ رأيّهُم وكان هذا غريبًا فهُم لم يعتادُوا أبدًا أن يُؤخَذَ رأيُّهُم في شيءٍ. إنَّهُم منذُ وُلِدُوا وثمَّةَ قُوّى تدفَعُهُم دَفْعًا لا يعرفونَ أين، ولا يسألُهُم أحدٌ ماذا يُحِبُّون أو ماذا يَكرهُون. كلُّ الناسِ تقولُ: هذا لمصلحتِهِم، ولا أحدَ يخطُرُ له أن يسألَهُم عن رأيِهِم في مصلحتِهِم.

ونظَرَ الطَلَبةُ يعضُهم إلى بعضٍ وتوَلّاهُم شيءٌ غيرُ قليلٍ من الاستهتارِ، ماذا يحدُثُ لقد سألَهُم رأيَهُم فلماذا لا يقولون الحقيقةَ؟

وأنزَلَ الطَلبَةُ كلُّهُم أيديَهُم، كلُّهُم ما عدا واحدًا أو اثنيْن من هؤلاءِ الطَلَبَةِ الّذين يقضُون العُمرَ خائِفِين من العقابِ، ومن احتمالاتِهِ. ولكنّهُم حين وَجَدُوا الكلَّ لا يُريدون أنزَلُوا أيدِيَهُم هُمُ الآخرونَ خوفًا من عِقابِ، الطَلَبَةِ لهُم هذه المرّة.


*108*

وعادتِ الابتسامةُ إلى وجهِ المدرّسِ وقال:

- برافو؟ أَهُو كِدَه أنا أحِبّ الصَراحَة.

برافو! لا بدَّ أنّ ذلك المُدرِّس مجنونٌ أو به هَفَّةٌ (هَفَّةٌ: خِفّة عقل) قالَ الطَلَبَةُ هذا لأنفسِهِم وهو يُحِسّونَ بفرحةٍ غامرةٍ وعيونُهُم تكادُ تدمَعُ. والحقيقةُ أنَّ لِفرحتِهِم كان سببٌ آخرُ، كانُوا وهم يتبادَلون النَظَراتِ ويُنزِلُون أيدِيَهُم يرتعشونَ من الخوفِ، فقد كانَ كلٌّ منهُم يُعبِّرُ عن رغبتِهِ وكانَ يُحِسُّ أنّه ارتكَبَ إثمًا عظيمًا، فإذا المسألةُ لا جريمَةَ فيها وإذا بالارتباكِ يزولُ وإذا بالفرحِ يعصِفُ بِهِم، فقد استطاعُوا آخِرَ الأمرِ أن يقولُوا شيئًا، يقولونَ لا ولا يُشنَقُون، فلا بدَّ أنَّ المُدرِّسَ مجنونٌ ولا بدَّ أنَّ به لَوْثَةً (لَوْثَة: مسّ الجنون).

وسَكَتَ المُدرِّسُ قليلًا ثمّ عادَ يقولُ:

- غريبَة! إجْماع رَهيب على كُرهِ الرِياضَة. ليه؟ أُمّالْ بَقِيِّةِ العُلُومْ بِتِكْرَهُوها ازّايْ؟

وتَطَوَّعَ أكثرُ من طالبٍ بالإجابةِ والتفسيرِ. وكانُوا يتحدّثون بنبراتٍ لا اضطرابَ فيها ولا وَجَل. كانت ثَمَّةَ ثقةٌ قد ملأتْ صُدورَهُم وأحسُّوا ربَّما لأوَّلِ مرَّةٍ أنّهم آدميّون لهُم الحقُّ في الكلامِ.

واندفَعَ ثلاثةُ طَلَبَةٍ أو أربعةٌ يطلبون اللَعِبَ، كانَ ما يدفعُهُم في الحقيقَةِ هو حماسُهُم للمدرِّسِ الشابِّ ذي الابتسامةِ، وليسَ رغبةً حقيقيّةً في مزاولَةِ اللعِبِ.

وقالَ المُدرِّسُ لبقيّة الطلبةِ وهو يضحكُ:

- افرنِقعُوا (افرنِقعُوا: تفرَّقوا).

وهلَّلَ الطَلَبةُ وكأنَّهُم أُفرِجَ عنهُم بعدَ طُول سجنٍ. ودُونَ وعْيٍ راحُوا يضحكون ويتعانقون ويتضارَبُون، وانسحبَت أقلَّيِّةٌ ضئيلةٌ إلى المِظَلَّةِ (المِظَلةِ: الشمسيّة، المكان الّذي يتجمّع فيه الطلّاب في ساحة المدرسة ويكون أسفل مِظلّة كبيرة) ورقَدَت على الدِكَكِ (الدِكَكِ: جمع دَكَة، مقْعد مستطيل من حجارة أو خشب يُجْلس عليه، عادة ما تستوعب طالبيْن بجانب بعضها) قائلةً: وآدِي نُومَه! وجرى طالبٌ وراءَ آخرَ وشَنْكَلَهُ (شَنْكَلَهُ: أي وضعَ رجله أمامه ليعرقلَه (محكيّة مصريّة)).


*109*

ووقفَتْ الأغلبيَّةُ وقد ارتدَت ستُراتِها تبادّلُ اللكَماتِ الخفيفَةَ، وتفرَّجُ على المدرِّسِ وهو يؤدّي التَمرينَ الأوّلَ مع المجموعةِ الصغيرةِ التي أرادتِ اللعبَ.

وقفُوا يتفرّجون بكلّ استهتار، يضحَكُون على المدرِّس وعلى الأخطاءِ الّتي يقعُ فيها زملاؤُهُم ويُدَردِشُون.

كانوا يُحِسّون بانتعاشٍ وكأنَّهم يشُمّون أيدروكسيد أمونيوم حديثَ التحضير أن يُحِسَّ الإنسانُ أنّه ليس مُرغمًا أن يكونَ في وسعِهِ ألّا يفعلَ، أن يصبِحَ في استطاعتِهِ أن يختارَ أشياءَ ما كانت تخطُرُ لهُم على بالٍ.

وحين كانُوا يصعدون السَلالِمَ بعد انتهاءِ الحِصَّةِ كانوا لا يزالون غيرَ مُصدِّقين أنّ ما حدَثَ كان حقيقةً، وأنّهم استطاعُوا ولو لمرّة واحدة في العُمرِ أن يَنفِدُوا من حِصَّةِ الألعابِ.

ومضى اليومُ ولا حديثَ لهم إلّا عن المُدرِّسِ الظريفِ الشابِّ الّذي أصابَهُ لوثَةٌ أنقذتْهُم من الرياضةِ والأشغالِ الشاقّةِ.

وطَوالَ الأسبوعِ ظلَّ كلٌّ منهم ينتَظِرُ في شغَفٍ (شغَف: الحُبّ الشديد) حُلولَ حِصَّةِ الألعابِ التاليةِ ليُعفَى من الألعابِ.

وجاءتِ الحِصَّةُ وجاء المدرِّسُ حليقًا مُبتسمًا وياقتُهُ مفتوحةٌ أيضًا. وقبل بدءِ التمرين الأوّل أكثَرَ من ابتسامتِهِ وقال:

- هيه يا جَماعة الّلي عاوِز يِلْعَبْ يِرْفَعْ صُباعُه.

ورفَعَت أقلّيّةٌ ضئيلةٌ أصابعَها. بينما وقفَتِ الأغلبيَّةُ في مكانِها لا ترفعُ أيديَها ولا تتحرَّكُ، وكلٌّ منهُم يُريد أن يعرفَ ما سوفَ يفعلُهُ الآخرون.

ولمّا طالَ الوُقوف قال طالبٌ لآخرَ وهو يدفَعُ عنه يدَهُ الّتي كانت قد امتدّت تهوشُهُ (يهوشُهُ: يخيفه دون أن يمسّه، التهويش: التهديد بالحركة دون المَساس بالشخص (محكيّة مصريّة)):

- أناحَ العَبْ يا عمّ.

وسَرَتْ همْهَمَةٌ (همْهَمَة: كلام خفيّ غير مسموع). تعالتْ ثمّ تبلوَرَت في رأيٍ:


*110*

- وإيه يعني؟ نَلعَبْ وإذا ما عَجَبْناشْ نِبَطَّلْ لِعْبْ. هُوَّ مِشْ قال كِدَه؟

وهكذا ارتفَعَت أصابعُ الأغلبيَةِ.

وما كادَت تمضِي دقيقَةٌ حتّى تثاءَبَ واحدٌ وقالَ:

- أنا تعْبتْ كفايَة بَأَه.

وانسحَبَ، ولكنَّهُ لم يذهَب بعيدًا بل وَقَفَ يتفَرَّجُ، وحين وَجَدَ أنَّ أحدًا لم يتبعْهُ تردَّدَ بُرهَةً، وتثاءَبَ مرَّة أُخرى ثمّ عادَ إلى مكانِهِ.

ولم يَنسَحِبْ بعدَهُ أحَدٌ. بل كلَّما أحَسَّ أحدُهُم أنّ في استطاعتِهِ أن يتوقّفَ إذا أرادَ، كلَّما أحسَّ بهذا ازدادَ حماسَةً وشعَرَ بِطاقاتٍ هائلَةٍ تنفجِرُ من جسدِهِ.

وبلَغَ التَنافُسُ أشُدَّهُ.

وتعالَت أصواتٌ تُهيبُ (تُهيب به: تدعوه، تطلب منه) بالمدرِّسِ أن ينتقلَ إلى تمرينٍ أعنفَ.

وانتهَتِ الحصَّةُ ودقَّ الجرَسُ والحماسُ لا يَفتُرُ (لا يَفتُر: لا يضعف، لا يسكن).

وتأخَّرَت ثالثة رابع عَشْرَ دقائِقَ في الحُوشِ (الحوش: ساحة المدرسة، حيث يتجمّع الطلّاب ويلعبون) بعد الحصّة.

ووقَفَ الناظِرُ في ذلك اليومِ يلعَنُ ويُزمجِرُ (يُزمجِر: يصيح بصوت غليظ) ويُوَبِّخُ (يُوَّبِخُ: يلوم، يؤنّب)، ويتساءلُ مَغيظًا (مَغيظًا: غاضِبًا أشدّ الغضب) عن ذلك الحماسِ المفاجئِ للرِياضةِ البدنيّةِ.

مفاتيح النصّ:

الواقعيّةُ الانتقاديّةُ، التركيزُ على اللحظة ووصفُ دقائقِ الأمور، المشاهدُ التصويريّةُ، السخريّةُ والفكاهةُ، اللغةُ العاميّةُ، واقعُ التعليمِ في مصر، حاجاتُ الجيل الجديد، ثورةُ الجيلِ الجديدِ


*111*

1. بيّن ثلاثةَ مظاهِرَ معيشيّةٍ في المدرسةِ أدّت إلى كرهِ الطلّابِ لها.

2. لماذا تبادلَ الطلبةُ النَظراتِ وتولّاهم الاستهتارُ حين سألَهُم معلّمُ الرّياضةِ الجديدُ قولَ الحقيقةِ؟

3. قارِن بين مدرِّسَيِ الرياضةِ في القصّةِ مُبرزًا التناقضَ بينهما.

4. ما نوعُ الراوي في النصّ؟ اُذكر ميزتيْن له.

5. اُذكر ميزتيْن فنّيّتيْن تتميّزُ بهما القصّة وادعمهما بالأمثلة.

6. ما الغرضُ من توظيفِ الكاتبِ للمحكيّةِ المصريّة في النصِّ؟

7. هل نجحَ الكاتبُ برأيك بالإحساسِ بشخصيّة الطالب وفهمِ مشاعرهِ وتصويرِها بشكلٍ صادقٍ؟ علّلْ إجابتَكَ وادعَمْها بالأمثلةِ.

8. ما تفسيرُك للأجواءِ العامّةِ التعيسةِ الّتي عاشها كلٌّ مِنَ الطلّاب والمديرِ والمدرّسين في المدرسةِ؟

9. يُكثِر الكاتبُ من توظيفِ أسلوبِ الحالِ في القصّةِ. استخرجْ مثاليْن ثمّ اشرحِ الغرضَ من هذا الوظيفِ.

10. صنّفْ شخصيّاتِ القصّةِ إلى رئيسيّةٍ وثانويّةٍ وتحدّثْ عن سِمات كلٍّ منها.

11. جاء في القصّة: (قيام! وإذا بالفصل كلِّه يتلكَّأ ويقومُ، ولا يدري لماذا يقوم)! هل تؤيّدُ قيامَ الطلّابِ لدى دخولِ الأستاذِ إلى الصفِّ؟ لماذا؟

12. صِفْ لباسَ كُلٍّ من مُعَلّمي الرياضة، واشْرَحْ مدى ملاءمتِهِ للشخصيّةِ الداخليّةِ في كلٍّ منهما.

13. اكتبْ تقريرًا تنتقدُ فيهِ واقعَ التعليم في مصرَ من خلال القصّةِ.

14. يُعتبرُ معلمُ الرياضةِ الجديدُ نموذجًا لإصلاحِ التعليمِ. سجِّلْ أمثلةَ أخرى من عندك تنطبقُ على النصِّ.

15. سجِّلْ نموذجًا على الفكاهةِ وآخر على السخريّةِ، واشرح الهدفَ من استخدامهما في النصِّ.


*112*

نخلة على الجدول - الطّيّب صالح


*112*

الطيب صالح (1929-2009)

أديبٌ سودانيٌّ، من أشهرِ أدباءِ العربِ، أُطلِق عليه لقبُ: عبقريّ الرواية العربيّة. عاش في بريطانيا وقطر وفرنسا. تلقّى تعليمَه في الخُرطومِ وحصَلَ على البكالوريوسِ في العلومِ. سافَرَ إلى إنجلترا واصَلَ دراستَه، وغيّرَ تخصُّصَه إلى دراسةِ الشؤونِ الدُوليّة السياسيّة. تنقّل بين عدّةِ مواقعَ مهنيّةٍ، فعدا خبرةٍ قصيرةٍ في إدارةِ مدرسةٍ، عملَ لسنواتٍ طويلةٍ في القسمِ العربيِّ لهيئةِ الإذاعةِ البريطانيّةِ، وترقّى بها حتّى وَصَل إلى منصِبِ مديرِ قسمِ الدراما. وبعد استقالتِهِ من الإذاعةِ عادَ إلى السودان وعمِلَ لفترةٍ في الإذاعةِ السودانيّة، ثمَ هاجر إلى دولةِ قطر وعمِلَ في وزارةِ الإعلامِ هناك. وقد أكسبته حالةُ الترحالِ والتنقّلِ ين الشرقِ والغربِ خبرةً واسعةً بأحوالِ الحياةِ والعالَمِ، واهمُّ من ذلك أحوالُ أمّتِه وقضاياها، وهوما وظَّفَه في كتاباتِه وأعماله الرَوائية، خاصّة روايَتهُ العالميّة (موسم الهجرة إلى الشمال (1966))، الّتي اعتُبرت واحدةً من أفضلِ مائةِ روايةٍ في العالمِ. وقد حصلَت على العديدِ من الجوائزِ، كما تُرجمَت إلى عديدِ من اللغاتِ. تعودُ شهرةُ روايته (موسم الهجرة إلى الشمال) في كونِها تناولَت، بشكلٍ فنّيٍّ وراقٍ، الصدامَ بين الحضاراتِ، وموقفَ إنسانِ، العالمِ الثالثِ النامي من العالم الأوّلِ المتقدّم. توفّي الطيّب صالح في أحد مستشفياتِ العاصمةِ البريطانيّةِ لندن.

يمتازُ الفنُّ الروائيُّ للطيّب صالح بالالتصاقِ بالأجواءِ والمشاهدِ السودانيّةِ المحلّيّةِ ورَفْعِها إلى مستوى العالميّةِ في لغةٍ واقعيّةٍ وقريبةٍ إلى القارئِ. كما تتطرّقُ بصورةٍ عامّةٍ إلى السياسةِ ومواضيعِ أخرى متعلّقةٍ بالاستعمار والمجتمعِ العربيِّ والعلاقةِ بينه وبين الغرب.

من مؤلّفاته الأخرى: عرس الزين (رواية، 1962) (حُوّلت في فيلم سينمائيّ)، مريود (رواية، 1971)، نخلة على الجدول (مجموعة قصصيّة، 1953)، دومَة وِدْ حامد (مجموعة قصصيّة 1960).


*113*

نَخلةٌ على الجَدْول

الطيب صالح

(يِفْتَح الله

(عشرون جُنيهًا يا رجُل، تَحُلُّ منها ما عليك من دَيْن، وتُصلِحُ بها حالَكَ. وغدًا العيد، وأنت لم تشترِ بعد كبشَ الضحيّةِ! وأُقسم لولا أنّني أُريد مساعدتَك، فإنّ هذه النخلة لا تُساوي عشرةَ جُنيهات).

وتمَلمَلَ حمارُ حُسين التاجر في وقفَتِهِ. ولم يكن صاحبُهُ قد ترجَّلَ (ترجَّل: نزل ومشى على رجليه) عنه، فإنّه لم يُرِد أن يُظهِرَ لشَيْخ محجوب تلهُّفَه (تلهُّفَه: رغبته، حماسه) على شِراءِ النَخلةِ ذاتِ البَنات الخَمس، الّتي يُسمّيها السودانيّون في شمال الأسَاسِق، وقد قامَت وسْطَهَا النَخلةُ الأمُّ، ممشُوقَةً (ممشُوقَةً: طويلة وليّنة، حسنة القوام) مُتغطرسةً (مُتغطرسةً: متكبّرة، مُعجبة بنفسها) تتلاعَبُ بغدائِرِها (غدائِرها: جدائلها) النَسَماتُ الباردةُ الّتي هبَّت من الشمال تحملُ قطراتٍ من مياهِ النيلِ. ورأى الحمارُ الأبيضُ البدينُ حمارَةً أنثى ترعى عن بُعدٍ بينَ سيقانِ الذُرة، فنهقَ نهيقًا أجهَشَ (أجهَش: تهيّأ للبكاء) ممتدًّا، ثمّ رفَعَ رَجلَهُ الخلفيَة اليُسرى ووضَعَها، ورفعَ رجلّه الأماميّةَ اليُمنى ووقفَ على حافّةِ حافرِةِ (حافر الدابّة: ما يقابل القدمَ من الإنسان)، وتشاغَلَ بخُصّلٍ من نَباتِ السَعدة الرَيّانة (الرَيّانة: المَرويًّة، المُشبعة بالماء) الّتي نَمَت على حافّة الجدول، وكأنّه قد تبرَّمَ (تبرَّم: نضجّر وأظهر استياءه) بهذه المُساومَةِ (المُساومَةِ: المُجادلة في البيع والشراء) مأ الّتي لم يكُن من ورائِها طائلٌ (طائل: منفعة، فضل). والحقُّ أنّ حُسين التاجر، بثيابِهِ البيضاءِ الفضفاضة (الفضفاضة: الواسعة)، وعباءتِه السوداءِ الّتي اشتراها في زيارةٍ له للخُرطومِ (الخُرطوم: عاصمة السودان)، وعمامتِهِ (العمامة: ما يُلَفُّ على الرأس، قُلُنسُوة) من الكَرْب (الكَرْب: نوع من القماش الانجليزيّ، خفيف الوزن وفاخر)


*114*

نُمرة واحد، وحذائِهِ الأحمرِ الّذي لم تُخرِج أيْدي صُنّاعِ المَراكيب (المَراكيب: نوع من الأحذية، يُصنع من جلد النمور والأفاعي والأبقار. وهي الأحذية السودانيّة الشعبيّة) في الفاشِر (الفاشِر: مدينة تقع غرب السودان، وهي عاصمة ولاية شمال دارفور) أجودَ منه، وحمارِهِ الأبيضِ البدينِ اللامعِ والسَرجِ الأحمرِ المُدهَّنِ، والفَروَةِ البُنّيّةِ الّتي تدلّت وكادت تَمسّ الأرض، كان صورةً مُجسّمةٌ للكبرياءِ والغطرسةِ.

ولكنّ شيخ محجوب لم يُحِرْ جوابًا (لم يُحِرْ جوابًا: لو يَقوَ على الجواب)، وكان يبدو في وَقفتِهِ تلك كالمشدوهِ (كالمشدوهِ: المدهوش)، يرنو (يرنو: ينظر) إلى أفْقٍ بعيدٍ مُتَنَاء (مُتَنَاء: بعيد). ورويدًا رويدًا خفَتَت في أذنيه ضوضاءُ (ضوضاءُ: ضجّة، صياح وجلّبة) أهل الخير الّذين تجمَّعُوا ليتوسَّطُوا (ليتوسَّطُوا: توسَّط: عمل وسيطًا مُصلحًا بين طرفين) بين التاجِرِ وشيخِ محجوب، وخَفَت صوتُ الساقِيَةِ (الساقِيَةِ: قناة صغيرة يجري فيها الماء وتسقِي الأرض والزرع) الحزين المتَّصِلُ.

ولفَّ ضبابُ الذكرياتِ معالِمَ (معالم: ملامح) الأشياءِ المُمتدَّةِ أمامَ ناظِرَيْ شيخ مَحجوب: الناسِ والبَهائِمِ وغابةِ النخيلِ الكثَّةِ (الكثَّةِ: الكثيفة) المُتلاصقةِ، وأحواضِ الذُرةُ الناضجَة الّتي لم تُحصَد بعدُ. والأحواضُ الجرداءُ (الجرداءُ: القاحلة، لا زرع فيها) العاريَةُ قُطعت منها الذُرةُ، وسُرّحَت (سُرّحَت: أُخرجت) على بقايا قُطعان الضَأنِ والماعزِ. كلُّ ذلك تحوَّلَ إلى أشباحِ يتراقَصُ في وسِطِها جريدُ (جريدُ: سُعْف النَخيل أو غصنه المجرَّد من أوراقه) نخلةِ محجوبٍ. وفي أقلَّ من لمحَةِ الطَرْفِ (الطرْف: العين، النظر) استعرَضَ الرَجُلُ حاضرَهُ. أجل، غدًا عيد الأضحى حين يخرجُ الناسُ مع شُروقِ الشمسِ في ثيابِهِم النظيفةِ الجديدةِ، ويُصَلُّون مجتمعين على مقرُبةٍ من ضريحِ الشيخِ صالح وإذ يعودون إلى بيوتِهِم تنضَحُ (تنضَح: ترشَحْ، تفور) وجوهُهُم بالبِشْرِ (البِشر: السعادة) والسعادةِ وتَسيلُ دماءُ الأضاحيِّ (الأضاحيِّ: جمع أُضحية، الذبائح)، ويُقبلُ الأضيافُ (الأضيافُ: جمع ضيف) ويخرجون، ويتردّدُ في الحيِّ صَدى ضحكاتِهِم. أمّا هو أما بيتُهُ إنّه لا


*115*

يملكُ ثوبًا نظيفًا يَخْرُجُ به إلى الصلاةِ، وليس عند زوجتِهِ غيرُ ثوب زَراق (ثوب زَراق: ثوب للأعمال الشاقة والصعبة، يتحمل الأوساخ لونه أزرق غامق جدَّا) اشتراهُ لها قبلَ شهرين نالَ منهُ البِلى (البِلى: التلف. بَلي الثّوب: صار رثًا) وتراكَمت عليه الأوساخُ. أمّا ابنتُهُ خديجة فقد كادت تُفتِّتُ قلبَه ببكائِها من أجلٍ ثوبٍ جديدٍ تعرِضُهُ على لِداتِها (لِداتِها: جمع لدّة: مَن وُلِدَ معها في وقت واحد) وتُعيِّد به مع صاحباتِها. ومن أين له جنيهاتٌ ثلاثة يشتري بها خروفًا يُضحّي به.

وتَمتَمَ شيخ محجوب في صوتٍ لا يكادُ يُسمعُ، شيءٍ يشبِهُ التوسُّلَ والابتهالَ: (يِفْتَح الله) وزَمَّ (زَمَّ: شدَّ، عضَّ عليها) شفتيْه في عصبيّة، وعاد بعقلِه خمسةٌ وعشرين عامًا إلى الوراءِ. ألا ما أعجَبَ تقلُّباتِ هذا الزَمنِ! لقد كان يومَئِذٍ شابًّا قويًّا أعزبَ لم يبلُغِ الثلاثين بعد، يعملُ في ساقِيَةِ أبيه مقابلَ كِسوتِهِ وشرابِه. فلم يكن يحتاجُ إلى المالِ، ولم يكن يعرفُ له قيمةً. وفي ذاتِ صباحٍ مُشرقٍ من أصباحِ الصيف، مرَّ بابن عمِّهِ إسماعيل، وكان الأَخيرُ منهمِكًا (منهمِكًا: مُسْتَغْرِقًا، مُنْكَبًّا، مُنْشَغِلًا) يقلعُ الشتلَ ليغرسَهُ في أماكنَ أُخرى من أرضِ الساقيةِ، ووقعَ نظرُ محجوبٍ عنى شتلةٍ صغيرةٍ رماها إسماعيل بعيدًا، على أنّها خاليةٌ من الأضراس لا تصلُحُ. فالتقطَهَا محجوبٌ ونفَضَ عنها الترابَ (نفَضَ عنه التراب: أسقطه، أزاله)، وقال لابن عمِّهِ ضاحكًا: باكِر تْشُوف دي تِبقَى تَمرة زيّ العَجَب. وتبسَّم إسماعيلُ في سخريةٍ، واستغرقَ في عملِهِ. وعلى حافّةِ الجدولِ قريبًا من الساقيّةِ، شقَّ محجوب حُفرةً صغيرةً وضعَ فيها النَخيلة. وواراها التراب وفتحَ لها الماءَ بعد أن تلا آياتٍ من القرآنِ وردَّد في شيءٍ من الخُشوعِ: بِسم الله، ما شاءَ الله، لا حولَ ولا قوَّةَ إلّا بالله، مثلما يفعلُ أبوه كلّما غرس شتلةً أو حصد نبتًا. ولم ينسَ أن يصُبَّ في الحفرةِ قليلًا من ماءِ الإبريقِ الّذي يتوضأُ به أبوه تيمُّنًا وتبرُّكًا.

وأنزَلَ محجوبٌ غُصَّةً (غُصَّةً: أَلَمِ وَحُزْنٍ) صعِدَت في حَلْقِهِ، ثم مرَّرَ أصابعَ يدِهِ النحيلةَ المعروقَةَ بين شُعيراتِ لحيتِهِ المتفرِّقَةِ. أَلا ما كان أبرَكَ ذلك العامَ! بعد ستّة أشهرٍ فقط من غرسِهِ النخيلة تزوّجَ من ابنةِ عمِّهِ، ولم يكن يملك من مالٍ الدُّنيا شَروى نَقيرٍ (لا يملك شَروى نَقيرٍ: أي لا يملك شيئًا. مثل يُضرب في الفقر والقِلّة. ما نُقِر من الحجر والخشب ونحوهما). ولا هو يدري إلى الآن كيفَ تمَّت المعجزةُ. إنّه لم يكُن يظّنُّ أبدًا أنَّه سيتزوّج في يومٍ من الأيّام، هو الّذي عاش أيامَ صباه منبوذًا (منبوذ: مُحتقر، مرفوض)


*116*

مُحتقَرًا من أهلِهِ مَجفُوًّا (مَجفُوًّا: مُستبعدًا، مهجورًا) من الحِسانِ (الحِسانِ: جمع الحسناء)، يتّهمُهُ كلُّ أحدٍ بالغباءِ والخيبةِ. وطالما ترنَّمَ (ترنَّمَ: تغنّى) وهو يخوضُ الماءَ في لدغةِ (لدغة: لسعة) البردِ، عاريَ الرَأسِ، عاريَ الصَدرِ:

(الدِّنيا بِتْهينَك والزَّمان يوَرّيك وقِلّ المالْ يفرّقَكْ مِن بَنات وادِيكْ) (البيت: يورّيك: أي يُريكَ، قلّ المال: قلّة المال، بنات واديك: بنات بلدك. والمعنى: أنّ الزّمن غدّار لا أمان له، وأنّ من لا مال معه لن يستطيع الزواج).

غير أنّه تزوّجَ، ولبِسَ حريرةَ العُرسِ (حريرةَ العُرس: خيوط من الحرير بها خرزة حمراء تربط على معصم العريس، وهي عادة متّبعة في الأعراس السودانيّة)، وتمسَّحَ بالدِلكَةِ (الدِلكَة: هي مجموعة من العطور والصندل والصابون المُجفّف، تُخلط مع دقيق الذرة والزيت المعطّر تستخدم في تنظيف بشرة الوجه والجسم، يستخدمها العريس يوم زفافه)، ووضَعَ على رأسِهِ الضريرة (الضريرة: مَرهَم أو كريم بعطي لمعة ومظهرًا ورائحة جميلة على رأس العريس)، وأحاطَت به الصّبايا يَهزَجْن (يَهزَجْن: يُغنّين، هزج: تغنى) بالأغاني. ولكَمْ شعرَ بالعَظَمة والكبرياء وقتَها. كلُّ ذلك بعد غرسِهِ النَخلةَ بستّة أشهرٍ وفي العام التالي وَلدت زوجته بنتًا أسماها آمنة تيمّنًا بمَقدمِهِا، ووفاءً لذكرى جدّتِه الّتي كانت تعطفُ عليه من بينِ أهلِه جميعًا. وحينما وصلَ به تيّار الذكرياتِ إلى مولِدِ آمنة، تَرقرقَ في عينيه الدَمعُ (تَرقرقَ الدمع في عينيه: دار الدمع فيهما، تحرّك) أين الآن آمنة؟ إنّها زوجةٌ لابنِ أختِه، الّذي حمَلَها إلى أقاصِي الصعيدِ (أقاصي الصعيد: جمع أقصى، أبعد الأماكن في الصعيد) في الجزيرةِ، وقد كانت تُبِرُّهِ (تُبِرُّهِ: من البِرّ، تُحِسن إليه وتَفق به) وتعطفُ عليه.

ليتَ حسَنًا كان مثلَها عَطوفًا بارًّا. حسن! وعضَّ الرَجلُ على شفتِه السُفلى بعنفٍ حتّى كاد يغرسُ أسنانَه في لحمِها المتهدِّلِ (المتهدِّل: المُترهّل) حسن ابنُه الوحيدُ، سافرَ قبل خمسةِ أعوامٍ إلى مصرَ، ومن وقتِها لم يُرسِل لهُم حتّى خطابًا واحدًا يطمئنًهُم فيه عن صحّتِه. لقد حاولَ الرجلُ جاهدًا أن ينساه، ويمحوه من ذاكرتِهِ، ويعدُّهُ من الأمواتِ. وكانت زوجتُه تبكي كلَّما ردَّد محجوب في صوتٍ حزينٍ متهدَّجٍ (متهدَّجٍ: متقطّع، مُرتعش) بيتَ الدوبيت (الدوبيت: كلمة فارسيّة معناها بيتان. وهو بيتان متتاليان من الشعر يكوّنان وحدة شعرية لما فيهما من انسجام إيقاعيّ أو اتحاد في القافية والدوبيت من الشعر الشعبيّ السودانيّ) الّذي كان له خيرَ سلوى، كلّما جاشَت (جاشَت: هاجت، تدفّقت) بنفسِه


*117*

الذِكرى، وكلّما تمثّلَ ابنَه طفلًا صغيرًا حُلوًا يَبولُ في حِجرهِ، ثمّ صبيًّا يساعدُه في أعمالِ الساقيةِ، ثمّ شابًّا يافعًا يشبُّ عن الطَوْقِ (شَبُّ عن الطَوْقِ: كبُرَ واعتمد على نفسه)، ويهجُرُ الأهلَ والدارَ، وينسى حقوقَ الأُبوَّةِ، ولا يسألُ عن الأحياءِ ولا الأمواتِ. أجَل والله (الزول إن أباك خلّيه واقنع منه، وكم لله من دفن الجنى وفات منه) (بيت الشعر: الزوال: الشخص. أباك: رفضك. أي: إذا رفضك شخص ولم يُرد مصاحبتك ابتعد عنه واتركه لحاله، وابحث عن صديق آخر).

وكأنّ القدَرَ أرادَ أن ينسيَهُم كلَّ شيءٍ يربطُهُم بحسن، فرمى آخِرَ ما في جُعبتِهِ من سِهامٍ قاسيةٍ مسمومةٍ ظلَّ يسدِّدُها منذُ عامين، تِباعًا ودون توقُّفٍ. وأصابَ السَهمُ الأخيرُ النعجةَ البرقاء (البرقاء: الشاة الّتي اجتمع فيها بياض وسواد) الّتي ربّاها حسن، وجمعَ لها الحشيشَ وأشرَكَها طعامَه وأنامَها في فراشِهِ. ماتت، وكذلك اجتاحَ المَحْلُ والقحطُ (المَحْل والقَحط: الجَدْب، احتباس الماء) كلَّ القطيعِ الّذي ربّاه شيخ محجوب.

ثمّ رفرفَ طائفٌ (طائف: كثير، مجموعة) من السَعادةِ على الوَجهِ الخَشنِ المُجعَّدِ، وجهِ محجوب. وغابت المرارةُ الّتي أحدثَهَا ذِكرُ حسن عندما تذكَّر الرَجلُ قطيع الضَأنِ (الضَأن: الغَنَم، المِعزة) الّذي ربّاه في ذاتِ العامِ الّذي شهِد مولدَ آمنة. قطيعٌ كاملٌ من نعجةٍ واحدةٍ اشتراها بما تجمَّعَ عنده من ثمنِ جِيضان البصلِ (جيضان البصل: أحواض البصل). كان يعاملُها كما يعاملُ أبناءَه، يحلبُ لبنَهَا بنفسِه ويُكوِّمُ القشَّ في مَراحِها (مَراحها: (بالفتحة) مأواها في الليل. ومُراح الإبل: مرعاها) ويفُكُّ لها صغارَها ويلبثُ الساعةَ والساعتيْن يداعبُها وينظِّفُ وبْرَها (وبْرها: شَعْرها)، وتغمرُه السعادة وهو يشاهدُها تُناغِي (تُناغِي: تُلاطف، تُداعب) صغارَها وتشربُ الماءَ المخلوطَ بالدريش (الدريش: الحبوب المكسورة غير المطحونة طحنًا جيّدًا)، وتتناطَحُ فيما بينَها. كان يطلقُ عليها الأسماءَ كما يسمّي الناسُ أطفالَهُم، يعرفُ كلَّ واحدةٍ منها بسيماها (سيماها: علاماتها في الآيةِ: (سيماهُم في وجوهِهِم))، ذاتِ الذّيْلِ الأبيضِ، وذاتِ البقعةِ السوداءِ على أمّ الظهرِ كسرجِ (سَرج: رَحْل الابّة، ما يوضع على ظهر الدبّة ليُركب) الدابّةِ، والخروفِ ذي القرن المَكسور، والخروفِ


*118*

ذي القرنيْن المُلتوييْن. وبعد عاميْن من زواجه اشترى عِجلَةً صغيرةً عجفاءَ (عجفاء: مؤنث أعجف، لا خير فيها) والاها (والاها: تابَعَها) بالعَلَفِ والحُبوبِ حتّى استَوَت (استَوَت: استقامَت) بقرةً جميلةً كحيلةً كحيلةَ العينيْن لها غُرَّةٌ في جبينِها تجرُّ الساقية وتُدِرُّ اللَبنَ (وتُدِرُّ اللَبنَ: تُعطي لبنًا كثيرًا). وفي أثناء ذلك أثمرت نخلةُ الجدولِ، أوَّلَ شيءٍ يمتلِكُ في حياتِه. وسارت الحياةُ رغَدًا (رغَدًا: هنيئة، طيّبة واسعة) كأنّما استجابَ اللهُ دعاءَه يومَ شقٍّ في الأرضِ على حافَّةِ الجدولِ وغرَسَ النخلةَ. لقد استغنى عن أبيه، وبنى لنفسِهِ بيتًا يُؤويه (يُؤويه: يكون له مأوى بلجأ إليه) مع عائلتِه، وصار ثَريًّا يعُدُّ المالَ مثلَ أيِّ تاجرٍ، يجلسُ في السُوقِ منتصبًا تملأهُ الثِقةُ أمامَ كوم الذرةِ، يَكيلُ (يَكيل: كيَّل القمحَ وغيرَه، حدَّد مقْدارَه بمكيال، وزن) منه للمُشترينَ وينتَهِرُ زملاءَه غيرَ هَيَّابٍ (هَيَّاب: صيغة مبالغة من هابَ. من يخاف الناس ويتّقيهم)، ولا مُكترثٍ. وصار يلبِسُ النّظيفَ، ويأكُلُ الطيَّبَ، وينامُ على الفِراشِ اللَيِّنِ، ويتدثَّرُ في بردِ الشتاء ببطّانيَّةٍ ثقيلةٍ من الصوفِ أنفقَ فيها جُنيهيْن. وحينَما كان الناسُ يتبرَّعون في الأعراسِ بخمسةٍ قروشٍ كان يتبرَّعُ هو بعشرةٍ، وبزجاجَةٍ مليئةٍ من سَمنِ الضأنِ النَقِيِّ، وكَيْلَةٍ (كَيْلَة: وعاء يُكال به الحبوب) من أجوِ أنواع التَمرِ القندْيل حتى لُقّبَ بالظيف بعد أن كان يُلقَّبُ بالغبيّ. ولولا تعلُّقُه بزوجتِهِ لتزوَّجَ بنتًا بِكرًا يتهافتُ عليها خيرة شُبَّانِ البلَدِ.

كلُّ هذا عَفا (عَفا عليه الزمن: تجاوزته الأحداث، صار قديمًا باليًا) على آثارِهِ الزَمنُ. لقد ماتَ الزَرعُ، ويبِسَ الضَرعُ، وعمَّ القحطُ فأغرَقَ الرَخاءَ، وحبا الشيبُ فطَفَا على الشّبابِ، وكانَ النيلُ يفيضُ بين ضِفّتيْه زاجِرًا (زاجر: غامرٌ، أمواجه مرتفعة) مَوّارًا (مَوّار: مائج، مُضطرب)، يسقي الأرضَ ويُخرِجُ ما في باطنِها من الخيرِ، فما عادَ يفيضُ إلا بحسابِ ومِقدارٍ. أتُراها الخزّاناتِ الّتي أقاموها عليه فحَجَزتِ الماءَ أم تُراها نبوءةَ الشيخ وَدْ دُوليب تحقّقت؟ لقد أنذَرَ الناسَ في يوم من الأيّامِ أنّه سيأتي عليهِم يومٌ، يصيرُ فيه اللَبَنُ كثيرًا تافِهًا مثلَ الماءِ، وتصيرُ كيْلَةُ الذرةِ بقرشيْن، ويصبِحُ ثمنُ النعجةِ رياليْن. ولكنّ الناسَ كدَأبِهِم أبدًا سيضيقونَ بهذا الخيرِ، وسينهمِكُون في الغّيِّ (الغَيّ: مصدر غوى. الضلال) وينسون الله، فيأخذُهُم اللهُ بذنوبِهِم، وفكَّرَ شيخ محجوب بُرهةً، وحدَّثَ نفسَه بأنّه


*119*

لم يرتكِبْ كثيرًا من المعاصِي. صحيحٌ أنّه كان يشربُ الخمرَ أحيانًا ويرقصُ في الأعراسِ ويخالِسُ (يخالس: بنظر خِلسَة. يسرق النظر) الحِسانَ النَظَرَ على غفلةٍ من أمّ حسن. ولكنّه لم يؤخِّر فرْضًا ولم يهتِكْ عِرْضًا ولم يفعلْ شيئًا من هذه المَعاصي الّتي يقولُ فقهاءُ القريةِ إنَّها كبائرُ تغضِب اللهَ. لا بدّ أنّه الكِبرُ الّذي فَتَّ من عَضُدِه (فَتَّ من عَضُدِه: أضعفه، أوهن قوّته. والعَضُدُ: ما بين المرفقِ إِلى الكتِف) وأرخى من مفاصلِه، فما عادَ يحتمِل لذْعَةَ (لذْعَةَ: لَفْحَة) البرْدَ ولا قائظَ الحَرِّ (قائظ الحرّ: الحرّ الشديد) ولم يكُن حريصًا على ما عندَه من خيرٍ، فبدَّدَه أوّلًا بأوّلٍ. وفي غَمرةِ (غَمرة: كثرة، زحمة) أتعابِهِ ومريرِ شيخوختِه هجرَهُ ابنُه حسن، وهو أحوجُ ما يكونُ إلى ساعدِه الفتِيّ. وهكذا ظلّ محجوب يكابِدُ (يكابد: يُقاسي شدّته، يتحمّل) الفاقَةَ (الفاقَة: العَوْز، الفقر) وحدَهُ، فاستدانَ ورهنَ وباعَ. وليسَ عندهُ اليومَ من مالِ الدنيا إلا بقرةٌ واحدةٌ وعنزتان وهذه النخلةُ الّتي ظلَّ جاهدًا يحاولُ استبقاءَها.

وقطَعَ عليه ذكرياتِهِ نهيق حِمارِ التاجرِ، وصوتِ صاحبِ الحمارِ وهو يقولُ له: يا راجِل انتَ ساكِت زيّ الأبله مالَك؟ ما تِدّينا كِلمة واحدة خلّينا نِمشي؟ وكان رمضانُ قد جاءَ من طرفِ الساقيةِ، وقالَ لمحجوبٍ إنّ عشرين جُنيهًا ثمنٌ معقولٌ، خاصّةً وهو أحوجُ ما يكونُ الى المالِ. وفكَّرَ الرجلُ برهةً متردّدًا بين الرَفضِ والقَبول. عشرون جُنيهًا يستطيعُ أن يَحُلَّ منها دَيْنَهُ، ويشتري ضحيَّةِ العيدِ، ويكسُوَ نفسَه وأهلَ بيتِه. ولكنَّ ريحًا قويّةً هبَّت تتلاعبُ بجريدةِ النخلةِ (جريدةِ النخلةِ: غصنها المُجرَّد من ورقِه)، فأخذَ يوشوِشُ ويتعاركُ ويتلاطَمُ كغريقٍ يطلبُ النّجاة. وبدَت النَخلةُ لمحجوبٍ، في وَقفتِها تلك رائعةً أجملَ من أيِّ شيءٍ في الوُجودِ. وعَفا قلبُهُ لابنِه في مصرَ. تُرى هل يحِنُّ لنداءِ الرَحْمِ؟ هل تؤثِّرُ في قلبِهِ الدعَواتُ الّتي أرسلَها محجوب في هدأةِ الليلِ؟ وأحسَّ الرَجلُ بفيْضٍ من الأمَلِ يملأُ كِيانَهُ (كِيانهُ: ذاته، وجوده) ويطغَى على إحساسِهِ، وترقرَقَ في عينِه دمعٌ حَبَسَه جاهِدًا، وتمتَمَ: (يِفتَحْ الله). أنا تَمرَتي ما ببيعها. وردَّدَ الرجُلُ في نفسِهِ: (يِفْتَح الله) وقادَه ذلك إلى التفكيرِ في سُورة الفتحِ من القرآن الكَريم - (إنّا فتَحْنا لك فتْحًا مُبينًا) - الفاتحة - الفَرَج. وأحسَّ لأوَّلِ


*120*

مرّةٍ بإنّ في عبارةِ (يِفتَح الله) شيئًا أكثرَ من كلمةٍ تُنهي بها المُبايعةَ (المُبايعةَ: مصدر بايع. عَقد البيع)، وتُقفلُ البابَ في وجه من يريدُ الشِراءَ. إنّها مفتاحٌ لمن أعسَرَه الضِيقُ وأمَضَّهُ (أمَضَّهُ: آلمَه، أوجَعَه) البؤسُ وأثقلَت كاهلَهُ أعباءُ الحياةِ. وما كانَ أحوجَ محجوب إلى الفَتْحِ والفرَجِ حينئذٍ!

وجذبَ التاجرُ عِنانَ حمارِهِ في صَلَفٍ، ثمّ هَمَزَ بطْنَ الحِمارِ بكعبٍ رِجلِهِ، وقالَ في صوتٍ، باردٍ كوقْعِ الصَوتِ: يِفتَح الله، يِفتَح الله، باكِر بتِجِي تدوِّر الدِيْن.

وقبلَ أن ينطلقَ الحمارُ بعيدًا أبصَرَ محجوبٌ ابنتَه الصَغيرةَ تهروِلُ نحوَهُ مضطربةً فرِحةً. فتَحرَّكَ في قلبه أملٌ بدأ عسيرًا مستحيلًا أبعدَه عنه. ولم ينتظرْ الطفلةَ ريثما تصلُ، بل أسرعَ نحوَها يسألُها عن الخبرِ: شْنُو؟ مالِك؟ وحاولتِ الصبيّةُ أن تَفُضَّ (تَفُضَّ عليه النبأ: تلقيه عليه، تُخبره) إليه النَّبَأَ بصوتٍ متكسِّرٍ ألثَغ (ألثغ: يقلب في نطقه حرفًا بحرفٍ آخر (كأن يجعل السِينَ ثاءَ أو الرَاءَ غيْنًا)): الناس دالُو وَدْ ستّ البَنات دا من مَسْر وداب لِنا معاه دَواب من حسن اخوي (جاءت الجملة بهذا الشكل لتبيّن لثغ الطفلة وعدم استقامة لسانها. والمقصود: الناس قالو وَد ستّ البَنات جا من مَصْر وجاب لنا معاه جَواب من حسن أخوي: أي ابن السيّدة البنات جاء من مصر (القاهرة) وأحضر لنا معه رسالة من حسن.).

جواب من حسن؟ وانطلقَ الرَجُلُ كالمجنونِ لا يفكّرُ ولا يعِي بنضِ قلبِه مُعربِدًا (مُعربِدًا: مُكثرًا من الضجيج والجَلْبة) بين جنبيْه. يطغى الأملُ بين حناياه مرّةً على اليأسِ، ويفيضُ اليأسُ تارةً فيُغرِقُ الأملَ. وابنتُه الصغيرةُ تُمسكُ بطرَفِ ثوبِه المُتَّسِخِ، تُسرعُ جاهدةً لكي تمشيَ معه، وهي أثناءَ ذلك تتباكَى مُحتجَّةً على خُطُواتِ أبيها المُسرعةِ.

وفي بيتِ (ناس ستّ البنات) (أيّ: بيت عائلة ستّ البنات) انتظرَ محجوب بين صُفوفِ المُستقبلين. وفي غَمرةِ اضطِرابِه لم يفُت عينَه المستطلعةَ رجالٌ يعرفُهُم جاؤُوا يسألونَ عن أبنائِهِم وأقاربِهم ونسوةٌ يعرفُهنَ جِئنَ يسألْن عن أزواجِهِنَ وأبنائِهِنَ. كلُّهُم آمالٌ مثلُ آمالِهِ، تُجاذِبُ اليأسَ ويغالبُها اليأسُ. ولم تُخطئْ عينُه الشابَّ الّذي عاد من مصرَ، وَدْ ستّ البنات يرتدي ملابسَ نظيفةً ككُلِّ عائدِ من السَفرِ، ويتكلَّمُ لهجةً غريبةً على شيخ محجوب، بادِيَ الثِقةِ باديَ الكِبرياءِ. وأخيرًا لمَحَ الشابُّ شيخ محجوب بين المُستقبلينَ فدَلَفَ نحوَه (دَلَف نحوه: مشى إليه، اتّجه نحوَه) مبتسمًا. شعرَ الرَجلُ بالضِيقِ والحَرجِ، إذ


*121*

تحوّلَت كلُّ الأبصارِ نحوَه. ولم يعِ شيخ محجوب من كلامِ محدَّثِه إلّا: حسن مبسوط، قال لك تِعفِي عنه. أرسلَ لك ثلاثين جنيه وطرْد ملابس.

وفي الطريقِ إلى بيتِهِ تحسَّسَ الرَجلُ رزمةَ المالِ الّتي صرَّها جيّدًا في طرفِ ثوبِه، ثمّ غرسَ أصابعَه في الطَرْدِ السَمينِ تحتَ إبطِهِ، وانحدَرَ طرفُهُ من علٍ (من علٍ: من أعلى) إلى غابةِ النَخلِ الكثيفَةِ المُمتدَّةِ عند أسفلِ البيوتِ، وتميَّزَ في وَسَطِها نخلتَهُ، ممشوقةً متغطرسةً جميلةً تتلاعبُ بجريدتِها نَسَماتُ الشَمالِ، وخُيِّلَ إليه أنّ سَعَفَ النخلةِ (سَعَفَ النخلةِ: غُصنها) يرتَجِفُ مُسبِّحًا: (يِفتَح الله، يِفتَح الله).

مفاتيح النصّ:

الواقعيّةُ الاجتماعيُّ ئ ملامحُ المجتمعِ السودانيِّ الريفيِّ، توظيفُ اللهجةِ المحكيّةِ السودانيّةِ، الموتيفُ، الاسترجاعُ الفنّيُّ، الدائريّةُ.


*121*

1. يتّسمُ المكانُ في القصِّة ببساطةِ العيشِ، وبدائيّةِ الحياةِ، كيف يظهرُ ذلك؟

2. يعاني الشيخُ محجوب في القصّة من صراعيْن مزدوجيْن: الداخليّ والخارجّي. عيّنهما مع الشرح.

3. ما نوع الراوي في القصّة؟ سَجِّلْ أمثلةَ تدلُّ على ذلك.

4. اِستجمعْ مِن النصِّ العاداتِ والتقاليدَ البارزةَ في المجتمع السودانيّ.

5. اتّخذَ التعيير (يفتح الله) عبارة دالّة (موتيف)، في مجرى القصّة ونهايتها. عيّنِ المعانيَ التي حملَتُها هذهِ العبارةُ؟

6.تتّخذُ النهايةُ في القصّة نزعةٌ إيمانيّةٌ. بيّنُها.

7. ما المغزى مِنَ القصّة برأيك؟

8. سَجِّلْ أمثلةً على مستويات اللغةِ الواردةِ في القصّة (جملة سرديّة، جملة وصفيّة، جملة حواريّة، جملة عامّيّة).

9. يرى بعضُ النقّاد أنّ إكثارَ الطيّب صالح من استخدام اللغة المحكيّة السودانيّة في كتاباتهِ قد أسهمَ في تجاهُل كثيرٍ من النقّاد العرب لَهُ، وقلّلَ من إمكانّية التواصلِ معها عربيًّا. سَجِّلْ رأيك في الموضوع معتمدًا على انطباعك من مستوى اللغة العامّيّة في القصّة.

10. اُكتب نهايةٌ أخرى للقصّة من تأليفِكَ وإبداعِكَ.

11. كيفَ تنعكسُ صورةُ المرأةِ السودانيّةِ في القصّةِ؟

12. يوظّفُ الطيّبِ صالح التناصَّ في القصَّةِ من مرجعيّاتٍ مختلفةٍ. هاتِ نموذجين مختلفينِ واشرحِ الهدفَ من توظيفهما.

13. ما الغرضُ من استخدامِ أسلوب الدائرية في القصّةِ؟

14. سَجِّلْ مثالًا على الاسترجاعِ الفنّيّ في القصّةِ، مبيّنًا الغرضَ من استخدامِهِ.


*123*

الراية والبراءة - مجيد طوبيا


*123*

مجيد طوبيا (وُلد 1938)

كاتبٌ وروائيٌّ معاصرٌ. وُلِد في محافظةِ المِنْيا في مصر. حازَ على بكالوريوس الرياضةِ والتربيةِ في كلّيّة المعلِّمين في القاهرة عام 1960، وعلى دبلوم الدراساتِ العُليا في الإخراجِ السينمائيِّ من معهد السينِما بالقاهرة، عام 1972.

عمِلَ مُدرِّسًا للرِياضيّاتِ، وفي إدارةِ المعلوماتِ بوزارةِ الثقافةِ، كما عمِلَ كاتِبًا بجريدَةِ الأهرام القاهريّةِ.

حازَ على وسامِ العُلوم والفُنون عام 1979، وعلى جائزةِ الدولةِ التشجيعيّةِ في الآداب من المجلِسِ الأعلى لرعايةِ الفُنونِ والآدابِ والعُلومِ الاجتماعيّةِ، عام 1979.

من مؤلّفاتِه:

خمسُ جرائدَ لم تُقرأ (قصص 1970)، الأيّامُ التاليةُ (قصص، 1972)، دوائرُ عدمِ الإِمكان (رواية، 1972)، عذراءُ الغروب (رواية، 1986)، عطرُ القناديلِ (عن يحيى حقّي وعصره، 1999)، بنكُ الضحك الدوليُّ (مسرحيّة هزليّة، 2001)، تغريبة بني حتحوت (رواية، 2005).


*124*

الراية والبراءة

مجيد طوبيا

اِنْطَلَقَتْ صفّارةُ الحَكَمِ، انتَهى الشوْطُ الأوَّلُ من المُباراةِ، وفَريقُ مَدْرستِنا مُنْهزكٌ بِهَدَفٍ إلى لا شَيْءَ جَمَعَنا المُدرِّبُ في حَنانٍ أبَوَيٍّ، أشارَ إلى مئاتِ الطلَبَةِ المُتجمِّعينَ لِتَشْجيعِنا حامِلينَ رايةَ المدَرَسَةِ، قالَ:

يجبُ أنْ تفوزوا، لا تُخيِّبوا رَجاءَ زُملائِكُمْ فيكُمْ، أنتُم تلْعبونَ على أرْضِكِم أَوْمَأْنا حمَاسًا وهَبَطَتْ عينايَ مِنْ رايةِ المدْرَسَةِ إلى جُموع التلاميذِ، أبْحثُ عنْ عَيْنَيْ (نادية) حَبيبتي حتّى وَجَدْتُها تُلّوِّحُ، فَابْتَسَمْتُ وامْتَلَأْتُ حَمِيّةٌ.

بدأَ الشَوْطُ الثاني، انْتَقَلَتْ فيهِ الكُرَةُ بينَ أقْدامِنا مُعْظَمَ الوقْتِ، منْ رَكْلَةٍ لأُخْرى، بِسُرعةٍ وقُوَّةٍ في لِعبٍ حماسِيٍّ انْتَهى بِإِحْرازِنا ثلاثَةَ أهْدافٍ وانْتَصَرْنا، ولَمْ يَعُدْ أمامَنا سوى مُباراتَيْنِ نَكْسِبُهُما ونفوزُ بِالكأْسِ.

بَعْدَ تَحِيَّةِ الزُملاءِ اتّجهْنا لأَخْذِ الحمّام نَغْسِلُ العَرَقَ والغُبارَ. خَلَعْنا ملابِسَنا وانْهَمَرَتِ المِياهُ فوْقَ أَجْسادِنا مُنْعِشَةٌ، وتَزاحَمْنا، كلُّ لاعبٍ يُريدُ أنْ يأْخُذَ نَصيبَهُ مِنَ الرذاذِ الباردِ، صائِحينَ صاخبينَ نَشْوانينَ بفَرْحَةِ الفَوْزِ، نتبادَلُ تَعْليقاتِ بالمَرَحِ والنِكاتِ. نَتحادثُ عنْ تِلْميذاتِ مَدْرسَةِ البناتِ نتَخاطَفُ الصابونَةَ، نَتَناولُها مِنْ فَوْقِ الحَواجِزِ الفاصلَةِ بيْنَ دُشٍّ وآخرَ كُنّا عُراةٌ مثلَ آدمَ ومَع ذلكَ لم يُغلقْ أحدُنا بابَهُ خجَلًا منَ الآخرينَ.

ونَحْنُ نُجفِّفُ المِياهَ ونَرْتدي ثيابَنا هَمَسَ (فاروق غرباوي) بنذيرِ النبي الخَبَرِ لأوّلِ مرّةٍ وقالَ:

عَرَفْتُ مِن خالي المُفتِّشِ أنّ ناظِرَ مَدْرَسَتِنا قدْ تمّ نقْلُهُ.

صِحْتُ:

- كيفَ ينْقلونَهُ وقدِ انْتَصفَ العامُ الدراسِيُّ؟

قالَ حُسين حارِسُ المَرْمى مُمَشِّطًا شَعْرَهُ في أسّى:

- خَسارة، رَجُل طيّب.


*125*

قالَ فاروق غرباوي:

- على نقيضِ خَلَفِهِ القادِمِ تَمامًا حدّثني خالي أنَّ الناظِرَ المُنْتَظَرَ صارِمٌ وعنيفٌ شديدُ القسْوةِ وأَنَّ شُهْرَتَهُ بالوِزارةِ تأديبُ المدارِسِ المُشاغِبَةِ.

زَرَّرَ مُنير قميصَهُ:

- لَسْنا مُشاغِبينَ.

أكْملَ فاروق غرباوي:

- عامٌ واحدٌ في أيّةِ مدْرَسةٍ مُشاغِبةٍ يُؤَدِّبُها، ثمّ تنقُلُهُ الوِزارةُ إلى مدرسَةٍ أُخْرى لِيُؤَدِّبَها وقدْ حانَ دَوْرُنا.

قُلْتُ في ثِقَةٍ:

- يُؤَدِّبُنا مِنْ أجلِ ماذا؟ لِيأْتِ وسوْفَ نَرى؟

في الخارِجِ كانَ في انْتِظارِنا عشَراتُ الطَلَبَةِ السُعَداءِ وحامِلُ رايتِنا يُعيدُها إلى سارِيَتِها ويَرْفَعُها خفّاقَةً عالِيةً وعنْ قُرْبٍ لمحْتُ حبيبتي نادية تَتَلَكّأُ في المَسير فانْسَلَلْتُ خَلْفَها سَبَقَتْني خارِجَةٌ إلى شارعِ النيلِ وسِرْتُ في أثَرِها قَبْلَ ابْتعادي الْتَفَتُّ أتَّأَمَّلُ مدْرَستي: كبيرةٌ بِمَبْناها فَسيحَةٌ بِمَلاعبِها تقِفُ شامِخَةً مُطِلَّةً على نيلِ الصعيدِ (الصعيد: منطقة تقع في الجزء العلويّ من أراضي نهر النيل في مصر. وتمتدّ من الجيزة شمالًا حتّى أسوان جنوبًا. يتحدث سكّان الصعيد اللهجة الصعيديّة) في اتّساعِهِ، تُرفرِفُ رايتُها (رايتُها: عَلَمُها، لواؤُها) طَوالَ الوقتِ، تستقبِلُ الشَمسَ في شروقِها وتودِّعُها في غروبِها، هَفهافَةً (هَفهافَة: رقيقة، شفّافة) مع نَسيمِ الشَمالِ وسَوْفَ نحتفظ لها بالكأسِ للعامِ الخامِسِ على التَوالِي.

لحِقْتُ بناديَة مَلهوفًا (مَلهوفًا: توّاقًا، متلهفًا) لمحادثَتِهَا، لكنَّهَا ابتعدَتْ خَجِلَةً انحرَفَتْ إلى شارِعٍ جانبِيٍّ خالٍ من المارَّةِ ثمّ تَلكَّأَتْ (تَلكَّأَتْ: تباطأت) حاذَيتُها مُعاتِبًا اعتذَرَت كعادَيِها بخوفِهَا من الناسِ قد يرانَا مَن


*126*

يعرفُ والدَها ويخبِرُهُ فتكونُ الطَامَّةُ (الطَامَّةُ: المُصيبة) ويكونُ العِقابُ الوخيمُ (الوخيم: الشديد، البيِّن).

قالت:

- تعرِفُ تقاليدَ الصَعيدِ.

قلتُ:

- لا نرتكِبُ فِعلًا مَشينًا (مشينًا: مُخزيًا (والصواب: شائبًا)): أحِبُّكِ وأُريدُ أن تَعرِفَ كلُّها أنّني أحبُّكِ ومُستعِدٌّ أن أُواجِهَ العالَمَ كلَّهُ بحُبِّكِ.

احمَرَّ وجهُهَا سعادةً، وهنَّأتْني بالفَوْزِ.

وسِرْنَا وقتًا، ثمّ افترَقْنا بعدَ أن تعاهَدْنَا على الوَفاءِ وعلى دوامِ المَحَبَّةِ مَدى العُمرِ.

بعدَ أُسبوعٍ تحقَّقْنا مِن صِدقِ النَبَأَ، عندَما وَقَفَ ناظِرُنا (ناظِرُنا: مديرنا) أمامَ مُكبِّرِ الصَوتِ يُودِّعُنا بكلماتٍ حارَّةٍ مُعرِبًا (مُعرِبًا: مُبيّنًا، مُعبّرًا) عن حبِّهِ لنا ولبلدَتِنا، راجيًا للجَميعِ دَوامَ التَوفيقِ، طالِبًا منّا المُحافظَةَ على نتائِجِ النجاحِ المُمتازَةِ الّتي حَصَلْنا عليْها طَوالَ سنَواتِ إدارتِهِ للمدرَسَةِ.

علَى الفَوْرِ سمِعْنَا حكاياتٍ عَجيبَةً عنِ الناظِرِ القادِمِ وصرامَتِهِ (صرامة: شدّة، قسوة) سمِعْنا أنّه لا يبتسِمُ أبَدًا، لا يعرِفُ الرَحمَةَ أو الشَفَقَةَ، كحاكِمٍ، عسكرِيٍّ قاسِي القلبِ سمِعنا أيضًا أنَّه غليظُ الكَفِّ، ضَخمُ الكَرشِ. قُلتُ:

- سوفَ نُفرِغُ كَرشَهُ من انتفاخِهِ.

قال فاروق غَرَباوي نقلًا عن خالِهِ المفتِّشِ:

- الناظرُ القادِمُ عقابُهُ الوحيدُ الّذي يؤمنُ بهِ هو فصلُ من لا يعجِبُهُ فصلًا نهائيًّا من كافَّةِ المدارِسِ، يعني ضياعَ المُستقبلِ ضَياعًا كامِلًا، والعياذُ بالله!


*127*

ضحِكْنا سخريَّةً رغمَ ارتفاعِ القَهقَهاتِ (القَهقَهاتُ: ضَحِكٌ بصَوْتٍ عالٍ) شعرْتُ بها جافَّةٌ مَرعُوشَةٌ غيرَ واثقَةٍ.

وعلى الفَوْرِ تمَلَّكَني انقباضٌ مُبهَمٌ عَصَرَ قلبي حُزنًا، ظلَّ مُسيطِرًا عليّ ولم يزايِلْني (لم يزايِلْني: لم يفارقّني) إلّا عندَما لاقيْتُ نادية، حيثُ عاودتْنِي البهجَةُ عن دفءِ صوتِها الحانِي (الحانِي: الحنون)، ومن اندفاعَةِ الدِماءِ إلى وجهِي مع تلامُسِ كفَّها بكفَّي وسِرْنا حتّى بدَت لنا أطلالُ الفراعِنَةِ القريبَةُ، حيثُ هناكَ كِباشُ (كِباش: جمع كَبْش) الغَجَرِ وماعزُهُم ما إن تشبَعُ مِن الكَلَإِ حتّى تأخُذَ تتَناطَحُ وتتقافَزُ حولَ تمثالِ الفِرعَوْنِ العَتيدِ (العَتيدِ: الشديد، الصلب).

مَضى أسبوٌع آخرٌ وسَمِعْنا أنّ الناظِرَ المَوعودَ قد وصَلَ بالفِعلِ انتظَرْنا أن نراهُ، ومَرَّ اليومُ كلُّهُ، ومرَّ يومان آخران من غيرِ أن يلمَحَهُ أحدُنا ظلَّ حَبيسَ مكتبِهِ، يأتِي قبلَنا وينصرِفُ بعدَنا حتّى شكَكْنَا في صِحَّةِ نَبَأَ وُصُولِهِ، لولا أنَّ المُدرِّسِين كَّدُوا لنا وُجودَهُ.

وطَوالَ هذه الأيّام أطلَقَ الطَلَبَةُ شائعاتٍ غريبَةً عن أوصافِهِ. زَعَمَ أمين، أغبى تلاميذِ فَصْلِنا (الفَصْل: الصفّ في المدرسة) أنّه رآهُ، ووصفَهُ قائِلًا:

- جَسَدٌ طَويلٌ بِكرْشٍ ضخْمٍ وقفًا عَريضٍ.

لكنّ مُنير نقَضَهُ في ثِقةٍ:

- بل قَزَمٌ سَمينٌ لا عُنُقَ له، بعينيْن جاحظتيْن (جاحظتان: ضخمتان ناتِئتان).

وفي يومِ التَمرينِ وبعدَ أن تدَرَّبْنا، توجَّهنا إلى الحَمَّامِ ودَخَلْنا تحتَ المياهِ، أعلَنَ حُسين حارِسُ المَرمَى بانّهُ رأى الناظِرَ رؤيةَ العَيْنِ، صاحَ: هو باختِصارٍ شديدٍ يُشبِهُ الغُولَ!

وعلى الفَوْرِ راحَ كلُّ واحِدٍ منّا يتخيَّلُهُ حسْبَما كانَ يتخيَّلُ الغُولَ في حكاياتِ طُفولتِهِ.


*128*

مع بدايّةِ أًسبوعِهِ الثاني، فُوجئْتُ مع عدَدٍ كبيرٍ من التلاميذِ ببوّابَةِ المَدرسَةِ مُوصدَةً (مُوصدَةً: مُغلقة)، أُغلِقَت قبلَ بدءِ الدِراسةِ بنِصفِ ساعَةٍ ودونَ تنبيهٍ سابِقٍ تَسَكَّعْنا في الشِوارِعِ عِدَّةَ ساعاتٍ قبلَ أن نتَوَجَّهَ إلى بيوتِنا وحرِصْنا في اليومِ التالي على التَوجُّهِ مُبكّرًا بِدافِعِ الرَغبَةِ لرُؤيتِهِ وربّما بدافِعِ الخوْفِ من صيتِهِ أنا شخصيًّا كنتُ شَغوفًا لمعرفَةِ مِن أجلِ أيَّةِ أفعالٍ يريدُ تأديبَنا وكيف سيفعلُ بنا ذلكَ.

دقَّ الناقوسُ (النَاقوس: الجَرَس)، فأُغلِقَت البوّابَةُ الحديديَّةُ على الفَور، وبدأْنا نتوَجَّهُ كعادَتِنا إلى الفُصولِ لكنَّنا فوجِئْنا بمُدَرِّسِي الحِصَصِ الأُولى يمنَعُونَنَا وبأيديهِم - على غَيرِ العادةِ - عِصِيٌّ قصيرةٌ، ويَطلُبُون منّا الوُقوفَ في صُفوفٍ ولاحَظْنا وُجودَ خُطوطٍ جِبريَّةٍ (جبريَّةٍ: مدهونة بالجير. الجير: مادَة بيضاء تُستعمل في الطلاء، الجِصّ) على الأرضِ لم تكُن موجودةً من قبلُ، خَطّان لكلِّ فصلٍ يقِفُ تلاميذُهُ بينَهُما!

قاوَمْنا في البدايِةِ بسبَبِ عدَمِ التَعَوُّدِ، وبرغبَةٍ دفينَةٍ في التمرُّدِ، لكنَّ العِصِيَّ في أيْدِي المُدَرِّسين أجبَرتْنا على الانصِياعِ، فوقَفْنا كَفِرَقِ الجَيشِ في صفوفٍ مُنتَظَمَةٍ ووجوهُنا جميعًا صوْبَ الدَرَجِ المُؤدِّي على غُرفةِ الإدارةِ ومن هناك، من عندِ أعلى الدَرَجِ ظَهَرَ الناظِرُ المُخيفُ فَسَادَ صمتٌ كاملٌ وشامِلٌ رَهبةٌ وفُضولًا وكانَ مظهرُهُ شَتاتًا (شَتات: متفرِّق، مُتشَتْت، أي: مُختلف) ممّا سمِعْنا عنه، مُتوسِّطَ الطولِ ضخمَ البدَنِ مُنتفِخَ البطنِ وبِلا عُنُقٍ، وبلا عصًا في يدِهِ ووجهٌ مُستديرٌ متجهِّمٌ.

لاحظْنا أنّ وجوهَ المُدَرِّسين وعيونَهُم لا تفارِقُهُ في انتظارِ أوامِرِهِ في لحَظاتٍ كانَ توتُّرُهُم قد انتقلَ إلينا، فقُمْنا مَأخُوذِين (مَأخُوذِين: مغلوبيْن، مسلوبيْن) وعيونُنا أيضًا لا تفارِقُ الوَجْهَ المتَجَهَّمَ (المتَجَهَّمَ: عابس الوجه، مُكفهِرّ الوجه) الصامِتَ. ولاحظتُ أنّ رايةَ المدرسةِ مُنكَّسَةٌ (نكَّسَ العلَم: نزَّلَه، أخفَضَه) عندَ أسفلِ السارِيَةِ (ساريّة العلّم: عمود يُرفع عليه العَلّم، سارية السفينة: عمود يُنصب عليه الشِراع).

فجأةً وقَعَ حادثٌ خارِقٌ (خارق: غير عاديّ، كلّ ما خرج عن العادَة)، على حينِ بَغْتَةٍ (بغتَة: فجأة) انطلَقَ من الصُفوفِ الخلفيَّةِ نُواحٌ (نُواح: بُكاء مصحوب بالصياح) هَزْلِيٌّ، ضاعَفَ


*129*

من سُخريَّةِ الصمتِ الهائلِ الّذي كنّا فيه وعلى الفورِ ضَجَّتِ (ضَجَّت: أحدثت جَلَبة وصياحًا) المدرسةُ بضَحِكاتٍ صاخبَةٍ، ضحكاتٍ عصبيَّةٍ مُبالَغٍ فيها، وتعرَّجَتِ (تعرَّجَت: اعوَجَّت، مالَت) الصُفوفُ وكادَت تنفَلِتُ.

بُوغِتَ الأساتِذَةُ لِبُرهَةٍ، ثمّ سُرعانَ ما تولَّتْ عِصِيُّهُم إسكاتَنا وإعادَتَنا إلى الانضباطِ مرَّةً ثانيةً في الصُفُوفِ والى حالةِ الصَمتِ المُطبِقِ فمكثْنا شامِتِين (الشامِت: من يفرح بالمكروه الّضي يُصيبُ غيره) نترَقَّبُ ردَّ فِعْلِ الوجهِ المتجَهِّمِ.

لم يخرُجْ عن جمودِهِ، ظلَّ في هدوئِهِ المَقِيتِ (المَقيت: البغيض)، ثمّ هَمَسَ في أُذُنِ وَكيلِ (وَكيل الناظر: نائب المدير) المدرسَةِ واستَدارَ داخِلًا غرفتَهُ ثوانٍ وعرفْنا مَضمونَ همسَتِهِ، إذ ظلَلْنا في أماكِنِنا، مُذنِيين طَوالَ اليومِ الدِراسيِّ والمُدرِّسون يتبادَلُون مراقَبَتَنا في حَزْمٍ (حَزْم: عَزْم) وهِمَّةٍ إلى أن انصرَفْنا إلى بيوتِنا مهدُودِي الحَيْل (مهدُودِي الحَيْل: مُنهَكين).

اليومُ الثالثُ: وقفْنا طوابيرَ (طوابير: صُفوف الطّلاب، أو صُفوف الجيش) بطريقَةٍ أسرَعَ، وخرَجَ البَدينُ الضخمُ بوجهِهِ المُتَجَهِّمِ، والرايَةُ منكَّسَةٌ مثلُ اليومِ السابِقِ، ممّا أدهشَنِي: لماذا ينكّسُها وهي الّتي لم تُنكَّسْ في يومٍ من الأيّامِ؟

تَنَهْنا على وَكيلِ المدرسَةِ يُنادِي عدَدًا من الأسماءِ، خرَجَ أصحابُها مَذعورِين، ليصطَفُّوا، واحدًا بعدَ الآخرِ تحتَ الرَايةِ المُنكَّسَةِ، حتّى وصلَ عددُهُم إلى عَشْرةٍ وعندَما سمعْنا النَبَأَ الصاعِقَ، نبَأَ فصلِهِم من الدِراسةِ فصْلًا نهائيًّا وبِلا رجْعَةٍ ألْجَمَتْنا (ألْجَمَتْنا: أسكَتَتْنا، جعلَتنا عاجزين عن الكلام) المفاجأةُ، وانكمَشَ معظمُنا واجِمينَ. ونحنُ نراهُم يخرجون مُتباطِئينَ في انكسارِ وعدمِ تصديقٍ العجيبُ أنّ هؤلاءِ العَشْرةَ بالذاتِ، كانوا مسئُولينَ بدرجةٍ كبيرةٍ عن صِياحِ اليومِ السابِقِ، فكيفَ عرَفَ الناظِرُ الجديدُ؟ لا بدَّ أنّ بيننا وُشاةً (وُشاةٌ: جمع واشٍ: مُفسِد، نمّام) أبلغُوهُ فمن يكونُون؟


*130*

بعدَ إغلاقِ البوّابَةِ الحديديَّةِ مِن ورائِهِم أومَأَ (أومَأَ إليه: أشار إليه) الناظِرُ إلى مُدرِّسِ الألعابِ، بإيماءةٍ (إيماءة: إشارة) خفيفَةٍ فإذا به ينتفِضُ مُصدِرًا صَوْتًا كصَوْتِ مدرِّبي الجيشِ طالبًا منّا تحيَةَ الرايَةِ الَتي أخَذَ يرفعُها أمامَ أعيُنِنًا.

تابعتُها بِنَظَرِي وهي تُرفَعُ تدريجيًا وفي بُطءٍ، رأيتُها مُتهدِّلَةً (مُتهدِّلَة: مُتَدَلِّية، مُسترسلة) والهواءُ ساكِنٌ، لا تُرفرِفُ مثلَما عوَّدَتْنا شعَرْتُ بِغُصَّةٍ (غُصَّة: ألم وحزن. والغُصَّة: ما اعترض في الحلق من طعامٍ أو شراب) تخنُقُنِي، وبدمُوعٍ ساخنَةٍ تملأُ عينيَّ فشاهدتُ هذه الرايَةَ مُتموِّجَةً مُتآكِلَةَ الحوافِّ (الحوافِّ: جمع حافّة، الجوانب، الأطراف) ووللتَوِّ (للتَّوّ: فوْرًا) أحسست بها غريبةً عنّي.

أثناءَ الحِصصِ تشاورْنا فيما يمكِنُ أن نفعلَهُ لإعادَةِ زملائِنا المَفصولِينَ، لكنّ المُدرِّسينَ أرهَبُونا ونصحُونا بالصَمتِ - ولاحظتُ أنّ معظمَهُم سعداءُ بهذا الرُعبِ المُباغِتِ (المُباغِت: المفاجئ)، خاصَّةً غيرَ الأكْفاءِ (الأكفاء: جمع كُفء، جدير، قادر على) منهُم، إذ كنّا لا نحترمُهُم لعدمِ استفادتِنا من حِصَصِهِم - ورغمَ ذلك حاولتْ حُفنَةٌ من التلاميذِ (حُفنَة من التلاميذ: مجموعة، شِرذِمَة) التَدخُّلَ فكانَ نصيبُهُم الفصلَ النهائيِّ أيضًا ودونَ نقاشٍ ودونَ قُبولِ أَيَّةِ وَساطَةٍ أو ترحُّمٍ.

أخيرًا استتَبَّ (استتَبَّ: استقرّ، سادَ) نظاُم الناظِرِ، وتعوَّدْنا على الرايَةِ منكَّسَةٌ كلَّ صباحٍ وتعوَّدْنا على رفعِهَا مع ظُهورِ الوجهِ المُتَجَهِّمِ، أصبحَ ارتفاعُها قرينًا (قرينًا: مُصاحبًا) بظهورِهِ ويومًا بعدَ يومٍ بدأتُ أَمقُتُ (أَمقُتُ: أبغضُ، أكرهُ) هذهِ الرايَةَ، وهي الّتي لعِبْنا مبارياتِنا دائمًا تحتَ لوائِها وانتصرْنا بها. لكنّها كانت رمزَنا والآن صارَت رمزَهُ ولهذا تجاهلْنا أخْذَهَا معَنا في المباراةِ التالية قبل النهائيّةِ.

في هذه المُباراةِ ما إن نزلتُ إلى الملعَبِ مع باقي الفَريقِ حتّى أصابتْنا الدَهشةُ، كان عدَدُ المشجِّعينَ من زملائِنا أقلَّ منه في أيِّ وقتٍ مضَى ومع ذلكَ بذلْنا كلِّ جُهدِنا كي ننتَصِرَ، ثمّ بذلْنا كلِّ جهدِنا كي نتعادَلَ ومع قُربِ نهايةِ المُباراةِ صارَ كلُّ طموحِنا ألّا ننهزِمَ وخرجْنا


*131*

متعادلِينَ أماَم فريقٍ أقلَّ من مستوانا بكثيرٍ.

وفي المباراةِ الأخيرةِ، مباراةِ الكأسِ، كنّا جميعًا متوتِّرين قبلَها جَمَعَنا الناظِرُ وأمَرَنا بالفَوْزِ وأمَرَنا بأخذِ الرايَةِ مَعَنا، وخرجْنا من عندِهِ صامِتينَ مُنكسِرِينَ.

ولهذا نزَلْنا الملعَبَ خائِفينَ، بأقلِّ عددٍ من المشجِّعين، والرايَةُ مرفوعةٌ بلا حَماسٍ.

ولعِبْنا بلا حَمِيَّةٍ (بلا حَمِيَّةٍ: بلا حماسٍ، بلا اندفاع)، أكادُ أقولُ إنّ زملاءَ لي تعمَّدُوا (تعمَّدُوا: قصَدُوا) الإهمالَ، أنا شخصيًّا أضعْتُ هدفًا أكيدًا، لا أدري كيفَ حدَثَ هذا؟ لا أذكُرُ إن كانت مصادفَةً أم تعمُّدًا.

الّذي أذكرُهُ جيّدًا أنّنا عندما توجَّهْنا إلى أخْذِ الحَمّامِ - بعد هزيمتِنا، وبعدَ ضَياعِ الكأسِ منّا لأوَّلِ مرَّةٍ منذُ سنواتٍ كانتْ حركتُنا بطيئَةً صامتةً، وكان الحُزنُ يصبِغُ نظراتِنا ويُلجِمُ السنَتَنا، فانزَوَى (فانزَوَى: اختلى، انعزل) كلُّ لاعِبٍ مُغِلِقًا بابَه على نفسِهِ، خالِعاً ملابسَهُ بعيدًا عن أعيُنِ الزُملاءِ، مقهُورًا خجْلانَ مُزيلًا تحتَ رذاذِ (رذاذ: قطرات الماء) الدُشِّ آثار المُباراةِ عن جسدِهِ.

ارتديْنا ملابسَنا دون اهتمامٍ، وانصرفْنا فُرادَى، وعندما خرجْتُ أنا وجدتُ عن قربٍ نادية تتلكَّأُ في المسيرِ، سبقتْني إلى الشارِعِ على أملِ أن ألحقَ بها كعادتي لكنّي لم أفعلْ.

مفاتيح النصّ:

الواقعيّةً الانتقاديّةُ، المغزى التربويُّ في القصّةِ، تقنيّةُ المشهدِ السينمائيِّ في السردِ، الحَبكةُ، أنواعُ الشخصيّاتِ، ملامحُ السردِ، واقعُ التعليم في مصر، حاجاتُ الجيل الجديدِ.


*132*

مهامّ:

1. بماذا اتّصفَ مديرُ المدرسةِ الأوّلُ؟ وبماذا اتّسمت فترةُ إدارتِه للمدرسة؟

2. ما سببُ رحيلَ المديرِ الأوّلِ، عن المدرسةِ والبلدةِ برأيك؟

3. مَنِ الراوي في القصّة؟ وما هي سماتُ شخصيّته؟

4. ماذا كانت صفاتُ المديرِ الجديدِ من وجهة نظر الراوي؟

5. لماذا كان المديرُ ينكّسُ رايةَ المدرسةِ؟ اشرح موضِّحًا البعدَ الرَمزيّ من ذلك

6. هل كان فشلُ الراوي ورفاقِه في مباراةِ كرةِ القدمِ الأخيرةِ مُبرَّرًا؟ وضّحْ رأيك.

7. عيّنِ العناصرَ الفنّيّةَ في القصّة. (المكان، الزمان، الحدث، الصراع والعقدة، النهاية).

8. ما دلالةُ العُنوان على مضمونِ، القصّوِ العامّ؟

9. ما دورُ شخصيّة نادية في القصّة؟

10. ما المغزى من القصّة؟ علّل.

11. هل يمكن برأيِك أن يكونَ الأدبُ ذا وظيفةٍ تربويّةٍ اجتماعيّةٍ تُسهمُ في تنشئةِ الأجيال؟ وضّحْ من خلال القصّة.


*133*

موتُ الشعر الأسود - زكريّا تامر


*133*

زكريّا تامر (وُلد 1931)

أديبٌ سوريٌّ وصحفيٌّ وكاتبُ قصص قصيرة، وُلِد بدمشق، واضطُرَّ إلى ترْكِ الدِراسةِ عامَ 1944. بدأ حياتَه حَدّادًا في معملٍ. انطلَقَ يكتُبُ القصَّةَ القصيرَة والخاطرةَ الهجائيّةَ الساخرةَ منذُ عام 1958، كما يكتبُ قصصَ الأطفالِ منذُ عام 1968. يُقيم في بريطانيا منذُ عام 1980 ويكتبُ لمجلّةِ التضامن (لندن). متزوّج وله أولاد.

تُرجمَت كنبُه إلى الإنجليزيّة والفرنسيّة والإسبانيّة والإيطاليّة والبلغاريّة والروسيّة والألمانيّة. نالَ جائزة العويس للقصّة عام 2002، وجائزةَ ملتقى القاهرة الأوّل للقصّة القصيرة عام 2009.

من أعماله القصصيّة: صهيلُ الجوادِ الأبيض (1960)، ربيعٌ في الرماد (1963)، دمشقُ الحرائق (1973)، النمورُ في اليوم العاشر (1978)، الحصرمُ (2000)، تكسير ركب (2002)، القنفذ (2005).

قصص للأطفال: لماذا سكتَ النهر (1977)، قالت الوردة للسنونو (1977)، 37 قصة للأطفال نُشِرَت في كُتيّبات مصوّرَة (2000).


*134*

موت الشَعر الأسود

زكريّا تامر

كانت شمسُ الظَهيرةِ تسطَعُ بيضاءَ على حارِةِ السَعديِّ بينَما شيخُ المسجِدِ يقولُ للمصلّين أنّ الله هو الّذي خلَقَ الرِجالَ والنِساءَ والاطفالَ والطُيورَ والقِطَطَ والأسماكَ والغُيومَ، وهو الّذي خلَقَ أيضًا عبادَهُ الفُقراءَ من تُرابٍ، فيهزُّ الرِجالُ رؤوسَهُم مُوافقينَ، فوجوهُهُم تُشبِهُ تُرابًا لم تهطِلْ فوقَهُ قطرةُ مطَرٍ، وبيوتُهُم من تُراب، ويومَ يموتونَ يُدفَنُون في التُرابِ.

ولما انتهَتْ صلاةُ الظُهرِ، غادَرَ الرِجالُ المسجِدَ يَرِينُ عليهِم (يَرِينُ عليهِم: يغلبهم، يغطّيهم) خشوعٌ هادئٌ وكآبةٌ عذبةٌ، واتّجَهَ مُعظَمُهُم الى مَقْهى حارَةِ السَعديِّ، وهناك تكلَّمُوا عمّا حدَثَ قبلَ أيّامٍ، فلقَد قَصَدَ مُنذر السالم مَخفَرَ الشُرطةِ (مَخفَرَ الشُرطةِ: مركز الشرطة)، وأعلَنَ مرفوعَ الرَأسِ أنَّهُ ذبحَ أختَهُ لأنّ العارَ في حارَةِ السَعديِّ لا يمحُوه سوى الدَّمِ.

وهكذا فقد ماتَت فَطْمَة الفاكهَةُ الّتي تحلُمُ بها كلُّ الأشجارِ، فَفَطْمَة امرأةٌ جميلةٌ، ولكنَّ أجملَ ما فيها شَعرُها الأسودُ، الماءُ المُظلِمُ الّذي لا تتأَلَّقُ (تتأَلَّقُ: تتوهّج، تلمع) فيه نَجمةٌ، والخيمَةُ الّتي تمنَحُ الأمانَ للمُطارَدِ الخائِفِ.

وعندما كانت فَطْمة صغيرةَ السِنِّ، كانَ جدُّها يَهوَى تمشيطَ شعرِها، وينثُرُ خُصُلاتِهِ الفاحِمَةَ (الفاحِمَة: السوداء) بزُهُوَّ (زُهُوّ: إعجاب وافتخار) ونشوةٍ (نشوة: فرح)، ويُغمغِمُ (يُغمغِم: يتمتم، يقول كلامًا بغير وضوح) بإعجابٍ: كنزٌ كنزٌ.

ويومَ دخلَت فَطْمَة بخطَى مرتبِكَةٍ الى غُرفةِ الضُيوفِ وهي تحمِلُ فناجينَ القهوَةِ، لَفَتَ شعرُها أنظارَ النِسوةِ الخاطِباتِ، ونالت إعجابَهُنَّ تَوَّا (توّا: حالًا)، فتعالَتِ الزَغاريدُ بعدَ أسابيعَ وصارَت فَطمَةُ زوجةً لمُصطفى الرَجلِ الّذي يملِكُ وجهًا لا يبتسِمُ.


*135*

ولقد أحبَّ مصطفى فَطمَةَ وشعرَها، ولكنَّه كانَ يرى في أثناءِ نومِهِ حُلُمًا واحدًا يركُضُ فيه تحتَ مَطَرٍ غزيرٍ من دونِ أن تبلِّلَهُ قطرةُ ماءٍ.

وكانَ مصطفى يقولُ لفَطْمَة: أنا رجلٌ وأنتِ امرأةٌ. والمرأةُ يجِبُ أن تُطيعَ الرَجُلَ. المرأةُ خُلقت لتكونَ خادِمَةً للرَجُلِ.

فتقولُ له فطمَة: إنّي أطيعُكَ وأفعلُ كلَّ ما تُريدُ. فيصفَعُها قائلًا بنَزَقٍ: عندما أتكلَّمُ يجب أن تَخرَسِي.

فتبكي فطْمَة، ولكنّها كانت كعُصفورٍ صغيرٍ مرِحٍ طائِشٍ، فتكفُّ عن البُكاءِ بعد هُنيْهاتٍ (هُنيْهاتٍ: لحظات)، ثمّ تضحكُ وهي تمسَحُ دموعَها، فيُغمِضُ عينيْه، ويتخيّلُ فطمَة تقول له بذُلَّ: أحبُّك وأموتُ لو هجرتَنِي.

ولكنَّ فطمَة لم تقُلْ له يومًا ما يتوقُ إليه.

وفي يومٍ من الايّامِ دخَلَ مصطفى مُتجهِّمَ الوجهِ (مُتجهِّمَ الوجهِ: عابس) إلى مَقهى حارةِ السَعديِّ وقالَ لأخيها مُنذر السالم: قبلَ أن تقعُدَ كعَنتَرٍ بينَ الرِجالِ، اذهَبْ وخُذ أختَكَ من بيتِي.

فأَحنَى مُنذر السالم رأسَهُ خجَلًا من الرِجالِ المحيطين به، وعضَّ بقسوةٍ على شفَتِهِ ثمّ نهضَ فجأةً، وانطَلَقَ يركُضُ في حارة السَعديِّ.

ولما أبصرَتْ فطمَة أخاها مُنقَضًّا عليها شاهِرًا سِكّينَهُ، وَلْوَلَتْ، وسارَعَتْ إلى الهربِ من البيتِ، وركضَت في أزِقّةِ حارةِ السَعديِّ حاسِرَةً (حاسِرَة: كاشِفة) الرأسِ، مُبعثَرَةَ الشَعْرِ، وصَرَخَت مُستغيثَةً. غيرَ أنّ السِكّين لحِقَت بها وبَلَغَت عُنُقَها بينما كانَ الرِجالُ والنِساءُ والأطفالُ يقفون مُتجمِّدين شاحِبي الوُجوه.

وهكذا ماتَ الشعْرُ الأسودُ ولكنَّ فطمة ما تزالُ تركضُ في حارة السعدي وتطرقُ أبوابَ بيوتِها مستنجدةً فلا يُفتحُ بابٌ من الابوابِ وتتلطّخُ السكّينُ بالدمِ.


*136*

مفاتيح النصّ:

النقدُ الاجتماعيُّ، رفضُ القيمِ الاجتماعيّةِ الباليةِ، اللغةُ القصصيّةُ الشعريّةُ (التكثيفُ والمجازُ والتصويرُ). الصورُ الفنيّةُ، المُفارَقَةُ، قَتْلُ النساءِ، الزواجُ المتكافئُ، تفسيرُ الأحلامِ.

مهامّ:

1. ما تأويلُكَ للحُلم الدائمِ الذي كان يراهُ مصطفى أثناءَ منامِه؟

2. ما هو طابعُ العَلاقةِ بين فَطْمَة وزوجِها مصطفى؟

3. يستخدمُ الكاتبُ مفرداتٍ وتعابيرَ تناسبُ نفسيّةُ الشخصيّةِ الداخليّةَ؟. أعط مثالًا على ذلك.

4. ما الذنبُ الّذي اقترَفَتْه فَطْمة وتسبَّبَ في قتلِها؟ وما الدليلُ على ذلك؟

5. حدِّد سِمَتْين فنّيّتَيْن برزَتَا في القصّة.

6. من ميزات أدب الكاتب زكريّا تامر اهتمامُه بنموذج الفرد المسحوق. هل ترى هذه السِمَة في القصّة؟ اشرح.

7. اقترِح نهايةً أخرى للقصّةِ تتّفقُ مع رؤيتِكَ لصورةِ المجتمعِ ولمنطقِ الأحداثِ.

8. ما نوعُ الراوي في القصَّةِ؟ اشرح.

9. لُقّبَ زكريّا تامر بشاعر القصّة القصيرة. ما معنى هذا وكيف يظهَرُ في القصّة؟

10. اُكتب فِقرة موجزة تُبدي فيها موقفَك من ظاهرةِ قتل النساءِ في المجتمعِ العربيّ.

11. للأسماءِ في القصّةِ ترميزٌ هادفٌ. ما الغرضُ من هذا الترميز لكُلِّ من فطمة، مصطفى، حارة السعْدي، مُنْذر السالم؟

12. ما هي وظيفةُ الفقرةِ الأولى في القصّة على مستوى الدلالةِ؟

13. هلْ كانَ زواجُ فطمة من مصطفى متكافئًا؟ علِّلْ موقِفَكَ.


*137*

ليلى والذئب - إميلي نصرالله


*137*

إميلي نصرالله (وُلدت 1931)

أديبةٌ لبنانيّةٌ، روائيّةٌ، صحفيّةٌ، مُحاضِرةٌ وناشِطةٌ في مجالِ حقوقِ المرأةِ. وُلِدت في قريةِ الكْفير جنوبَ لبنان. تلقّت تعليمَها الجامعيّ في جامعةِ بيروت (الجامعة الأمريكيّة في لبنان حاليًّا) وحصَلَت على شهادةِ الماجستير سنة 1958. نُشرَت أوّلُ روايةٍ لها عام 1962 وهي بعنوان طيور أيلول. نَشَرت عددًا من الروايات، والمجموعات القصصيّة للأطفال.

من مؤلّفاتِها: شجرة الدُفلى (رواية)، الرهينة (رواية)، تلك الذكريات (رواية)، الجمر الغافي (رواية)، لحظات الرحيل (قصة قصيرة)، الليالي الغجريّة (قصة قصيرة)، الطاحونة الضائعة (قصة قصيرة)، أوراق منسيّة (قصة قصيرة).

حصلَت على جوائزَ عديدةٍ منها: جائزةُ الشاعرِ سعيد عقل في لبنانَ، وجائزةُ مجلّة فيروز، وجائزوُ جبران خليل جبران من رابطةِ التراث العربيّ في أستراليا. تُرجمَ العديدُ من رواياتِها إلى الإنجليزيّة والفرنسيّة.


*138*

ليلى والذئب

إميلي نصرالله

أَوصَتُها أُمُّها، منذُ أن خَطَت خُطوتَها الأُولى، على طريق الرِحلةِ.

أوصَتُها لِتَأخُذَ حذَرَها من الذِئبِ بل إنّ التوصِياتِ سَبَقَت تلك اللَحظَةَ بِزَمانٍ، أي حينَ كانت ليلى طفلةٌ في المَهدِ (المَهد: سرير الطفل)، وأمُّها تُرنِّمُ (تُرنِّمُ: تُغنّي غناءُ عَذبًا) بها أشجَى الأنغامِ، لِتغفوَ وتُطبِقَ جَفنيُها على أحلامٍ ناعِمَة.

وكانتِ الأُمُّ تُدخِلُ بين كلّ ترنيمَةٍ، وتاليةٍ لها، كلماتٍ جديدةً، وعباراتٍ مُعترِضَةً ضِمن قوسيْن مثل: (والذِئابُ تختبِئُ عادةً، في الغاباتِ. تفاجِئُكِ عند كلِّ مُنعطَفٍ. أحيانًا يرتَدي الذِئبُ وجْهُ ثعلَبٍ، أحيانًا وجْهَ أمينٍ).

يا ليلى، لا يغُرَّنَّكِ ذلك. عليك أن تَعرِفيه فورًا، وتَحيدِي من طريقِهِ).

نامِي / يا بُنْتي نامِي / حتّى أفرِشْ لكِ / ريش النَعامِ.

(ويا ليلى: حينَ تُبصرينَه، قادِمًا من المَجهولِ، سائرًا على قائمتيْن، بدَلَ أربعِ قوائمَ، تأكَّدي بأنّه هو، داخلَ قناعٍ جَديدٍ).

يا الله تنامْ / يا الله تنامْ / لأذبَحْ لها طِيرَ الحمام / يا حمامات لا تخافُوا / عَمْ بَضحَك عا ليلى تتْنام.

(أحيانًا يجيءُ، متلبِّسًا بكلِّ الوُجوهُ المألوفَة. ويقتربُ منكِ بلُطفٍ، يقتربُ ويُلقي السَلامَ. يُسمِعُكِ كلامًا له مذاقُ العَسَل. احذَريه. إذا قالَ: أنتِ جميلةٌ يكونُ هذا الطُعْمَ الأوَّلَ. إذا دعاكِ إلى مرافقَتِهِ يبدأُ الخَطرُ يُهدِّدُ حياتَك قد يسيرُ معَكِ خُطواتٍ في الفَلاةِ، لكنّهُ لا بدَّ وأن يجُرَّكِ إلى مغارتِهِ وهناك يا ابنتي مَن يدري ماذا يحدُثُ).

تِكْ تِكْ تِكْ، يا أمِّ سُلَيْمان / تِكْ تِكْ تِكْ، زَوْجِكْ وين كانْ / تِكْ تِكْ تِكْ كانْ بالحَقْلِه / عَمْ يُقْطُفْ خَوْخ ورِمَّانْ.


*139*

(ويا بُنَيّةُ! أحيانًا يَتجاوزُ الغابَةَ. يَسيرُ مَعَكِ على هَواكِ. يَعرِضُ خَدَماتِهِ. يقولُ:

أَحمِلُ السَلَّة عنكِ. أُرْشِدُكِ إلى السَبيلِ. أخْشَى عليكِ منَ الضَياعِ.

يقولُ لكِ:

أنتِ صغيرةٌ، عديمَةُ الخِبرةِ، والعالَمُ شاسِعٌ، والدُروبُ مَحفُوفَةٌ (مَحفُوفَةٌ: مُحاطَةٌ) بالخَطرَ. أُرافِقُكِ، يَقولُ، أكونُ عُكَّازَكِ. لا تُصدِّقِيه. وارفُضي كلَّ ما يقدِّمُهُ لكِ، من وُعودٍ وخَدَماتٍ. واذا أمْكَنَ، بدِّلي الطَريقَ، واسلُكي دربًا غيرَ دربِهِ)

يا الله تنامْ ليلى / يا الله تحِبِّ النَوْمْ / يا الله تجِيهَا العَوَافِي / وتْظلْ دَوْمِ الدَوْمْ.

(ويكونُ في بعضِ الأحْيانِ، مُختبئًا في غابَةٍ، في حفرةٍ، أو في كَهفٍ. ربّما تُبصرينَهُ واقفًا فوقَ قِمَّةِ التَلِّ، عندَ انحدارِ الشيرِ (الشير: المُنْحَدر الصخريّ (محكيّة لبنانيّة)). تَحسَبينَهُ ناطورَ الكُرومِ، يا غالِيَة! لا يخْدَعَنَّكِ المظهَرُ الخارجِيُّ. إنّه الذِئبُ يأتِي من كلّ الطُرُقِ، من كلِّ الأماكِنِ يجيءُ. خصوصًا حين يبصرُ فتاةً مثلَكِ، لها هذا الجَمالُ، واللُطفُ، والطِيبَةُ.

حالَما تُبصِرينَه، سارِعي خُطاك ولا تلتفِتِ عيناكِ إلى حيثُ يكونُ، ولا تنُظرِي مرَّةً إلى الوراءِ أبقِي بَصَرَكِ مشدودًا إلى الأمامِ، باتِّجاهِ غايَةِ الرِحلَةِ، بيتِ جدّتَكِ الطيّبِةِ. ولا تتوقَّفي لتقطُفِي لها الزُهورَ. أعرفُ وَلَعَك بِزُهور البَراري يا ليلى. أعرفُ مدى إغرائِها، خصوصًا في هذا الوقْتِ من السَنَةِ. تجاوَزِي إغراءَ الزُهورِ، ذاكرةً بأنّ عينَ الذِئبِ لا تنامُ، وهْي ترصُدُ حركاتِكِ، من كلِّ الجهاتِ، ومُنذُ ما قبلَ التاريخِ. لذا، كان عليكِ أن تُضاعفِي يَقَظَتَكِ وحَذَرَكِ. ولا تَدَعِي الحِيَلَ تنْطَلِي (تنْطَلِي عليه الحيلة: يُخدَع بها) عليكِ. آهٍ، كم هو مُحتالٌ، يا ليلى. كم إنّه ذكيٌّ ومُحتالٌ!)

يا حادِي / يا مادِي / يا كسَّارِ الزَبَادي / يا الله كَسِّرْ جُوْز ولُوْز / وآطعِمْها لأوْلادِي.

ليلى في أتَمَّ أناقَتِها، قُبَّعتُها الحمراءُ تتوَّجُ رأسَها، مثلَ زهرةِ (برقوقٍ) عِملاقَةٍ، وتحتَها المِعطَفُ من اللَونِ نفسِهِ، والحِذاء المَربوطُ بِتَأَنٍّ، والسَلَّةُ مُعلَّقةٌ في كوعِها، وعيناها مُنفتحتان، وشفتاها مُنفرجتان. كذلك أبقَتْ قنواتِ السَمْعِ مَفتوحةً، لتستوعِبَ كلَّ الكلامِ، وما بين الكَلامِ والأنغامِ. لم


*140*

تردَّ مرّةً على أمِّها. لم تطرَحْ سؤالًا. ربّما شاءت أن تَطرَحَ سُؤالًا، وأحجَمَتْ (أحجَمَتْ: تراجعت) في لحظةِ الانطلاقِ. إنّها مُشتاقةٌ كثيرًا لرؤيةِ وجهِ جدَّتِها. لكنَّ شوقَها إلى المُغامرةِ تَضاعَفَ الآن. أمُّها فتحَتْ لها كلَّ الأبوابِ، المُوصَدَةِ (المُوصَدَةِ: المُغلقة)، في الداخلِ والخارجِ ودعَتْها إلى المسيرِ.

وهي الآن في الطَريقِ، تقفِزُ مرِحَةٌ. تُنشِدُ بصوتٍ خافتٍ. تتصادَمُ أصداءُ نَغَمِها مع زَقزقَةِ العصافيرِ فوقَ أشجارِ البُستانِ. سوفَ تتَسارعُ خُطاها وتنطلِقُ، كالسَهمِ إلى الهدفِ، تمامًا مثلَما أوْصَتْها أمُّها، مثلَما حَلِمَت طَوالَ اللَيلةِ الفائتَةِ. سلَتُها مملوءةٌ بالكَعْكِ، والحَلوى اللَذيذةِ، من إعدادِ يدَيْ أمِّها. وقد مَلأتْ بطنَها جيّدًا، فزادَت فرحتُها. وتابعت سيرَها قفْزًا مرِحًا.

وطريقُها لولبيٌّ، يمرُّ وسَطَ الغابةِ. ليسَ في الإمكان تجنُّبُ ذلك. وصايا أمِّها تتمشىَ تحتَ جِلدِها، ويسبِقُها الصَوتُ مُمتزِجًا بذَرّات الأَثيرِ (الأثير (الهواء): وسَط فضائيّ لطيف يعمّ الكَوْن ويتخلّل جميع أجزائه):

(احذَرِي الذِئبَ يا ليلى. كُوني يَقِظَةٌ أبدًا والذِّئبُ يَأتي من كلِّ الجِهاتِ. ويرتدي شتّى الوُجُوهِ).

ماذا تقولُ أُمُّها؟

لا ذِئابَ في هذه الغابَةِ، حيثُ تتعانقُ أغصانُ شجرِ الشِربِينِ (الشربين: شَجَرة دائِمة الخُضُرة، لا تَسقُط أورَاقها، أمّ ثمارها فخَشبِية مُستطيلة تَنمو بطريقة مُنفردة عَلى الأغصَان) والسِنْدِيانِ،. هُنا تُقيمُ العَصافيرُ اللَطيفَةُ. تُرسِلُ زقْزَقاتِها فتُمَجِّدُ الخالِقَ ومِن قلبِ الغابِ، تُسمَعُ أصداءٌ موسيقيَّةٌ من نوْعٍ آخرَ، حين ترتَطِمُ الرِياحُ، بسيقانِ القَصَبِ والغَرارِ (الغَرار: نبات من القصب الدقيق، تُصنع منه أقلام الكتابة)، فتؤلِّفُ موسيقى سماويَّةً. لا هذا المكانُ الآمنُ، مأهُولٌ بالوَداعَةِ والجَمالِ والنَغَمِ العَذْبِ، ولا مكانَ فيه للذِئابِ.

وهي الآنَ، في مُنتصَفِ الطَريقِ. انعطَفَ بها دربُها، وتقدَّمَتْ صَوْبَ السُهُولِ المُنبسِطَةِ، خَضراءَ تُرصِّعُ صدرَها الأزهارُ من كلِّ لوْنٍ. هذه أزهارُها البَرِّيَّةُ المألوفَةُ السَكَوْكَعُ (السَكَوْكَعُ: نبتة جميلة الرائحة)، والنَرجِسُ، وشقائِقُ النُعمانِ، والياسَمِينُ البرّسُّ. وتغمِزُها أعيُنُ الزَهرِ بإغراءٍ. وترفَعُ إحداها الرأسَ، ليُصبِحَ بمستوى سَمَعِ الفتاةِ وتَهمِسُ في أُذْنِها:


*141*

خُذيني مَعَكِ.

تتَوقَّفُ ليلى والدَهشَةُ تَعقِلُ لِسانَها (تَعقِلُ لِسانَها: تربطُهُ، تعجز عن الكلام): زهرةٌ، وتَتَكَلَّمُ!

ماذا تقولين؟

تسألُها غيرَ مُصدِّقةٍ. فتُكرِّرُ الزَهرَةُ، المُنفتحَةُ كعَيْن الرَحمَةِ، تُكرِّرُ طلَبَها بما يُشبهُ الابتهالَ:

خُذيني مَعَكِ. اجعَليني رفيقةَ دَربِكِ. سئِمتُ الإقامةَ وَسَطَ هذا المَكانِ الجامِدِ.

وتردُّ ليلى:

عَجيبٌ كلامُكِ. لستِ وحدَكِ هُنا وحولَكِ رفيقاتُكِ الأزهارُ. والنباتُ مِن كلِّ صنفٍ. ثمّ هناك الغابَةُ وسكّانُها الطيّبون وتزورُكِ النسائِمُ من كلِّ الجِهاتِ. لماذا لا يكونُ هذا العالمُ ممتِعًا؟ وافتَرَّت بَتَلاتُ (بَتَلات: جمع بتَلَة. الفَسِيلة التي انفصلت عن أُمّها، والفسيلة جزءٌ من النبات يُفصّل عنه ويُغرس) الزَهرةِ عن شبْهِ ابتسامةٍ، وقالَت بأسّى:

- أنتِ لا تفهمينَ حياةَ الزُهورِ. لا يمكنُني أن أتّخِذَ أيَّ قرارِ. تُملَى عليَّ الإراداتُ مِن كلِّ صَوْبٍ، وأتَلقّى.

- وأنا عاجِزَةٌ عن الانتقالِ، عن التحرُّكِ من مكاني إلى موقعٍ آخرَ. انظُري كيف تُثَبّتُني جُذوري في أعماقِ التُرابِ.

انحدَرَت ليلى بنظَرِها حتّى أسفَلِ الجِذعِ، واكتَشَفَت أنّ ما قالتْه الزَهرَةُ صحيحٌ. لذا رَفَعَتْ إليها عينيْن مُنكسرتيْن، وقالت:

- كلامُكِ صحيحٌ. لا يمكنُكِ الخُروجُ من ارتباطِكِ بالتُرابِ.

- إذن، خُذيني إليكِ.

كرَّرَتِ الزَهرةُ طلَبَها، فأثارَتْ في صدرِ الفتاةِ شُعورًا غَريبًا، جَعَلَها تنحَنِي وتقطَعُ الساقَ الدَقيقَةَ وما إن فعلَت ذلك حتَى هدَرَ في أُذُنيْها صوتُ الرَعدِ. ارتجَفَت خَوفًا وتَراجَعَت خُطوتيْنِ إلى الوَراءِ، قبلَ أن تُقرِّرَ ماذا عليها أن تفعَلَ.

لكنّ الزَهرةَ المنتَفِضَةَ بين أصابِعِها دفعَتْها إلى اتّخاذِ القَرارِ:


*142*

- أسرِعِي، لنهرُبْ، قبل أن يَنْهَمِرَ المطرُ. إنّها عاصفةٌ رعديَّةٌ مُقبِلَةٌ من الجِهةِ الغربيَّةِ أسرعي.

- وماذا عن رفيقاتِكِ؟

سألَت ليلى، وقد خالَجَها (خالَجها: نازَعَها، سبّب لها الاضطراب) شُعورٌ بالشَفَقَةِ على الزَهْراتِ الصامتاتِ. ولم تسمعْ من زهرتِها أيَّ جوابٍ. فقرَّرَت أن تَطوفَ بنفسِها، لتبحثَ عمَّن تريدُ مرافقَتَها.

وهكذا تابَعَت قفزَها الرَشيقَ، وجمَعَت بِضعَ زَهْراتٍ، جَعَلتْها باقةً بحَجْمِ راحَةِ يدِها. وفَكَّرت بأنّ هذه ستكون هديّتَها للجدَّةِ. ونَسيَتِ السَلَّةَ المُعلَّقَةَ بِكوعِها.

تَفجَّرَ الرَعدُ مِن جَديدٍ. رَفَعت ليلى نظرَها إلى الفَضاءِ، فأبصرَت الغُيومَ الرَماديَّةَ تتَسابَقُ في الجوِّ، وكأنَّها تُلاحِقُ فُلولَ (فُلول: جمع فَلٌّ، الجيش المنهزم) جَيشٍ فارٍّ. وفكّرت بأنّ عليها أنْ تصلَ دارَ الجَدَّةِ قبل أنْ تُفرِغَ السَماء غضَبَها. ثمّ التفتَتْ إلى الزَهَراتِ تُطَمْئِنُهُنَّ:

- بعدَ قليلٍ نبلُغُ بيتَ الجدَّةِ، وهناك، أضُمُّكُنَّ في زهريّةٍ من بِلوْرٍ (بِلَّوْر: زُجاج ثمين شَفَّاف)، وأروِي سيقانَكُنّ بالماءِ النظيفِ عمّا قليل، ونبلُغُ نهايةَ الرِحلةِ.

لكنَّ العاصِفَةَ لم تُمهِلْ، وظلَّت تُشقِّقُ صدرَ الفَضاءِ. وراحَتِ المياهُ تتدَفَّقُ بغزارةٍ، فتَغمُرُ السُهولَ والحَشائشَ، وتُغرِقُ ما بقيَ من الأزهارِ. وانهَمَرَتِ المياهُ الغزيرةُ فوقَ رأسِ ليلى، وكانت العاصفَةُ قد عرّتْهُ، حين انتَزَعَتِ القُبَّعةَ الحَمراءَ، وقذَفَتْها بعيدًا عن مَدى الرُؤيَةِ. وانهمَرَ المطَرُ فوقَ السَلَّةِ المملوءةِ بالكعكِ والحَلوى، فاختلطَتْ فيها الأشكالُ والألوانُ. وهذا ما أخافَ الفتاةَ، ودَفَعَها إلى الجَرْيِ بسُرعَةٍ، علّها تُنقذُ ما تبقّى.

قبلَ أن تَبلُغَ دارَ جدّتِها سمِعَت ليلى وقعَ قدميْن، فعَلِمَت بأنّ هناك من يتعقَّبُها. وتساءَلَت إذا كانت أمُّها قد أرسَلَت ابنَ الجِيران، ليساعدَها. التفتَتْ إلى الوراءِ لِتنادِيَهُ، فأبصَرَت مَخلوقًا، لم تقَعْ عينُها على شبيهٍ له من قَبلُ. كان يرتَدي مِعطفًا تُكنّسُ أطرافُهُ الأرضَ، ويَعتمِرُ قُبّعةً سوداءَ تَغمُرُ رأسَهُ، وتهبِطُ لتغطّيَ أذُنيْه وجُزءًا من عُنُقِه. وقد حَجَب عينيْه بنظّارتيْنِ سوداويْنِ تُخفِيان ثلاثةَ أرباعِ وجهِهِ. ارتعدَتْ فَرَقًا (فَرّقًا: خوفًا). وشاءَت أن تسأَلَ هذا المخلوقَ العجيبَ، من يكونُ؟ وهل هو الذِئبُ، أم رسولُهُ أم

عدوُّهُ أم؟

لم يترُكْ لها الفرصةَ، اقتربَ، بقامَتِهِ الشامخَةِ، بصوتِهِ اللطيفِ، الناضِحِ (الناضِح: الراشح، الرطب النديّ) إغراءً وشهوَةً، وبلَمَساتِهِ الناعِمَةِ، الناعِمَةِ، مرَّرَ أصابعَهُ فوقَ وجهِهَا وهَمَسَ سؤالَه:

- ما اسمُكِ، أيتُها اللطيفَةُ الجميلةُ؟!

- ليلى

قالت، وهي غيرُ واثقَةٍ إذا كانت قد ارتكَبَت خطأً بإفشاءِ هذا السِرِّ. لكنّه لم يُعْطِها الفرصةَ، كي تُحاسِبَ ضميرَها، راحَ يطرَحُ أسئلَتَه يرشُقُها بها كزَخّاتِ البَرَدِ:

من أينَ جِئتِ؟ وإلى أين تَذهبين؟ من اشتَرى لك هذا المِعطفَ الجَميلَ؟ من غرسَ في وجهِكِ، هاتيْن العينيْن النرجسيّتيْن؟ ومَن حفرَ في وجهِكِ هذا الفمَ العَسَلِيَّ، ثمّ غرسَ فوقَه الأنفَ الأشمَّ؟ وشعرُكِ يا جَميلةُ! هذا المُنْهِدلُ (المُنْهِدل: المُسترسل، المُرخى إلى أسفل) على كتفيْكِ كسَنابِلِ القمحِ مِن أين جِئتِ بهذا الجمالِ كلِّهِ؟

أدركَت ليلى، بأنّها أمام مَخلوقٍ لا يُشبه أحَدًا من الأشخاصِ الّذين عرفَتْهُم في مُحيطِها وتساءَلَت:

أَوّ يكونُ هذا الذِئبَ؟

وتذَكَّرتْ كلامَ أُمِّها، وتحذيرَها، وتوصياتِها، لكنّ صَدى الكلامِ ظلَّ بعيدًا عن حاضِرِها إنّها أمامَ وضع يتعدّى كلَّ التوقُّعاتِ، وعليْها أن تتّخِذَ القَرارَ، وتُواجهَ الواقِعَ بشجاعةٍ. لذا رفَعَت رأسَها وأطلَقَتِ، السُّؤالَ:

- وأنتَ مَن تكونُ؟ ما هو اسمُكَ؟

- أبُو كاسِب.

صمَتَت ليلى، وقد أربَكَها الجوابُ، ثمّ عادتْ تقولُ:

- لمَ أسألْ عن اسمِ ابنِكَ. أريدُ أن أعرفَ اسمَكَ أنتَ؟ الاسمَ الحقيقيَّ.

- نعم، هذا هو اسمي الحقيقيُّ. والبعضُ يدعُوني أبو جِعدَة. يمكنُكِ أن تختاري منهما الاسمَ الّذي يعجبُكِ.


*144*

عادَت إلى صمتِها وارتباكِها. أمُّها لم تُجبرْها كيف تتصرَّفُ في الخُطوةِ التاليةِ. ربّما لم تحسَبْه ذكيًّا إلى هذا الحَدّ، يخترِعُ الأسماءَ، ويرتديها مثلَما يرتَدِي قناعَ وجهِهِ.

وفكَّرَت بأنّ أفضلَ وسيلةٍ تعتمدُها هي المُواجهةُ الشُجاعةُ، لذا سمِعَت شفتيْها تُتَمْتِمان:

- لا أصدِّقُ. أعرفُكَ مَن تكونُ أنت الذِئبُ. أمّي أخبرَتْني. حدّثَتْني عنكَ قبل أن أبدأَ الرِحلةَ.

قال مُحتالًا:

- لن أعارضَكِ. اختاري من الأسماءِ ما يروقُكِ. ذلك لا يهمُّ ما دُمتِ لطيفةً، طيبةً، وجميلةً. لكنّك لم ترُدّي على سُؤالي: إلى أين أنتِ ذاهبةٌ؟

- إلى دار جدّتي.

- وجدّتُك، هل تقيمُ بعيدًا من هنا؟

- كلّا هناك منزِلُها، داخلَ تلك الحديقَةِ.

ومدَّتْ إصبَعَها بسَذاجةٍ، تُشيرُ إلى المكانِ. وعادَ يسألُها:

- وجدّتُك تقيمُ وحدَها؟

نعم، وأنا ذاهبةٌ كي أسلّيَها. أحملُ إليها سَلّةَ كعكٍ وحَلوى. وباقةَ أزهارٍ برّيَّةٍ.

اقتربَ منها أكثرَ، ومدّ يدَه إلى السلَةِ، فغاصَت في مزيجٍ رَخْوٍ:

- لم يعُد هناك كعكٌ، ولا حلوى، انظُري؟

وفَتَحَ أمام عينيْها يدَه المُغَمَّسَةَ بالسائِلِ الدَبِقِ (الدَبِق: اللزِج)، حيثُ اختلَطَت الحَلوى بالكَعْكِ.

انهمَرتِ الدُموعُ من عينيْها وقالت:

- الحقُّ على العاصفةِ الراعدَةِ.

ربَّتَ على كَتِفِها مُحاوِلًا إعادَة الهُدوءِ إلى نفسِها:

- أمُّك لم تحسِبْ حسابَ العاصفةِ ثمّ قولي: كيفَ تركَتْكِ تخرُجين وحدَكِ؟ والغابةُ مسكونةٌ بالذِئابِ والوُحوشِ المُفترسةِ؟


*145*

أجفَلَتْها (أجفَلَتْها: أفزَعَتها) كلماتُهُ. ونظَرَت بطَرَفِ عينيْها، فلم تلمَحْ أيَّةَ علامةٍ من علاماتِ السُخريّةِ. بدا مُخلِصًا في كلامِهِ. ولكي يؤَكِّدَ إخلاصَهُ، مدَّ أنامِلَهُ (أنامِل: أصابع) وراحَ يمسَحُ دموعَها ويُتمتِمُ بحنانٍ:

- اِطمئِنّي، سأبقى مَعَكِ، ولن أترُكَكِ.

شعرَت بارتياحٍ يَمشي في عُروقِها. ومدّت يَدَها كي تُصافِحَ يدَ مُحدِّثِها، وتشكُرَهُ، ثمّ تُتابعَ مسيرَها. لكنّه تطوَّعَ بإتمامِ معروفِهِ، ومُرافقتِها حتّى نهايةِ الطريقِ. ثمّ عبَّرَ عن اندفاعِهِ عمليًّا، حين لفّ ذراعَهُ حولَ كتِفِها. ودَعاها لتظلَّ بقُربِهِ، وتعتمدَ عليه.

سارَت إلى جانبِهِ. ترتَشِفُ أُذُناها كلامَه العذبَ، وحكاياتِهِ النادرةَ، ونسيَتْ كلامَ أمِّها. بل راحَت الشُكوكُ تُساورُها، وهي تتذكَّرُ بأنَّ أمَّها خدَعَتها، وغرَسَت في صدرِها خوفًا لا مبرِّرَ له. كيف أخافَتْها وفي الغابةِ مثل هذا المَخلوقِ، اللطيفِ حتّى الانكسارِ، الدافئِ الهَمْسِ، الرقيقِ اللمَساتِ، والحاضِرِ لحِمايتِها وردِّ الخَطرِ عنها؟

كيفَ تجهَلُ أمُّها هذه الأمورَ عنه؟!

وقبلَ أن تبلُغَ ليلى دارَ جدّتِها كانت قد تعرّفَتْ إلى رفيقِ الرِحلةِ وارتاحَت إليه. وأعلنَتِ الثَورةَ على أمِّها، وعلى تعاليمِها العتيقَةِ، وارتمَت في دائرَةٍ رسَمَها الذِئبُ حولَها، ثمّ أحاطَها بالسِياجِ الكثيفِ، ولم تعُدْ تُبصِرُ مِن الوُجوهِ سواهُ، ولم يعُدْ يَنفذُ إليها، مِن وُجوهِ الناسِ، سوى وجهِهِ، وقد راحَ ينطبِعُ تدريجيًا في سَوادِ عينيْها ويتحوّلُ في ذاتِها إلى رَسولٍ للخيرِ والحُيِّ والجَمال.

وضَعَت السَلَّةَ بقربِها. وقَذفَت باقةَ الزُهُور إلى الأرضِ المُستحِمَّةِ برَشَقِ المَطرِ. وتمدَّدَت فوقَ مَقعدٍ حجَرِيٍّ، تُريح جسَدَها من تعَبِ المَسيرِ. وانتشرَ الضَبابُ حولَها، ثمّ لم تلبَثْ ظلمةُ المساءِ أن حلَّت على الكوْنِ، وأوْصدَتِ (أوْصدَت: أغلقَت، سَدَّت) الأبوابَ. وكان يُفترَض في الصغيرةِ، أن ترتَعِدَ خوفًا، أو تتألَّمَ من وَخْزِ الضميرِ، لانحرافِها عن هدَفِ الرحلةِ. لكنّ الذِئبَ بقِيَ بقُربِها، يملأُ بحضورِهِ؛ كلَّ فراغٍ.

وبينَما كانتِ العاصفةُ تُتابعُ ثَورتَها، فتجتاح الغابةَ والسُهولَ، وتُحطِّمُ أغصانَ الشجَرِ، كان الهُدوءُ والطُّمأنينَةُ والفرَحُ وعناصِرُ الأمْنِ كلُها تغمُرُ ليلى، وتُمحُو، شيئًا فشيئًا، ما بقيَ عالِقًا في الذاكرةِ، مِن وصايا أمِّها مع بدايةِ ذلكَ اليوم الجَديدِ.


*146*

مفاتيح النصّ:

إعادةُ صياغةِ الحكايةُ الشعبيّةِ، التوجّهُ الانتقاديُّ للتربيةِ الشرقيّةِ المحافِظةِ، التناصُّ، التوريةُ، اللغة الشعريّةُ، الطابعُ الرومانسيُّ، الأدبُ النٍسويُّ.

مهامّ:

1. تُعيد إميلي نصرالله صياغةَ الحكايةِ الشعبيّةِ المعروفةِ والقديمةِ ليلى الحمراء، بصيغةٍ أخرى. قارِن بين الصيغتين، ثمّ اذكر غرضَ الكاتبة من صيغتِها الجديدة.

2. تحفلُ القصّةُ بالرموز والمعاني الضمنيّةِ، منها: الرحلةُ، الذئبُ، ترنيمات الأمّ، الزهرةُ الّتي خاطبت ليلى، الزهرات الصامتات، حوار الذئب وليلى، وغيرها. اختر ثلاثةً منها وأشِر إلى المعاني الرمزيّةِ فيها.

3. كيف صوّرَتِ الأمُّ صورةَ الرجُلِ لليلى؟ ومن أين استَقَت هذه الصورةَ؟

4. قارِن بين شخصيّةِ الأمِّ في القصّة وشخصيّة ليلى.

5. تتّخذُ الرحلةُ في القصّة بُعدَيْن أساسيّيْن: الخارجيّ والداخليّ (أي الرحلة بمعناها البسيط الواقعيّ، والرحلة بمعناها العميق الرمزيّ). تتبَع هذين البعدين من خلال شخصيّة ليلى.

6. يظهرُ وصفُ الكاتبةِ للذئبِ مُزدوجًا وكأنّه يبدو بوجهيْن. أين يظهرُ ذلك؟ وعلى ماذا يدلّ؟

7. توجِّه الكاتبةُ نقدًا للتربية الشرقيّةِ المُحافِظَةِ. ما أوجهُ هذا النقد؟ حلّل.

8. تتبنّى القصّةُ مبدأَ خوضِ التجربةِ والحوارِ وكسرِ المفاهيمِ النَمطيَّةِ. بيّن ذلك.

9. تتميّزُ لغةُ القصّةِ بالشعريّةِ والرومانسيّةِ. عدّد ثلاثةَ مظاهر لهذه الميزةِ وادعمها بالأمثلة.

10. تتأرجَحُ لغةُ القصّةِ بينَ الرمزِ والواقعِ، وبين الصراحةِ والتوريّة. سَجَّلْ أمثلة على ذلك.

11. يُدرج النُقّادُ هذه القصّةَ ضمن التيَار الأدبيّ المعروف بِالأدب النِسْوِيِّ. عرّفْ هذا التيّارَ وبيّنْ ملامحَهُ في القصّةِ.


*147*

إنهيار - أحمد حسين


*147*

أحمد حسين (وُلد 1939)

أحمد حسين إغباريّة، وُلدَ في حيفا، ويسكنُ في قرية مُصْمُص، وهو شقيقُ الشاعرِ الفلسطينيِّ راشد حسين. أنهى دراستَه الابتدائيّةَ في حيفا وأمّ الفحم، والثانويّةَ في الناصرة. واصَلَ دراستَه الجامعيَّةَ في موضوعَيِ التربيةِ وعلمِ النفس. عملَ مُدرِّسًا بينَ 1960 وَ 1990. بدأَ الكتابةَ منذُ المرحلةِ الثانويّةِ، ونشرَ بعضَ إنتاجِه في الساحةِ المحليّةِ.

من دواوينِه الشعريّةِ: الزناطم: وقصائدُ أخرى (2011) قراءات في ساحة الإعدام (2004) بالحزن أفرحُ من جديد (2002) زمنُ الخوف (1973)، ترنيمةُ الربّ المنتظر (1978)، ومن أعماله الأخرى: الخروجُ من الزمن الهجريّ (رواية شعريّة - 1982)، الوجه والعجينة (قصص قصيرة - 1979).

يُعرَفُ بعشقِه لمدينة حيفا الّتي قضى فيها أجملَ أيّام طفولتِه، ولهُ العديُد من الكتاباتِ الشعريّةِ والقصصيّةِ عن حيفا.


*148*

إنهيار

أحمد حسين

- سامي درويش طَلَب!

- حاضِر.

- رِبحي خالد عبد الله!

- حاضِر.

- وائل ذياب الخَمرة! رُدّ! عَمَى في مَنظَرَك!

كانت وحشَةُ اليومِ الأوّلِ قد ذابَت نهائيًّا، وتأكّدْتُ أنَّ مدرسَتَنَا الجديدةَ ليست مَريعةٌ (مُريع: مُخيف) إلى الحدِّ الّذي صوَّرَهُ لي الوهْمُ حتّى صباحِ أمْسِ. بل لقد استطَعْنا - أكرم وأنا - أن نجدَ فيها أشياءَ مُهِمَّةً أو مُسلّيَةً مثلَ بعضِ الشتائِمِ المُبتكرِةِ (المُبتكرِةِ: الجديدة، غير مألوفة) الّتي لم نكُنْ قد سمِعنا بها في شارعِ الاستقلال أو في مَدرسة الوِحدة. لذلك انتهزْتُ فرصَةَ انشغالِ المُعلِّمِ ومِلْتُ على أُذُنِ أكرم هامِسًا:

- هل تسألُهُ؟

فأجابَ بصوتٍ خَفيضٍ:

- لا، يِمْكِن عَصَبِي!؟

كنتُ أشعُرُ بنفْسِ الشُعورِ، فمِنَ الحِكمَةِ التَحرُّكِ بحذرٍ في هذا المكانِ الّذي لا يزالُ كالمجهولِ بالنسبةِ لنا، وربّما ليس مأمُونًا توجيهُ الأسئلةِ إلى معلِّمٍ لم تَرَهُ مِن قبلُ. ولكنّني كنتُ أعيشُ معاناةً حقيقيّةً بلغَتْ أحيانًا حدَّ التعاسَةِ. معاناةً مركّبَةً كادت طُفولتي الهشَّةُ (الهشّة: الليْنة، الرخوة) تنهارُ تحتَ وطأَةِ (وطأة: شِدَّة، الضغط الشديد) انفعالاتِها العنيفةِ، فأوّلًا تلك المُحاولاتُ المُرهَفَةُ (المُرهَفَةُ: الرقيقة، الحسّاسة) والفاشلَةُ لتَصَوُّرِ العالَمِ، وثانيًا ذلك الشعورُ بالمَهانَةِ أمامَ ادِّعاءٍ قَذِرٍ كنتُ على يقينٍ تامٍّ من بُطلانِهِ دونَ أنْ أستطيعَ


*149*

شخصيًّا دحضَهُ (دَحضَهُ: إبطالَه، إلغاءَه)، وأخيرًا ذلكَ الإحساسُ بالابتعادِ والشَناءةِ (الشَناءة: البُغض الشديد) تجاهَ أكرم الّذي أخذَ يتسرّبُ إلى نَفسِي مُنذ مساءِ البارحَةِ.

كان عالَمُنا مُشترَكًا، يكادُ يكونُ واحدًا، ذاتُ البيتِ، وذاتُ السِنِّ، ولم تكن لُعبةٌ أو مُشاجَرةٌ إلّا ونحنُ معًا طرفُها أو طرَفاها، وشهرتُنا في العَضِّ وابتكارِ الألعابِ وصلَت آخِرَ الشارعِ. ولم يكُن هناكَ وضعٌ للمَكان أو الزمانِ أو الرفقَةِ، عَجِزْنا عن اختراع لُعبةٍ تلائِمُهُ. في الليلِ وحينما نكونُ وحيديْن معًا على سطْحِ المنزِلِ أو أسفَلِ السُلَّمِ كنا نتحدَّثُ عن المُستقبلِ، الّذي كانَ دائمًا على بُعدِ ساعةِ يومٍ عنّا على أكثرِ تقديرٍ، وفجأةً وبدونِ سابِقِ إنذارٍ يقولُ أحدُنا:

- أنا فنجانٌ!

فيُجيبُ الآخرُ على الفورِ:

- أنا إبريقٌ!

- أنا طُنجرةٌ!

- أنا بِرميلٌ!

وهكذا إلى أن يعجَزَ أحدُنا عنِ الاستمرارِ في مُباراةِ التفوُّقِ هذه.

ومعَ الوقتِ أصبحَ لنا سلاسِلُ مولَّفَةٌ من كلِّ الأنواعِ، تشمَلُ مملكةَ النباتِ والحيوانِ والجَمادِ حولَنا، وكانَ لكلِّ سلسِلَةٍ بدايةٌ دونَ أن يكونَ لها نهايةٌ، فالبحثُ مستمِرٌّ من الجانبيْن والمُفاجآتُ تَتْرى (تَتْرى: تَتَتابع) كلّ يومٍ والسِلسِلَةُ الّتي تقِفُ اليومَ عندَ التُوتةِ تقفُ غدًا عندَ الجُمَّيْزَةِ (الجُمَّيْزَةِ: شجرة من الفصيلة التُوتيّة، ثَمَرَها كالِتين) والّتي يختِمُها اليومَ الجَمَلُ يختِمُها غدًا الفيلُ. وكانتِ السلاسِلُ تمتَدُّ وتمتَدُّ وتنمُو كالزواحِفِ مع كلِّ اكتشافٍ جديدٍ لأحدِنا. ما عدا سِلسِلَةً واحدَةً.

كانَت تلك سِلسِلةٌ مُغلقةٌ باعترافِ الاثنين: ذلك أنّها تنتهي بحيفا. ولمّا كانَ من المُستحيلِ أن يكونَ هناكَ بلدٌ أكبرُ من حيفا فقد أُهمِلَ البحثُ في مجالِها.


*150*

ولكنَّ ذلك لم يكُن يعني أبدًا توقٌّفَها عن النُموِّ، فقد كانت هذه السِلسِلَةُ مُركَّبَةً من خصوصيّاتِنا، تبدأُ بالبيت الّذي نسكنُهُ وتجوبُ حيفا مُرورًا بجامِعِ الحُرَيّةِ فجامعِ الاستقلالِ فمركَزِ البوليسِ، فالحِسبَةِ فالشوارعِ المختلفةِ، وتنتهي بذلك الاسمِ العظيمِ، حيفا! وهذه أشياءُ كانت كلُّها تحتَ مُراقبتِنا المُستمرّةِ وكنّا نراها تنمُو على فَتَراتَ مُتفاوتةٍ ولكن باستمرارٍ. حتّى بيتُنا الّذي كّنا نسكنُهُ أكمَلُوا فيه بناءَ الطابِقِ الثاني بعد أن كان أكثرُ من نصفِهِ مُجرَّدَ ساحةٍ واسعةٍ على سطحِ الطابِقِ الأوّلِ. كانَ في هذه السِلسِلَةِ حيويَّةٌ داخليَّةٌ تشبِهُ الحيويَّةَ الّتي في داخلِنَا نحنُ، نُحِسُّ بها دون أن نَتتبَّعَها. ولكن ليس هذا كلِّ ما في الأمرِ. فالمكانةُ الخاصّةُ لها في نفوسِنا كانت أيضًا في نُمُوٍّ دائمٍ. وعلى ما يبدو، فإنّه لم يكن يمُّر يومٌ واحدٌ دونَ أن نُحبَّ حيفا أكثر، ودون أن نُحِسَّ بذلك أيضًا. ولهذا لم يكن واردًا قطُّ أن نلعبَ لُعبةَ التَفَوُّقِ هذه دونَ أن نبدأَهَا أو نُنهِيَهَا بالسِلسِلَةِ الحيفاويّةِ. وحينما كنّا نفعِلُ يبدو الانفعالُ البهيجُ واضحًا في صوتِ الواحدِ مِنّا وعينيْه، حينما يقولُ وهو يشُدُّ رأسَهُ إلى الأعلى رغمًا عنهُ:

- حيفا!

وتنغلِقُ السِلسِلَةُ، وينتظرُ الثاني دورَهُ ليقولَ: حيفا في المرّةِ القادمَةِ.

ومساءَ البارحةِ، كنتُ أنا الّذي أغلقُتُ السِلسِلَةَ. أحسسْتُ بحلاوةِ الموقفِ قبل أن أصِلَ إليه، وشعرتُ بالبَهجةِ تنمُو في نفسي مع كلِّ اسمٍ على الطَريقِ إلى الغايةِ. وأخيرًا شَدَدْتُ قامَتي رغمًا عنّي وقلتُ بذاتِ الانفعالِ اللذيذِ:

- حيفا!

- العالم!

لم يشُدَّ رأسَهُ إلى الأعلى. ولم يقُلْها بلهفَةٍ وتفاخُرٍ كما يفعلُ الواحدُ منّا عادةً حينما يكتشِفُ حَلْقَةً جديدةً. وقلتُ باستهجانٍ خالٍ من الغضَبِ:

- ما هذا؟

فقد كنتُ واثقًا أنّ ما قاله ليس إلّا نوعًا من العَبَثِ على حِسابِ دَوْري، ولم يخطُر ببالي أنّه يعني أنَّ العالَمَ أكبر من حيفا حقًا. ولكنّه قالَ بخيبةِ أملٍ واضحةٍ:

- العالَمُ أكبرُ من حيفا.


*151*

- مجنونٌ!!

- أخي سُليمان قال ذلك البارحَةَ.

- هل تصدِّقُهُ!

- إنّه في الصفِّ الخامسِ!

قلتُ باحتقارٍ لأخيه وللعالَمِ معًا:

- ما هو العالَمُ؟

- بلدٌ!

- أينَ هو؟

- بعيدٌ جدًّا.

- هل ذهبَ إليه؟

- كلّا، ولكنّه يعرفُ.

لم أشُكَّ للحظةٍ في أنّه يكونُ الأمرُ مُمكنًا أو صحيحًا، ومعَ ذلكَ تملَّكَني ذلك الشُعورُ بالمَهانةِ لمجَرَّدِ أن يفكِّرَ أحدٌ في أنَّ هناك بلدًا أكبرَ من حيفا:

- أخوكَ وسِخ!

- لا تشتُمْهُ! سأشتُمُ أخاك أنا أيضًا.

- لا تلعَبْ معي!

- وأنتَ أيضًا!

ولكنّنا ظللْنا واقِفَيْن مُطَأطِئَيِ الرُؤوسِ لفترةٍ طويلةٍ، وأخيرًا تَغلَّبْتُ على كِبريائي وقلتُ:

- تعالَ نسألْ!

- مَن؟

- أخي.

- إنّه في الصفّ الخامسِ أيضًا.

كان خائِفًا مِثلي هو الآخرُ. وقلتُ باستسلامٍ مُريحٍ:


*152*

- صحيح.

وقالَ بتردَّدٍ:

- نسألُ المعلِّمَ غدًا.

- أيَّ مُعلِّمٍ!

- واحدًا منهُم. أيَّ واحدٍ.

- مَن يسألُهُ؟

لم نُجِب عنِ السُؤالِ. كان الأمرُ مُخيفًا مِن أكثرَ من جانبٍ واحدٍ السُؤالُ، المعلِّمُ نفسُهُ، الحقيقةُ.

كان المُعلِّمُ واقِفًا عندَ اللوحِ تمامًا وقد أمسَكَ طَبشورَةً في يدِهِ وهو ينظُرُ إليْنا وكأنّه يقولُ: انتبِهُوا.

أدارَ ظهرَهُ ليكتُبَ. وقلتُ مرَّةً أُخرى:

- اسألُهُ!

- لا.

وكتبَ المُعلِّمُ في صدرِ اللوحِ بخطٍّ كبيرٍ: دِين، ثمّ وضعَ الطبشورَةَ من يدِهِ، ونفَخَ على أطرافِ أصابعِهِ وقالَ وهو يبتعِدُ عن اللوحِ إلى ناحيتِنا:

- مَن خلقَ العالَمَ؟

نظرْتُ إلى أكرم وقد اتّسَعَت عيناي من الرُعبِ واللَهفةِ، وبدَأ قلبي يدقُّ بعنفٍ مُبالَغٍ فيه. حاوَلَ أكرم أن يقولَ شيئًا فلم يستطِعْ، وبلَعَ ريقَهُ بصعوبةٍ واضحةٍ.

- نعم. ألله! كلُّكُم تعرفون ذلك بالطبعِ، ولكن ليسَ هذا هو المهمّ الآن.

- انتبهُوا للسُؤال التالي: في كَم خلقَ اللهُ العالَمَ؟

خيَّمَ الصمتُ. وجالَت (جالت: دارَ، طافَ) نَظَراتُ المعلِّمِ تستعرِضُ الوجوهَ، ولكنّ أحدًا لم يكُن لِيعرِفَ. ألله خلَقَ العالَمَ لأنّه هو فقط الّذي يخلُقُ. هو الّذي خلقَ الناس أيضًا. خلقَ الأرضَ والبحرَ


*153*

والشَوارعَ والأولادَ والقِططَ، وخَلَقَ العالَمَ بالإضافةِ إلى ذلك. ولكن مَتى، وكيف، وكم استغرَقَهُ ذلكَ، فهذا شيءٌ لم نكنْ نعرفُهُ أبدًا.

وقال المعلِّمُ بتَأَنٍّ (تَأَنٍّ: تمهُّل، ترفُّق) واستعلاءٍ:

- خلَقَ اللهُ العالَمَ في ستّةِ أيامٍ!

ستّةِ أيّام! شعرتُ بخفَّةٍ مُفاجئَةٍ لا تُحتَمَلُ واستولى عليَّ شعورٌ طاغٍ (طاغ: جارف (ظالم)) بالبهجةِ يدفعُني دفعًا إلى عمَلٍ طائِشٍ. أردتُ أن أقفِزَ، أن أصفِّقَ وأصرُخَ صرخةَ الانتصارِ المعهودةِ هو وَ وَ. ولم يُنقِذْني من ذلك سِوى إحساس بالرِثاءِ (رِثاءَ: رِقّةَ، شفَقَة) الشَديدِ للعالَمِ وتلك البَلاهةِ (البَلاهةِ: الغباء، ضَعفُ الرأي) الجامدةِ الّتي ظلَّتْ مُستَولِيَةٌ على وجهِ أكرم. ولكَزتُهُ (لَكَزَةُ: ضَرَبَهُ بجُمْع كفْهِ) بكُوعِي لَكْزَةً لا بدّ أنّها آلمتُهُ.

- رأيتَ!!

ونظرَ إليَّ عابِسًا وليسَ في وجهِهِ علامةٌ واحدةٌ على الفَهمِ. وشعرتُ بشيءٍ من الغضبِ عليه ومِن أجلِهِ:

- خلَقَ اللهُ العالَمَ في ستّةِ أيامٍ! ألم تسمعْ! وقال باستغرابٍ أبلَه وهو يُخفي فمَهُ بِكُمِّهِ:

- سمعتُ، سَيَرانا المَعلِّمُ!

ولم يكن يُهمُّنِي أن يرانا المُعلِّمُ، وقد زادَ غباءُ أكرم من حدَّةِ انفعالي، فقلتُ وأنا أحاوِلُ عَبَثًا خَفْضَ صَوتِي.

- يا حِمار. إذا كان اللُه قد خلَقَ العالَمَ في ستّةِ أيّامٍ، فإنّ وادي النسناس وحدَه أكبرُ من العالَمِ.

وقال باهتمام:

- لماذا؟

قلتُ بنفسِ الحَماس الأرعَنِ (أرعَن: أَحْمَق، أهْوَج)، وبنفسِ الشُعورِ المُتزايِدِ من الرِثاءِ للعالَمِ ولَهُ:


*154*

- كم بيتًا يستطيعُ اللهُ أن يخلُقَ في اليومِ؟

وقالَ بلهجَةٍ قاطعةٍ، ولا أدري لماذا:

- عَشرةً!

ولم تهُمَّنِي مبالغتُهُ، وقلتُ بلهجةِ المُنتصِرِ:

- كم عشرَة بُيوتٍ في وادي النسناس؟

- ستّة فقط!

وبدَأَ يحسِبُ على ما يَبدو، ولكنّ الأمرَ لم يَطُلْ بِهِ، فقالَ باستسلامٍ:

- أكثر.

فصَمَتُّ:

- إذن مَن أَكبر! العالمُ أم وادي النسناس؟

- وادي ال.

وصرخَ المُعلِّمُ:

- تَعالا إليّ!!

كانَ غاضِبًا حقًا. وحينَما اقتربْنا منه ونحنُ نرتَجِفُ صرَخَ بِي:

- في كَم يومًا خلَقَ اللهُ العالَمَ؟

فقُلتُ بعجَلَةٍ:

- في ستَّةِ أيّامٍ.

واستدارَ إلى أكرم بسرعَةٍ، وكأنّه يُريدُ أن يُفاجِئَهُ:

- ماذا فعَلَ في اليومَ السابِعِ؟

وحينَما لم يسمَعْ جوابًا، تقَدَّمَ نحوَهُ ببُطءٍ مُرعِبٍ وقد زادَ عُبوسُهُ إلى الضِعْفِ. وَضَعَ أكرم ذراعيْه أمامَ وجهِهِ وقالَ بلهجَةٍ باكيةٍ:

- كانَ يقولُ لي أنّ العالَمَ أصغرُ من وادي النِسنَاس.

وتوقَّفَ المُعلِّمُ فجأةً. ونظَرَ إليَّ باهتمامٍ، ثم قالَ بهُدوءٍ يُنذِرُ بُوضوحٍ بالعاصِفَةِ المُقبَلةِ:


*155*

- تُنكِّتُ! وفي درس الدينِ!

ولم أفهَمْ بالطبعِ أينَ مَجالُ التنكيتِ في ما قُلتُ. وشعرْتُ بخوفٍ شديدٍ لهذا الادّعاءِ الغامِضِ من جانِبِ المُعلِّمِ، ولشِدَّةِ عُبوسِهِ وانفِعالِهِ. واتّخذتُ وضعَ أكرم أمامَهُ منذُ لَحَظاتٍ وقُلتُ بأمَلٍ غامِضٍ:

- والله العظيم إِنّه يكذِبُ. قُلتُ إنّ حيفا أكبرُ من العالَمِ.

وبَدَا على المُعلِّمِ شيءٌ من التفكيرِ والاستغرابِ:

- إذن فأنتَ أبلَهُ أيضًا وليسَ مُشاغبًا فقط. اقتربْ!

وازدَدْت ابتِعادًا، فاقتربتُ منه، وتراجَعْتُ حتّى التصقْتُ بالحائِطِ:

- مَن أكبَرُ؟ أنتَ أم إصبعُكَ؟

قلت وأنا أرتجِفُ:

- أنا.

- مَن أكبرُ البابُ أمِ الغُرفةُ؟

- الغُرفةُ.

- كيف تكونُ حيفا إذن أكبرَ من العالَمِ، وهي قريَةٌ صغيرةٌ فيه، مثلُ هذه الغرفَةِ الّتي أنتَ فيها الآنَ أيّها الفأرُ الصغيرُ؟

وضَحِكَ الأولادُ. وشعرتُ بفَهمٍ مُؤْلمٍ يَجُوسُ (يَجُوس: يحومُ، يتردَّد جَيْئةً وذهابًا) داخِلي كما تَجُوسُ السِكّينُ، وبِتَغَيُّرٍ مُفاجئٍ في إحساسِي بنَفسِي وبالأشياءِ. كلُّ شيءٍ صارَ أكبرَ ممّا هو بالنسبَةِ لي. وبدأتُ أبكي:

- تبكِي أيضًا! إذا لم تكُن فأرًا فأنتَ صرصُورٌ حتمًا، لأنك أبلهُ ومُزعِجٌ كالصراصير.

وظَلَلْتُ أبكِي إلى أن فقَدْتُ المَقدرَةَ على التَوَقُّفِ، وعَبَثًا حاوَلَ المُعلِّمُ إسكاتِي. وبعدَ انتهاءِ الحِصّةِ حاوَلَ بعضُ الطلّابِ تَعزِيَتِي، فَشَتُموا المُعلِّمَ شَتْمًا عَنيفًا دونَ أن يعرِفُوا لماذا كُنتُ أبكي.


*156*

مفاتيح النصّ:

الغرض من تعدّدِ أسماءِ الأماكنِ، الاسترجاعُ، زاويةُ النظرِ لدى الراوي، الحوار، العنوانُ، استحضارُ شخصيّةِ الطفلِ، اللغةُ البسيطة والواقعيّةُ، علاقةُ الكاتبِ الشخصيّةُ بمدينة حيفا وأثرُها في كتاباتِه، المبنى الرمزيّ المتكامل.

مهامّ:

1. ما هي مواصفاتُ الراوي في القصّةِ؟

2. صِفِ العلاقة بينَ الراوي وبينَ أكرم وما طَرأَ عليها من تغيّرٍ.

3. ما الأسبابُ الّتي جعلتِ الراويَ الصغيرَ يعتبرُ حيفا أكبرَ مِنَ العالَمِ بأسرِه؟

4. اِستعرضْ أسماءَ الأماكنِ الّتي ذُكرتْ عن مدينةِ حيفا، ثُمَّ اذكرْ ما هي دلالاتُ ذِكرِ الأماكنِ بهذا العددِ؟

5. بيّنْ ميزتيْنِ فنّيّيَتينِ تَتَسمُ بهما القصّةُ.

6. ما دلالةُ عَنْوَنَةِ القصّةِ بكلمةِ انهيار، وما نوعُ العنوانِ؟

7.ما قولُكَ في جملةِ الشتائمِ الّتي وجَهها المعلِّمُ للطالبِ؟

8. اِستعرضْ شخصيّاتِ القصّةِ وبيّنْ خصائصَها الفنّيّةَ، وما تُمثَلهُ كلُّ شخصيّةٍ في رمزيّتها.

9. يصفُ إميل حبيبي في نهايةِ قصّتِهِ بوّابة مندلْباؤم بساطَةَ الأطفالِ بقولهِ: إنّ منطقَتهمْ بسيطٌ غيرُ مُركَّبٍ. ما أسلمَه!. كيفَ يرتبطُ هذا القولُ بمضمونِ قصّتِنا هذهِ؟

10. هل يمكنُ اعتبارُ القصّةِ جزءًا من السيرةِ الذاتيّةِ للكاتبِ؟ علّل رأيكَ.

11. اِبحثْ عن نصِّ آخرَ للكاتبِ، أحمد حسين يَظهرُ فيه عسقُهُ الخاصّ لمدينةِ حيفا ومكانتِها في قلبِه.

12. أيُّ الأماكنِ في البلادِ أحبُّ إلى قلبكِ؟ اكتبْ فِقرةً موجزةً تعبّرُ فيها عَنْ حبّكَ لإحدى القرى أو المُدُنِ معلّلًا دوافِعَ هذا الانتماءِ.


*157*

بوّابة مندلباوْم - إميل حبيبي


*157*

إميل حبيبي (1921-1996)

أديبٌ وصحَفِيٌّ وسياسيٌّ فلسطينيٌّ. وُلد في حيفا حيثُ ترَعْرَعَ وعاشَ حتّى عام 1956، حينَ انتقلَ للسكَنِ في الناصرةِ ومكثَ فيها حتّى وفاتِهِ. في 1943 تفرّغَ للعملِ السياسيِّ في إطارِ الحزبِ الشيوعيِّ الفلسطينيِّ وكانَ من مؤسِّسِي عصبة التحرّرِ الوطنيِّ في فلسطين عام 1945. بعد قيامِ دولةِ إسرائيل نشطّ في إعادةِ الوحدَةِ للشيوعيّين في إطارِ الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ الّذي كان أحدَ ممثِّليه في الكنيست بين 1952 و1972، ثمّ استقالَ بعدّها من منصِبِه البرلمانيِّ ليتفرّغَ للعملِ الأدبيِّ والصحافيّ. عمِلَ مُذيعًا في إذاعة القدس (1942-1943)، ومُحرّرًا في أسبوعيّة مهماز (1946) كما ترَأَّسَ تحريرَ صحيفةِ الاتّحاد، بين 1972-1989.

نَشَرَ عملَه الأوّلَ سداسيّة الأيّام الستّة عام 1968، وبعدَه تتابعت الأعمالُ: الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أَبي النحس المتشائل (1974)، لكع بن لكع (1980)، إِخطيّة (1985) وخرافيّة سرايا بنت الغول (1991). وقد جَعَلَت تلكَ الاعمالُ القليلةُ صاحبَها أحدَ أهمِّ المُبدعين العربِ، وذلك لأسلوبِهِ الجديدِ والمُتميَّزِ في الكتابةِ الأدبيَّةِ.

تُرجمَت أعمالُهُ إلى العديدِ من اللغاتِ: الإنجليزيّةِ والفرنسيّةِ والألمانيِّة والعبريّةِ، كانَ من أبرزِها رواية المتشائل الّتي أصبحت من أشهرِ المؤلَّفاتِ الأدبيّةِ العربيَّةِ، حيث لاقَت ذُيوعًا وانتشارًا واسعيْن في العالمِ العربيِّ وفي الوسطِ اليهوديِّ داخلَ إسرائيل.

في عامِ 1990 حصَلَ على (وسام القدس) من منظّمة التحرير الفلسطينيّةِ، وفي عام 1992 حصلَ على (جائزة إسرائيل في الأدب). في العامِ الأخيرِ من حياتِه انشغلَ بإصدارِ مجلةٍ أدبيّةٍ أسماها (مَشارف). أوصى أن تُكتَبَ على قبرِه عبارة: (باقٍ في حيفا).


*158*

في هذه البلاد المُقدّسة (بوّابة مَنْدِلْباوْم: تقع بوابة مندلباوم بالقرب من (جمعيّة الشبّان المسيحيّة) YMCA في القدس الغربيّة التي كانت في الجانب الإسرائيليّ منذ عام 1948 وحتّى حرب حزيران 1967. وتشير المصادر إلى أنّ هذه البوّابة كانت ممرًّا لموظّفي الأمم المتّحدة والدبلوماسيّين ورجال الدين، كما كانت تُفتح مرّة في السنة، في عيد الميلاد، للمسيحيّين من سكّان إسرائيل، لزيارة ذويهم في مخيّمات اللاجئين في الأردن والاحتفال بعيد الميلاد في بيت لحم. بعد حرب حزيران 1967، وبعد احتلال إسرائيل للقدس الشرقيّة، أُزيلت بوّابة مَندِلباوْم. شاع ذكر هذه البوّابة في الأدب الفلسطينيّ المكتوب في الخمسينيّات والستّينيّات من القرن العشرين، وبقيت علامة تاريخيّة فارقة في الواقع والأدب. ويشير شمعون بلاص في كتابه (الأب العربيّ في ظلّ الحرب) (1984) إلى أنّ هذه البوّابة التي كانت ترمز إلى تقسيم القدس، كانت ترمُز بنفس القدر إلى تقسيم الشعب الفلسطينيّ) صفحة 15)

بَوَّابة مندلبَاوْم

إميل حبيبي

(بل قُل يا سيّدي، إنّها تنوي الخُروجَ من هُنا) صاحَ الشرطيُّ الإسرائيليُّ الواقفُ، مكتوفَ اليديْنِ، على بوّابةِ مَنْدِلْبَاوْم عندَما أخبرتُهُ بأنّنا أتَيْنا مع الوالدةِ الّتي (تَنوي الدُخولَ إلى هناك بعد أن أُذِنَ لها بذلكَ)، وأشرتُ على الجِهَةِ الأردنيّةِ من البوّابةِ.

كُنّا في آخرِ الشتاءِ والشمسُ تُطلُّ على الربيعِ وحيثُ أبقَى الحُطامُ تُرابًا، تَغَطَّى الترابُ بالخُضرةِ، وعلى اليمينِ حُطامٌ وعلى اليَسارِ حُطامٌ. وأطفالٌ استرسَلَتْ (استرسَل الشَعرُ: تَدلَّى) شعورُهُم على سوالِفِهِم (إشارة إلى أطفالِ الطائفةِ اليهوديّةِ المتديّنةِ (الحريديم) التي تسكنُ في الحيّ القريبِ من بوّابةِ مندلباوم) كانُوا يمرحون بين الحُطامِ وبينَ الخُضرةِ يُثيرونَ الدَهشَةَ في نفْسِ الأطفالِ الّذين جاؤُوا معَنا يودّعُون جدَّتَهم: صبيانٌ وذوو ضَفائرَ كيف يكونُ هذا؟ (وفي الوسَطِ ساحةٌ رحبَةٌ من الإسفَلتِ المُعفَّرِ (المُعفَّر: المُغطّى بالتُراب والغُبار)، في قلب الناحيةِ الّتي عرفناها باسْمِ المُصرارَة. ولهذه الساحةِ بابان، بابُ (هنا) وبابُ (هناك) من الصفيحِ (الصفيح: رقائق من الحديد) المحشُوِّ بالحِجاةِ والمَطليِّ بالكِلْسِ الأبيضِ، كلُّ بابٍ يتّسِعُ لمرورِ سيّارةٍ (خارجَة) أو (داخلَة).

وأطلقَ الشرطيُّ كلمةَ (الخُروج) من بين أسنانِهِ في غُنَّةٍ أرادَ بها أن يلقنّنِي دَرْسًا. فالخروجُ، ويريدُ أن يقولَ: من الجنّةِ، هو الأمرُ الجَلَلُ (الجَلَل: العَظيم)، لا الدخولُ (إلى هناك)! وعسكريُّ الجَمارِكِ لم يشَأْ أن تفوتَنا العِبرةُ، فقالَ لنا ونحنُ نتبادَلُ قبُلاتِ الوَداعِ معَ الوالدَةِ: مَن يخرُجْ من هنا


*159*

لا يعودُ أبَدًا!

وأحسَبُ أنَ مثِلَ هذه الأفكارِ كان يلاحِقُ الوالدةَ في أيّامِهَا الأخيرَةِ بينَنا. فحين اجتمَعَ الأهلُ والأصحابُ في بيتِها عشيَّةَ السَفَرِ إلى القدسِ، قالت: لقد عششتُ حتّى رأيتُ المُعزّين بي بأمِّ عينِي. وفي الصبَاحِ عندَما نزَلْنا مُنحدَرَ الزُقاقِ إلى السَيّارةِ، التفتَتْ وراءَها ولوَّحَتْ بِيَدِها لأشجَارِ الزيتونِ ولشَجَرِةِ المِشمِشِ الجافّةِ ولعتبَةِ الدارِ، وتساءَلَتْ: عشرين سنةٌ عِشتُ هُنا، فكم من مرّةٍ طَلَعتُ هذا الزقاقَ ونزَلتُهُ!

ولمّا مرَّت بنا السيّارةُ على المَقابِرِ، في ضاحيةِ المَدينةِ، هَتَفَتْ تُنادي المَوْتى من أقربائِها ومن أقْرَانِها وتودَعُ قبورَهُم كيف لم يكُن من حظِّي أن أُدفَنَ هنا؟ ومن سيضَعُ الزُهورَ على قبر ابنةِ ابني؟. عندَما حجَّت إلى القُدس في سنة 1940 قالَ لها عَرّافٌ إنّها ستموتُ في المدينةِ المقدّسةِ فهل ستتحقّقُ نبوءتُهُ في آخرِ الأمرِ؟

لقد بلغَتِ، الخامسَةَ والسبعين من عُمرِها ولمّا تجرِّبْ ذلك الشُعورَ الّذي يقبِضُ على حبَّةِ الكَبِدِ فيفتُّتُها، ذلك الشُعورَ الّذي يُخلِّفُ فَراغًا رُوحيًّا وانقِبَاضًا (انقباض: حزن واكتئاب. انقبضَ: تقلَّص وانكمش) في الصدرِ، كتأنيبِ الضَميرِ، شعورَ الحنينِ إلى الوَطنِ. ولو سُئِلَتْ عن معنى هذه الكلمةِ، الوطن، لاختلَطَ الأمرُ عليْها كما اختلَطَت أحرفُ هذهِ الكلمةِ عليْها حينَما التقتْها في كتابِ، الصلاةِ: أهو البيتُ، إناءُ الغسيلِ وجُرنُ (جُرن: حَجَر منقور يُدّقّ فيه اللحم أو غيره) الكُبّةِ الّذي ورِثَتْهُ عن أمِّها؟ (لقد ضحِكُوا عليْها حينَما أرادَت أن تحمِلَ معَها في سفرِها إناءَ الغسيلِ العتيقِ هذا، وأمّا جُرنُ الكُبَّةِ فلم تتجَرَّأْ على التفكيرِ بحَملِهِ معَهَا!). أو هو نداءُ بائعةِ اللَبَنِ، في الصباحِ، على لبَنِها، أو رنينُ جرَسِ بائعِ الكازِ، أو سُعالُ الزوجِ المصدورِ (مصدور: مَسلول. مُصاب بداء السلّ في رئته)، وليالي زفافِ أولادِها، الّذين خرَجُوا من هذه العَتَبةِ إلى بيت الزَوجيّةِ واحدًا وراءَ الآخرِ وتركُوها لوحْدِها!

هذه العتَبَةُ، عتَبَةُ الدارِ الّتي تُلقِي عليها الآن آخِرَ نظرةٍ، لتَنطِقَ وتشهَدَ! كم من مرّةٍ وقفَتْ عليها تودّعُ عُرسانَها وتغنّي لهم وهي تَشْرَقُ بدموعِها: جِبتَك من الهِيشْ (الهَيشْ: التَحَرُّك، والهَيْجُ، والحَلْبُ الرُوَيْدُ)، جَلبُوط (جَلبُوط: ذَكَر الإبل. والمعنى أنهما ولدتْه صغيرًا قليل الحيلة، ورعته، حتّى إذا كبُرَ تزوّج وترك البيت فضاع تعبُها سُدىً) ما عليك الريش، وعلَمْتَك الزقزَقَة والطير والتعشيش، ومن بَعِدْ ما كبِرِتْ وصارْ عَجناحَك


*160*

ريشْ، طِرِتْ وراحْ تَعَبِي عليك بَخْشيش.

ولو قيلَ لها إنّ هذا كلَّهُ هو الوَطَن لما زيدَت فَهْمًا. ولكنّها الآنَ، وهي تُشرِفُ على الأرضِ الحَرام وتنتظرُ الإشارةَ لها بالتقدُّمِ خُطوةً إلى أمامٍ، تلتفِتُ إلى ابنتِها وتقولُ: نِفسي في جَلسةٍ أُخرى على تلكَ العتَبَة!

وأخُوها الكهْلُ، الّذي جاءَ من القريةِ ليودِّعَها، كان يهُزُّ رأسَهُ باستمرارٍ وعلى وجههِ الألَمُ والتَعجُّبُ. هذا الشيءُ الغامضُ، الّذي تنتحِبُ أُختُهُ لأنَّها تُخلِّفُهُ وراءَها ولا تستطيعُ أن تحمِلَه معَها، هو عزيزٌ عليه وحَبيبٌ.

وقالَ له جارُنا:

- ولكنّكَ في نهايةِ الأمرِ ستُوقِّعُ لهُم على ورقةِ البيعِ، فالقانونُ معَهم، والتفتَ الشيخُ القرويُّ نحوِي وقالَ:

- اسمَعْ يا خالي، كُنّا مرّةً نحرُسُ المِقثاةَ (المِقثاةَ: أي المَقثأة: الأرض، يُزرع فيها وتُنبِت، موضعُ القثّاء (الخيار)؛ عريشةٌ يباعُ فيها البطّيخُ وما تُخْرِجُ الأرضُ) أنا وأبي وأخي الأصغر، وإذا برفِّ من الحَجَلِ يهبِطُ على الحَقلِ، فاستعجَلَ أخي يحمِلُ بندقيّةَ الصَيدِ كأنّه الرجلُ، فغَشِيَ (غَشِيَ من الضحك: استسلَمَ لضحكٍ شديد) أبي من الضَحكِ. هل تذكُرُ كيفَ كانَ يضحكُ جدُّك، يا خالي؟ يا وَلَد صِيد الحَجَل للرّجال! ولكنّ صغيرَنا كان عنيدًا. فعادَ إلينا بعد ساعةٍ وفي يدِهِ، يا للعَجَب، طيرٌ من الحَجَل لا يزالُ على قَيْدِ الحَياةِ. فذُهِلنا. وأمّا العِفريتُ الصغيرُ فكانَ يرقُصُ وهو يَتَباهَى بصيْدِهِ. وصاحَ أبِي ولكنّنا لم نسمَعْ صوتَ الطَلْقَةِ! فأجابَ الصيّادُ الصغيرُ، لقد سَحرْتُ البندقيّةَ بابا وحلَّفَنِي بجُدُودٍي وبجُدُودِ جُدودِي ألّا أُفشِيَ السِرَّ أمامَ والدِنا أخبرَني أنّه رأى هذا الطيرَ المِسكينَ بين فكَّيْ قِطٍّ كبيرٍ، فظلَّ يركُضُ وراءَ القطِّ من عُليقَةٍ (عُليقَةٍ: نبات شائك، يتعلّق بالشجر أو بالثياب) إلى عُليقَةٍ وبين أعوادِ الذُرةِ حتّى خلَّصَه منه هيه، يا خالي، هل ينتظرون منّي أن أوقِّعَ على قسيمةِ بيعِ هذه الذِكرياتِ! وما أقصرَ باعَ قوانِينِهِم.


*161*

إنّي أنصحُكَ ألّا تأتِيَ بوّابةَ مَندِلْباوْم وفي صحبتِك أطفالٌ، لا لأنَّ البُيوتَ المتهدِّمَةَ والمُقفرَةَ هنا تستدرِجُهُم للبحثِ في داخلِها عن المِصباحِ المَسحورِ وعن مَغارة علاء الدين. ولا لأنَّ الشُعورَ المُسترسِلَةَ على السَوالِفِ تضعُ في أفواهِهِم أسئِلةً استفزازيّةً قد توقِعُكَ في ورطَةٍ. بل لأنَّ الشارعَ الّذي يُفضِي إلى بوّابةِ مَندِلْباوْم لا يخلُو، ولا للحظَةٍ واحدةٍ، من السَيّاراتِ الّتي تقطَعُهُ، بِسُرعة أوروبيَّةٍ، إمّا قادمةً من هناك وإمّا خارجةٌ من هنا، وهي سيّاراتٌ أمريكيٌّة أنيقةٌ، وراكبُوها من الناسِ الأنيقين، ذَوِي الياقاتِ (الياقات: جمع ياقَة، ياقة القميص: طوقُهُ، (القَبّة)) المُنَشّاةِ (المُنَشّاةِ: أي: الّتي نُقعت في النشا ثمّ جُفّفت. وكانت هذه العمليّة تُبقي الياقة واقفة فتُغني عن الكيّ. والنشا مسحوق ناعم يؤخذ من الأرزّ أو دقيق الذرة أو القمح أو البطاطا)، أو القُمصانِ المُلوَّنَةِ، أو البِزّات (البِزّات: جمع بِزَّة، الثوب، اللباس) العَسْكريَّةِ الّتي خيطَتْ لتصطَبِغَ بقَطَراتِ الويسكي لا بقطراتِ الدمِ.

هذه هي سيَاراتُ رِجالِ الهُدنة ولجانِ المُراقبة وهيئةِ الأُمَم وسُفراءِ الدُولِ الغربيَّةِ وقناصِلِها وحريمِهِم وطبّاخِي حريمِهِم وباراتِهم، وحِسانِهم، وحِسانِ حِسانِهِم، تقفُ بُرهةً على بابِنا " ليتبادَلَ سائقُها التَحيَّةَ مع شُرطيَّنا - من بابِ الذوقِ والتَمَدُّنِ - ثمّ تقطَعُ الأرضَ الحرام حتّى تقفَ بُرهةٌ على بابِهِم ليتبادَلَ سائقُها التحيّةَ مع شرطِيِّهِم.

وفي بابِ الذوقِ والتمدُّنِ وتبادُلِ عُلَبِ السجايِرِ والنُكاتِ وغيرِها تقومُ هنا منافسةٌ إسرائيليَّةٌ أُردنيّةٌ، والعكسُ صحيحٌ أيضًا.

وهؤلاءِ لا يسرِي عليهِم قانونُ الموتِ: مَن خرَجَ منها لا يعودُ إليها. ولا قانونُ الجنَّةِ: مَن دخلَها لا يخرُجُ منها. فحضرةُ المُراقبِ يستطيعُ أن يتناوَلَ الطَعامَ ظُهرًا في فندقِ فِلَدِلْفْيا ومساءَ في فندقِ عَدَن (فندقِ فِلَدِلْفْيا في عمّان وفندق عدن في القدس) والابتسامةُ المهذَّبَةُ لا تفارقُهُ في الغُدُوِّ وفي الرَوَاحِ (الغُدُوّ والرَواح: الذَهاب والمجيء)!

ولما أخَذتْ أُختي تتوسَّلُ إلى الجندِيّ الواقفِ على بابِنا أن يأذَنَ لها بتشييعِ (تشييع: توديع) والدتِها حتّى البابِ الأردنيِّ، قالَ لها الجنديُّ: ممنوعٌ، يا سيّدتي.

- ولكنّني أرَى هؤلاءِ الأجانبَ يدخُلون ويخرُجون كما لو كانوا في بيتِهِم وأعَزّ!

- كلُّ مَن عليها يا سيّدتي يستطيعُ الدُخولَ والخُروجَ عَبْرَ هذيْن البابيْن، إلّا أهلَ البلادِ يا


*162*

سيّدتي المُحترمة.

وقالَ الشُرطيُّ: أرجوكُم أن تبتعِدُوا عن الطَريقِ، هذا طريقٌ عاٌّم شديدُ الازِدحامِ. وقطَعَ كلامَهُ معنا لتبادَلَ مع راكبَي سيّارة قادمةٍ (هل هي خارجة أم داخلة) حديثًا ضحِكُوا له وضَحِكَ لهم. وأمّا نحن فلم نفهمِ الكتَةَ.

وقالَ عسكريُّ الجَماركِ: لكلِّ شيءٍ نهايةٌ حتّى لساعةٍ الوَداعِ.

وخرجَتْ مِن بابِنا نحو بابِهم امرأةٌ عجوزٌ تَدُبُّ على عَصاها، وأخذَت تقطَعُ الأرضَ الحرام وهي تلتفتُ وراءَها بينَ اللحظةِ والأخرى وتُلوِّحُ بيدِها وتسيرُ إلى أمامٍ. لماذا الآن، والآن بالضبط، تتذكّرُ ابنَها الّذي ماتَ قبل ثلاثين عامًا حينَ سقَطَ بينَ يديْها من فوقِ المِتْخَتَةِ (المِتْخَتَة: مكان مرتفع للجلوس)، ولماذا تشعُرُ الآن، والآن بالضبطِ، بتأنيبِ الضميرِ؟

وبرزَ من بين الحُطام، من الناحيةِ المُقابلةِ، عسكريٌّ فارعُ الطولِ على رأسِهِ كوفيَّةٌ وعِقالٌ، استقبلَ المرأةَ، العجوزَ، الداخلةَ ووَقَفَ يتحدَّثُ معَها، وكانا ينظُران إلى ناحيتِنا.

وكنّا هُنا، مع أطفالِنا، نُلوِّح بأيدينا. وقد وقفَ أمامَنا جنديٌّ فارعُ الطولِ حاسرُ الرأسِ (حاسر الرأس: مكشوف الرأس)، وهو يتحدّث معَنا. وكنّا ننظُرُ إلى ناحيتِهِم. وكان يقولُ لنا إنّه من المستحيلِ التقدُّمُ خطوةٌ أخرى إلى أمام.

ولماذا؟ قالَ لنا: كأنما هي قد قطَعَت الآنَ وادِيَ الموتِ الّذي لا رجعَةَ منه، هذا هو واقعُ الحربِ والحُدودِ وبوّابةِ مَندِلْباوْم. أرجوكُم، افسَحُوا مكانًا لمُرورِ سيّارةِ الأُمَمِ المتّحدَةِ!

وفجأةً انفلتَ من بينِنا جسمٌ صغيرٌ ينبِضُ بالحياةِ، ككُرَةٍ قَذَفَتْها قدمُ لاعبٍ ماهرٍ صوَّبَ هدفَ الفريقِ الآخرِ، وراحَ هذا الشيءُ الصغيرُ يركُضُ إلى أمامِ مخترِقًا ساحةَ الأرضِ الحرام. ورأينا، والدهشةُ تعقِدُ ألسنتَنَا (تعقِد ألسنتنا: نُسكتها، انعقد لسانُه: عَجِزَ عن الكلام)، طفلَتِي الصغيرةَ تركُضُ نحوَ جدّتِها وهي تنادي: تِيتا، تِيتا. ها هي تخترقُ الأرض الحرام، ها هي تصلُ إلى جدّتِها، وتأخذُها بينَ أحضانِها!


*163*

ومِن بعيدٍ رأينا صاحبَ الكوفيّةِ والعِقالِ يُخفِضُ رأسَه نحوَ الأرضِ. وأنا نظرِي حادٌّ، فرأيتُه يفحصُ الأرضَ بقدمِه. والجنديُّ الحاسرُ الرأسِ، الّذي كانَ معَنا، ها هو أيضًا يُخفِضُ رأسَه نحوَ الأرض وها هو يفحصُ الأرضَ! وأمّا الشرطيُّ الّذي كانَ واقفًا، مكتوفَ اليديْن على بابِ، مكتبِه فقد دَخَلَ إلى مكتبِه. وأمّا عسكريُّ الجمارِكِ فقد كانَ مشغُولًا بتفتيشِ جُيوبِه عن شيءٍ يَظهَرُ أنّه افتقدَه فجأةً.

أيُّ أمرٍ عجَبٍ حدثَ الآنَ؟ طفلةٌ تقطَعُ وادي الموت الّذي لا رجعةَ منه وترجِعُ منه وقد نَقَضت واقعَ الحربِ والحُدودِ وبوّابةِ مَنْدِلْباوْم.

فهي طفلةٌ جاهلةٌ لا تدرِكُ الفرقَ بين العسكرِيِّ الّذي يلبِسُ الكوفيَّةَ والعسكرَيِّ الحاسِرِ الرأسِ. يا لَهَا من طفلةٍ ساذَجَةِ، رأت أنّها لم تنتقلْ عبرَ البُحورِ إلى بلادٍ أُخرى، فتوهَّمَت أنّها لا تزالُ في بلادِها. فلماذا لا تَسرَحُ ولا تمرَحُ في بلادِها؟ ورأَت أنّه على جانبٍ يقفُ والدُها وعلى الجانِبِ الآخرِ تقفُ جدّتُها، فلماذا لا تسرَحُ ولا تمرَحُ بينَهُما كما كانت تفعل كلَّ يوم؟ خصوصًا وأنّها ترى سياراتٍ تروحُ وتجيءُ على الأرض الحرام تمامًا كما تفعلُ السياراتُ على الشَارِع قُربَ بيتِها. هنا يتكلَمونَ العبريّةَ وهناك يتكلَمونَ العربيّةَ وهي أيضًا تتكلَّمُ اللغتيْن: مع نينا ومع سوسو!

ويظهَرُ أنّ عسكريَّ الجمارِكِ يئِسِ من التفتيشِ عن الشيءِ المفقودِ (لكلِّ شيءٍ نهايةٌ حتّى للورطةِ). فقد توقّف عن هذه العمليّةِ المُضيِنيَةِ (المُضيِنيَةِ: المُرهِقة، المُتعبِة) فجأةً كما ابتدأَهَا. ثمَ تنَحْنَحَ. ثمّ قالَ للجنديِّ كأنّما يبادلُهُ العزاءً: طفلةٌ جاهلةٌ.

- أرجوكُم، أيّها السّادةُ، أن تبتعِدُوا عن الطريقِ لئلًا يَسقُطَ طفلٌ من أطفالِكُم بين عَجَلاتِ السيّاراتِ، الّتي تمرُّ من هنا بسرعةٍ كما تروْن.

أفهِمْتَ لماذا نصحْتُكَ ألّا تأتِيَ بوّابةَ مَنْدِلْباوْم وفي صحُبتِكَ أطفالٌ؟ إنّ مَنطِقَهُم بسيطٌ غيرُ مُركَّبٍ. ما أسْلَمَه!


*164*

مفاتيح النصّ:

حضورُ الذاكرةِ كعلامةٍ مميّزةٍ في الأدبِ الفلسطينيِّ، السخريّةُ، دورُ المرأة، أنَسَنَة الآخرِ، كثرةُ الاستطراداتِ والتعليقاتِ، المزجُ بين المُعطياتِ الشعبيّةِ والتراثيّةِ وبينَ القضيّةِ السياسيّةِ الوطنيّةِ.

مهامّ:

1. ما هي الفترةُ الزمنيّةُ الّتي تدلُّ عليها أحداثُ القصة؟

2. ماذا كان معنى الوطنِ في مفهومِ الجدّةِ؟

3. للذاكرةِ في الأدب الفلسطينيِّ حضورٌ متميّزٌ. ما سببُ هذا الحضورِ البارزِ وكيف يظهرُ ذلك من خلالِ القصّة؟

4. سَجِّلْ ميزتيْن أُسلوبيّتيْن للقصّةِ. وادعمهما بالأمثلةِ.

5. للمرأة / الأنثى حضورٌ فاعلٌ في القصّةِ. بيّن ذلك.

6. يرسُمُ إميل حبيبي شخصيّةَ اليهوديِّ بصورةٍ إنسانيّةٍ في أكثرَ من مشهدٍ في القصّة. سَجِّلْ مثالًا على ذلك، ثمّ بيّن الغَرَضَ منه.

7. اُكتب بكلماتِك تعليقًا أدبيًّا على مشهدِ الحفيدةِ الصغيرةِ حين فَلَتَت من جموعِ المُودّعينَ وعَبَرَتِ البوّابَةَ لتلحَق بجدّتِها في الطَرفِ الآخر.

8. ما هي الدلالاتُ الّتي حملتْها بوّابةُ مَندِلْباوْم على المستوى الرمزيّ؟

9. ما رأيُك في كثرةِ استطراداتِ الكاتِبِ وإقحامِ الكثيرِ من آرائِه على القصّةِ؟

10. ما هي الأفكارُ والأبعادُ الّتي أرادَ الكاتبُ إيصالَها لنا من خِلالِ القصّةِ؟

11. اقرأ قصيدةَ رسالة عبر بوّابة مَندِلْباوْم للشاعرِ توفيق زيّاد، ثمّ قارنْ بينها وبين قصّة الكاتبِ إميل حبيبي من حيثُ أوجهُ التشابهِ والاختلافِ.


*165*

زهور بيضاء بلون الثلج - زكي درويش


*165*

زكي درويش (ولد 1944)

كاتبٌ فلسطينيٌّ، من كتّابِ القصّةِ القصيرةِ الفلسطينيّةِ المحلّيّةِ. وُلد في قرية البروة المهجّرةِ، ويقيمُ اليومَ في قريةِ الجدَيدة قربَ مدينة عكّا، وهو شقيقُ الشاعرِ المرحومِ محمود درويش. من أعمالِه: شتاء الغربة (قصص 1971)، الجسر والطوفان (قصص 1973)، الرجل الّذي قتل العالم (قصص 1978)، الجياد (قصص 1989)، الكلاب (قصص 1980)، الموت الأكبر (رواية 1989)، أحمد ومحمود والآخرون (رواية 1989).

يتميّزُ أسلوبه بالواقعيّة، كما تتشعّبُ موضوعات قصصِه. يكتبُ عن هموم الإنسان العربيّ والفلسطينيّ، وقضاياه الاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة، كما يتناولُ القضايا اليوميّة المعيشة في المجتمع العربيّ داخل إسرائيل.


*166*

زهور بيضاء بلون الثلج

زكي درويش

في أيّامِه ِالأخيرةِ - وقد بَدَت له طويلةٌ - كان يُعاني من ضعفِ في الذاكرةِ. وحيدًا كان يحاولُ أن يتذكّر، الأصحُّ أنّه كان يحاولُ أن لا ينسى الأمورَ الّتي يجب عليه إنجازُها قبل النومِ (هل أطفأتَ الأنوارَ في جميعِ الحُجُرات؟). كان المنزلُ يحتوي على حُجُراتٍ تفوقٌ احتياجَ الرجلِ الوحيدِ، إلى جانبِ مُشكلةِ التنظيفِ والترتيبِ، فهو لا يحتمِلُ فكرةَ إدخالِ امرأةٍ لتقومَ بهذه الأعمالِ. (وصُنبور (صُنبور: حنفيّة، أداة تُثبّت في أنبوب الماء ونحوه وتكون قابلة للفتح والغلق تسمح بمرور السائل أو الغاز) الغاز ومفاتيحُ الفُرنِ، هل أُقفِلَتْ تمامًا؟).

حدَثَ مرّةً أن نسيَ أحَدَ مفاتيحِ الفُرنِ مفتوحًا، ولحُسنِ الحظِّ كان أصغرَها، فتسرَّب الغازُ، وبفضلِ حاسَّةِ الشمِّ الّتي لم تتأثّرْ كثيرًا بالشيخوخةِ نَجَا من المَوتِ اختناقًا أو احتراقًا! (تُرى أيُّهما أصعبُ؟).

يبدو أنّ فكرةَ الموتِ اختناقًا أقلُّ رعبًا، حيث يدخُلُ المرءُ مرحلةَ الإغماءِ وفُقدانِ الإحساسِ بالألمِ قبل أن يُسلِّمَ السماءَ روحَه. أمّا الاحتراقُ فمجرّد التفكيرِ فيه يرسُمُ صورةَ يومَ القيامةِ، عذابَ جهنّم الّذي ليس له نهايةٌ، فهو احتراقٌ يتلوه احتراق!! (هل أقفلتَ جميعَ النوافذِ؟). تبدو في الأفُقِ غيومٌ تزحَفُ من الشَمالِ الغربِيّ - حيث يسكُنُ المطَرُ عادةً - بطيئةً، ولكنّها ستصلُ، تعِدُ بمطر مِدرارٍ (مِدرار: غزير، كثير). وهناك رائحةُ الأرضِ الّتي لا يمكنُ أن يُخطِئَها، الأرضِ المُتفتّحةِ لاستقبالِ الماءِ، ورائحةُ أزهارِ الكولونيا الّتي تزدادُ حِدّةٌ كلّما ازدادَت الرطُوبةُ! (والغسيلُ المنشورُ على الحبلِ لا بدّ من إدخالِه قبلَ وُصولِ المطرِ).

آخرَ مرّةٍ كانَ المطرُ أقوى منه، تدفعُهُ ريحٌ باردةٌ، فابتلَّتِ الملابسُ المنشورةُ على الحَبْلِ وأُصيبَ هو بنَزْلةِ بَرْدٍ ألزمَتْهُ الفِراشَ أيامًا. وكاث فكرةُ البَلَلِ تؤرِّقُه دائِمًا، يخافُ اليومَ الّذي سيُضطَرُّ فيه إلى استعمالِ الحفّاظاتِ كي لا يبتلَّ الفِراشُ. سيعودُ في سنواتِه الأخيرةِ كما كانَ في سنواتِه الأولى طِفلًا. وحدثَ مرَّة أن أفاقَ من نومِه فَزِعًا على بوادِرِ البَلَلِ، ولكن قبلَ أن يتسرّبَ إلى


*167*

الفِراشِ، فعانى من ذلك خَجَلًا شديدًا مع عِلمِه أنّ هذا السرَّ لن يصلَ إلى أحدٍ غيرِه، فواظَبَ على إفراغِ مثانتِهِ قبلَ أن يدخُلَ الفِراشَ، وتجنَّبَ تناوُلَ السوائِلِ ساعاتٍ قبل النومِ.

على أنّ هذه الذاكرةَ تشتعلُ إذا كانَ الأمرُ يتعلّقُ بأحدِ ابنيْه، فهو يستطيعُ أن يذكُرَ أدقَّ التفاصيلَ عنهما. (هل صحيحٌ أنّنا عندما نُنجبُ أطفالًا نكفُّ عن كوننا نحن فنصير هم؟). وُلد الأوّلُ في ليلةٍ ماطرةٍ، (قالَ الناسُ بعَ ذلك عن شتاءِ ذلك العام إنّهم لم يشهَدُوا له مثيلًا، لكنّهم كانوا قد قالوا ذلك عدّة مرّاتٍ عن سنواتٍ سابقةٍ، ثمّ بعدَ ذلك عن سنواتٍ لاحقةٍ). وَوُلد الثاني في يومٍ قائظٍ (قائظ: شديد الحرّ)، ورغم ذلك فقد كانا مُتشابهيْن في كلّ شيءٍ. وكان هذا التشابهُ يزدادُ كلّما تقدّما في السِنِّ، حتّى يُخيّلُ للناظِرِ إليهما أنّهما تَوْأمان وُلِدا من بذرةٍ واحدةٍ. في تلك الليلَةِ كان قد أعدَّ كلَّ شيءٍ على أكملِ وجهٍ، بل خُيّلَ إليه أنّه قد بالغَ قليلًا، لقد تذكَّرَ كلَّ ما يحِبُّ ولداه وزوجَتَاهُما، أعدَّ الطعامَ بيديْهِ (وهي مَقدرةٌ يحقُّ له أن يُفاخِرَ بها) ووضَعَ مفارِشَ جديدةً على المائدةِ، بيضاءَ ناصِعةً، وملاعقَ وسكاكينَ وشُوَكًا وكؤوسًا (كُؤوسًا بلوريةً ذاتَ نقوشٍ محفورةٍ) تُستعمَل لأوّلِ مرّةٍ. كان الضوءُ يسقُطُ من فوقِ المائدةِ على البِلَّوْرِ فيرسُمُ نُجومًا صغيرةً تطيرُ في فضاءِ الغُرفةِ، مثلَ ملائكةٍ صغيرةٍ أنيقةٍ تَقِلُّ وتزيدُ حَسَبَ زاويةِ النَظرِ، مُتّجهةً دائمًا نحو السَماءِ تَسَاءلَ (في نفسِهِ طبعًا) عن سِرٍّ هذه المبالغةِ، الليلةَ يبلغُ التاسعةَ والسبعينَ، فما هو الغريبُ في هذا الرقمِ؟ تسعُ سَنَواتٍ يُغالِبُ الوَحْدَةَ، فتغلِبُهُ ويغلِبُها. منذ أن رَحَلَت زوجتُهُ (قبلَ تسعِ سنواتٍ) يبتكرُ عاداتٍ تجعلُ من الوَحْدَةِ أمرًا مألوفًا، أو على الأقلِّ مُحتمَلًا، فلا يستطيعُ أن يسيرَ وَفقَ برنامجٍ مُحدَّدٍ (ذلك أنّ التكرارَ يستدعِي المَلَلَ).

لا مجالَ للشكوى! فقد عَرْضَ عليه كلٌّ من ولديْه أن يعيشَ مع أسرتِهِ، ورحَّبتِ الزوجتان، لكنّه كان يدرِكُ أنّ الأمرَ ليسَ بالسُهولةِ الّتي يتصوّرونَها، ويعرفُ معنى أن يدخُلَ الحَمّامَ عدّةَ مرّاتٍ في النهارِ والليلِ، فيحتجزُهُ لفترةٍ طويلةٍ. ويعرفُ معنى أن ينامَ في أيِّ وقتٍ يشاءُ، والشيخوخةُ تفرِضُ نظامَ يَقَظةٍ مُختلفًا. والشخيرُ، والسُعالُ الّذي لا يلتزِمُ وقتًا محدّدًا، والّذي يتفاقَمُ في سُكونِ الليلِ، والوضوءُ وصلاةُ الفجرِ بصوتٍ مرتفعٍ، وما يتلوه من دعاءٍ والناسُ نيامٌ، ويعرفُ متعةَ أن يُفرِغَ غازاتِ بطنِهِ بحرّيّةٍ دونَ أن يلتفِتَ حولَهُ. إنّ انتقالَه سيفرِضُ تحوّلاتٍ في سلوكِ الآخرين هم في غنًى عنها. فبقدر ما لا يحبُّ أن يحرجَه الآخرون، يمتنِعُ


*168*

عن فِعلِ ذلك لغيرهِ. فاكتَفَى بالزياراتِ المُتبادَلةِ المُتكرِّرَةِ الّتي أخذَت بالتباعُدِ حتّى اقتصَرَت على الأعيادِ والمُناسباتِ (لديهم من الهُموم ما يكفيهِم، ومشاكلُ الأبناءِ أعرفُها جيّدًا، كان الله في عونِهِم). أمّا ليلةُ ميلادِه فهي شيءٌ مختلفٌ، لا يجوزُ التخلُّفُ عنها. كانت في البدايةِ تمرُّ بطريقةٍ متواضعةٍ، ولكن بعد أن انتقلَ الابنان صارت شيئًا آخرَ.

الواقعُ، لم يكن ممّن يكترثون بهذه العادةِ في السّابقِ، أيّام كانت زوجتُهُ تجعلُ منها طَقْسًا لا تتنازَلُ عنه. فتُظهِرُ فيه كلَّ مزاياها، وتجمَعُ كلَّ خبرةِ السِنين في ليلةٍ واحدةٍ.

كان يتأفّفُ في البدايةِ، لكن أخيرًا أقنعَ نفسَه بأنّ ولديْه كانا المقصوديْن أكثرَ بهذه الحفاوةِ. ولكنّه نَدِمَ على هذا الاقتناعِ بعد أن رَحَلت.

دقت الساعةُ تمامَ السابعةِ. لأمرٍ ما بدَت له الدقاتُ اليومَ مختلفةً، كأنّها تَخرُجُ من أعماقِ بئرٍ سحيقةٍ، مبحوحةً، أطْوَلَ من المُعتادِ، تترُكُ كلُّ دقّةٍ صدى يتداخلُ في الدَقَّةِ التاليةِ فيتكوّنُ من ذلك لحنٌ حزينٌ، متواصلٌ، مخنوقٌ، أجراسٌ وناياتٌ.

المفروض أن يحضُرُوا في الثامنةِ، في تمامِ الثامنةِ، وهي عادةٌ استطاعَ أن يغرِسَها في مَن حولَه منذُ الصِغَرِ، حتّى إذا ما كبَروا وجدُوا فيها مزِيَّةٌ يفتقرُ إليها أبناؤُهم، فانضمُّوا إلى الجيلِ الّذي يشكو الجيلَ الَذي يتلوه، كما هي العادةُ دائمًا.

لم يشعُرْ يومًا بالمَلَلِ. لقد استطاعَ أن يُعبِّئَ ساعاتِ النهار والليلِ تمامًا، فليسَ هناك مكانٌ للشكوى. لم يتعلّمْ عادةَ الجُلوس في المقاهِي، (وهي كثيرةٌ وتغصُّ بالعاطِلينَ منذُ ساعاتِ الصباحِ)، وهو لا يُجيدُ لَعِبَ الوَرقِ ولا طاولةَ الزهرِ، ولا يحتمِل سُحُبَ الدخانِ الأزرقِ المنبَعِثِ من السجائِرِ والنراجيلِ، ولا يتخيّلُ نفسَه يشربُ الشايَ الثقيلَ والقهوةَ وسطَ الضجيجِ، فلِتناوُلِ القهوةِ طقسٌ خاصٌّ، وتناوُلُ الشايِ له ساعاتٌ محدَّدَةٌ. يقرَأُ صُحفَ الصباحِ، ويحبُّ الرواياتِ ذاتِ النزعةِ الفلسفيّةِ الّتي تبعثُ، على التفكيرِ، يتجنَّبُ الرواياتِ الّتي تحكي عن المَوْتِ، يستمعُ إلى الأُغنياتِ القديمةِ، ولا يتجوّلُ في أنحاءِ البيتِ إلّا بكامِلِ ثيابِه، يتحدَّث بالتليفونِ مع ولديْه.

كانتِ المحادثاتُ في البدايَةِ تَجرِي كلَّ يومٍ، تَطُولُ وتتطرّقُ إلى مواضيعَ مُختلفةٍ، لكنّها أخذَت بالتناقُصِ والقِصَر، وانحصَرَت في السُؤالِ عن أمورٍ مُلِحَّةٍ، صارَت برقيّاتٍ مُختزَلَةً تفتقِرُ إلى


*169*

الحرارةِ والدِفءِ.

دقّتِ السابعةُ والنصف. دقّةً واحدةً لم تكن طويلةً، لأنّها لم تمتزِجُ بدَقّةٍ أخرى تَلِيها، بدَت له مثلَ علامةِ سُؤالٍ ذاتِ ذيْلٍ قصيرٍ، ثمّ تلاشَتْ تمامًا، ورغمَ قِصَرِها بدا الصمتُ بعدَها أكثرَ وُضوحًا. في ساعاتِ الوَحْدَةِ - وهي طويلةٌ طويلةٌ - لم يستطِعْ أن يمنعَ نفسَه من التفكيرِ وإن كانَ يُحاوِل جاهِدًا ما استطاعَ ألا يفعلَ ذلك - أصعَبُ شيءٍ - كان يقولُ - أو أصعبُ الأمراضِ هو مرضُ الشيخوخَةِ. كلَّ شيءٍ يهونُ إلّا أن تصيرَ حياتُك عِبئًا عليكَ وعلى الآخرين. ذلك أنّ الآخرين هم جحيمٌ.

إنّ متاعِبَ تربيةِ الصغارِ لا شيءَ أمامَ عذابِ العنايةِ بالكبارِ. فمشاهدَةُ الأجهزةِ الطِبيّةِ من كراسِي عجلاتٍ وعُكّازاتٍ بأربع أرجُلٍ كانت تبعثُ به إلى هاويةِ اليأسِ. لذلك كان يتجنَّبُ قدرَ المُستطاعِ الزِياراتِ الّتي تضعُهُ أمامَ الضعفِ البَشَرِيِّ في أشدِّ صُوَرِهِ إيلامًا. اللّهُمَ أمِتْني واقِفًا، كانَ يقولُ.

ولأنّ اللونَ الأبيضَ كان يُخفِي معالِمَه، فقد استبدَلَ الأغطيَةَ والمَفارِشَ في السَريرِ باللونِ السماويِّ الأزرقِ، فقد قالت له حفيدتُهُ يومًا، وقد دخَلَت إليه وهو مُضطَجِعٌ في السريرِ، إنّها لم تشاهِدْه في الفِراش لأنّ لونَ بشرتِه وشعرَه الأبيضَ يُشَكّلان امتدادًا لونيًّا مع الفِراشِ والمِخدَاتِ. وتساءلَ في نفسِهِ: هل كانَ لونُه أبيضَ إلى هذا الحدِّ أم أنّ الضوءَ الخافتَ قد بلبَلَ حفيدتَه؟ على أيِّ حالٍ، لقد أصبحَ اللونُ الأبيضُ يثيرُ فيه قَلَقًا لم يستطِعْ أن يحدّدَ دوافعَه بدقّة.

أخذَت دقّاتُ الثامنةِ بالتوالي، وقبل أن تنتهِيَ سَمِعَ صوتَ جرَسِ البابِ، ممّا خفَّفَ حِدَّةَ الحُزنِ في دقّاتِ الساعةِ، أو أنّ الجرَسَ شغَلَه عن متابعةِ تداخُل دقّاتِ الساعةِ.

اتّجَهَ نحوَ البابِ بخطواتِه البطيئةِ. كان حريصًا على ألّا يقومَ بحَرَكةٍ متسرّعةٍ تكلِّفُهُ عَثْرةً أو كُسْرًا مُحتمَلًا في مثل سنِّهِ. فتَحَ البابَ، كان بينَه وبين القادِمِ حاجزٌ أبيضٌ، باقةٌ من الزهورِ البيضاءِ الناصعةِ. ناوَلَه القادِمُ الزهورَ واختفَى. كانت هناك بطاقةٌ صغيرةٌ، وهي أيضًا بيضاءُ اللونِ، وعليها سطرٌ واحدٌ مكتوبٌ باللونِ الأزرقِ:

آسف، لم نستطِعِ القُدومَ، كلُّ عامٍ وأنتَ بخيرٍ.


*170*

لم يكُنِ الخطُّ أنيقًا. كاتبُ السطرِ كتَبَه والبطاقة مُثبّتَةٌ بطرَفِ الورقةِ الّتي تضمُّ الزهورَ ليس هذا هو المهمُّ، لعلَّ المانعَ خيرٌ. فكَّرَ أن يتّصِلَ عن طريقِ التليفون، لكنّ الدقّةَ الثانيةَ على البابِ كانت أسرعَ منه. فتحَ البابَ، تكرّر المشهدُ ثانيةً كلَمْحِ البَصَرِ بدِقّةٍ غربيةٍ، حتّى قبل أن يضَعَ باقةَ الزُهورِ من يدِه. هناك ما يدعُو إلى القلقِ! قالَ. ولأنّ جهازَ التليفونِ كانَ في حُجرةِ النومِ، فقد وَضَعَ باقَتَي الزُهورِ على السريرِ، أدارَ قُرصَ التليفون عدّةَ مرّاتٍ. لا جوابَ. لم يأتِ من الطَرَفِ الآخرِ إلّا تعبيرٌ واحدٌ: وَصَلتُم إلى. فَكَّرَ: لوكانَ الأمرُ بهذا السُوءِ لما كان لديهِمُ الوقتُ لإرسالِ الزهورِ، ثمّ انتَبَهَ إلى أنّ الزُهورَ قد أُرسِلَت من نفسِ المحلِّ!! باتَ من الواضحِ أنّهم لن يَحضُروا.

عليه الآن أن يفكِّرَ بطريقةٍ يقطعُ بها هذا الليلَ الّذي يبدو منذُ البدايةِ طويلًا طويلًا.

أحسَّ بشيءٍ هو خليطٌ من الأسَى والأسَفِ، لكن ليسَ فيه شيءٌ من الغضَبِ. كان هناك فراغٌ يجولُ في رأسِهِ. وقفَ أمامَ الطاولةِ، المائدةِ. اكتشفَ لأوَّلِ مرّةٍ أنَّه يقفُ أمامَ جُثثٍ (كانت

قبلَ قليلٍ في مُنتهى الجَمالِ). هناك فِراخٌ مُحمَّرةٌ، مَيّتَةٌ طبعًا وهناكَ أسماكٌ مقليّةٌ مُرتّبةٌ تريبًا جيّدًا. ذكّرَه ذلك كلُّه بصفوفِ المَوْتى في أكياسِهِم البلاستكيّةِ البيضاءِ أو السواءِ أثناءَ الكوارِثِ. (ساعتان وأنا في بيتٍ لا يحوي إلًا الجُثَثَ) كان لديه إحساسٌ أكيدٌ بأنّ ما حدَثَ هذه الليلةَ سيحدُثُ في السنواتِ التاليةِ.

تذَكَّرَ زوجَتَه. كان في أشدَّ الحاجَةِ إليها. امتلأَ رأسُهُ بزحامِ الذكرياتِ بترتيبٍ منطقيٍّ مُنظَّمٍ أحسنَ تنظيمٍ. شَعَرَ بالضّعفِ - أعني الضعفَ الجسَديَ - كانَ الضعفُ يصعدُ من القدميْن بطيئًا بطيئًا، لكنّه يصعدُ باستمرارٍ. كان يشعُرُ بحاجةٍ إلى الجلوسِ.

اتّجه إلى غرفَةِ النومِ. جلَسَ القُرفُصاءَ على الفِراشِ الأزرقِ السماويِّ، والّذي بداله آنذاك أكثرَ زُرقةً من كلِّ يومٍ بتجاعيدِهِ الّتي تُذَكِّرُ بأمواجِ البحرِ تحتَ المِصباحِ باهرِ الضوءِ.

الضعفُ كان يصعَدُ ببطءٍ، ولكنّه حتمًا يصعَدُ. نظَرَ إلى الزهورِ البيضاءِ بلونِ الثلجِ. كانت تتّجهُ كلُّها نحوَ الضُوءِ، مُرتّبةً أنيقةً حزينةً باردةً جداًّ. سَحَبَ واحدةً. شمَّهَا، ليست بذاتِ رائحةٍ. بَدَت له ميّتَةٌ أو في طريقِها نحوَ المَوْت. تناوَلَ واحدةٌ أخرى. إلى جانبِ السريرِ كانَ هناك دُرجٌ، فتَحَه، تناوَلَ لفّةَ خُيوطٍ. كانت هي أيضًا بيضاءَ. تناوَلَ زهرةً ثالثةً وزهرةً رابعةً.


*171*

أخذَ يصِلُ الزهورَ الواحدةَ بالأُخرى. انهمَكَ في العمَلِ. الضعفُ لم يصِلْ إلى اليديْن بعدُ. كان يستقرُّ في الحَوْضِ، ولكنّه يصعَدُ.

أنهى الباقَةَ الأولى، بقِيَ عليه نصفُ العَمَلِ. تناوَلَ زهرةً من الباقةِ الثانيةِ. وصَلَ الضعفُ إلى أسفلِ الصدرِ. ألقى نظرةً عر الزُهورِ. فَزِعَ. على السريرِ السماويِّ الأزرقِ كان يتشكَّلُ إكليلٌ مُستديرٌ من الزهورِ البيضاءِ بلونِ الثَلجِ. أصواتٌ مُتداخِلةٌ غامِضَةٌ تأتي من بعيدٍ. أجراسٌ عميقةٌ. خُيّلَ إليه أنّها تأتي من وراءِ جبالٍ شامخةٍ أو تهبِطُ من سماءٍ عاليةٍ على أجنحةٍ حَمَامٍ أبيضَ. وضَعَ آخِرَ زهرةٍ في الإكليلِ.

نظَرَ إلى الإكليلِ المُكتَمِلِ. عَمَلٌ مُتقَنٌ. وضَعَ يديْه على السريرِ خلفَ ظهرِه مُستنِدًا عليهما. كان مُتعبًا، لا، بل هو الضعفُ قد وَصَلَ إلى أعلَى الصَدرِ ثمّ أخَذَ بالانحدارِ نحوَ الذراعيْنِ. توقّفَ شيءٌ عن الحَرَكَةِ.

أغمضَ عينيْه، شعَر أنّه يطيرُ ويخترِقُ شيئًا أبيضَ لم يستطِعْ تحديدَه تمامًا: هل كان ذلك ثلجًا؟ أم ريشًا؟ أم سَحابًا رقيقًا محمولًا على أجنحةِ ريحٍ خفيفةٍ خفيفة؟.

مفاتيح النصّ:

الموت كموتيف مركزيّ، التناغُمُ بين شكلِ القصّةِ ومضمونها، المونولوجُ، المكانُ المُغلقُ، التركيزُ على الحَدَثِ الداخليِّ، خصوصيّةُ اللغةِ والسّردِ، توظيفُ الحّواسِّ، تنكّرُ الأبناءِ، معاناةُ المُسِنِّ.


*172*

مهامّ:

1. ما هو الجوُّ السائدُ في القصّةِ؟ اشرح.

2. ما هي المصاعبُ الّتي كان يعاني منها الوالدُ المُسنُّ في أيّامِهِ الأخيرةِ؟

3. لماذا لم يحضْرُ الأبناءُ للاحتفالِ بعيدِ ميلادِ والدِهِم بم برأيك؟ وعَمَّ ينمُّ هذا السلوكُ على المستوى الاجتماعيّ؟

4. ما علاقةُ العنوانِ بمضمونِ القصّةِ؟

5. وظَّفَ الكاتبُ في القصّةِ أسلوبَ المونولوج. أعطِ مثالًا على ذلك، ثمّ بيّن أهمّيّة هذا التوظيف.

6. كيف يبدو موقِفُ الوالِدِ من أبنائِهِ؟

7. عيّن عناصرَ القِصّةِ الفنّيّةَ وتحدّثْ باختصارٍ عن كلِّ منها.

8. يعتمِدُ الكاتبُ على توظيفِ الحواسِّ بهدَفِ تجسيدِ أجواءِ الموتِ في القصّة. سَجِّلْ أمثلةَ على ذلك.

9. بماذا يُوحي لك سلوكُ الوالدِ المُسنِّ في نهايةِ القصّة؟

10. هنالك أصواتٌ مختلفةٌ وتعليقاتٌ وُضعت بين أقواسٍ في نسيجِ القصّة. ما المشتركُ بين هذه الأصوات، وما غرضُ الكاتبِ من وضعِها؟

11. جاءَ في تحليل الناقد إبراهيم طه للقصّة (نحن نظنّ أنّ زكي درويش لا يقبل أن يتقزّم فكرُه، في هذه الأقصوصةِ، في السعيِ إلى لؤمِ الأبناءِ وعتابِهم في علاقتِهم بوالدِهم. ونظنُّ في مقابلِ ذلك أنّ ما سعى إليه هو تحضيرُ الرجُل المُسنّ ودفعُه لمواجهة الموت والتصالح مع النتيجة وقبول الموت، على نحوِ لا يخلو من مفارقة، كجزءٍ من جدليّةِ البقاءِ والفناءِ). ما رأيُك في هذا التحليل؟ وضّح.

12. اُكتبْ رسالةً إلى ابني الرجلِ المُسِنّ، تبيّنُ فيها موقفَكَ مِن سلوكهِما تجاه والدِهما.


*173*

النخلة المائلة - محمّد علي طه


*173*

محمّد علي طه (وُلد 1941)

كاتبٌ بارزٌ من كتّابِ القصّةِ القصيرةِ الفلسطينيّةِ المحلّيّةِ، وُلدَ في قريةِ ميعار الّتي تهدّمَت عام 1948، فلجأَ مع أسرتِه إلى قرية كابول. أنهى دراستَه الابتدائيّةَ في القريةِ، والثانويّةَ في كفر ياسيف وأنهى دراستَه الجامعيّةَ في جامعة حيفا سنة 1976.

انضمّ الى العملِ السياسيِّ في صفوفِ الحزبِ الشيوعيِّ في أواخرِ السبعينات من القرن العشرين. عمِلَ في التدريسِ كما عملَ محرِّرًا للصفحةِ الأدبيَّةِ في جريدةِ الاتّحادِ اليوميّةِ. له نشاطاتٌ اجتماعيّةٌ وثقافيّةٌ عديدةٌ. تُرجمَت قصصُه إلى عدّةِ لغاتٍ. تتميّزُ كتاباتُه بالالتصاقِ بالبيئةِ الريفيّةِ والقريةِ الفلسطينيّةِ، وبالهُمومِ اليوميّةِ للناسِ البسطاءِ العاديّين والمستَضْعَفين، كما يقدّمُ شخصيّاتِه في نماذجَ اجتماعيّةٍ حيّةٍ وواقعيّةٍ.

من أعمالِه: لكي تشرق الشمس (1964)، جسر على النهر الحزين (1974)، عائد الميعاري يبيع المناقيش في تلّ الزعتر (1978)، وردة لعيني حفيظة (1983)، النخلة المائلة (1995)، سيرة بني بلّوط (رواية - 2004). وله مؤلّفاتٌ في أدب الأطفال مثل: الأميرة رشا، ملك الفواكه، الحفلة الكبيرة.


*174*

النخلة المائلة

محمّد علي طه

(اِعلم أنّ اللهَ تعالى لمّا خلَقَ آدمَ عليه السلامُ، الّذي هو أوّلُ جسمٍ إنسانيٍّ تكونَ، وجعلَه أصلًا لوجودِ الأجسامِ الإنسانيّةِ، وفضِلَت من خميرةِ طينتِهِ فضلةٌ (فضلة: بقيّة من الشيء)، خلَقَ منها النخلَةَ، فهي أختٌ لآدَمَ عليه السَلامُ، وهي لنا عمّةٌ، وسمّاها الشرعُ عمَّةُ، وشبّهَها بالمؤمنِ، ولها أسرارٌ عجيبةٌ دونَ أسرارِ النباتِ).

أرض الحقيقة - الفتوحات المكّيّة

محيي الدين بن عربيّ

وأخيرًا أعودُ إليكِ يا مبروكةُ بعد غيابٍ طويلٍ. غيابٍ قسريٍّ (قسريّ: إجباريّ، مكروه). ملعونٌ أبو الغيابِ وأبو الفُراق. ما أمرَّها! الشَوقُ يقتُلُني وعلى كتفيَّ محنةُ أيّوبٍ. صبرتُ حتى عجِزَ الصبرُ. اغتالُوني وأنا أصُبُّ قهوةَ الصُبحِ في الفنجانِ. قتلُوني مرّاتٍ عديدةً. نهضتُ من بين جُثَثِ المَوْتى كما قامَ المسيحُ.

هي خطواتٌ وسأُلقِي جَسَدِي المُتعبَ على صدرِكِ مثلَ مُحاربٍ عائدٍ من الوَغى (الوَغى: الحرب) ليرتَمِيَ بين ذراعَيْ أمِّهِ ذراعَيْ زوجتِه!

قُبَلًا سأقبّلُكِ، لم يعرفِ الحبُّ مثيلًا لها!

سوفَ تلسَعُ جسدَكِ حرارةُ أنفاسِي المتّقدَةِ. نارٌ مشتعلةٌ منذُ عقودٍ. حرَقَتْ جسَدِي وأضْوَتْهُ (أضواه: أضعفه. ضوي: ضعْفَ وهزْلَ).

هل تحتاجينَ إلى لحظاتٍ أو دقائقَ لتتعرَّفِي عليه؟ عليّ؟ على ما تبقّى منّي؟!

كانتِ الحربُ سجالًا (سجال: لا غالب ولا مغلوب، تعادل القوّة فيما بينهما). كرٌّ وفرٌّ (كرٌّ وفرٌّ: الهجوم والتراجع).

ذُقتُ حلاوةَ النصرِ أكثرَ من مرّةٍ وطَعَمْتُ (طَعَمْتُ: أكلتُ) حَنْظلَ (حنظل: مرّ، علقم. الحنظل: نبتٌ مفترشٌ من الفصيلة القرعيّة فيها لُبٌّ شديد المرارة) الهزائِمِ مرّاتٍ. وعلى الجَسَدِ يا مبروكةُ نُدوبٌ (ندوب: جمع ندبة، أثر الجرح الباقي على الجلد) لا تُحصى قد التأَمَت (التأمَ: التحمَ وبرأَ). وفي الرُوحِ نُدوبٌ عميقةٌ ما زالَ ينكَأُها (نَكَأ الجرح: قشرة قبل أن يشفى، نكأ النُدبة: أعاد نبشَها من جديد) الزمانُ صباحَ مساء!


*175*

هل ستتعرّفين على شَعرِي الأسودِ الطويلِ الّذي كانت أمّي تتمتّعُ في تسريحِه في أثناءِ زُرقَةِ الشمسِ؟

ترَكَتْ أصابعُ الزمانِ على خصلاتِهِ بصماتٍ!

هنا مرَّ الإبهامُ. وهنا رجَّلَتْهُ (رجْل الشعر: سرّحَه) السبّابَةُ والإصبعُ الوُسطى! وهنا حكّ الخِنصَرُ والبِنصَرُ جِلدةَ الرَأسِ!

كانَ الزَمانُ يسيرُ.

وكنتُ أعدُو.

ما قعدْتُ يومًا وما عرفتُ القُعُود!

مُستنشِقًا هواءَ الفجرِ المضمَّخَ (مضمَّخ: مُلطَّخ) بعبيرِ البرتقالِ ساعةً ومُنتشِيًا ببُرودَةِ نسيمِ البحرِ المُنعِشِ الّذي مَسَحَت وجهَهُ الأسمرَ وعنقَهُ المتجعِّدَ مَشى!!

يقولون إنّ أيّوبَ وصَلَ إلى شاطئِ البحرِ متحامِلًا على جسدِه الواهِي الناحلِ (ناحل: رقيق، هزيل) المقروحِ (المقروح: المجروح) وألقى جِسمَهُ فيه وغاصَ لحظاتٍ فخرجَ سليمًا مُعافَى جسَدًا شابًّا قويًّا يتنشَّفُ بالنورِ!

كانَ يحاولُ أن يستنشقَ الهواءَ بشراهةٍ لذيذةٍ كأنّه غير مصدِّقٍ أنّ هذا الهواءَ له. هذا الهواءُ كلُّه له.

يعرفُ رائحةَ النسيمِ الّذي تربَّى عليه. يَعيَ شَذا الأرضِ!

الهواءُ فوقَ تُرابِ البيّاضَة باردٌ ومُنعشٌ في الصيفِ. ونسيمُ الصباحِ في رباع السِتّ يُذكِّرُ الفَتَى بعطرِ امرأةٍ شابّةٍ تمرُّ بجوارِه يتضوّعُ في الجوِّ ويملأُ الخياشيمَ (الخياشيم: عروق في باطن الأنف) ويحرِّك الشهَواتِ النائمةَ. وأمّا هواءُ المراح فيحملُ رائحةَ الأنعامِ الأبقارِ والماعزِ والأغنامِ.

ويعُدُّ الخُطَى.

مَحمولًا على بساطٍ من الشوقِ أعودُ إليك يا مبروكةُ. مرفوعَ الصَدرِ. ذراعاي مثلُ جناحَيْ


*176*

نَسرٍ.

أسمعُكِ. يا هَلا. يا هَلا!

ويسيرُ.

نابشًا بِلُيُونةِ الفَجْرِ ذاكرتَه الغنيّةَ ليفتَحَ خوخةً للذكرياتِ النائمةِ في أعماقِها.

يتذكّرُ أسماءَ مواقعِ الأرضِ. أسماءَ التلالِ والدروبِ والشِعابِ (الشعاب: الطُرق) والسُبُلِ. سائِلًا عن رائحةِ الهواءِ في هذه الهَضَبَةِ في سُوَيْعاتِ الصباحِ وعن نعومةِ النسيمِ فوقَ ذاك المُنْحَنى.

قلبُ العاشِقِ دليلُهُ.

مِنْ هُنا!

يلفظُها في سرِّهِ مَكويّةً بالزفيرِ.

على هذا المُنحَنى كنّا نعدُو مثلَ الحِملانِ ونطيرُ مثلَ الفراشاتِ الملوّنةِ. نتسابقُ وراءَ عُصفورٍ بُنِّيِّ الذَنَبِ. نتخاصَمُ على وردةٍ بريّةٍ شذَّت بلونِها الليلكيِّ عن أترابِها الحمراواتِ. نعدُو من زهرةٍ إلى زهرةٍ وراء طِزيَزٍ (طِزيَز: نوع من الخنفساء، الجُعَل) من شُجيْرةِ قَندُولٍ تفتّحَت أزهارُها الذهبيّةُ وتمايَسَت مع شُعاعِ الشمسِ تُراقِصُ النسيمَ وقد لفَّ ذراعَه حولَ خاصرتِها إلى شُجيْرةِ بُطْمٍ ضَحِكَت أوراقُها للنهارِ وفاحَ عطرُها في الفضاءِ. نتعَثَّرُ بعودٍ يابسٍ استراحَ على الأرضِ مُلتاعًا (التاعَ قلبُه: احترق من الشوق أو الهمّ) على الحياةِ بحَجَرٍ خضَّبَه الترابُ لفّعَهُ العُشبُ الطريُّ. ننهضُ ضاحكين. تَسخَرُ منّا الفراشاتُ. يصفِّقُ الطِزّيز.

يركُضُ خطواتٍ. تتقافَزُ الحشراتُ والهَوامُ (الهَوام: الحشرات) والطيورُ مذعورةً تصفّقُ له أوراقُ العُشبِ. يلهَثُ. يتعَبُ. يقِفُ.

لقد كبرتَ يا يوسُف العليّ وكبرَ الزمانُ معَكَ، ورسَمَ على وجهِك خطًّا بل خطَيْن. وبَنَى سُخامُ (سُخام: سواد) التِبغِ في صدرِكَ مَدامِيكَ (مداميك: جمع مِداماك: صفّ من حجارة البناء) سوداءَ مثلَ الغُربَةِ.

ستّون عامًا يربِضُون (ربَضَ: وقع على، جَثّمَ) على كَتِفَيْكَ بما يحملُون من الغُربَةِ والذُلِّ من الجوعِ والحِرمانِ من


*177*

المُطاردةِ والرحيلِ من التحدّي والإحباطِ من الكُفرِ والإيمانِ من الفَشَلِ والنجاحِ مِن الخَطأِ والصَوابِ!!

ما ضلَّ صاحبُك وما هَوَى!

يحفظُ سِفْرَ الخُروجِ (سفر الخروج: هو أحد الأسفار المقدّسة لدى الديانة اليهوديّة والمسيحيّة، يُصنّف هذا السِفر كثاني أسفار العهد القديم التناخ) عن ظهرِ قلبٍ. رواهُ يوسُف العليّ للرفاقِ على سُفوحِ جبلِ الشيخِ. في الكهوفِ. في ليالي الشتاءِ القارسِ. يحكي عن آدمَ وحوّاءَ، عن قابيلَ وهابيلَ، القاتلِ والقتيلِ. الفردوسِ المفقودِ.

كان يروي السِفْرَ واقِفًا.

كان يَحكِي مُستلقيًا على ظهرهِ والبندقيّةُ بجوارِه.

وكان ينامُ وهو يقولُ ويقولُ.

يقولون له: كَفَى يا يوسُف العليَ! ألا تملُّ! ألا تضجَرُ! إنّ كثرةَ الاستعمالِ للكلمَةِ تُقلّلُ قيمتَها وتفقدُها جمالَها!

ويردُّ قائلًا: يقرأُ المسلمُ سورةَ الفاتحةِ ثمانيَ وعشرين مرّةُ في اليومِ فهل فقَدَتِ السورةُ بلاغتَها وجمالَها؟!

يرتشِفُ شايَهُ الساخِنَ مع رفاقِهِ في الفَجْرِ وهو يحدّثُهُم عن حُلُمٍ قصيرٍ راَه في المَنامِ.

حينَما أسندْتُ ظَهرِي على مبروكة وأغمضتُ عينيَّ في غفوةٍ لذيذةٍ سمعتُ وَحْيًا يقولُ: وهُزّي إليكِ بجذعِ النخلةِ يتساقَطُ رُطَبًا جَنِيًّا.

لماذا تضْحَكُون؟

ليست معجزةً!

مبروكة تعرفُني. تُحبُّني. تنتظرُني.

أنا يوسُف العليّ ذو الشَعرِ الأسودِ الطويلِ والقميصِ المُزركَشِ. كنتُ أرقصُ حولك مع أخوَتِي السبعةِ.

نقفزُ ونغنّي ونرتَمي عليك.


*178*

(مبروكة يا مبروكة

يا عين أمِّك وابوكِ!!)

تضحكون؟

لا يهمُّني. قولوا ما شِئتُم! أنا أجل أنا يوسُف مبروكة! وهل في هذا عارٌ؟ لا عارَ إلا العارُ. والعارُ هو أن لا أنساها. ألّا أحلُمَ بها! ألا أتغنّى بها.

قادِمًا في ليلِ الغُربَةِ الدامِسِ (الدامس: المُظلِم) ممتَطِيًا جوادًا أصيلًا من الشوْقِ. في الصدرِ عِشقٌ، وفي الذاكرةِ حَكَايا.

كان أبي يُسبِّحُ في لحظاتِ الوَجدِ ويقولُ إنّ اللهَ خَلَقَ النخيلَ في الجنّةِ وفي دارِ الإسلامِ. ولم يَخْتَرْ فاكهةً سِوى التَمْرِ لتتغذَّى بها ستُّنا مريم حينَما وَضَعَت سيّدَنا عيسى عليه السلامُ. كانت شاهدةَ الميلادِ ولِباه وحليبِهِ!! والنخلُ ذاتُ الأكمامِ. يا يوسُف العليّ. ليست كلُّ وَلادَةٍ وَلادَةً. وليست كلُّ قابِلَةٍ قابِلَةً. كانتِ النخلةُ قابلةَ مريم ومِن رُطَبِها تَلَبّى وليدُها!

(مبروكة يا مبروكة.

يا عين أمِّك وابوكِ

بالدم زَرَعْناكِ

وبالدمِعِ سَقيْناكِ

واجَا الغُرَبَا سَرقُوكِ)

لو كنتَ معي يا أبي الآن!

لو تكحّلَت عيناك بنورِ الأرضِ الخضراءِ. بزهرِ القَندُولِ. بشقائِقِ النعمانِ. بوَرَقِ الشَجَرِ الطالِعِ مُبتسِمًا من البراعِمِ.

لو مشَيْتَ على سجّادَةٍ خضراءَ نسَجَها مُبدعٌ قديرٌ وزركَشَها بالأُقحُوانِ والنرجِسِ والبرقوقِ وعصا الراعِي ولَفّة سِيدي وإبرة سِتّي وعين البَقَرة وعُرْف الديك تهمسُ لكَ: يا هلا يا عليّ.

ولكنّك رُحْتَ. مُتَّ.


*179*

ضيّعَني أبي صغيرًا وحمَّلَني الهمَّ صغيرًا!

اسمعُهَا اسمعُها تنادِيني. صوتُها الرخيمُ يقولُ لي: تعالَ. أنا ما زِلتُ على العهدِ. الحارةُ والزُقاقُ. البيتُ والمدرسةُ. الحاكورَةُ والبئرُ دربُ المَلّاياتِ. السورُ والياسَمينَةُ المُتَعَمشِقَةُ على حجارتِه العتيقَةِ. البوّابةُ وحَذوَةُ الفَرَسِ والخَرَزَةُ الزرقاءُ. الخَوْخَةُ. القنْطرَةُ.

تعالَ تعالَ

يا طيورًا طايرِه!

يا وحوشًا غابرِه!

سلِّمُوا لي عَ يوسُف العليّ

وقولُوا له:

تعالَ شوف مبروكة

كيف صايره!!

غيرَ مُصدِّقٍ ما تَرَى عيناه.

لا يَعِي ما تسمعُ أذُناه.

واقفًا مَشدوهًا.

أينَ؟

يُتُمْتِمُ. يردِّدُ.

تخرُجُ الكلماتُ من شفتيْه الناشِفَتيْن.

أين؟ أين؟

البيوتُ. الزُقاقُ. الناسُ. القنطرةُ. الخَوْخَةُ. الياسَمِينَةُ.

هل لجأُوا معَنا؟

هل انشقَّتِ الأرضُ وبلَعَتْهُم؟

أين آثارُ خُطايَ الّتي شاهدتُها في أحلامِي الورديّةِ؟

أين الأملُ الضاحكُ؟


*180*

ماذا بقيَ من الوَطَنِ؟

أين عصافيرُ الدُوريِّ الّتي كانت تقفِزُ حوْلِي في سَاحِة البيتِ؟

أين ساحةُ البيتِ؟

أينَ البيتُ؟

ويحدِّقُ بعينيْه المُتْعَبَتَيْن.

ويجِدُ مبروكة.

الشاهدُ الوحيدُ. لا شيءَ سِوَاها!

يعرفُها. يسيرُ إليها. يَمشِي. يُهروِلُ. يقفِزُ يَعدُو.

وأخيرًا أعدو إليكِ يا مبروكة. يا عَشيرَةَ الطُفولةِ. يا وفيّةُ. يا مَن حافظْتِ على العَهْد!!

أتذكُرينَنِي؟ أتذكُرين أترابي وأخوتي ونحنُ ندورُ حولَكِ نرقُصُ ونغنّي. ونلهُو نرتَمِي على جذعِكِ.

مُحدِّقًا في جذعِها العتيقِ باحثًا عن بَصَماتِ أصابِعه وآثارِ قدميْهِ الصغيرتيْن حينَما كانَ يتسلّقُ عليها.

مبروكة الباسقةُ. ذاتُ الجذْعِ الطويلِ العالِي.

مبروكة الّتي ماتَ أبوه وهو يحكِي عنها. لا تنبُتُ مبروكة إلّا في بلادِ المسلمينَ والجَنّةِ.

يعانقُهَا.

تخزُّهُ أضلاعُها الجافّةُ.

ويتذكّرُ فاطمة. فاطمة الحُلوة. فاطمةَ الزهراءَ. بنتَ الجِيران. كان يكتُبُ لها الرسائِلَ القصيرةَ ويدسُّها في جِذعِ مبروكة لتأخُذَها حينَما تأتِي لتَمْلَأَ جرَّتَها من بئرِ الماءِ.

فاطمة اليانعةُ الخضراءُ جفّت مثلَ عُودٍ يابِسٍ.

فاطمة الّتي دفَنَتْها الطائراتُ في مُخيّمِ عين الحُلوة تحتَ أنقاضِ البُيوتِ الطينيّةِ.

باحثًا في جِذْعِ مبروكة عن فاطمة.

عن ورقَةٍ.


*181*

هل هي رسالتُهُ الأخيرةُ أم جوابُهَا؟

وفيما هو يبحثُ تَنَبَّه أنّ جذعَ النَخلَةِ مائلٌ. مائلٌ كثيرًا. مبروكة مُنحَنِيَةٌ.

مبروكة مائِلَةٌ.

وتراجَعَ خَطَواتٍ.

يا الله.

حتّى أنتِ يا مبروكة!

ما الّذي حَنّى جِذعَكِ الباسقَ؟

الحنينُ؟

الغربةُ؟

الزمانُ؟

قولي لي يا مبروكة. قولي لي!!

أودُّ أن أسمعَ صوتَكِ الّذي سمعتُه في الليالِي المَعكورةِ (المعكورة: أي: مُعكّرة، غير صافية).

أنا يوسُف العليّ.

أنا الفَتى الّذي كانَ يقفزُ حولَ جِذعِكِ الباسِقِ ويتسلّقُ عليك؟

ما الّذي حناكِ؟

هل انحَنَيْتِ لتصْمُدِي أمامَ الرياحِ؟ أمِ انحنَيْتِ لتشُمِّي رائحةَ الأهلِ في الأرضِ؟

مبروكة يا مبروكة

يا عين أمِّك وابوكِ

لُومِي مِش عَ الزَمَن

لومي عَ اللّي راحُوا وهَجَرُوكِ!!


*182*

مفاتيح النصّ:

التناصّ، البُعدُ التاريخيُّ والوطنيُّ في القصّةِ، ملامحُ الريفِ الفلسطينيّ، الموتيفُ، التأنيسُ، المونولوج، دلالةُ المكانِ، اللغةُ المحكيّةُ، شعريّة اللغة، عتبة النصّ.

مهامّ:

1. ماذا حدثَ ليوسُف العليّ؟ وما هي أهمُّ ذكرياتِه؟

2. تزخرُ القصّة بالتناصّ الشعبيّ والدينيّ. استخرج مثاليْن على ذلك، ثمّ بيّن الأثرَ الفنّيَّ الّذي يُضفيه التناصّ على النصّ.

3. يتميّزُ المكانُ بخصوصيّةٍ بارزةٍ في القصّة على المسُتوى الواقعيّ والمستوى الرمزيّ. بيّن ذلك.

4. سَجِّلْ ميزتيْن تتميّزُ بهما لغةُ القصّةُ مع إيرادِ الأمثلة.

5. يركّزُ الكاتبُ على وصفِ الريفِ الفلسطينيّ المحلّيّ وإبراز ملامحِ الحياةِ اليوميّةِ فيه. بيّن الأوصافَ والملامحِ مع إيراد الأمثلةِ.

6. يتّخذُ الصبرُ موتيفًا لازمًا في القصّة. بيّن أوجه هذا الموتيفِ والسياقاتِ الّتي ظهرَ بها.

7. تتَسمُ القصّة بالتناول الرومانسيِّ لمضمونِ والأفكارِ. بيّن ذلك.

8. يُكثِر الكاتبُ من توظيفِ أسلوب الحالِ في القصّة. استخرج مثاليْن، ثمّ اشرحِ الغرضَ من هذا التوظيف.

9. تُعتَبرُ نهايةُ القصَّة نهايةٌ مفاجئةٌ. لماذا برأيك؟

10. قارنْ بين قصّتي النخلة المائلة لمحمّد علي طه، ونخلة على الجدول للطيّب صالح، من حيث الدور الّذي اتّخذته النخلة.

11. تنتمي القصّة إلى ما يسمّى الأدب الملتزم. ما معنى ذلك؟ وضّحْ مستشهدًا بالأمثلةِ.

12. ما هيَ أهمّيّةُ النصِّ الموازي أو عتبةِ النصّ المقتَبَسةِ عنِ ابن عربيّ في التدليل على رمزيّةِ النخلة؟

13. تتوزّع سُلْطةُ السَرْدِ بين نوعينِ للراوي. بيّنْهُما من خلالِ أمثلةٍ، واشرحِ الهدفَ من هذا التوزيعِ.


*183*

مختار السمّوعيّ - محمّد نفّاع


*183*

محمّد نفاع: (ولد 1939)

من أبرز كتّاِب القصّةِ القصيرةِ الفلسطينيّةِ المحلّيّة. ولد في قرية بيت جنّ في الجليل الأعلى. تلقّى تعليمه الابتدائيّ في قريته، وتعليمَه الثانويَّ في قرية الرّامة، ودرس لمدّة سنتين 1963-1964 في قسمي تاريخِ الشرقِ الأوسطِ واللغةِ العربيّة وآدابها في الجامعةِ العبريّةِ في القدس، ثمّ تَرك الدراسةَ لأسبابٍ مادّيّةٍ ولضغوطاتٍ سياسيّةٍ. اِلتحق عامَ 1971 بمعهدِ العلومِ السياسيّةِ في موسكو، ونال منه شهادةً في العلوم السياسيّةِ في السنةِ نفسِها. عملَ معلّمًا للغةِ العربيّةِ في مدرسة القريةِ وفي مدرسةِ عين الأسد، ثمّ أُقْصيَ من جهازِ التعليمِ لميولهِ السياسيّة. اِلتحقَ بالحزب الشيوعيّ عام 1965، وفي عام 1970 تقلّدَ منصبَ سكرتير الشبيبةِ الشيوعيّةِ في منطقة عكّا، ثمّ منصبَ الأمينِ العامِّ للشبيبةِ الشيوعيّةِ في البلادِ بين الأعوام 1979-1990، وشغلَ منصبَ عضوِ كنيست عن قائمةِ الحزبِ الشيوعيّ بين السنوات 1990-1993، ثمّ الأمينَ العامَّ للحزبِ الشيوعيّ في البلادِ بين السنوات 1993-2002، وانتخب مرّة أخرى للوظيفة نفسِها في العام 2007 وما زال يتقلّد هذا المنصبَ إلى يومنا الراهن.

يعتبرُ محمّد نفّاع، أحدَ أبرز الممثّلين الحقيقيّين للقصّة القصيرة في البلاد، حيث تتميّز قصصُه بالواقعيّة وبالأجواء الشعبيّة الفلسطينيّة. ترجمت قصصُه إلى عدّة لغات عالميّة.

مؤلّفاته القصصيّة: الأصيلة (1976)، ودّيّة (1978)، ريح الشَمال (1979)، كُوشان (1980)، أنفاس الجليل (1998)، الأصيلة (1980)، التفّاحة النهريّة (2011).


*184*

مُختار السَمْوعيّ

محمّد نفاع

عمّي عليّ ليسَ شقيقَ والدِي بالضرورةِ، ولا حتّى من أقارِبِنا، لكنّها عادةٌ نقولُها للكبارِ، عمّي، خالي، سيدي، وينطبقُ ذلك على النساءِ. لذلك اتّكَلَ والدي على الله وعلى عمّي عليّ وأرسَلَني معه.

كانَ عليْنا في البِدايةِ أن نطلُبَ تصريحًا إلى السَمُوعيّ (السَموعيّ: قرية فلسطينيّة مُهجّرة منذُ عام 1948، تقعُ في الجليل، الى الجنوب الغربيّ من مدينةِ صفد. اعتاشَ أهلُها على زراعةِ القمحِ والشعيرِ والزيتونِ وكُرومِ العنَبِ. بالإضافةِ إلى تربيةِ الماعزِ وخلايا النحلِ. لا تزالُ بعضُ آثار من القريةِ إلى اليومِ مثل: بعضُ جدرانِ البيوتِ المبتورةِ، وبئرٌ، وقناةُ مياه، كما ينمو عددٌ من أشجارِ التينِ والزيتونِ في أرجاءِ الموقعِ. من العائلاتِ التي سكنت القرية: عائلة سليم، خليل، الحاجّ الأشقر، قدَورة. في سنة 1949، أقيمت على أراضي القرية بلدة كفار شمّاي إلى الشرقِ مباشرة من موقع القريةِ، وكان أغلبُ سكانها من المهاجرين اليهود اليمنيّين)، وهذا ما فَعَلَه عمّي عليّ، أمّا أنا فعُمْري دزّينَةُ سنواتٍ، تحتَ العقلِ، بلا بِطاقَةِ هُوِيَّةٍ، كانَ هذا قبلَ عصرِ أطفالِ الحِجارَةِ والسُجُونِ المُخصّصَةِ للأطفالِ.

- تصريحٌ يا خَوَاجا للسمّوعيّ، قالَ عمّي عليّ للموظّفِ.

- كفار شَمّاي، قالَ المُوظَّفُ.

- للسمّوعيّ!! إي!!

- اسمُها كفار شَمّاي.

- تصريحٌ للسمّوعيّ حَجَزُوا لنا هُناك.

- قُلنا اسمُها كفار شَمّا ي فِشّ سمّوعيّ اليوم.

- يا عمّي السمّو عيّ، حدّ فرّاضِة (فرّاضة: قرية فلسطينيّة مهجّرة منذ 1948، وتُسمّى أيضًا الفرّاضيّة، تقع في الجليل، إلى الجنوب الغربيّ من صفد. قامت مكان قلعة بارود الرومانيّة، وأحاطت بها أراضي قرى كفر عِنان وبيت جنّ والسمّوعي. كثُرت فيها الينابيع والآبار، وتُعتبر ذات موقع أثريّ يحتوي على طواحينَ أثريّةٍ ومدافنَ محفورةٍ في الصخرِ ومزار الشيخ منصور. من العائلات الّتي سكنت القرية: عائلة عطّور وبدران. وتقع في جوار القرية طواحين فرّاضِيّة وهي موقع أثريّ يحتوي على أقنية وطواحين مهدّمَة. أقيمَ على أراضيها كيبوتس فرود وبلدة شيفر) وَلوْ.

- كيبوتس فَرُود!

-فرَاضِي ولَوْ!!


*185*

- كيبوتس كارْدوش!!

- فوق كَفْر عِنان (كفر عِنان: قرية فلسطينيّة مهجّرة ما بين 1948-1949، تقع في الجليل، في أقصى الجزءِ الشرقيّ من قضاء عكّا، وتحيطُ بها قرى فرّاضيّة والرامة والمغار. اعتاشَ سكّانها على تربيةِ الماعزِ وخلايا النحلِ، وكان هنالك معصرةٌ تُستخدمُ لعصر الزيتونِ أو العنب. من العائلاتِ التي سكنت القريةَ: نصّار، شقير، معروف، الناصر، منصور. أُقيمت على أراضيها بلدة كفار حنانيا عام 1989) يا خَواجا.

- كفار حَنانْيا! قالَ مُوظَّفُ الحاكِمِ العسكريِّ.

انخبَطَتْ سِحْنَةُ (سِحْنَة: وَجه، لَوْن، هَيْئَة) عمّي عليّ المَقلوبةُ أصلًا. عمرُهُ في حُدودِ السبعينَ ويحمِلُ عُكّازًا عليه صورةُ حَيَّةٍ تفتَحُ شِدقَهَا للَّدْغِ. فَسِيدِي أحمد ماهرٌ في هذا الكارِ، يَنْقُشُ على عكاكيزِ الزعرورِ صُوَرَ الحَمَامِ والنُسُورِ والأفاعِي والأُسودِ والنُمُورِ، أمّا كيفَ تخيَّلَ صورةَ الأَسَدِ فالعلْمُ عندَ اللهِ، فالبقيَّةُ من أهلِ البَلَدِ.

أعطَى الحاكِمُ العَسكَرِيُّ تصريحًا لكْفارْ شَمّايْ، وأَخَذَ عمّي عليّ التصريحَ للسمّوعيّ.

ويجِبُ ألّا يقَعَ خَطأٌ بينَ السمّوعيّ والسمّوعِ (السمّوع: بلدة فلسطينيّة تقع جنوب مدينة الخليل. وهي اشتموّاع الكنعانيّة القديمة. يعتمد سكّانها على تربية المواشي لتوفّر المراعي فيها، بالإضافة إلى زراعة الحبوب بأنواعها، والعنب، والتين والزيتون. تعرّضت للهجوم الإسرائيليّ مرّتين عام 1965، وَ 1966). الأُولى عندَ بلادِ وصَفَد هُدِمَت في النكبَةِ، والثانيَةُ صَوْبَ الخليلِ احتُلَّتْ في النكْسَةِ، لكنّها ضُرِبَت ضرْبَةً قاسيَةً قبلَ النكْسَةِ. والقُربى بينَ البلديْنِ هي القُربَى بين النكْبَةِ والنَكْسِةِ.

لا تزالُ بقايَا الثَلْجِ عندَ عُرُوقِ السَناسِلِ (السَناسِل: جدران حجريّة وأسوار حجريّة كان يقيمها الفلسطينيّون لغايات عدّة، منها: رسم الحدود بين أصحاب الأراضي، ومنع الحيوانات والمواشي من دخولها ولمنع انجراف التربة في فصل الشتاء في الأراضي المنحدرة)، فسَنَواتُ الخَمسينَ جادَت (جادَت: تكرَّمت، أعطَت بسَخاء) بالمطَرِ والثلجِ.

وقامَ عمّي عليّ بواجِبِهِ خيرَ قيامٍ وهو يدُلُّنِي على مَوَاقِعِ والجِبالِ وعُيونِ الماء في الطريقِ.

البيوتُ مُكْفَأَةٌ (مُكْفَأَة: مقلوبَة، مائلة) مُهَدَّمَةٌ باردَةٌ. وعمّي عليّ يَئِنُّ (يَئِنّ: يتأوّهُ أَلَمًا، يُصدِرُ صوتًا حزينًا ويَعِنُّ (يَعِنّ: يسُبُّ) وأحيانًا تَخرُجُ كلماتٌ مخنوقَةٌ مُهَدَّمَةٌ، تارةٌ أحسَبُهُ يقرَأُ شيئًا منَ الدِينِ، وأخرى كَمَنْ يَشتُمُ أحدًا مَا.


*186*

عمُّوريّ، أبو الشبا، النبع، زيتون دار كرّوم، بُستان العَبِد صالح، بُستان أمين درويش، العِين مَضَافَة دار كان عمّي عليّ قد فكَّ صُرَّةَ (صُرَّةَ: خِرْفَةٌ تُجمَعُ فِيها النُقودُ وَغَيْرُها وَتُشَدُّ) الزوّادَةِ وأخَذَ رغيفًا مَلفُوفًا، وفعَلْتُ مثلَهُ، لكنّه لم يأكُلْ.

- عمّي عليّ أوّل مرّة بْتِبجِي لَهُون بعد الهَجيج (الهجيج: الفِرار والرحيل، اصطلاح شائع من المحيّة الفلسطينيّة، يرمز إلى نُزوحِ السكّانِ وتهجيرهِم من بلادِهم عام 1948؟

التَفَتَ إليَّ بِحَنَقٍ (حَنَقَ: غَيْظ، غَضَب)، ويا لَهْولِ ما أرى: سِحنَةً سوداءَ غبراءَ (غبراء: لونها بلوْن التُراب) مقلوبَةً غاضِبَةً، والدُمُوعُ تَفِرُّ مِن عيونٍ مُحْمَرَّةٍ. أَرْجعَ رغيفَ الخُبْزِ إلى الزوّادَةِ كما هو، وقَرَصَتْنِي مَوْجَةُ حُزنٍ عليه وسَكَتْنا.

- كُلْ عمّي كُلْ!!

قالَ بصوتٍ باكٍ، فكأنّهُ قالَ: رَجِّع الرغيفَ لَمَطْرَحُه يا ولد!! ففعَلْتُ. مع أنّ الجُوعَ قد قَرَصَنِي قَرصَةٌ مُنكَرَةٌ، وكنّا قد قَطَعْنا مَسافَةً طَويلةً.

كانَ سُكانُ السمّوعيّ الجُدُدُ قدِ احتَجَزُوا عَنزَتَيْنِ لنا ولعمَي عليّ وجِئنَا نُفُكُّهُما منَ الحَجْزِ.

سألْنا واحِدًا من السُكّانِ هناكَ فقالَ اسألُوا المُختارَ. ويبدُو أنّ عمّي عليّ قد تهَيَّأَ جيّدًا لزيارَةِ المُختارِ فَدَلّنا على بيِتِه. بيتٌ صغيرٌ بينَ أحراشِ الصَنَوْبَرِ، وهُنا وهُناك يكادُ يُخنَقُ الصَنَوْبَرُ من زَحْفِ السِنْديانِ.

كَشَّرَ عمّي عليَ مِن بيتِ المُختارِ. لا مَرابِطَ (مَرَابط: جمع مِربَطَة: حظيرة تُربّى فيها الخيولُ وغيرها من الدوابّ، حيث تُربَطُ بوسائِلَ مختلفةٍ ويُقدَّمُ لها الطعامُ وهي في أمكَنَتِها) خَيْلٍ ولا ناسَ ولا مَضافَةَ فَدقَّ البابَ بعُكّازِهِ. خَرَجَت امرأةٌ في أوسِطِ العُمْرِ بذُهُولٍ، وخَيَّمَتْ على وجهِها مَوجاتٌ من الاستِغرابِ. وهي اَنظُرُ إلى الحَطَّةِ السوداءِ.

- وِين حَضْرِةِ المُختار؟!

- سارِحْ مع المِغْزَى (سارِح مع المِغْزَى: يرعى الماعِز)، وكأنَّها أنْهَتْ ما عليْها وهَمَّتْ بإغلاقِ البابِ.

- وِين؟! سارحْ؟!


*187*

هَتَفَ عمّي عليّ من قِحْفِ رأسِهِ (قِحْفِ رأسِهِ: العظمُ الذي فوقَ الدِماغِ من الجُمجُمَةِ).

- أُش ش ش الوَلَد نايِم.

صُعِقِ عمّي عليّ من كلِّ شيءٍ.

وأشارَتْ لنا إلى مكانٍ قريبٍ حيث يسرَحُ المُختارُ مع المِعزِى، وأغلَقَتْ البابَ الضَيِّقَ بِضِيقٍ.

(يْشَرِّينِي على هيك مُختار)!! ترنَّمَ عمّي عليّ بِلَحْنٍ مَلعونِ فظيعٍ ظلَّ يردِّدُهُ بتنغيمٍ مَمْطُوطٍ (مَمْطُوط: مَمْدُود).

عمّي عليّ مُتَدَيِّنٌ، وتحتَ حَطَّتِهِ السوداءِ عِمامَةٌ مُجَعْلَكَةٌ بِشَكلٍ مُهينٍ، ولذلكَ استبْدَلَ الخاءَ بالشِينِ حتّى لا تكونَ الكلِمَةُ كبيرةً ونابِيَةً، فهذا غيرُ مُحَلَّل، أمّا يُشْرّيني فهيَ دارجةٌ ومَقبولةٌ وتُعطِي نفسَ المَعنى، وهذا لَعَمَرُكَ حُسْنُ تَخَلُّصٍ مَهِيبٍ.

يِعطيكِ العافيةِ! قالَ عمّي عليّ للمُختارِ وقد رَفَعَ الكُلْفَةَ تمامًا. والمُختار يلبَسُ جَزْمَةً وعلَى رأسِهِ طاقِيّةٌ مَلفُوفَةٌ بشَكلٍ غَريبٍ ومعَهُ قضِيبٌ غَشِيمٌ (غَشيم: جَاهلٌ، لا دِرَايَةَ لَهُ) أينَ هو مِن عُكّازَةِ عمّي عليّ! وسِحْنَةُ عمّي عليّ تقولُ:؛ (يْشَرِّينِي على هيك مُختار). وقَد قَضَى على الكُلْفَةِ تمامًا، وشَرَح لهُ احتجازَ العَنزَتَيْنِ.

- نُصّ ليرة على الواحِدَة. قالَ المُختارُ وهو مِن أصلٍ يَمَنِيٍّ.

- نُصّ ليرة على إيش ياحَ يا خواجا؟

- أكَلُوا الشَجَر، نُصّ ليرة.

فكيفَ لا يُصْعَقُ عمّي عليّ ويَطيرُ صوابُه!

وراحَ يَكُرُّ (يَكرُّ: يخُطّ، يكتُبُ جملةٌ تلو أخرى (محكيّة فلسطينيّة)) بيانًا سِياسيًّا مَهِيبًا سمِعْتُ منهُ كلماتٍ مُتنافِرَة: العبد الصالِح وأمين درويش. بيوتٌ مُهَدَّمَةٌ، مْقَطَّعِين مْوَصَّلِين. بَدَادِيق (بَدَادِيق: محرّفة عن كلمة بناديق، والبندوق: اللقيط، أو مجهول النسَب)، أيّام زمان، بلاد عامِرَة، مَضَافَات، مْلايات مثلِ الغُزلان، قهوة مُرَّة.


*188*

السمّوعيّ. فَرَاضِي، كفر عِنان، عين الزيتون (عين الزيتون: قريةٌ فلسطينيّة مهجّرةٌ منذ عام 1948. تقعُ في الجليلِ، إلى الجنوبِ من صفد وتعدُّ ضاحيةٌ من ضواحي صفد. تحيطُ بها أراضي صَفَد وبيريا، وقديتا، وميرون. كان أهلُها يُعنَون بزراعةِ الزيتون والحُبوبِ والفاكهةِ، لا سيّما العنب. من العائلاتِ التي سكنت القريةَ: الشعبيّ، جميد، إدريس، خطّاب، غريّب. بقي منها بضعةُ منازلَ مهجورةٍ، ولبعضِها مداخلُ مُقَنطَرةٌ، ونوافذُ طويلةٌ تَعلوها أشكالٌ مُقَنطَرةٌ متنوْعَةٌ. اقيمَت بالقُربِ من عين الزيتونِ بلدةُ عين زيتيم)، وادِي عامود (وادي عامود: أحدُ ثلاثةِ أوديّة تصبُّ في بحيرةِ طبريّا من جهةِ الغربِ، وهي: وادي الحَمام، وادي سلّامة، ووادي عامود. ينبعُ من منطقةِ جبلِ الجَرمَقِ، وهو مشهورٌ بصخرتِهِ الّتي تكوّنت نتيجةَ لكَسرِ جيولوجيّ وتآكلت بفعل عواملِ الزمن)، نور الله في مُلك الله، أيّام سُودا، أيّام سُودَا.

ودَفَعْنَا نُصّ ليرة عن كلّ وَحْدِة. وفي مغارة الجُوق تحت عَكْبَرَة (عَكْبَرَة: قرية فَلسطينيّة مهجّرة منذ عام 1948، تقعُ الى الجنوبِ الشرقيِّ من مدينةِ صفد. اعتمدَ أهلُها على زراعةِ الحبوبِ والزيتونِ. من العائلاتِ التي سكنتِ القريةَ: حاجب، حسن، ميعاري، مغامس، فيّاض. تُعَدُّ ذاتِ موقعِ أثريِّ، حيثُ تحتوي على جدرانِ متهدِّمَة وصهاريجَ ومعصرةِ زيتونٍ وقبورٍ، بالإضافةٍ الى خربةِ العَقيبةِ في الجنوبِ الشرقيِّ. بعدَ تهجيرِ السُكّانِ الأصليّينِ استُبدلَت بلاجِئينَ داخليّين من قريَتَيْ قَديتا ودلَاتة، الواقعتيْن على بُعدِ بضعةِ كيلومتراتٍ إلى الشمالِ من صفد، ومنذ عامَ 1980، أعيدَ إسكانُ هؤلاءِ اللاجئينَ في قريةِ عكبرة المُجاورةِ، التي صُمّمَت حديثًا وأُنشِشَت بالتدريجِ على بعد نصفِ كيلومترٍ من موقعِ القريةِ القديمةِ، وتُعتبرُ قريةُ عكبرة الحديثةُ تابعةً إداريًا لمدينة صفد منذ عام 1977) وصَفَد، استقبَلَ القطيعُ العنْزَتَيْن استقبالَ الأبطالِ، وصارَ الشَمُّ والمُلامَسَةُ والحَكْحَكَةُ ونَظَراتُ السُؤالِ والعِتابِ والتَسأؤُلُ والمَأْمَأَةُ مِن أفرادِ القَطيعِ سيِّدَ المكانِ، مع التهاني بسلامَةِ العَودَةِ من الغُربَةِ، والمِعزى المُتَحَرِّرَةُ تُقَدِّمُ بيانًا عمّا جَرَى.

وعمّي عليّ يكاُد يَغُصُّ بالبُكاءِ والغَضَبِ، وعادَ إلى لازِمَتِهِ ضدَّ المُختارِ اليَمَنِيِّ دونَ تغييرٍ في الحُروفِ. ولأنّي أُحبُّ عمّي عليّ نَطَقتُ مِثلَهُ، وكذلكَ الراعِي، والعِلمُ عند الله أنّ مَأمَأةَ القطيعِ كذلكَ في لمِّ الشَمْلِ هذا.


*189*

مفاتيح النصّ:

مبدأُ الدفاعِ عن الأرضِ والممتلكاتِ، الحزمُ ضدَّ المُعتَدين، الموقفُ المُعادي من العَمالَة والتخاذُل، المحكيّةُ الفلسطينيّةُ، الحوارُ، الحسُّ الفكاهيُّ الشعبيُّ، السخريّةُ الناقدةُ، اللغةُ الساخرة ملامحُ البيئةِ الفلسطينيّةِ، اللغةُ الواقعيّةُ.

مهامّ:

1. ما هي الفترةُ الزمنيّةُ الّتي تدلُّ عليها أحداثُ القصّة؟ اشرحْ مع الأمثلة.

2. لماذا كان العمّ عليّ مُصرًّا على استرجاع العنزتيْن؟ وما البعدُ الرمزيّ في ذلك؟

3. لماذا نظرتِ المرأةُ بذهولٍ واستِغربِ إلى العمّ عليّ، وإلى حطّتِه السوداءِ؟

4. سَجِّلْ ميزتيْن أُسلوبيتيْن للقصّةِ وادعَمْهما بالأمثلةِ.

5. صِف أهمَّ الملامحِ الخارجيّةِ والداخليّةِ الّتي تميّزُ شخصيّةَ العمّ عليّ.

6. صِف ملامحَ البيئةِ الفلسطينيّةِ من خلالِ القصّةِ.

7. قارِن بين شخصيّةِ العمّ عليّ وشخصيّةِ المختارِ في القصّةِ من حيث الملامحُ الخارجيّةُ والداخليّةُ.

8. ما نوعُ الراوي في القصّةِ؟ أُذكر ميزتيْن من ميزاتِه.

9. ما رايُكَ في تطعيمِ الفصحى بالمحكيّةِ في لغةِ الكاتبِ محمّد نفّاع؟ وما الهدفُ منها؟

10. بالإضافةِ إلى بعدِها الجَماليّ، تتّخذُ القصّةُ بُعدًا تاريخيًّا وتوثيقيًّا. كيف حقَّقتِ القصّةُ هذينِ البُعديْنِ؟

11. اكتب بيانًا موجزًا تحاولُ فيه أن تتمّمَ البيانَ السياسيَّ المَهيبَ الّذي أطلقَهُ العمُّ عليّ، وقد سمعَ منه الراوي كلماتٍ مُتنافِرَةٌ.

12. الهدفُ من توظيفِ الدلالاتِ المكانيّةِ في النصِّ؟


*190*

أخي رفيق - سعيد حورانيّة


*190*

سعيد حورانيّة (1929-1994)

وُلد في دمشقَ، وتعلّمَ فيها. حصل َعلى ليسانس في الآدابِ ودبلوم في التربية. عملَ في التدريسِ والصحافةِ ما بيّن سوريّا ولبنانَ. كان عضوًا في اتّحادِ الكتّاب العربِ في سوريّا. أقامَ في موسكو من عام 1969 حتّى عام 1974، ثمّ عادَ إلى وطنِه، وعملَ موظّفًا في وزارةِ الثقافةِ حتّى آخرِ حياتهِ.

برعَ في فنِّ القصّةِ القصيرةِ، وبرزَ فيها ملتزمًا بنهجِ الواقعيّةِ الاشتراكيّةِ بحكمِ التزامهِ بالماركسيّةِ ومبادئ الحزبِ الشيوعيِّ، والالتزامِ بقضايا الناسِ البسطاءِ وبقيمِ الحقّ و العدالةِ الإنسانيّةِ. كذلك برعَ في صياغةِ بعضِ قصصهِ بمبنى استعاريٍّ يضيءُ الأبعادَ العميقةَ للتجربةِ البشريّةِ في ظلِّ الواقعِ المتشابِك والمعقّدِ.

من مؤلّفاته:

قصص: وفي الناس المسرّة (دمشق، 1935)، شتاءٌ قاسٍ آخرُ (بيروت، 1963)، سنتان وتحترقُ الغابة (بيروت، 1964).

مسرحيّات: صياح الدِيَكَة (دمشق، 1957)، المهجع رقم 6 (دمشق، 1963).

مقالات: سلامًا يافارصوفيا (دمشق، 1957).


*191*

اخي رفيق

سعيد حورانيّة

كنتُ في العاشرةِ من عُمري، حينما جاءَتني أُمّي بثوبٍ جديدٍ رماديٍّ فيه بُقعٌ سوداءُ، ولمْ يُعجبْني الثوبُ لأنَّ جيبَهُ كانتْ صغيرةً، لا تتّسعُ لبِذرِ المشمشِ الذي ألعبُ فيهِ معَ رفاقي بالحَرامِ والحلالِ والزوجِ والفردِ وكنتُ واقفًا أمامَ الدَرَجِ أبكي بحُرقةٍ حينَما جاءَ أخي رفيق يُواسِيني، وكانَ شابًّا في الخامسةَ عشرةَ، يُعجبُني فيهِ أناقُتُه وبريقُ شَعرِهِ، وكنتُ أقفُ ساعاتٍ أمامَ المرآةِ، أحاولُ أنْ أقلّدَهُ قالَ لي بصوتٍ حنونٍ:

- هلْ تريدُ أنْ تذهبَ معي يا سعيد؟

فقلتُ بعنادٍ:

- لا.

- طيّب، اذهبْ والبسْ حذاءَكَ، فإنّي سأذهبُ أنا وابنُ عمِّكَ عدنان وصيّاح إلى البرّيّة.

ثمَّ التفتَ حولَهُ بحذرٍ.

- لا تقُلْ لأخيكَ خيري، فإنّنا نريُد أنْ نسبحَ وأحسسْتُ أصابعَهُ تغرقُ في شَعري، وتشدُّهُ برِققٍ.

- سأحملُكَ عنى يدي اليُمنى وأسبحُ بكَ هلْ أنتَ شُجاعٌ؟

- اِرفعْ رأسَكَ دائمًا وأنا أحملُكَ وسترى كمِ السباحةُ هيّنةٌ.

وأسرعْتُ ألبسُ الصندلَ العتيقَ الذي تقطّعَت أوصالُهُ، فإنَّ رِجلي - كما تقولُ أُمّي - تهري

الحديدَ، وفجأةٌ سمعتُ صوتَ أُمّي:

- أينَ أنتَ ذاهبٌ؟

- معَ أخي رفيق.

- لا لنْ تذهبَ، إنّ أمَّ تحسين الشيخةَ ستجيءُ اليومَ، وهي تريدُ أن تراكَ.

- لا أريدُ أن أراها، إنّي أكرهُها.


*192*

فقطّبت أُمّي جبينَها وقالتْ بغضبٍ:

- إخرسْ إنّها عملتْ لكَ حجابًا لتقَيَكَ من نزيفِ الدمِ الذي يلحُّ عليكَ إنّها مبروكة.

فبصقْتُ بشدّةٍ، فصفعتْني أُمّي وهيَ تتعوّذ بالله مِن هذا الجيلِ، الذي هوَ أفجعُ على حدِّ تعبيرِها، وعندَ ذلكَ قعدْتُ على الأرضِ الوسخةِ بثوبي الجديدِ، وأنا أبكي وأفحصُ البلاطَ بقدمي.

ونظرَ إليَّ أخي نظرةَ عطفٍ وهوَ يحملُ بيدِهِ المُؤونةَ، ثمّ قالَ بهمسٍ:

- اُسكُتْ سأحملُ لكَ معي كثيرًا من القَرعُونِ (القَرعُون: المشمشُ الذي لم ينضجُ بعدْ).

ثمّ خرجَ وأُمّي تراقبُني حتّى لا ألحقَهُ.

وجاءتْ أمُّ تحسين الشيخةُ، وكانتْ كامدةً (كامدة: حزينة) صفراءَ تبدو كالشيطانِ، فربّتتْ (ربّتت: لاطَفَت، ضربَت بيدها على كتفه برفق) على كتفي برفقٍ، وشعرتُ بالاشمئزازِ عندما مرّت على خدّي بيدِها الخشنةِ التي تُشبهُ ليفَ الحمّام، ثمّ رفعَتْني إلى حِجْرِها، وهيَ تُتمتِم ببضعِ كلماتٍ غامضةٍ، فاستوْلَتْ عليّ الرهبةُ، وأخذْتُ أتابعُ حركةَ يدِها، وهيَ تمرُّ بها على أعضاءِ جسدي وأنا ارتجفُ، وانتهتِ التكبيسةُ (التكبيسة: (من الفعل كَبَّسَ)، نوع من أنواع الممارسات التي يتمّ اتّباعها عندما يُصابُ الأطفالُ بالحمّى أو غيرِه من الأمراضِ، حيث تقومُ الأمّ أو الجدّة أو أيّ امرأة بتدليكِ جسدِ المريضِ مع تلاوةِ بعضِ الآياتِ القرآنيّة) بسلامٍ، فهبطُتُ وأنا أتنهّدُ، ثمّ أخرجَتْ مِن صدرِها خرقةً صغيرةً مُكوّمةً، وقدْ رُبطَ على جانبيْها خيطٌ أبيضُ ثخينٌ، فعلّقَتْهُ على صدري، وهي تُدمِدمُ (تُدمِدم: تُحدث صوتًا مُدويًا) وتقولُ لأمّي:

- مبروك الحجاب يا أمّ توفيق.

- الله يبارك فيكِ يا أمّ تحسين، القهوة يا بنتْ.

فنظرتْ أمّ تحسين إلى الحِجاب بطرفِ عينِها، ثمّ قالتْ بصوتٍ مبحوحٍ:

- والله كلّفني كثيرًا هذا الحجابُ، لقد عذّبَني كثيرًا الملِكُ الأحمرُ حتّى استطعْتُ تخليصَهُ منهُ.


*193*

- كلُّ ما تُريدينَهُ حاضرٌ يا أمّ تحسين ولو كمْ أمّ تحسين عندنا.

وفي اللحظةِ التاليةِ عدَوْت نحوَ البابِ، ثمّ غبْتُ في زحامِ السوقِ.

واجتمعْتُ برفاقٍ لي في الطريقِ، وأخذْنا طريقَنا إلى البرّيّةِ. إلى بستانٍ يُدعى البحصةَ وتسلّقْنا الدِكَّ (الدِكَّ: جسر خشبيّ)، ثمّ قفزْنا واحدًا واحدًا مُجتازينَ النهرَ الصغيرَ الذي ينسابُ (ينساب: يجري) وراءَ الدِكِّ، وانزلقَتْ رِجلي وأنا أقفزُ، فسقطْتُ فيهِ، وتلطّخَ ثوبيّ الجديدُ بالوحلِ، وتصوّرْتُ الضربَ المُبَرِّحَ الذي سيستقبلُني بهِ أبي، ولكنَّ نظراتِ رفاقي الخبيثةَ جعلَتْني أرفعُ رأسِي بكبرياءٍ.

وامتلأَتْ جيوبُنا بالقَرعُونِ عندما سمعتُ صوتًا هائلًا يصيحُ بنا؛ فركضْنا مذعورينَ وتركتُ الصندلَ على الأرضِ، ثمّ تسلّقْتُ الدِكَّ بسرعةٍ، فعلِقَ طرفُ ثوبي بحجرٍ ناتئٍ (ناتئ: بارز، به نتوء) فتمزّقَ، ولكنّي لم أُبالِ بهِ، بلْ ركضْتُ نحوَ البيتِ، وأنا أتلفّتُ، وعندما لمْ أجِدْ أحدًا تنفّسْتُ بارتياحٍ، ونظرْتُ إلى ثوبي ورِجليّ الحافيتيْن، فدقَّ قلبي بعُنفٍ، وفجأةً سمعْتُ صوتًا لصديقٍ لي.

- سعيد سعيد.

- نعمْ.

- لقد ماتَ أخوكَ رفيق. فاندفعْتُ أقولُ بغضبٍ:

- اِخرسْ بدون عَلْك (بدون علك: أي بدون ثرثرة وكلام زائد) أمّا مزحة باردة منذُ ساعةٍ كانَ معي.

- واللهِ ماتَ اختنقَ في بِركةِ العِرقسوس ألا تصدّق؟

- مَن قالَ لكَ؟

- كلُّ الدنيا عرفَتْ امتلأَتِ البِركةُ بأُمَّةِ الله وقد أخرَجتْهُ الإطفائيّةُ.

تركْتُهُ وسرْتُ بسرعةِ، وكانت نظراتُ الناسِ لي قد أيّدتِ الخبرَ، وشعرتُ بشيءٍ غامضٍ مجهولٍ يقبضُ على قلبي ماتَ أخي ما معنى ماتَ وكانَ الناسُ جميعُهُم ينظرونَ إليَّ بعطفٍ ورثاءٍ، ممّا أثارَ فيّ الارتباكَ المَشوبَ (المَشوب: المُختَلط) بالزُهُوِّ (الزُهُوّ: والزَهْو: الكِبَر، الفخر)، وكنتُ أَهمُّ إذا ما رأيتُ رجلًا لا يحفلُ


*194*

بي أمسكُهُ من تلابيبِهِ (أمسكُهُ من تلابيبِه: جمع ثيابَه عند صدرِه وجرَّه) وأقولُ لهُ:

أخي ماتَ، اختنقَ في بِركةِ العِرقسوس واللهِ ماتَ، أخرجَتْهُ الإطفائيّةُ.

وعندما اقتربْتُ من البيتِ سمعْتُ العويلَ، فدقَّ قلبي واصفرَّ وجهي ورجفتْ ركبتايَ، ورأيتُ جمعًا كبيرًا مِن الأطفالِ حولَ البيتِ، فدفعْتُهُم عنّي بعنفٍ متكبّرٍ، ثمّ دخلْتُ المناحَةَ.

كانتِ الدار غاصّةً (غاصّة: مليئة) بالنساءِ، ورأيْتُ أمّي منفوشةَ الشَعرِ، وأنفُها يلمعُ في وجهِها المليءِ بالشمندريّ (الشمندريّ: نبات الشمندر. والمقصود وجهها المُحمَرّ من شدّة البكاءِ واللطْمِ)، وهيَ تلطمُ وجهَها وتُعْوِلُ، بينما كانت أختي الكبرى تمسكُ منديلَها الأبيضَ الصغيرَ، وتمسحُ بهِ دموعَها، وصرخاتٌ غريبةٌ تتردّدُ لم أفهمْ منها سوى أنّها صرخةُ لوعةٍ صادقةٍ:

- يا ضَيْعة شبابك يا حبيبي.

- يا ليتني متُّ قبلكَ يا ابني.

- لتنطفئْ عيوني ولا أراكَ هكذا.

وحيثُما تلفَّتُّ لا أرى حولي سوى وجوهٍ حُمرٍ وعيونٍ دامعةٍ وأَكُفٍّ تلطمُ الخدودَ، فوقفْتُ كأنّني غريبٌ وحِزْتُ في ما أفعلُ، وفي اللحظةِ التاليةِ لمحَتْني أمّي مُمزّقَ الملابسِ، غارقًا في الوحلِ، حافيَ الأقدامِ، فأحسسْتُ بالذُعرِ، ولكنّها لمّا قرّبَتْ منّي اشتدَّ بكاؤُها، وهزّتني بعُنفٍ، ثمّ ضمّتني وهيَ تقولُ، والدموعُ تقطعُ آهاتِها:

- لقدْ ماتَ أخوكَ يا حبيبي، ماتَ وذهبَ إلى الأبدِ.

وازدادَتْ ضمّتُها عُنقًا وشراسةً، فرأيْتُ الدموعَ تنساب مِن عينيّ بهدوءٍ، وشعرْتُ بدُوارٍ لذيذٍ، وتمنّيْتُ أن أبقى على صدرِها إلى الأبدِ.

وشعرَتْ أمّي ببكائي فقالت بحنانٍ:

- لا تبكِ يا ولدي لا تبكِ يا حبيبي ثمّ تَرَكَتْني ودخَلَتْ إلى الصالونِ الكبيرِ.

وغرقْتُ في الجوِّ حولي فبكيتُ طويلًا دونَ أن أحسَّ بشيءٍ من الحزنِ. بكيْتُ لأنّ أمّي تبكي،


*195*

ولأنّ الجوَّ حولي كُلَّهُ صراخٌ وبكاءٌ وعويلٌ، وكنتُ أذهبُ إلى بابِ البيتِ الكبيرِ فأرى الأولادَ مجتمعينَ، فيرمُقُونَني (يرمُقُونَني: يديمون النظر اليّ، يرقُبونني) بنظرةِ عطفٍ وإكبارٍ وتهيُّبٍ، وهُمْ يرونَ عيونيَ المُحمرّة ودموعيّ المُنسابةَ، ولكنّي لا أعبأُ بهم، بلْ أقطّبُ جبيني ثمّ أصْفِقُ البابَ في وجوهِهِمْ.

وانتابني عَطَشٌ شديدٌ فذهبْتُ إلى الفَيْجَةِ (الفَيْجَة: الحنفيّة (محكيّة سوريّة))، فرأيْتُ منظرًا عجيبًا، رأيتُ إحدى قريباتي قد أمسكَتْ بفنجانٍ فيهِ ماءٌ، وأخذَتْ تصبُّ قطراتٍ في عينيْها حتّى تظهرَ وكأنّها تبكي حقًّا، فلمّا رأتني نظرَتْ إليَّ بذعرٍ ثمّ هربَتْ، فنظرْتُ حولي بحذرٍ ثمّ فعلْتُ مثلَها ولم أكتفِ بذلكَ، بل بلّلْتُ يدِي بِرِيقي وصِرْتُ أفركُ عينيّ حتّى احمرّتا تمامًا، فرجعْتُ مزهُوًّا إلى المَنَاحةِ.

وسألتُ عن أمّي فقالوا إنّها في الصالونِ.

وفي الصالونِ كانتْ تستقبلُني رائحةٌ نفّاذةٌ (رائحة نفّاذة: رَائحة مُخْتَرِقَةٌ الأجواءَ)، ورأيْتُ في الصدرِ كومةٌ بيضاءَ على السريرِ، وقدِ انتفخَ وسطُها، ونظرْتُ إلى أبي الصامتِ وأمّي الباكيةِ وإخوتي المُطرِقينَ، ثمّ اقتربْتُ بهدوءٍ فرفعْتُ اللَحافَ الناصعَ عن رأسِ الكَوْمةِ، فبدا لي وجهُ أخي المرعبُ كانت عيناهُ مُغلقتيْنِ ووجهُهُ أصفرَ وقد تلبّدَ (تلبّد: تداخل ولَزِقَتْ أجزاءُ بُعْضِهِ بِبَعْض) شعرُهُ الجميلُ، ولكنّهُ كانَ لا يزالُ يبرقُ، وبرزتِ العروقُ من وراءِ بشرتِهِ الرقيقةِ، وفوقَ حاجبِهِ الأيسرِ ضربةٌ قد تجمّدَ الدمُ فوقَها، فأرجعْتُ الغِطاءَ وجلسْتُ وأنا مُطرقٌ.

قالَ أخي عادل:

- لو أنّهُ نزلَ البركةَ مِن الناحية الثانيةِ لم بنْتقِ إلّا أعمَقَ الأمكنةِ.

فقالَ أبي بصوتٍ متهدّجٍ وهو يرفعُ يديْه كمن يستسلمُ للقدرِ:

- مَنِيّتُهُ (المَنِيّة: الموت) يا ابني مَنِيّتُهُ لا تقلْ مِن هذهِ الناحيةِ أو تلكَ الناحيةِ، عزرائيل قادَهُ ولعبَ بعقلِهِ حتّى أوقَعَهُ لقد كانَ ينتظرُهُ.

وتابعَ أخي عادل:

- لقد أصيبَ بالصخرةِ فارتبكَ، وكان قاعُ البركةِ مليئًا بالوحلِ فعلِقَتْ رِجلُهُ فيهِ، ولم يستطعِ


*196*

التخلّصَ، لقد شدَهُ أحدُ الفلَاحين مِن شَعرِهِ بدونِ جدوى.

فقالَ أخي خيري وهو يلثغُ ويفركُ يديْهِ:

- عندما أخرجَهُ الإطفائيِّ قلبَ رأسَهُ للأرضِ وأقسمِ باللهِ، خرجَ مِن بطنِهِ ماءٌ قدرَ القِربةِ.

قال أبي ثانيةً بصوتٍ متهدّجٍ:

- حُكمُ الله ولا رادَّ لقضائِهِ (قلْ لن يصيبَنا إلّا ما كتبَ اللهُ لنا هو مولانا وعلى اللهِ فليتوكّلِ المؤمنون).

فقالتْ أمّي مندفعةً:

- الله لا يأخذُ إلّا الطيّبينَ الممتازينَ.

فقالَ أبي غاضبًا:

- لا يا أمّ توفيق، استغفري ربّكِ! اللّهمَّ لا اعتراضَ على حُكمكَ.

فتابعَتْ أمّي كأنّها لم تسمعْ:

- نهلكُ بالولدِ ونتعبُ بهِ ونضعُ لهُ دمَ قلوبِنا ونفرِشُ لهُ ريفَ عيوننا، فإذا كبرَ وصارَ قصفَ الله عمرَهُ، هذا ظلمٌ هذا.

فقالَ أبي كمنْ يتضعضَعُ:

- صلّي عالنبيّ يا أمّ توفيق، هذهِ حالُ الدنيا إنّ الله معَ الصابرينَ.

قالتْ أمّي وهي تُعوِلُ وتنظرُ ناحيةَ الفراشِ:

- يا ليتَني أموتُ الآنَ وألحقُكَ وأتخلّصُ مِن الدنيا الملعونةِ هذهِ.

قالَ أخي الكبيرُ:

- الآن هو في الجنّةِ، روحُهُ ترفرفُ علينا، أليسّ كذلكَ يا أبي؟

- نعمْ نعمْ هنيئًا لهُ على هذهِ الميتةِ، اليومَ الجمعةَ، وماتَ والتذكيرُ يملأُ الفضاءَ، وبمثلِ هذهِ السنَّ هوَ الآنَ عصفورٌ بالجنّةِ. اللّهُمَّ احشُرْنا في زُمرةِ المؤمنينَ.

ووقعَ نظري على برميل (البريلكريم) وفكّرتُ حالًا أنّهُ بقيَ لي الآنَ لا ينازعُني فيهِ منازعٌ،


*197*

وكذلكَ كلُّ أدواتِ الزينةِ التي كانت لأخي أصبحَت لي الآنَ، وبذلاتُهُ الفخمةُ سأصغّرُها وأفصّلُها جميعَها لي وشعرتُ بشيءٍ من الارتياحِ، لقد أدانني البارحةَ ليرةً كاملةً استأجرْتُ بها درّاجةً، وذهبْتُ بها حتّى بكداش (بكداش: محلّ مشهورٌ لبيعِ البوظةِ في السوقِ الحميديّةِ في دمشق القديمة. وتذكُرُ المراجعُ أنّ محمّد بَكْداش قد أنشأَ المحلَّ عام 1895 ونقل سرَّ تصنيع البوظةِ الشاميّةِ إلى إيطاليا عام 1898)، فأكلتُ كأسًا من البوظةِ، وقد ذهبَت هذه الليرةُ ولن يأخذَها منّي بعدَ الآنَ، وفكَرْتُ في المدرسةِ لا شكّ أنّني لن أذهبَ إليها إلّا بعدَ أسبوعٍ، وسأتخلّصُ مؤقّتًا من الشيخِ طالب وفَلَقَتِهِ، وعبدو أفندي ومسطرتِهِ، وسأقضي هذهِ العطلةَ في البرّيّةِ، فأذهبُ كلَّ يومٍ لأنهبَ القَرعُونَ، ولن تنتبهَ إليّ أمّي، وهي مشغولةٌ الآن بموتِ أخي.

وقطعَ عليّ تصوّراتي صوتُ أمّي وهي تسألُ:

- هلْ نزعْتَ منهُ الخاتمَ والساعةَ يا عادل.

- نعمْ يا أمّي.

- وبذلتُهُ التّي كانَ يلبسُها أينَ وضعْتَها؟

- في غرفتِهِ.

- سأضعُ كلَّ أمتعتِهِ في خزانةٍ خاصّةٍ لأشمَّ فيها ريحتَهُ كلَّ يومٍ.

قالت ذلكَ وهيَ تضربُ كفًّا بكفٍّ وتتنهّدُ.

فقالَ أبي كمن يهربُ من حلمٍ:

- توفيق.

- نعمْ يا أبي.

- هل أعددْتَ مُعدّاتِ الجنازةِ؟

- كلُّ شيءٍ جاهزٌ.

- إذنْ فلنقُمْ.

فتعالى صوتُ أمّي بالبكاء، وشارَكَها إخوتي، ولكنّ أبي زجرَهُم (زجرَهُم: منعهم، نهاهُم) برفقٍ ودموعُهُ تخذلُ جلَدَهُ المتكلِّفَ (المتكلّف: غير الحقيقيّ. الشخص المتكلّف: الذي يظهر نفسَه على غير حقيقتها) فخرجَ من الغرفةِ هاربًا وصوتُ البكاءِ يملأ البيتَ كعويلِ الشياطينِ في أرضٍ شاسعةٍ خاليةٍ.


*198*

كانَ المساءُ قائمًا مزعجًا والتعبُ قد هدَّ كِياني، فانسلْلتُ من الصُبحيّةِ لأنامَ، وكانت غرفتي ثاني غرفتيْن، الأولى لأخي رفيق، والثانيةُ لي ولأخي الكبير وشعرتُ بالخوفِ وأنا أمرُّ أمامَ غرفتِهِ، وكانَ كلُّ شيءٍ بالغرفةِ مُجلّلًا بالسَوادِ، وكلُّ نتوءٍ يرعبُني، فيُخيّلُ لي أنّه رأسُ إنسان ماذا لو قامَ الآنَ من وراءِ السريرِ فبحلَقَ في وجهي لا شكَّ أنّني سأصرخُ وسأُلقي نفسي من النافذةِ. وتذكّرتُ قصصًا كثيرةً لأمواتٍ يقومونَ، وتذكّرتُ سِحنتَهُ (سِحنته: وجهه، هيئته) والجُرحَ فوقَ حاجبيْهِ، فكادَ يصيبُني الدُوارُ فهربْتُ من غرفتي، واسترعى نظري فورًا البذلةُ البنيّةُ التي كانَ يلبسُها أخي رفيق اليومَ، لقد وضعَها أخي عادل هنا حتّى تضمَّها أمّي إلى الخزانةِ.

لاحظْتُ الانتفاخَ في جيبِها اليُمنى، فمددْتُ يدي في تهيْبٍ، فغرِقَتْ في القَرعُونِ. إذن لقد تذكّرني أخي قبلَ أن يموتَ، وها هو القَرعُونُ الذي وعدَني بهِ، وشعرتُ لأوّلَ مرّةٍ بحزنٍ مُبهَمٍ ورفعتُ رأسي وأنا أتصوّرُهُ قد كبرَ حتّى ملأَ الغرفةَ هل ماتَ حقًّا هل ذهبَ إلى الأبدِ ما هو الموتُ هل هو عصفورٌ في الجنّةِ الآن كما قالت أمّي؟

في مثل هذا الوقتِ من كلِّ مساءٍ كانَ يأتي إلى غرفتي فيدخّنُ سيجارةً، وهو يتحدّثُ مع أخي عادل في السياسيةِ والأدبِ، والسينما والممثّلاتِ، وأنا أجلسُ مبهورًا أنظرُ إليهِ وإلى شَعرهِ اللامعِ وقسماتِهِ النبيلةِ (قسماته: ملامح وجهه، تقاطيعه) وأعبدُهُ بصمتٍ وكانَ ينظرُ إليّ فأحسُّ بعينيْه الجميلتينِ تُغرقانِ وجهي في دغدغةٍ ناعمةٍ كشَعرَ حسناءَ، وكانَ يسألُني عن دروسي ويساعدُني في حلِّ مسائلِ الحسابِ وإعرابِ بيت القواعدِ الذي يعيدُهُ علينا أستاذُنا في كلّ مناسبةٍ:

أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدَبِي وأسمعَتْ كلماتي مَن بهِ صممُ

ونظرتُ إلى البابِ علّي أرى وجَهَهُ الجميلَ وقامتَهُ المهيبةَ وبشرتَهُ الرقيقةَ التي تَظْهَرُ عروقُهُ مِن ورائها، وشعرتُ بهوّةٍ تُحفزُ بينَ رجليّ، وبدوارٍ غامضٍ يهوي على رأسي بمطارقَ قويّةٍ ولكنّها ناعمةٌ لقد ماتَ حقًا أخي العزيزُ الحبيبُ ولن أراهُ إلى الأبدِ ولن يساعدَني في حلِّ مسائِل الحسابِ، وسأنظرُ دائمًا إلى أخي عادل وسينظرُ إليّ وسنطرقُ معًا وننطرُ إلى مكانِهِ، ويدُ أخي عادل ترتجف بسيجارتِهِ، ونصمتُ، ثمّ ينتهي كلُّ شيءٍ. لأوّلِ مرّةٍ شعرتُ فجأةً بحزنٍ شديدٍ، ففهمتُ بكاءَ أمّي وإخوتي، لأوّلِ مرّةٍ أيضًا طمرتُ رأسي باللحافِ، وأخذتُ أبكي يصدقٍ وعنفٍ حتّى انطفأتِ النجومِ.


*199*

مفاتيح النصّ:

السردُ الواقعيّ، الموتُ والفقدانُ، الأجواءُ القرويّةُ والشعبيّةُ، الوصفُ، رسمُ الشخصيّاتِ حيّةً وحقيقيّةً، اللغةُ الواقعيّةُ البسيطةُ، توظيفُ العبارات المحلّيّة والعامّيّة، الأجواءُ الدينيّة، السردُ من منظور الطفلِ، مفهومُ الموتِ عند الراوي (المرحلةُ الأولى: الموتُ كشيءٍ مجهولٍ، المرحلةُ الثانية: الموتُ كمسبّبٍ للمتعةِ والحريّةِ، المرحلةُ الثالثة: الموتُ كحقيقةِ للفقدانِ الجسديِّ والمعنويِّ).

مهامّ:

1. عدّدْ صفاتِ الأخِ رفيق كما جاءَ في وصفِ أخيه الراوي له.

2. كيف كانَ طابعُ العلاقةِ بين الراوي وأخيه رفيق في القصّةِ؟ سَجِّلْ أمثلة.

3. قارِن بين ردّ فعلِ الأبِ والأمّ تجاهَ موتِ ابنِهما، معلّلًا ميزاتِ كلِّ منهما.

4. اُذكر بعضَ العاداتِ والتقاليدِ المُستقاةِ من الحياةِ القرويّةِ الشاميّة في القصّةِ.

5. على الرغمِ من مأساوّيّةِ القصّةِ، فإنَّ لها أبعادًا ساخرةً في بعض الصورِ المطويّة في ثنايا السرد الحكَائيّ. أين تبرزُ هذه الأبعادُ الساخرةُ وما الغرضُ منها؟

6. يعتمدُ الكاتبُ الوصفَ الدقيقَ في كثيرٍ من المَشاهِدِ. سَجِّلْ مثاليْن، ثمّ بيّن الغرضَ من هذه التقنيّة.

7. هاتِ ثلاثَ سماتٍ فنّيّة للغةِ في القصّة.

8. يوظّفُ الكاتبُ في القصّةِ عباراتٍ مُستقاةً من الأجواءِ الدينيّةِ. عيّن اثنتيْن منها، ثمّ بيّن الهدف من هذا التوظيفِ.

9. في النصّ يولي الكاتبُ أهمّيّةٌ خاصّةٌ للقرعون. بيّن هذهِ الأهمّيّةَ.

10. تمثّلُ نهايةُ القصّةِ تحوّلًا في نظرةِ الراوي وموقفِهِ تجاهّ موتَ أخيه رفيق. وضّح مبيّنًا موقفَه قبل هذا التحوّل وبعدَه.

11. قيلَ عن توظيفِ الكاتبِ سعيد حورانيّة للشخصيّاتِ: مِن المُلاحَظِ أنَّه في غالبيّةِ قصَصِه لا يقدِّمُ شخصيّاتِ ورقيّةٌ، إنّما يقدِّمُ شخصيّاتٍ حيّةً في أقصى درجاتِها، مُشبَعَةً بالحياةِ، فيها مِن القوَّةِ والحُبِّ والعَملِ والفرحِ، بقدرِ ما فيها من الضَعفِ والكُرهِ والكِفاحِ والحُزنِ. هل ينطبقُ هذا القولُ على قصّتنا؟ اشرح داعمًا رأيَكَ بالأمثلة.

12. كيف تتجلّى وُجْهَةَ نظَرِ الراوي مِنْ منظورٍ طفوليٍّ في غمرةِ مشهدِ الموتِ؟


*200*

الفصل الثاني: الرواية


*200*

الرواية والحداثة وما بعدها

الروايةُ: سردٌ قصصيٌّ نثريٌّ طويلٌ يصورُ شخصيّاتٍ فرديّةٌ مِن خلالِ سلسلةٍ منَ الأحداثِ والوقائعِ والمشاهدِ المستمدّةِ منَ الواقعِ، التاريخِ والخيالِ. تستوعبُ الروايةُ أشكالًا مختلفةً منَ الحبكةِ وأجناسًا أدبيّةً أخرى، وتتضمّنُ الحوارَ، تحتوي على عددٍ من الشخصيّاتِ، لكلٍّ منها اختلاجاتُها وتداخلاتُها وانفعالاتُها الخاصّةُ، وبهذا لا تختلفُ الروايةُ في عناصرِها وحاجتِها إلى حبكةٍ عن القصّةِ القصيرةِ، لكنَّها أكثرُ تركيبًا في شخصيّاتِها وأحداثِها، وأكبرُ حجمًا وتمتدُّ على فترةٍ زمنيّةٍ أطولَ.

تتناولُ الروايةُ مشكلاتِ الحياةِ ومواقفَ الإنسانِ منها في ظل التطوّرِ الحضاريِّ السريعِ الذي شهدَهُ المجتمعُ الإنسانيُّ خلالَ القرنِ العشرينَ، وقد تتناولُ حياةَ الفردِ، كالسيرةِ الذاتيّةِ التي هي نصٌّ سرديٌّ نثريٌّ يقصُّ فيهِ الكاتبُ سيرةَ حياتهِ الفرديّةِ ويتطابقُ فيها الراوي والكاتبُ والشخصيّةُ الرئيسيّةُ.

لقد شهدَ مطلعُ القرنِ العشرينَ محاولاتٍ بسيطةٌ في كتابةِ الروايةِ العربيّةِ عالجتْ موضوعاتٍ تاريخيّةً واجتماعيّةً وعاطفيّةً، بأسلوبٍ تقريريٍّ مباشرٍ. توخّتْ تسليةَ القارئِ وتعليمَهُ ثمّ تبعتْ ذلكَ محاولاتٌ فنيّةٌ جادّةٌ في كتابةِ الروايةِ، منها:

روايةُ (زينب) سنة 1914 لمحمّد حسين هيكل، وروايةُ (دعاء الكروان) لطه حسين، وروايةُ (سارة) لعبّاس محمود العقّاد، وروايةُ (إبراهيم الكاتب) تأليف إبراهيم عبد القادرِ المازنيّ، وغيرُها في العراقِ وسوريّا ولبنانَ، وكانتْ رواياتُ نجيب محفوظ الأكثرَ استقرارًا وتعبيرًا عنْ هذا اللونِ الأدبيِّ، وإنْ مرّتْ بتغيّراتٍ مرحليّةٍ شكلًا ومضمونًا، فهي واقعيّةٌ في أغلبِها.

تمثّلُ الروايةُ النوعَ الأحدثَ بينَ أنواعِ القصّةِ، والأكثرَ تطوّرًا وتغييرًا في الشكلِ والمضمونِ.


*201*

ويعودُ ذلكَ إلى التغيّراتِ الحداثيّةِ وما بعدَ الحداثيّةِ التي جرت وتجري في العالمِ، وتلقي بتأثيراتِها في كلّ مجالاتِ الحياةِ، ومنْ ضمنِها النقدُ والأدبُ.

لقد خرجتِ الروايةُ العربيّةُ عن أعرافِ القصِّ التّقليديِّ، وتوجّهتْ توجّهًا حداثيًّا من خلال أشكالٍ عديدةٍ، اعتمدتِ التجريبَ الفنّيَّ أساسًا لها، سواءٌ كانَ ذلكَ بالعودةِ إلى التراثِ ومحاورةِ الماضي، أو بتداخلِ الألوانِ الأدبيّةِ، أو بالدخولِ إلى العجائبيِّ، أو عوالمِ تيّارِ الوعيِ كالحلمِ والتداعي والمونولوجِ، أو تعدّدِ الأصواتِ ومنها أيضا استخدامُ تقنيّاتِ الكتابةِ الواعيةِ لذاتِها.

يسعى اليومَ عددٌ من الروائيّينَ العربِ، كجمال الغيطاني وإدوار الخرّاط وإلياس خوري ومحمّد برّادة إلى كسرِ العلاقةِ الترابيّةِ مع الواقعِ، وتحطيمِ هذه العلاقةِ، سعيًا إلى كتابةِ روايةٍ ذهنيّةٍ مغايرةٍ، تختلفُ عن الرواياتِ التي تخاطبُ عادة العاطفةَ والناسَ البسطاءَ.

هَمُّ الروايةِ بعد الحداثيّةِ؛ هُوَ اللاتاريخيّةُ واللاواقعيّةُ واللاوجوديّةُ، هناكَ نزعةُ تفكّكٍ غريبةٌ. بالإضافةِ إلى هذا التفكّكِ، هناكَ نزعةٌ لعدمِ الثباتِ وإلغاءِ الهويّةِ ومحوِ الذاتِ وتحطيمِ العلاقةِ مع المرجعيّةِ الواقعيّةِ، وهذا يتطلّبُ ثورةً في المفاهيمِ اللسانيّةِ.

لكنْ ينبغي أن نتنبّهَ لنقطةٍ هامّةٍ في غايةِ هذا التحطيم، بأنّه تحطيمٌ على مستوى الشكلِ، ويُقصدُ بهِ تثبيتُ العلاقةِ معَ الواقعِ وليسَ تحطيمَها كما يبدو الأمرُ من الخارجِ. إنّ الابتكارَ الشّكليَّ في الروايةِ، لا يناقضُ الواقعيّة على الإطلاقِ، بل هو شرطٌ ضروريٌّ للوصولِ إلى واقعيّةٍ أكبرَ. تلعبُ اللغةُ دورًا هامًّا في صياغةِ الروايةِ، من خلالِ شعريّتِها التي تبثُّ الإيحاءَ والتلميحَ والرمزَ.

إنّ فكرةَ الترميزِ تُعتبرُ من صميمِ المنظورِ اللغويِّ بعد الحداثيِّ، فاللغةُ لا تُحيلُ إلى واقعٍ محسوسٍ و متصَوَّرٍ، وإنّما تستنهضُ بالمتخيّل لتبنيَ عالمَها وواقعَها الخاصَّ بها. وهذا يعني أنّ العلاماتِ والألفاظَ حرّةٌ مِن تبعيّتِها المعجميّةِ، وأنّ المعنى المعياريَّ منبوذٌ قصدًا، وأنّ اللغةَ تحيلُ إلى أفقٍ رمزيٍّ أشبهَ بنثارٍ ضبابيٍّ، بحيثُ أنّ بعضَ الكتّابِ أصبحوا يخشونَ على ضياعِ قصديّاتهم، فأخذوا يحرصون على التلميحِ وكتابةِ الملاحظاتِ الشارحةِ في الهوامشِ. هكذا يغدو الرمزيُّ مدخلًا مركزيًّا للضرورةِ التأويليّةِ عبرَ فعلِ التلقّي نفسِهِ، ومن خلالِ المعنى


*202*

المجازيِّ، وما يحتويهِ من تضمينٍ وإيحاءٍ وتصويرٍ بلاغيٍّ.

إنّ كونَ العلامةِ الحرّةِ مفتاحًا لصياغةِ المتخيّل الروائيّ وبناءِ عوالمهِ، يعتبرُ مغامرةٌ لغويّةً تتّخذُ مساراتِها فوقَ هاويةٍ، فتتأرجحُ وتتشبّثُ باللامحدودِ وغيرِ المأنوسِ وغيرِ المتعارفِ عليه. بهذا المعنى تصبحُ اللغةُ نوعًا من الهذيانِ والجنونِ، وتنمحي الحواجزُ والحدودُ بين عوالمِها، تتداخلُ الأجناسُ الأدبيّةُ، ومصطلحاتُ العلومِ المختلفةِ، فنسمّي الروايةَ مقامةً أو رسالةً أو مجرَّد نصوصٍ، ولا نصلُ إلى إطارٍ يجمعُ ويؤلّفُ ويتناغمُ.

مِن خلالِ تجاربِ اللغةِ أو السردِ اللغويِّ غيّرتِ الروايةُ جِلْدَها، وأعلنتِ الحربَ على الروايةِ التقليديّةِ، وأنكرتِ القسمةَ الثنائيّةَ بينَ فكرةِ الجنسِ السرديِّ النثريِّ والحكايةِ الخياليّةِ. كما أُنكرَ الربطُ بينَ الروايةِ والتاريخِ أو ربطُ التاريخِ بالوجودِ.

من هذا المنطلقِ لا قيمةَ للشخصيةِ في العمل الروائيِّ أَحيانًا، فالروايةُ ما بعدَ الحداثيّةِ رفضتِ المذهبَ التقليديَّ الذي يكمنُ في بناءِ الشخصيّةِ ؤ أو بناءِ نماذجَ من المجتمعِ. ذلكَ، لأنّ الحربَ العالميّةَ الثانيةَ لعبتْ دورًا في طمسِ الشكلِ المألوفِ للشخصيّةِ، باعتبارِها كائنا حيًّا حقيقيًّا، وطحنتْ بوجهٍ عامٍّ موضوعيّةَ العالمِ.

فما هُوَ شَكْلُ الشخصيّةِ في رواياتِ ما بَعْدَ الحداثةِ؟

لم تعدْ فكرةُ الشخصيّةِ مكوّنًا أوّلَ للعملِ السرديِّ لدى الروائيّينَ الجددِ، أو بعد الحداثيّينَ. لقد أخذتْ تتوارى حتّى أوشكتْ أن تختفيَ. الشخصيّةُ في الروايةِ الجديدةِ قد لا تكونُ مصنوعةً مِنْ لحمٍ ودمٍ، فهي قد تكونُ ضميرًا أوعينًا ناظرةً، أو هاجسًا أو شعورًا، أو حالةً تتقاذفُها الأهواءُ والميولُ الكتابيّةُ. ولذلك تكثرُ الضمائرُ والأصواتُ الغائرةُ في عتمةِ النصِّ بدلَ الشخصيّاتِ، وهذا يعكسُ فكرةَ التخلّي عن الحياةِ، فالغيابُ هو أزمةُ الحضورِ. كما تختفي أسماءُ الشخصيّاتِ، فيشارُ إليها بحروفٍ أو رموزٍ، أو تتغيّرُ هذهِ الأسماءُ بتغييرِ الزمانِ والمكانِ، إشارةً إلى عدمِ الثباتِ والضياعِ وصعوبةِ التمثيلِ.

الشخصيّةُ في الروايةِ بعد الحداثيّةِ واعيةٌ وجودَها القصّيَّ، ومنطلقةٌ في سلوكِها من القناعةِ بورقيّتِها، وقد تكتشفُ ذلكَ، أو تكشفُ ورقيتَها للقارئِ مع مرورِ الأحداثِ. ولهذا تهدفُ هذهِ الروايةُ في الأساسِ، إلى إعطاءِ إحساسٍ للقارئِ بأن ما يقرؤُهُ ليسَ الواقعَ، وإنّما هو واقعٌ


*203*

وهميٌّ متخيّلٌ ومصنوعٌ من ورقٍ.

ترعرعتِ الروايةُ بعد الحداثيّةِ في ظلِّ الاستهزاءِ بفكرةِ البطولةِ أو العظمةِ ونوديَ دائما على العاديِّ والبسيطِ، والذي نراه أو لا نراه في عرضِ الطريقِ.

في الروايةِ بعد الحداثيّةِ لمْ يعدْ للزمنِ تسلسلُهُ المعهودُ في الروايةِ التقليديّةِ، ولم تعدِ الحبكةُ أساسًا لمنطقِ التتابعِ في الأحداثِ، فقد أصبحتِ الروايةُ في مرحلةٍ تميلُ كلَّ الميلِ إلى تمزيقِ الحبكةِ كما عُرِفتْ في صورتِها التقليديّةِ، والاستغناءِ عنها في كثيرٍ منَ الأطوارِ، والاكتفاء بخيطٍ واهٍ من النسيجِ الروائيِّ، ثمّ الجنوحِ لتدميرِ التركيبِ الزمانيِّ الذي ألِفَهُ قرّاء الرواياتِ، واستبدالهِ بألواحٍ قابلةٍ للتغيّرِ، تتقدّمُ وتتأخّرُ.

أضحتِ الروايةُ بهذهِ الحبكاتِ الواهيةِ أشبهَ بتداعياتٍ، لا يربطُ بينها رابطٌ، يحكمُها منطقُ الحلمِ. وهو نفسُ المنطقِ الذي يحكمُ على المفاهيمِ الزمكانيّة بالانقلابِ.

تفكّكتِ الحبكةُ وانحلَّتِ الشخصيّاتُ وانهارَ الزمنُ وتلاشتْ حدودُ المكانِ وفقدتِ الهويّةُ مكانتَها. وفي موازاة هذا التدميرِ المنهجيِّ للأبنيةِ التقليديّةِ كانتِ الروايةُ الجديدةُ ترسي بناءٌ مختلفًا قوامُهُ اختبارُ الكتابةِ نفسِها، واعتبارِها موضوعًا يصعبُ نَقْضُهُ.

هذا هو حالُ الروايةِ وما يُكتب روائيًّا في هذه المرحلةِ.


*204*

ذاكرة الجسد - أحلام مستغانمي


*204*

أحلام مستغانمي (وُلدت 1953)

أحلام مستغانمي روائيّة جزائريّة وُلدت في تونس. ابتدأت حياتَها الأدبيّة كشاعرة، وكان عملُها في الإذاعةِ عاملًا ساعدَ على شهرتِها. انتقلت إلى فرنسا في السبعينيّاتِ وتزوّجت من الصحافيّ اللبنانيّ جورج الراسيّ، وحصلت على شهادة الدكتوراة من جامعة السوربون عام (1980). تسكن حاليًّا في بيروت.

كان والدُها محمّد الشريف مناضلًا جزائريًّا، ضدّ الاستعمار الفرنسيّ، وقد سُجنَ ولوحقَ، وكانت روايتُها الأولى ذاكرة الجسد تجسيدًا للنضالِ الجزائريّ وتخليدًا للثورةِ الجزائريّةِ، وقد نالت هذهِ الروايةُ جائزة نجيب محفوظ عام (1998)، وعند صدورها دارَ جدلٌ ثقافيٌّ حول صحّة نسبتِها إلى أحلام، التي اتُّهمت بأنّ الرواية ليست من تأليفها، وأنّها من تأليف نزار قبّاني، أو مالك حدّاد، أو سعدي يوسف، أو واسيني الأعرج. ويبدو أنّ هذا الجدلَ ساهمَ في شهرةِ الرواية والكاتبةِ، وجاء بمردودٍ إيجابيّ.

أحلام مستغانمي أوّل روائيّة جزائريّة تكتبُ روايةٌ باللغةِ العربيّة.

صدرَ لها: ثلاثيّة أحلام مستغانمي: ذاكرة الجسد (1993)، فوضى الحواسّ (1997)، عابر سرير (2003)، نسيان دوت كوم (2008)، قلوبهم معنا وقنابلهم علينا (2008). ولها مجموعات شعريّة: على مرفأ الأيّام (1971)، كتابة في لحظة عري (1976).


*205*

ذاكرة الجسد - رواية

أحلام مستغانمي

مفاتيح النص:

تاريخُ الجزائرِ، قصّةُ حبٍّ، المقاومةُ ضدَّ الفرنسيّينَ، المنفى، الحربُ الأهليّةُ، الإسلاميّونَ، القوميّونَ، الأنثى، العشقُ، الرسامُ العاشقُ، الشاعرُ المعشوقُ، الرسمُ في المنفى، الزواجُ من ضابطٍ فاسدٍ، الأنثى كرمزٍ، الوطنُ، المنتفعونَ، الكتابةُ في مرآةِ نفسِها، دورُ المثقّفِ، المحتلُّ كاسمِ مفعولٍ وعلاقتُهُ بالمحتلِّ كاسمِ فاعلٍ. الخيانةُ، التضحيةُ، الحنينُ، اللغة الشعريّة، الرواية الحداثيّة، عتبات النصّ.


*206*

مَهام:

1. ما هيَ العلاقةُ التاريخيّةُ التي تربطُ حياة بخالد بن طوبال؟

2. صفْ علاقةَ الحبِّ من طرفٍ واحدٍ بين حياة وخالد.

3. أحبّت حياة زيادًا وأُعجبتْ بأشعارهِ. ما انعكاسُ ذلكَ على دورِ المناضلِ الجزائريِّ والفلسطينيِّ؟

4. الروايةُ سجلٌّ تاريخيٌّ لعلاقةِ الجزائرِ بفرنسا والحربِ الأهليّةِ الجزائريّةِ. وضّحْ ذلكَ.

5. تمثّلُ حياة الجزائرَ كوطنٍ. حلّلْ رمزيّةَ زواجِها بضابطٍ كبيرٍ متقاعدٍ وفاسدٍ.

6. ماذا تمثّلُ رسوماتُ خالد بن طوبال سياسيًّا وعاطفيًّا؟

7. صفْ علاقةَ خالد بن طوبال الرومانسيّة بكاترين كفتاة تحملُ جنسيّةَ المستعمرِ الفرنسيِّ.

8. تُكثرُ مستغانمي من الحديثِ عن الكتابةِ والروايةِ وعلاقتِها بأبطالِها. ما الهدفُ من هذهِ الكتابةِ الواعيةِ لذاتِها؟

9. ما هي أهميّةُ ما كتبهُ نزار قبّاني على صفحةِ الغلافِ الأخيرِ بالنسبةِ لتسويقِ الروايةِ؟

10. تحدّثْ عن عائلةِ حياة وانقسامِها بين تيّاراتٍ فكريّةٍ متضاربةٍ.

11. تحدّثْ عن موقفِ حياة من الرئيسِ الجزائريِّ والحربِ الأهليّةِ.

12. تكثرُ استخداماتُ اللغةِ الشعريّةِ في الروايةِ. ما الهدفُ من ذلكَ؟

13. لاقتِ الرّوايةُ رواجًا عربيًا كبيرًا. ما هيَ أسبابُ رواجِ هذهِ الروايةِ في نظرِكَ؟

14. ما العلاقةُ بينَ عنوانِ الروايةِ (ذاكرةُ الجسدِ) ومضمونِ الروايةِ وشخصيّاتِها؟

15. ما هيَ مظاهرُ الحداثةِ في الروايةِ والتي تميّزُها عن الروايةِ التقليديّةِ؟


*207*

الطريق - نجيب محفوظ


*207*

نجيب محفوظ (1911-2006)

نجيب محفوظ روائيّ مصريّ، من أعلامِ الروايةِ العربيّةِ، حائزٌ على جائزةِ نوبل للآدابِ عام (1988). وُلدَ في القاهرةِ، ودرسَ الفلسفةَ والأدب في جامعتها، عملَ في مناصبَ حكوميّةٍ مختلفةٍ، كانَ آخرُها رئيسًا لمجلسِ إدارةِ المؤسّسةِ العامّةِ للسينما، تقاعدَ بعدها وأصبحَ أحدَ مؤسّسةِ الأهرامِ.

كتبَ القصّةَ القصيرةَ والروايةَ، وفيهما تظهرُ مواضيعُ واقعيّةٌ ووجوديّةٌ فكريّةٌ ودينيّةٌ وسياسيّةٌ، وفي مراحلَ أخرى من كتابتِهِ ظهرتِ الرمزيّةُ وروايةُ التجريبِ، مستخدمًا الفانتازيا وتوظيفَ التراثِ العربيّ الشعبيّ والصوفيّ، والحضارةِ الفرعونيّةِ وروايةَ الأصوات.

نوّعَ محفوظ كثيرًا في أساليبِهِ الروائيّة، وغاصَ في أعماقِ النفسِ، ولاقت رواياتُهُ، خاصّة الثلاثيّةَ، رواجًا كبيرًا، وتمّ تحويلُ قسمٍ كبيرٍ منها إلى مسلسلاتٍ تلفزيونيّةٍ وأفلامٍ سينمائيّة.

تعرّضَ محفوظ لمحاولة اغتيالٍ بسببِ روايتِهِ (أولاد حارتنا) التي أثارت حفيظةَ رجالِ الدين عام (1995).

صدرَ له (من الروايات): خان الخليلي (1946)، زقاق المدقّ (1947)، بداية ونهاية (1949)، ثلاثيّة نجيب محفوظ: بين القصرين، قصر الشوق، السكّريّة (1956-1957)، اللصّ والكلاب (1961)، الطريق (1964)، ميرامار(1967)، أولاد حارتنا (1967)، ملحمة الحرافيش (1977)، ليالي ألف ليلة (1982)، وغيرها.

ومن المجموعات القصصيّة: همس الجنون (1938)، دنيا الله (1962)، بيت سيّء السمعة (1965)، حكاية بلا بداية وبلا نهاية (1971)، أحلام فترة النقاهة (2004)، وغيرها.


*208*

الطريق - رواية

نجيب محفوظ

مفاتيحُ النصّ:

الجريمةُ والعقابُ، السجنُ، الدعارةُ، نمطُ التربيةِ، البطالةُ، مستوى المعيشةِ، الفقرُ، الكسبُ، الحرامُ، العالمُ السفليُّ، الانحلالُ الخلقيُّ، السلطةُ، الفسادُ الاجتماعيُّ، الأبوّةُ الضائعةُ، الحبُّ المزيّفُ، الخيانةُ الزوجيّةُ، اللهوُ والترفُ، الإيمانُ المفقودُ، الرمزُ، الصراعُ الطبقيُّ، عقدةُ أوديبَ، المونولوجُ، الحُلمُ، الاسترجاعُ.

مهام:

1. ما هيَ علاقةُ عنوانِ الروايةِ (الطريق) بمضمونِها؟

2. هل تعتقدُ أنّ صابر كان ضحيّةً للظروفِ؟ علّلْ موقفكَ.

3. ماذا يمثّلُ البحثُ عنِ الأبوّةِ الضائعةِ في الروايةِ؟

4. كيف تجلّى الصراعُ النفسيُّ عندَ صابر، بين طريقِ الجريمةِ وطريقِ البحثِ عن والدِهِ؟

5. ماذا تمثّلُ (إلهام) بالنسبةِ لصابر كطريقٍ أو أفقٍ للحياةِ؟

6. هل تُعتبرُ (كريمة) تعويضًا لصابر عن عقدةِ (أوديب) تجاهَ والدتهِ المفقودةِ بعد أن ماتت؟ علّلْ.

7. ماذا تعني (الطريق) بالنسبةِ لكريمة، وكيف حقّقت حلمَها؟

8. هل كانت كريمة ضحيّةَ الصراعِ الطبقيّ أم فارقِ العمرِ؟ علّل.

9. هل كان صابر مسيّرًا أم مخيّرا في قراراتهِ؟ وضّحْ ذلك.

10. هل الإيمانُ المفقودُ هو السببُ في الجرائم التي حدثت في الروايةِ؟ وضّحْ ذلكَ.

11. هل يعتبرُ صاحبُ الفندقِ عمّ خليل رمزًا للسلطة؟ علّلْ.

12. انتهت الروايةُ بنهايةٍ مفتوحةٍ. ماذا تتوقّعُ أن يحدثَ؟

13. سَجِّلْ نموذجينِ للمونولوج عند صابر ووظيفتِهِ.

14. ما هي وظيفةُ الحلمِ في الروايةِ؟

15. اِشرح دورَ الاسترجاعِ الفنّيِّ في تشويقِ حبكةِ الروايةِ.


*209*

نهاية رجل شجاع - حنّا مينة


*209*

حنّا مينة (وُلد 1924)

حنّا مينة روائيّ سوريٌّ معاصر. وُلدَ في اللاذقيّةِ، وعملَ فيها مهنًا شعبيّةً مختلفةً: حلّاقًا، حمّالًا، وبحّارًا. عملَ أيضًا كاتبَ مسلسلاتٍ في الإذاعةِ وموظّفًا حكوميًا. ساهمَ في تأسيسِ رابطةِ الكُتّابِ السوريّينَ واتّحادِ الكُتاب العربِ.

كتبَ عددًا كبيرًا من القصص والرواياتِ. امتازت رواياتُهُ بالواقعيّةِ، وبموتيف البحرِ الذي يتكرّرُ كثيرًا فيها، وقد تحوّلَ قسمٌ منها إلى أفلامِ سينمائيّةٍ ومسلسلاتٍ تلفزيونيّةٍ، أشهرها (نهاية رجل شجاع).

صدرَ له (من الروايات): المصابيح الزرق (1954) الشراع والعاصفة (1977)، الثلج يأتي من النافذة (1977)، الياطر (1981)، بقايا صور (1984)، مأساة ديمتريو (1985)، حكاية بحّار (1986)، نهاية رجل شجاع (1989)، النجوم تحاكم القمر (1993)، القمر في المحاق (1994)، وغيرها.

ولهُ في الفكر والنقد: ناظم حكمت السجن، المرأة، الحياة (1979)، هواجس في التجربة الروائيّة (1983)، وناظم حكمت ثائرًا (1988).


*210*

نهاية رجل شجاع - رواية

حنّا مينة

مفاتيح النص:

الجريمةُ والمجتمعُ، دورُ المثقّفِ، التربيةُ البيتيّةُ والمدرسيّةُ، غيابُ النظامِ السياسيِّ، المقاومةُ، الحراكُ الفرديُّ، الحراكُ الجماعيُّ، النقاباتُ والعمّالُ، حقوقُ الأقلّيّةِ، الكادحونَ ولقمةُ العيشِ، الفسادُ والفقرُ، المجتمعُ الذكوريُّ، الدعارةُ، حياةُ السجونِ، العقابُ، الانتقامُ، المرضُ، الانتحارُ، الدسائسُ والمؤامراتُ، ترميزُ الأسماءِ، دلالةُ المكانِ، الروايةُ التاريخيّةُ، مفهومُ البطولةِ، الأدبُ الواقعيّ، موتيفُ البحرِ، تلازمُ المرأةِ والبحرِ في أدبِ حنّا مينة.


*211*

مهام:

1. ما هوَ التأثيرُ السلبيُّ للمدرسةِ والبيتِ على صقلِ شخصيّةِ مفيد؟

2. تركَ مفيد البيتَ والقريةَ وانخرطَ في حياةِ المدينةِ مبكرًا. هل كان محقًا في ذلكَ؟ وضّحْ.

3. تلعبُ أسماءُ الشخصيّاتِ لعبةٌ دلاليّةٌ في الروايةِ (مفيد الوحش، لبيبة، الخربوط، الزقلوط، عبد الجليل، ماهر). وضّحْ ذلك.

4. يعتبرُ الميناءُ تجسيدًا للعالمِ السفليِّ والجريمةِ كيفَ ينعكسُ ذلكَ في الروايةِ؟

5. ماذا كانَ طموحُ مفيد الوحش في الميناءِ؟ وهل تحقّقَ ذلك؟

6. قارنْ بينَ الحراكِ الفرديِّ لمفيد والحراكِ الجماعيِّ لبرهوم وقضيّةِ النقابةِ.

7. تسلّطُ الروايةُ الضوءَ على المجتمعِ الذكوريِّ، بينما يقتصرُ الدورُ الأنثويُّ على مجالاتٍ محدّدةٍ. وضّحْ ذلكَ.

8. حلّلْ شخصيّةَ العجوز (حاكمِ الميناءِ) موضّحًا صفاتِها وطرقَ تعاملِها معَ الآخرينَ.

9. ماذا قدّمتْ لبيبة لمفيد في الروايةِ؟ وهل تعتقدُ أنّ ظهورَها كان متأخّرًا في حياةِ مفيد؟

10. قدّمَ السجنُ لمفيد ما لم يقدّمهُ البيتُ والمدرسةُ. ما موقفُكَ من ذلكَ؟

11. ما هي أهميّةُ روايةِ الأحداثِ بضميرِ المتكلّمِ وكثرةِ المونولوجِ على لسانِ مفيد؟

12. يظهرُ البحرُ بصورةٍ إيجابيّةٍ مقابلَ الميناءِ في الروايةِ. ما المقصودُ بذلكَ؟

13. ما هي رسالةُ الروايةِ بالنسبةِ لدور النظامِ السياسيِّ؟

14. هل يمكنُ اعتبارُ الروايةِ تجسيدًا للتيارِ الواقعيّ؟ وضّحْ ذلكَ.

15. ما هي ملاحظاتُكَ بالنسبةِ للغةِ السّردِ ولغةِ الحوارِ في الروايةِ والعلاقةِ معَ المحكيّةِ المحلّيّةِ؟

16. ما هيَ الأهمّيّةُ التاريخيّةُ والوطنيّةُ للروايةِ؟

17. هل يمكنُ اعتبارُ مفيد بطلًا أم بطلًا مهزومًا أم بطلًا جزئيًّا؟ علّلْ رأيَكَ.


*212*

ظلّ الغيمة - سيرة الذاتيّة - حنّا أبو حنّا


*212*

حنّا أبو حنّا (وُلدَ 1928)

حنّا أبو حنّا أديبٌ وشاعرٌ محلّيّ. وُلدَ في الرينة، وتنقّلَ في طفولتِهِ كثيرًا بسببِ عملِ والدِهِ في المساحةِ. يسكن في حيفا.

عملَ مديرًا للكلّيّةِ العربيّة الأرثوذكسيّةِ في حيفا، ومحاضرًا في كلِّ من جامعةِ حيفا والكلّيّةِ العربيّةِ للتربيّةِ.

حازَ على وسامِ القدس من منظّمة التحريرِ الفلسطينيّةِ عامَ (1991) وعلى جائزةِ الإبداعِ من وزارةِ العلوم والفنون عامَ (1995)، وعلى جائزةِ فلسطينِ للسيرة الذاتيّة عامَ (1999) حول سيرتِهِ ظلّ الغيمة.

صدر لهُ (شعرًا): نداء الجراح (1969)، قصائد من حديقة الصبر (1988)، تجرّعتُ سُمّك حتّى المناعة (1990)، عرّاف الكرمل (2005).

وفي السيرة الذاتيّة: ظلّ الغيمة (1997)، خميرة الرماد (2004)، مهر البومة (2004).

وله دراسات مختلفة في الأدب.


*213*

ظلّ الغيمة - سيرة ذاتيّة

حنّا أبو حنّا

مفاتيح النصّ:

اَلطفولةُ، ذكرياتٌ مدرسيّةٌ، عاداتٌ وتقاليدُ، الجنُّ والعفاريتُ، معتقداتٌ شعبيّةٌ، التداوي بالأعشابِ والفصد، فتحُ المندلِ، مشاهدُ جنسيّةٌ، الزواجُ، أثرُ الدينِ الإسلاميّ في الثقافةِ، تجاوزُ المكانِ بالخيالِ، التنقّل بين البلدانِ، ثورة عام 36 وتداعياتها، الانتدابُ الإنكليزيُّ وممارساتُهُ، التربيةُ القاسيةُ، الحكاياتُ الشعبيّةُ، الفكاهةُ، شقاوةُ الصغارِ ومقالبُهُم، وقتُ الفراغِ، مصادرُ الثقافةِ والعلمِ، دَوْرُ المعلّمِ المربيّ، صورةُ النساء في المجتمعِ، فقدُ الإِخوةِ والمأساةُ الشخصيّةُ، التجربةُ العاطفيّةُ والحبُّ الأوّلُ، السيرةُ الذاتيّةُ، التأريخُ، الراوي، التطابقُ بين الراوي والكاتب، تدخّل الكاتب، الشخصيّةُ المركزيّةُ، الاسترجاعُ، التناصّ، تداخل الألوان الأدبيّة.


*214*

مهامّ:

1. كيفَ تنعكسُ العاداتُ والتقاليدُ الفلسطينيّةُ قبل قيامِ الدولةِ في السيرِة؟

2. ما هوَ تأثيرُ المعتقداتِ الشعبيّةِ في حياةِ الناسِ وفي فكر يحيى؟

3. ما هوَ دورُ الدين الإسلاميّ في التأثيرِ على ثقافةِ يحيى؟

4. كيفَ تنعكسُ صورةُ المدارسِ والمعلّمين في ذاكرةِ يحيى؟

5. تعتبرُ السيرةُ مرجعًا تاريخيًّا لثورة 36 ضدِّ الانتدابِ، البريطانيِ. وضّحْ ذلكَ.

6. وضّحْ تأثيرَ السفرِ والتنقّلِ عبرَ الأمكنةِ في صقلِ شخصيّةِ يحيى وتأقلمِهِ.

7. ما رأيُكَ بطرقِ التربيةِ التي تعرضُها السيرةُ؟ هلْ ما زالتْ هذهِ الطرقُ قائمةً في أيّامنا؟

8. صفْ بعضَ مشاهدِ الشقاوةِ ومغامراتِ الصغارِ كما تتجلّى في السيرةِ.

9. كيفَ تنعكسُ صورةُ النساءِ في السيرةِ؟ وماذا كانت أدوارهنّ؟

10. ما هي مصادرُ ثقافةِ يحيى المتعدّدةُ؟

11. كان لفقدِ الإخوةِ والمأساةِ الشخصيّة تأثيرٌ نفسيٌّ وعاطفيٌّ على يحيى. وضّحْ ذلكَ.

12. صفْ تجربةَ يحيى الرومانسيّة وتأثيرها في مشاعرِهِ.

13. استعارَ حنّا أبو حنّا شخصيّة يحيى لتنوبَ عنه في السيرة. ما سببُ ذلك؟ وما علاقته مع الآية (يا يحيى خذ الكتابَ بقوّةٍ)؟

14. ما الهدفُ من توظيفِ الكاتبِ للأمثالِ والحكاياتِ الشعبيّةِ في السيرةِ؟

15. ما الغايةُ من تضمينِ السيرةِ عددًا من الأبياتِ الشعريّة الفصيحةِ والشعبيّة؟

16. يتدخّلُ الكاتبُ في السيرةِ من خلالِ أساليبَ متعدّدةٍ. وضّح ذلكَ من خلالِ أمثلةٍ مناسبةٍ.

17. تُعتبرُ السيرةُ جريئةً في طرحها للمشاهدِ الجنسيّةِ. هل توافقُ على ذلك؟ علّلْ.


*215*

الفصل الثالث: المسرحيّة


*215*

تعريف المسرحيّة

المسرحيّة إنشاءٌ أدبيٌّ في شكلٍ دراميٍّ، أو قصّةٍ تمثيليّةٍ تعرضُ فكرةً أو موضوعًا أو موقفًا من خلال حوارٍ يدورُ بين شخصيّاتٍ مختلفةٍ، وعن طريقِ الصراعِ بينَ هذهِ الشخصيّاتِ يتطوَّر الموقفُ حتّى يبلغَ قمَّةَ التعقيد، ثمّ يستمرّ هذا التطوّر لينتهِي بانفراجِ ذلك التعقيدِ، ويصلَ إلى الحلّ المسرحيِّ المطلوب. وقد تتألّفُ المسرحيّةُ من فصلٍ واحدٍ أو ثلاثةٍ أو خمسةٍ. ويغلبُ تقسيمُ المسرحيّات إلى ثلاثةِ فصولٍ. ويتكوّن الهيكلُ العامُّ للمسرحيّة من ثلاثةِ أجزاءٍ هي:

1. العرضُ: ويأتي في الفصل الأوّلِ، وفيه يتمُّ التّعريف بموضوعِ المسرحيّةِ والشخصيّاتِ المُهمّةِ فيها.

2. التعقيدُ: ويُقصد به الطريقةُ الّتي يتمُّ بها تأزّم الصراع بين الشخصيّات ووصوله الذروة.

3. الحلّ: الّذي تنتهي به المسرحيّةُ ويكشِفُ عن عقدتِها.

والمسرحيّة بطَبيعتِها قابلة للعرضِ على خشبةِ المسرحِ، بواسطة ممثّلين يؤدّون أدوار الشخصيّاتِ أمامَ جمهورِ في مسرحٍ، عن طريقِ الحوارِ، حسبما جاءَ في نصّ المؤلِّفِ. ويتولّى هذه العمليّة مخرجٌ فنّيّ وطاقمٌ من العملِ يتولّى أمور الإخراجِ المسرحيِّ مثل الديكور، والمناظرِ، والإضاءة، واللباسِ والأزياءِ، والموسيقى المصاحِبةِ.

ومن شروطِ جودةِ المسرحيّةِ:

1. أن يكونَ مضمونُ المسرحيّةِ ناضجًا يحقّقُ المتعةَ والفائدةَ معًا.

2. ألّا تُقدَّمَ الفكرةُ مباشرةً، بل يجب أن تُقدَّمَ في إطارِ حكايةِ المسرحيَّةِ المتسَلسِلة.


*216*

عناصر بناء المسرحيّة:

الفكرة أو الموضوع:

تعتمد كلُّ مسرحيّة على فكرةٍ أو موضوعٍ يُحاول الكاتبُ أن يبرهنَ عليهما بالأحداثِ والأشخاصِ، وقد تكونُ الفكرةُ في جوهرِها اجتماعيَّةً: كفكرة مسرحيّة الستُ هدى لأحمد شوقي، أو سياسيّةً: كفكرة مسرحيّة مغامرة رأس المملوك جابر (لسعد الله ونَوس)، أو أخلاقيّةً: كفكرة مسرحيّة حفلة شاي (لمحمود تيمور)، وغيرَها من القضايا الأخرى.

الحكايةُ أو الأحداث:

الحكايةُ جسدُ المسرحيّةِ، وعن طريقِها تنمو وتتقدَّمُ، بحيث تتركَّزُ القصّةُ والأحداثُ على قضيٍّة يدورُ حولَها الصِراعُ، كفكرة البطولة، ويتمُّ توزيعُ الأحداثِ بين الشَخصيّاتِ بدقَّةٍ وترتيبٍ وتدرُّجٍ، بحيثُ يترتَّبُ اللاحقُ على السابقِ مما يجعلُ التسلسُلَ بين الأحداثِ منطقيًّا.

الشخصيّاتُ:

هي النماذجُ البشريّةُ الّتي اختارَها الكاتبُ لتنفيذِ أحداثِ المسرحيَّةِ، وعلى ألسنتِها يدورُ الحِوارُ الّذي يكشفُ عن طبيعتِها واتّجاهاتِها. والشخصيّات أنواٌع من حيث الدورُ والتأثيرُ: الشخصيّةُ المحوريّةُ (المركزيّة)، الشخصيّةُ الثانويّةُ (مساعِدة): وينحصرُ دورُها في معاونةِ الشخصيّاتِ المحوريّةِ. أمّا من حيث التطوُّرُ والتّكوينُ فهنالك نوعان من الشخصيّات: الشخصيَّةُ الثابتةُ (المسطّحة)، وهي الّتي لا تتغيَّرُ صورتُها خلالَ فصولِ المسرحيّةِ، والشخصيّةُ الناميةُ (المتطوّرة أو المُدوّرة)، وهي الّتي تتكشّفُ جوانبُها تدريجيًّا مع الأحداثِ، ولكلِّ شخصيَّةٍ جوانبُها الشكليّةُ، كالطولِ والقِصَرِ، والاجتماعيَّةُ، كالغِنى والفقرِ والنفسيَّةُ، كالحُبِّ والبُغضِ. وتظهرُ براعةُ الكاتبِ في رسمِ كلِّ هذه الجوانبِ من خلالِ الأحداثِ وتطوُّرِ الحوارِ وتدفُّقِهِ.

الصِراع:

المقصود بالصراعِ المسرحيّ الاختلافُ الناشئُ من تناقضِ الآراءِ ووجهاتِ النظرِ، بالنسبةِ لقضيّةٍ أو فكرةٍ ما بين شخصيّاتِ المسرحيّةِ، ولذلك يقولُ النقّادُ: (لا مسرحَ بلا صراعٍ) فلو اكتفى الكاتبُ بتقديمِ شخصيّاتِهِ دونَ أن يضعَها في مواقفَ تُظهرُ ما بينَها من صراعٍ فإنّه لا


*217*

يكونُ قد كتبَ مسرحيّةً حقيقيّةً، إنّما قيمةُ المسرحيّةِ في اجتماعِ شخصيّاتِها إزاءَ قضيّةٍ أو فكرةٍ تتصارعُ في ما بينَها حولَها فتتّفقُ أو تختلفُ لتنتهي غَلَبَةُ وجهة نظرِ هذه الشَخصيّةِ أو تلك. وقد يكونُ قد هذا الصِراعُ اجتماعيًّا أو خلقيًّا أو ذهنيًّا، كما قد يكون خارجيًّا يجري بين الشخصيّةِ وقُوّى خارجيّةٍ.

أنماط الصِراع:

- الصراع الخارجيّ: ويجري بين البطل وقوّى خارجة عن ذاتِه، قد تكون غيبيّةً، كالقدَرِ أو قوانينِ الطبيعة.

- الصِراع الداخليّ: ويجري بين البطل ونفسِهِ، كالصراعِ بين الحبِّ والواجب، أو الخير والشرّ، وغيره.

الحوار:

الحوار المسرحيّ هو: اللغةُ الّتي تتوزّعُ على ألسنةِ الشخصيّاتِ في المواقفِ المختلفةِ. وتختَلِف حوار الشخصيّات طولًا وقِصَرًا باختلافِ المواقفِ، كما يتفاوتُ في فصاحتِه تَبَعًا لمستوى الشخصيّةِ، وطبيعةِ الفكرةِ الّتي تعبِّرُ عنها.

ومن شروط جودةِ الحوارِ: مُناسبتُه لمستوى الشخصيّةِ، قدرة الحوار على إيصال الفكرة الّتي يعبّر عنها، تدفُّقُ الحوار وحرارته، فصاحةُ الحوار النابعة من دقّةِ تمثيلِه للصِراعِ وطبائِعِ الأشخاصِ والأفكارِ، لا من فصاحتِه اللُغويّة.

الزمانُ والمكان:

يشكّل الزمانُ والمكانُ في المسرحيّةِ كما في غيرِها من الفنونِ القصصيَّةِ الإطارَ الّذي تجري فيه الأحداثُ. ويُحدَّدُ هذا الإطارُ في بداية كلِّ فصلٍ إذا كانت الأحداثُ تجري في أكثر من إطارٍ زمكانيّ.

الحركة:

لا تأخذُ المسرحيّةُ وضعَها الحقيقيَّ إلّا حينَ تُمثَّلُ على خشبة المسرحِ، حيث يشاهدُ المتفرّجُ الحركةَ بعينِه ويحسُّ بالعواطفِ الّتي توجِّهُها حتّى يصبحَ كأحد الممثّلين.


*218*

الفصول:

تنبني المسرحيّةُ على نظامِ الفصولِ، حيث تتراوحُ أعدادُها بين ثلاثةِ فصولٍ وخمسةٍ، يتحدَّدُ الفصلُ بنهايةِ مرحلةٍ محدّدةٍ في المسرحيّةٍ، ويُرمزُ إلى بدايته على أرض المسرح برفع الستار.

أشكال المسرحيّة:

المأساة: تروي قصّة بطلٍ مأساويٍّ، في شخصيّتِه عيبٌ أو ضعفٌ رغم صفاتِه الحميدةِ، وتحُلُّ به مُصيبةٌ أو كارثةٌ، وعادةً ما يكونُ مصيرُه الموت.

المسرحية الجادّة: تشاركُ المسرحيّةُ الجادّةُ المأساةَ جِدِّيَّتَها وتركيزَها على الأحداثِ التعيسةِ، لكنّ أبطالَها أقربُ إلى الناسِ العاديّين، وقد تنتهي بنهايةٍ سعيدة.

الميلودراما: تصوّر الميلودراما شخصيّةً شريرةً، تهدد شخصيّات خيّرة، يتعاطف معها الجمهور، وهي مسرحيّة تميل إلى المبالغة في الأحداث والإشارات الموسيقيّة، كما يبالغ الممثّلون في التعيير عن العواطف والانفعالات والحَركات التمثيليّة بهدف التأثير في الجُمهور. وغالبًا ما يكونُ الموضوعُ المتَناولُ صراعًا بين الخير والشرِّ بطريقةٍ واضحةٍ، وغالبًا ما ينتصرُ الخيرُ على الشرّ في نهاية المسرحيّة.

الملهاة أو الكوميديا: مسرحيّة تتّسم بروح الفُكاهةِ وتحاولُ إضحاكَ القارئِ أو المتفرّجِ، وعادةً ما تنتهي بنهايةٍ سعيدةٍ. وقد تطرحُ الملهاةُ بين هذه المواقفِ المضحكةِ موضوعاتٍ في غايةِ الجِدّيّة. وأحيانًا تُعتبرُ المسرحيّةُ الهزليّةُ شكلًا مسرحيًّا مستقلًا، لكنّها في الواقعِ نمطٌ من أنماطِ الملهاةِ، يعتمدُ على المواقفِ السَخيفةِ والحركاتِ التهريجيّة.

وتتشابهُ المسرحيّةُ مع غيرِها من الأنواعِ الأدبيّة، كالروايةِ والقصّةِ، ومع ذلك يظلُّ لكلِّ نوعٍ خصائصُه المميّزة؛ فالروايةُ طويلةٌ متعدّدةُ الشخصيّات، متشابكةُ الأحداثِ، مُتنوّعةُ الأهدافِ، والأفكارُ فيها وصفٌ وسردٌ وتفصيل. والقصّةُ القصيرةُ محدودةُ المِساحِة والشخصيّاتِ والأحداثِ والهدفِ، تثيرُ لدى القارئِ شعورًا واحدًا، وهي مكثّفةٌ تتميّزُ بالوحدة العضويّة. أمّا المسرحيّةُ فتعتمدُ على الحوارِ الّذي يقومُ بتصويرِ الأحداثِ، وتنميةِ الصِراعِ، وتحريكِ المشاعرِ لوصولِ إلى النهاية.


*219*

توفيق الحكيم (1898-1987)

كاتبٌ وأديبٌ مصريّ، من روّاد الرواية والكتابة المسرحيّة العربيّة، ومن الأسماءِ البارزةِ في تاريخ الأدبِ العربيّ الحديث. وُلد في الإسكندريّة، والتحقَ بمدرسةِ دمنهور الابتدائيّة حتّى انتهى من تعلميِه الابتدائيّ سنة 1915، ثمّ ألحقه أبوه بمدرسةٍ حكوميّةٍ في محافظة البحيرة، حيث أنهى الدراسةَ الثانويّةَ، ثمّ انتقلَ إلى القاهرة مع أعمامِه لمواصلةِ الدراسةِ الثانويّةِ في مدرسة محمّد علي الثانويّة.

أرسلَه والدُه إلى فرنسا ليبتعدَ عن المسرحِ ويتفرّغَ لدراسة القانون، ولكنّه خلالَ إقامتِه في باريس لمدّة 3 سنوات اطّلع على فنون المسرح الّذي كان شُغلَهُ الشاغلَ، فانصرفَ عن دراسةِ القانونِ، واتّجه إلى الأدب المسرحيّ والقصص، فدرسَ المسرحَ اليونانيَّ القديمَ والأساطيرَ والملاحمَ اليونانيّةَ العظيمةَ، كما تردّدَ على المسارح الفرنسيّةِ ودور الأوبرا. عاد إلى القاهرة عام 1927 وتنقّل في عدّة وظائف مهنيّة.

كانت مسرحيتُهُ المشهورةُ أهلُ الكهف في عام 1933 حدثًا هامًّا في الدراما العربيّة. فقد كانت تلك المسرحيّةُ بدايةً لنشوءِ تيّارٍ مسرحيٍّ عُرف بالمسرح الذهنيِّ.

كان الحكيمُ أوّلَ مؤلِّف استلهمَ في أعمالِه المسرحيّةِ موضوعاتٍ مستمَدَّةً من التراث المصريِّ. وقد استلهمَ هذا التُراثَ عبرَ عصورِه المختلفةِ، سواءٌ كانت فرعونيّةً أو رومانيّةً أو قبطيّةً أو إسلاميّةً. وبالرغمِ من الإنتاجِ الغزيرِ للحكيم فإنَّهُ لم يكتبْ إلّا عددًا قليلًا من المسرحيّاتِ الّتي يمكن تمثيلُها على خشبة المسرح، فمعظمُ مسرحيّاته من النوعِ الّذي كُتبَ ليُقرأ فيكتشفُ القارئُ من خلالِه عالمًا من الدلالات والرموزِ الّتي يمكنُ إسقاطُها على الواقِعِ بسهولةٍ، لتسهِم في تقديمِ رؤيةٍ نقديّةٍ للحياةِ والمجتمعِ تتّسمُ بقدرٍ كبيرٍ من العمقِ والوعي. يُروى عنه أنّه عندما قرأ أنّ بعض لاعبي كرة القدم دونَ العشرين يقبضون ملايين الجنيهاتِ قال عبارتَه المشهورةَ: انتهى عصرُ القلمِ وبدأ عصرُ القدمِ! لقد أخذَ هذا اللاعبُ في سنةٍ واحدةٍ ما لم يأخذْه كلُّ أدباءِ مصر من أيّام اخناتون.

نالَ جائزةَ الدولة في الأدبِ (1951)، وجائزةَ الدولة التقديريّة الّتي قدّمها له الرئيس جمال عبد الناصر (1960) وفي عهد الرئيس محمّد أنور السادات حصلَ على قلادةِ ووشاحِ النيل (1975).

يُعتبرُ مؤسِّسَ المسرحيّةِ النثريّةِ بجدارة، وصاحبَ أكبر تنوّعٍ في إنتاجه الأدبيّ، حيث لم يترك لونًا من ألوانِ الأدبِ إلّا أبدع فيه. فقد كتب المسرحيّةَ الطويلةَ والقصيدةَ والروايةَ والقصّة القصيرة والمقالة والخَواطر هذا إلى جانبِ أفكارِه الفلسفيّة الّتي تناولَها في أكثر من كتاب.

من أعماله الأخرى: يوميّاتُ نائبٍ في الأرياف - (رواية، 1937)، بجماليون (مسرحيّة، 1942)، الأيدي الناعمة (مسرحيّة حُوّلت إلى فيلم، 1933)، عصفورٌ من الشرقِ (رواية، 1938).


*220*

مسرحيّة الطعام لكلّ فم - توفيق الحكيم


*220*

توفيق الحكيم والمسرح الذهنيّ:

تُعرّفُ معاجمُ المصطلحات الدراميّة المسرحيّة الذهنيّة أو دراما الأفكار، بأنّها المسرحيّة الّتي تُعنى في المحلّ الأوّلِ بمناقشةِ الأفكارِ الّتي غالبًا ما تتّصلُ بالأوضاعِ الاجتماعيّةِ والسياسيّةِ. ومسرحيّات الحكيم الذِهنيّة، هي تلك المجموعة من المسرحيّاتِ الّتي استوحى موضوعاتِها من الأساطيرِ الدينيّة واليونانيّةِ القديمة، واتّخذَ من شُخوصِها رموزًا لقضايا إنسانيّة فكريّة كانت تُشغلُ بالَه وتَملِكُ عقلَهُ وتفكيرَه.

تقومُ الدراما الذهنيّة عند الحكيم على أساسٍ فكريٍّ لا يهتمُّ بالواقعِ وإن اقترب منه، ويخضَعُ الحكيم في مسرحيّاته الذهنيّة للفكرة الّتي يعرضُها، فيقيمُ بناءَ المسرحيّةِ ويرسُمُ شخصيّاتِها ويُجري أحداثَها ويديرُ حوارَها بما يوضِّحُ فكرتَه في أغلبِ الأحوالِ، كما يظهر لديه انحيازٌ ظاهرٌ إلى طرفٍ من طرفَيِ الصراع.

سُمّي تيّارُه المسرحيّ بالمسرح الذهنيّ لصعوبة تجسيدِه في أعمالٍ مسرحيّة، وكان الحكيمُ يدرك ذلك جيّدًا حيث قال في أحد اللقاءات الصحفيّة: إنّي أُقيمُ اليومَ مسرحًا داخل الذِهن وأجعلُ الممثّلين أفكارًا تتحرّكُ في المُطلَق من المعاني مرتديةً أثواب الرموز. لهذا اتّسعت الهُوّةُ بيني وبين خشبة المسرح ولم أجد قنطرةً تنقلُ مثلَ هذه الأعمالِ إلى الناس غيرَ المطبعة.

ويبرز توفيق الحكيم اتّجاهه إلى هذا اللون من المسرحيّات بأنّه أراد أن يعملَ على إدخال المسرحيّة كقالَبٍ أدبيٍّ معترفٍ به في الأدبِ العربيِّ، ولا بدّ له في ذلك من إدخالِ التفكيرِ الفلسفيِّ كأساسٍ من أسسِ المسرحّية.


*221*

مفاتيح النصّ:

خصائصُ المسرحِ الذهنيِّ، مميزاتُ اللغةِ، البيئةُ المصريّةُ، مشاكلُ المجتمعِ المصريِّ، مزجُ الواقعِ بالخيالِ، روحُ الفكاهةِ والدعابةِ، التأثرُ بالثقافةِ الإغريقيّةِ، العناصرُ الفنّيّةُ في المسرحيّةِ.

مهامّ:

1. بماذا اتّسمت حياة حمدي وسميرة في بدايةِ المسرحيّة؟

2. عيّن القصّة الواقعيّةَ من القصّةِ الخياليّةِ في المسرحيّةِ.

3. ما هو المشروعُ الّذي آمن به طارق؟ وأيَّ أثرٍ سيتركُ لو تحقّقَ؟

4. ماذا كان موقفُ كلِّ من نادية وطارق منَ الأمِّ؟

5. كيف أثّرتِ العائلةُ من وراء الحائطِ على حمدي وسميرة؟

6. صفِ البيئةَ المصريّةَ من خلالِ الأوصافِ والأحداثِ الواردةِ في النصّ.

7. ما هي مشاكلُ المجتمعِ المصريِّ حسبما يصوّرها الحكيمُ في المسرحيّةِ؟

8. سجّل ما هي أهمُّ مميّزاتِ مسرحِ توفيق الحكيم التي تبدو من خلالِ المسرحيّة.

9. عيّن الصراعَ الذي تعبّرُ عنه المسرحيّةُ في كِلْتا القصّتين: الواقعيّةِ والخياليّةِ.

10. ما أثرُ زوالِ الجوعِ من العالم؟ وكيف ستكونُ صورةُ الشعوبِ والعالمِ بعد ذلك؟

11. كيف تظهرُ صورةُ المرأةِ في المسرحيّةِ؛؟ حلّلْ معتمدًا على النماذجِ النسويّةِ الواردة.

12. تميّزَ توفيق الحكيم بثقافته الواسعةِ واطّلاعهِ على الثقافاتِ الأجنبيّةِ واستفادتِه من التراثِ الشعبيِّ لهذهِ الثقافاتِ. كيف يظهرُ هذا من خلال المسرحيّة؟

13. يُؤخذُ على المسرحيّاتِ الذهنيّةِ عند توفيق الحكيم مسألةُ خلقِ الشخصيّات. فالشخصيّاتُ في مسرحهِ الذهنيِّ لا تبدو حيّةً نابضةً منفعلةً بالصراعِ متأثّرةٌ به ومؤثِّرةً فيه، بل إنَّها تتحرّكُ من خلالِ أفكار الحكيم. ما رأيُّك؟


*222*

14. هل يبدو لك التغيير الّذي حلّ بشخصيّتي سميرة وحمدي في نهاية المسرحيّة طبيعيًّا ومقنعًا؟ علّل.

15. هل أحكمَ توفيق الحكيم بناءَ مسرحيّتهِ برأيك؟ بيّن ذلك معتمدًا الشرح والأمثلةَ.

16. ما هي ميزاتُ المسرحِ الذهنيِّ من خلالِ مسرحيّةِ الحكيم؟

17. تتميّزُ بعضُ مشاهدِ المسرحيّةِ بالفكاهةِ والسخريةِ. عيّن مشهدين تظهرُ فيهما هذه الميزة.

18. هل أثّرتِ المسرحيّةُ في جانبٍ معيّنٍ من تفكيرِكَ أو شخصيّتك؟ اكتب خواطرَكَ بشكلٍ حرٍّ حول الموضوع.

19. ما هيَ أهمُّ ميزاتِ الحوارِ في المسرحيّة؟

20. لو أريدَ تمثيلَ هذه المسرحيّةِ على أرضِ المسرحِ، ما هي الصعوباتُ الّتي ستواجهُ الطاقمَ الفنّيَّ؟ ولماذا؟


*223*

مسرحية براكسا أو مشكلة الحكم - توفيق الحكيم


*223*

توفيق الحكيم

مفاتيح النصّ:

خصائصُ المسرحِ الذهنيّ، مميّزاتُ اللغةِ، البيئةُ المصريّةُ، مشاكلُ المجتمع المصريّ، الرمزُ، مزجُ الواقعِ بالخيالِ، الطابعُ الكوميديُّ، التأثّرُ بالأسطورةِ الإغريقيّةِ اليونانيّةِ، العناصرُ الفنّيّةُ في المسرحيّةِ، مميّزاتُ الحوارِ.

مهامّ:

1. لماذا فشلِتْ براكسا في إرساءِ حُكمِها في أثينا؟

2. لماذا فشلَ هيرونوميس في إرساءِ حكمهِ في أثينا؟

3. لماذا فشلَ بلبروس في إرساءِ حكمهِ في أثينا؟

4. ما هي ملامحُ شخصيّةِ براكسا؟ تحدّثْ بتوسّع.

5. يرمزُ توفيق الحكيم إلى أنّ نجاحَ الحكمِ متعلّقٌ بثلاثةِ عواملَ: القلب، والحكمة، والحزم. ما معنى ذلك وكيف عُرِضَ هذا المضمونُ في المسرحيّة؟

6. تتميّزُ المسرحيّة بتقلّباتِ الأحداثِ السريعةِ والمفاجآتِ، وسرعةِ الإيقاع. بيّنْ ذلك مستشهدًا بالأمثلة.

7. كيف تنطبقُ مضامينُ مسرحيّةِ براكسا على الأحداثِ السياسيّةِ في مصر في الفترةِ التي عاش فيها الكاتب؟


*224*

8. كتبَ الحكيم ثلاثَ مسرحياتٍ أحداثُها مستوحاةٌ من التراثِ الإغريقيِّ الأسطوريِّ هي: براكسا وبيجماليون والملك أوديب. ما الغرضُ من ذلك؟ وما أهمّيّتُهُ؟

9. يُقال إنّ توفيق الحكيم لم يهتمَّ بخلقِ الشخصيّات وتحديدِ ملامحِها، ممّا جعلَها أقربَ إلى الرموزِ الّتي تحملُ المعانيَ المُطلقةَ، وعليه نستطيعُ القولَ إنَّ شخصيّاتِهِ، بشكلٍ عامٍّ، قد افتقدتِ الواقعيّةَ؟ في رسمِ ملامحِها فكانتْ بعيدةً عن الواقعِ. ما رأيكَ في هذا القولِ؟ وكيف يتجلّى ذلك من خلال المسرحيّة؟

10. ما هي ميزاتُ المسرحِ الذهنيِّ كما تظهرُ من خلالِ مسرحيّة الحكيم؟

11. هل أثّرتِ المسرحيّةُ في جانبٍ معيّنٍ من تفكيرِك أو شخصيّتِكَ؟ اكتب خواطرَكَ بشكلٍ حرٍّ حولَ الموضوع.

12. ما هي أهمُّ ميزاتِ الحوارِ في المسرحيّة؟

13. اِستخرجِ بعضَ الجملِ والمقولاتِ الفلسفيّةِ الّتي أعجبتْكَ في المسرحيّةِ واشرحْ ما أثرُها بكَ.

14. لو أريدَ تمثيلُ المسرحيّةِ هذهِ على أرضِ المسرحِ، ما هي الصعوباتُ الّتي ستواجهُ الطاقمَ الفنّيَّ؟ ولماذا؟

15. تذهبُ المسرحيّةُ إلى أنّ اختلالَ نظامِ الحكمِ وسيادةَ الفسادِ يؤدّيانِ بالضرورة إلى ثورةِ الشعبِ. هل ترى تشابهًا بين أحداثِ المسرحية وثورةِ الربيعِ العربيِّ في مصرَ؟

16. يقالُ إنَّ الأدبَ نبوءةٌ. هل حملتْ هذهِ المسرحيّةُ المصريّةُ نبوءةً ما؟


*225*

الزير سالم - ألفريد فرج


*225*

ألفريد فرج (1929-2005)

أديبٌ ومسرحيٌّ مصريٌّ. وُلد في الإسكندريّة، وحصل على الليسانس في الأدبِ الإنجليزيِّ من جامعةِ الإسكندريّةِ عام 1949، ثمّ عملَ في مؤسّساتٍ صحفيّةٍ عدّةٍ منها: مجلّةُ روز اليوسف ومجلّةُ التحرير وجريدةُ الجمهوريّة. ساهمَ في إنشاءِ الإدارةِ العامّةِ للثقافةِ الجماهيريّةِ بمصرَ، وتأسيسِ فرقٍ مسرحيّةٍ إقليميّةٍ بالمُحافظات. كما أسهمَ مع زملائِهِ من أمثال نعمان عاشور، وسعد الدين وهبة، ورشاد رشدي، ويوسف إدريس، في صنعِ نهضةٍ مسرحيّة لم يسبقُ لها مثيلٌ في الستّينياتِ من القرن العشرينَ. حصلَ على العديد من الأوسمةِ والجوائزِ منها: جائزةُ الدولة التقديريّة، ووسامُ العلوم والفنون من الدرجة الأولى، وجائزةُ الدولة التشجيعيّة للتأليف المسرحيّ، وجائزةُ الإمارات للأدب، وجائزةُ القدس من الاتّحاد العامّ للأدباء والكتّاب العرب، وميدالياتٌ ودروعُ تكريمٍ من مهرجان قرطاج بتونس ومسرح الخليج بالكويت.

كان فرج عاشقًا للتراث العربيّ واستلهمَهُ في كثير من أعماله مثل: حلاّق بغداد، والزير سالم، وعلي جناح التبريزيّ وتابعه قفّة، وقد قُدّمَت مسرحيّاتُهُ عشراتِ المرّاتِ في جميعِ أنحاءِ العالمِ العربيِّ. وتميّزَ تناوُلُ ألفريد فرج للتراث العربيّ بأنّه يُحيي التراثَ على خشبةِ المسرحِ كما لو كانَ جزءًا من الواقع، ولا يلجأ إلى الاستخدام السطحيّ للتراثِ في إسقاطاتِ سياسيّةٍ معاصرةٍ. ومع عشقهِ الشديدِ للتراث، فإنّ ثقافتَهُ الواسعةَ ومعرفتَهُ المباشرةَ لكلَ ما يجري في الحركة المسرحيّة في الغربِ، جعلتاه قادرًا على تقديم التراثِ بأسلوبٍ مسرحيٍّ عصريٍّ دون أن يفرغَه من مضمونِهِ. وأثارت لغةُ المسرح عندَهُ اهتمامًا نقديًّا واسعَ النطاق لحيويّتها الشديدةِ وخروجها على اللغة الشبيهة بلغةِ المقالِ الّتي استخدمها كثيرٌ من أسلافه. وكان ألفريد فرج يؤمنُ بضرورةِ أن تسهمَ اللغةُ في رسمِ صورةٍ بصريّة للنصّ انطلاقًا من إيمانه بأنّ المسرحَ فكرٌ وفُرجةٌ.

من مؤلّفاتهِ الأخرى: سقوطُ فرعون (1957)، سليمان الحلبيّ، رسائلُ قاضي إشبيلية، ومن الكوميديا الاجتماعيّة له: زواجٌ على ورقة طلاق، ومسرحيّة عسكر وحراميّة الّتي اتّخذت شكلَ الميلودراما الشعبيّة والنار والزيتون عن القضيّة الفلسطينيّة. وإلى جانب شهرتهِ ككاتبٍ مسرحيٍّ فقد ألّف رواياتٍ منها: حكاياتُ الزمن الضائع، أيّام وليالي السندباد. وترجمت بعض مسرحياته إلى الإنجليزيّة والألمانيّة.

توفيّ عن عمرٍ ناهزَ السادسةَ والسبعين عامًا في أحد المشافي البريطانيّة بعد صراعٍ طويلٍ مع المرضِ.


*226*

مفاتيح النصّ:

المسرحيّةُ السياسيّةُ، توظيفُ القصّةِ التراثيّةِ، مبدأ تحقيقِ العدلِ المستحيلِ، البناءُ الفنّيُ للمسرحيّةِ، الأسلوبُ الملحميُّ، الأسلوب الدراميّ الدائريُّ، الشخصيّةُ التراجيديّةُ، الإغرابُ (وقوعُ العقابِ على طالب العدلِ قبل وقوعهِ على منتهكي العدل)، الاسترجاعُ.

مهامّ:

1. أرادَ الزير سالم أن يحقّقَ العدلَ المستحيلَ في رحلةِ ثأرٍ مجنونةٍ. بيّنْ ذلكَ.

2. تعتمدُ المسرحيّةُ تقنيّةَ الأسلوبِ الدائريّ، حيثُ يبدأُ الحدثُ بانتهاءِ الحكايةِ. بيّنْ ذلكَ.

3. كيفَ يظهرُ الأسلوبُ الملحميُّ في المسرحيّةِ؟ اِشرحْ وادعمْ إجابتكَ بالأمثلةِ.

4. تحدّثْ عن شخصيّةِ هجرس، ذاكرًا أهمَّ خصائصِ هذهِ الشخصيّةِ.

5. تحدّثْ عن شخصيّةِ الزير سالم كشخصيّةٍ تراجيديّةٍ.

6. هنالكَ تناقضٌ بين فكرةِ الزير سالم وبين فعلهِ (طلبِ الحقِّ والعدلِ كاملينِ عن طريقِ التطرّفِ في طلبِ الحقِّ). بيّن هذا التناقضَ وبيّن أثرهُ في سيرِ الأحداثِ، ثُمَّ نتائجهُ.

7. لا يعترفُ المسرحيُّ ألفريد فرج بالبطولةِ الفرديّةِ ويرى أنَّ العدلَ لا يتحقّقُ عن طريقِ الفردِ. اِستعرضْ هذا المبدأَ من خلالِ الأحداثِ وما آل إليه مصيرُ الشخصيّاتِ.

8. عرّفْ أسلوبَ الإغرابِ، ثمَّ بيّنْ كيفَ يظهرُ من خلالِ المسرحيةِ.

9. يُحيلُ ألفريد فرج أحداثَ المسرحيّةِ على الواقعِ المصريِّ السياسيِّ في حينهِ؟ كيفَ يظهرُ ذلكَ؟ اِشرحْ.

10. ما غرضُ الكاتبِ من توظيفِ الحكايةِ الشعبيّةِ التراثيّةِ في المسرحيّةِ؟


*227*

مغامرة رأس المملوك جابر - سعد الله ونّوس


*227*

سعد الله ونّوس، (1941-1997)

مسرحيٌّ سوريٌّ وُلد في قرية حصين البحر القريبة من طرطوس. تلّقى تعليمَه في مدارس اللاذقيّةِ حصلَ على منحةٍ لدراسةِ الصحافةِ في القاهرة. بدأَ الكتابةَ في مجلّة الآدب اللبنانيّة، ثم رجَعَ إلى دمشق وعمِلَ في وزارة الثقافة مُحرّرًا للصفحات الثقافيّة في صحيفتي السفير اللبنانيّة والثورة السوريّة. كما عمِلَ مدُيرًا للهيئةِ العامّةِ للمسرحِ والموسيقى في سوريّا. في أواخر الستّينيّات، سافرَ إلى باريس ليدرسَ فنَّ المسرح. وبعد أن عادَ تسلَّمَ تنظيمَ مهرجانِ المسرحِ الأوّلِ في دمشق، ثمّ عُيّن مُديرًا للمسرح التجريبيّ في مسرح خليل القبّانيّ.

تناولت مسرحيّاتُهُ دومًا نقدًا سياسيًّا اجتماعيًّا للواقع العربيّ بعد صدمة المثقّفين إثرَ هزيمة 1967. في أواخرِ السبعينيّات من القرن العشرين، ساهم ونّوس في إنشاء المعهد العالي للفنون المسرحيّة بدمشق، وعمل مدرّسًا فيه. كما أصدر مجلّة حياة المسرح، وعمل رئيسًا لتحريرها. في أعقاب الغزو الإسرائيليّ للبنان وحصار بيروت عام 1982، غابَ ونّوس عن الواجهة، وتوقّفَ عن الكتابة لعَقدٍ من الزمن، ليعود إلى الكتابة في أوائلِ التسعينيّات.

كان سعدالله ونّوس أوّلَ مسرحيٍّ عربيٍّ يكتبُ الرسالة الدوليّة في اليوم العالميّ للمسرح في 27 آذار 1996. وتمَّ تكريمُه في أكثرَ من مهرجان، أهمُّها: مهرجانُ القاهرة للمسرح التجريبيّ ومهرجانُ قرطاج. وتسلَّمَ جائزة سلطان العويس الثقافيّة عن المسرح في الدورة الأولى للجائزة عام 1997. توفّي ونّوس بعد صراع طويل استمرَّ خمسَ سنواتٍ مع مرضِ السرطان.

من مؤلّفاته المسرحيّة: حفلةُ سمر من أجل خمسة حزيران (1967)، سهرة مع أبي خليل القبّانيّ (1972)، الملك هو الملك (1977)، أحلام شقيّةٌ (1995)، ملحمة السراب (1996)، الحياة أبدًا (2005) (نُشرت بعد موت الكاتب).


*228*

مفاتيح النصّ:

المسرحُ السياسيّ، مسرحُ التسييس، خصائصُ الشخصيّاتِ، توظيفُ الحكايةِ التراثيّة، الإسقاطُ على الواقعِ العربيِّ السياسيِّ، خلقُ الوعيِ الجماهيريَ من خلال المسرحِ، بناءُ المسرحيّةِ الفنّيُّ (التناوبُ بين السرد والحوار، التداول بين المرئيّ والمحكيّ، الإرشاداتُ الإخراجيّة ودورها في بناء المسرحيّة، النهاية المأساويّة، عناصرُ الإخراجِ المسرحيّ: الديكور، الأضواء)، العلاقاتُ بين الشخصيّات (الخليفة والوزير، الراعي والرعيّة، الحكواتيّ والزبائن)، العقلُ والعاطفةُ، الجمهورُ كشريكٍ فاعلٍ في المسرحيّةِ.

مهامّ:

1. صف طبيعةَ الصراعِ الّذي دارَ بين خليفةِ بغدادَ شعبان المنتصر بالله ووزيرهِ محمّد العبدلي.

2. كيف تصرّفَ أهلُ بغداد بعد سماعهِم الأنباءَ حولَ ما يجري في مدينتِهم من خلافٍ بين الخليفةِ ووزيرهِ؟ وعلامَ يدلّ هذا التصرّفُ؟

3. يدلُّ الحوارُ الّذي دار بين المملوكِ جابر والمملوك مِنصور في بداية المسرحيّةِ على تباينِ التفكير بينهما. وضّح ذلكَ مع الشرح.

4. ما المغامرةُ الّتي قرّرَ جابر أن يخوضَها؟ وماذا كان هدفُهُ من ذلك؟

5. تتنوّعُ الشخصيّاتُ في المسرحيّةِ بين ثابتةٍ (مسطّحة) وناميةٍ (متطوّرة). أعطِ مثالًا لكلّ نوعٍ في هذه المسرحيّة.

6. يراوحُ الكاتبُ سعد الله ونّوس بينَ زمانينِ ومكانينِ مختلفينِ في المسرحيّة عن طريق توظيفِ تقنيّةِ الحكواتيِّ. بيّن ذلك مع الشرح.

7. بيّن الخصائصَ الفنّيّةَ للحوارِ في المسرحيّةِ.

8. تتّصفُ شخصيّةُ المملوكِ جابر بصفاتٍ متناقضةٍ. اُذكرها، وبيّنِ التناقضَ بينها.

9. تبيّنُ نهايةُ المملوك جابر أنّه لا جدوى من العمل الفرديّ كمطلبٍ للخَلاص، وأنّ التكتَلَ الجماهيريَّ هو الأقدرُ على التغيير. اِشْرحْ.


*229*

10. ما غرضُ الكاتبِ من توظيفِ الحكايةِ الشعبيّةِ التراثيّةِ في المسرحيّة؟

11. ما هي الخصائصُ الفنّيّةُ للُّغة في المسرحيّةِ؟ سَجِّلْ أمثلة.

12. يُحيلُ سعد الله ونّوس أحداثَ المسرحيّةِ على الواقعِ العربيّ. كيف يظهرُ ذلك؟ اشرح.

13. سَجِّلْ مثالين على توظيف سعد الله ونّوس للإشارات المسرحيّة والإرشادات الإخراجيّة في نسيجِ المسرحيّة، ثمّ اشرح ما الغرضُ منها.

14. ينتقدُ الكاتبُ في مسرحيّتهِ لا مبالاةَ الجماهير والشعوبِ وسلبيّتَها إزاءَ ما يحدثُ حولَها، ويرى أنّ هذهِ اللامبالاة تجرُّ الشعوبَ إلى الويلاتِ والدمارِ والضررِ. بيّن ذلك مع الشرح.

15. يقولُ بعضُ النقّاد: إنّ ارتباطَ سعد الله ونّوس بقضايا المجتمع المصيريّة قد غلبَ عليه طابعُ التشاؤمِ. دلّلْ على ذلك من خلال النصّ.


*230*

الفصل الرابع: المقالة


*230*

المقالة:

قطعةٌ نثريّةٌ قصيرةٌ أو متوسّطةٌ، تدورُ حولَ فكرةٍ عامّةٍ واحدةٍ، تناقِشُ موضوعًا معيّنًا، أو تعبّر عن وجهة نظرٍ وتهدفُ إلى إقناعِ القرّاء لتقبُّل فكرةٍ ما، أو إثارةِ عاطفةٍ ما عندهم. تُكتّبُ بطريقةٍ سريعةٍ، في لغةٍ سَلِسَةٍ، وأسلوبٍ جذّابٍ. خالية من التكلُّفِ والتعقيد المنهجيّ وتعبّر بصدقٍ عن شخصيّةِ كاتبِها، سواءٌ كانت مقالةٌ ذاتيّةٌ أم موضوعيّةٌ (تعليميّة) أم صحفيّة أم غير ذلك. والمقالة أنواعٌ كثيرةٌ، غير أنّ أكثر الدارسين يجعلونها على نوعين: المقالة الذاتيّة (الأدبيّة)، والمقالة الموضوعيّة (المنهجيّة التعليميّة). والفرق بين المقالة الذاتيّة والمقالة الموضوعيّة، هو أنّ المقالة الذاتيّة تعبّر عن إحساسِ كاتبِها بالحياةِ وتجربتِه فيها؛ فتُعنى بإبرازِ شخصيّة الكاتب، وطريقته في التفكير، وانفعالاته، ولا يكون همُّها تقديمَ المعلوماتِ أو لغة الجدل والنقاش، بل تنشغل بالتعبير عن تجربة حيويّة مرّ بها الكاتبُ، أو تخّيلها. وعدا عن ذلك يكون فيها أسلوبٌ أدبيٌّ مؤثِّرٌ، ولغةٌ موحيةٌ، واحتفاءٌ بالصور والأخيلةِ، ولا تحكمُها قاعدةٌ منهجيّةٌ.

أما المقالةُ الموضوعيّةُ (أو التعليميّة، أو العلميّة، أو الرسميّة، أو الإقناعيّة)، فيهدف فيها كاتبُها، الّذي يخفي إلى حدّ كبير انفعالاتِه وتجربته الشخصيّة، إلى تقديمٍ مادّةٍ معرفيّةٍ أو فكريّةٍ تقديمًا واضحًا منسّقًا بأسلوب سهلٍ، لا لُبسَ فيه، وبلغة سهلةٍ ومفهومةٍ.

تقومُ المقالةُ على ثلاثةِ أقسام: مقدّمةٍ (استهلالٍ يمهّدُ لطرح الموضوع)، عرضٍ (النقاطِ الرئيسيّة الّتي يعالجُها الكاتبُ)، خاتمةٍ (خلاصةِ المقالةِ من نتائجَ أو مقترحاتٍ). أمّا أهمُّ الخصائصِ التي ينبغي أن تتوفّرَ في المقالة فهي: الإيجازُ والبعدُ عن التفصيلات المُملّة، ترابطُ الأفكارِ ومعالجتُها بعمق، سهولةُ اللغةِ والابتعادُ عن الألفاظِ الغريبةِ، ترابطُ الأفكارِ وتسلسلُها، التشويقُ والإمتاعُ في طريقةِ العرضِ وتناولِ اللغةِ.


*231*

اِستنساخ الأجنّة: ثورة علمّيةٌ أم كارثةٌ إنسانيّةٌ


*231*

محمّد علي بديويّ

شهوةُ المعرفةِ لدى الإنسانِ صارت تدفعُ العلماءَ إلى حدودٍ قصوى من التجريب العلميِّ، لكنَّ التاريخَ علّمَنا أنّ التجاربَ تتحوَّلُ يومًا ما إلى ممارساتٍ شائعةٍ، وها هو التجريبُ العلميُّ يفتحُ بابًا خطيرًا وصادمًا لمألوفِ الإنسانيَّةِ.

بينَ الحينِ والحينِ يفاجئُنا العلماءُ بكشفٍ علميٍّ جديدٍ أو بتجربةٍ جديدةٍ تؤدي إلى نتائِجَ متعدّدَةٍ كبيرةٍ في شتّى مناحي الحياةِ، سياسيًّا واجتماعيًّا، واقتصاديًّا وأخلاقيًّا، فكلُّ جديدٍ تتبعُهُ ثورةٌ شاملةُ. فانشطارُ الذّرّةِ وصناعةُ الكمبيوترِ، وتجاربُ الهندسةِ الوراثيّةِ، كلُّ ذلك تلتْهُ ثوراتُ تغييرٍ جذريّةٌ امتدّت لتصِلَ إلى كلِّ مناحي الحياةِ. وبالأمسِ القريبِ أجرى العالمان الأمريكيّان د. جيري هولم وروبرت ستيلمان تجربةً بالغةَ الخطورةِ ومتعددةَ النتائجِ لاستنساخِ الأجنّةِ. والحقيقةُ أنّ تجربةَ جيري وروبرت ما هي إلا الحلقةُ الأخيرةُ في سلسلةٍ متتابعةٍ من المحاولاتِ المختلفةِ الّتي تمَّت عبرَ القُرون الثلاثةِ الأخيرةِ. فأوَّلُ تجربةِ تلقيحٍ صناعيٍّ في العالمِ أُجريَت عام 1799، وأوّلُ محاولةٍ لِصُنعِ أطفالِ الأنابيبِ في الحيواناتِ كانت عام 1944 وأوّلُ تجربةِ تلقيحٍ ناجحةٍ خارجَ الرَحمِ كانت عام 1951، وتمَّ تجميدُ الحيواناتِ المَنَويّةِ لإعادةِ التلقيحِ بها في الماشيةِ عام 1952، وفي الإنسانِ عام 1953، أمّا تجميدُ الأجنَّةِ لإعادةِ زراعتِها فقد تمَّ عام 1973، أمَّا أوَّلُ طفلةِ أنابيبَ في العالَمِ فقد كانت الإنجليزيّةُ لويزا براوْن عام 1978، أمّا استنساخُ الأجنّةِ فقد بدأَتِ التجاربُ عليه في الأبقارِ عام 1981، إلى أن جاءَ عام 1993، وأثناءَ انعقادِ مؤتمرِ جمعيَّةِ الخصوبةِ الأمريكيّةِ بمونتريال بكندا ليعِلَن د. جيري هولم عن نجاحِ تجاربِهِ لنسخِ الأجنَّةِ في الإنسانِ.

بين الخيالِ والحقيقةِ

إنّ فكرةَ تحسينِ النسلِ البشريِ بطريقِ الاستنساخِ هي فكرةٌ قديمةٌ نسبيًا، فقد كتبَ عنها بعضُ العلماءِ والكتّاب كنوعٍ من الخيالِ العلميِّ المستقبليِّ، فكتب عنها ألدوس هيكشلي منذ 61 عامًا، والأساسُ الّذي انبنت عليه، أوحى بأفكارٍ مماثلةٍ، ومنها فكرةُ فيلمِ لا الحديقة الجوراسيّة الشهير الّذي يدور حول فكرةِ العثورِ على حشرةِ صغيرةِ قُدِّرَ عمرُها بأكثرَ من 135 مليون سنةً،


*232*

وطولُها 3 ملم، وُجدت داخلَ ترسيباتِ الكهرمانِ الّذي حافظَ عليها سليمةً. ويبذُلُ العلماءُ جهودًا جبّارةً لاستخراجِ مادّةِ DNA الخاصّةِ بالديناصوراتِ من هذه الحشرةِ الّتي كانت تتطفَّلُ على الديناصوراتِ على أساسِ أنّ مادّة DNA لا تفنى ولا تتأَثُرُ مهما مرَّ عليها من زمنٍ. ويبذلُ العلماءُ جهودًا أخرى لإنتاجِ ديناصورٍ جديدٍ من هذا الحامضِ النوويِّ. وفكرةٌ أخرى ظهرَت في أحدِ كتبِ الخيالِ العلميِّ عن محاولةِ أحدِ العلماءِ التسلُّطَ على أهلِ الأرضِ باستخدامِ شعرةٍ من شعرِ هتلر واستخلاصِ مادّةِ DNA منها، وتخليقِ نُسخٍ ضخمةٍ من هتلر يكونُ هو زعيمَهم للسيطرةِ على الأرضِ.

هذا هو الجانبُ الخياليُّ في الموضوعِ، أمّا الجانبُ الحقيقيُّ المتمثِّلُ في تجربةِ جيري وروبرت فيعتمدُ على أنّ أصلَ أيِّ كائنٍ حيٍّ هو خليّةٌ واحدةٌ تنقسمُ إلى اثنتين ثمّ أربعٍ وهكذا، والّذي حدثَ أنَّ العالِميْن استطاعَا فصلَ الخلِيَّتيْن الأوليَيْن كيميائيًّا - وهذا يتمُّ بصورةٍ طبيعيّةٍ أثناءَ تكوينِ التوائِمِ في رحم الأمِّ - ثمّ بعد ذلك احتفظَا بإحدى الخليّتين مُجمَّدةً ولم يَسمحا لها بالتكاثُرِ ثمّ أذابا الغِشاءَ المُحيطَ بالأخرى والمُسمّى Zona pellurida واستعاضَا عنه بغشاءٍ صناعيٍّ مُكوّنٍ من مادّةٍ هُلاميّةٍ (جِل) مُستخلصةٍ من أعشابٍ بحريّةٍ، ثمّ سمحَا لهذه الأجنّةِ المُستنسخَةِ بالنموِّ. وحصلَ العالِمان على 48 نسخةٌ جديدةً من أصلِ 17 جنينًا في بدايةِ التجربةِ، ولكنّ أيّا من هذه الأجنّةِ لم يعِشْ أكثرَ من ستّةِ أيّامٍ لأنّ جيري وروبرت قاما بتلقيحِ البويضَةِ الأمِّ بحيوانيْن منويّيْن، والمعروفُ أنّ هذه الأجنَّةَ تموتُ مُبكِّرًا في مرحلةِ العَلَقَة. والنتائجُ الأوّليّة لهذه التجربةِ مثيرةٌ وخطيرةٌ في آنٍ واحدٍ وتتلخّصُ في:

(1) أنّه يمكنُ استنساخ أيِّ عددٍ من الأجنِّةِ من أصلِ خليَّةٍ واحدةٍ.

(2) أنّه يمكنُ الاحتفاظُ بأيٍّ من هذه النُسَخِ المتطابقةِ وراثيًّا مجمّدةً لأيِّ فترةٍ ثمّ يُسمحُ لها بالنموِّ مرّةً أخرى ممّا يؤدّي إلى نموِّ جنينيْن متطابقيْن وراثيًّا ومختلفيْن عُمرًا، ولأيِّ فترةٍ مطلوبةٍ حسبَ طولِ أو قصرِ فترةِ التجميدِ.

وهل من إيجابيّاتٍ؟

إنَّ الآثارَ المترتِّبَةَ على هذه التجربةِ مرعبةٌ حقًّا، وقد تكون في غالبيّتِها سلبيّةً إذا أُسيءَ توظيفُها، وقد تكونُ في غالبيّتِها إيجابيّةً إذا أُحسن توظيفُها مثلًا، تمامًا مثلَ الانشطارِ النوويِّ. ويمكنُ


*233*

تلخيصُها في ما يلي:

أ. الآثار السلبيَّةُ:

(1) من الناحيةِ الأخلاقيّةِ: قد يؤدّي الحُصولُ على نُسخٍ بشريَّةٍ متطابقةٍ إلى استخدامِ أعضاءِ هذه النُسخِ كقطعِ غَيارٍ، فإذا أُصيب الكبدُ مثلًا إصابةً جسيمةً استدعَت تغييرَه بآخر، فما على الطالبِين إلّا تنميةُ النسخةِ الأخرى المُجمّدةِ إلى مرحلةٍ مناسبةٍ تمكّنُ من انتزاعِ الكبدِ منها لزراعتِهِ مكانَ الآخرِ الّذي أصابَه العطَبُ، ثمّ يُلقّى بما تبقّى من هذه النسخةِ في سلّةِ المُهملاتِ وقد يؤدّي هذا إلى استحداثِ سوقٍ رائجةٍ لهذه التجارةِ المرعبةِ.

وقد يؤدّي ذلك إلى استعاضَةِ الأسرةِ عن أحدِ الأبناءِ الّذي توفّيَ بالجنين الّذي فُصلَ عنه في البدايةِ ليكونَ صورةً طبقَ الأصلِ من المُتوفّى، وقد يؤدّي ذلك إلى الحُصولِ على توائمَ مختلفةٍ في العمرِ كأن يكونَ أحدُهم عمرُه خمسُ سنواتٍ والآخرُ عمرُه عشرُ سنوات مثلًا.

أمّا المضحكُ المُبكي في هذا الأمرِ فهو أنّ المرأةَ قد تحملُ توأمَها الّذي فُصلَ عنها وهوَ جنين لتلِدَه بعد ذلك فتُصبحَ أمًّا لأخيها أو أختِها، وقد تحمِلُ توأمَ زوجِها الّذي فُصل عنه وتمّ تجميدُه لتلدَه بعد ذلك فتصبحَ أمًّا لشقيقِ زوجِها!!

(2) من الناحيةِ الاجتماعيّةِ: إنّ استنساخَ الأجنَّةِ قد يؤدّي إلى القضاءِ على مفهومِ العائلةِ تمامًا، لأنّ هذه النُسخ ليست بحاجةٍ إلى أبٍ أو أمٍّ بقدرِ ما هي بحاجةٍ إلى مؤسّسةٍ تقومُ برعايتِها، وقد تمَّ إنماؤُها في أجهزةٍ خاصّةٍ وعندئذٍ سوف تصبحُ مصطلحاتُ الأُمومةِ والأبوَّةِ والتواصُلِ الأسرِيِّ والعاطفةِ من مخلّفاتِ الماضي السحيق.

(3) القضاءُ على تفرُّدِ الإنسانِ واستقلاليّته: فلا ريبَ أنّه حقٌّ لكلٍّ منّا أن تكونَ له شخصيتُه المستقلّةُ وصفاتُهُ الّتي لا يشاركُه فيها أحدٌ، وإنتاجُ النُسخِ المتشابهةِ ذاتِ الصِفاتِ المُوحَّدةِ يقضي تمامًا على هذا التمايُزِ، إذ سيصبحُ الإنسانُ نسخةً مكرّرةً لآلافٍ غيرِهِ.

(4) الإنسانُ السوبر: إنّ اختيارَ صفاتٍ وراثيّةٍ معيّنةٍ لتكونَ الأصلَ في إنتاجِ هذه النسخِ


*234*

المتشابهةِ من ناحيةِ القوّةِ الجسمانيّةِ والأداءِ العقليِّ سوف يؤدّي إلى استحداثِ مجتمعِ العمالقةِ، ولنا أن نتخيَّلَ مجتمعًا أفرادُه في قوّة أبطالِ المصارعةِ أو في عقليّة علماء الذرّة.

ب. الآثارُ الإيجابيّةُ (وهي موضعُ اختلافٍ أخلاقيٍّ كبيرٍ):

(1) دراسةُ الأمراضِ الوراثيّةِ وطرقِ علاجِها:

فلا شكَّ أنّنا نعرفُ القليلَ عن الأمراضِ الوراثيّةِ مثلِ ضُمورِ المُخِّ الوراثيِّ، وعمى الشبكيَّةِ الوراثيِّ، وأمراضِ الدمِ الوراثيّةِ، والصَرَعِ الوراثيِّ. ولما كانت معرفُتنا قليلةً، فإنّ علاجَ هذه الأمراضِ غيرُ ناجحٍ، لذا فإذا استحدثْنا نُسخًا مصابةً بأمراضٍ وراثيّةٍ، فإنّه يمكننا دراستُها باستفاضةٍ ورَويَّةٍ.

(2) مساعدةُ المصابين بالعُقمِ: فإذا كانَ الزوجُ مثلًا يعاني من نقصٍ شديدٍ في الحيواناتِ المَنَويّةِ، فإنّنا باستخدامِ حيوانٍ منَوِيٍّ واحدٍ وبويضةٍ واحدةٍ يمكنُنا استنساخُ عدّةِ أجنّةٍ عن طريقِ تجميدِها لفتراتٍ مختلفة.

(3) دراسةُ وعلاجُ التشوُّهاتِ الجنينيّةِ: وذلك يتمُّ بصورةٍ مشابهةٍ لدراسةِ وعلاجِ الامراضِ الوراثيّةِ.

(4) نقلُ الأعضاءِ: يمكنُ أن يَقِي الفردُ نفسَه صحّيَّا باستنساخِ نسخةٍ أخرى منه إلى سنٍّ معيّنٍ ثمّ يستفيدُ من أنسجتِه وأعضائِه إذ إِنّ هذه النسخةَ مُطابقةٌ له تمامًا، وفي ذلك تَغَلُّبٌ على أخطرِ مُشكلاتِ نقلِ الأعضاءِ وهي عدمُ توافقِ أنسجةِ المتبرِّعِ مع أنسجةِ المريضِ، ولكن ما هي حقوقُ النُسخةِ الأخرى؟ وهل تقبلُ أن تكونَ قطَعَ غَيارٍ للنسخةِ الأصليّةِ؟

هذه التساؤلاتُ الحائرةُ وغيرُها تنقلُ هذه الإيجابيّات - في معظمِها - فورًا إلى دائرةِ السلبيّاتِ. فهي تهدِرُ كرامةَ الإنسانِ وشرَفَ وجودِه.

أمّا العلماءُ فقد انقسمُوا إلى بعضِ المؤيّدين وفريقٍ ضخمٍ من المُعترِضين، أمّا المؤيّدُون فحُجّتُهم تتمثَّلُ في الإيجابيات التي أسلَفنا الحديثَ عنها، وهم يروْنَ أنّ هذه التكنولوجيا المتقدّمةَ ليست مشكلةً في حدِّ ذاتِها ولكنّ المشكلةَ في من سيجعلُها في حيِّزِ التطبيقِ أي


*235*

أنَّ المشكلةَ في المنفِّذِ وليست المشكلةُ في النتائِجِ الّتي أدّت إليها التجربةُ، فإذا استخدَمَها منفّذُها لمنفعةِ الجنسِ البشريِّ فهذا هو الهدفُ، أمّا إن كان متسلِّطًا فإنّه ليسَ في حاجةٍ إلى هذه التكنولوجيا لكي يسعى إلى الدّمارِ، فهو بها أو بغيرِها سوف يدمّرُ نفسَه ويدمّرُ مَن حولَه، تمامًا مثلَ الّذي يستعملُ السكّين الّذي يعود عليه بالنفعِ في ذبحِ الآخرين.

أمّا المُعترضون فحُجّتُهم ما أسلفنا الحديثَ، عنه من سلبيّاتٍ، ويرَوْن أنّ مبعثَ القلقِ هو النظرةُ إلى الإنسانِ على أنّه مجرَّدُ أعضاءٍ فيها خطأٌ فاحشٌ إذ أنّ الإنسانَ النفسَ لا ينفصلُ بحالٍ من الأحوالِ عن الإنسانِ الجسمِ.

أمّا عن العامّةِ فقد أظهرت استطلاعاتُ الرأيِ الّتي أجرتْها معظمُ المجلّات الغربيّةِ الشهيرةِ ومحطّاتِ الإذاعةِ والتلفزةِ أنّ الغالبيّة العُظمى لا توافقُ على استنساخِ الأجنَّةِ مهما كانت المبرِّراتُ، وترى أنّ هذه عمليّةٌ غيرُ أخلاقيّةٍ، وتُطالبُ بأن تُوقَفَ هذه الأبحاثُ حاليًّا وأن تُمنَعَ في المستقبلِ. وهم يرَوْن أنّه حتّى لو وُضعت قوانينُ لمنعِ أيِّ سلوكٍ غيرِ قويمٍ بشأنِها، فلن يكونَ هناك ضمانٌ عن ظهورِ ديكتاتورٍ أو متعصِّبٍ أو مجرمٍ يسعى إلى تحقيقِ أهدافٍ غيرِ إنسانيّةٍ برغمِ وجودِ الضوابطِ والموانعِ.

ولم تقفِ الدُولُ مكتوفةَ الأيدي أمامَ هذه المعضلَةِ. ففي بَريطانيا يتطلَّبُ الأمرُ موافقةً من الحكومةِ بعد دراسةٍ صارمةٍ، وفي ألمانيا فإنّ العُقوبةَ قد تصلُ إلى السجنِ لمُدَدٍ متفاوتةٍ، والقانونُ في اليابانِ يمنعُ تخليقَ أو مضاعفةَ أو نسخَ الأجنّةِ البشريّةِ، وسوفَ تحذو كثيرٌ من الدولِ حذوَ هذه البلدانِ في القريبِ العاجلِ، لأنّ الأمرَ جِدُّ خطيرِ فهو متعلِّقٌ بمصيرِ الإنسانِ.

وإذا قيلَ إنّنا بعيدون تقنيًّا عن الوصولِ إلى هذه المُعضلةِ، بمعنى أنَّ مستوانا العلميَّ ينقذُنا من الوقوعِ في مشكلةِ الاختيارِ والرأيِ في مواجهةِ موضوعِ استنساخِ الأجنّةِ، فإنّ هذا لا يمنعُ من وقوعِ بعضِنا في براثِنِ هذه المعضلةِ، ولو كمُستهِلكين، وهو أمرٌ خطيرٌ يتطلّبُ كثيرًا من الوضوحِ في المواقفِ علميًّا، وأخلاقيًّا، وقبلَ هذا كلِّه دينيًّا. فهل نتحركُ، ولو بالرأيِ، قبلَ وُقوعِ الواقعةِ!

مجلّة العربيّ ع 1996/454.


*236*

مفاتيح النصّ:

نوعُ المقالةِ، الأفكارُ المركزيّةُ حولَ ظاهرةِ الاستنساخِ، منهجُ الكاتبِ في استعراضِ الموضوعِ، مميزاتُ اللغةِ في المقالِ، الحقيقةُ والرأيُ، التعريفُ بمجلّة العربيّ الكويتيّة.

مهامّ:

1. ما الأسبابُ الّتي أدّت إلى نشوءِ ظاهرة استنساخِ الأجنّةِ؟

2. سّجل أثريْنِ إيجابيّينِ وآخريْنِ سلبيّين لظاهرةِ الاستنساخِ.

3. ما هو موقفُ العامّةِ من ظاهرةِ استنساخِ الأجنّةِ؟ وكيف تمَّ الحصولُ على موقفها؟

4. ما أسبابُ الانقسامِ بينَ العلماءِ حولَ ظاهرةِ الاستنساخِ؟

5. أشر إلى عددٍ من الجملِ، بعضُها يدلُّ على حقيقةٍ والآخرُ يدلُّ على رأيٍ.

6. اِخْتر ثلاثَ فقراتٍ في النصّ ثم ضعْ لكلِّ منها عنوانًا مناسبًا.

7. ما المنهجُ الّذي اعتمدَهُ الكاتبُ في تنظيمِ مقالتهِ؟

8. ما فائدةُ إيرادِ الكاتبِ لأسماءِ العلماءِ وإثباتِ سنواتِ التجاربِ في النصِّ؟

9. يكادُ النصُّ يخلو من الصورِ البلاغيّةِ والمحسّناتِ البديعيّةِ؟ ما سببُ ذلك؟

10. ما هو موقفُكَ الشخصيُّ من ظاهرةِ الاستنساخِ؟ علّل.

11. هل صرَحَ الكاتبُ بموقفهِ في مقالتهِ؟ وضّحْ بالاعتمادِ على النصِّ.

12. بيّن رأيَ الأديانِ في ظاهرةِ الاستنساخِ.

13. ما نوعُ المقالةِ أعلاهُ؟ أجبْ معتمدًا على عرضِ ميزاتِها مع إيرادِ الأمثلةِ.

14. أيُّ الشخصيّاتِ في محيطِكَ أو في العالمِ كنتَ تودُّ لو يتكرّر نموذجُ شخصيّتها؟ ولماذا؟

15. شاهد الفيلمَ الحديقة الجوراسية The lost world Jurassic park على موقعِ يوتيوب، وسجّل انطباعاتِكَ عنهُ.


*237*

تشجّع واعرف!


*237*

إمام عبد الفتّاح إمام

استغرقَنِي هذا الأسبوعَ قراءةُ مقالٍ ممتعٍ للفيلسوفِ الألمانيِّ الكبيرِ إيمانويل كانط (1724-1804) عن (معنى التنوير) الّذي سادَ في القرنِ الثامنَ عشرَ. والّذي عاشَ كانط في قلبِهِ ولخّصَه بفلسفتِه النقديّةِ، فكانَ أعظمَ تعبيرٍ عنه!. ولقد تُرجمَ المقالُ إلى اللغةِ العربيّةِ ترجمةٌ دقيقةٌ وَقدَّم له بمقدّمةٍ شيّقةٍ صديقُنا الدكتور عبد الغفار مكّاويّ، وكأنّه بذلك يستشعرُ ما نتعطّشُ إلى معرفتِهِ، ذلك لأنّنا في مجتمعِنا العربيِّ ما زلنا حتّى الآن نكافحُ لكيْ نبقى في عصرِ التنويرِ الّذي بدأَ في الثُلثِ الأخيرِ من القرنِ التاسعَ عشر مُتَّجهًا في البدايةِ وُجهَةَ (التنوير الدينيّ) على يد الأفغانيّ ومحمد عبده، ثمّ مُتّجهًا في أوائلِ القرنِ العشرين وُجهةٌ علميّةٌ على يدِ شبلي شميّل وإسماعيل مظهر وسلامة موسى، ثمّ تتسرّب أشعّةُ التنويرِ لتضيءَ جوانبَ مختلفةً من حياتِنا الثقافيّةِ: في الفلسفَةِ والأدبِ، والفنِّ إلخ. فتظهَرُ حركةٌ شاملةٌ تستهدفُ النهوضَ بالحياةِ الفكريّةِ العربيّةِ في كلِّ أرجائِها.

ومن هنا كانَ من الأهمّيّةِ بمكانٍ أن نعرِفَ ما المقصودُ بالتنويرِ؟ أ يعرِّفُه كانط بأنّه: (خروجُ الإنسانِ من قُصورِهِ الّذي اقترفَه في حقِّ نفسِهِ، وهذا القُصورُ هو عجزُهُ عن استخدامِ عقلِهِ إلّا بتوجيهٍ من إنسانٍ آخرٍ!) بمعنّى أوضحَ وأصرَحَ: التنويرُ في رأيِ كانط هو رفعُ الوِصايةِ عن الإنسانِ، والاعترافُ بأنّه قادرٌ على التفكيرِ المستقلِّ، وأنّ من حقِّهِ أن يستخدمَ عقلَه استخدامًا حرًّا لا خوفَ ولا قلقَ! ومن الطريفِ أنّ كانط يلخّصُ عصرَ التنويرِ كلَّه في عبارةٍ للمشاعرِ الرومانيِّ (هوراس) تقولُ: (تشجَّع على المعرفَة!) وهي عبارةٌ يمكنُ أن تكونَ أمرًا مُطلقَا يتوجّهُ به الفيلسوفُ إلى كلِّ إنسانٍ ما زالَ يتخبّطُ في ظُلماتِ العُصورِ الوُسطى وتُسيطرُ عليه السُلطةُ أيّا كان نوعُها: السُلطةُ الدينيّةُ، أو السلطةُ المدنيّةُ، أو سلطةُ النصوصِ والشُروحِ إلخ. فهي دعوةٌ إلى التفكيرِ الحرِّ المستقلِّ بعيدًا عن الوصايةِ الّتي عانى منها الإنسان في الفتراتِ السابقةِ!

والحقُّ أنّني وقفتُ طويلًا أتأمّلُ هذا الشعارَ الّذي لخّصَ فيه كانط عصرَ التنويرِ (تشجّع على المعرفة!) أو (تشجّع واعرِف!) أو (انهض واعرِف!) انهضْ من السُباتِ والاسترخاءِ


*238*

والاعتمادِ على الحُلولِ الجاهزةِ الّتي يقدّمها لك الآخرون واعرف (بنفسِك ولنفسِك) - أقولُ إنّني وقفتُ أتأمّلُ هذا الشعارَ لسببيْن: الأوّلِ أنّنا ما زِلنا في المجتمعِ العربيِّ في حاجةٍ ماسّةٍ إلى رفعِهِ وكتابتِه في كلِّ شارعٍ، وعلى كلِّ جدارٍ، وتدريسِه في كلِّ مدرسةٍ ومعهدٍ حتّى ينهضَ الفردُ - والمجتمعُ!. لينفُضَ عن نفسِه ما رانَ عليها من جهلٍ وخرافةٍ، ويبدّدَ ما حولَه من ظُلُماتِ القُرونِ الّتي سادَها الحكمُ التركيُّ بصفةٍ عامّةٍ! والسببِ الثاني: أنّني أخذتُ أسألُ نفسي عن المعنى الّذي يتضمّنُه هذا الشعارُ العجيبُ (تشجّع واعرف!) هل المعرفةُ تحتاجُ إلى شجاعةٍ؟! وكيف يكونُ ذلك؟!

لا تبدأُ المعرفةُ إلّا نتيجةَ مشكلةٍ، غيرَ أنّ المشكلاتِ لا تفرضُ نفسَها بنفسِها على الإنسانِ، وإنّما الإحساسُ بالمشكلةِ هو وحدَه الّذي يوقظُ المعرفةَ، وهو الدليلُ على بزوغِ الروحِ المعرفيّةِ الحَقَّةِ، ومن هنا قيل إنّ كلَّ معرفةٍ هي حلٌّ لمشكلةٍ، أو بمعنى آخر، هي إجابةٌ عن سؤالٍ، وإذا لم يكن ثمَّةَ سؤالٌ فلن تكونَ هناك معرفةٌ - وهذا يفسّرُ لك لِمَ لا يستفيدُ الطلّابُ عندنا ممّا يُعرضُ عليهم من معلوماتٍ وثقافةٍ لأنّ لديهم بالفعلِ من الأجوبةِ أكثرَ بكثيرٍ ممّا لديهم من الأسئلةِ!

المعرفةُ إذن تحتاجُ إلى طرحِ السؤالِ، وطرحُ السؤالِ يحتاجُ إلى شجاعةٍ! لقد رفَعَ سقراطُ العظيمُ شعارَه (أيّها الإنسانُ، اعرف نفسَك) ودارَ في الأسواقِ يوقظُ الناسَ لكي يعرفوا وكان يقولُ عن نفسِه (أنا ذبابةُ الخيل الّتي أرسلها الله إلى أناسٍ لكي تزعجَهم، وتباغتَهم، وتوقظَهم من سباتِهم العميقِ)! ولهذا وُصِفَ سقراطُ بأنّه (الرجلُ الّذي جرؤَ على السؤالِ!) أرأيتَ كيفَ يتطلّبُ طرحُ الأسئلةِ (جرأةً) وشجاعةً!

إنّ المعرفةَ تؤدّي في النهاية إلى بناءٍ الشخصيّة المستقلّة الّتي تفكّر لنفسِها وتجمعُ أفكارَها بنفسِها، والاستقلالُ يعني الانفصالَ، بمعنى ألّا تكونَ الشخصيّةُ الجديدةُ مجرّدَ تكرارٍ للشخصيّةِ القديمةِ أو (نسخةً) منها، وإنّما لا بدّ لها، على العكسِ، أن تقفَ في وجهِ القديمِ لتقولَ: لا! أنا إنسانٌ يريدُ أن يعرفَ نفسَه، ويكونَ شخصيّةً خاصّةً به لا أن يكونَ فردًا في قطيعٍ، ومثلُ هذا الموقفِ الصلبِ في مُواجهةِ الماضي من ناحيةٍ ومواجهةِ الحاضرِ المتعفِّنِ من ناحيةٍ أخرى يتطلَّبُ شجاعةً لا تَخفى!

المعرفةُ الّتي نتحدّثُ عنها الآن، والّتي تحتاجُ إليها مجتمعاتُنا العربيّةُ، لا بدّ أن ترتكزَ على


*239*

الحريّةِ. وليست ممارسةُ الحرّيّةِ مسألةً هيّنةً، ذلك لأنّ الوجهَ الثانيَ من العملةِ بالنسبةِ للحرّيةِ هو المسؤوليَّةُ، أنت حرٌّ فأنت إذن مسؤولٌ، مسؤولٌ عن أفعالِك، ومسؤولٌ عن أفكارِك الّتي جمعْتَها بمحضِ اختيارِك! والقدرةُ على تحمُّلِ المسؤوليّةِ تحتاجُ إلى شجاعةٍ قد لا يقوى عليها الكثيرون! ولهذا نجدُ من الناسِ مَن يهربُ من ممارسةِ الحرّيّةِ، الّذي هو نفسُه هروبٌ من تحمُّلِ المسؤوليّةِ! ذلك أنْ تسأَلَ نفسَك لِمَ تحتاجُ كلُّ ورقةٍ رسميّةٍ في بلادِنا إلى توقيعاتٍ لا حصرَ لها؟! لأنّ كلَّ موظَّفٍ لا يريدُ هو نفسُه أن (يتحمَّلَ المسؤوليّةَ) يعني لا يريدُ أن يكونَ حرًّا: إنّه يهربُ من ممارسةِ الحرّيّةِ، فيضطرُّ إلى إلقاءِ المسؤوليّةِ على غيرِه، يريدُ من الآخرين أن يمارِسُوا هم الحرّيّةَ! وهكذا تستطيعُ أن تحكمَ وأنتَ مطمئنٌّ بأنّ البيروقراطِيّةَ تعني العبوديّةَ، وأنّ المجتمعَ البيروقراطيَّ مجتمعٌ من عبيدٍ يرفضون ممارسَةَ الحرّيةِ وتحمُّلِ المسؤوليّةِ!

المعرفةُ الّتي نتحدّثُ عنها ويحتاجُ إليها مجتمعُنا العربيُّ - هي المعرفةُ العلميّةُ الّتي تفسّرُ الأشياءَ والظواهرَ تفسيرًا علميًّا لا خرافيًّا، ونحنُ نخطئُ كثيرًا عندما نظنُّ أنّ هذه المعرفةَ الجديدةَ الّتي ننشدُها سوف تحُلُّ في ذهنٍ فارغٍ أو أنّ هناكَ إنسانًا يمكنُ أن نقولَ عنه إنّ ذهنَه صفحةٌ بيضاءُ وبعبارةٍ أخرى: إنّنا قد نتصوّرُ، خطأً، أنّه يمكنُ أن يكونَ هناك إنسانٌ يحملُ عقلًا بلا بُنيةٍ ولا معارفَ! ومن ثمَّ نذهبُ إلى القولِ بإنّ المعرفَةَ تخرُجُ من الجهلِ، كما يخرُجُ النورُ من الظُلمةِ.

ويفوتُنا كما يقولُ الفيلسوفُ الفرنسيُّ المعاصر جاستون باشلار (1884-1962) G.Bachelard (إنّ الجهلَ إنّما هو نسيجٌ من الأخطاءِ الموضوعيّةِ الصُلبةِ المتماسكةِ، وهكذا لا نضعُ في أذهانِنا أنّ الظلماتِ الروحيّةِ لها بُنيةٌ Structure، وأنّ كلَّ معرفةٍ موضوعيّةٍ سليمةٍ يجبُ أن تكونَ تصحيحًا لخطأٍ ذاتيٍّ!) فالإنسانُ الجاهلُ ليس جاهلًا لأنّ ذهنَه يخلو من كلِّ معرفةٍ، بل هو كذلك لأنّ لديه معارفَ خاطئةً، والمجتمعُ المتخلِّفُ ليس متخلِّفًا لأنّه لا يفسّرُ ظواهرَ طبيعيّةً أو أحداثَ التاريخِ، وإنّما هو مُتخَلِّفٌ، لأنّ لديه تفسيراتٍ ومعارفَ كلُّها خاطئةٌ! فالمعرفةُ العلميّةُ الجديدةُ سوف تحُلُّ محلَّ معرفةٍ قديمةٍ غيرِ علميّةٍ وأنت عندما تقولُ للفردِ تشجّع واعرِف! فإنّك تقولُ له تشجّع وتخلّص من المعارِفِ القديمةِ، كن جريئًا واطرحْ ما لديك من معلوماتٍ خاطئةٍ!


*240*

وفضلًا عن ذلك كلِّه فإنّ المعرفةَ الجديدةَ تحتاجُ إلى صبرٍ ومعاناةٍ وجَلَدٍ، تحتاجُ إلى إرادةٍ قويّةٍ لا تخافُ عندما تصحِّحُ ما لديها من أخطاءٍ، لديها الجرأةُ في أن تضَعَ لنفسِها قِيَمًا ومُثُلًا عُليا جديدةً، إرادةً تسهرُ الليلَ لتقرَأَ وتُطالعَ لا لتسمَرَ مع الأصدقاءِ، تفضِّلُ الكتبَ على الوجبةِ الدسمةِ، تقولُ لنفسِها إنَ (غذاءَ الفكرِ) أهمُّ من (غذاءِ البدنِ) لأنّ الإنسانَ إنّما يكونُ إنسانًا لأنّه (يفكرُ) وَ (يعرفُ) وَ (يعقلُ) - وليس لأنّه يأكُلُ ويشربُ ويمارسُ الجنسَ!

نعم! المعرفةُ تحتاجُ إلى إرادةٍ شُجاعةٍ تنقلُ الفردَ من حظيرةِ الحيوانِ إلى مرتبةِ الإنسانِ! ومن ثمّ فإنّ الشعارَ الّذي يقولُ لك (تشجّع واعرِف!) يقول لك في الوقتِ نفسِه (تشجّع واستخدم عقَلك!) تشجّع وفكّر باختصار (تشجّع وكن إنسانًا!).

أفكار ومواقف، القاهرة: مكتبة مدبوليّ، 1996.


*241*

مفاتيح النصّ:

نوعُ المقالةِ، الأفكارُ المركزيّةُ، منهجُ الكاتبِ في استعراضِ الموضوعِ، مميّزاتُ اللغةِ في المقالةِ، الحقيقةُ والرّأيُ، المغزى من المقالةِ، التعريفُ بالأعلامِ العربِ المذكورين ودورهِمِ في النهضةِ.

مهامّ:

1.يشيرُ الكاتبُ إلى أنّ معرفةَ الإنسانِ عملةٌ ذاتُ وجهينِ. بيّنْ هذينِ الوجهينِ، ثمَّ اِشرحِ العلاقةَ بينهُما.

2. ما نوعُ المعرفةِ التي يحتاجُ إليها مجتمعُنا العربيِّ برأيِ الكاتبِ؟ وما هو أثرُها؟

3. ما هو موقفُ الكاتبِ من المجتمعِ العربيِّ؟ وما رأيكَ في موقفِه؟

4. ما نوعُ المقالةِ أعلاهُ؟ أجبْ معتمدًا على عرضِ ميزاتِها مع إيرادِ الأمثلةِ.

5. يشيرُ الكاتبُ إلى أنّ الطلّابَ في المجتمعِ العربيِّ لا يستفيدونَ ممّا يُعرضُ عليهم من معلوماتٍ وثقافةٍ، لأنَّ لديهم منَ الأجوبةِ أكثرَ بكثيرٍ ممّا لديهم منَ الأسئلةِ ما معنى هذا التصريحِ؟ وكيفَ يمكنُ برأيكَ أن نغيّرَ هذا الواقعَ؟

6. ما المنهجُ الّذي اعتمدهُ الكاتبُ في تنظيمِ مقالتهِ؟

7. أشرْ إلى عددٍ من الجملِ، بعضُها يدلُّ على حقيقةٍ والأخرُ يدلُّ على رأيٍ.

8. اِخترْ ثلاثَ فِقراتٍ في النصِّ ثمَّ ضعْ لكلٍّ منها عنوانًا مناسبًا.

9. ما فائدةُ استخدامِ الكاتبِ لأسماءِ الفلاسفةِ والعلماءِ واقتباسِ أقوالهِمْ في النصِّ؟

10. يكادُ النصِّ يخلو من الصورِ البلاغيّةِ والمحسّناتِ البديعيّةِ؟ ما سببُ ذلكَ؟

11. ما المغزى من النصِّ؟

12. هل صرّحَ الكاتبُ بموقفهِ في المقالةِ؟ وَضِّحْ بالاعتمادِ على النصِّ.

13. يقولُ الشاعرُ أحمد شوقي في أحدِ أبياتهِ:

وما نيلُ المطالبِ بالتمنّي ولكن تؤخذُ الدنيا غِلابا

كيفَ يرتبطُ مضمونُ البيتِ مع ما جاءَ في النصِّ؟


*242*

الفصل الخامس: المطالعة الحرّة


*242*

السِّجَادةُ العجميّةُ

حنان الشيخ

لمّا انتهتْ مريمُ مِنْ تضْفيرِ شَعْري إلى ضَفيرتينِ، مدّتْ إصبَعَها إلى فمِها تلحسُها ثمَّ مرَّتْ بِها على حاجِبي وهيَ تزفرُ آهِ من حواجبِكِ، شي طالع، شي نازل. اِلتفتتْ بعَجَلَةٍ إلى أُختي وهي تقولُ: شوفي إذا أبوك بعده عم يصلّي. لم أنتبهْ إلّا وأختي تعودُ وتهمسُ: بعده، ومدّتْ يديْها ترفعُهُما إلى السماء تقلّدُهُ. ولمْ أضحكْ كالعادةِ، ولمْ تضحكْ مريمُ بلْ تناولتْ الإيشاربَ من على الكرسيِّ تغطّي شَعْرَها وتعقدُهُ بسرعةٍ عندَ رقبتِها. فتحتِ الخزانةَ على مهلٍ وتناولتْ شنطةَ يدِها، أدخلَتْها حتّى وصلتْ إبْطَها ومدّتْ لنا يدَيْها، فأمسكْتُ أنا بواحدةٍ وأختي بالأخرى. وفهمْنا أنَّ عليْنا السيْرَ على رؤوسِ أصابِعِنا مثْلَها، ونحبسَ أنفاسَنا ونحنُ نخرجُ من بابِ الدارِ المفتوحِ. ننزلُ الدرجَ ورؤوسُنا تلتفتُ صوْبَ البابِ. ثمَّ صوْبَ الشبّاكِ. لمّا وصلْنا آخرَ درجةٍ، ابتدأْنا بالركضِ ولمْ نتوقَّفْ إلّا عندَما اختفى الزاروبُ وقطعْنا الشارعَ وأوقفتْ مريمُ سيّارةَ أجرةٍ.

كانَ تصرّفُنا واحدًا، يدفعُهُ خوفُنا، فاليومَ سنرى أمّي لأوّلِ مرّةٍ منذُ انفصالِها بالطلاقِ عن والدي الّذي أقسَم بأنّهُ لنْ يدعَها ترانا. فالخبرُ بأنَّها سوفَ تتزوّجُ من رجلٌ كانتْ تُحبُّهُ قبلَ أنْ يُزوّجِها أهلُها بالقوّةِ منْ والدي انتشرَ بعدَ ساعاتٍ منْ طلاقِهِما.

قلبي يدقُّ. فهمْتُ أنَّ ضرباتِهِ ليستْ آثارَ الخوفِ والركضِ، بلْ منْ رهبةِ هذا اللقاءِ. منَ ارتباكي المنتظرِ. فأنا قدْ حفظْتُ نفسي وخجلي. مَهْما حاولْتُ فأنا لا أستطيعُ إظهارَ عاطفتي حتّى لأمّي. لنْ أقدرَ على الارتماءِ بينَ ذراعَيْها، وطَمْرِها بالقُبلاتِ وإمساكِ وجهِها كما تفعلُ أختي، أو كمَ هي طبيعتُها. فكّرْت بهذا طويلًا منذُ أنْ أسَرّتْ مريمُ في أُذُني وأذنِ شقيقتي بأنَّ أمّي أتتْ منَ الجنوبِ، وَأنّنا سنزورُها خِلْسةً في الغدِ. أخذْتُ أفكّرُ بأنّي سوفَ أُجْبرُ نفسي


*243*

على أنْ أتصرّفَ كما تتصرّفُ أختي تمامًا، سأقفُ خلْفَها وأقلّدُها عنْ لا وعْيِ التقليدَ الأعمى، كما يقولُ المثلُ. لكنْ، أنا أعرفُ نفسي. لقد حفظْتُها غيّبًا. مَهْما أحاولْ إجبارَها ومَهْما أفكّرْ مسبقًا بأنّهُ يجبُ ولا يجبُ أجدْني أنسى، ما صمّمْتُ عليه وأنا في الحدَثِ نفسِهِ ووقفْتُ ونظري إلى الأرضِ. وجبيني قد زادَ تقطيبُهُ حتّى وأنا في هذا الوضع لا أيأسُ، بلْ أتوسَلُ لِفمي حتّى تتفرجَ شفتاهُ عنِ ابتسامةٍ لكنْ بلا فائدةٍ.

لمّا توقّفتْ سيّارةُ الأجرةِ عندَ مدخلِ بيتٍ يقفُ على كلِّ منْ عمودَيْةِ أسدانِ منْ حجَرٍ رمليٍّ أحمرَ، فرحتُ، نسيْتُ للحظةٍ قلقي وتوجّسي. وعمّتْني السعادة لأنَّ أمّي تسكنُ في بيتٍ يقفُ عندَ مدخلِهِ أسَدانِ، وسمعْتُ أخْتي تقلّدُ زئيرَ الأسدِ، التفتُّ إليها أحسدُها. ورأيْتُها تمدُّ يدَيْها عاليًا تحاولُ هَبْشَ أحدِ الأسدَيْنِ. فكّرْتُ: هيَ دائمًا بسيطةٌ، مرحةٌ، مرحُها لا يفارقُها حتّى في أحرجِ اللحظاتِ. وها هي ليسَتْ متوهّمةٌ منْ هذا اللقاءِ.

لكنْ، لمّا فتحَتْ أُمّي البابَ ورأيْتُها، وجدتُني لا أنتظرُ أحدًا، بلْ أُسرعُ وأرتمي بينَ ذراعَيْها، قبلَ أُخْتي. وأغمضُ عينيَّ. وكأنَّ كلَّ مفاصلِ جسمي قد نامتْ بعدَ أنْ تعذّرَ عليها النومُ مدّة طويلةً. وشممْتُ رائحةَ شَعرِها التي لم تتغيرْ. واكتشفْتُ لأوّلِ مرّةٍ كمْ أفتقدُها، وتمنّيْتُ لو تعودُ تعيشُ معَنا، رغمَ حنانِ واهتمامِ والدي ومريمَ بِنا، وَتُهْتُ أتذكّرُ ابتسامَتَها عندما رضِيَ والدي بطلاقِها بعدَ أنْ تدخّلَ شيخُ الدينِ عقبَ تهديدِيها لهُ برمْي وحرْقِ نفسِها بالكازِ إذْ لمْ يتمَّ طلاقُها. أتخدّرُ منْ رائحتِها التي حفظَتْها كلّ حواسّي. أفكّرُ كمْ أفتقِدُها رغمَ أنّنا عندما أسرعَتْ وراءَ خالي تصعدُ السيّارةَ بعدَ أنْ قبّلتْنا وأخذتْ تبكي، استأنفْنا لعبَنا في زاروبِ بيتِنا. ولمّا أتى الليلُ، ولم نسمعْ لأوّلِ مرّةٍ، منذُ زمنٍ، خلافَها ومشاحنتَها معَ والدي، خيّمَ الهدوءُ على البيتِ إلّا منْ بكاءِ مريمَ التي تربطُ والدي بصلةِ القرابةِ والتي وَعَيْتُ عليها وهيَ في البيتِ تقيمُ معنا.

تُبعدُني أُمّي عنْها مبتسمةً لتضمَّ شقيقتي وتقبّلَها، وتعودُ تضمُّ مريمَ التي أخذتْ تبكي وسمعتُ أمّي تقول لها باكيةً: كثّر خيرك مسحَتْ دموعَها بكُمِّها، وعادتْ تتأمّلُني وتتأمّلُ شقيقتي وتقولُ: يخزي العين، عم تطوَلوا ثمّ أحاطتْني بذراعَيْها بينَما غمرّتْ أُخْتي خصرَ أمّي وأخذْنا نضحكُ عندَما تعذّرَ عليْنا الخطوُ بسهولةٍ. لمّا وصلْنا الغرفةَ الداخليَّةَ أيقنْتُ أنّ زوجَها الجديدَ


*244*

في الداخلِ لأنَّ أُمّي قالتْ وهيَ تبتسمُ: محمود بحبّكم كثير، وبتمنّى لو أبوك يعطني إيّاكم، حتّى تعيشوا معنا وتصيروا كمان أولاده. وردّتْ أُختي ضاحكةً يعني بصير عندنا أبوان؟ وأنا لا زلْتُ مخدّرةً أضعُ يدي فوقَ ذراِع أُمّي فخورةً منْ تصرّفي. منْ إفْلاتي منْ نفسي ومنْ يديَّ المكبّلتينِ ومنْ سجنِ خجلي بلا جهدٍ. وأنا أستعيدُ صورةَ لقائي معَ أُمّي والارتماءِ تلقائيًّا عليها، والذي كنتُ أحسبُهُ أمرًا مستحيلًا، وتقبيلِها لدرجةِ أنّي أغمضْتُ عينيَّ. زوجُها لمْ يكنْ هناك.

أفتحُ عينيَّ، وأبحلقُ في الأرضِ ثمَّ أجمدُ. أضطربُ، أنطرُ إلى السَجّادةِ العجميّةِ المطروحةِ على الأرضِ، أنظرُ على أُمّي نظرةً طويلةً. لمْ تفهمْ معنى نظرَتي. بلِ اتّجهتْ إلى خزانةٍ تفتُحها وترمي لي ببلوزةٍ مطّرّزةٍ. وتتّجه إلى دُرجِ تواليتِ زينتِها وتتناولُ منُه مشطًا عاجيًّا رُسِمَ عليهِ قلوبٌ حمراءُ تُعطيهِ لأُختي. أحدّقُ في السجّادةِ العجميّةِ وأنتفضُ حنقًا، وغِلًّا. عدْتُ أنظرُ إلى أُمّي، وفسّرتْ نظرَتي اشتياقًا وحنانًا، لأنّها أحاطتْني بذراعَيْها وهيَ تقولُ: لازم تجو كلّ يومين، ولازم يوم الجمعة نقضوه عندي. لبثْتُ جامدةً. وددْتُ لوْ أُبعدُ ذراعَها. لو أعضُّ زندَها الأبيضَ. وددْتُ لو تتجدّدُ لحظةُ اللقاءِ وتفتحُ البابَ وأقفُ كما كانَ يجبُ، نظري إلى الأرضِ، مقطبّةَ الجبينِ. عيناي الآنَ تنظرانِ في السجّادةِ العجميّةِ ذات الخطوطِ والألوانِ المطبوعةِ في ذاكرتي. كنْتُ أستلقي عليها وأنا أدرسُ، أجدُ نفسي قريبةً منها لدرجةٍ، فأتأمّلُ نقشَها وأشبّهُهُ بحزِّ بطّيخٍ أحمرَ، الواحدُ تلوَ الآخرِ. وعندما أجلسُ على الكنبةِ، أرى الحزَّ قدْ تحوّلَ إلى مِشطِ لهُ أسنانٌ رفيعةٌ.

كانَ لونُ باقاتِ الورودِ المحيطةِ جوانبَها الأربعةَ، أرجوانيّةَ اللونِ، شبيهةً بلَوْنِ نبتةِ عُرفِ الديكِ.

ككُلِّ مطلعِ فصلِ صيفٍ كانتْ أُمّي تطرحُ حبوبَ النفتالينَ عليْها وعلى باقي السجّاداتِ، تلفُّها وتضعُها فوقَ الخزانةِ. كانتِ الغرفةُ تبدو شاحبةً، حزينةً إلى أتْ يطلَّ الخريفُ، وتصعدَ بها أُمّي حتّى السطحِ تفرشُها، تلتقطُ حُبيباتِ النفتالينِ التي تكونُ قد ذابَ معظمُها منْ حرِّ ورطوبةِ الصيفِ، تكنسُها بمكنسةٍ صغيرةٍ وتتركُها فوقَ السطحِ. في المساءِ تُنزلُها أُمّي وتفرشُها مكانَها وتعمُّني السعادةُ، الحياةُ تعودُ إلى الغرفةِ وألوانُها أكثرُ ابتهاجًا. لكنْ، هذهِ السجّادةُ اختفتْ قبلَ طلاقِ أُمّي بأشْهُرٍ وهي تتشمّسُ، متمدّدةً على أرضِ السطحِ، عندما صعدتْ أمّي عندَ العصرِ لتأتيَ بها، ولمْ تجدْها. بل نادتْ والدي الذي رأيْتُ الحُمرةَ تعتلي وجْهَهُ للمرّةِ الأولى، نزَلا


*245*

منَ السطحِ والغضبُ والحيرةُ تطيرُ منْها وتصلُ الجيرانَ الذين أقسمَ كلٌّ منْهم أنّهم لمْ يَرَوْها. صاحت أُمّي فجأةً إيليّا وانعقدَ لسانُ الجميع. لسانُ أبي ولساني ولسانُ أختي ولسانُ جارتِنا وجارِنا. ووجدْتُني أصيحُ: إيليّا؟ حرام، مش معقول.

إيليّا، كانَ رجلًا شبهَ ضريرٍ يتردّدُ على بيوتِ كلِّ الحيّ، يُعيدُ تقشيشَ كراسيهم الخيزرانيّةِ. ولمّا وكانَ يأتي دَوْرُنا وأراهُ بعدَ أنْ آتيَ منَ المدرسةِ يجلسُ على المصطبةِ، وأمامَهُ أكوامُ القشِّ وشعرُهُ الأحمرُ يبرقُ تحتَ الشمسِ. يمدُّ أصابَعَهُ يتناولُ خيطَ القشِّ بسهولةٍ وكأنّهُ سمكةٌ تمرُّ منْ بينَ الشِباكِ المنصوبةِ دونَ أن تُمَسَّ بأيّ أذًى. وأراهُ بخفّةٍ ومهارةٍ يُدخلُها منْ ثقبٍ ويلفُّها ويعودُ يُخرجُها حتّى تتكوّنَ شكلَ دائرةٍ منَ القشِّ في قعدةِ الكرسيِّ كالدائرةِ التي قبلَها والتي تليها. كلُّها متساويةٌ، متشابهةٌ وكأنَّ يديْهِ آلةٌ. كنْتُ أتعجّبُ لسرعتهِ ومرونةِ أصابعِهِ ولأنّهُ كانَ يجلسُ منحنيَ الرأسِ كأنَّ عينيهِ تبصرانِ. شككْتُ مرّةً بأنّهُ لا يرى إلّا العتمةَ ووجدْتُني أقرفصُ وأنظرُ إلى وجههِ المتورّدِ الأحمرِ، فأرى عينَيْهِ مُغمضتينِ تحتَ النظّاراتِ وكانَ فيهما خطٌّ أبيضُ حزَّ في قلبي وجعلَني أُسرعُ إلى المطبخِ فأرى كيسَ تمرٍ على الطاولةِ أمدُّ يدي أضعُ كومةٌ في صحنٍ أقدّمهُ لإيليّا.

وأنا لا أزالُ أحدّقُ في السجّادةِ. طافتْ صورةُ إيليّا الأحمرِ الشَعرِ والوجهِ، فطنتُ إليهِ وهو يصعدُ الدرجِ وحدَهُ، وهوَ يجلسُ على كرسيّهِ، وهوَ يساومُ، وهوَ يأكلُ ويعرفُ أنّهُ أكلَ كلَّ ما في الصحنِ. وهوَ يشربُ منَ الإبريقِ، والماءُ ينصبُّ في حلقهِ بسهولةٍ. لمّا جاءَ ذاتَ ظُهرٍ وقدْ تعلّمَ منْ والدي أنْ يقولَ الله قبلَ أنْ يقرعَ ويدخلَ، لربّما أُمّي كانتْ بلا حجابٍ، هَجَمَت أمّي عليهِ تسألُهُ عنِ السجّادةِ، ولمْ يقلْ شيئًا، بلْ أصدرَ صوتًا يُشبهُ البكاءَ. ولمّا مشى تعثّرَ لأوّلَ مرّةٍ، وقاربَ على الاصطدامِ بالطاولة، اِقتربْتُ أُمسكُ بيدِهِ، فأمسَكَها وقدْ عرفَني منْ لمسةِ يدي. لأنّه قالَ لي بصوتٍ يُشبهُ الهمسَ: معليش عمّ واستدارَ يخرجُ. اِنحنى ينتعلُ حذاءَهُ، وكأنّي رأيْتُ دموعًا خفيفةً على خدَيْهِ. ولمْ يتركْهُ والدي بل سألَهُ: الله يسامحك يا إيليّا، إذا قلت الحقيقة. لكنّ إيليّا مشى يستندُ على درابزينِ الدرجِ. ينزلُ الدرجاتِ، آخذًا وقتًا على غيرِ عادتِهِ في تحسّسِ طريقِهِ، حتّى اختفى ولم نعدْ نراهُ.


*246*

النمل والقات


*246*

حيدر حيدر

عندما زحفتِ النملةُ الأولى متسلّقةً إصبعَ قدمِ محمودِ بنِ عبدِالله الزبيريِّ، رنا اليها وهوَ مُستلقٍ تحتَ الشجرةِ. داهمتْهُ ضحكةٌ بلهاءُ مسترخيةٌ وهوَ يرى هذا المخلوقَ الضئيلَ يتسلّقُ جسدَهُ الضخمَ. باسترخاءٍ عذبٍ مضغَ مضغةَ القاتِ ثمَّ حرّكَها في فمِهِ، فشعرَ بمتعةِ رجلٍ يدغدغُ ثديَ امرأة.

قالَ محمودُ بنُ عبدِالله الزبيريُّ لنفسِهِ: آه. كَمْ هُمْ مساكينُ أولئكَ المحرومونَ منْ هذهِ الرعشةِ!

كانتِ الشمسُ تتخلّلُ منْ ثغراتِ الأغصانِ، باعثةً معَ لذّاتِ القاتِ نوعًا منَ الخدرِ المنعشِ في جسدِ الرجلِ المُلقى بينَ الظلِّ والشمسِ، ومنْ مقهَى مجاورٍ انسابَ صوت مُغنّيةٍ شرقيّةٍ، ماتعًا، هابطًا بهِ نحو سكونيّةٍ خالدةٍ.

كانَ يمتصُّ مضغةَ القاتِ ويعتصرُها بشبقٍ عندما جاءتْ نملةٌ أخرى تتبعُها رفيقتُها، وراحتا تتسلّقانِ الأصابعَ نحوَ الجسد المُسجّى.

كانَ صعودُ النملةِ الثالثةِ يدغدغُهُ، وإذ قرضتْهُ بفمِها المتناهي في الصغرِ، أحسّ وكأنَّ شوكةً صغيرةً تخِزُّهُ.

قالَ محمودُ بنُ عبدِاللهِ: يا لَلنملِ ما أحمِقَهُ! وبحركةٍ بطيئةٍ ناعسةٍ حرّكَ أصابعَهُ لنفضِ النملةِ أو لسحقِها، غيرَ أنَّ النملةَ كانت أذكى منْ حركتهِ. زاغتْ منْ مكانِها وهبطتْ نحوَ باطنِ قدمِهِ.

تسرّبَ الجدارُ الى خلايا الرجلِ المستلقي. كانَ منتشيًا بالشمسِ والقاتِ والصوتِ العذبِ المريحِ لكوكبِ الشرقِ. وبعثَ فيهِ الخدرُ رؤَى وأحلامَ يقظةٍ ملوّنةً كقوسِ قزحَ. ورأى في ما رأى أنّه يطيرُ فوقَ الحقولِ والجبالِ حتّى يصلَ الى مواطنِ النجومِ، ورأى هذهِ النجومَ وقد تحوّلتْ أزهارًا، وراحَ يقطفُها ثمَّ يزرعُها في عُروتِهِ ويختالُ بها كالطاووسِ. ثمّ رأى أنَّ هذهِ


*247*

النجومَ قد تحوّلتْ الى كراتٍ منَ الذهبِ، راحَ يبيعُها في ساحةِ المدينةِ ويشتري بأثمانِها بنادقَ وخيولًا وصقورًا وكلابًا للصيد.

ولمّا سئمَ منَ النجومِ والذهبِ والبنادقِ والصقورِ، حُلمَ بنساءٍ بيضاواتٍ وجوهُهُنَّ في لونِ الثلجِ، وشعورُهُنَّ كسنابلِ القمحِ، ولونُ عيونِهِنَّ كلونِ البحرِ.

ثمَّ رأى نفسَهُ مرّةً أخرى فارسًا يخترقُ الريحَ بيدِهِ سيفٌ ورمحٌ، وأنّهُ صارَ ملِكَ العالمِ بلا مُنازعٍ، وها هيَ الأرضُ تحتَ قدميْهِ، يأمرُ وينهى بما يشاءُ وحولَهُ العبيدُ والجواري، والجنودُ طوعُ بنانِهِ. ابتدأ يتزوّجُ اكثرَ منَ امرأةٍ، وخصّصَ لكلِّ امرأةٍ قصرًا وخصّصَ لكلِّ زوجةٍ ليلةٍ. ولمّا استقرّتْ مملكتُهُ رأى أنَّ عليهِ أن يتخلّصَ منْ جميعِ أعدائِهِ، وفي مقدّمتهِم جارتُهُ القديمةُ ذاتُ اللسانِ السليطِ التي اشتهاها ولكنَّها صدّتْهُ. جاءَ بها وحاكَمَها وطلبَ اليها أنْ تركعَ قربَ قدميْهِ عاريةً، وأنْ تعترفَ بهِ ملكًا لا مثيلَ لهُ في الرجولةِ والشجاعةِ، ثمَّ طلبَ منْ سيّافِهِ أنْ يقطعَ لسانَها ويُرسلَها الى عبيدِهِ ليناموا مَعَها واحدًا تلوَ الآخرِ.

ثمَّ أمرَ الملكُ السعيدُ محمودُ بن عبدِاللِه الزبيريُّ، أنْ يُؤتى لهُ برجلٍ وصمَهُ يومًا بأنَّهُ عنّينٌ وغبيٌّ وأحمقُ وطلبَ منْ جلّاديهِ أنْ يضربوهُ حتّى يسيلَ منهُ الدمُ، ثمَّ يقطعوا أعضاءَهُ التناسليّةَ ويرموها للكلابِ أمامَ الناسِ جميعًا.

هكذا بدأَ محمودُ بنُ عبدِاللهِ الزبيريُّ يثأرُ منْ أعدائِهِ واحدًا واحدًا، وهوَ متسلّقٌ فوقَ عرشِهِ بينما النملُ الصغيرُ الحقيرُ يصعدُ الجسدَ السابحَ في غيبوبتِهِ وأحلامِهِ. كانَ النملُ يشقُّ دروبَهُ متقاطرًا على مهلٍ وهوَ يغزوهُ بطمأنينةٍ.

ها قدْ بدأتْ أجفانُ الرجلِ تثقلُ، وراحتِ الرؤى والتصوّراتُ تتراقصُ وتنتقلُ منْ خيالٍ الى آخرَ، ومنْ نجمٍ الى نجمٍ، ومنْ جبلٍ الى جبلٍ، ومنْ مدينةٍ الى مدينةٍ، محمولًا فوقَ ريحٍ رُخاءٍ، بينَما يسيلُ صوتُ المغنّيةِ الشرقيّةِ العذبُ، سيلانَ هذا القاتِ العظيمِ داخلَ الخلايا العطشى.

نامَ محمودُ بنُ عبدِاللهِ الزبيريُّ بينَما الشمسُ بدأتْ تدخلُ غيابَها، وحملَهُ السباتُ العميقُ نحوَ جُزرٍ نائيةٍ مليئةٍ بجنّياتِ البحرِ والكنوزِ المخبّأةِ. كنوزٍ منَ الياقوتِ والماسِ والقاتِ، ورأى


*248*

أنَّ جميعَ هذه الجُزرِ بكلِّ كنوزِها وصخورِها وشجرِها قد تحوّلتْ الى غابةٍ منْ شجرِ القاتِ، فطوّقَها بكلتا ذراعيْهِ وراحَ يمضغُها بوحشيّةٍ لذيذةٍ.

كانَ النملُ قد تحوّلَ الآنَ الى جيوشٍ. زحفتْ منْ كلِّ فجٍّ عميقٍ فاحتلّتْ جسدَ الرجلِ الحالمِ، وراحتْ تجوسُ خلالَهُ بحرّيّةٍ مطلقةِ، واذْ تأكّدتْ بغريزتِها النمليّةِ أنَّ الرجلَ قدِ استوى خارجَ محيطِ اليقظةِ وأنَّ المضغَ قد توقّفَ، رنتْ الى ضحكتِهِ العريضةِ البلهاءِ الساكنةِ، ثمَّ بدأتْ عملَها الدؤوبَ بهذهِ الغنيمةِ التي تحوّلتْ الآنَ الى ما يُشبهُ الجثّةَ.

دمشق 1970.


*249*

وجهٌ جديدٌ


*249*

حليم بركات

منذُ سنةٍ كانَ في الحقلِ. في يومٍ خريفيٌّ كهذا اليومِ. إنّما هوَ الآنَ في المدينةِ في بيروتَ. كلُّ ما فيها يزدحمُ ويختلطُ ويضطّربُ كهذهِ الأفكارِ في رأسِهِ. كأنّها ليستْ أفكارًا إنّما أشياءُ تعبرُ في رأسِهِ. المقعدُ الذي يجلسُ عليهِ، الطبيبُ الذي أقفلَ البابَ وراءَهُ بغضبٍ وسرعةٍ. كلُّ شيءٍ يمرُّ في وجودِهِ ضاربًا أقدامَهُ على بلاطِ ضميرِهِ - كلُّ شيءٍ ما عدا أَمْسَهُ وقرعاتِ الجرسِ الثلاثَ.

كانَ في الحقلِ منذُ سنةٍ. معولُهُ يرتفعُ إلى فوقٍ ويضربُ ذاتَهُ في الترابِ اليابسِ. لماذا يعملُ؟ لمنْ يعملُ؟ لنْ يقلبُ الترابَ ويُودعُهُ الحبوبَ؟ والكرمةُ يعتني بها لماذا؟ أجلْ، لماذا؟ لقدْ أصبحَ في الخمسينَ منْ عُمرِهِ. زوجتُهُ أكبرُ منْهُ أيضًا. عشرونَ سنةً عاشَها معَها فما استطاعَ أوْ لمْ تستطعْ هيَ أنْ تُنجبَ لهُ طفلًا منْ أجلِهِ يهبُ ذاتَهُ. المعولُ والترابُ والحبوبُ تُدفنُ، تتحرّكُ، تشقُّ الترابَ، تنمو صوبَ السماءِ وتنحني سنابلَ مثقلة.

تُرى الشمعاتِ التي أحرقَها في الكنيسةِ لماذا لم يقبلْها الله؟ ماذا لوْ أعطاهُ طفلًا يُنسيهِ أنّهُ سيموتُ غدًا، وأنّهُ أكثرُ منْ صنمٍ لا يستطيعُ أنْ يكونَ غيرَ وجودِهِ ماذا لوْ رزقَهُ اللهُ طفلًا - صبيًّا كانَ أوْ فتاةً - فيداعبُهُ، يحملُهُ على ذراعيْهِ. يرفعُهُ صوبَ السماء يقرصُ خدَّهُ المورّدَ فيبكي وما يسكتُ إلّا عندَما يُغنّي لهُ أغنِيّةً كانَ يسمعُها وهوَ طفلٌ. يحملُهُ على ظهرِهِ ويحبو بهِ في أنحاءِ البيتِ كانَ باستطاعتِهِ أيضًا أنْ يعلّمَهُ أشياءَ كثيرةً - حتّى الشتائمَ ويشتري لهُ ما لمْ يحلمْ بهِ طفلٌ منْ أطفالِ القريةِ - حتّى أبناءِ الأغنياءِ. تُرى، كلَّ تلكَ الشمعاتِ حُرقتْ وكأنَّها لمْ تُحرقْ لوْ أنّ لهُ طفلًا لما طمعَ أخوهُ بالحقلِ، ولما اعتبرَهُ الناسُ بلا رجولةٍ. ماذا لوْ كانَ لهُ مولودٌ هوَ قطعةٌ مِنْ ضلعِهِ تحبو، تكبرُ تكبرُ، ترثُ الأرضَ، وتعبرُ الموتَ؟

في الحقلِ منذُ سنةٍ، تماوجتْ في أذنيْهِ ضرباتُ جرسِ الكنيسةِ حزينةً كذاكَ الأفقِ الرماديِّ يخبّئُ الشمسَ في عُبِّهِ، متلوّيةً هادئةً كغيمةٍ تاهتْ فوقَ شجرةِ السنديانِ في جبهةِ التلّةِ. تُرى مَنْ ماتَ؟ استعرضَ أسماءَ العديدينَ مِنْ أبناءِ القريةِ دونَ أنْ تخطرَ زوجتُهُ في بالِهِ. لقدْ صُعِقَ


*250*

عندَما عرفَ انّها هيَ. شعرَ أنَّ شيئًا ما رافقَهُ عشرينَ سنةً قدِ انفصلَ عنْ ضلوعِهِ فبكى. معظمُ أهلِ القريةِ قالوا إنَّهُ فرحَ لموتِها. لكنَّ الترابَ في الحقلِ ومخدَتَهُ العتيقةَ يشهدانِ أنّهُ بكى وبكى بحرارةٍ وألمٍ. وكثرتْ وشوشاتُ الناسِ عندما تزوَّجَ فتاةً صغيرةً بعدَ مضيِّ عشرينَ يومًا على وفاةِ زوجتِهِ الأولى فقطْ.

ما اتّهموهُ بالفرحِ فقطْ، إنّما اتْهموهُ بالوقاحةِ وخرقِ التقاليدِ وبعدمِ احترامِ الموتِ.

كانَ يجبُ ألّا يفكّرَ بالزواجِ قبلَ مضيِّ أربعينَ يومًا على أقلِّ تعديلٍ.

أهلُ القريةِ جميعًا أنكروا عليْهِ هذا الحقَّ، وخاصّةً أخاهُ. قالوا إنَّهُ بلا دينٍ، وبلا ضميرٍ، وبلا إحساسٍ. وإلّا كيفَ يمكنُهُ أنْ يتناسى مَنْ وهبتْهُ كلَّ حياتِها بمثلِ هذهِ السهولةِ؟ كذلكَ قالوا إنَّ اللهَ لمْ يرزقْهُ ولنْ يرزقَهُ طفلًا لأنَّهُ كافرٌ وشريرٌ رغمَ أنّهُ يتظاهرُ بالبساطةِ والمحبّةِ والتقوى.

واعتزلَ الناسَ. عاشَ وحْدَهُ هوَ والحقلُ والكَرْمُ وامرأتُهُ التي أحبّتْهُ رغمَ كبرِ سنِّهِ. كانتْ تشعرُ أنَّ وجودَها يخفّفُ مِنْ آلامِهِ، كانتْ تتألّمُ في بعضِ الأحيانِ إذْ تحسُّ أنَّ سرورَهُ واعتناءَهُ بها هما سرورٌ واعتناءٌ بشيءٍ ستحملُهُ في جوفِها.

تأكّدتْ مِنْ هذا الشعورِ عندَما ظهرتْ عليها علاماتُ الحبَلِ. فغالبًا، ما كانَ يربتُ على بطنِها ويقولُ مبتسمًا بفرحٍ: يا ملعونُ. ما أطيَبَكَ. اُخرجْ اُخرجْ يا ملعونُ. لقدْ، لقدْ رأيتُكَ. يلعنْ أبوك. يلعن أمّك. اُخرجْ. اُخرجْ. لقدْ رأيْتُكَ.

وتدفعُهُ عنْها فيبتعدُ ضاحكًا. لقدْ حملتْ طفلهَا في رحِمِها كلَّ هذهِ الشهورِ التسعةِ أمّا هوَ فحلَهُ في قلبِهِ وفكرِهِ ترقُّبًا، كلُّهُ لهفةٌ وفخرٌ تتصاغرُ أمامَهُ الأشياءُ التي كانَ في الأمسِ يطأطئُ لها رأسَهُ ذليلًا. في الأمسِ كانَ يسلكُ الطرقاتِ الخاليةَ منَ الناسِ فيتجنّبُ نظراتِهِمُ الشامتةَ، أمّا الآنَ فلا يمرُّ إلّا في وسطِ الساحةِ العامّةِ وقدْ رفَعَ رأسَهُ ورفعَ معَهُ شاربيهِ. فالطفلُ لمْ يكنِ الشيءَ الجديدَ فقطْ في حياتِهِ. سروالُهُ جديدٌ، كذلكَ الكوفيّةُ والعقالُ والحذاءُ. كلُّ شيءٍ أصبحَ جديدًا في حياتِهِ.

وهوَ الآنَ في بيروتَ منذُ ثلاثةِ أيّامٍ. جاءَ بزوجتِهِ إلى المستشفى رغمّ أنّهُ لا يثقُ بالمستشفياتِ ثقتَهُ بالدايةِ التي على يدِها أبصرَ كلُّ أطفالِ القريةِ فجرَ الحياةِ. جاءَ بها إلى المستشفى


*251*

لكيْ يكونَ مختلفًا عنْ أهلِ القريةِ. طفلُهُ كذلكَ سيكونُ مختلفًا. كلُّ ما حُرِمَ منْهُ سيكونُ في متناولِ يدِهِ. لنْ تُشقّقَ الطرقاتُ والأشواكُ قدميْهِ، فسيشتري لهُ حذاءً أحمرُ والبردُ لن يبيتَ في عُبَّهِ، ولنْ تلفحَهُ الرياحُ الثلجيّةُ. سيبعثُهُ أيضًا إلى المدرسةِ فلا يقضي حياتَهُ شريدًا يركضُ وراءَ جَدْيٍ عنيدٍ. وشهوةُ الأكلِ لنْ تدفعَهُ إلى السرقةِ. سيُقدِّمُ لهُ كلَّ شيءٍ - حتّى ابنُ عابد بك سيحسدُهُ على حياتِهِ. ولِمَ لا يكونُ لهُ كلُّ هذا؟ الألفُ ليرةٍ في كوّارة الطحين، لمنْ هيَ؟ والحقلُ والكَرْمُ والبقرةُ والخمسُ عنزاتٍ والأساورُ الذهبيّةُ في معصمِ أُمّهِ، لمنْ كلُّ هذهِ إنْ لمْ تكنْ مِنْ أجلِهِ؟ كلُّها لهُ. لنْ يحرمَهُ مِنْ أيِّ شيءٍ. يكفيهِ هوَ أنّهُ لمْ يعرفِ الحياةِ إلّا حرمانًا.

نعمْ، سيبعثُهُ إلى المدرسةِ فيصبحُ طبيبًا بدَلَ أنْ تأكلَ عصا المعولِ الخشنةُ قطعًا مِنْ أصابعِهِ. يداهُ ستكونانِ نظيفتينِ لا تعكّرُ بياضَهُما قطعةُ غبارٍ صغيرةٌ. ستكونانِ مثلَ يدي الدكتور جميل. ولنْ يموتَ هوَ قبلَ أنْ يراهُ يحملُ السمّاعةَ. عندَ ذاكَ لنْ يحتاجَ أنْ يكنّسَ بيتَ خليل أفندي ولا أنْ يجليَ صحونَهُ أوْ يسقيَ حصانَهُ أوْ يحملَ لهُ جرارَ الماءِ ليغسلَ رجليْهِ. وأخوهُ سيطقُّ منَ الحنقِ كذلكَ. سيطقُّ هوَ وزوجتُهُ وابنُهُ. ظنّوا أنّهُ سيموتُ وتجرُّهُ الكلابُ فيرِثونَ كلَّ شيءٍ. غدًا، عندَما يترجّلُ منَ السيارةِ حاملًا الطفلَ على ذراعيْهِ وتنطلقُ حنجرةُ أُختِهِ بزغردةٍ طويلةٍ متقطّعةٍ، ماذا يقولُ الناسُ؟

المسبحةُ تطقطقُ في يدِهِ فتنسيهِ أنّهُ جالسٌ على مقعدٍ خشبيٍّ في حديقةِ المستشفى منذُ الصباحِ، ولكنَّها ما استطاعتْ أنْ تُنسيَهُ زوجتَهُ وطفلَهُ، فكانَ يُطلُّ كلّما قَصُرَ خيالُهُ رُبعَ قدمٍ على المكتبِ ويسألُ عنْهُما، وفي كلِّ مرّةٍ كانتْ تجيبُهُ الممرّضةُ الجالسةُ وراءَ طاولةٍ ضخمةٍ بعدُ وتعاودُ عملَها. تُرى لماذا تأخّرتْ هكذا؟ لا يذكرُ أنَّ امرأةً واحدةً في القريةِ تأخّرتْ مثلَها.

أصغى إلى طقطقةِ المسبحةِ ثمّ ألقى نظرةً على الشارعِ. لاحقَ الترامْ بنظراتِهِ منذُ أنْ أطلَّ حتّى غيّبَهُ المنعطفُ. وجاءَ الترام الثاني فالثالث ثمّ الرابع. وما راقبَ الأخيرَ إنّما راقبَ شاربِّيْ سائقِهِ الضخمينِ وضحكَ. كأنّهُ مِنَ القريةِ. كَمْ يُشبهُ أبا سلّوم! وضحكَ ثانيةً. ثمَّ التفتَ إلى بائعِ الذرةِ عندَ زاويةِ المستشفى فذكّرتْهُ تلكَ، الأكوازُ الشهيّةُ المشكوكةُ في جانِبَيِ الموقدِ أنّهُ جائعٌ. وقفَ وأدارَ ظهْرَهُ إلى الشمسِ ثمّ قاسَ خيالَهُ فوجدَهُ قدْ أصبحَ قدمًا واحدًا. إنّهُ وقتُ الغذاءِ، لماذا تأخّرَ ابنُ أُختِهِ؟


*252*

وسقطتِ المسبحةُ مِنْ يدِهِ فتناولَها وعادَ يتطلّعُ بأكوازِ الذرةِ. ليشترِ واحدًا. ووقفَ ثمّ جلسِ لا. لا يستطيعُ أنْ يصرفَ المالَ هكذا. غدًا، الطفل يحتاجُ إلى كلِّ قرشٍ يملكُهُ. سينتظرُ ابنَ أُختِهِ فيشتري لهُ صحنَ فولٍ ورغيفينِ وبصلةً وكبيسًا كما فعلَ صباحًا.

وانصرفَ إلى المكتبِ فرفعتِ الممرّضةُ رأسَها وقالتْ بعدُ، قبلَ أنْ يسألَها. لمْ ينطقْ بكلمةٍ إنّما أدارَ ظهرَهُ وعادَ نحوَ الزاويةِ الثانيةِ منَ الحديقةِ. وخطرَ لهُ أن يعدَّ الذين يمرّون في الشارِع 1-55 وجذبتْ نظرَهُ فتاةٌ تسوقُ درّاجةُ بتمهّلٍ وقدِ انحسرَ فستانُها إلى فوقٍ. تابعَ الدرّاجةَ بنظراتِهِ وبمَيْلةٍ مِنْ جسدِهِ إلى الأمام. ثمّ لوّحَ رأسَهُ بغضبٍ عندَما اختفتْ: بنتُ المنحوسِ. تُرى كلَّ بناتِ بيروتَ هكذا؟ لنْ يسمحَ لابنِ أُختِهِ أنْ يتزوّجَ إلّا فتاةً مِنَ الضيعةِ.

وتنبّهَ إلى أنَّ جماعةٌ مِنَ الناسِ مرّتْ في الشارعِ فرفعَ يدَهُ ورماها بحنقٍ على ركبتِهِ: بنتُ المنحوسِ. لقدْ أَنْسَتْهُ أينَ وصلَ.

وعادَ يعدُّ الناسَ مِنْ جديدٍ 1-113 وسمعَ صوتًا نسائيًّا وراءَهُ: يا عمُّ.

فالتفتَ ليجدَ أنَّها الممرَضةُ. وقبلَ أنْ يفوهَ بكلمةٍ قالتْ: الدكتورُ يريدُ أنْ يراكَ.

وقفَ بحركةٍ غيرِ متّزنةٍ: خيرٌ، إنْ شاءَ اللهُ؟ أينَ هوَ؟

في المكتبِ.

وظلَّ يسيرُ وراءَها رغمَ أنّهُ ودَّ لوْ يسبقُها، حتّى إذا ما وصلَ إلى المكتبِ وجدَ الدكتورَ الشابَّ أمامَهُ فقالَ: يا عمُّ.

- نعمْ.

أحنى الطبيبُ رأسَهُ إلى الأرضِ ثمَّ رفعَهُ وقالَ متردِّدًا: إنّها بحاجةٍ إلى عمليّةٍ.

رفعَ يدَهُ المُحَفّرةَ إلى أنفِهِ يمسحُ ذلكَ السائلَ الذي لازمَهُ منذُ أصابَهُ الزكامُ في الأسبوعِ الأخيرِ، وعادتْ يدُهُ إلى تحتٍ تمسحُ حالَها في سروالِهِ فيما كانَ يتنحنحُ بخجلٍ ويسألُ الطبيبَ: عمليّةٌ؟


*253*

هزَّ الدكتورُ رأسَهُ بحنقٍ بينَما كانَ فاضل يحيكُ في فمِهِ كلماتٍ حائرةً: نعمْ، عمليّةٌ، عمليّةٌ، أما سمعْتَ بهذهِ الكلمةِ قبْلًا؟

أحنى رأسَهُ بهدوءٍ وقالَ: سمعْتُ ولكنْ ولكنْ آ آليسَ ه هناك مِنْ خطرٍ يا دكتور؟

وأرادَ أنْ يقولَ لهُ في كلِّ شيءٍ خطر يا عمُّ، غيرَ أنّهُ ابتسمَ وقالَ: الخطرُ قليلٌ جدًّا. نقومُ بمئاتِ العمليّاتِ كلَّ سنةٍ.

- كلُّها تنتهي بالسلامةِ؟

- يعني.

أحنى رأسَهُ إلى الأرضِ وتطلّعَ بحذائِهِ وقالَ: طيّب يا دكتور.

خرجَ إلى حديقةِ المستشفى ثانيةٌ. خمسُ شمعاتٍ لمار الياس. كانَ على وشَكِ أنْ يخصّصَ خمسًا وعشرينَ ليرةٌ لأرملةِ عادل نصار لكنّهُ ضبطَ نفسَهُ في الوقتِ المناسبِ. لا يمكنُهُ أنْ يُبذِّرَ أموالَهُ هكذا. هذهِ الأموالُ أصبحتْ للطفلِ. جلسَ على المقعدِ وترامتْ يداهُ في حضنِهِ. المسبحةُ خشخشتْ في جيبِهِ ولكنَّ يدَهُ مستسلمةٌ لشيءٍ كالخدرِ فليسَ فيها ما يدفعُها لأنْ تتناولَها. كذلك يشعرُ أنّهُ لا يستطيعُ أنْ يعدَّ الناسَ المارّينَ في الشارعِ ولا أنْ يراقبَ الترام. لم يعدْ جائعًا - لا يريدُ أمْ يفكِّرَ أوْ يشعرَ أوْ يجوعَ لا يريدُ إلّا أنْ يستسلمَ للاشيءِ. أغمضَ عينيْهِ. لا شيءَ. العالمُ ليسَ سوى امتدادٍ كالسماءِ الزرقاءِ، كالغيوم البيضاءِ، كالظلمةِ الخائفةِ خارجَ جفونِهِ. بوقُ سيّارةٍ يتفجّرُ في عالمِهِ. الغيومُ البيضاءُ تدورُ عنى نفسِها تدورُ في الظلمةِ تبتعدُ، السماءُ الزرقاءُ تقتربُ، تكادُ أنْ تلتصقَ بجفونِهِ فيفتحُ عينيْهِ. لقدْ عادَ العالمُ مِنْ جديدٍ. الأبنيةُ القائمةُ، عربةُ الترام معلّقةٌ في الهواءِ، الناسُ، الأشجارُ، كلُّ شيءٍ عادَ إليهِ - المسبحةُ ما زالتْ هادئةً في جيبهِ. ما بهِ تُراهُ خائفًا؟ لا شيءَ يدعو للخوفِ. الخوفُ للصغارِ. امرأتُهُ صبيّةٌ تحملُ ألفَ عمليّةٍ. لا شيءَ يدعو للخوفِ. الخوفُ للصغارِ.

في ذلكَ الوقتِ كانَ الطبيبُ قدْ بدأَ العمليّةَ ويدُهُ تتناولُ الةً بعدَ أخرى برشاقةٍ وبراعةٍ. الممرّضةُ تحدّقُ بعينيْهِ بالقطعةِ البيضاءِ على فمِهِ، بالقُفّازاتِ في يديْهِ، بالعرقِ على جبهتِهِ، تنتظرُ شارةً منْهُ فتُقدِّمُ لهُ ما يريدُ. تمدُّ أصابَعها تمسحُ العرقَ عنْ جبهتِهِ ويكملُ عملَهُ دونَ أنْ


*254*

ينتبهُ: وضعُهُ غريبٌ.

- كيفَ؟

استمرَّ في عملِهِ دونَ أنْ يجيبَ، إنّما هزَّ رأسَهُ بشيءٍ منَ الغضبِ. وأدركتْ هيَ حراجةَ الموقفِ فحدّقتْ بهِ مستعدّةً أنْ تُقدِّمَ لهُ ما يطلبُ بسرعةٍ.

- لا يتحرّكُ.

ظلّتْ تراقبُهُ دونَ أنْ تقولَ أيَّ كلمةٍ تراقبُ جبهتَهُ، القطعةَ البيضاءَ على فمِهِ. يداهُ تزدادُ حركةً، تهدأُ تنتزعُهُ إلى العالمِ. لم يصرخْ. وتأوّهَ الطبيبُ بحزنٍ: ميتٌ.

تأمّلتْهُ الممرّضةُ معجبةً بوزنهِ وجمالهِ. ورفعتْ نظرَها إلى الطبيبِ: حرامٌ، ما أجملَهُ.

وأفهمَ صمتٌ خدشَهُ صوتُ الطبيبِ: اِذْهبي واخبريهِ.

- أنا؟ أرجوكَ.

- كفى، اِذهبي، اِذهبي.

خرجتْ بهدوءٍ وحيرةٍ وسمعتْ ضحكةً عاليةً فالتفتتْ صوبَها فإذا هوَ يراقبُ طفلينِ يلعبانِ. تردّدتْ كانَ يبدو عليهِ كأنّهُ يودُّ أنْ يشاركَهُما اللعبَ. وتطلّعَ إلى أكوازِ الذرةِ ولكنّهُ غضَّ بصرَهُ. الطفلُ يحتاجُ كلَّ غرشٍ.

من مجموعة الصمت والمطر

دار مجلّة شعر

بيروت 1958


*255*

قائمة المصطلحات


*255*

الإخبار والإنشاء:

الإخبار أو الجملة الخبريّة هو الكلام الذي يحتمل التصديق أو التكذيب لذاته، كقول عنترة:

جادَتْ يَدايَ لَهُ بِعاجِلِ طَعْنَةٍ بِمُثَقّفٍ صَدْقِ الكُعوبِ مُقَوَّمِ

فيمكننا أن نصدّق ما قاله أو نكذّبه.

الإنشاء أو الجملة الإنشائيّة هو الكلام الذي لا يحتمل التصديق أو التكذيب لذاته. وهو نوعان: إنشاء طلبيّ كالأمر والنهي والاستفهام والتمنّي والنداء؛ وغير طلبيّ كالتعجّب والمدح والذمّ والقسم والرجاء.

من الأمثلة على الإنشاء الطلبيّ قول جرير:

أَبُدِّلَ اللَيْلُ، لا تَسْري كَواكِبُهُ أَمْ طالَ حَتى حَسِبْتُ النَجْمَ حَيرانا؟ (استفهام)

ومن الإنشاء غير الطلبيّ قول النابغة:

لَهُمْ شيمَةٌ لَمْ يُعْطِها اللهُ غَيْرَهُمْ مِنَ الجودِ، وَالأَحْلامُ غَيْرُ عَوازِبِ (مدح)

الأدب (الأدب العربيّ):

هو الكلام البليغ المؤثّر في عواطف المتلقّينَ، ويُعنى بالأثارِ المكتوبة، شعرًا ونثرًا، ويقابله الأدب الشفهيّ وهو ما تتناقله الأجيال من حكايات وأشعار مع تقاليد الشعب. يهدف الأدب إلى الإمتاع، ويلتزم قسم منه بقضايا الشعب، ويتأثّر بالتيارات الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة على مرّ العصور. قُسّم الأدب العربيّ إلى عصور أدبيّة، منها: الجاهليّ، الراشديّ، الأمويّ، العبّاسيّ، الفترة الأندلسيّة، أدب عصر الانحطاط، أدب النهضة، الأدب الحديث.

أدب الرحلات:

لون أدبيّ يتناول فيه المؤلّف الرّحّالة ما يراهُ في رحلاته من عادات وسلوك وأخلاق وأحداث، مستخدمًا السرد والوصف والتوثيق وكتابة الانطباعات. يُعتبر أدب الرحلة، إلى جانب قيمته الأدبيّة والترفيهيّة، مصدرًا هامًا للدراسات التاريخيّة والجغرافيّة والاجتماعيّة المقارنة. اشتُهر العرب بأدب الرحلة، ومن أهمّها (رحلة ابن بطّوطة) (770 هجري).

الأدب المقارن: Comparative Literature

يُعنى هذا الأدب بعقد مقارنة بين آداب الشعوب والأمم، سواء كان ذلك نتيجة تأثير مباشر، أو ثمرة نموّ تلقائيّ مستقلّ، وتكون المقارنة من حيث التشابه في الموضوعات، الأساليب الفنّيّة والتيّارات، دور الشخصيّات


*256*

البارزة، الأسباب الداخليّة والخارجيّة لظهور ألوان أدبيّة جديدة، أو تفرّعاتها. يعاني الأدب المقارن من نظرة استعلائيّة للأدب الغربيّ مقابل الآداب الأخرى، بحيث يعتبر نفسه مركزيًا ومثالًا يحتذى للآداب الأخرى. من موضوعات الأدب المقارن: تأثير الحداثة على الأدب الغربيّ من جهة، وعلى الأدب العربيّ من جهة أخرى؛ ظروف نشأة الرواية الغربيّة، مقابل ظروف نشأتها في الأدب العربيّ.

الإرداف الخَلْفيّ: Oxymoron

تناقض ظاهري ين لفظتين من مجالين مختلفين أو متناقضين، يطوي على حقيقة عميقة بقصد إظهارها، أو تعبيرًا عن الدهشة والإعجاب.

مثال: صديقانِ لدودان، جنّة الرماد، صوت الصمت.

الأساليب البلاغيّة (البلاغة العربيّة):

هي الأساليب التي تندرج تحت علوم البلاغة الثلاثة: البديع، البيان والمعاني. تهدف هذه الأساليب إلى تحسين صيغ الكلام وتجميله، ونقل دلالاته من المستوى الحرفيّ إلى المستوى المجازيّ، وتقديم المعنى والفكرة بالتركيب اللغويّ المناسب للموقف.

من هذه الأساليب: الجناس، الطباق، التشبيه، الكناية، الإنشاء والإخبار.

الاسترجاع الفنّيّ: Flash Back

هو رجوع من الزمن الحاضر إلى الماضي، أثناء التسلسل المنطقي للأحداث، بهدف تقديم معلومات أو قصّة تتعلّق بماضي الشخصيّات، أو توضيح موقف معيّن أو التعليق عليه. يتحقّق الاسترجاع الفنّيّ من خلال المونولوج أو تداعي الأفكار، ولا يهدف إلى التشويق أو كسر رتابة الزمن فقط، وإنّما عقد مقابلة زمنيّة بين المواقف والأحداث المختلفة. من الأمثلة على الاسترجاع قصّة (حالة تلبّس) ليوسف إدريس: (ما هذه الحزازاتُ بينَهُ وبين المديرِ أليس هو أكبرَ منها وأقدرَ بكثير؟ ولماذا الخزنُ والمرارةُ لكلِّ ما فاتَ والآتي أروعُ منه بكثير؟ ولماذا التعنُّتُ مع أستاذِ القسمِ المساعدِ؟ لماذا لا يُعطيه الفرصةَ؟ إنّه شابٌ ومن حقِّهِ أن يطمحَ إلى كرسيِّ الأستاذِ).

الاستطراد: Digression

هو الخروج عن الأحداث ومسارها الأفقيّ، إلى أحداث جانبيّة تشكّل هوامش للحكاية المركزيّة، لأغراض مختلفة، قد تطول وتقصر، وقد تكون ذات صلة مباشرة بالأحداث المركزيّة وقد لا تكون، ومنها ما يكون ممتعًا أو مملًّا، ومبرّرًا أو غير مبرّر.


*257*

من الأمثلة على الاستطراد، الحديث عن طموحات العميد بنيل جائزة نوبل والشهرة العلميّة في قصّة (حالة تلبّس)، إذ ليس هذا الانحراف النصّيّ جزءًا من الحدث المركزيّ.

الاستعارة: Metaphor

هي استخدام وحدة لغويّة في غير استعمالها الأصليّ الذي وُضعت له، من خلال تشبيه بليغ حُذفَ أحدُ طرفيهِ (المشبّه أو المشبّه به)، ويكون ذلك لأهداف منها: التوضيح، التأكيد، التجميل، الإيجاز. وتُعتبر الاستعارة من أهمّ أدوات رسم الصورة الشعريّة، وأشهر أنواعها المكنيّة والتصريحيّة.

من الأمثلة على الاستعارة المكنيّة قول الفرزدق في (وصف الذئب):

فَقُلْتُ لَهُ لَمّا تَكَشَّرَ ضاحِكًا وَقائِمُ سَيْفي مِنْ يَدي بِمَكانِ

حيث استعارَ ضاحكًا من الإنسانِ وحذفَ المشبّه به. ومن الأمثلة على الاستعارة التصريحيّة قول سميح القاسم في (ليلًا على باب فدريكو):

ترتجفُ على فمِكَ فراشه.

حيث استعار فراشة للدلالة على المشبّه المحذوف وهو الكلمة.

الاستفهام البلاغيّ:

هو الاستفهام عن شيء بسؤال لا يحتاج إلى إجابة، وذلك لأهداف منها: التقرير، التعجّب، التعظيم، التحقير، التوبيخ، الإنكار، العتاب، التهويل.

من الأمثلة على الاستفهام البلاغيّ قول الخنساء وقول المتنبّي:

قذًى بعينِكِ أَمْ بِالعين عُوّارُ أَمْ ذَرَفَتْ إذْ خَلَتْ مِنْ أهلِها الدارُ (للتهويل).

بمَ التعلّلُ لا أهلٌ ولا وطَنٌ ولا نديمٌ ولا كأْسٌ ولا سَكَنُ (للإنكار والتحسر).

الاستهلال:

هو الجزء الأوّل من الكلام، خاصّة الخطبة، الذي تتمّ الإشارة به إلى الموضوع وطريقة العرض، ويهدف إلى تركيز أنظار المتلقّين وأسماعهم. ومن براعة الاستهلال في القرآن الكريم:

(هل أتاكَ حديثُ موسى) (النازعات: 15)، حيث فيه إشارة للموضوع، والنيّة على القصّ، والتنبيه له من خلال السؤال.

الأسطورة: Myth

هي سرد قصصيّ ابتدعته المخيّلة الشعبيّة لتفسير أسرار لم يفهمها الإنسان، كعلاقته بقوى الطبيعة، أو معتقداته الدينيّة، أو سلوكيّات ما حوله، ومن ضمنها تجارب البشر وظواهر الكون. يغلب على الأساطير ظهور قوى


*258*

خارقة وشخصيّات خياليّة. استُخدِمت الأسطورة في الشعر العربيّ لغايات تفسيريّة رمزيّة ونفسيّة، ترتبط بتصوّرات الشاعر وتجاربه ورؤيته الشعريّة.

من الأساطير المستخدمة في الشعر أسطورة تمّوز عند السيّاب، وأسطورة طائر الفينيق عند أدونيس.

الأسلوب:

هو الطريقة الخاصّة في استعمال اللغة، التي تميّز كاتبًا عن آخر، أو مدرسة أدبيّة عن أخرى، أو فترة زمنيّة، أو نوعًا أدبيًا، أو مجالًا، فنقول: أسلوب الجاحظ، الأسلوب الرومانسيّ، الأسلوب العبّاسيّ، الأسلوب القصصيّ، الأسلوب العلميّ والأسلوب الصحافيّ.

الإغراب: Defamiliarization

هو صياغة مركّبات الواقع بطريقة غير مأنوسة أو مألوفة، ممّا يخلق حالة من الدهشة عند القارئ، تنعكس من خلال ظهور فجوة بينه وبين النصّ، تعيق عملية الاستيعاب، الأمر الذي يعني أنّ الإغراب يُحمل محمل الرمز. من الأمثلة على الإغراب قصّة (المرتبة المقعّرة) ليوسف إدريس، حيث ينام الرجل عشرات السنين ويغوص في المرتبة (السرير)، ثمّ يُلقى من النافذة والزوجة تنظر إليه قرب النافذة كلّ هذه الفترة الزمنيّة.

الاقتباس:

تضمين الكاتب كلامًا منسوبًا لغيره في نصّه، وفي البديع العربيّ تضمين الشعر أو النثر بآية أو حديث شريف. والاقتباس الاستهلاليّ اقتباس يرد في صدر الكتاب وله علاقة بالموضوع، ومن أمثلته ما ورد عن ابن عربيّ في مستهلّ قصّة (النخلة المائلة) لمحمّد علي طه.

الالتفات:

هو انتقال جهة الكلام من أسلوب إلى آخر، كأن ينتقل المتكلّم من ضمير الغائب إلى المُخاطَب، أو من الإخبار إلى النداء.

يهدف الالتفات إلى لفت انتباه المستمع أو القارئ إلى أسلوب الكلام، وإلى التنويع في طرائق العرض، وكسر الرتابة.

من ذلك قول أبي تمّام، وفيه انتقال من الغائب إلى المُخاطَب:

لَوْ لَمْ يَقُدْ جَحْفَلًا يَوْمَ الوَغى لَغدا مِنْ نَفْسِهِ وَحْدَها في جَحْفَلٍ لَجِبِ

رَمى بِكَ اللهُ بُرْجَيْها فَهَدَّمَها وَلَوْ رَمى بِكَ غَيْرُ اللهِ لَمْ تُصِبِ


*259*

الانتحال:

هو السرقة الأدبيّة وتعني أخذ كلام مؤلّف آخر أو معانيه وأفكاره أو محاكاة أسلوب خاصّ به، وتقديمه على أنّه إبداعه، دون إشارة إلى صاحب الكلام.

الانطباعيّة: Impressionism

نزعة أدبيّة أو نقديّة في الكتابة، لا تركّز على الجوهر والواقع وفق منهجيّة موضوعيّة، وإنّما تستعرض رسم ملامح المكان والشخصيّات والأحداث بأسلوب شخصيّ، وتتعمّد الانتقائيّة والمزاجيّة والنزعة الذاتيّة.

الأونوموتوبيّا (المحاكاة الصوتيّة): Onomatopoeia

محاكاة الصوت للمعنى، وهو كل لفظ حُكي به صوت، أو صُوّت به لزجر، أو دعاء، أو تعجّب، أو توجّع، أو تحسّر:

مثال ذلك: صهيل، نقيق، أزيز، قعقعة. ومن الشواهد الشعريّة قول البحتريّ في وصف الذئب:

يُقَضْقِضُ عُصلًا في أسِرَّتِها الردى كَقَضْقَضَةِ المَقْرورِ أَرْعَدَهُ البَرْدُ

الأيديولوجيا: Ideology

معتقدات وأفكار ومبادئ تنتمي إلى فئة أو طبقة أو تيّار أو نظام سياسيّ. ترفض النظريّة الأدبيّة الأيديولوجيا بسبب ممارستها فرض تجريدات مثاليّة على التجربة الحيّة، وترى فيها تغليبًا للسياسيّ والتأطير على الأدبيّ المتحرّر والتلقائيّ. هنالك من يعتقد بوجود أيديولوجيا مضمرة في كل عمل أدبيّ، لأنّ الأفكار لا تأتي من فراغ، ولا بدّ أن تتقاطع مع الرؤية العامّة المرتبطة بالوضع البشريّ والطبيعة البشريّة.

الإيحاء:

انتقال شعور أو فكرة يبثّها العمل الفنّيّ إلى المتلقّي بطريقة خفيّة، حول دلالته والجوّ السائد فيه، ممّا يولّد في ذهنه ونفسه ذائقة مرهفة للمتعة والاستيعاب تختلف حب ثقافة هذا المتلقّي وحسّه.

الإيجاز:

هو جمع المعاني الكثيرة بكلمات قليلة، وهو نوعان: إيجاز قِصَر ويكون بدون حذف، وإيجاز حذف ويكون بحذف كلمة أو أكثر مع إبقاء قرينة تدلّ على المحذوف. يكثر الإيجاز في القرآن الكريم والحديث الشريف والأمثال والحكم والتوقيعات. ومن أمثلته في القرآن الكريم:

(قُلْنا احْمِلْ فيها مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ) (هود: 40) ففي هذه الآية إيجاز يجمع كلّ من نجا في السفينة من مخلوقات بشريّة وغير بشريّة.

ومن الأمثال: (جزاءَ سنمّار)، حيث يختزلُ المثل قصّة كاملة من جزاء الإحسان بالإساءة.\


*260*

الإيقاع:

مجموعة من العناصر والأساليب التي توظّف جَرس الألفاظ وتناغم العبارات في توليد بيئة موسيقيّة داخل العمل الأدبيّ، ويبرز منها في الشعر الوزن والقافية والتكرار والتصدير والتصريع والترصيع. تكثر العناصر الإيقاعيّة في القصص والروايات الحداثيّة للتدليل على شعريّة اللغة فيها.

بحر الشعر:

هو الوزن الذي يُنظم عليه الشعر العربيّ، وهو مؤلّف من أقسام تسمّى تفعيلات (مقاطع قصيرة وطويلة) يتساوى عددها في كلّ من الصدر والعجز. لا تتغيّر التفعيلات ويلتزم بها الشعراء التقليديّون، باستثناء حالات من الزِّحاف (تغييرات طفيفة في مبنى التفعيلة). تطوّرت بحور الشعر، بتأثير الحداثة، في الخمسينيّات من القرن العشرين، فنشأ شعر التفعيلة المعتمد على تكرار تفعيلة واحدة عددًا غير متساوٍ من المرّات داخل السطور الشعريّة. بحور الشعر ستّة عشر أشهرها: الطويل، البسيط، الكامل، الوافر، المتقارب، الرمل.

البداية القصصيّة:

هي المقطع الأوّل أو المقاطع الأولى من القصّة، وهي عتبة من عتبات النصّ. بتفاوت طول البداية من قصّة لقصّة، ومن شكلٍ قصصيّ لآخر، فقد تكون البداية سطرًا، أو فقرة، أو صفحة، أو عددًا من الصفحات. في قصّة (محطّة) ليوسف إدريس يبلغ طول البداية عشر صفحات، في حين تبلغ القصّة كلّها سبع عشرة صفحة. يتحدّد طول البداية بخمسة عناصر، فإذا تحقّقت يتجاوز النصّ البداية ويصل مرحلة الوسط، والعناصر هي: 1. زمان المشهد الأوّل 2. مكان المشهد الأوّل 3. الشخصيّة المرشّحة للبطولة 4. الحدث المركزيّ أو تلميح له 5. أسباب حدوثه.

في القصّة التقليديّة قد تطول البداية، في حين تقصر في القصّة ذات المبنى الحداثيّ، فهي قد تبدأ بالحدث المركزيّ، وعندها تقلّ إمكانيّة التأجيل والتمديد.

التجريد:

هو مخاطبة الشاعر لنفسه، فكأنّما يجرّد من نفسه ذاتًا أخرى فيخاطبها. قد يخلق التجريد حالة من سوء الفهم بين الشاعر والمتلقّي السامع، فلا يفهم الأخير أنّ المقصود هو الشاعر، ويظن نفسه مقصودا بالخطاب، كما حدث مع عبد الملك بن مروان، حينما غضبَ من جرير بسبب البيت:

أَتَصْحو أَمْ فُؤادُكَ غَيْرُ صاحِ عَشِيَّةَ هَمَّ صَحْبُكَ بالرواحِ

ومن الأمثلة على التجريد قول أبي فراس الحمدانيّ:

أَراكَ عَصِيَّ الدمْعِ شيمَتُكَ الصبْرُ أَما لِلْهَوى نَهْيٌ عَلَيْكَ وَلا أَمْرُ


*261*

الترادف:

هو دلالة عدد من الكلمات المختلفة على معنى واحد، وهو توسيع للغة وإثراء لدلالاتها.

ومن الأمثلة:

أسماء الأسد: (ليث، سبع، ضرغام، قَسْوَرة، ورد).

مرادفات الرحمة: (الرقة، الشفقة، الحُنوّ، الحنان، العطف، الرأفة).

تراسل الحواسَ: Synaesthesia

تراسل الحواسَ أو مزج الحواسَ أو الحسّ المتزامن، ويعني وصف مدرك حاسّة معيّنة بلغة حاسّة أخرى، وهو تقنيّة استخدمها الرمزيّون الفرنسيّون الأوائل في الشعر والرومانسيّون الألمان والإنكليز، وتناقلها الشعراء العرب الحداثيّون في قصائدهم.

يشبه تراسل الحواس الاستعارة من حيث وجود طرفين، لكنّ العلاقة بين المشبّه والمشبّه به في الاستعارة قائمة على المشابهة، بينما في تراسل الحواس تكمن العلاقة في وحدة الأثر النفسيّ.

مثال: لونٌ صارخ، صوتٌ مخمليّ، صوتٌ دافئ، عطرٌ ناعم.

وفي قصيدة (ونحن نحبّ الحياة) لمحمود درويش:

ونَنْفُخُ في النايِ لَوْنَ البَعيدِ البَعيدِ، وَنَرْسُمُ فَوْقَ تُرابِ المَمَرِّ صَهيلا

الترديد:

تكرار لفظتين في البيت باختلاف الصلة المرتبطة بكلّ لفظة، نختلف عن التكرار بارتباط الأخير للصلة ذاتها. وللترديد وظائف مختلفة أبرزها الإيقاعيّة والشعريّة والدلاليّة. ومن الأمثلة على الترديد قول المتنبّي:

إِذا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَريمَ مَلَكُتَهُ وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللئِيمَ تَمَرَّدا

تكرار (أكرمْتَ) لم يكن لغوًا زائدًا لأنّ الصلة (الكريم / اللئيم) اختلفت.

الترصيع:

هو أن تتّفق جملتان أو أكثر في عدد الكلمات، مع اتّفاق كلّ كلمة مع ما يقابلها في الحرف الأخير. مثال ذلك في النثر:

إنّ بعد المطر صحوًا، وإنّ بعد الكدرِ صفوًا

ومثال ذلك في الشعر قول إبراهيم طوقان:

مُتَدَفِّقٌ بِدِمائِهِ مُتَقَلِّبٌ مُتَعَلِّقٌ بِذِمائِهِ مُتَوَثِّبُ


*262*

نظام تعبيريّ تتّسم به النصوص التي تستخدم فجوات القارئ، حيث يرقى بالعمل الأدبيّ إلى أبعاد فنّيّة تنشّط ذهنيّة المتلقّي وتجعله شريكًا في إنتاج دلالة النصّ يُقسم نظام الترميز إلى ثلاثة أقسام: أسهلها الإشارة، يليها المبنى الرمزيّ المتكامل (أليغوريا)، وآخرها الرمز وهو أكثرها صعوبة، وذلك بسبب ضبابيّة العلاقة بينه وبين المرموز له. من الأمثلة على المبنى الرمزيّ المتكامل قصّة (انهيار) لأحمد حسين، حيث تمثّل كلّ شخصيّة فكرة أو شريحة، ولا يقصد بالقصّة دلالتها الحرفيّة، وإنّما دلالة اجتماعيّة أو فلسفيّة، وفقًا لاجتهاد القارئ وقدرته على لملمة المفاتيح التأويليّة في النصّ، واستدلال الحقل الدلاليّ الذي تصبّ فيه الأفكار.

التشبيه:

هو عقد مقارنة بين طرفين، في صفة أو أكثر، بهدف إبرازها. للتشبيه أربعة أركان هي: المشبّه، المشبّه به، وجه الشبه، وأداة التشبيه.

يمكن حذف وجه الشبه أو أداة التشبيه أو كليهما، ويسمّى التشبيه الذي يضمّ الركنين الأساسيّين فقط تشبيهًا بليغًا، والذي يضمّ العناصر كلّها تشبيهًا تامًّا.

مِن الأمثلة على الشبيه التامّ قول الخنساء:

كَأّنَّ عَيْني لِذِكْراهُ إِذا خَطَرَتْ فَيْضٌ يَسيلُ عَلى الْخَدَّيْنِ مِدْرارُ

التشخيص:

مظهر من مظاهر الاستعارة، وهو خلع صفات الكائنات الحيّة على غير الإنسان. مثال ذلك قول محمود درويش في قصيدة (أنا يوسف يا أبي):

حينَ مَرَّ النَّسيمُ وَلاعَبَ شَعْري غارُوا وثاروا.

التأنيس:

مظهر من مظاهر الاستعارة، وهو إعطاء صفة الإنسان فقط وأعماله لغير الإنسان، سواء كان من الحيوان أو النبات أو الجماد أو غيره يُعتبرُ التأنيس تشخيصًا، في حينِ لا يعتبر كلّ تشخيص تأنيسًا.

مثال ذلك قول أبي سلمى في (ابنة بلادي):

في النَّهْرِ الضاحِكِ بَيْنَ الرُّبى تَحْسُدُهُ عَلى الهوى الْأَنْهُرُ


*263*

التشطير:

قيام الشاعر بالتصريع الداخليّ في كلّ من الصدر والعَجُز.

من ذلك قول أبي تمّام في فتح عمّوريّة:

تَدْبيرُ مُعْتَصِمٍ بِاللهِ مُنْتَقِمٍ للهِ مُرْتَقِبٍ في اللهِ مُرْتَغِبٍ

التصدير: Foreword،Preface

كلمةٌ يكتبُها المؤلّف في أوّل كتابِه يعبّر فيها عن ملاحظات شخصيّة، موجّهة إلى قارئ الكتاب، وتنتهى عادةً بفقرة فيها الشكر للأشخاص والهيئات التي ساعدت المؤلّف في بحثِه. وقد جرت العادة أن يُكتب تصدير جديد لكلّ طبعة جديدة لمُؤَلّف يُشار فيه إلى ما في الطبعة الجديدة من اختلاف عن الطبعة أو الطبعات السابقة عليها. والفرق بين التصدير والمقدّمة أن التصدير لا يتعدّى الصفحتين أو الثلاث، في حين أنّ المقدّمة قد تبلغ فصلين من فصول الكتاب.

والتصدير في الشعر ردّ الصدر على العجُز (Epanalepsis): أن يُجعل أحد اللفظين المكرّرينِ أو المتجانسبنِ (لفظًا دون معنًى) أو المشتقّين من الجذر نفسهِ في صدر البيت، ويُجعل اللفظ الآخر في عجُزِهِ.

مثال ذلك قول السموأل في لاميّته:

تسيلُ على حدِّ الظُّباتِ نفوسُنا وليستُ على غيرِ الظُّباتِ تسيلُ

التصريع:

هو اتّفاق صدر البيت وعَجُزُهُ في التقفية. يكثر وروده في المطالع، وهو فيها مستحسن، ولكنّه غير ضروريّ. يعتبر التصريع من العناصر الإيقاعيّة، وأسلوبًا لافتًا للسمع.

مثال ذلك قول المتنبّي:

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْ دَهْرِهِ ما تَعَوَّدا وَعادَةُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ الطَعْنُ في العِدى

التصوير الأدبيّ:

هو إبراز الانفعالات الداخليّة والخارجيّة بشكل معبّر. يتمّ ذلك من خلال الوصف النقليّ أو التحليل، والتشابيه والاستعارات والرموز. يُسمّى هذا الوصف في الشعر صورة شعريّة، يمكن رسمها، وهي لا تقتصر على نقل الواقع الخارجيّ، وإنّما يمكنها التعبير عن الواقع الداخليّ النفسيّ للشخصيّة.

التضمين والجريان:

هو عدم إتمام المعنى في بيت واحد، وقد اعتبر عيبًا في الشعر العموديّ، بينما يعتبر مقبولًا في الشعر الحديث، لأهمّيّة الوحدة العضويّة في قصيدته. يخدم التضمين أو الجريان انسياب القصيدة وترابطها.


*264*

مثال ذلك قول أبي القاسم الشابيّ في نشيد الجبّار:

وَأقولُ لِلْقَدَرِ الّذي لا يَنثَني عَنْ حَرْبِ آمالي بِكُلِّ بَلاءِ

لا يُطْفِئُ اللَهَبَ المُوَجَّجَ في دَمي مَوْجُ الْأَسى وَعَواصِف الأَرْزاءِ

التكثيف:

هو الإيجاز والتركيز والاقتصاد في المعطيات القصصيّة أو الشعريّة، بهدف تفعيل القارئ في تأويل النصّ. يضمّ التكثيف جملة من الأدوات التي تسهم في تشكيله، منها: الرمز، التناصّ، الانزياح، الاستعارة، المفارقة، تسريع الحدث واختزاله.

التكثيف نوعان: بنائيّ ودلاليّ. التكثيف البنائيّ هو العمل على الحذف والإضمار والإيجاز والاختزال والترقيم، إلى أن تصبح كل علامة لها دور في النصّ. والتكثيف الدلاليّ هو العمل على الإيحاء والتلميح والرمز والخيال والسخرية واللغة الشعريّة.

التكرار:

هو ورود وحدة كلاميّة (كلمة أو أكثر) بنفس اللفظ والمعنى والصلة مرَّتين أو أكثر، لغرض بلاغيّ، مثل التأكيد، التهويل، التجنّب، التوبيخ، الإيقاع الشعريّ وما إلى ذلك. يقع التكرار في الشعر والنثر، ويكون على مستوى الجملة والكلمة، وهنالك ما هو على صعيد المعنى (تكرار معنويّ).

مثال ذلك قول توفيق زيّاد في قصيدة نيران المجوس:

على مهلي / على مهلي / أشدُّ الضوءَ.

تكرار الصدارة Anaphora

تكرار الصدارة أو القافية الاستهلاليّة (أنافورا)، كلمة أو جملة تتكرّر في بداية السطر الشعريّ أو البيت، وتهدف إلى التأكيد وإثراء العنصر الإيقاعيّ، والانطلاق إلى فكرة جديدة.

مثال ذلك قول الخسناء في قذى بعينك:

تبَكْي خُناسٌ فَما تَنْفَكُّ ما عَمَرَتْ لَها عَلَيْهِ رَنينٌ وَهْيَ مِفْتارُ

تبَكْي خُناسٌ عَلى صَخْرٍ وَحُقَّ لَها إِذْ رابَها الدهْرُ إِنَّ الدَّهْرَ ضَرّارُ

التكلّف:

هو المبالغة في استعمال الأساليب البديعيّة، والإسراف في استخدام الألفاظ المزخرفة، ممّا يودّي إلى الابتعاد عن المألوف والطبيعيّ في أساليب التعبير، وتصبح اللغة غاية وليست، وسيلة للتواصل والتعبير. من الأمثلة على التكلّف مقامات الحريريّ.


*265*

التناصّ:

هو توظيف نصّ سابق في نصّ لاحق، بقصد أو بدون قصد. وتكون العلاقة بين النصّين على الغالب توافقيّة، بحيث تثري النصوص المستحضَرةُ النصَّ الجديدَ وتعمّق دلالاته، وتستدعي يقظة القارئ العارف وثقافته، إذ بدون ذلك يستحيل ملء فجوة التناصّ بين القارئ والنصّ.

من الأمثلة الشعريّة على التناصّ القائم على علاقة توافقيّة قصيدة أنا يوسف يا أبي لمحمود درويش، ومن النماذج القصصيّة القائمة على تناصّ ذي علاقة تضادّ قصّة ليلى والذئب لإميلي نصرالله.

توجيهات مسرحيّة:

هي التعليمات والإيضاحات التي يكتبها المؤلّف بجانب الحوار، بهدف إرشاد المخرج أو الممثّل أو القارئ، إلى تعبيرات خاصّة بالمشاعر، أو الصوت، أو الديكور، أو الإضاءة، أو الملابس، وما إلى ذلك.

مثال ذلك في مسرحيّة مغامرة رأس المملوك جابر لسعد الله ونّوس:

الخادم: (وهو يضع جمرة على نرجيلة الزبون) لا ريب أنّ العمّ مؤنس آت كعادته.

(الوصلة الغنائيّة مستمرّة، ومعها ضوضاء المقهى. الخادم لا يكفّ عن الدوران حاملًا إمّا صينيّة شاي أو موقد الفحم).

التورية:

هي ذكر لفظ ذي معنيين، الأوّل قريب غير مقصود، والدلالة عليه واضحة، والثاني بعيد وهو المقصود، والدلالة عليه خفيّة.

مثال ذلك قول لسان الدين بن الخطيب في موشّح جادك الغيث:

وَرَوى النُعمانُ عَنْ ماءِ السَما كَيْفَ يَرْوي مالِكٌ عَنْ أَنَسِ

فالقارئ يتوهّم أن النعمان بن ماء السماء هو المقصود، بدلالة ذكر شخصيّة مالك بن أنس، لكنّ المقصود بالنعمان شقائق النعمان، وبماء السماء المطر.

تيّار الوعي أو الشعور: Stream of Consciousness

عبارة تصف انسياب التجارب النفسيّة داخل الإنسان، واستيطان داخل الشخصيّات القصصيّة بطريقة عفويّة تشبه حركة التفكير التلقائيّة، دون أن تخضع لمنطق معين أو نظام تتابع خاصّ. يجري التعبير عن حركة تيّار الوعي في الأدب من خلال المونولوج، والتداعي الحرّ والحلم.

مثال ذلك في قصّة زهور بيضاء بلون الثلج لزكي درويش، حيث يضع مقاطع تيّار الوعي بين أقواس، وينهي


*266*

القصّة بما يشبه الحلم:

إغمض عينيهِ، شعرَ أنّه يطيرُ ويخترقُ شيئًا أَبيضَ لمْ يستطعْ تحديدَهُ تمامًا: هلْ كانَ ذلك ثلجًا؟ أَمْ ريشًا؟ أَمْ سحابًا رقيقًا محمولًا على أجنحةِ ريحٍ خفيفةٍ خفيفةٍ؟

ثلاثيّة:

سلسلة مكوّنة من ثلاث روايات أو مسرحيّات، ترتبط في ما بينها من حيث الفكرة العامّة والسياق، رغم استقلاليّة حبكة كلّ واحدة منها. مثال ذلك مسرحيّة هنري الرابع لشكسبير بأجزائها الثلاثة؛ ثلاثيّة نجيب محفوظ: بين القصرين، قصر الشوق، السكّريّة؛ ثلاثيّة إدوار الخرّاط: رامة والتنّين، الزمن الآخر، يقين العطش؛ ثلاثيّة أحلام مستغانمي: ذاكرة الجسد، فوضى الحواسّ، عابر سرير.

الثيمة / الموضوعاتيّ، الموضوعاتيّة:

هي موضوع رئيسيّ للتفكير، أو فكرة للتأمّل والنظر، أو مفهوم يحاول الكاتب التشديد عليه، من خلال الأفكار المركزيّة في نصوصه. تختلف الثيمة عن الفكرة المركزيّة في أنّ الأخيرة واضحة ومتعلّقة باللغة، في حين أنّ الثيمة خفيّة وتظهر بشكل رمزيّ. مثال ذلك ثيمة الحرب في المعلّقات والملاحم، وثيمة الظلم الاجتماعيّ في الشعر العربيّ الحديث، وثيمة صراع الأجيال في الرواية.

الجنس الأدبيّ: Genre

هو اللون الأبيّ أو الجانر، صنف أو فئة من الإنتاج الفنّيّ، له شكل وضوابط وتقنيّات ولغة، كالقصّة والشعر والمسرحيّة والمقالة والمقامة والرسالة. هنالك تداخل بين الأجناس الأدبيّة في أيّامنا، ولم تعد فكرة نقاء اللون أو بقائه على حاله قائمة، وإنّما هنالك توجّهات لكتابات عبر نوعيّة، وتمييع الحدود الفاصلة بينها، ومزجها مع بعضها، وإطلاق التسمية نصوص للتملّص من أسمائها المؤطِّرة والمحدِّدة.

الجماليّة:

مبدأ مثاليّ يبحث في المقاييس التي تشكّل معايير الذائقة الأدبيّة للعمل الأدبيّ، كاللغة، مستويات الترميز، درجة الانزياح، نشاط القارئ، وغيرها. يعتبر مبدأ الفنّ للفنّ أساسًا فلسفيًا للمقاييس الجماليّة، لأن الهدف هو وصول البعد الجماليّ إلى إحساس القارئ.

الجناس:

هو تشابه تام أو كلّيّ بين لفظين أو أكثر، يختلفان في المعنى. أشهر أنواعه التامّ وغير التامّ. الجناس التامّ ما اتّفق اللفظان في نوع الحروف وشكلها وعددها وترتيبها، أنا غير التامّ فهو ما اختلف فيه اللفظان في واحد من


*267*

الأمور الأربعة السابقة، أو أكثر.

مثال الجناس التامّ قوله تعالى:

(وَيَوْمَ تَقومُ الساعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمونَ ما لَبِثوا غَيْرَ ساعَةٍ) (الساعة: يوم القيامة، وساعة: وحدة زمنيّة). ومثال الجناس غير التامّ قول أبي تمّام:

بيضُ الصفائحِ لا سودُ الصحائِفِ، في مُتونِهِنَّ جلاءُ الشكِّ والرِّيَبِ

(الصفائح: السيوف، والصحائف: الكتب).

الحدث:

سلسلة الوقائع الواقعيّة أو المتخيّلة التي تقوم بها الشخصيّات، أو التي تحدث في البيئة الزمكانيّة. تشكّل الأحداث مادّة العمل الأدبيّ القصصيّ، وتترابط في ما بينها ترابطًا سببيًّا هو حبكة القصّة، لكنّ تعاقبها ليس بالضرورة زمنيًّا، فالقصّة الحداثيّة كسرت رتابة التتابع الزمنيّ من خلال الاسترجاع الفنّيّ. قد تكون الأحداث خارجيّة، وقد تكون نفسيّة تحدث داخل الشخصيّات.

الحبكة:

هي منطق التتابع، وتسلسل الأحداث وتتابعها سببيًّا، من بداية القصّة حتّى نهايتها، مرورًا بذروتها. وإذا كانت المادّة القصصيّة هي ماذا حدث فعلًا وبتسلسل زمنيّ صحيح، فإنّ الحبكة تعكى إحساس القارئ بهذه المادّة، ووعيه لما حدث، سواء كان التتابع الزمنيّ عاديًّا أو استرجاعيًّا. هنالك أنواع من الحبكات، أشهرها الحبكة المتماسكة والحبكة المفكّكة.

الحداثة في الأدب: Modernism

هي نزعة فلسفيّة غريبّة الأصل، نظرت إلى الأدب بمفهوم ثوريّ، بحيث رفضت مواضعات الكتابة التقليديّة ورفضت كلّ أشكالها، دون أن تقترح بديلًا كاملًا، لكنّها سعت إلى نقض القديم ورفض التراث، واقتراح أنماط من الكتابة الجديدة القائمة على التجريب ونسف المسلّمات، والتشكيك وعدم الاستقرار والتوقّف عند نقطة محدّدة.

ظهر تأثيرها على الشعر العربيّ بظهور قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، وعلى الرواية بظهور رواية التجريب الفنّيّ في التسعينيّات من القرن العشرين، التي تبنّت التجريد والتأثّر بالفنون التشكيليّة، والمونولوج الداخليّ، وتداخل الأزمنة، وتفتيت الحدث والحبكة، وتهميش الشخصيّة والبطولة، وحضور الحلم، وتنويع طرائق السرد، واعتماد المتخيّل والعجائبيّ إلى جانب الواقعيّ، وغيرها.

حُسْن التعليل:

هو أن ينكر الشاعر صراحةً أو ضمنًا علّة الشيء المعروفة، ويأتي بعلّة أدبيّة طريفة تناسب الغرض المقصود،


*268*

كأن يعلّل بقايا النار في الموقد ببقيّة الروح التي تعاني سكرات الموت. مثال ذلك قول علي محمود طه في قصيدته غرفة الشاعر:

غيرَ هذا السراجِ، في ضوئِهِ الشاحبِ، يهفو عليكَ مِنْ إشفاقِ

وبقايا النيران، في الموقدِ الذابلِ،تبكي الحياةَ في الأرماقِ؟

الحقيقة والرأي:

يُقصد بالحقيقة ما أثبت العلم وجوده بالدليل القاطع، أو ما كان دليله موجودًا فيه، كشروق الشمس من مشرقها، أو حركات الكواكب، وغيرها من ثوابت العلم. بينما الرأي هو تعبير عن وجهة نظر من حقيقة علميّة، أو موقف، أو ظاهرة. يتّفق الناس في الحقائق، ويختلفون في الآراء.

مثال ذلك في مقالة استنساخ الأجنّة لمحمّد بديويّ:

(أوّلُ تجربةِ تلقيحٍ صناعيٍّ في العالمِ أُجريت عام 1799). (حقيقة)

(كلّ جديدٍ تتبعهُ ثورةٌ شاملةٌ). (رأيَ)

الحكاية:

سرد قصصيّ يروي تفصيلات حدث واقعيّ أو متخيّل، يمتاز بالبساطة والحبكة المتراخية، أشهر نماذجه حكايات ألف ليلة وليلة. من أنواعه: الحكاية الشعبيّة والحكاية الخرافيّة وتمتازان بالمؤلّف المجهول والتناقل بالرواية الشفهيّة، والإنتاج الجمعيّ التراكميّ عبر الزمن؛ إلّا أنّ الحكاية الخرافيّة تفوق الحكاية الشعبيّة اقترابًا من الخوارق والخيال والأساطير.

الحلّ:

هو ما يَؤول إليه الصراع في القصّة، ويتموضع في نهاية الأحداث، بعد تهافتها وانفراجها، وإليه يصير مصير الشخصيّات. يشير الحلّ إلى عاقبة الصراع وفكّ تعقيدات الحبكة القصصيّة، والجزاء الذي يرتئيه الكاتب، وغياب الحلّ تعبير عن إشكاليّة الصراع في القصّة، والاختلاف والنقاش الدائر حوله. قد تكون النهاية مفتوحة، والقارئ مطالب بملئها واقتراح الحلّ، كما في قصّة حالة تلبّس عندما قرع العميد الجرس، فلم نعرف ماذا سيحدث، وكذلك في نهاية قصّة النخلة المائلة حيث تنتهي القصّة باستفهام لا نعرف جوابه باليقين القاطع.

الحوار:

هو تبادل الكلام بين اثنين أو أكثر، ومن خلاله يمكن معرفة نوايا الشخصيّات وأفكارها وما سيحدث من أحداث وردود أفعال. تعتمد المسرحية على الحوار، بينما تتناوب الرواية والقصّة على السرد والحوار، مع تغليب السرد.


*269*

الحوار نوعان: أحاديّ (مونولوج)، وثنائيّ (ديالوج).

المونولوج حوار داخليّ يخاطب فيه المرء نفسه، ويتمّ من خلاله استبطان العالم الذاتيّ للشخصيّة، وهو إرسال يخلو من التلقّي، بينما الديالوج أو الحوار الخارجيّ يكون بين طرفين أو أكثر، وهو إرسال وتلقِّ، ومن خلاله تنطلق الأحداث وتتشابك الحبكة.

الخاتمة:

الجزء الأخير من النصّ، يُذكر فيه آخر تطوّرات الأحداث، ومدى تحقيق الأهداف والحلّ، وتتبعه النهاية معلنة انتهاء القصّة بشكل فعليّ. أمّا في الأبحاث فالخاتمة تُجْمل المضمون والنتائج وتقدّم التوصيات.

مثال الخاتمة القصصيّة في ليلى والذئب لإميلى نصرالله:

(وقبلَ أنْ تبلغَ ليلى دارَ جدّتِها كانتْ قدْ تعرّفت إلى رفيقِ الرحلةِ وارتاحتْ إليهِ. وأعلنتِ الثورةَ على أُمِّها وعلى تعالِيمها العتيقة، وارتمتْ في دائرةٍ رسمَها الذئبُ حولَها، ويتحوّل في ذاتِها إلى رسولِ للخيرِ والحبِّ والجمالِ).

اِنتهت هنا الخاتمة، لكن لم تنتهِ القصّة بعد، فما زالت هناك فقرتان، لكنّ الحلّ أصبح واضحًا والأهداف والمصائر معروفة. وما يتبع من كلام هوالنهاية القصصيّة.

الخرافة (الأمثولة):

قصّة خياليّة على لسان شخصيّات غير بشريّة، خاصّة الحيوانات، تمثّل الإنسان والقيم الأخلاقيّة والتعليميّة. أشهر نماذجها قصص كليلة ودمنة، وتستخدم التسمية أيضا للتعبير عن قصص شخصيّاتها غيبيّة وأسطوريّة، وعن قصص خارقة للطبيعة.

الخلفيّة الأدبيّة:

هي مجموعة الظروف والأحداث الاجتماعيّة والفكريّة والسياسيّة والتاريخيّة للظاهرة الأدبيّة، أو العمل الأدبيّ. وتدلّ على الرصيد الثقافيّ والخبرة الموجودة لدى الكاتب والقارئ على حدّ سواء.

الخيال:

هو القدرة على تشكيل صور الأشياء والكائنات من خلال العقل. يتطلّب ذلك التنسيقَ والترتيب وتصوير المدركات المحسوسة، بشكل يتجاوز أشكالها الحقيقية المألوفة، إلى عالم من الخلق والإبداع الذاتيّ.

الخيال العلميّ (قصص): Science Fiction

لون أدبيّ يعتمد على الخيال، حيث يخلق الكاتب عالمًا خياليًا متعالقًا مع الواقع، أحداثه قد تكون في الماضي أو المستقبل، ومكانه قد يكون الأرض أو كواكب أخرى، وشخصيّاته قد تكون بشرية وأخرى خيالية، وقد


*270*

تكون بشريّة تلتقي من أزمنة مختلفة. تعتمد أحداث قصص الخيال العلميّ على حقائق ونظريات علميّة يتمّ توظيفها بشكل أساسيّ، وبهذا تختلف قصص هذا اللون الأدبيّ عن الفانتازيا. هناك من يرى في بعض الأعمال الأدبيّة التراثيّة نواة لقصص الخيال العلميّ، مثل قصص ألف ليلة وليلة ورسالة الغفران.

الدراما:

المسرحيّة الجادّة التي تعالج الواقع، ولا يمكن اعتبارها مأساة أو ملهاة، مع إمكانيّة وجود عناصر تراجيديّة أو كوميديّة بين ثناياها.

الدوبيت:

أحد الفنون الشعريّة السبعة في الأدب العربيّ (الموّاليا، الكان وكان، القوما، الدوبيت، السلسلة، الموشّح، الزجل). يمتاز جميعها بالعامّية وتنوّع القافية. أصله فارسيّ، ويتكوّن من كلمتين: دو بمعنى اثنين، وبيت، وكلّ بيتين في القصيدة متّفقان في الوزن والقافية ويكوّنان وحدة مستقلّة.

مثال ذلك بيت واحد من الدوبيت جاء في نخلة على الجدول للطيّب صالح:

الزول إن أباك خلّيه واقنع منه وكم لله من دفن الجنى وفات منه

الرسالة:

خطاب مُرسل بين طرفين، له هدف مقصود. وهو في الأدب العربيّ على أنواع، منها:

الرسالة الديوانيّة: وتختصّ بتصريف شؤون الدولة والمكاتبات الإداريّة، ويحتاج صاحبها إلى إتقان للغة والفقه. والرسالة الإخوانيّة: وتختصّ بتبادل المشاعر وأحوال الصداقة، شعرًا ونثرًا، بين الشعراء والكتّاب، ومن أغراضها المدح والهجاء والرثاء والاعتذار والعتاب والسخرية، ومثالها في الأدب العربيّ رسالة ابن زيدون في ابن عبدوس. والرسالة الأدبيّة وتختصّ بخصال النفس البشريّة وأهوائها وطباعها، وهي عامّة لا تختصّ بشخصيّة، كصديق أو خصم، ومنها رسالة الغفران وهي في الشعراء والأدباء.

الرمزيّة:

مدرسة أدبيّة ظهرت في فرنسا عام 1886، تؤمن بالتجربة والتواصل مع الواقع، وترى أنّ التعبير عن هذه التجربة يكون من خلال الكلمات الموحية التي تعمّقها وتجعلها وجدانيّة. لكنّها اعتُبرت مدرسة مناوئة للواقعيّة، وذلك لابتعادها الأسلوبيّ في التعبير والكتابة. الرمزيّة ترى في الواقع انعكاسًا لعالم متعالٍ لا يعرفه إلّا الحدسُ الصوفيُّ للشاعر، واللغة وسيله ذاتيّة للتعبير عن درجة التواصل مع هذا العالم المتعالي، من خلال رموز فنّيّة لغويّة منزاحة إلى حدّ ما، دون أن تفقد صلتها مع دلالاتها الأصليّة.

انعكست الرمزيّة في الأدب العربيّ من خلال اعتماد نظام الترميز، وهو الإشارة والمبنى الرمزيّ المتكامل والرمز.


*271*

الرواية:

لون أدبيّ نثريّ سرديّ، تجتمع فيه عناصر القصّة، من مكان وزمان وأحداث وراوٍ وشخصيّات. تمتدّ أحداثها - في المعتاد - على فترة زمنيّة أطول من القصّة، وتتشابك حبكتها وتتعقّد أحداثها، وتتعدّد طرائق السرد والتعبير فيها.

للرواية قدرة على احتضان ألوان أدبيّة أخرى، كالرسالة والشعر والسيرة الذاتيّة، وتتقاطع مجالاتها مع التاريخ والسياسة والواقع على مختلف أشكاله، وتتأثر بالمذاهب الأدبيّة كالرمزيّة والواقعيّة والوجوديّة.

اعتمدت الرواية تقنيّات حداثيّة، بعد أن كانت رومانسيّة وتاريخيّة وواقعيّة، وأصبحت تبنّى التجريب الفنّيّ، والخيال العلميّ والفانتازيا والعجائبيّ والميتاقصّ.

تُعتَبر رواية ذاكرة الجسد نموذجًا لرواية حداثيّة يتقاطع فيها التاريخ والرومانسيّة والميتاقصّ واللغة الشعريّة بانسجام.

الرومانسيّة:

تيّار أدبيّ ظهر في أوروبا في القرن الثامن عشر. من خصائصه: طلب الحرّيّة، اللجوء إلى الطبيعة ملاذًا للنفس، التديّن، الميل إلى الغموض والروحانيّات، الاهتمام بالفرديّة، الانطلاق في الغنائيّة، التعبير عن التمزّق الذاتيّ والضياع، تفضيل الخيال على العقل.

ظهرت الرومانسيّة في الأدب العربيّ في فترة ما بين الحربين العالميّتين، ومن أشهر أعلامها: الشعراء المهجريّون، جماعة أبولّو، الروائيّون: يوسف السباعيّ، إحسان عبد القدّوس، ومحمّد عبد الحليم عبد الله.

الرويّ:

أحد أحرف القافية الذي تُبنى عليه القصيدة، ويتكرّر بتكرار أبياتها، وهو لازم في كلّ يبت في القصيدة العموديّة. عُرفت بعض القصائد قديمًا برويّها كلاميّة العرب للشنفرى، ولاميّة العجم للطغرائيّ، وسينيّة البحتريّ. مثال ذلك حرف الميم المكسور في معلّقة عنترة، واللام المكسورة في معلّقة امرئ القيس.

السرد:

مصطلح مرادف للقصّ، ويعني قصّ حدث أوخبر واقعيّ أو متخيّل بواسطة السارد أو الراوي.

السجع:

هو توافق الحرف الأخير في الكلمات التي تنتهي بها الجمل أو العبارات المتتالية في السياق النثريّ، مع تعادل تامّ أو جزئيّ في الوزن. الغرض من السجع تعزيز الناحية الموسيقيّة، وإظهار موضع الوقف من الكلام، وإبراز التوافق اللفظيّ، والفصل بين الجمل، ولفت انتباه القارئ أو المستمع.


*272*

وسجع الكُهّان لون أدبيّ معروف في الجاهليّة، وفي الشعر يسمّى السجع تقفية، وفي القرآن الكريم فواصل. مثال السجع في النثر قول زهير بن جناب في وصيّته: (إيّاكُمْ والخَوّرَ عندَ المصائبِ، والتواكُلَ عندَ النوائبِ).

السخريّة:

نوع من الاستهزاء، يكون من خلال الدمج ما بين التعيير باللغة والأسلوب الموحي، وتعتمد أحيانًا القصد بعكس ما يقال، كقولك للبخيل: ما أكرمكَ!

تُستخدم السخريّة بغرض الفكاهة في الأعمال المسرحيّة، وتختلف عن الساتيرا بأنّ الأخيرة تدمج بين السخريّة والنقد الهادف. تتجسّد السخريّة والساتترا من خلال اللغة والمواقف، وللتلاعب اللغوي استخدام بارز في هذين الأسلوبين. مثال السخريّة في قصّة انهيار لأحمد حسين:

(كيفَ تكونُ حيفا إذن أكبرَ منَ العالَمِ وهي قريةٌ صغيرةٌ فيهِ، مثلُ هذهِ الغرفةِ التي أنتَ فيها الآنَ أيّها الفأرُ الصغيرُ؟!)

السياق:

بناء نصّيّ كامل من فقرات مترابطة، له علاقة بما يسبقه وما يتبعه من فقرات وأجزاء. للكلمة في السياق معنى سياقيّ يميّزها عن المعنى المعجميّ، وللسياق العامّ للفقرة أو النصّ دور في التأويل والفهم. هنالك أيضًا السياق التاريخيّ أو السياق الاجتماعيّ الذي يُكتب فيه النصّ أو يُقرأ، وهذا يؤثّر بدوره على فهم النصّ.

يعتبر اقتطاع الجمل والاستشهادات خارج السياق الذي كانت فيه آفة نقديّة خطيرة، لأنّها تتّخذ أحيانًا معنًى مضلّلًا وقد يكون مخالفًا لمعناه داخل السياق.

مثال ذلك الاقتطاع خارج السياق الآية الكريمة (ذًقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزيزُ الْكَريمُ) (الدخان: 49)، فقد نظنّها في المدح، وهي في الحقيقة في السخريّة من الكافر عند دخوله النار.

السيناريو / القصة السينمائيّة:

هو نصّ المسرحيّة الذي تُرفق به تعليمات المُخرجِ الفنّيّة، من حيث المنظر، والأثاث، والإضاءة، والحركة، والأداء التّمثيليّ وغيره. وفي الأفلام السّينمائية يعني المصطلح نصّ الفيلم بعد معالجة الفكرة، وإعداد القصّة سينمائيًا في سياق متتابع من المواقف والمناظر الّتي تعتمد على الصور المرئيّة. وقد يشترك في كتابة السيناريو أكثر من كاتب ومؤلّف.

السيرة الذاتيّة: (الاوتوبيوغرافيا):

سرد قصصيّ نثريّ يتناول فيه الكاتب ترجمة حياته الخاصّة، سواء كان باستخدامه ضمير المتكلّم، أو الغائب،


*273*

ويتماهى فيه المؤلّف والسارد والشخصيّة الرئيسيّة. يحاول كاتب السيرة الذاتيّة أن يعرض حكاية مستمرّة لما يعتبره أكثر أحداث حياته أهمّيّة ودلالة. تشبه السيرة الذاتيّة أشكالًا أدبيّة متعدّدة، مثل أدب الترجمة الشخصيّة، واليوميّات وأدب المراسلات، والذكريات. وقد يؤدّي فيها الخيال دورًا، وقد تنصبّ على التجربة الروحيّة والتحليل النفسيّ الاستبطانيّ. وفي المعتاد يفضّل المؤلّف أن يكتب سيرته الذاتيّة في زيّ روائيّ مستفيدًا من هذه الحرّيّة، فيجرؤ على أن يدلي بما لم يكن باستطاعته أن يدلي به لو أنّه كتب اعترافًا مباشرًا. ومن أمثلة السيرة الذاتيّة في الأدب العربيّ: الأيّام لطه حسين، البئر الأولى لجبرا إبراهيم جبرا، وَظلّ الغيمة لحنّا أبو حنّا.

السيرة الشخصيّة (البيوغرافيا):

كتاب يعرض فيه الكاتب تاريخ حياة شخصيّة مرموقة، فيسرد في صفحاته مراحل حياة صاحب السيرة أو الترجمة، ويفصّل المنجزات الّتي حقّقها وأدّت إلى ذيوع شهرته، وأهّلته لأن يكون موضع دراسة. وهو نوع من الأدب الّذي يجمع بين التحرّي التاريخيّ والإمتاع القصصيّ. ويعتبر البعض أنّ فصول الناس لمعرفة أسرار الآخرين، كبارًا وصغارًا، هو الّذي أدّى إلى ذلك النوع الأدبيّ، فهو يشبع الشغف بمعرفة التفصيلات الحميمة للناس، ويقدّم مهربًا يحيا فيه القارئ في أبطال يحقق نفسه من خلالهم. ومن أشهر الأمثلة للسيرة الشخصيّة مؤلّف حياة محمّد، (النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم) لمحمّد حسنين هيكل.

السُّرياليّة:

حركة فنّيّة أدبيّة خرجت من تحت جناح الداديّة (النزعة العدميّة الّتي تحتجّ على المنطق والعُرف والقواعد والمُثل العليا وتطالب بحرّيّة مطلقة) وحلّت محلّها. كان هدف السُّرياليّين تغيير العالم من خلال الثورة وخصوصًا ثورة الوعي. وكانت تقنيّات السيرياليّة هي الكتابة الآليّة التلقائيّة لنصوص تحاول تفادي السيطرة الواعية، والاستقاء من قوى اللا شعور الحدسيّة اللا منطقيّة. كما أنّ تلك النصوص كانت تلهمها وتشكّلها المصادفة ورؤى الأحلام، وكان الهدف هدم الجماليّات السائدة وتقديم انقلاب في فهم الواقع، فكثرت عندهم الصررة المتناقضة الّتي تسخر من الفكر والإدراك العقلانيّين. لم تؤثّر السُّرياليّة كثيرًا في الأدب العربيّ، ومن أشهر من تأثّر بها اشثاعر المصريّ، الذي كتب بالفرنسيّة، جورج حنين، والشاعر اللبنانيّ أنسي الحاجّ.

الشخصيّة:

أحد الأفراد الخياليّين أو الواقعيّين الّذين تدور حولهم أحداث القصّة أو المسرحيّة. ومنذ منتصف القرن التامسع عشر الميلاديّ، ومع تيّار الواقعيّة، ركّزت الأعمال الإبداعيّة على الشخصيّة، باعتبارها فاعلًا في الحكاية، وأصبحت الشخصيّة حصيلة معطيات كثيرة، وعلاقات متشابكة في النصّ. وبذلك يمكن الإشارة إلى أنّ مفهوم الشخصيّة - بوصفها صيغة وجود معيّنة لشخص ما - تَبَلْوَرَ من خلال الأعمال الإبداعيّة، قبل الدراسات التنظيريّة.


*274*

الشخصيّة الرئيسيّة:

الشخصيّة الّتي تقود الفعل وتدفعه إلى الأمام في الدراما والرواية أو أي أعمال أدبيّة أخرى. وليس من الضروريّ أن تكون هذه الشخصيّة بطلة العمل دائمًا، ولكنّها هي الشخصيّة تستقطب أكبر كمّ من أحداث النصّ ولها حضور فاعل على امتداد الحبكة القصصيّة، وبذلك تُعرف وتميّز عن الشخصيّة الثانويّة. وفي قصّة ليلى والذئب لإميلي نصرالله، نجد ليلى هي الشخصيّة الرئيسيّة، وفي رواية نهاية رجل شجاع لحنّا مينة نجد مفيدًا الوحش هو الشخصيّة الرئيسيّة، وفي قصّة نخلة على الجدول للطيّب صالح نجد شيخ محجوب هو الشخصيّة الرئيسيّة.

الشخصيّة المدوّرة المتطوّرة:

شخصيّة مركبّة من مجموعة من السمات الّتي تبدو غير منسجمة، ولا تستقرّ هذه الشخصية على حال واحدة، ويصعب التّنبّؤ بمصيرها، وهي قادرة على أن تدهش القارئ بما لم يتوقّعه إدهاشًا مقنعًا مرّات عدّة؛ ثمّ إنّها مع هذا الإدهاش تقنعه بواقعيّة ما تفعل، ولها تأثير على الأحداث والشخصيّات الأخرى بسبب تطوّرها الدائم. من نماذج الشخصيّة المدوّرة، شخصيّة الراوي الطفل في قصّة أخي رفيق لسعيد حورانيّة.

الشخصيّة المسطّحة:

شخص يظهر في العمل الأدبيّ ولا يزيد عن كونه اسمًا، أو لا تعرضه أمامنا إلا سمة مفردة. ومن ميزات الشخصيّة المسطّحة أنّها لا تتطوّر ولا تكتمل، وتفتقد التركيب وتتمتّع بنفس الصفات، ولا تدهش القارئ بما تقوله أو تفعله. ويمكن الإشارة إليها كنمط ثابت أو كاريكاتير، يتذكّرها القارئ بسهولة، ولا تحتاج من المؤلّف إلى إعادة تقديم، لكونها لا تتطوّر عمّا كانت عليه. مثال ذلك شخصيّة أمّ تحسين في قصّة قصّة أخي رفيق لسعيد حورانيّة.

الشخصيّة النمطيّة:

هي الشخصيّة الّتي تمثّل شريحة معيّنة من شرائح المجتمع، فتظهر فيها صفات مجموعة من الناس، متماثلين في السمات دائمًا، من أجل تمثيل دور معيّن يناسبهم ويُعرفون به. مثل فئة الفلّاحين، أو البخلاء، أو المرأة الشرقيّة. مثال ذلك شخصيّة فطمة في قصّة موت الشعر الأسود لزكريّا تامر.

الشعر:

هو عمل أدبيّ يقع في شكل موزون أو في لغة ذات نسق منتظم. وقد عرّف النقّاد القدماء الشعرَ على أنّه الكلام الموزون والمُقَفّى، غير أنّ هذا التعريف قد اختلف اليوم، لأنّنا نتوفّر على أشكال شعريّة حديثة مختلفة. إذ لم تعد القصيدة الكلاسيكيّة هي النموذج الوحيد للشعر، وإنّما تشكّلت أشكال جديدة، كشعر التفعيلة، وقصيدة


*275*

النَثر. والشّعر فنّ إنشائيّ ولغويّ وأيقاعيّ، يهدف إلى تحقيق متعة خاصّة من خلال المعاني الّتي توظّف الخيال وتعبّر عن الإحساس والشعور.

عرف العرب الشعر منذ العصر الجاهليّ، ونظموا أشعارهم حسب بحور معروفة، واتّخذوا لهم أسواقًا للتجارة وإلقاء الشعر، وكان الشعر ديوانهم ومنبر قبائلهم، وكان للشاعر راوية يروي أشعاره وينشرها بين الناس.

شعر التفعيلة:

شعر التّفعيلة، أو الشعر الجديد، شكل موسيقيّ شعريّ تجديديّ، ظهر في أواخر الأربعينيّات من القرن العشرين بريادة الشاعرين نازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب. يقوم شعر التفعيلة على عدم الالتزام بالوزن والقافية الموحّدة، لكنّه يلتزم بوحدة التفعيلة وتكرارها عددًا غير متساو من المرّات في الأسطر الشعريّة. من أبرز أعلام شعر التفعيلة: صلاح عبد الصبور، عبد الوهاب البيّاتي، أدونيس، بلند الحيدريّ، فدوى طوقان، أحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم الكثير.

الشعر المنثور (الشعر الشعريّ):

وهو اللغة العاديّة الّتي تستعمل الإيقاع وتنسيق الإيقاع والأساليب البلاغيّة والوسائل الأخرى الّتي ترتبط بالشعر. وكثيرًا ما يكتب الروائيّون وكتّاب المقالات والقصّة القصيرة داخل أعمالهم فقرة قصيرة من الشعر المنثور لتحقيق تأثير خاصّ. ومن أشهر الأمثلة على الشعر المنثور بعض كتابات جيران خليل جبران، ومصطفى صادق الرافعيّ.

الشكل في الآدب:

هو طريقة الأديب في التعبيرعن فكرته، والصيغة الّتي يصوغ فيها هذه الفكرة. فالشكل الشعريّ مثلًا، ينطبق على تنظيم وحدات إيقاعيّة في بيت من الشعر، والشكل الروائيّ ينطبق على ترتيب الوقائع والأحداث في تقسيمات أوسع. تدخل اللغة والأساليب الفنّيّة ضمن الشكل، لكنّها تتعالق مع المضمون ولا يمكن الفصل بينهما وكلاهما وحدة واحدة من الفكر والخيال.

الشكلانيّة: Formalism

يعني المصطلح عمومًا أنّ التقنيّة والأسلوب هما الأمر المهمّ في النصّ، وليس مادّة التناول، فالشكل يؤكّد بمعزل عن المعاني، وهو المعيار الأساسيّ للقيمة الجماليّة، وليست التقنيّة طريقة أو منهجًا فحسب، بل هي موضوع الفنّ الأدبيّ، كما أنّ ما يقوله الكاتب ليس مهمًا بل كيف يقوله. وتعتبر الشكلانيّة الروسيّة رائدة هذا المجال، وهي مدرسة في النقد الأدبيّ، ازدهرت في روسيا ما بين 1915 وَ 1930، وقدّمت إسهامات في النظريّة الأدبيّة والتحليل الأدبيّ. وقد بحثت هذه المدرسة في أدبيّة الأدب، وآمنت بأنّ العمل الأدبيّ مستقلّ عن المؤثّرات الاجتماعيّة والسياسيّة والفلسفيّة والنفسيّة وعن قصد المؤلّف واستجابة القارئ، كما أنّ لغة الأدب مميّزة.


*276*

الصراع:

هو تصادم الأشخاص أو القوى الّذي يعتمد عليه الفعل في الدراما والقصّة. والصراع الدراميّ هو الصراع الّذي ينمو من تفاعل قوى متعارضة (أفكار ومصالح وإرادات) في حبكة، ويمكن القول إنّ الصراع هو المادّة الّتي تبنى منها الحبكة ولا تخلو قصّة من صراع. ومن أمثلة الصراع في العمل الأدبيّ: الصراع الاجتماعيّ والصراع السيكولوجيّ داخل النفس وصراع الإنسان ضدّ القدر والمصير والسلطة.

مثال ذلك: الصراع مع الزمن في قصّة زهور بيضاء بلون الثلج، والصراع مع التقاليد الاجتماعيّة والتربية الشرقيّة في ليلى والذئب وَموت الشعر الأسود.

الصنعة اللغويّة:

هي ما يقوم به الكاتب أو الشاعر من جهد فنيّ في كتابة الأثر الأدبيّ. وتتجلّى الصنعة اللغويّة في العناء المبذول في صياغة العبارات، وتوشية الكلام بالمحسِّنات البديعيّة والأنواع البلاغيّة الأخرى، وإخراج الأثر الأدبيّ بعد صقلِه وزخرفتِه، وشحنه بالمعاني والأخيلة المُبتكَرة. وقد اشترط بعض النقّاد أن يكون الجهد المبذول في الصنعة اللغويّة خفيًّأ بحيث لا يشعر القارئ بالجهد العسير الذي رافق ولادة الأثر الفنّيّ.

الطابع المحلّيّ:

نزعة تصوّر الأدب في بقعة معيّنة، أو الإخلاص في الكتابة لمنطقة جغرافيّة محدّدة وتمثيل لهجتها في الكلام، وطرائق سلوك أفرادها وعاداتهم وفولكورهم ومعتقداتهم وثيابهم وتاريخهم. والطابع المحلّيّ عنصر في كلّ أدب، إذ يعتبر كثيرون من الكتّاب المعروفين أنّ بواعث كتابتهم وأفكارهم وصورهم وبلاغيّاتهم تنبع من بيئتهم القريبة. ومن ألمع أمثلة الطابع المحليّ ما نجده في كتابات الطيّب صالح عن الريف السودانيّ وعند حنّا مينة حول المدينة والبحر، وفي كتابات توفيق فيّاض ومحمّد نفّاع عن الريف الفلسطينيّ.

الطباق:

هو الجمع بين كلمتين متضادّتين في نصّ من الشعر أو النثر، سواءٌ كان المتضادّان بلفظ الحقيقة أو بلفظ المجاز، وسواء كانا من قسم واحد من أقسام الكلام أو من قسمين مختلفين. والغرض من الطباق النظر إلى الأمر وضدّه معًا، لأنّ كلّ واحد من المتضادّين يُبْرز الآخر، إذ من المعروف أنّ الأشياء كثيرًا ما تُوضّح بما يضادّها. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ الطباق كثيرًا ما يكشف عن التكامل الكامن بين المتضادّين ممّا يجعل المعنى المقصود أكثر شمولًا ووضوحًا.

أشهر أنواع الطباق: طباق الإيجاب وطباق السلب. والأوّل أن يكون التضادّ بلفظتين مختلفتين، والثاني أن يكون التضادّ بالإثبات والنفي للكلمة نفسها. مثال الطباق بنوعيه قول أبي تمّام:


*277*

ضَوْءٌ مِنَ النارِ والظَلْماءُ عاكِفَةٌ وَظُلْمَةٌ مِنَ دُخانٍ في ضُحَى شَحِبِ (طباق إيجاب) (الكلمات التي تحتها خط ضَوْءٌ وَظُلْمَةٌ)

وَصَيَّروا الأَبْرُجَ الْعُلْيا مُرَتِّبَةً ما كانَ مُنْقَلَبًا أَوْ غَيْرَ مُنْقَلَبٍ (طباق سلب) (الكلمات التي تحتها خطّ مُنْقَلَبًا وَغَيْرَ مُنْقَلَبٍ)

العاطفة:

هي الحالة الوجدانيّة الّتي تتميّز بالاستقرار والدوام، وبعدم العنف والثورة الّلذين يميّزانها عن الانفعال. ويترتّب على وجود العاطفة الميل إلى الشيء أو الانصراف عنه. ويترتّب على ذلك تأثّر القارئ ومشاركته الوجدانيّة لهذه العاطفة.

عتبات النصّ:

هي النصوص الموازية التي تسبق النصّ المركزيّ، كالعنوان واسم المؤلّف واللون الأدبيّ والإهداء والتصدير وكلمة الشكر والمقدّمة والتظهير الذي يظهر على الغلاف الخارجيّ. لهذه العتبات أهمّيّة في تشويق القارئ وفي التلميح لدلالة النصّ، كما يمكنها فرض انطباع أوّليّ حول طبيعة العمل الأدبيّ، وبناء توقّعات منه.

العصر (في الأدب):

مرحلة زمنيّة من تاريخ تطوّر أدب ما، تتميّز بسمات خاصّة وبتغليب مذهب من مذاهب الأدب على غيره من المذاهب، كأن نقول: عصر النّهضة. ويشيع استعمال كلمة العصر في الكلام عن المدارس، والمذاهب الأدبيّة والفنّيّة. وتندرج في مدلولها عناصر، منها: العوامل السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة المكوّنة للنظام والمؤثّرة في طبقات الشعب، المعطيات الثقافيّة من علم وفلسفة وأدب، الشخصيّات البارزة في شتّى الاختصاصات. وقد اتّفق مؤرّخو الأدب العربيّ إلى تقسيمه إلى عصور، هي: العصر الجاهليّ، عصر صدر الإسلام، العصر الأمويّ، العصر العبّاسيّ، الحقبة الأندلسيّة، عصر الانحطاط، عصر النهضة، محاولين ربط التطوّرات الّتي حدثت فيها بالعوامل الّتي كيّفت العصور سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا.

العَرْوض:

علمٌ يبحث في أوزان الشعر العربيّ، وهو قائم على التقطيع، وتقطيع الشعر يعني مقابلة ألفاظ الشعر بالألفاظ الّتي تؤلّف الميزان. وهذه الألفاظ تسمّى التفاعيل مثل: فعولن، مفاعيلن، مفاعلتن، فاعلن، فاعلاتن، متفاعلن، مستفعلن، مفعولات. وحروف هذه الألفاظ تقابل في الوزن حروف كلمات بيت، الشعر: فالمتحرّك يقابل متحرّكًا والساكن يقابل ساكنًا. والتفاعيل هي لَبِنات البحر.

عمود الشعر:

اختلف النقّاد في تحديد المفهوم من قولهم عمود الشعر، فرأى فيه بعضهم التقيّد بالقواعد الخليليّة، في


*278*

المحافظة على شكل القصيدة، من التمسّك ببحر واحد فيها، ومراعاة شروط القافية، والمحافظة على البيت ذي الشطرين. وهذا هو المعنى الشّائع لعمود الشعر. ورأى البعض الآخر في عمود الشعر أنّه في توخّي المعنى الشريف، وجزالة اللفظ، والإصابة في الوصف، والمقاربة في التشبيه، ومشاكلة اللفظ للمعنى واقتضائهما للقافية. وهذا القول ينسجم مع الطريق الّتي سنّها الخليل بن أحمد، وفي احترام التقاليد المتوازنة عن المدرسة القديمة.

العنوان

هو نص فوقيّ يمثّل النصّ التحتيّ أو الأصليّ أو النصّ الأمّ بعلاقة تمثيل، ليس بالضرورة أن تكون تمثيلًا تامًّا. قد يحمل العنوان الفكرة المركزيّة، أو الحدث، أو الشخصيّة، أو الزمان، أو المكان. وقد يكون محايدًا لا يعكس وجهة نظر الكاتب، وقد يكون تأويليًّا تنعكس فيه قصديّة الكاتب. من وظائف العنوان الإيحاء والإغراء والوصف والتسمية والاختزال والمفارقة والتضليل والاستفهام.

تعتبر العنونة مفهومًا نقديًّا حديثًا، وقد كانت الصوص القديمة تسمّى بطرقٍ مختلفة، مثلًا تسمّى القصائد بمطالعها أو بحرف رويّها، وكان القرآن الكريم سبّاقًا إلى تنظيم مفهوم العنونة من خلال تسمية سور القرآن، وأحيانًا طرح أكثر من تسمية للسورة نفسها.

الغَرَض:

هو ما يرمي إليه المؤلّف من تأليفه للأثر الأدبيّ. وقد يصعب المييز أحيانًا في الأثر الأدبيّ بين الأدلّة الكامنة في النصّ، وبين الظاهرة فيه بالنسبة لغرض المؤلّف. والغرض في الشعر هو الهدف الرئيسيّ لكتابة القصيدة، كالمدح والوصف والفخر والرثاء. كثيرًا ما نقصد بالأغراض الشعريّة: المواضيع الشعريّة.

الغموض (الإبهام):

هو أسلوب أدبيّ يعتمد المبالغة في الكثيف والرمز، واعتماد لغة ليست معجميّة، يكثر فيها الانزياح، وتوظيف تقنيّات قصصيّة غير تقليديّة، كتفتيت الحبكة، وتداخل الأصوات، وعجائبيّة الحدث والشخصيّة، ممّا يخلق حالة من تغليق النصّ، وعدم وضوحه، وصعوبة استقرائه والوصول إلى دلالته.

مثال: قصيدة مدينة همندريت لتريز عواد:

(تناولت السطر 999 وانحدرت تدريجيًّا على حروفه الفوسفورية فى الكتاب صفحة 33333 ابتداء من السطر 999

والكلمة 55555

المكتوبة باللغة ال ئية لمؤلّفها ال ئي الشهير الذي إن دعي أجاب: لا! وإن لم يُدْعَ لم يكن هو وضعه عام 111111111 فغرسه في حقل البشريّة كعيدان ثقاب في دماغ الجرذان)


*279*

الفانتازيا (العجائبيّة):

نوع أدبيّ أو صيغة تقنيّة يجعل ما هو ممكن وفقًا لقوانين الطبيعة، وما هو فائق للطبيعة أو مستحيل مختلطيْن معًا. فالعجائبيّ يقتحم الحياة الواقعيّة، ويترك ذلك القارئ - ومعه في أحيان كثيرة الراوي أو الشخصية الرئيسيّة - حائرًا متردّدًا دون حسم بين التفسير الفائق للطبيعة (العجائبيّ) والتفسير الطبيعيّ أو السيكولوجيّ للعنصر الخارق. فهناك صدمة في القراءة نتيجة للتصادم بين الطبيعيّ وما هو فائق للطبيعيّ، بين المألوف وغير المألوف - وفي الفانتازيّ يتحوّل العنصر العجائبيّ إلى الدائرة المهيمنة في الوجود، وهي دائرة تقدّم صورة للعالم تنطوي على الرعب والقلق والتردّد، دون حسم بين ما هوعقليّ وما ليس عقليًّا، مما يبعث الريبة في المسلّمات المستقرّة، والعجز عن تمييز صورة كلّيّة بين اختلاط الرؤى والتخيّلات والأحلام.

الفجوات:

هي فراغات نصّيّة، يخلقها الأديب عامدًا متعمّدًا بهدف التشويق والأبداع الفنّيّ. والفراغات النصّيّة هي معلومات أو إشارات أو معطيات، يؤجّلها الكاتب حينًا، فيشعر القارئ بحاجتها أثناء القراءة أوّلًا ولفهم النص ثانيًا، الأمر الّذي يرفع من مستوى الترقّب والتساؤل والتشويق لدى القارئ، إلى حين ملء هذه الفجوات مع نهاية القصّة. ولا تأخذ الفجوات حيّزًا مكانيًّا ولفظيًّا، بل بالمعطيات الّتي يحتاجها القارئ لفهم النصّ أثناء عمليّة القراءة. والقارئ هو المسؤول عن الكشف عن مكان الفجوة وحيّزها.

والفجوات نوعان: فجوات النصّ وهي مؤقّتة تُستَكمل في سياق النصّ نفسه بفعل الكاتب، وتشمل: الاستطراد، الاسترجاع، التدريج والتمديد، التضليل، التغليق.

وفجوات القارئ وهي ثابتة إذ إنّ القارئ مُطالَب بملثها واستكمالها لاحقًا. وتشمل: الحذف، الترميز، الإغراب، التناصّ، العلاقة الضدّيّة.

مثال التضليل من فجوات النصّ قصّة ساعة الملازم لعبد السلام العجيليّ، ومثال التناصّ من فجوات القارئ قصّة ليلى والذئب لإميلي نصرالله.

الفنون الادبيّة:

الفنّ الأدبيّ هو الإطار المحدود الّذي يُعالَج الموضوع ضمنَه، من حيث الأصول والأغراض والخصائص المميّزة له. والاتّفاق على وجود الفنون الأدبيّة هو وسيلة لتصنيف الموضوعات، وطرائق التعبير عنها. ومن أنواع فنون الأدب في النثر: الخطابة، التاريخ، المسرح، الرواية، الرحلة، السيرة، الرسالة، المقالة، الدراسة وغيره. وفي الشعر: الفنّ الغنائيّ، الفنّ الملحميّ، الفنّ المسرحيّ، الفنّ التعليميّ وغيره. وقد تشمل الفنون الأدبيّة الأغراض والأشكال الأدبيّة مثل: الوصف، والرثاء، والغزل، والفخر، والمديح، والمقامة، والموشّح وغيره.

الفولكلور:

عادات شعب وتقاليده الراسخة وحكاياته وأقواله المأثورة المحفوظة المتناقَلَة شفهيًّا في معظمها. والكلمة لا تنطبق الآن على التناقل الشفاهيّ فحسب، بل تنطبق أيضًا على السجلّات المكتوبة للتقاليد والأدب والحذق اليدويّ والعادات الشعبيّة والطقوس والملابس والأدوات والمأكولات. ونجد الكثير من الفولكلور في الأشعار القصصيّة، وملاحم الحيوان، وقصص الجان والأمثال، والحِكَم، والأساطير، والحكايات، والألغاز.

القافية:

هي المقاطع الصوتيّة الّتي تكون في أواخر أبيات القصيدة، أي المقاطع الّتي يلزم تكرار نوعها في كلّ بيت. وهي، في عُرف العروضيّين، من آخِر البيت إلى أوّل ساكن يليه، مع المتحرّك الّذي قبل الساكن.

مثال ذلك قول حافظ إبراهيم:

لمِصْرَ أم لرُبوع الشَّامِ تَنْتَسِبُ هُنا العُلا وَهُناكَ المَجْدُ والحَسَبُ

أُمُّ اللُّغاتِ غَداةَ الفَحْرِ أُمُّهُما وإن سَأَلْتَ عَن الآباءِ فالعَرَبُ

والقافية أكبر من الرويّ، لأنّ الرويّ هو الحرف الأساسيّ الّذي ترتكز عليه القافية. (انظر: تعريف الرّويّ).

القصّة القصيرة جدًّا Very Short Story

لون أدبيّ قصصيّ قصير موجز، يمتاز بالإيحاء والتكثيف والترابط العضويّ والرمز والتجريب والحذف والفجوات. يقترب من القصيدة بشعريّته وانزياحاته اللغويّة، ويتناول شريحة أو قطاعًا أو موقفًا حياتيًا بأسلوب البرق. من تسمياتها: القصّة القصيدة، البرقة، الومضة. أشهر كتّابها السوريّان زكريا تامر ووليد إخلاصيّ، والتونسيّ إبراهيم درغوثيّ، والمغربيّان حسن برطال ومحمّد نجيم.

قصيدة النثر:

لون أدبيّ حداثيّ عبارة عن قطعة نثريّة موجزة، تمتاز بالتكثيف والاختزال والإيحاء والاستقلاليّة وشدّة التأثير. تخلو من الوزن والقافية الموحّدة، لكنّها تعتمد على الموسيقى الداخليّة والإيقاع الداخليّ والوحدة العضويّة. ينفتح هذا اللون الأدبيّ على الأجناس الأدبيّة الأخرى، كالقصّة القصيرة جدًّا، والرسالة، والخبر الصحافيّ، ويتمرّد على أنماط التعبير التقليديّة.

من الشعراء الذين تميّزوا بهذا اللون: أنسي الحاجّ، محمّد الماغوط، سركون بولس، عبد القادر الجنابيّ، وأدونيس في بعض قصائده.

القناع في القصيدة: (Mask)

القناع في الشعر المعاصر وسيلة دراميّة للتخفيف من حدّة الغنائيّة والمباشَرَة، وهو تقنيّة جديدة ظهرت في


*281*

الشعر الحديث والشعر الغنائي، لخلق موقف دراميّ أو رمز من فنّيّ يٌضفي على صوت الشاعر نبرة موضوعيّة من خلال شخصيّة من الشخصيّات، يستعيرها الشاعر من التراث أو من الواقع، ليتحدّت من خلالها عن تجربة معاصرة بضمير المتكلّم، إلى درجة أنّ القارئ لا يستطيع أن يميّز تمييزًا جيّداً صوت الشاعر من صوت هذه الشخصيّة، فالصوت مزيج من تفاعل صوتيّ الشاعر والشخصيّة؛ ولذلك يكون القناع وسيطًا دراميًّا بين النصّ والقارئ. وهو وسيط فيه من الشّاعر مثلُ ما فيه من الشّخصيّة التّراثيّة الّتي يمثلّها القناع؛ لأنّ التّفاعل بين الطّرفين يضغي على الرّمز الفنّيّ وضعًا جديدًا ودلالات جديدة، ولا سيّما أنّ صوت الماضي يندمج في صوت الحاضر، والحاضر في صوت الماضي، للتّعبير عن تجربة شعريّة معاصرة.

ومن أمثلة القناع استشهاد الشعراء بالشخوص الدّينيّة والصوفيّة تحديدًا، وأشهرها شخصيّة الحلّاج، كما ظهرَ في شعر أدونيس والبياتيّ وعبد الصبور.

الكلاسيكيّة العربيّة:

تُطلق اللفظة على المرحلة العربيّة المُراوِحَة بين ظهور الأدب الجاهليّ ونهاية القرن الرابع الهجريّ (العاشر الميلاديّ). وشملت الأدباء، من شعراء وكتّاب، وباحثين ساروا على نهج متشابه، وتميّز خطّهم ببلاغة الأسلوب، ومعالجة موضوعات محدودة ضمن أطر مرسومة. وعُمّمت اللفظة على مدرسة الإحياء الّتي ظهرت في أعقاب النهضة، كما سمّيت أيضًا النيوكلاسيكيّة، وحاول أتباعها السير على خُطى القدامى من حيث اختيار الألفاظ والتعايير والصور والموضوعات، حتّى قيس نبوغ الواحد منهم بمقدار اقترابه من إنتاج أديب عاش في المرحلة الكلاسيكيّة الأولى.

الكناية:

هي لفظ أُريدَ به معنى غير معناه الأصليّ مع إمكانّية إيراد هذا المعنى. والغرض من الكناية هو الابتعاد عن المباشرة، واستعمال التلميح بدل التصريح، وترك المجال للمتلقّي لكي يفكّر ويستنتج، مما يمنحه متعه أكبر في عمليّة التلقّي. من الأمثلة على الكناية قول الباروديّ:

فإنْ يَكُنْ جّفَّ عودي بَعْدَ نَضْرَتِهِ فَالدَّهْرُ مَصْدَرُ إِدْبارٍ وَاِقبْالٍ

جفَّ عودي كناية عن الضعف. وفي قول البيّاتي كناية أخرى مُدُن بلا فجر يغطّيها الجليد. المقصود أنّ هذه المدن باردة لا حياة فيها.

اللازمة:

عبارة أو بيت من مجموعة أبيات تتكرّر في آخر كلّ مقطع أو دَوْر شعريّ من القصيدة. وقد كانت اللازمة سِمَة للشعر البِدائيّ تُساعد على إنشائه وتذكّره. واللازمة من العناصر الّتي تميّز الشعر الغنائي عامّة، ولا يُشترط في اللازمة أنّ تكون دائمًا عبارة مُكرَّرَة بنصِّها. فقد تعتريها تغييرات طفيفة في كلّ دَوْر، حتّى لا تثير الملل، أو حتى يجد القارئ لِذّة في تغيير مُفاجئ غير متوقّع. مثال ذلك القصيدة المشهورة الطلاسم لإيليّا أبو ماضي.


*282*

ما بعد الحداثة: Post Modernism

هي مجموعة من النظريّات والتّيارات والمدارس الفلسفيّة والفكريّة والأدبيّة والنّقديّة والفنّيّة، التي ظهرت في وقتٍ متأخرٍ من أواخر القرن العشرين، وبداية القرن الواحد والعشرين. وقد جاءت مابعد الحداثة لتحطيم المقولات المركزيّة الّتي هيمنت قديمًا وحديثًا على الفكر الغربيّ، كاللغة، والهُويّة، والأصل، والصوت، والعقل. وقد استخدمت في ذلك آليّات التشتيت والتشكيك والاختلاف والتغريب. وتقترن مابعد الحداثة بفلسفة الفوضى والعدميّة والتفكيك واللامعنى واللانظام. وتتميّز نظريّات ما بعد الحداثة عن الحداثة السابقة بقوّة التحرّر من قيود التمركز، والانفكاك عن التقليد وما هو متعارف عليه، وممارسة كتابة الاختلاف والهدم والتشريح، والانفتاح على الغير عبر الحوار والتفاعل والتناص، ومحاربة لغة البنية والانغلاق والانطواء، مع فضح المؤسّسات الغربيّة المهيمنة، وتعريه الأيديولوجيّات البيضاء، والاهتمام بالهامش والغريب والمتخيّل والمختلف، والعناية بالعِرْق، واللون، والجنس، والأنوثة، وخطاب ما بعد الاستعمار. ولقد أفضى نشوء تيار ما بعد الحداثة إلى ردود فعل مختلفة في الفكر والأدب العربيّ. وأعرب بعض الكتّاب عن الفكرة الخاطئة في وصولنا مرحلة مابعد الحداثة، نظرًا إلى أنّنا لم نحقّق الحداثة نفسها، كما صيغت مفاهيمها ومورست في الغرب.

الماساة (تراجيدي): Tragedy

عمل دراميّ يهدف إلى تصوير مأساة قد تكون مبنيّة على قصّة تاريخيّة أو أسطورة. ويشترك في أحداثه شخصيّات بارزة لتثير في نفس المُشاهد الرعب والشفقة بعرضها الأهواء البشريّة المتصارعة مع قدرها. وكان الإغريق أوّل من عُني بهذا الفنّ، حيث كانوا يمزجون الأحداث المؤثّرة والمأساويّة بعناصر غنائيّة. وتطلق اللفظة حاليًا على المسرحيّات الّتي تبعث الرّعب بما تصوّره من أحداث محزنة، يسبّبها القدر ولا يد للإنسان فيها، أو كلّ صرإع نفسي عنيف، أو كل أحداث دامية. من أمثلة المأساة في المرح العربيّ مسرحيّة رأس المملوك جابر لسعد اللّه ونّوس.

المبالغة:

هي الإسراف والغلوّ والتضخيم في التعبير بقصد التّأثير في القارئ، وفي تعريف آخر: هي مزايدة على الواقع بالإشارة إلى أبعاده الشاعريّة لتحقيق البلاغة في النصّ. وللمبالغة صيغ صرفيّة معروفة كمفعال، وفعّال، وفعول،وفعيل:

مثال المبالغة قوله تعالى:

(وَلَا:يَدْخُلُون الْجّنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ في سَمِّ الْخِيَاطِ) (الأعراف:40)

وقول الخنساء في رثاء أخيها صخر:

وإنّ صخرًا لمقدامٌ إذا ركبوا وإنّ صخرًا إذا جاعوا لعقّارُ


*283*

المجاز:

هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر الحرفيّ إلى معنى له علاقة غير مباشرة بالمعنى الحرفيّ. والمجاز من الوسائل البلاغيّة الّتي تكثر في كلام الناس، البلغاء منهم وغيرهم، وهي تصنَّف مع علم البيان. والمجاز نوعان:

مجاز عقليّ: وهو استعمال اللّفظ أو الفعل بأن يُسند إلى غير من هو له، بسبب علاقة ما، نحو: (شفى الطّبيبُ المريضَ)، فإنّ الشّفاء من اللّه تعالى، وإسناد الشّفاءإلى الطّبيب مجاز، بسبب وجودعلاقة بين الطبيب والشفاء وإن لم يَشْفِ بنفسه.

ومجاز لغويّ: وهو لفظٌ استُخدمَ لغير معناه الحقيقيّ لعلاقة معيّنة، ومثاله قول الشريف الرضيّ:

الماءُ عندكِ مبذولٌ لشاربِهِ وليسَ يُرويكِ إلّا مدمعي الباكي

والماء يقصد به ريق محبويته مجازًا.

المحسّنات البديعيّو:

وهي نوعان محسّنات لفظيّة، ومحسّنات معنويّة.

وجوه تحسين الكلام من ناحية اللفظ، كالجناس والمسجْع، أو من ناحية المعنى، كالمُطابقة والتورية، ولزوم ما لا يلزم، والاقتباس، والتصدير.

المذكّرات:

لون أدبيّ فيه سرد وتدوين لأحداث جرت خلال حياة المؤلّف، وكان له فيها دور. وتختلف عن السيرة الذاتيّة بأنّها تخصّ العصر وشؤونه بعناية كبرى، فتشير إلى جميع الأحداث التّارخيّة الّتي اشترك المؤلّف فيها، أو شهدها أو سمع عنها من معاصريه وأثّرت في مجرى حياته. وقد بلغ عدد المذكّرات الّتي وضعها المشاهير من ملوك ورؤساء جمهوريّات وسياسيّين وموظّفين وأدباء، الألوف، حتّى أصبح من العسير إحصاؤها. ومن المذكّرات الشهيرة: مذكّرات طاغور.

المراوحة بين الشعر والنثر:

هو المزج المتعمَّد بين فنّيِّ الشعر والنثر في النصّ الأدبّي الواحدِ. وقد اتُّبع هذا الفنّ منذ العصر القديم، حين كان الخطباء والكتّاب يزاوجون بين النثر والشعر في الخطب والرسائل، وكانت المراوحة بين الشعر والنثر أحد الأساليب الفنيّة المتّبعة، ومن ميزات الصنعة اللغويّة. أمّا في العصر الحديث فتُعتبَر المراوحة بين الشعر والنثر شكلًا من أشكال التجريب والتحديث، واستجابةٌ لحركة الحداثة الشعريّة التي تسعى إلى تطوير تجربة القصيدةِ في الشعر العربيّ الحديث. كما تُعتبَر المراوحة بين الشعر والنثر أحد مظاهر الكتابة عبر النوعيّة، التي تعتَبِر المزاوجة بين الأنواع الأدبيّة أمرًا حيويًّا يُغْني النصّ الأدبيّ. يظهر هذا الأسلوب - على سبيل المثال - في ديوان


*284*

(في حضرة الغياب) (2006) للشاعر محمود درويش، وتحديدًا في قصيدة خواتم الفصول، حيث يمزج فيها درويش عامدًا بين الشعر الموزون وفقَ نظام التفعيلة وبين النثر، فلا يعرف القارئ أين ينتهي النصّ النثريّ وأين يبدأ النصّ الموزون. ولذلك يتطلّب هذا النوع من الكتابةِ قارئًا مرِنًا متمكّنًا من فنّ الإيقاع والأوزان ومن الأساليب الفنّيّة المختلفة.

مسرح العبث بالأدب:

هو أن يتبدّل الواقع بعكسه فنقرّة وتقبله ليصير واقعًا بديلًا. صاحب هذا المصطلح هو المسرحيّ الألمانيّ برخت. المأساة في مسرح العبث تصير أمرًا مقبولًا وعاديًّا، ومن العبثيّة أن نقرّها ونعطيها شرعيّة.

المعنى المعجميّ والمعنى السياقيّ:

المعنى المعجميّ: هو المعنى العامَ للكلمة، والّذي نجده في المعاجم والقواميس. والمعنى المعجميّ غير مرتبط بسياق، وهو مجال ثابت إلى حدّ كبير. ومعرفة المعنى المعجميّ أمر سهل وقريب المنال، وذلك بالعودة إلى أيّ معجم أو قاموس متعارف عليه.

المعنى السياقيّ: هو معنى خاصّ مرتبط بسياق معيّن وله مناسبة محدّدة. في المعنى السياقيّ يكتسب المعنى المعجميّ معنًى جديدًا أو أكثر. وتعتبر معرفة المعنى السياقيّ أمرًا ليس هيّنًا، كونه يقتضي الإلمام بكلّ الاستعمالات الحقيقيّة والمجازيّة للكلمة، وهذه الاستعمالات قد تكون غير قابلة للحصر.

مثال: الفعل قَطَعَ في معناه المعجميّ محدود وثابت. بينما في معناه السياقيّ متعدّد وكثير، مثل:

قَطَعَ العدّاء المسافة بعشر دقائق: اجتاز.

قَطَعَ سامر رأس الأفعى بفأس: بتر.

قَطَعَ على نفسه عهدًا ألّا يعود إلى فعلته تلك: التزم.

المعادِلُ الموضوعيّ:

هو مجموعة من الموضوعات والمواقف والأحداث التي تشكّل صيغة للانفعال الفنّيّ في نصّ أدبيّ. يرى إليوت أنّ مسرحيّات شكسبير الناجحة قائمة على درجة عالية من الملاءَمة بين العناصر الخارجيّة والانفعال.

في شتق زهران (لصلاح عبد الصبور) تتوافق الأحداث الخارجيّة والواقعة التاريخيّة (دونشواي) مع انفعال زهران، فتبرّره وتبثّره، فهي المعادل الموضوعيّ لحالته الانفعاليّة التي جعلته يقوم بدور التضحية أو البطولة.

المقابلة:

هي تناظر بين جملتين أو عبارتين، في الشعر أو النثر، فإمّا أن تكونا مختلفتيْن أو متوافقتيْن في المعنى. وتضمّ المقابلة فرعيْن: مقابلة مُضادَّة: وهي الّتي تأتي على سبيل الاختلاف، ومقابلة موافَقَة: وهي الّتي تأتي على


*285*

سبيل التوافق. والأجود في المقابلة بفرعيْها أن يُراعى التوازن والتناظر التامّ بين الألفاظ في الجملتين أو العبارتين: كلّ كلمة وما يناظرها بالترتيب نفسه.

من الأمثلة على المقابلة المضادّة: ليس له صديق في السرّ، ولا عدوّ في العلانية.

وقوله تعالى: فليضحكوا قليلًا وليبكوا كثيرًا (التّوبة: 82)، حيث قابل بين الفعلين المشتقّين من الضّحك والبكاء، ثم بين الصّفتين قليلًا وكثيرًا، مع مراعاة التناظر التامّ بين الألفاظ: الفعل أوّلًا ثمّ الصفة.

ومن الأمثلة على مقابلة الموافقة قولنا: الحرُّ إذا وَعَدَ وفَى وإذا أنجزَ كَفى. حيث قابلْنا بين الأفعال (وعد، أنجز، وفى، كفى) مع مراعاة التناظر التامّ.

المقطع:

فِقرة من النثر أو الشعر، تشكّل عددًا من الأسطر أو الأبيات الّتي ترتبط بمعانٍ متقاربة، منطلقة من فكرة أساسيّة. والمقطع في الشعر جزء من قصيدة، أو أبيات قليلة لا يتعدّى عددها سبعة أو تسعة أبيات.

ملحمة / الشعر الملحميّ: Epic

هي قصائد طوال، تدور حول قصص أبطال ومعارك ضخمة في فترة محدّدة من تارخ الأمّة، وتهدف إلى تمجيد مُثُل جماعيّة عظيمة، مواء كانت دينيّة أو إنسانيّة أو وطنيّة، وذلك بسرد مآثر بطل حقيقيّ أو أسطوريّ تتجسّد فيه هذه المُثُل. وتعتمد الملحمة مخيّلة إغرابيّة بخلقها عالما أكبر وأوسع من العالم المعروف. وتستند إلى سرد أحداث تمتزج فيها الأوصاف والشخصيّات، والحوارات والخطب والنصائح، وتندرج كلّها في حكاية نلّفها في وحدة واضحة. وتتميّز الملحمة بقوّة إيحائيّة كبيرة بحيث تُخرِج السامع أو القارئ من عالم واقعيّ إلى عالم خياليّ جديد، كما تتميّز بلغتها المُغرِقة في التشابيه والاستعارات. وتدور الملحمة حول بطل، فتضخَّم مآثره وتخرجه من نطاقِ البشر العادّيين وتحوّله إلى رمز ممثّل لفكرة قوميّة أوإنسانيّة. ولذلك امتزجت حياة الأبطالِ بحياة الآلهة في الملحمة الإغريقيّة. ومن أشهر الملاحم: الإلياذة والأوذيسّة الإغريقيّتان، المهاباراتا الهنديّة، الشاهنامة الفارسيّة، وقد تُرجمت جميعها إلى العربيّة.

أمّا بالنسبةِ للأدب العربيّ، فلم يكن هذا اللّون شائعًا قديمًا، وقد ظهرت بعض ملامح الشعر الملحميّ في الشعر العربيّ القديمِ، في قصائد الحماسة الّتي تصف المعارك، وتصوّر اقتحام الأبطال في ميادين القتال، وأشعار المعارك الحربيّة التي جرت بين العرب والفرس، أو بين العرب والروم، وكذلك في الحروب الصليبيّة. وهنالك من يعتبر قصيدة فتح عمّوريّة شعرًا ملحميًّا، وهي القصيدة التي نظمها أبو تمّام في مدح الخليفة المعتصم عند انتصاره على البيزطيّين وفتحه لعمّوريّةَ، بعد أن نصحَه المنجّمون بعدم الدخول في هذه الحرب.

وهنالك السِّير الشّعبيّة التي تعتمد على النقل الشفهيّ والتكرار، وقد أطلق عليها اسم ملاحم مجازًا، ومنها سيرة الزير سالم، وعنترة، وسيف بن ذي يزن، والأميرة ذات الهمّة، وسيرة بني هلال.


*286*

المفهوم:

هو المعنى الّذي تستدعيه كلمة ما في ذهن الإنسان غير معناها الأصليّ، نتيجة تجربة فرديّة أو جماعيّة مرّ بها. فكلمة الأمّ مثلًا، تثير في ذهن الفرد عادة فكرة الحنان والعطف، أي مفهوم الحنان والعطف.

المناجاة:

طريقة للسّرد يلتزمها بعض كتّاب الرواية في الكشف عمّا يدور في نفوس شخوصهم، بعيدًا عن تقديم الحدث أو الحوار الخارجيّ - الديالوج، ومن غير تقيّد بالترتيب النحويّ أو المنطقيّ للكلام. ويكون ذلك محاكاة لتطوّر الأفكار في الذهن الّذي يشرد من موضوع إلى آخر دون قاعدة أو اتّجاه معيّن. والغرض من تقديم هذا النوع من المناجاة الكشف عمّا سمّاه علماء النّفس بمستويات الوعي السابقة على التعبير. ويُلاحَظ أنّ هذه المناجاة خالية من علامات التّرقيم، وأنّ الغرض من تسجيلها الإيحاء بحركة العقل المتدفّقة المستمرّة وما يشتمل عليه من تداعي المعاني من غير ضبط ولا منطق. ونجد هذا النوع من المناجاة مثلًا في بعض مؤلّفات نجيب محفوظ.

المناظرة:

هي تبادل الكلام والآراء المتعارضة في موضوع ما يثير الجدل، كبعض الموضوعات الساسيّة أو الأدبيّة، بحيث يدلي كلّ طرف بحججه ومنطقه كي يثبت رأيه. عرف العرب الكثير من المناظرات في النحو والدين، وأشهر المناظرات النحويّة ما جرى بين سيبويه والكائن حول المسالة الزنباريّة.

الموازنة، الموازاة: Prallel, Comparison

هي دراسة يتمّ من خلالِها المقارنة بين فكرتين أو أثرين أو مدرستين أو عصرين تاريخيّين أو شخصين، بقصد الإيضاح والترجيح. وقد كانت الموازنة أساسًا، ومنذ الجاهليّةِ، للمفاضلةِ، وكانت مدرسة الحطيئة وكعب بن زهير مقابِلة لمدرسة الشمّاخ وأخيه مزرد. وفي صدر الإسلام قامت الموازنة بين القرآن الكريم وكلام العرب، وكانت بين شعراء الرسول وخطبائه من ناحية، وشعراء الوفود العربيّة وخطبائهم من ناحية أخرى. وكان العصر الأمويّ زاخرًا بالموازنة بين الفحول والغزليّين و السياسيّين من الشعراء، وبين الخطباء والأدباء جميعًا، فخلّف لنا ثروة نقديّة قيّمة على رغم تأثّرها بالعصبيّات والأهواء والأمزجة.

أمّا في العصر العبّاسيّ فقد بدأ هذا الفنّ النقديّ نشيطًا بين بشار ن برد ومروان بن أبي حفصة، وبين أبي تمّام والبحتريّ، وبين المتنبّي وخصومه. وقد انسحبت الموازنة على النثر أيضًا، فكانت بين الخطباء والكتّاب وبين اللّفظ والمعنى، وفي كلِّ ما هو صالح لهذا الضرب.

مثال الموازنة في الأدب العربيّ كتاب الموازنةُ بين أبي تمّام والبحتريّ لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمديّ. ومن المعاصرين كتاب زكي مبارك والموارنةُ بين الشعراء.


*287*

أمّا الموازنة في البديع العربيّ فهي أن تكون الفاصلتان متساويتين في الوزن لا في التقفية، كقولهِ تعالى: (ونمارقُ مصفوفة ووزرابيٌّ مبثوثة) (سورة الغاشية 15،16). فإنّ مصفوفة و مبثوثة متّفقتان في الوزن الصرفيّ دون التقفيةِ. أو هي أن تكون أوزان الألفاظ متعادلة وأجزاؤها متوالية، كقول امرئ القيس: (أفادَ، وسادَ، وقاَد، وزادَ وشادَ، وجادَ، وزادَ).

الموتيف: Motif

الموتيف أو الموضوع الدالّ هو لفظة أو جملة أو فكرة أو موضوع متكرّر في العمل الأدبيّ من أجل تطوير فكرة النصّ. وتكرار الموتيف يمنحه قيمة ومعنى ودلالة، كما أنّ الحقل الدلاليّ يتحدّد ويتشكّل من خلال الموتيفات المتكرّرة داخل النصّ. ومن أمثلة الموتتف: الوقوف على الأطلال في كثير من القصائد الكلاسيكية والنيوكلاسكيّة، أو: اختطاف أميرة أو ملكة موتيف تكرّر كثيرًا في قصص الجنّيات والقصص الخياليّة.

ويعٌتبر الموتيف نمطًا أساسيًا في بناء العمل الأدبيّ أو الفنّيّ. ويختلف الموتيف عن الثيمة / الموضوعاتيّة،

في أنّ الثيمة فكرة محدّدة مسبقًا من قبل النصّ، بينما الموتيف هو العنصر المتكرّر الّذي يرمز إلى تلك الفكرة.

المونودراما: Monodrama

هي المسرحيّة الّتي لا يمثل فيها سوى ممثّل واحد، يقوم بدور واحد أو يتقمّص وحده أدوارًا مختلفة. ويُعْتَبَر هذا النوع من المسرح اختيارًا لقدرة الممثّل وبراعته، فعليه وحده ينصبّ كل ما تحمله المسرحيّة من مضامين وأفكار.

الميتاشعر: Meta - poetry

هوالشعر في مرآة نفسه، كَأَنْ يَتأمَّل الشاعر نفسه من خلال عمله الشعريّ، فيتحدّث عن سيرورة الكتابة وهموم الشاعر وأدواته ولغته وأوزانه ومصطلحاته النقدية وعلاقته يقرائه، ودلالات قصيدته ومدى فهمها عند قارئ معيّن. الميتاشعر حالة من التأمّل الباطني والوعي الذاتي للشاعر حول نصّه وحول علاقة النصّ بالواقع وعلاقة النصّ بالنقد، وكل هذه الموضوعات هي الموضوع الرئيسيّ في القصيدة.

من الشعراء الذين تجد لديهم هذه الظاهرة علي محمود طه في غرفة الشاعر، وأدونيس (مرئيّة للحلّاج): يا ريشةً مسومةً خضراء / يا لغة الرعد الجليليّة / يا شاعرَ الأسرار والجذور ومحمود درويش (لا تكتب الشاعر شعرًا):

وليس للتاريخ وقتٌ للتأمّلِ / ليس للتاريخ مرآة ووجهٌ سافرٌ / هو واقع لا واقعيّ / أو خيالٌ لا خياليٌّ / فلا تكتبه / لا تكتبه / لا تكتبه شعرًا.


*288*

الميتاقصّ: Metafiction

القصّ في مرآة نفسهِ أو السرد النرجسيّ. كتابة عن الكتابة، وكلام نقديّ في سياق قصصيّ، يجعل العلاقة بين النقد والأدب موضوعًا له، بحيث يفرز هذا الموضوع مَحاوِرَ مثل علاقة الكاتب بنصوصه، الرقابة عليها، نشرها وظروف طباعتها، قراءتها وتأويلاتها، علاقة الكاتب بأبطال شخصياته، حدود العلاقة بين الواقع والخيال، سيرورة الكتابة، حديث الكاتب عن أعماله السابقة، أو عن أعمال غيره.

من الروايات الميتاقصّية: النجوم تحاكم القمر لحنّا مينة، خشخاش لسميحة خريس، قميص ورديّ فارغ لنورا أمين، ورّاق الحبّ لخليل صويلح.

من الأمثلة في ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي:

إنّنا نكتب الروايات لنقتل الأبطال لا غير، وننتهي من الأشخاص الذين أصبح وجودهم عبثًا على حياتنا. فكلّما كتبنا عنهم فرغنا منهم وامتلأنا بهواء نظيف).

مثال على الميتالغة في ذاكرة الجسد:

بين ألف الألم وميم المتعة كان اسمك. تشطره حاء الحرقة ولام التحذير. فكيف لم أحذر اسمك الذي ولد وسط الحرائق الأولى. شعلة صغيرة في تلك الحرب. كيف لم أحذر اسمًا يحمل ضدّه ويبدأ ب أح الألم واللذة معًا. كيف لم أحذر هذا الاسم المفرد - الجمع كاسم هذا الوطن، وأدرك منذ البدء أن الجمع خلق دائمًا ليقتسم.

المنظور / وجهة النظر: Point of View

مصطلح مستمدّ من الفنون التشكيليّة، نُقل إلى المجال الروائيّ، ويتعلّق المنظور بالسؤال: كيف يروي الراوي ما يرى؟ وكيف يرد من خلال وجهة نظره، فلا ينقل الحدثَ المحكيَّ نقلًا فوتوغرافيًّا؟. بما أنّ تقديم القصّة لا يتم إلّا عبر منظور سرديّ يعالج علاقات السارد مع الآخرين ومع العالَم، ثمّ يفرض على الراوي وجهة نظر ما؛ فإنّ وظيفة المنظور الأساسيّة هي تشخيص الحدث الروائيّ. وقد عرفت الرؤية تسميات كثيرة: فبعضهم يسمّيها وجهة النظر، وآخرون يسمّونها زاوية الرؤية، وغيرهم بؤرة السرد، وحصر المجال، والتبثير والرؤية السرديّة. ولعلّ تسمية وجهة النظر هي الأكثر شيوعًا.

الْمُشترَك اللفظي:

هو اللفظ الواحد الّذي يدلّ على أكثر من معنى واحد. مثل كلمة العين فإنّها تطلق على عضو البَصَر، وعلى الجارية، كما تُطلق مجازًا على الجاسوس.

المضمون:

مجموعة المعاني والخواطر والأفكار الّتي يُرمَز لها بالألفاظ والصيغ الأدبيّة في النصّ الأدبيّ.


*289*

المغزى:

العبرة أو الدرس الأخلاقيّ الّذي يمكن استخلاصه من أثر أدبيّ، سواء أراده مؤلّفه صراحةً أو جاء عن طريق الاستباط. والمغزى موجود في أغلب القصص، وحكايات الحيوان، وحتّى الأساطير والخرافات الّتي تعتمد على تجسيد المعاني في حبكة ومزيّة.

المفارقة: Irony

أسلوب بلاغيّ يقوم بشكل أساسي على التضادّ بين المعنيين الظاهريّ والباطنيّ. والمقصود أنّنا نسوق معنًي ما، في حين يُقصد منه معنًى آخر، غالبًا ما يكون مخالِفًا للمعنى السطحيّ الظاهر. وكلّما اشتد التضادّ بينهما، ازدادت حدّة المفارقة في النصّ. وقد نمت هذه الظاهرة في الشعر الحديث وفي المسرحيّة على مستوى اللفظ والموقف.

والمفارقة نوعان رئيسيّان، هما: المفارقة اللفظيّة ومفارقة الموقف أو السياق.

مثال مفارقة الموقف قول إبراهيم طوقان في الحبش الذبيح:

قالوا حلاوةُ روحِهِ رَقَصَتْ بِهِ فَأَجَبَتُهُم ما كلُّ رَقْصٍ يُطْرِبُ

وقول نزار قباني في قارئة الفنجان:

مقدورُكَ أنْ تمشي أبدًا في الحُبُ على حدِّ الخنجرْ

ومثال المفارقة اللفظيّة قول يوسف إدريس: ورائحةَ ربيعٍ مُقبلٍ مُخيفٍ.

الميثولوجيا: Mythology

كلمة يونانيّة معناها معالجة الأساطير، او هي علم الخرافات وأخبار الآلهة. والأبطال في جاهليّة التاريخ وكلّ ما له صلة بالوثنيّة وطقوسها وأسرارها ورموزها ومظاهرها.

النَبْر:

هو التشديد على مقطع خاصّ من الكلمة لجعله بارزًا أوضح في السمع من غيره من مقاطع الكلمة، أو هو رفع الصوت في كلمة أو عبارة لإبراز أهمّيّتهما. ولا يكون نُطق اللغة صحيحًا إلّا إذا رُوعِيَ فيه موضوع النبر. وتختلف اللّغات عادةً في موضع النبر في الكلمات. ويبرز النبر في اللغة العربيّة في الخطابة، وفي تجويد القرآن الكريم.

النثر الفنّيّ:

هو النثر الّذي يخضع لقوانين معيّنة كأن يحتوي أفكارًا منظّمة تنظيمًا حسنًا، ومعروضة في أسلوب جذّاب، حسن الصّياغة، جيّد السّبك، جاريًا على قواعد النّحو والصرف. وقد يأتي النثر في صورة خَطابة أو رسالة أو قصّة أو مناظرة أو تاريخ أدبيّ.


*290*

النثر التّقريريّ:

هو النثر الّذي تتصمّن موضوعاته التعريفات، والتعميم، وتوضيح الأفكار والمبادئ، بقصد تقديم المعاني في أسلوب سهل الإدراك وغير عاطفيّ، ويشيع ذلك في النصوص الوظيفيّة لا الأدبيّة.

النثر المُرسَل:

كلامٌ خالٍ من التزام التقفية أو السجع في أواخر عباراته. وهو لا النثر الّذي كُتبت به كتب التاريخ والفلسفة والفقه والأصول والتفسير والعلوم، وغيرها ممّا أبدعه العقل العربيّ والإسلاميّ. حيث يجد الناثر من فسحة القول، وحرّيّة التعبير، والتصرف ما قد لا يجده الشاعر أحيانًا، نتيجة الالتزام بقيود الشّعر وضوابطه؛ من وزن، وقافية، وخصائص شعريّة ترهقه، وتضيق بها حرّيّته في التعبير.

النثر المسجوع:

نوع من النثر شاع في العصر الجاهليّ، خاصّةً ما عُرف بسجع الكُهّان. وهو نثر إيقاعيّ ذو فواصل مسجّعة. وفي تعريف ابن رشيق، هو: لون فنّيّ يعمد إلى ترديد قطع نثريّة قصيرة، مُسَجَّعَة ومتتالية، تعتمد في تكوينها على الوزن الإيقاعيّ أو اللفظيّ، وقوّة المعنى. ومن مميّزاته أنّه يأتي: مُحكَم البناء، جزل الأسلوب، شديد الأسر، ضخم المظهر، ذا روعة في الأداء، وقوّة في البيان، ونضارة في البلاغة. لغته تمتاز بشديد التّعقيد، وكثرة الصنعة، وكثرة الزخارف في الأصوات والإيقاعات.

النحت:

النحت اقتطاع كلمة واحدة من كلمات مشتركة أو من عبارة. أو: هي الطريقة الّتي يتمّ فيها جمع كلمتين أو عبارة باختيار أجزاء مناسبة من عدّة كلمات مختلفة، لتعطي كلمة واحدة في النهاية. مثال على النحت من كلمتين: كَفْرَساوي: الشّخص الّذي يسكن في كفر ياسيف.

مثال على النحت من عبارة: البسملة من عبارة: بسم الله الرّحمن الرّحيم.

تعتبر النحت أسلوبًا شائعًا في العربيّة. والغرض منه اختصارالكلام، والتمكّن من تسمية الأشياء بطريقة أسهل، ولتسهيل نقل المصطلحات العلميّة من اللغات الأوروبيّة الّتي تمتلك الآن زمام العلوم والمخترعات، ولتوسيع قواميس اللغة واشتقاقات الألفاظ. ومن أمثلة النحت: الحتلنة، التشاؤل، سلسبيل، ماهيّة، كهرومغناطيسيّ، برمائيّ وغيره.

النرجسيّة: Narcissisme

هي حالة من يعشق نفسه، خاصّة جماله. اشتُقّت اللفظة من نرسيس أو نرجس وهو شخصيّة أسطوريّة ورد ذكرها في الميثولوجيا اليونانيّة التي أشارت إلى أن نرسيس كان بارع الجمال، وتقول إنّه وصل يومًا إلى


*291*

قرب يُنبوع، فرأى في الماء صورة وجهه فأُعجبَ بها، واستغرق في نشوة داخليّة تائقًا في غيبوبته إلى التملّي من ذاته الأخرى، غير أنّه عجز عن تحقيق رغبته فانضنى ألمًا حتّى مات. وتحوّل نرسيس إلى زهرة من نرجس، ورمز إلى الموت الباكر، وفق أقوال القُدامى. وقد عمد كثير من الأدباء العالميّين إلى هذه الشخصيّة وأفادوا منها في شعرهم وقصصمهم. وانتقلت إلى الأدب العربيّ فابتعثها توفيق الحكيم في مسرحيّته بيجماليون. ومن اسم هذه الشخصية اشتُقّت لفظة النرجسيّة. تتجلّى النرجسيّة في كثيرمن الآثارالفنّيّة، لا سيما في الشعر. فنرى الشاعر يتّخذ من نفسه، من جماله وفنّه وقوّته، محورًا يدير حوله كلّ طاقاته الإبداعيّة. وقد تصدر النرجسيّة عن مغالاة في الثقة بالنفس، أو عن تربية أرستقراطيّة متعالية. ويميل النقد الأدبيّ إلى اعتبار المتنبّي شاعرًا نرجسيًا من شعراء العصر القديم ونزار قبّاني شاعرًا نرجسيًا من شعراء العصر الحديث.

النقد: Criticism

هو فنّ تحليل الآثار الأدبيّة والتّعرّف إلى العناصر المكوّنة لها، والانتهاء إلى إصدار حكم يتعلّق بمبلغها من الإجادة. وهو يصفها أيضًا وصفًا كاملًا معنًى ومبنًى، ويتوقّف عند المنابع البعيدة والمباشرة، والفكرة الرئيسية، والعلاقة بين الأقسام، ومميّزات الأسلوب من حيث الشكل والمفردات والتركيب، وكلّ مركّبات الأثر الأدبيّ. والنقد أنواع: منه النقد الانطباعيّ والتفسيريّ والموضوعيّ والنقد البنيويّ وغيره.

النهاية الفصصيّة:

نقطة انتهاء البياض عنلى السراد في القصّة. وهي تنهي النصّ بشكل رسميّ، وقد تقدّم الحلّ أو تلمّح له، أو تنقصه. هنالك أنواع من النهايات، منها المفتوحة، وهي تترك الحلّ للقارئ، وتجعل النصّ مفتوحًا، وهنالك المغلقة وهي التي تقدّم الحلّ، وهنالك المنثورة وهي التي تتناثر عناصرها وأجزاؤها على امتداد النصّ، بدءًا بالعنوان، فيتوقّعها القارئ، وهنالك النهاية الكاذبة أو المغلوطة وهي المفتعلة التي لا تتناسب وسياق القصّة ومتطلّبات الحلّ، وهنالك المتوقّعة التي تنسجم مع الحبكة ومنطق التتابع، وهنالك المضلِّلة التي تقود القارئ إلى اتّجاه، فإذا وصله تنحرف به إلى اتّجاه آخر.

الواقعيّة: Realism

مذهب أدبيّ يعالج موضوعات واقعيّة مقتبسة من الأحداث الحيّة أو من التاريخ، ووصف البيئة وصفًا دقيقًا وموضوعيًّا. وهو مذهب يعتمد الماديّة والعلمانيّة ويرفض المثالية والرومانسيّة والرمزيّة والروحانيّات.

الوجوديّة: Existentialism

مذهب فلسفيّ يُنسَب إلى المفكّر والكاتب الفرنسيّ جان بول سارتر وأتباعه. ظهر هذا المذهب في معارضة المذاهب العقلانيّة الّتي تتناول الأفكار المجرّدة بعيدًا عن الحياة الواقعيّة الملتصقة بكلّ إنسان على وجه


*292*

الأرض، ونادى بوجود الإنسان في واقعه المحسوس باعتباره فردًا مرتبطًا بالمجتمع. كما يتركّز اهتمام الناقد الوجوديّ واشتغاله على استكشاف معالجة النصّ الأدبيّ للقضايا والمسائل الوجوديّة، وتأثيره على الوعي الوجوديّ للقارئ.

وحدة العمل الادبيّ:

يعني المصطلح أنّ العمل الأبيّ ينبغي أن يكون له مبدأ التنظيم، بحيث يعمل على أن ترتبط الأجزاء معًا بطريقة تؤدّي إلى تشكيل كلّيّ عضويّ. وعلى الرّغم من أنّ النصّ الأدبيّ يمتلك علاقات واضحة منطقيّة بين الجزء والآخر، يختلف مصدر الوحدة من عمل إلى آخر، فقد تكون الحبكة، أو التشخيص، أو الفكرة الرئيسيّة، أو الجوّ النفسيّ، هي القوّة الدافعة لتلك الوحدة.

الوحدة العضويّة في القصيدة:

نقصد بالوحدة العضوية في القصيدة وحدة الموضوع، ووحدة المشاعر الّتي يثيرها الموضوع، وما يستلزم ذلك في ترتيب الصور والأفكار ترتيبًا تتقدّم به القصيدة شيئًا فشيئًا، حتّى تنتهي إلى الخاتمة. والمقصود بوحدة الموضوع. هو أن يكون للقصيدة موضوع واحد من أوّلها إلى آخرها، وأن تتكامل أفكارها، وتكون مرتّبة ترتيبًا منطقيًّا، بحيث تُسَلَّم كل فكرة إلى الّتي تليها، وترتبط بما قبلها، ارتباطًا وثيقًا أمّا المقصود بوحدة المشاعر، فهو أن تنسجم مشاعر الشاعر مع الموضوع الّذي يعبّر عنه، وأن تكون هذه الشاعر والعواطف هي المهيمنة على موضوع القصيدة.

والوحدة العضويّة هي أن تكون القصيدة كالكائن الحيّ، يكتمل بآجزائه كما يكتمل الجسد بأعضائه، فالقصيدة بهذا المعنى تصبح بناءً متماسكًا يهيمن عليه إحساس واحد، وأفكارها شديدة التلاحم، وكلّ فكرة تمهّد للأخرى، بحيث لا يمكن آن تُقدَّم أو تُؤخَّر فكرة عن أخرى، وإلّا اختلّ البناء الفنّيّ واضطرب بناء القصيدة.

الوزن:

هو التفعيلات ونظامها وتقطيعها في البيت الشعريّ المَصوغ حسب القواعد الّتي وصفها الخليل بن أحمد. والوزن في الشعر العربيّ قائم على أساس ظاهر من النغم، لأن الأذن الرّهيفة تهتدي وحدها إلى الخطأ، وأن كان صاحبها غير مثقّف ثقافة عروضيّة كافية. وللوزن أثر بليغ في تأدية المعنى، ولكلّ نوع منه نغم خاصّ به يوافق لونًا من ألوان العواطف والمعاني الّتي يريد

3.الشاعر الإبانة عنها.

اليوميّات: Diary

تركّز على حلقات التتابع الزمنيّ يومًا بعد يوم أو مناسبة بعد مناسبة، وهي ذات علاقة أوثق بالنفس الباطنة، ويأخذ فيها التتابع الزمنيّ طابعًا متعمّدًا أكبر من السيرة الذاتيّة.

نهاية النهاية