المختار من الأدب
العربي للصف الثامن
محمود ابو فنة
إصدار: جيستليت
حيفا م. ض. 1986
صفحات بخط برايل 1-206
الناسخة: وفاء أبو حسين
المكتبة المركزية للمكفوفين
إسرائيل نتانيا 2011م
فهرس المجلد الأول
(الفهرس مصنف هكذا: الموضوع صفحات بخط عادي صفحات بخط برايل)
*1*
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ. وَالضُّحَى (2) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (3) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (4) وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى (5) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (6) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (7) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (8) وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى (9) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (10) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (11) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.
القرآن الكريم
تفسير الجلالين
1. وَالضُّحَى: أَيْ أَوَّل النَّهَار أَوْ كُلّه.
2. وَاللَّيْل إِذَا سَجَى: غَطَّى بِظَلَامِهِ أَوْ سَكَنَ.
3. مَا وَدَّعَك: ما تَرَكَك (يَا مُحَمَّد). (رَبّك وَمَا قَلَى): أَبْغَضَكَ - نَزَلَ هَذَا لَمَّا قَالَ الْكُفَّار عِنْد تَأَخُّر الْوَحْي عَنهُ خَمْسَة عَشَر يَوْمًا: إِنَّ رَبّه وَدَّعَهُ وَقَلَاهُ.
4. (وَلَلْآخِرَة خَيْر لَك): لِمَا فِيهَا مِنْ الْكَرَامَات لَك. (مِنْ الْأُولَى): الدُّنْيَا.
5. (وَلَسَوْفَ يُعْطِيك رَبّك): فِي الْآخِرَة مِنْ الْخَيْرَات عَطَاءً جَزِيلًاً. ( فَتَرْضَى):بِهِ.
6. (أَلَمْ يَجِدك): اِسْتِفْهَام تَقْرِير: أَيْ وَجَدَك. (يَتِيمًا): بِفَقْدِ أَبِيكَ قَبْل وِلَادَتك أَوْ بَعْدهَا. (فَآوَى): بِأَنِ ضَمَّك إِلَى عَمّك أَبِي طَالِب.
7. (وَوَجَدَك ضَالًّا): عَمَّا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرِيعَة. (فَهَدَى): أَيْ هَدَاك إِلَيْهَا.
8. (وَوَجَدَك عَائِلًا): فَقِيرًاً. (فَأَغْنَى): أَغْنَاك بِمَا قَنَّعَك بِهِ مِنْ الْغَنِيمَة وَغَيْرهَا.
9. (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَر): بِأَخْذِ مَاله، أَوْ غَيْر ذَلِكَ.
10. (وَأَمَّا السَّائِل فَلَا تَنْهَر): تَزْجُرهُ لِفَقْرِهِ.
11. (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّك): عَلَيْك بِالنُّبُوَّةِ. (فَحَدِّثْ): خَبِرْ.
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (24) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (25) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا (26) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (27) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (28) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا (29) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (30) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (31) وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا (32) وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً (33) وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (34) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً (35) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (36) وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (37)
وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً.
القرآن الكريم
تفسير الجلالين
23. (وَقَضَى) أَمَرَ. (ربُّكَ أن) أَيْ بِأَنْ. (لَا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ) أَنْ تُحْسِنُوا (بِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا) بِأَنْ تَبَرُّوهُمَا. (إمّا يَبْلُغَنَّ عندك الكِبَرَ أحدهما) فَاعِل. (أو كِلاهما) وَفِي قِرَاءَة يَبْلُغَانِّ؛ فَأَحَدهمَا بَدَل مِنْ أَلِفه. (فلا تقل لهما أفٍ) بِفَتْحِ الْفَاء وَكَسْرهَا مُنَوَّنًا وَغَيْر مُنَوَّن مَصْدَر بِمَعْنَى تَبًّا وَقُبْحًا. (وَلَا تَنْهَرهُمَا) تَزْجُرهُمَا. (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) جَمِيلًا لَيِّنًا.
24. (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاح الذُّلّ أَلِنْ لَهُمَا جَانِبك الذَّلِيل. (مِنْ الرَّحْمَة) أَيْ لِرِقَّتِك عَلَيْهِمَا. (وقل ربّ ارحمهما كما) رَحِمَانِي حِين (رَبَّيَانِي صَغِيرًا).
25. (رَبّكُمْ أَعْلَم بِمَا فِي نُفُوسكُمْ) مِنْ إضْمَار الْبِرّ وَالْعُقُوق. (إنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ) طَائِعِينَ لِلَّهِ. (فإنَّه كان لِلْأَوَّابِينَ) الرَّجَّاعِينَ إلَى طَاعَته. (غَفُورًا) لِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ فِي حَقّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ بَادِرَة وَهُمْ لَا يُضْمِرُونَ عُقُوقًا.
26. (وَآتِ) أَعْطِ (ذَا الْقُرْبَى) الْقَرَابَة. (حَقّه) مِنْ الْبِرّ وَالصِّلَة. (والمسكين وابن السبيل ولا تُبَذِّر تَبْذِيرًا) بِالْإِنْفَاقِ فِي غَيْر طَاعَة اللَّه.
27. (إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَان الشَّيَاطِين) أَيْ عَلَى طَرِيقَتهمْ. (وكان الشيطان لربه كَفُورًا) شَدِيد الْكُفْر لِنِعَمِهِ فَكَذَلِكَ أَخُوهُ الْمُبَذِّر.
28. (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ) أَيْ الْمَذْكُورِينَ مِنْ ذِي الْقُرْبَى وَمَا بَعْدهمْ فَلَمْ تُعْطِهِمْ. (ابْتِغَاء رَحْمَة مِنْ رَبّك تَرْجُوهَا) أَيْ لِطَلَبِ رِزْق تَنْتَظِرهُ يَأْتِيك فَتُعْطِيهِمْ مِنْهُ. (فقل لهم قَوْلًا مَيْسُورًا) لَيِّنًا سَهْلًا بِأَنْ تَعِدهُمْ بِالْإِعْطَاءِ عِنْد مَجِيء الرِّزْق.
29. (وَلَا تَجْعَل يَدك مَغْلُولَة إلَى عُنُقك) أَيْ لَا تُمْسِكنهَا عَنْ الْإِنْفَاق كُلّ الْمَسْك. (وَلَا تَبْسُطهَا) فِي الْإِنْفَاق. (كُلّ الْبَسْط فَتَقْعُد مَلُومًا) رَاجِع لِلْأَوَّلِ. (مَحْسُورًا) مُنْقَطِعًا لَا شَيْء عِنْدك؛ رَاجِع لِلثَّانِي.
30. (إنَّ رَبّك يَبْسُط الرِّزْق) يُوَسِّعهُ. (لمن يشاء وَيَقْدِر) يُضَيِّقهُ لِمَنْ يَشَاء. (إنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) عَالِمًا بِبَوَاطِنِهِمْ وَظَوَاهِرهمْ فَيَرْزُقهُمْ عَلَى حَسَب مَصَالِحهمْ.
31. (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادكُمْ) بِالْوَأْدِ. (خَشْيَة) مَخَافَة. (إمْلَاق) فَقْر. (نحن نرزقهم وإياكم إنَّ قتلهم كان خِطْأً) إثْمًا. (كَبِيرًا) عَظِيمًا.
32. (ولا تَقْرَبُوا الزنّى) أَبْلَغ مِنْ لَا تَأْتُوهُ. (إنه كان فَاحِشَة) قَبِيحًا. (وَسَاءَ) بِئْسِ. (سَبِيلًا) طَرِيقًا هُوَ.
33. (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ) لِوَارِثِهِ. (سُلْطَانًا) تَسَلُّطًاً عَلَى الْقَاتِل. (فَلَا يُسْرِف) يَتَجَاوَز الْحَدّ. (فِي الْقَتْل) بِأَنْ يَقْتُل غَيْر قَاتِله أَوْ بِغَيْرِ مَا قُتِلَ بِهِ. (إنّه كان منصوراً).
34. (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) إذا عاهدتم الله أو الناس. (إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) عنه.
35. (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ) أَتِمُّوه. (إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) الْمِيزَان السَّوِيّ. (ذَلِكَ خَيْر وَأَحْسَن تَأْوِيلًا) مَآلًاً.
36. (وَلَا تَقْفُ) تتبع. (مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ) القلب. (كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) صَاحِبه مَاذَا فَعَلَ بِهِ.
37. (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْض مَرَحًا) أَيْ ذَا مَرَح بِالْكِبْرِ وَالْخُيَلَاء. (إنَّك لَنْ تَخْرِق الْأَرْض) تَثْقُبهَا حَتَّى تَبْلُغ آخِرهَا بِكِبْرِك. (وَلَنْ تَبْلُغ الْجِبَال طُولًاً) الْمَعْنَى أَنَّك لَا تَبْلُغ هَذَا الْمَبْلَغ؛ فَكَيْفَ تَخْتَال؟
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (17) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (18) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (19) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (20) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (21) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (22) فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (23) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (24) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (25)
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (26) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (27) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (28) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (29) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (30) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (31) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا.
القرآن الكريم
تفسير الجلالين
16. (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَاب) الْقُرْآن. (مَرْيَم) أَيْ خَبَرهَا. (إذْ) حِين. (انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) أَيْ اعْتَزَلَتْ فِي مَكَان نَحْو الشَّرْق مِنْ الدَّار.
17. (فَاِتَّخَذَتْ مِنْ دُونهمْ حِجَابًا) أَرْسَلَتْ سِتْرًا تَتسْتر بِهِ لِتُفَلِّي رَأْسهَا أَوْ ثِيَابهَا أَوْ تَغْتَسِل مِنْ حَيْضهَا. (فَأَرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحنَا) جِبْرِيل. (فَتَمَثَّلَ لَهَا) بَعْد لُبْسهَا ثِيَابهَا. (بَشَرًا سَوِيًّا) تَامّ الْخَلْق.
18. (قَالَتْ إنِّي أَعُوذ بِالرَّحْمَنِ مِنْك إنْ كُنْت تَقِيًّا) فَتَنْتَهِي عَنِّي بِتَعَوُّذِي.
19. (قَالَ إنَّمَا أَنَا رَسُول رَبّك لِأَهَب لَك غُلَامًا زَكِيًّا) بِالنُّبُوَّة.
20. (قَالَتْ أَنَّى يَكُون لِي غُلَام وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَر) بِتَزَوُّجٍ. (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) زَانِيَة.
21. (قَالَ) الْأَمْر. (كَذَلِكَ) مِم خَلْق غُلَام مِنْك مِنْ غَيْر أَب. (قَالَ رَبّك هُوَ عَلَيَّ هَيِّن) أَيْ : بِأَنْ يَنْفُخ بِأَمْرِي جِبْرِيل فِيك فَتَحْمِلِي بِهِ وَلِكَوْنِ مَا ذُكِرَ فِي مَعْنَى الْعِلَّة عَطَفَ عَلَيْهِ. (وَلِنَجْعَلهُ آيَة لِلنَّاسِ) عَلَى قُدْرَتنَا. (وَرَحْمَة مِنَّا) لِمَنْ آمَنَ بِهِ. (وَكَانَ) خَلْقه. (أَمْرًا مَقْضِيًّا) بِهِ فِي عِلْمِي فَنَفَخَ جِبْرِيل فِي جَيْب دِرْعهَا فَأَحَسَّتْ بِالْحَمْلِ فِي بَطْنهَا مُصَوَّرًا.
22. (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ) تَنَحَّتْ. (بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا) بَعِيدًا عن أَهْلهَا.
23. (فَأَجَاءَهَا) جَاءَ بِهَا. (الْمَخَاض) وَجَع الْوِلَادَة. (إلَى جِذْع النَّخْلَة) لِتَعْتَمِد عَلَيْهِ فَوَلَدَتْ. وَالْحَمْل وَالتَّصْوِير وَالْوِلَادَة فِي سَاعَة. (قَالَتْ يَا) لِلتَّنْبِيهِ. ( لَيْتَنِي مِتُّ قَبْل هَذَا) الْأَمْر. (وَكُنْت نَسْيًا مَنْسِيًّا) شَيْئًا مَتْرُوكًا لَا يُعْرَف وَلَا يُذْكَر.
24. (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتهَا) أَيْ: جِبْرِيل. وَكَانَ أَسْفَل مِنْهَا. (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبّك تَحْتك سَرِيًّا) نَهْر مَاء كَانَ قَدْ انْقَطَعَ.
25. (وَهُزِّي إلَيْك بِجِذْعِ النَّخْلَة) كَانَتْ يَابِسَة، وَالْبَاء زَائِدَة. (تُسَاقِط) أَصْله بِتَاءَيْنِ قُلِبَتْ الثَّانِيَة سِينًا وَأُدْغِمَتْ فِي السِّين، وَفِي قِرَاءَة بِتَرْكِهَا. (عَلَيْك رُطَبًا) تَمْيِيز. (جَنِيًّا) صِفَته.
26. (فَكُلِي) مِنْ الرُّطَب. (وَاشْرَبِي) مِنْ السَّرِيّ. (وَقَرِّي عَيْنًا) بِالْوَلَدِ - تَمْيِيز مُحَوَّل مِنْ الْفَاعِل؛ أَيْ: لِتَقَرّ عَيْنك بِهِ. أَيْ: تَسْكُن فَلَا تَطْمَح إلَى غَيْره. (فَإِمَّا) فِيهِ إدْغَام نُون إنْ الشَّرْطِيَّة فِي مَا الزَّائِدَة. (تَرَيِنَّ) حُذِفَتْ مِنْهُ لَام الْفِعْل وَعَيْنه وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتهَا عَلَى الرَّاء وَكُسِرَتْ يَاء الضَّمِير لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. (مِنْ الْبَشَر أَحَدًا) فَيَسْأَلك عَنْ وَلَدك. (فَقُولِي إنِّي نَذَرْت لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) أَيْ إمْسَاكًا عَنْ الْكَلَام فِي شَأْنه وَغَيْره مِنْ الْأَنَاسِيّ بِدَلِيلِ (فَلَنْ أُكَلِّم الْيَوْم إنْسِيًّا) أَيْ : بَعْد ذَلِكَ.
27. (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمهَا تَحْمِلهُ) حَال. فَرَأَوْهُ (قَالُوا يَا مَرْيَم لَقَدْ جِئْت شَيْئًا فَرِيًّا) عَظِيمًا حَيْثُ أَتَيْتِ بِوَلَدٍ مِنْ غَيْر أَب.
28. (يَا أُخْت هَرُون) هُوَ رَجُل صَالِح. أَيْ : يَا شَبِيهَته فِي الْعِفَّة. (مَا كَانَ أَبُوك امْرَأَ سَوْء) أَيْ : زَانِيًا. (وَمَا كَانَتْ أُمّك بَغِيًّا) أَيْ : زَانِيَة فَمِنْ أَيْنَ لَك هَذَا الْوَلَد؟
29. (فَأَشَارَتْ) لَهُمْ. (إلَيْهِ) أَنْ كَلِّمُوهُ. (قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّم مَنْ كَانَ) أَيْ وُجِدَ. (في المهد صبياً).
30. (قَالَ إنِّي عَبْد اللَّه آتَانِي الْكِتَاب) أَيْ : الْإِنْجِيل. (وجعلني نبيّاً).
31. (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْت) أَيْ : نَفَّاعًا لِلنَّاسِ إخْبَار بِمَا كُتِبَ لَهُ. (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة) أَمَرَنِي بِهِمَا. (ما دمت حَياً).
32. (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي) مَنْصُوب يجَعَلَنِي مُقَدَّراً. (وَلَمْ يَجْعَلنِي جَبَّارًا) مُتَعَاظِمًا. (شَقِيًّا) عَاصِيًا لِرَبِّهِ.
33. (وَالسَّلَام) مِنْ اللَّه. (عَلَيَّ يَوْم وُلِدْت وَيَوْم أَمُوت وَيَوْم أُبْعَث حَيًّا) يُقَال فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي السَّيِّد يَحْيَى.
قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (ثَلاثَةٌ لا يَنظُرُ الله إلَيهِم يَومَ القِيامَةِ، وَلا يُزَكِّيهِم، وَلَهمُ عَذابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ كانَ لَهُ فَضلُ ماءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنَ ابنِ السَّبِيلِ. وَرَجُلٌ بايَعَ إمامَهُ: لا يُبايِعُهُ إلاّ لِدُنيا؛ فَإن أَعطاهُ مِنها رَضِيَ، وَإن لَم يُعْطِهِ مِنها سَخِطَ. وَرَجُلٌ أَقامَ سِلعَتَهُ بَعدَ العَصرِ، فَقالَ: وَاللهِ الَّذي لا إلَهَ غَيرُهُ لَقَد أُعطِيتُ بِها كَدا وَكَدا؛ فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ). ثُمَّ قَرَأَ قَولَهُ تَعالَى: (إنَّ الَّدينَ يَشتَرُونَ بِعَهدِ اللهِ وَأَيْمانِهِم ثَمَناً قَليلاً أُولَئِك لا خالِقَ لَهُم فِي الأخِرَةِ وَلا يُكَلِمُهُمْ اللهُ وَلا يَنظُرُ إلَيهِم يَومَ القِيامَةِ وَلا يُزَكيِهم وَلَهُم عَذابٌ أَلِيمٌ)
فَهَذِّب نَفَسَكَ يا بُنَيَّ، وَكُن مُحِبًّا لِلخَيرِ: تَبدُلُهُ مَا وَجَدتَ سَبيلاً إلَى بَذلِهِ. وَكُن شَريفاً صادِقاً في عَهدِكَ، وَفِيَّا بما عاهَدتَ عَلَيهِ: لا تَبتَغِي بِعَهدِكَ إلاّ خَيرَ أُمَّتِكَ، وَرِضَى رَبِّكَ. وَجانِبِ الحَلِفَ ما استَطَعتَ؛ بَلهَ الأَيمانَ الَّتي تَحُطُّ مَنزِلَتكَ، وَتُسقِطُ مُروءَتَكَ، وَتُنْزِلُ بِكَ غَضَبَ رَبِّكَ وَمَقتَهُ.
من كتاب (أدب الإسلام)
لمحمد بكر ابراهيم وآخرين
لا ينظر اليهم: لا يحبّهم، ولا يعطف عليهم. لا يزكّيهم: لا يمدحهم. فضل ماء: زيادة عن حاجته. ابن السبيل: المسافر البعيد عن بلده. السّلعة: البضاعة. إقامتها: ترويجها. لا خلاق لهم في الآخرة. لا نصيب لهم فيها من الثواب.
الشرح
بيّن لنا الرسول (ص) بهذا الحديث الشريف أنَّ ثلاثة أصناف من الناس لا ينظر الله اليهم يوم القيامة: أي لا يعطف عليهم، ولا يزكّيهم: أي لا يذكرهم بخير، بسبب ما ارتكبوا من الشرّ، ولهم عذاب أليم:
1. أوّل هؤلاء الثلاثة من يكون له على الطريق الذي يسكنه الناس ماء فاضل عن حاجته في بئر، أو حوض، أو زير، أو غير ذلك، فيمنع المارّين به أن يأخذوا حاجتهم منه. وليس في الناس مَن هو أعظَم بخلاً، وأخبَث نفساً، وأزهَد في الخير من هذا الذي يمنع عن الناس في وقت حاجتهم خيراً ساقه الله اليه، وأغناه عنه، ولن يتحمَّلَ في بذله عناءً؛ فهو خليق بالاحتقار والازدراء في الدنيا، مستحقّ للعذاب الأليم يومَ يُلِقي الله تعالى بهذا النفوس الخبيثة الدنِسة في نار جهنم- جزاء ما أسلفَت من شَرّ، وما قدَّمت من كُفران وجحود بنعمة الله.
2. وثاني الثلاثة رجل بايعَ إمامه: أي تعهَّدَ بالطاعة والإخلاص له، ولكنَّ عهده لم يتجاوز لسانه؛ إذ لم يُرِد به الاّ الحصول على شيء من متاع الدنيا: كجاه أو مال؛ فَإن أَنالَه الإمام بُغيته رضيَ عنه، وأشادَ بذكره، وإن حالَ بينه وبينهما غضب وتنقَّصَه في المجالس؛ فهو لا ينظر في اختيار الإمام ومبايعته الى خير الأمّة، وصَلاح الدولة، وإنَّما يريد شهوة نفسه. ومِثل هذا جدير بغضب اللهِ وعقابه؛ لأنه يبيع مصلحة أمّته والإخلاص لها بِمَتاع زهيد يحصل عليه لنفسه.
ومن هذا الصنف مَن ينتمي الى حزب من الأحزاب: لا لنُصرة مبادئه، وطلَب الخير للأمة من طريقه، بل لمآرب يبتغيها؛ فإن رأى بارقة أمل في تحقيقها بالَغَ في التأييد، وأكثر من جمع الأنصار، وإن حِيلَ ما بينه وبين ما يشتهي انتفضَ، وبالَغَ في الدَّمِّ، والتمس له حزبا آخر، يتَّخذه وسيلةً الى نيل مأربه.
ومن هذا النوع أيضاً مَن يختار (نائباً) لخير يرجوه لنفسه، لا لخير الأمّة.
3. والثالث رجل أقام سِلعته بعد العصر: أي عرض بضاعته في السوق (وكانوا يقيمون الأسواق بعد صلاة العصر) ثمَّ أخذ يروّجها بالأيمان الكاذبة، فيقول لِمَن يريد شراءَها: واللهِ الذي لا إلهَ غيره لقد قُدِّرَت لي هذه السلعة بكدا وكذا فما قَبِلتُ. فانخدَعَ المشتري بيمينه، وصدَّقه، وزاد في ثمنها.
وهذا الصنف من الناس يستحقّ غضب الله وعذابه؛ لأنّه يستهين باسم الله الكريم، ويغشّ عِباده المؤمنين؛ لينالَ ربحاً تافهاً، وعَرَضاً زائلاً.
وقد أكَّد الرسول صلّى الله عليه وسلَّمَ قولَه بقول الله تعالى:
(إنَّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئكَ لا خالق لهم في الآخرة ولا يكلّمهم الله ولا ينظر اليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ أليم).
يعني أنَّ الذين يفضّلون ما يأخذون من الثمن القليل على الوفاء بعهد الله الذي بذلوه: أولئك لا نصيب لهم من الخير في الآخرة، ولا يكلّمهم الله كلامَ رحمة وعطف، ولا ينظر اليهم نظرَ محبّة ورعاية، ولا يذكرهم بخير، ولهم عذاب أليم.
فهذِّب نفسك يا بنيَّ، وكُن محبّاً للخير، تبذله ما وجدت سبيلاً الى بَذله. وكُن شريفاً صادقاً في عهدك، وفيّاً بما عاهدتَ عليه؛ لا تبتغي بعهدكَ إلاّ خيرَ أمّتك، ورضَى ربّك. وجانِبِ الحَلِفَ ما استطعتَ؛ بَلهَ الأَيمانَ التي تحُطُّ منزلتك، وتُسقِطُ مُروءَتَك، وتُنزِلُ بكَ غضبَ ربّك ومَقتَهُ.
طُوبَى (1) لِلرَّجُلِ الَّذي لَم يَسلُك في مَشُورَةِ الأَشرارِ وَفي طَريقِ الخُطاةِ لَم يَقِف وَفي مَجلِسِ المُستَهزِئِينَ لَم يَجلِس. لَكِن في ناموسِ (2) الرَّبِّ مَسَرَّتُهُ وَفي ناموسِهِ يَلهَجُ (3) نَهاراً وَلَيلاً. فَيَكُونُ كَشَجَرَةٍ مَغرُوسَةٍ عِندَ مَجارِي المِياهِ. الَّتِى تُعطِي ثَمَرَها في أَوانِهِ. وَوَرَقُها لَا يَذبُلُ وَكُلُّ ما يَصنَعُهُ يَنجَحُ.
لَيسَ كَذلِكَ الأَشرارُ لَكِنَّهُم كَالعصافَةِ (4) الّتِي تُدَرِّيها الرِّيحُ. لِذلِكَ لا تَقُومُ الأَشرارُ في الدِّينِ وَلا الخُطاةُ في جَماعَةِ الأَبرارِ. لِأَنَّ الرَّبَّ يَعلَمُ طَرِيقَ الأَبرارِ. أَمّا طَرِيقً الأَشرارِ فَتَهلِكُ.
من الكتاب المقدس
1. طوبى: السعادة
2. ناموس الربّ: شريعته تعالى.
3. يلهَج: يكرّر القَول.
4. العصافة: الغبار الذي تذروه الريح.
وَلَمّا رَأَى الجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الجَبَلِ. فَلَمّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيهِ تَلامِيذُهُ. فَفَتَحَ فاهُ وَعَلَّمَهُم قَائِلاً. طُوبَى (1) لِلمَساكِينِ بِالرُّوحِ. لِأَنَّ لُهُم مَلَكُوتَ السَّمَواتِ. طُوبَى لِلحَزانَى. لِأَنّهُم يَتَعَزَّونَ. طُوبَى لِلوُدَعاءِ (2). لِأَّنَّهُم يَرِثُونَ الأَرضَ. طُوبَى لِلجِياعِ وَالعِطاشِ إِلَى البِرِّ. لِأَنَّهُم يُشبَعُونَ. طُوبَى لِلرُّحَماءِ. لِأَنَّهُم يُرحَمُونَ. طُوبَى لِلأَنقِياءِ القَلبِ. لِأَنَّهُم يُعايِنُونَ اللهَ. طُوبَى لِصانِعِي السَّلامِ. لِأَنَّهُم أَبناءَ اللهِ يُدعَونَ.
سَمِعتُم أَنَّهُ قِيلَ بِعَينٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمّا أَنا فَأَقُولُ لَكُم لا تُقاوِمُوا الشَّرَّ. بَل مَن لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيمَنِ فَحَوِّل لَهُ الآخَرَ أَيضاً. وَمَن أرادَ أَن يُخاصِمَكَ وَيَأخُذَ ثَوبَكَ فَاترُك لَهُ الرِّداءَ أَيضاً. وَمَن سَخَّرَكَ مِيلاً واحِداً فَاذهَب مَعَه اثنَينِ. مَن سَأَلَكَ فَأَعِطِهِ. وَمَن سَخَّرَكَ مِيلاً واحِداً فَاذهَب مَعَهُ اثنَينِ. مَن سَأَلكَ فَأَعطِهِ. وَمَن أَرادَ أَن يَقتَرِضَ مِنكَ فَلا ترُدَّهُ.
سَمِعتُم أَنَّهُ قِيلَ تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمّا أَنا فَأَقُولُ لَكُم أَحِبُّوا أَعداءَكُم. بارِكُوا لاعِنِيكُم. أَحسِنُوا إلَى مُبغِضِيكُم. وَصَلُّوا لِأَجلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيكُم وَيَطرُدُونَكُم. لِكَي تَكُونُوا أَبناءَ أَبِيكُمُ الَّذي في السَّمَواتِ. فَإِنَّهُ يُشرِقُ شَمسَهُ عَلى الأَشرارِ وَالصّالِحِينَ وَيُمطِرُ عَلَى الأَبرارِ وَالظّالِمينَ. لِأَنَّهُ إن أَحبَبتُمُ الَّذينَ يُحِبونَكُم فَأَيُّ أَجرٍ لَكُم. أَلَيسَ العَشّارُونَ (3) أَيضاً يَفعَلُونَ ذلِكَ. وَإن سَلَّمتُم عَلَى إِخوَتِكُم فَقَط فَأَيَّ فَضلٍ تَصنَعُونَ. أَلَيسَ العَشّارُونَ أَيضاً يَفعَلُونَ هَكَذا. فَكُونُوا أَنتُم كامِلينَ كَما أنَّ أَباكُمُ الَّذي في السَّمَواتِ هُوَ كامِلٌ.
من الكتاب المقدس
1. طوبَى: السعادة
2. الودَعاء: جمع الوديع؛ أي اللطيف
3. العَشّارون: جمع عشَار؛ أي آخذ العشر، أو ملتزم العُشر.
*32*
ابراهيم عبد القادر المازني
ولد بالقاهرة، سنة 1890، له ديوان شعر في جزءَين، وعِدَّة كتب نثرية من أشهَرها (شعر حافظ ابراهيم)، (صندوق الدنيا)، (حصاد الهشيم) وفي هذا الكتاب الأخير تتوقَّر المقالات النقديَّة. توفّيَ في القاهرة سنة 1949
لا أَعرِفُ الأُمَّهاتِ كَيفَ يَكُنَّ. وَلَكِنّي أَعرِفُ أُمّي كَيفَ كانَت؛ فَقَد ماتَ أَبِي وَهِيَ في الثَّلاثينَ مِن عُمرِها، فَوَسِعَها بِما أُوتِيَت مِن حَزمٍ وَتَدبِيرٍ أن تُرَبِّيَنا وَتَقِيَنا (1) المَعاطِبَ (2) وَتَحتَفِظَ بِكَرامَةِ البَيتِ.
وَكُنتُ أُداعِبُها بَعضَ الحِينِ، فَتَثُورُ عَلَيَّ ثائِرَتُها، وَتَهُمُّ بِضَربِي، وَلَكِن أَكُونُ قَد ذَهَبتُ أَعدُو (3)، فَتُعلِنُ أَنَّها لا تُرِيدُ أَن تَرَى وَجهِي بَعدَ اليَومِ، وَلكِنَي لا أَلبَثُ أَن أَستَرضِيَها (4)، وَأَستَغفرِهَا، وَأُقَبِّلَ يَدَيها وَرَأسَها، فَما كُنتُ أَطِيقُ أَن أَدَعَها عاتِبَةً أَو ساخِطَةً (5) أو مُتَأَلِّمَةً، فَتَعفُو عَنِّي وَتَدعُو لِي وَتَمسَحُ لِي رَأسِي كَأَنِي ما زِلتُ طِفلاً. وَلَمّا نَجَحتُ فِي امتِحانِ الشَّهادَةِ الإبتِدائِيَّةِ، جاءَ أقارِبِي مُهَنِّئِينَ، وَأَشارُوا عَلَى أُمِّي أن تَكتَفِيَ مِن تَعلِيمِي بهَذا القَدرِ، لِما كُنَّا فِيهِ مِنَ العُسرِ، فَأَبَت، فَأَلَحُّوا عَلَيها، وَكُنتُ حاضِراً فِي هذِهِ الجَلسَةِ، وَإِنِّي لِأَتَذَكَّرُ كَيفَ أَنَّ ابنَ عَمَّتِي سَأَلَها قائِلاً: مِن أينَ تُجِيئِينَ بالمالِ الكافِي لِتَعلِيمِهِ؟ فَقالَت: إنَّ اللهَ مَعِي، لَو أَنِّي احتَجتُ أن أَخدُمَ فِي سَبِيلِ تَعلِيمِ وَلَدِي لَما أَحجَمتُ.
وَمِن حَنانِ أُمِّيَ العَجِيبِ أَنَّها كانَت إذا مَرِضتُ وَوَصَفَ لِيَ الطَّبِيبُ الدَّواءَ، لا تَدَعُنِي أَجرَعُ مِنهُ إِلاّ بَعدَ أَن تَجرَعَ هِيَ مِنهُ، وَكثِيراً ما أَقولُ لَها: يا أُمِّي كُفِّي عَن هذا. فَتَقُولُ: يا بُنَيَّ؛ إِنَّهُ قَلبُ الأُمِ. فَأقُولُ: وَلَكِنَّهُ عَمَلٌّ لا نَفَع مِنهُ. فَتَقُولُ: نَعَم، وَلَكِن لِيَطمَئِنَّ قَلبِي.
وَحِينَما استَقَلتُ مِن وَظِيفَتِي، أَصابَنِي بَعضُ القَلَقِ، وَساوَرَنِي (6) النَّدَمُ عَلَى الاستِقالَةِ، فَأَرِقتُ (7) فِي لَيلَتِي، فَلَمّا رَأَتنِي عَلَى هذِهِ الحالِ، قالَت لِي: قُم وَتَوَكَّل عَلَى اللهِ، فَقَد كُنتُ أَنا مُستَعِدَّةً أَن أعمَلَ بِيَدِي فِي سَبِيلِ تَربِيَتِكَ، فَكُن أَنتَ مُستَعِداً أَن تَعمَلَ بِيَدَيكَ إذا احتاجَ الأَمرُ، وَثِق أَنَّكَ لَن تَخِيبَ (8)؛ فَإِنِّي داعِيَةٌ لَكَ راضِيَةٌ عَنكَ.
تِلكَ هِيَ أُمِّي، وَإِنِّي لَصَبُورٌ فِي العادَةِ. ولَكِنَّ مَوتَها هَدَّنِي؛ فَقَد كانَت أُمًّا وَأَباً وَأُختاً وَصَدِيقاً.
إبراهيم عبد القادر المازني
من كتاب (اللغة العربيّة) ج1
لراضي عبد الهادي وآخرين
1. تقينا: تحفظنا.
2. المعاطب: المَهالِك.
3. أعدو: أركض.
4. أسترضيها: أطلب رضاها.
5. ساخطة: غاضِبة.
6. ساوَرَني: أصابَني.
7. أرقتُ: لم أستَطع النوم بسبب القَلَق.
8. تخيب: تفشل.
هو محمد سليمان الأحمد الملقَّب بِبَدوِيّ الجبل. ولد سنة 1903 في قربة (ميغة) من منطقة الحفّة في اللاذقيّة. تلقَّى ثقافته الأولى على يَدَي والده وشيوخ قومه، ثُمَّ أَكَبَّ على دراسة أُمّات كتب الأدب فغزرت مادَّته ومتن أسلوبه.
طرقَ من أبواب الشعر المدح والغزل والوصف والرثاء. أكثر من الشعر القومّي الرائع.
من كتاب (حديقتي) ج
لنجدة عامودي وآخرين
وَسِيمٌ مِنَ الأَطفالِ، لَولاهُ لَم أَخَف، عَلَى الشَّيبِ، أَن أَنأَى وَأَن أَتَغَرَّبا
يَزُفُّ لَنا الأَعيادَ؛ عِيداً إذا خَطا وَعِيداً إذا ناغَى وَعِيداً إذا حَبا
كَزُغبِ القَطا... لَو أَنَّهُ راحَ صادِياً سَكَبتُ لَهُ عَينِي وَقَلبِي لِيَشرَبا (1)
وَأَلثُمُ في داجٍ مِنَ الخَطبِ ثَغرَهُ فَأَقطِفُ مِنهُ كَوكَباً ثُمَّ كَوكَبا(2)
وَأَسدِلُ أَجفانِي غِطاءً يُظِلُّهُ وَيا لَيتَها كانَت أحنَّ، وَأَحدَبا (3)
وَيا رَبِّ مِن أَجلِ الطُّفُولَةِ وَحدَها أَفِض بَرَكاتِ السِّلمِ شَرقاً وَمَغرِبا
وَصُن ضِحكَةَ الأَطفالِ يا رَبِّ إِنَّها إذا غَرَّدَت في ظامِئِ الرَّملِ أَعشّبا
1. زُغب القطا: فراخ القطا. والزَّغَب هو الريش الناعم الذي يكسو الفرخ.
2. الداجي: المظلِم. الخَطِب: المُصاب. الثَّغر: الفَم. الكَوكَب: النَّجم
3. سَدَلَ وأسدَلَ: أرخَى وأَنزَلَ. الحَدب: التَّعَطُّف.
ولد في القاهرة سنة 1894، وهو من أشهَر الروائيّين القصصيّين المعاصرين في مصر. ويُعتبَر من رُوّاد الرواية المصريّة التي تحوي وصفاً دقيقاً للمصريّين وبيئتهم وأخلاقهم.
من مؤلَّفاته الروائية: (الشيخ جمعة)، (عَمّ متولّي)، (الشيخ سيّد عبيط)، (رجب أفندي)، (الحاجّ شلبي) و (فَنّ القصص)...
وله العديد من المسرحيّات؛ (حوّاء الخالدة)، (اليومَ خمر) و (صقر قريش). توفّي محمود تيمور سنة 1973.
كانَت لَنا ضَيعَةٌ كُنتُ دائِمَ التَّرَدُّد ِعَلَيها لِمُراقَبَةِ أَعمالِها الزِّراعِيَّةِ. وَكُنتُ أَعرِفُ فيها رَجُلاً يُدعَى الشَّيخَ عَسّافاً صِناعَتُهُ نَسّاجٌ، كَثيراً ما زُرتُهُ في دارِهِ لأُشاهِدَهُ وَقتَ العَمَلِ وَهُوَ يَشتَغِلُ أَمامَ نَولِهِ (1) البِدائِيِّ (2). وَكانَ يُرَحِّبُ بِي، وَيُقَدِّمُ لِي في كُلِّ مَرَّةٍ أَزورُهُ فِيها فِنجاناً مِن قَهوَتِهِ الرِّيفِيَّةِ. وَالرَّجُلُ وَسيمُ الطَّلعَةِ (3) وَقُورٌ حُلوُ الحَدِيثِ. لَهُ لِحيَةٌ مَقصوصَةًّ يَختَلِطُ بَياضُ شَعرِها بِسَوادِهِ. ماتَت زَوجَتُهُ مُنذُ أَعوامٍ وَخَلَّفَت لَهُ ابناً وَحيداً هُوَ كُلُّ عائِلَتِهِ. فَعَكَفَ (4) عَلَى تَربِيَتِهِ وَتَعليمِهِ صِناعَةَ الَّنسيجِ حَتَّى بَرَعَ فيها وَأَصبَحَ ساعِدَ أَبيهِ الأَيمَنَ. وَكَانَ شَاباً جَميلَ التَّكوينِ، قَوِيَّ البِنيَةِ (5)، تَلمَعُ عَيناهُ ذَكاءً وَنَشاطاً. يُحِبُّهُ أَبوهُ حُبّاً عَظيماً وَيُكثِرُ مِنَ التَّحَدُّثِ عَنهُ في المَجالِسِ؛ مُعَدِّداً فَضَائِلَهُ بِفَخرٍ وَإعجابٍ.
وَذَهَبتُ مَرَّةً إِلَى الضَّيعَةِ كَعادَتي، فَبُوغِتُّ بِخَبَرٍ فَظِيعٍ كانَ لَهُ أَسَوأُ وَقعٍ في قَلبِي. عَلِمتُ بِأَنَّ الابنَ ماتَ قَتيلاً تحَتَ عَجَلاتِ القِطار. وَقَصَدتُ مِن فَورِيَ الشَّيخَ عَسّافاً في دارِهِ لأُعَزِّيَهُ في نَكبَتِهِ، فَأَكرَمَ وِفادَتي (6)، وَقَدَّمَ لِي كَالمُعتادِ فِنجاناً مِن قَهوَتِهِ الرِّيفِيَّةِ. وَلَكِنَّهُ كانَ يَعمَلُ كَالآلةِ بِلا رُوحٍ. وَلاحَظتُ عَلَيهِ شُحُوباً وَامتِقاعاً (7) في اللَّونِ. وَكُنتُ أحِسن وهو يَتَكَلَّمُ كَأَنَّهُ يَنتَزِعُ الكَلِماتِ مِن لِسانِهِ في جُهدٍ. وَكانَ يُفَتِّشُ عَنِ المَوضوعاتِ في حَيرَةٍ، وَهُوَ الذي لا تُعوِزُهُ طَلاقَةٌ وَلا بَيانٌ. وَكانَت تَعتَرِيهَ (8) نَوباتُ صَمتٍ وَوُجُومٍ، كانَ يَسَتيقِظُ مِنها مَذعوراً وَيَلتَفِتُ حَولَهُ في دَهشَةٍ كَأَنَّهُ يَقولُ: أَينَ كُنتُ وَأَينَ أَنا الآنَ؟ ثُمَّ يُتابِعُ حَدِيثَهُ بِمَشَقَّةٍ. وَفَد عَزَّيتُهُ بِكَلِمَةٍ صَغِيرَةٍ اجتَهَدتُ أن أُضَمِّنَها حَقِيقَةً شُعوري نَحوَهُ. فَأَجابَني بَرَدٍّ بَسِيطٍ ولكِن بِصَوتٍ خَشِنٍ وَنَبَراتٍ مُهتَزَّةٍ. وَلَمّا انتَهَت زِيارَتي هَزَزتُ يَدَهُ طَويلاً في صَمتٍ هَزَّةِ العَطفِ وَالِإخلاصِ.
وَمَرَّتِ الأَيّامُ وَتَكَرَّرَت زِيارَتي لِلضَّيعَةِ. وَكُنتُ دائماً أَسأَلُ عَنِ الشَّيخِ عَسّافِ فَيُخبِرونَنِي أَنَّهُ قَليلُ الخُروجِ مِن مَنزِلِهِ. فَأَذهَبُ إلَيهِ وَأقضِي مَعَهُ بَعضَ الوَقتِ. وَكانَ الرَّجُلُ يَتَهَدَّمُ يَوماً عَن يَومٍ. فَازدادَ وَجهُهُ شُحُوباً وَعُبُوساً، وَقَلَّ حَدِيثُهُ وَأَصبَحَ جافّاً مُقتَضَباً (9)، وَتَقَدَّرَت لِحيَتُهُ وَتَشَعَّثَت (10) في شَكلٍ مُنَفِّرِ. وَبَدَأَت مَلابِسُهُ تَتَهَلهَل (11) وتَعلُوها الأَوساخُ وَرَأَيتُ نَولَهُ غارِقاً في صَمتِهِ وَوَحدَتِهِ وَقَدِ اكتَسَى بِالغُبارِ وَالعَنكَبُوتِ. وَعِلمتُ أَنَّ حالتَهُ المالِيَّةَ قَد ساءَت، وَأَنَّهُ باعَ جاموسَتَهُ وَطُيورَهُ أَمّا مَنزِلُهُ فَصارَ خَراباً، وَيُخَيِّمُ عَلَيهِ الإِهمالُ وَالصَّمتُ؛ فَهُوَ أَشبَهُ بِقَبرٍ قديم مُتَهَدِّمٍ غَيرِ صالِحٍ حَتَّى وَلا لِلأَمواتِ.
وَكانَ الرَّجُلُ يَزُورُني بَعضَ الأَحيانِ عَمَلاً بِواجِبِ المُجامَلَةِ. وَكانَ يَقضِي جُلَّ الوَقتِ صامِتاً مُنَكَّس الرَّأسِ. وَلَم يَحدُث أن فاهَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ عَنِ ابنِهِ. وَجاءَ مَرَّةً، وَبَعدَ تَناوُلِهِ القَهوَةَ رَفَعَ رَأسَهُ وَسَأَلَني قائِلاً: (أَلا تَستَطيعُ أَن تُخبِرَني يا سَيِّدي بِما يُحِسُّ بِهِ الشَّخصُ الذي يَمُوتُ قَتِيلاً تَحتَ عَجَلاتِ القِطارِ وَما مَبلَغُ أَلَمِهِ؟). فَبُوغِتُّ وَحاوَلتُ إِخفاءَ ارتِباكِي، وَلكِنّي قُلتُ لَهُ: (أَظُنُّ أَنَّهُ لا يُحِسُّ بِشَيءٍ، إنَّها مِيتَةٌ سَرٍيعَةٌ). فَرَفَعَ صَوتَهُ وَقالَ في تَأكِيدٍ: (يَقِينِي أَنَّهُ يَتَأَلَّمُ أَشَدَّ الآلامِ). وَاحتَقَنَ وَجهُهُ (12) وَغارَت تَجاعِيدُهُ أَكثَرَ مِنَ الأَوَّلِ وَاحمَرَّت عَيناهُ وَنَفَرَت عُرُوقُ رَقَبَتِهِ وَاختَلَّ تَنَفُّسُهُ. فَاحتَرَمتُ أَلَمَهُ وَلَم أَجِب.
وظل هكذا برهة في ثورة صامتة، ثم هدأ تدريجيا وعاد إلى خموله الأول
ومرت الأيام أيضاُ وتكررت زيارتي للضيعة، والشيخ عساف ينحدر من سيئ إلى أسوأ حتى صارَ كالهيكل. وكان إذا سار قليلاً ظهرت عليه بوادر (13) الإعياء. وكان دائماً مستغرقا في صمته وذهوله. حقا لقد كانت حالته تدعو إلى التألم والرثاء. ولكن لم يكن في استطاعته أحد أن يعمل شيئاً من أجله.
جاءَني عَشِيَّةَ سَفَرِي وَكُنتُ في الحَديقَةِ بِمُفَردي، تارِكاً نَفسي تَسبَحُ في خُمولِها بَعدَ يَومٍ كُلُّهُ كَدُّ وَتَعَبٌ، وَكانَ السُّكُونُ يُخَيِّمُ عَلَى المَكانِ. حَيّاني الشَّيخُ وَجَلَسَ أَمامِي وَهُوَ يَنهَجُ (14) مِنَ السَيرِ. وَبَعدَ أَنِ استَراحَ قَليلاً بادَرَني بِقَولِهِ: (لَقَد قَصَدتُكَ في حاجَةٍ، فَهَل أَنتَ قاضيها لِي؟). فَقُلتُ وَقَد تَحَقَّقتُ أَنَّ الرَّجُلَ في ضِيقٍ مالِيّ: (طَلَبُكَ مُجابٌ يا شَيخُ، كَم تَطلُبُ؟). فَنَظَرَ إلَيَّ مُستَغرِباً وَقالَ: (لا أَطلُبُ نُقُوداً يا سَيِّدي).
فَسَألَتُهُ: (إذاً ماذا؟). فَقالَ: (أَتَسمَحُ لي بِمُرافَقَتِكَ إلَى المَدِينَةِ غَداً؟). فَنَظَرتُ إِلَيهِ فِي دَهشَةٍ وَلَم أُجِب. وَابتَّسَمَ ابِتسامةً خَفِيفةً وَقالَ: (أُريدُ أَن أَرَى الدُّنيا، أَن أَتَفَسَّحَ قَليلاً، أَن أَتَفَرَّجَ عَلى خَلقِ اللهِ وَعَلَى المَدِينَةِ الكَبيرَةِ التي لَم أَرَها إِلاّ مَرَّةً فِي صِبايَ، هَل في طَلَبِي هَذا ما يُثِيرُ العَجَبَ؟). وَكانَ يَتَكَلَّمُ بِلَهجَةٍ مُتَّزِنَةٍ رَقِيقَةٍ، وَقَد بَدَأَ وَجهُهُ يُشرِقُ إشراقَهُ القَديمَ. وَأَمسَكَ يَدِي وَجَعَلَ يُلاطِفُها في إلحاحِ وَهُوَ يَقولُ: (أَلاَ تُجِيبُني إلَى طَلَبِي؟). فَقُلتُ لَهُ وَأَنا مَا زِلتُ مُتَحَيّراً: (أُجِيبُكَ إِلَيهِ إذا كانَ هَذا يَسُرُّكَ). فَلَمَعَت عَيناهُ وَقالَ: (يَسُرُّني جدّاً). ثُمَّ أَخَذَ يُسامِرُني بِشيءٍ مِن طَرائِفِهِ القَديمَةِ التي كِدتُ أَنساها لِطُولِ عَهِدي بِها، وَكانَ وَهُوَ يَفعَلُ ذَلِكَ كَأَنَّهُ يَجلُو الصَّدَأ عَن تُحفَةٍ غالِيَةٍ مُهمَلَةٍ وَيَعرِضُها مِن جَديدٍ لامِعَةً. وَلَم يَطُل مُكُوثُهُ مَعِي، وَقامَ وَهُوَ يَشكُرُني وَيُكّرِّرُ لِي عَزمَهُ عَلَى مُرافَقَتي إلَى المَدينَةِ.
وَفي صَباحِ الغَدِ أَعَدُّوا لَنا العَرَبَةَ ذاتَ البَغلَتَينِ المُهَدَّمَتَينِ. وَاعتَلَى مَقعَدَ القِيادَةِ رَجُلٌ فَلاحٌ، وَكانَ في يَمينِهِ عَصاً طَويلَةٌ لَيِّنَةٌ يَستَعِملُها كِرباجاً. وَصَعِدتُ إلَى العَرَبَةِ أَنا وَناظِرُ الزِّراعَةِ، وَانتَظَرنا مَجِيءَ الشَّيخِ عَسّافٍ، وَلَمّا طالَ بِنا الاِنتِظارُ قالَ لِيَ النّاظِرُ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَن يَأتِيَ عَلَى ما أَظُنُّ، وَأخشَى أَن يَفُوتَنا القِطارُ). فَأَجَبتُهُ قائِلاً: (وَهَذا رَأيِي أَنا، هَلمَّ يا أُسطَى (15).
وَما كادَتِ العَرَبَةُ تَتَحَرَّكُ حَتَّى سَمِعنا صَوتاً مُتَقَطِّعَ الأَنفاسِ يُنادينا، فَالتَفَتُّ فَإذا باِلشَّيخِ عَسّافٍ يَجرِي صَوبَنا، حَسَبَما تُساعِدُهُ قُوَّتُهُ، وَهُوَ يَشِيرُ عَلَينا بِأَن نَتَوَقَّفَ. فَأَمَرتُ الحُوذِيَّ بِأَن يَقِفَ. وَجاءَ الشَّيخُ عَسّافٌ وَصَعِدَ إلَى العَرَبَةِ وَتَهالَكَ عَلَى المَقعَدِ في حالَةٍ تُشبِهُ الإِغماءَ وَهُوَ يُتَمتِمُ قائِلاً: (كادَت تَفُوتُني هذِهِ الفُرصَةُ).
وَسِرنا، وَبَدَأ الشَّيخُ يَستَعِيدُ قُوَّتَهُ. وَبَدَلَ ما في وُسعِهِ لِيُسامِرَنا وِلَكِنَّهُ أَخفَقَ. إذ كانَت مَوضُوعاتُهُ مُشَوَّشَةً مَبتُورةً، وَلَهجَتُهُ مُضَطَرِبَةً مُختَلِفَةً. وَكانَ يَنسَى نَفسَهُ فَيَستغرِقُ فِي وُجُومٍ عَجِيبٍ، وَتُصِيبُهُ الرَّعدَةُ كَأَنَّهُ مَقرُورٌ أَو مَحمُومٌ.
وَأَخيراً وَصَلنا وَنَزَلنا مِنَ العَرَبَةِ وَاتَّجَهنا صَوبَ المَحَطَّةِ. ثُم قَصَدنا (البُوفيه) وَطَلَبنا قَهوَةً وَسَجائَرِ. وَقَلَّ كَلامُ الشَّيخِ حَتَّى أَصبَحَ نادِراً، وَعَكَفَ عَلَى قَهوَتِه يَحتَسِيها وَعَلَى سَجائِرِهِ يُدَخِّنُها، وَلاحَظتُ عَلَيهِ شَيئاً مِنَ امتِقاعِ الوَجِهِ، وَكانَت شَفَتاهُ تَرتَعِشانِ مِن وَقتٍ لآخَرَ. وَأَخرَجتُ ساعَتي وَقُلتُ: (باقي خَمسُ دَقائِقَ عَلَى وُصولِ القِطارِ). فَرَفَعَ الشَّيخُ عَسّافٌ رَأسَهُ وَقالَ وَهُوَ يَستَعِدُّ لِلقِيامِ: (هَلُمَّ).
وَقُمنا إلَى الرَّصِيفِ، وَبَعدَ قَليلٍ سَمِعنا القِطارِ، ثُمَّ رَأَيناهُ يَهجُمُ عَلَى المَحَطَّةِ هُجومَ الغازي المُنتصَرِ، وَبَينَما كُنتُ مُهتَماً مَعَ النّاظِرِ وَالشَّيال (16) بِإِعدادِ الحَقائِبِ، سَمِعتُ صِياحاً عالِياً تَبِعَتهُ جَلَبَةٌ (17) وَهَرَجٌ، ثُمَّ شاهَدتُ ازدِحاماً عَلَى جِهةٍ مِنَ الرَّصِيفِ، وَطَرَقَ سَمِعي هذِهِ الجُملَةُ، (لَقَد تَهَشَّمَ وَتَقَطَّعَ إِرَباً).
وَهَرَعتُ صَوبَ الزِّحامِ، وَاستَطَعتُ أن أَرَى تَحتَ عَجَلاتِ القِطارِ بُقَعاً مِنَ الدَّمِ وَبَقايا مَلابِسَ وَلَحمٍ مَفرومٍ. وَالتَفَتُ حَولِي أَفتَقِدُ الشَّيخَ عَسّافاً، فَلَم أَعثُر لَهُ عَلَى أَثَرٍ.
محمود تيمور
من كتابه (فرعون الصغير)
1. النَّول: آلة الحياكة.
2. البِدائِي: البسيط.
3. وسيم الطلعة: جميل الوجه.
4. عكف: انصرفَ بكُلّيّته.
5. البِنيَة: الجِسم.
6. أكرَم وِفادتي: أحسَنَ استقبالي.
7. الامتقاع: تغيُّر اللون من الحزن.
8. تعتريه: تصيبه.
9. المقتضَب: المختصَر.
10. تشعَثَت: تفرقت.
11. تتهلهل: تتمزَّق.
12. احتقن وجهه: احتبس فيه الدم.
13. البَوادر: الإشارات.
14.ينهج: يلهث.
15. الأسطى: لقب يقال لسائق العربة (الحوذِيّ).
16. الشيّال: الحَمّال.
17. الحَلَبَة: الضجَّة.
من رجالات التربية والتعليم في سوريا. يعمل محاضراً في جامعة دمشق، ورئيساً لقسم علم النفس فيها. من كتبه في مجال التربية والتعليم وعلم النفس: (اعرف نفسك)، (علم النفس التربوي)، (أصول علم النفس وتطبيقاته)، (نظريّات التعليم) و (التربية قديمها وحديثها).
وَلَدِي.
لَو سَأَلتَنِي عَن أَهَمِّ صِفَةٍ مِن صِفاتِ هَذا العَصرِ الذي نَعِيشُ فيهِ، لَقُلتُ لَكَ غَيرَ مُتَرَدِّدٍ: إِنَّهُ عَصرُ العَمَلِ، وَلَو سَأَلتَنِي عَن أهَمِّ مُكتَشَفاتِ هَذا القَرنِ، الذي شَهِدَ مَولِدَكَ، وَأَرجو أَلاَ يَشهَدَ مَوتَكَ، لَقُلتُ لَكَ: إِنَّها قِيمَةُ العَمَلِ؛ قِيمَتُهُ فِي بِناءِ حَياةِ الفَردِ، وَقِيمَتُهُ في بِناءِ المُجتَمَعِ، وَقِيمَتُهُ في بِناءِ الإنسانِيَّةِ، وَلَعَلَّكَ مُلاحِظٌ أَنَّنا في زَمانٍ لَم تَبقَ لِلوِراثَةِ فيهِ قِيمَةٌ، وَأَعنِي بِالوِراثَةِ؛ وِراثَةَ الأَملاكِ أو وِراثَةَ الثَّروَةِ أَو وِراثَةَ المَصنَعِ أَو وِراثَة اللَّقَبِ أَو غَيرَ ذلِكَ مِن أَنواعِ الوِراثَةِ الاِجتِماعِيَّةِ. إنَّ قِيمَةً الإنسانِ في عَصرِنا هَذا فِيما يُحسِنُ عَمَلَهُ.
وَالحَقُّ أَنَّ العَمَلَ هُوَ الطَّريقُ الأَوحَدُ لِتَنمِيَةِ الِإنسانِ، وَصَقلِ الطَّبعِ، وَإِبرارِ المَواهِبِ الفَرِديَّةِ، وَتَمتيعِ المَرءِ بِالسَّعادَةِ وَالرِّضَى.
فَأَوْلِ يا بُنَيَّ عَمَلَكَ المُقبِلَ جُلَّ تَفكيرِكَ، فَكِّر فيما تُحِبُّ أَن تَكونَ في هَذا المُجتَمَعِ، وَحاوِل أَن تَرَى طَريقَكَ إلَى الحِرفَةِ التي تُحِبُّ أن تَحتَرِفَ، وَليَكُنِ اختِيارُكَ لِعَملِكَ عَلَى أَساسٍ من قُدُراتِكَ وَمُيولِكَ، وَقِيمَةِ هذا العَمَلِ لِمُجتَمَعِكَ، وَهَذا يُحَقِّقُ لَكَ السَّعادَةَ. ولكِن حَذارِ أَن تَظُنَّ أَنَّ السَّعادَةَ تَطرُقُ بابَ الكَسلانِ أَو تَأتي بِطَريقِ الأَعمالِ السَّهلَةِ، أَو تَنبُعُ مِنَ الأَعمالِ التي تَسيرُ عَلَى مِنوالٍ واحِدٍ دُونَ تَغييرٍ، فَإن أَرَدتَ سَعادَةً حَقيقِيَّةً وَجَبَ عَلَيكَ أَن تَجتَهِدَ في القِيامِ بِعَمَلٍ مُحَبَّبٍ وَعَلَى وَجهٍ صَحيحٍ. وَبِذلكَ فَقَط تَكونُ فَنّاناً، وَتَكونُ قَبلَ هَذا وَبَعدَهُ مُواطِناً صالِحاً وَإنساناً مُهَدَّباً.
وَهَذا يُوصِلُني يا بُنَيَّ إلَى التَّحَدُّثِ مَعَكَ عَنِ الإيمانِ: ذَلِكَ أَنَّ الإيمانَ هُوَ جَوهَرُ الخُلُقِ، وَدافِعُ العَمَلَ، وَمِعيارُ النَّجاحِ؛ فَالذي لا يُؤمِنُ لا يَعمَلُ، والذي لا يُؤمِنُ لا يُصَيبُ.
أي بُنَيَّ.
آمِن بِالمَثَلِ الأَعلَى دُونَ التَّعَصُّبِ، وَآمِن بِوَطنِكَ دُونَ احتِقارٍ لأَوطان الآخرينَ وَآمِن بِالِإنسانِيَّةِ مَحَبَّةً وَتَآخِياً وَتَعاوُناً.
وَلَدي.
الإيمانُ بِهَذا المَعنَى يَدعُو إلَى الحَديثِ عَنِ الأَخلاقِ، وَسَأُلَخِّصُها لَكَ في هذِهِ العِباراتِ القَصيرَةِ: (ألاّ تَفعَلَ في السِّرِّ ما تَستَحِي مِنهُ فِي العَلَنِ، وَعَلَيكَ بِمُحاسَبَةِ نَفسِكَ.
أَي بُنَيَّ:
عَلَيكَ التَّسَلُّحُ بِالعِلمِ، وَلا تَنسَ أَنَّ العِلمَ الصَّحِيحَ مَوقِفٌ قَبلَ أَن يَكُونَ مَعرِفَةً، فَأَنا أُريدُ أَن تَتَّخِذ مِن مُشكِلاتِكَ اليَومِيَّةِ وَقَضاياكَ الكُبرَى، مَوقِفاً عِلمِياً يَتَّسِمُ بِحُبِّ الحَقيقَةِ أَوَّلاً وَبِالتَّواضُعِ ثانياً وَبِالإذعانِ لِلحَقِّ ثالِثاً.
أُريدُكَ أَن تَتَّخِذَ مِن هَذا الكَونِ وَما فيهِ مَوقِفَ المُختَبِرِ المُتَعَلِّمِ، الباحِثِ عَنِ الحَقيقَةِ، القانِعِ بِها، العامِلِ عَلَى نَشرِها.
أي بُنَيَّ.
مَتَّعَكَ اللهُ بِالسَّعادَةِ وَجَنَّبَكَ مَزالِقَ الحَياةِ، وَعَصَمَكَ مِنَ الزَّلَلِ، وَجَعَلَكَ عُضواً نافِعاً لِمُجْتَمَعِكَ، لائِقاً بِإنسانِيَّتِكَ.
والِدُكَ
فاخر عاقل
من كتابه (اعرف نفسك)
شاعر عربي من رؤساء (كلمة غير واضحة) وفصائحهم. قيل إنَّه كان من النُّساك؛ قالَ بالتوحيد، ونبذ الأوثان، ووصف الكمالات الإلهية.
كان الشاعر قد ناهز الستين، على ما يظهر، فتناقش وابنَه في موضوع، فخالفه الابن، وبَدا منه استخفاف برأي أبيه. فقال معاتباً:
غَدَوتُكَ مَولوداً، وَعُلتُكَ يافِعاً تُعَلُّ بِما أُدنِي إِلَيكَ وَتُنهَل (1)
إذا لَيلَةٌ نابَتكَ بِالشَّكوِ، لَم أَبِتْ لِشَكواكَ إلاّ ساهِراً أَتَمَلمَلُ (2)
كَأنّي أَنا المَطروقُ، دُونَكَ، بِالذي طُرِقتَ بِهِ دُوني، فَعَينِيَ تَهمُلُ
تَخافُ الرَّدَى نَفِسي عَلَيكَ، وَإِنَّها لِتَعلَمُ أَنَّ المَوتَ وَقتٌ مُؤَجَّلُ، (3)
فَلَمّا بَلَغتَ السِّنَّ، وَالغايَةَ التي إلَيها مَدَى ما كُنتُ فيكَ أُؤَمِّلُ،
جَعَلتَ جَزائِي غِلظَةً وَفَظاظَةً كَأَنَكَ أَنتَ المُنعِمُ المُتَفَضِّلُ،
زَعَمتَ بِأَنّي قَد كَبِرتُ وَعِبتَني وَلَم يَأتِني مِن سِنِّ سِتُّونَ كُمَّلُ،
وَسَمَّيتَني بِاسمِ المُفَنَّدِ رَأيُهُ وَفي رَأيِكَ التَّفنيد لَو كُنتَ تَعقِلُ (4)
فَلَيتَكَ، إذ لَم تَرعَ حَقَّ أُبُوَّتي فَعَلتَ كَما الجارُ المُجاوِرُ يَفعَلُ
أُمَيَّة بن أَبي الصَّلت
ديوان أُميّة بن أبي الصلت
1. عُلتُكَ: قمتُ بأمرك. اليافع: الشابّ الصغير؟ تُعَلّ: من العَلَل وهو الشرب الثاني. وتُنهَل: من النَهَل وهو الشرب الأول. يريد أنه يُسبِغ عليه من نِعَمِه مرَّةً بعدَ مرَّةٍ.
2. نابتكَ: أصابتكَ. السُّقم: المَرَض. أتململ: أتحرك، وأتقلَّب على مِثل الجمر.
3. الردَى: الموت. مؤجَّل: محدَّد.
كاتب مصري واسع الشهرة. ولد سنة 1889 وفقَدَ نظرَه في عامه الثاني. في سنة 1914 نال من الجامعة المصريّة دكتوراه في الآداب، ثم نال مثلها من كلية الآداب في باريس، مع شهادة الدراسة العليا في التاريخ. وفي سنة 1925عُيِّنَ أستاذ الآداب العربيّة في الجامعة المصريّة، ثمَّ عميد كليّة الآداب في هذا الجامعة.
له مؤلَّفات كثيرة نذكر منها: (في الأدب الجاهلي)، (مع المتنبّي)، (كتاب الأيّام)- الذي قصَّ فيه أحاديث طفولته البائسة-، (في ذكرى أبي العلاء)، (دُعاء الكروان)، (شجرة البؤس) و (جَنَّة الشوك).
توفّي طه حسين عميد الأدب العربي سنة 1973.
عَرَفَت أُمُّ الصَّبِيِّ أَنَّ شَبَحاً مُنكَراً مُخِيفاً يُحَلِّقُ عَلَى هذِهِ الدّارِ، وَلَم يَكُنِ المَوتُ قَد دَخَلَ هذِهِ الدّارَ، وَلَم تَكُن هذِهِ الأُمُ الحَنونُ قَد ذاقَت لَذعَ الأَلَمِ الصَّحيح.
نَعَم؛ كانَت في عَمَلِها، وَإذا الطِّفلَةُ تَصيحُ صِياحاً مُنكَراً، فَتَدَعُ أُمُّها كُلَّ شَيءٍ، وَتُسرِعُ إِلَيها، وَالصِّياحُ يَتَّصِلُ وَيَشتَدُّ، وَالطِّفلَةُ تَتَلَوَّى وَتَضطَرِبُ بَينَ ذِراعَي أُمِّها، فَيَدَعُ الشَّيخُ أَصحابَهُ وَيُسرِعُ الخُطّى، وَالصِّياحُ يَتَّصِلُ وَيَشتَدُّ، وَالطِّفلَةُ تَرتَعِدُ ارتِعاداً مُنكَراً، وَيَتَقَبَّضُ وَجهُها، وَيَتَصَبَّبُ العَرَقُ عَلَيهِ. ما كُنتُ أَحسَبُ أَنَّ في الأَطفالِ- وَلَمّا يَتَجاوَزُوا الرَابِعَة - قُوّةً تَعدِلُ هذِهِ القُوَّةَ. وَتَأتي ساعَةُ العَشاءِ، وَقَد مُدَّتِ المائِدَةُ، مَدَّتها كُبرَى أَخَواتِ الصَّبِيِّ، وَأَقبَلَ الشَّيخُ وَبَنُوهُ فَجَلَسوا إلَيها وَلكِنَّ صِياحَ الطِّفلَةِ مُتَّصِلٌ، فَلا تُمَدُّ يَدٌ إلَى طعامٍ، وَإنَّما يَتَفَرَّقونَ جَميعاً، وَتُرفَعُ المائِدَةُ كَما مُدَّت، وَالطِّفلَةُ تَصيحُ وَتَضطَرِبُ، وَأُمُّها تُحَدِّقُ إلَيها حِيناً وَتَبسُطَ يَدَها إلَى السَّماءِ حِيناً آخَرَ، وَقَد كَشَفَت عَن رَأسِها وَما كانَ مِن عادَتِها أَن تَفعَلَ. وَلكِنَّ أَبوابَ السَّماءِ كانَت قَد أُغلِقَت في ذلِكَ اليَوم، فَقَد سَبَقَ القَضاءُ بِما لا بُدَّ مِنه. فَيَستَطِيعُ الشَّيخُ أَن يَتلُو القُرآنَ، وَتَستَطيعُ هذِهِ الأُمُّ أَن تَتَضَرَّعَ، وَمِن غَريبِ الأَمرِ أَنَّ أَحَداً مِن هَؤلاءِ النَّاسِ جَميعاً لَم يُفَكِّر في الطَّبيبِ. وَتَقَدَّمَ اللَّيلُ وَأَخَذَ صِياحُ الفَتاةِ يَهدَأُ، وَأَخَذَ صَوتُها يَخفُتُ، وَأَخَذَ اضطِرابُها يَخِفُّ، وَخُيِّلَ إلَى هذِهِ الأُمِّ التَّسِعَةِ أَن قَد سَمِعَ اللهُ لَها وَلزَوجِها، وَأَن قَد أَخَذَتِ الأَزمَةُ تَنحَلُّ. وَفي الحَقِّ أَنَّ الأَزمَةَ كانَت أَخَذَت تَنحَلُّ، وَأَنَّ اللهَ كانَ قَد رَأَفَ بِهذِهِ الطِّفلَةِ.
تَنظُرُ الأُمُّ إلَى ابنَتِها فَيُخَيَّلُ إلَيها أَنَّها سَتَنامُ، ثُمَّ تَنظُرُ فَإذا هُدوءٌ مُتَّصِلٌ لا صَوتَ وَلا حَرَكَةَ؛ وَإِنَّما هُوَ نَفَسٌ خَفيفٌ يَتَرَدَّدُ بَينَ شَفَتَينِ مُفَتَّحَتَينِ قَليلاً، ثُمَّ يَنقَطِعُ هذا النَّفَسُ وَإذا الطِّفلَةُ قَد فارَقَتِ الحَياةَ.
طه حسين
من كتابه (الأيّام)
أديب كبير من أدباء المهجر. ولد في غرزوز سنة 1894، وهاجر الى الولايات المتَّحدة وهو في العشرين من عمره.
له قصائد ومقالات متفرّقة في الصحف والمجلاّت تمتاز - إجمالاً - بِرقَّة العاطفة.
يا عِلَّةَ كِيانِي (1) وَرَفيقَةَ أَحزاني ، يا عَزائي في شَقوَتي وَرَجائي في شِدَّتي. أُمِّي، وَما أَحلاكِ يا أمِّي.
إذا تَرَكَني أَهلي فَأَنتِ لا تَترُكِينني، وَإنِ ابتَعَدَ عنِّي أَحبابي لا تَبتَعِدينَ، وَإنْ نَقِمَت عَلَيَّ جَميعُ الحَياةِ فَأَنتِ تَصفَحِينَ وَتَرحَمينَ، أَنتِ مُسَكِّنَةً وَجَعي وَأَلَمي، وَمُبَدِّدَةُ بُؤسِي وَهَمّي، وما أصفاكِ يا أمِّي.
عَلَى بِساطِ الأَوجاعِ وَلَدتِني، وَبِأَيدِي الآلام رَبَّيتنِي، وَبِعُيونِ الأتعابِ رَعَيتِني، وَبِصَدرِ المَشَقَّاتِ حَمَيتِني، ثُمَّ كَبِرتُ، فَلَم أَهتَمَّ بآلامك وَهَجَرتُ أَيّامَكِ. هكَذا نَسِيتُ أمّي؛ فما أوفاكِ يا أمِّي.
قَد غِبتُ عَنكِ يا أُمِّي فَغابَ عَن عَيني وَجهُك الباسِمُ بِمَلامِحِهِ الرَّقيقَةِ الرَّزينَةِ، وَتَراكَمَت عَلَى رَأسي هُمومُ الحَياةِ فَضَعضَعَت فِكري وَزَلزَلَت قَلبي. وَتَقاذَفَتنِي أَمواجُ المَتاعِبِ وَالشَّقاءِ، وَكُنتُ في هذه الحالة أَنظُرُ فَأَرَى وجهَكِ اللَّطِيفَ يَبتَسِمُ إلَيَّ مِنَ الأَقاصي البَعِيدَةِ، فأبكي وَأَصرُخُ (يا أمِّي).
في المَساءِ عندما أَنطَرِحُ عَلَى فِراشِيَ الخَشِنِ القاسِي أَذكُرُ يَدَيكِ اللَّطِيفَتَينِ النّاعِمَتَينِ، وَفي اللَّيلِ أشعُرُ بِقَدَمَيكِ الصَّغيرَتَينِ تَنقُرانِ الأَرضَ حَولَ سَريري. وَفي الصَّباحِ أفتحُ عَينَيَّ لأراكِ فَلا أَرَى غَيرَ جُدرانِ غُرفَتي السَّوداءِ، وَلِأسمَعَكِ، فَلا أَسمَعُ غَيرَ أصواتِ الغُرَباءِ، وَفِي النَّهارِ أَمشي مُتَلَفِّتاً بَينَ النِّساءِ مُفَتِّشًا وَسائِلاً: أَيَّتُها النِّساءُ، هَل رَأيتُنَّ أمِّي؟).
جِرَاءُ (2) الكِلابِ تَجِلسُ فِي أَحضانِ أُمّاتِها، وَفِراخُ الدَّجاجِ تحتَمي تَحتَ أَجنِحَةِ أُمَاتِها، وَغُصونُ الأشجارِ تَبقَى مُعانِقَةً أمُّاتِها، وَأَنا وَحدِي، بَعيدٌ عَنكِ مَشُوقٌ إلَيكِ يا أمِّي.
إذا مُتُّ يا أُمِّي، إذا قَتَلَني شوقي، فَاجلِسِي عِندَ الغُروبِ، قُرْبَ غابَةِ السِّنديانِ وَأَصغي، هُناكَ رُوحِيَ امتَزَجَت بِنُسَيماتِ الغابَةِ، وَأشجارُها يُرتِّلنَ بِهُدوءٍ مُتَمايلاتٍ مُرَدِّداتٍ: (يا أمِّي، يا أمِّي).
أمين مشرق
من كتاب (المفيد في القراءة والأدب) ج1
لجوزيف هاشم وآخرين
1. عِلَّة كِياني: سبب وجودي.
2. الجِراء: صِغار الحيوانات.
لَم تَكُنِ المَسافَةُ بَينَ البَيتِ وَالمَدرَسَةِ بِأَبعَدَ مِن أن أقطَعَها سَيراً عَلَى قَدَمَيَّ. فَهِيَ عَلَى مَسِيرَةِ نَحوِ ثُلُثِ ساعَةٍ. غَيرَ أَنَّ الشَّوارِعَ التي كانَ عَلَيَّ أَن أَجتازَها إِلَيها كانَت شَوارِعَ رَئيسِيَّةً عَريضَةً، تَختَرِقُها قِطاراتُ المِترو وَالسَّياراتُ العامَّةُ. لِذلِكَ رَتَّبَ وَالِدِي أَن يُوصِلَني السَائِقُ بِالسَّيّارَةِ، ثُمَّ يَعُودَ فَيَنتَظِرَني بِها آخِرَ النَّهارِ عِندَ بابِ المَدرَسَةِ.
كُنتُ أُبغِضُ التَّوَجُّهَ إلَى المَدرَسَةِ بِالسَّيّارَةِ أَشَدَ البُغضِ. أَجلِسُ مُنكَمِشاً إلَى اليَمينِ فِي المَقعَدِ الخَلفِّي مِنها كَالحَيَوانِ الأَسِيرِ، وَأَنا أَشَدَّ ما أَكونُ خَجَلاً وَبُؤساً. لَم يَكُن ثَمَّةَ غَيري مِنَ التَّلاميذِ وَابنِ وَزِيرِ العَدلِ الوَفدِيِّ صَبري أَبو عَلَم مَن يَحضُرُ في سَيّارَةٍ. وَأَيَّةِ سِيّارَةٍ... سَيّارَةٍ سَوداءَ ضَخمَةٍ مِن طِرازِ (كرايزر) يَقُودُها سائِقٌ أَسوَدُ، مُشَرَّطُ الوَجنَتَينِ، حَسَنُ الهِندامِ. وَأَجلِسُ فِيها أَنا التِّلميذُ الذي لا يَكادُ رَأسُهُ يَظهَرُ مِنَ الناّفِذَةِ، في بَنطَلونٍ قَصيرٍ، وَعَلَى رُكبَتَيَّ كُرّاسَتانِ وَبِضعَةُ كُتُبٍ، أَمُرُّ في الشَّوارع التي تَختَرِقُها بِزُمَلائي مُتَوَجّهينَ إلى المَدرَسَةِ سَيراً، وَهُم يَضحَكونَ وَيَجرُونَ وَيَركُلونَ بِأقدامِهِمُ الزَّلطَ وَيَتَسَلَّقونَ أسوارَ الحَدائِقِ الخاصَّةِ لِقَطفِ زُهورِ الياسَمِينِ أَو ثِمارِ المانجو وَالجَوّافَةِ. يُخرِجونَ ألسِنَتَهُم لِصاحِبِ المَنزِلِ إن أَطَلَّ مِنَ الشُّرفَةِ يَشتُمُهُم. كُنتُ أَغبِطُهُم حُرِّيَّتِّهُم، وَأَشعُرُ بِقَوَّةٍ بِأَنَّهُ لَيسَ مِنَ العَدلِ وَلا مِنَ الحِكمَةِ وَلا مِنَ التَّناسُبِ وَلا مِن رَفاهَةِ الحِسِّ أَن أتَوَجَّهَ لِلدِّراسَةِ فِي مِثلِ هذِهِ العَرَبَةِ الفَخمَةِ وَزُمَلائي يَمشُونَ. أَفأَنا أَقلُّ قُدرَةً مِنهُم عَلَى
عُبورِ الطُّرُقِ الرَّئيسِيَّةِ وَقُضبانِ المِترو؟ فَأَيُّ غَرَضٍ إِذَن يَخدُمُهُ تَوَجُّهي بِالسَّيارَةِ، وَهُوَ الذي لا يُفلِحُ إلا في زِيادَةِ شُعورِ العِداءِ لَدَى التَّلاميذِ نَحوي؟
غَيرَ أَنَّ ثَمَةَ عَامِلاً أَهَمَّ وَأَخطَرَ: فَقَد تَمَكَّنتُ حَتَّى الآنَ مِن أن أُثبِتَ تَفَوُقي عَلَى التَّلاميذِ في الفَصلِ وَغَيرِهِ باِلوَسائِلِ المَشروعَةِ. وَها أَنا ذا أَجِدُني اُضطَرُّ رَغمَ أَنِفي إلَى إِحرازِ تَفَوُّقٍ آخَرَ بَغِيضٍ؛ هُوَ تَفَوُّقُ المالِ. وَهُوَ تَفَوُّقٌ في نَظَري غَيرُ مَشروعٍ، يَذهَبُ بِرَونَقِ المَركَزِ الذي كَوَّنتُهُ بِقُوَّةِ شَخصِيَّتي، بَل وَيَنالُ مِن هَذِهِ القُوَّةِ ذاتِها. فَلَم أَكُن لِأُطِيقَ أن يَنِسبَ أَحَدُهُم سُلطاني عَلَى التَّلاميذِ إلى ثَرائي. وَكُنتُ أَنفُرُ لِذَلِكَ مِن كافَّة مَظاهِرِ التَّأّنُقِ فِي المَلبَسِ، أَوِ الإسرافِ في الإنفاقِ. وَلَم يَكُن هُناكَ ما يُطرِبُني قَدرَ طَرَبي إذ أَتَأَمَّلُ صورَةَ نابليونَ، وَحَولَهُ الماريشلاتُ في بِزّاتِهِمُ الفَخمَةِ المُوَشّاةِ، وَهُوَ مَعَ ذلِكَ كَالبَدرِ بَينَ النُّجومِ؛ لا تَلتَفِتُ الأَنظارُ إلاّ إِلَيهِ.
أَرَدتُ أَن أَشرَح َلِوالدِي ما يَعتَمِلُ في صَدري، فَلَم يُسعِفني بَيانٌ. فَكَثيرَةٌ هِيَ الأَفكارُ وَالمَشاعِرُ التي كانَت تُراوِدُ ذِهني وَقَلبي في ذلِكَ الحِينِ دُونَ أَن أَملِكَ القُدرَةَ عَلَى التَّعبيرِ عَنها. حَتَّى وَقَعَ حادِثٌ كانَ أَصدَقَ إِنباءً مِنَ الكَلامِ. ذلِكَ أَنَّهُ فِي يَومٍ ما، إذ خَرَجتُ مِنَ المَدرَسَةِ وَرَكِبتُ السَّيّارَةَ، وَبَدَأَتِ السَّيّارَةُ تَتَحَرَّكُ، إِذ بِحَجَرٍ كَبيرٍ يَأتي مُندَفِعاً مِنَ الخَلفِ، فَيَرتَطِمُ بِزُجاجَ السَّيّارَة وَيُهَشِّمُهُ، فَتَتَناثَرُ قِطَعُهُ الصَّغيرَةُ الحادَّةُ حَولي. وَقَد ذُعِرَ السّائِقُ أَشَدَّ الذُّعرِ. فَلَمّا اطمَأَنَّ إلَى أَنّي لَم أُصَب بِسُوءٍ. قَفَزَ مِنَ السَّيّارَةِ غَاضِباً هائِجاً، وَقَصَدَ التَّلاميذُ الواقِفينَ عِندَ بابِ المَدرسَةِ، يُحاوِلُ أَن يَعرِفَ أَيُّهُم فَعَلَ هذا. غَيرَ أَنَّ عَدَدَهُم كانَ كَبيراً، وَلَم يَشَأ أَحَدٌ مِنهُم أَن يُفصِحَ عَنِ اسمِ قاذِفِ الحَجَرِ، بَينَما وَقَفَ مُعَظمُهُم يَبتَسِمونَ في تَحَدٍ وَسُرورٍ. وَلَم يَجِدِ السّائِقُ في النِّهايَةِ بُدّاً مِنَ العَودَةِ إلَى مَقعَدِهِ بَعدَ أَن سَبَّهُم سَبّاً غَليظاً. وَإذ حانَت مِنهُ التِفاتَةٌ إلَيَّ، رَأَى الدُّموعَ تَنهَمِرُ مِن عَينَيَّ مِدراراً.
- معلش يا حسين بك. وَاحمَدِ اللهَ عَلَى سَلامَتِكَ. إنَّهُم صِبيَةٌ مِن أَبناءِ الحَواري لاَ أَصلٌ لَهُم وَلا عائِلاتٌ. فَماذا عَساكَ تَتَوَقَّعُ غَيرَ هذا مِمَّن لا أَصلَ لَهُ؟ صِبيَةٌ لَم يَرَوا في حَياتِهِم سَيّارَةً إِلاّ مِنَ الخارِجِ. مَن لَهُم بِأَبٍ كَأَبيكَ يُحسِنُ تَربِيَتَهُم؟
وَفي المَساءِ دَخَلتُ عَلَى وَالِدي حُجرَةَ المَكتَبِ فَوَجَدتُهُ يَكتُبُ:
- أَبي. لَن أَذهَبَ إلَى المَدرَسَةِ بِالسَّيّارَةِ بَعدَ اليَومِ.
- وَلِمَ لا؟ (قالَها مُقَطِّباً وَقَد ضايَقَتهُ لَهجَتي).
- أَلا تَرَى يا أبي أَنَّهُم يَغِيرونَ؟ إِنَّهُم قَذَفوا الحَجَرَ لِحقدِهِم أَنَّ لَدَينا سَيّارَةً؟
- سَأَطلُبُ مِن ناظِرِ المَدرَسَةِ التَّحقيقَ. وَتَأَكَّد أَنَّ القِصَّةَ لَن تَتَكَرَّرَ.
صِحتُ في نَفاذِ صبرٍ:
- وَلَكِنَّهُم يَكرَهونَني مِن أَجلِ السّيّارَةِ. أَيَسُركَ أن يَكرَهَني التَّلاميذُ لِهذا السَّبَبِ؟
- فَكَيفَ تنَويِ الذَّهابَ وَالمَجِئَ إِذَن؟ أَتُحِبُّ أَن يُوصِلَكَ الخادِمُ وَيَنتَظِرَكَ ساعَةَ الانصِرافِ؟
- لا.
- أَن تَشتَرِكَ في سَيّارَةِ المَدرَسَةِ؟
- أبي. إنَّ لِي قَدَمَينِ كَسائِرِ التَّلاميذِ. وَجَميعُهُم يَذهَبُ سَيراً إلَى المَدرَسَة.
قُلتُها بِلَهجَةٍ عَنيفَةٍ لَم أَجرُؤ عَلَى استِخدامِها مِن قَبلُ مَعَهُ.
قالَ بِحِدَّةٍ وَهُوَ يَعودُ إلَى النَّظَرِ فِي أَوراقِهِ:
- سَتَذهَبُ بِالسَّيّارَةِ كَما كُنتَ تَفعَلُ.
- لا.
نَحَّى الوَرَق جانِباً وَقَدِ احمَرَّ وَجهُهُ احمِراراً أَرهَبَني، بَينَما كانَ قَلبِي يَنبِض بِعُنفٍ.
- أَتَظُنُّ أَنَّكَ سَتُمارِسُ (قُوَّةَ شَخِصيَّتِكَ) تِجاهي يا كَلبُ؟
- أَنا لَستُ كلباً.
صاحَ بِقُوَةٍ:
- اُغرُب عَن وَجهي.
وَبَدَرَت مِنهُ حَرَكَةٌ وَكَأّنَّهُ يَهُمُّ بِضَربي، فَغادَرتُ الغُرفَةَ فِي بُطءٍ.
وَظَلَّ أَيّاماً عَديدَةً بَعدَها لا يُوَجِّهُ إلَيَّ كَلِمَةً، أُلقِي عَلَيهِ تَحِيَّةً الصَّباحِ فَلا يَرُدُّ. وَقَد غَيَّرتُ مَكانِي إلَى مائِدَةِ الطَّعامِ، فَبَعدَ أَن كُنتُ أَجلِسُ إلَى يَسارِهِ، اختَرتُ لِنَفسي مكاناً قَصِيّاً مِنَ المائِدَةِ. أَمّا المَدرَسَةُ فَبِتُ أَقصِدُها سَيراً وَأَعودُ مِنها سَيراً بِمُفرَدي. غَيرَ أَنَّ خِصاماً آلمَني وَأثار في نَفسِيَ اضطِراباً عَنيفاً. كُنتُ أَعلَم جَيِّداً أَنِّي لَن أَرضَخَ. وَلكِن، ما عَساهُ يَحدُثُ لَو أَنَّهُ هُوَ أَيضاً كانَ عازِماً عَلَى ألاَ يَرضَخَ، وَهُوَ الذي لا يَقِلُّ صَلابَةً فِي الإرادَةِ عَنّي؟ أَلاَ يَعنِي أَنَّهُ لَن يُكَلِّمَ أحَدُنا الآخَرَ قَطُّ؟
وَحَلَّ في أَثناءِ فَترَةِ الخِصامِ مَوعِدٌ كانَ قَد ضَرَبَهُ لِإصطِحابِنا لِشِراءِ أَحِذيَةٍ لنا. فَلَمّا جَمَعَ إِخوَتي استِعداداً لِلذَّهابِ، قالَ لأَحَدِهِم مُقَطِّباً:
- إذهَب وَاسأَلِ الوَلَدَ (حسين) عَمّا إذا كانَ يُريدُ الحِذاءَ أَم لا يُريدُ.
فَرَدَدتُ عَلَى أَخي بِأَنّي لا أُريدُهُ. فَلَم أَكُن أُحِبُّ لَهُ أَولِي أَن يَتِمَّ صُلحُنا مِن أِجلِ الحِذاءِ. وَلَو كانَ مُجَرَّدَ حُجَّةٍ لِإنهاءِ الخِصامِ.
وَجاءَ الصُّلحُ بَعدَ أُسبوعَينِ. كُنّا عَلَى مائِدَةِ الغَداءِ. وَإذ تَناوَلتُ المِغرَفَةَ أَغرِفُ لِنَفسِي مِن وِعاءِ الحِساءِ، شَعَرتُ بِعَينَي والِدِي تُحَدِّجانِنِي طَويلاً مِن تَحتِ حاجِبَيهِ الكَثَّينِ. ثُم قالَ بِلَهجَةٍ تَعَمَّدَ أَن يَجعَلَها جافَّةً:
- أَيُمِكنُكَ أَن تخُبِرَني بِالضَّبطِ عَنِ السَّبَبِ فِي عُزوفِكَ عَنِ استِخدامِ السَّيّارَةِ؟
أَجَبتُ فِي أَدَبٍ جَمٍّ مُحاوِلاً إِخفاءَ فَرَحِي:
- التَّلاميذُ يا أَبي يَكرَهونَني إذ أحضُرُ وَأَنصَرِفُ فِي سَيّارَةٍ.
أَفَكانَ يَسُرُّكَ لَو أَنَّ قِطعَةً مِنَ الزُّجاجِ المَكسورِ أصابَت وَجهي؟
- فَأَنتَ عَلَى ثِقَةٍ إذَن مِنَ استِطاعَتِكَ قَطعَ المَسافَةِ وَحدَكَ؟
- نَعَم.
- وَتَلزَمُ الحَذَرَ عِندَ عُبورِكَ الشّارِعَ الرَّئيسيَّ؟
- نَعَم.
- وَلا تَعبُرُ قُضبانَ المِترو حَتَّى يَمُرَّ؟
- نَعَم.
- فَعَلَى مَسؤولِيَّتِك إذن؟
- نَعَم.
- فَافعَل.
حسين أحمد أمين
من كتاب (في بيت أحمد أمين)
(دار الهلال بمصر) 1985
أديبة فلسطينيّة ولدت وعاشت في عكا حتَّى عام 1948، كانت نشيطة في الحركة النسائية في فلسطين. وفي أواخر عهد الانتداب البريطاني كانت رئيسة الاتّحاد النسائي العربي في عكا. اشتغَلتِ أيضاُ في الصحافة في جريدة (كُلّ شَيء) وفي مجلة (الأحد). وقد أذاعت أيضاً أحاديث كثيرة في إذاعات القدس وبيروت والشرق الأدنَى.
من آثارها: تمثيليَة (نساء وأسرار)، (صبر وفرح)، (عبير ومجد)، و(نفحات عِطر)- وهو كتاب فيه مختارات ومقالات اجتماعيّة وأدبية.
في أَعالي التَّلِّ.. في الصَّمتِ المَهِيب
يَرقُدُ القَلبُ الذي أَعطَى وَأَعطَى
ثُمَّ أغفَى
ذلِكَ القَلبُ الحَبيب
في أَعالي التَّلِّ صَعَّدتُ إلَيكَ
وَغُبارُ الدَّهرِ غَطَّى قَدَمَيّ
أَثقَلَتني حادِثاتُ الدَّهرِ (1)
يا أُمّي
أَهاضَت جانِحَيّ
فَحًمَلتُ اليَأسَ وَالآلامَ
أُلقِيها لَدَيكَ
في أَعالي التَّلِّ.. لا أحمل وَرداً
كَنَقائِك
قَد غَرَستُ العًشبَ كَي يَخضّرَّ
صَيفاً وَشِتاءً
كَعَطائِك
خِفتُ أَنسَى وَأَدوسُ التُربَ
يا أُمّاهُ في ذاكَ المُصَلَّى
شٍئتُ أَن يَهتِفَ بِي العُشبُ
إذا أنسِيتُ.. قِف
وَاخلَع حِذاءَك
وَانحَنِ
قَد قدِّسَ التُّربُ هُنا
قَدَّسَهُ أَعظَمُ حُبّ
في أَعالي التَّلِّ يا أُمّاهُ
أَجثُو
نافِثاً آلامَ قَلبي (2)
فَأَهِيبي بي
أنا يا حِبَّ أَيّامي
وَيا بَهجَةَ حُبِّي
ها هُنا.. ما فَرَّقَ المَوتُ
سِوىَ أَجسادِنا
وَالرُّوحُ تُهدِي
أسمى طوبى
مجلّة (الأديب) مجلّد 29
الجزء الأَّوّل
1. حادثات الدهر: مصائب الزمان.
2. ينفث آلام قلبه: يُخرج آلامه. ينفخ من شدّة غضبه.
إِن سَألتِني، يا ابنَتي، كَيفَ استَطاعَ أَبوكِ أَن يُهَيِّئَ لَكِ ما أَنتِ فيهِ مِن حَياةٍ راضِيَةٍ، فَلَستُ أَستَطيعُ أَن أُجيبَكِ، وَإِنَّما هُناكَ شَخصٌ آخَرٌ هُوَ الذي يَستَطيعُ هذا الجَوابَ فَسَلِيهِ يُنبِئكِ؛ أَتَعرِفِينَهُ؟ أُنظُري إلَيهِ. هُوَ هذا المَلَكُ القائِمُ الذي يَحنو عَلَى سَريرِكِ إذا أَصبَحتِ لِتَستَقِبلي النَّهارَ في سُرورٍ وَابتهِاجٍ. أَلَستِ مَدِينَةً لهذا المَلَكِ بِما أَنتِ فيهِ مِن هُدوءِ اللَّيلِ وَبَهجَةِ النَّهارِ؟ لَقد حَنا يا ابنَتِي هذا المَلَكُ عَلَى أَبيكِ فَبَدَّلَهُ مِنَ البُؤسِ نَعيماً وَمِنَ اليَأسِ أمَلاً، وَمِنَ الفَقرِ غِنًى، ومن الشَّقاءِ سَعادَةً.
طه حسين
من كتابه (الأيّام)
*84*
كاتب مصري معاصر. عمل في الصحافة، ونشر الكثير من المقالات في الصحُف.
ضاقَ بِشَفَقَةِ النّاسِ، فَهُم لا يُشفِقُونَ إلاّ عَلَى العَجَزَةِ وَالمَرضَى.
وَكانَ سَجِيناً فِي بَيتِهِ. كانَ يَرَى البابَ مَفتوحاً وَلا يَستَطِيعُ الخُروجَ مِنهُ، وَالنّافِذَةَ مَفتوحَةً وَلا يَستَطِيعُ القَفزَ مِنها. لَقَد أُصِيبَ بِشَلَلِ الأَطفالِ، وَعَجَزَّ عَنِ الحَرَكَةِ، وَعَجَرَ عَن تَنَفُّسِ الهَواءِ الطَّلقِ.
وَضاقَ بِالهَواءِ الرّاكِدِ (1) في حُجرَتِهِ، فَاشتَرَى دَرّاجَةَ العاجِزِينَ التي تَدُورُ بِاليَدِ وَراحَ يَتَجَوّلُ بها في الشَّوارِعِ، كانَ يَجري بِها مَعَ الدُّنيا.
وَبَينَما كانَ يَعبُرُ الشّارِعَ بِدَرّاجَتِهِ فِي اللَّيلِ، أَقبَلَت سِيّارَةٌ مُسرِعَةٌ، وَصَدَمَتهُ بِعُنفٍ، فَطارَ فِي الهَواءِ ثُمَّ سَقَطَ عَلَى الأَرضِ. وَلَم تَقِفِ السَّيّارَةُ. وَلَم يُحاوِل سائِقُها أَن يَرَى آثارَ جَريمَتِهِ. لَقَد أَسرَعَ بِالهَرَب.
وَنسِيَ الشّابُّ المُقعَدُ أَنَّهُ مَشلولٌ، وَنَسِيَ أَنَّهُ فَقَدَ القُدرَةَ عَلَى الحَرَكَةِ. لَقد غَلَى الدَّم في رَأسِهِ وَوَجَدَ نَفسَهُ يَجري وَراءَ السَّيّارَةِ الهارِبَةِ. وَلَم يَستَطِعِ اللَّحاقَ بالسَّيّارَةِ الهارِبَةِ وَلكِنَّهُ لَحِقَ بِالدُّنيا. لَقد أَعادَتِ الصَّدمَةُ لِساقَيهِ المَشلولَتينِ القُدرَةَ عَلَى الحَرَكَةِ وَالمَشيِ وَالجَريِ.
وَما حَدَثَ لِهذا الشّابِ لَيسَ مُعجِزَةً. إِنَّهُ يَحدُثُ كَلَّ يَومٍ لِلألوفِ الذينَ يُصدمونَ في زَحمَةِ الحَياةِ. إِنَّ هذِهِ الصَّدَماتِ قَد تُنزِفُ (2) الدَّمَ، وَلَكِنَّها في نَفسِ الوَقتِ تُثِيرُ الحَماسَ، وَتَدفَعُ الذينَ يَقعونَ عَلى الأَرضِ إلَى الوُقوفِ عَلَى أَقدامِهِم وَاللَّحاقِ بِالدُّنيا.
فَإِذا صَدَمَتكَ الحَياةُ فَلا تَلعَنها.
قِف عَلى قَدَمَيكَ وَحاوِل أَن تَجرِيَ وَرَاءَها.
سَتَلحَقُ بِها، وَسَتَنسَى جُروحَكَ؛ فَالدُّنيا تُضَمِّدُ (3) الجُروحَ، وَتَشفِي المَرضَى، وَتَبتَسِمُ لِلَّذينَ يَجرُونَ وَراءَها.
علي أمين
من كتاب
(سنابل من حقول الأدب)
لسامي مزيغيت
1. الراكد: الساكن.
2. تُنزِف: تُنزِل.
3. تضمّد الجروح: تلفُّها وتشدّها بالعِصابة.
الحصري القيرواني:
هو ابن إسحق ابراهيم بن عليّ بن تميم، المعروف بالحصري القيرواني. له ديوان شعر، وكتاب زهر الآداب وثمَر الألباب، وكتاب المَصُون في سِرّ الهَوَى المَكنون. وله كتاب آخر اسمه (جمع الجواهر في المُلَح والنوادر). وقد ذكر صاحب (وفيات الأعيان) أنّه توفّي سنة 413 هـ، وقال ابن بسّام: بلغني أنّه توفّي سنة 453 ه.
أبو عليّ الغالي:
عاش الأديب أبو علي القالي في القرن العاشر الميلادي. ونشأ في ديار بكر. ثمَّ رحل إلى العراق فالأندلس في أيّام عبد الرحمن الناصر. واستوطَنَ قرطبة فدرَّسَ في مسجدها. وهناك وضع كتاب (الأمالي) وفيه معلومات شتَّى في اللغة والنوادر والأمثال. وله أيضاً كتاب (البارع) في اللغة.
حسن البصري:
ولد بالمدينة المنوَّرة سنة 642م. ونشأ في وادي القرى. ثمَّ اشتقرَّ في البصرة - وفيها توفّي. كان وَرِعاً تقيّاً متقشّفاً. توفي سنة 728م.
في السفر:
أوصَت أعرابِيَّةٌّ ابنَها في سَفَرٍ فَقالَت: يا بُنَيَّ، إنَّكَ تُجاوِزُ الغُرَباءَ، وَتَرحَلُ عَنِ الأَصدِقاءِ، وَلَعَلَّكَ لا تَلقَى غَيرَ الأَعداءِ؛ فَخالِطِ النّاسَ بِجَميلِ البِشرِ وَاتَّقِ اللهَ في العَلانِيَةِ وَالسِّرِّ.
قالَت أعرابِيَّةٌ تُوصي ولَداً لَها أَرادَ سَفَراً:
أَي بُنَيَّ. اجلِس أَمنَحكَ وَصِيَّتي، وَبِاللهِ تَوفيقُكِ. أي بُنَيَّ، إِيّاكَ وَاللَّئيمَةَ فَإِنَّها تَزرَعُ الضَّغِينَةَ وَتُفَرِّقُ بَينَ المُحِبّينَ. وَإِيّاكَ وَالتَّعَرُّضَ لِلعُيوبِ فَتُتَخَذَ غَرَضاً. وَخَلِيقٌ أَلا يَثبَتَ الغَرَضُ عَلَى كَثرَةِ السِّهامِ. وَقَلَّما اعتَوَرَتِ (1) السِّهامُ غَرَضاً إِلاّ كَلَمَتهُ (2)، حَتَّى يَهِيَ (3) ما اشتَدَّ مِن قُوَّتِهِ.
من كتاب (زهر الآداب)
لأبي إسحق القيرواني
في طَلَبِ الحاجَةِ؛
وَحُسنِ الاستِماعِ:
قالَ مُسلِمُ بِنُ قُتَيبَةَ:
لا تَطلُبَنَّ حاجَتَكَ إلَى واحِدٍ مِن ثَلاثَةٍ: لا تَطلُبها إلَى الكَذّابِ، فَإنَّه يُقَرِّبُها وَهِيَ بَعِيدَةٌ وَيُبعِدُها وَهِيَ قَريبَةٌ. وَلا تَطلُبها إلَى الأَحمَقِ، فَإِنَّهُ يُريدُ أَن يَنفَعَكَ وَهُوَ يَضُرُّكَ. وَلا تَطلبها إلَى رَجَلٍ لَهُ عِندَ قومٍ مَأكَلَةٌ، فَإنَّهُ يَجعَلُ حاجَتَكَ وِقاءً لِحاجَتِهِ.
قالَ الحَسَنُ البَصرِيُّ لِابنِهِ:
يا بُنَيَّ، إِذا جالَستَ العُلَماءَ، فَكُن عَلَى أَن تَسمَعَ أَحرَصَ مِنكَ عَلَى أَن تقولَ، وَتَعَلَّم حُسنَ الاستِماعِ كَما تَتَعَلَّمُ حُسنَ الصَّمتِ، وَلا تَقطَع عَلَى أَحَدٍ حَديثاً وَإن طالَ حَتَّى يُمِسكَ.
من كتاب (الأمالي)
لأبي علي القالي
1. اعتورَته: تداولَته بالضرب.
2. كَلَمَتهُ: جَرَحَتهُ.
3. يَهِي: يَضعُف.
ولد في بيروت عام 1867م. ثمَّ رحل به أهله إلى مصر وهو ابن ستّ سنوات؛ ثمَّ عاد إلى لبنان فدرس أصول اللغة العربيَّة من قِبَلِ خَالَيهِ ابراهيم وخليل اليازجيّ. ثمَّ عاد إلى مصر فاشتعل في الصحافة في جريدة (الأهرام) وجريدة (لسان العرب) ومجلّة (أنيس الجليس). ولم ينقطع عن تأليف الروايات وترجمتها ونظم القصائد.
من آثاره: رواياته الموضوعة: (صلاح الدين الأيّوبي) و (المَهدي) ورواية (غصن البان). ورواياته المعرَّبة: (السيّد) للشاعر الفرنسي كورني. و (البخيل) لموليير، و(الفرسان الثلاثة) لإسكندر دوماس.
له ديوان شعر سَمّاه (تَذكار الصِّبا).
كانَتِ الإمبَراطُورَةُ (كاتِريِنَةُ)، قَرِينَةُ بُطرُسَ الأَكبَرِ، إِمبَراطُورِ رُوسِيَّةَ، مِن أَعقَلِ نِساءِ زَمانِها وَأَجمَلِهِنَّ؛ وَلَم يَكُن لَها مِن شَرَفِ الأَصلِ ما يُؤَهِّلُها لِأَن تَكُوَن قَرِينَةَ إمبَراطُورٍ كَبِيرٍ، وَلكِنَّهُ اقتَرَنَ بِها لِجَمالِها وَأَدبَهِا. كانَت ذاتَ يَومٍ عِندَ مَكتَبِهِ، فَقُدِّمَت إلَيهِ وَرَقَةٌ لِيُوَقِّعَ (1) عَلَيها، فَسَأَلَتهُ عَنها، فَأَخبَرَها أَنَّها حُكمٌ بِالقَتلِ عَلى عِشرِينَ رَجُلاً كانُوا يَأتَمِرُونَ (2) عَلَى قَتلِهِ، وَقَد عَلِمَت بِهِمْ الحُكُومَةُ فَحاكَمَتهُم، وَصَدَر حُكمُ قُضاتِها بِقَتلِهِم جَمِيعاً وَهُم يَنتَظِرُونَ تَوقِيعَ القَيصَرِ لإنفاذِ (3) الحُكمِ. ثُمَّ تَناوَلَ القَلَمَ لِيَكتُبَ تَوقِيعَهُ، فَأمسَكَت (كاتِرينَةُ) يَدَهُ، وَأَخَذَت مِنهُ القَلَمَ وَقالَت: (إذاً فَدِماءُ عِشرِينَ شَخصاً يُناطُ (4) سَفكُها بِسَفكِ قَطَراتِ حِبرٍ مِنَ رَأسِ يَراعِكَ (5)؟).
قالَ: (نَعَم، وَذَلِكَ بِحُكمِ القُضاةِ). قالَت: (بَل بِحُكمِكَ، يا مَولايَ، لأنَّ قَضاءَهُم لا يَتِمُّ إِلاّ بِأَمرِكَ؛ وَقَد فَعَلُوا هُم ما يَجِبُ عَلَيهمِ مِنَ العَدلِ؛ فَافعَل أَنتَ ما يَجِبُ عَلَيكَ مِنَ الرَّحمَةِ وَالعَفوِ. قالَ: (إنَّ العَفوَ مُستَحِيلٌ، فَإنَّهُم قَد نَوَوا لِيَ القَتلَ، فَهُم مُجرِمُونَ). قالَت: (إِنَّهُم قَد عَزَمُوا عَلَى قَتلِ واحِدٍ، وَلَم يَقتُلُوهُ فَعَدَدتَهُم مُجرِمِينَ يَسَتحِقُونَّ العِقابَ؛ وَهَا أَنتَ الآنَ تَنوِي قَتلَ عِشرِينَ، ثُم تُرِيدُ إنفاذَ أَمرِكَ بِالقَتلِ فِعلاً؛ فَأَيُّكُما أَقَلُّ رَحمَةً: مَن يَنوي قَتلَ واحِدٍ ثُمَّ لا يَقتُلُهُ، أم مَن يَنوي قَتلَ عِشرِينَ، ثُمَّ يَقتُلُهُم جَمِيعاً؟). قالَ: (لا بُدَّ مِن قَتِلهِم لا انتِقاماً (6) مِنهُم، بَل لِيَكُونُوا عِبرَةً (7) لِسِواهُم). قالَت: (هَيهاتِ أَن أَسمَحَ لَكَ بِذَلِكَ)، أَو أَن أَدَعَكَ تُلَطِّخُ يَدَيكَ بِدَمِ قَومٍ لَم يُجرِمُوا إٍلَيكَ إلاَ بِالقَصدِ، دُونَ الفِعلِ).
فَغَضِبَ القَيصَرُ مِن شِدَّةِ إصرارِها (8) وَمَنعِها لَهُ عَن إِنفاذِ قَصدِهِ، وَنَهَضَ حَانِقاً هائِجاً، وَضَرَبَ بِكَفِّةِ مِرآة نَفِيسَةً مِن أَثمَنِ المَرائِي في ذلِكَ العَهدِ، فَكَسَّرَها قِطَعاً. ثُمَّ أَخَذَ يَسحَقُ تِلكَ القِطَعَ بِقَدَمَيهِ، وَالتَفَتَ إلَى (كاتِرِينَةَ) وَقالَ لَها: (هكَذا أُعِيدُ كُلَّ مَن يَعصِينِي إِلَى أَصلِهِ، كَما أَعَدتُ المِرآةُ غباراً)، وَهُوَ يُشيرُ بِذلِكَ إلَى أَصلِ امرَأَتِهِ الوَضِيعِ، وَأَنَّهُ يَتَهَدَّدُها بِإرجاعِها كَما كانَت قَبلَ زَواجِها. فَتَبَسَّمَت تِلكَ المَرأَةُ العاقِلَةُ وَقالَت: (إِنَّك تَقدِرُ، يا مَولايَ، أَن تُرجِعَ كُل شَيءٍ إلَى أصلِهِ، كَما فَعَلتَ بِهذِهِ المِرآةِ، وَلكِنِ اذكُر أَنَّكَ تَكُونُ قَد كَسَرتَ زِينَةَ قَصرِكَ). فَسُرَّ الإمبَراطُورُ مِن جَوابِها، وَزالَ عَنهُ الغَضَبُ، وَأَمَرَ بِالَعفوِ عَنِ المُجرِمِينَ، وَأنقَذَت تِلكَ الإمَبراطُورَةُ بِحَنانِها وَحُسنِ جَوابِها عِشرِينَ رَجُلاً مِنَ القَتلِ.
نجيب الحدّاد
من كتاب (المشوق) ج1
جمع أ. الفتِّال
1. يوقع على الصكّ أو الكتاب: يضع اسمه في ذيله.
2. يأتمرون: يتآمرون.
3. إنفاذ الحكم: تنفيذه.
4. أناطَ به الشئ: علَّقَه به.
5. اليَراع: القلَم. (وأصل اليراع: القصبَة).
6. انتقمَ منه: عاقَبَه.
7. العِبرَة: العِظَة.
8. أصَرَّ على الشئ: عَزَمَ وَثَبَتَ عليه.
ولد في القاهرة سنة 1868، تابعَ دراسته العليا في فرنسا؛ فدرس الحقوق واطَّلَعَ على الآداب الأجنبيّة.
له ديوان (الشوقيّات) في أربعة أجزاء. وله عدد من المسرحيّات الشعريّة منها: (مصرع كليوبترا)، (محنون ليلى)، (عنترة)، (قمبيز)، (علي بك الكبير) وغيرها. توفي في القاهرة سنة 1932.
قـُم للمُعَلِّمِ وَفـِّهِ التَبْجيلا كادَ المعلمُ أن يكونَ رَسولا (1)
أعَلِمْت أشرَفَ، أو أجَلَّ مِنَ الذي يَبْني، ويُنْشِئُ أنْفُساً وَعُقولا؟
سُبحانَكَ اللَّهُمَّ خَيرَ مُعَلِّم عَلَّمتَ بِالقلَّمِ القُرونَ الأولَى
أَخرَجتَ هذا العَقلَ مِن ظُلُماتِهِ وَهَدَيتَهُ النُّورَ المُبِين سَبيلا (2)
رَبُّوا عَلَى الإنصافِ فِتيانَ الحِمَى تَجِدوهُمُ كَهْفَ الحُقوقِ كُهُولا (3)
فَهوَ الذي يَبنِي الطِّباعَ قَوِيَمةً وَهوَ الذي يَبنِي النُّفوسَ عُدولا (4)
ويُقِيمُ مَنْطِقَ كلِّ أَعوَجِ مَنْطِقٍ وَيُرِيهِ رَأياً في الأُمورِ أَصِيلا
وَإذا المُعَلِّمُ لَم يَكُن عَدِلاً ، مَشَى رُوحُ العَدالَة في الشَّبابِ ضَئيلا (5)
وَإذا الُمعَلِّمُ ساءَ لَحْظَ بَصِيرَةٍ جاءَت عَلَى يَدِهِ البَصائِرُ حُولا
وَإذا أتَى الإرشادُ مِن سَبَبِ الهَوَى وَمِنَ الغُرورِ ، فَسَمـِّهِ التَّضليلا (6)
وَإذا أُصِيبَ القَومُ في أَخلاقِهِم فَأَقِم عَلَيهِم مَأتَماً وَعَويلا
وَإذا النِّساءُ نَشَأنَ فِي أُمِّيَّةٍ رَضَعَ الرِّجالُ جَهالَةً وَخُمولا
لَيسَ اليَتيمُ مَنِ انتَهَى أبَواهُ مِن هَمِّ الحَياةِ، وَخَلـَّفاهُ ذَليلا
فَأَصابَ باِلدُّنيا الحَكِيمَةِ مِنْهُما وَبِحُسـْنِ تَربِيَةِ الزَّمانِ بَديلا!
إِنَّ اليَتيمَ هُوَ الذي تَلْقَى لَهُ أماً تَخَلتْ ـ أَو أباً مَشغولا
أحمد شوقي
من ديوانه (الشوقيّات)
المجلّد الأوّل
1. التبجيل: الاحترام.
2. المُبِين: الواضِح.
3. الإنصاف: العَدل. الحِمَى: الوطَن.
كهف الحقوق: ملجأ الحقوق.
الكُهول: الرجال الذين تجاوزوا مرحلة الشباب، وزحفوا نحوَ الشيخوخة.
4. قويمة: صحيحة.
5. ضئيل: ضعيف، وقليل.
6. الإرشاد: التوجيه إلى الخير.
الهوى: الميل والغاية.
الغرور: الانخداع بالوهم.
التضليل: الخداع ووضع الشخص في حيرة.
كاتب جزائري معاصر. من رواياته المشهورة (ابن الفقير).
قَرَّرَ وافِرٌ أَن يَعودَ إلَى المَدرسَةِ، بَعدَ أَن هَجَرَها زَمَناً. إِنَّ رِفاقَهُ الذينَ تابَعوا الدِّراسَةَ قَد بَلَغوا هذا العامَ الصَّفَّ السّادِسَ. لَقَد صَمَّمَ أَلاّ يَعودَ إلَى المَنزِلِ، وَلِماذا يَعودُ إلَيهِ؟ لَم يَبقَ فِي البَيتِ ما يَمنَعُهُ مِن مُتابَعةِ التَّعَلُّمِ؛ فَالعَنزَةُ لَم تَكُن بِحاجَةٍ إلَى حارِسٍ، وَمِنَ المُمكِنِ أَن تَلحَقَ بِقَطِيعِ القَريَةِ، أَمّا إِطعامُها في الَبيتِ فَلَيسَ أَمراً مُتَعَذِراً.
لَم يَكُن وافِرٌ يَحسُدُ الذينَ تَرَكوا المَدرَسَةَ إلاّ فِي مَوسِمِ الزَّيتونِ، ذَلِكَ بِأَنَّ طُيورَ السُمانَيَاتِ وَالزَّرازيرِ، كانَتَ تَحُطُّ عَلَى العُشبِ وَشُجَيراتِ الزّيتونِ، وَبَينَما يَتَسارَعُ الرِّجالُ إِلَى هَزِّ الأَشجارِ، وَالنِّساءُ إِلَى جَمعِ المَحصُولِ، وَالحَميرُ إلَى نَقلِهِ، كانَ الأَولادُ يَبدَأونَ الصَّيدَ بِشَغَفٍ، فَتُزرَعُ مِئاتُ الفِخاخِ فِي الأرضِ، وَيمضِي الصِّغارُ تَحتَ البَردِ القارِسِ لِيُبَدِّلوا طُعمَها. ثُمَّ يَجتَمِعونَ زُمَراً تَحتَ الأَشجارِ الكَبيرَةِ، فَوقَ هَضَبَةٍ مُجاوِرَةٍ يُراقِبونَ سُقوطَ الزَّرازيرِ عَلَيها.
لَم يَكونوا يُحِسَّونَ بِالجُوعِ أَوِ البَردِ أَوِ المَطَرِ، حَتَّى وَلا الشَّوكِ، لأَنَّهُم حِينَ يُبصِرونَ زُرزُوراً يَسقُطُ في الشَّرَكِ، يَنسَونَ تَعَبَهُم، فَتُذبَحُ الطُّيورُ وَيُنتَفُ رِيشُها، وَتُملأ مِنهُ القَلَنسُواتُ. أَمَّا الطُّيورُ التي تَقَعُ فِي الفِخاخِ فِي آخِرِ النَّهارِ، فَتُحَملُ حَيَّةً، فَإذا خَرَجَ الأَولادُ مِنَ المَدرَسَةِ، فَإِنَّ الفِتيانَ المُشَّرَّدينَ مِمَّن تَرَكوا الدِّراسَةَ، يَقصِدونَ بابَها، كَي يَبعَثوا الحَسَدَ في نُفوسِ التَّلاميذِ.
ها هُو ذا العامُ يَمُرُّ، فَيَنسَى وافِرٌ الصَّيدَ وَمَسَرّاتِهِ، وَيُكِبُّ عَلَى دُروسِهِ، إلَى أن يَحِينَ مَوعِدُ الامتِحانِ... وَما زالَ يَذكُرُ إلَى اليَومِ مَوضوعَ الإنشاءِ الذي طُرِحَ عَلَيهِ: (تَخَيَّل أَنَّ لَكَ أباً أُمِّياً يَعمَلُ في بَلَدٍ غَريبٍ، تَحَدَّث عَنِ الصُّعُوباتِ التي يُلاقِيها مَن لا يَعرِفُ القِراءَةَ وَالكِتابَةَ، وَعَن أَسَفِهِ لأَنَّهُ لَم يَتَعَلَّم، وَعَن فائِدَةِ العِلمِ).
كانَ أَبوهُ أُمِّياً يَعِيشُ فِي بِلادِ الغُربَةِ، وَكانَ يَعلَمُ مَدَى ارتِباكِ هَذا الأَبِ حِينَ يَشتَرِي حاجاتِهِ، فَلا يَعرِفُ كَيفَ يُحاسِبُ البائِعَ، أَو حِينَ يَطلُبُ إِلَيهِ رَئيسُ العُمّالِ أَن يَقِيسَ الباحَةَ، أَو حِينَ يَذهَبُ إِلَى مُتَعَلِّمٍ لِيَسطُرِ لَهُ رِسالَةً لِأَهلِهِ، فَيَبُوحُ بِأَسرارِ أُسرَتِهِ لِلنّاسِ.
كَتَبَ وافِرٌ كُلَّ هذِهِ الأَفكارِ فَكانَ مَوضوعُهُ جَيِّداً، وَأَيقَنَ أَنَّهُ ناجحُ لا مَحالَةَ، وَأَنَّهُ سَيُساعِدُ وَالِدَهُ فِي كُلِّ عَمَلٍ كِتابِيٍّ. وَحِينَ كانَ الصِّغارُ المُشَرَّدونَ يَمُرّونَ أَمامَهُ، وَمَعَهُم صَيدُهُم مُتَباهِينَ بِهِ كانَ يَقولُ لَهُم: (إِنَّ صَيدِي أَوفَرُ وَأَشهَى لِلآكِلِينَ).
مولود فرعون
من كتابه
(ابن الفقير)
كاتب مصري ولد في الزقازيق عام 1888، تعلّمَ في البداية في مصر، ثمَّ أكمَلَ دراسته وثقافته في لندن وباريس. آمن بالاشتراكيّة. وكان من أكثر دعاة التجديد في مصر، ومن أعداء الأوساط الدينيّة المتحفّظة. وكان من أوائل الداعين الى التزام الأديب ومسؤوليته الاجتماعيّة.
توفّي سلامة موسى عام 1958، وقد ترك مجموعةً كبيرةً من الكتب، منها: (عالَم الغد)، (تربية سلامة موسى)، (الأديب والشعب) و (مختارات سلامة موسى).
الاعتِقادُ السّائِدُ أَنَّنا نُعَلِّمُ أَولادَنا كَي يَحصُلوا عَلَى عَيشِهِم في المُستَقبَلِ. وَأَنَّ النَّجاحَ فِي الحَياةِ يَنتَهي بِهذا الاعِتقادِ، إِلَى أَن يَكونَ نَجاحاً في الكَسبِ. لَكِنَّنا نَكِسبُ لِنَعِيشَ وَلا نَعِيشُ لِنَكسِبَ. وَالحَياةُ لِهذا السَّبَبِ يَجِبُ أن تَكونَ أَكبَرَ مِنَ الحِرفَةِ. وَالنَّجاحُ فيها أَهَمُّ وَأَخطَرُ مِنَ النَّجاحِ في الكَسبِ.
يَجِبُ أَن تَنجَحَ في الحَياةِ، أَي تَنجَحَ في الأُسرَةِ وَنَنجَحَ في المُجتَمَعِ، بِأَن نَكونَ اجتِماعِيّينَ، نُقَّدِّرُ الصَّداقَةَ وَنُمارِسُ الضِّيافَةَ وَنَشتَغِلُ بالسِّياسَةِ وَتَنغَمسُ (1) في المشكِلاتِ الاجتِماعِيَّةِ.
وَلَكِن كَما نَكونُ اجتِماعِيّينَ يَجِبُ أَن نَكونَ انفِرادِيّينَ، لَنا حَياةٌ مُستَقِلَةٌ نَسَتطِيعُ أَن نَخلُوَ فيها أَحياناً بِأَنفُسِنا لِلتَّأمُّلِ وَلِلفَهمِ. وَهُناكَ مَن يَقولُ إنَّ غايَةَ الحَياةِ هِيَ السَّعادَةُ. وَالفَهمُ يُؤدّي إلَى السَّعادَةِ. وَمِن هُنا يَجِبُ أن تَكونَ التَّربِيَةُ لِلفَهمِ حَتَّى نَحيا الحَياةَ السَّعيدَةَ. وَالسَّبيلُ إلَى الفَهمِ، الفَهمِ العامِّ المُحِيطِ، هُوَ الثَّقافَةُ.
وَهَكَذا؛ فَعِندَما نَتَخَصَّصُ، أَحياناً تَغمُرُنا الحِرفَةُ حَتَّى نَعِيشَ لَها كَأَنَّها هَدَفُ الحَياةِ وَلَيسَت وَسيلَتَها. كَذَلِكَ البَقّالُ الذي كانَ يَرصُدُ كُلَّ وَقتِهِ لِلبِقالَةِ، فَلَمّا ماتَ كُتِبَ عَلَى قَبرِهِ: (وُلِدَ إِنساناً وَماتَ بَقالاً).
فَالثَّقافَةُ ضَرورِيَّةٌ إذَاً لَيسَ لِمَنفَعَةِ المُجتَمَعِ فَقَط؛ بَل ضَرورِيَّةٌ لِلفردِ نَفسِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ غايَةَ الحَياةِ وَهِيَ الفَهمُ؛ أَيِ الحَياةُ الوِجدانِيَّةُ التي تَخلُقُ السَّعادَةَ.
سلامة موسى
من كتابه
(التثقيف الذاتي)
1. ننفس: ندخل.
من كبار العلماء المصريّين المعاصرين. كان عميداً لكلّيّة العلوم بجامعة عين شمس بالقاهرة، وعضواً في مجمع اللغة العربيّة.
لَقَد قَضَى الأنسانُ نِصفَ حَياتِهِ عَلَى الأَرضِ يَحمِي نَفسَهُ مِنَ البيئَةِ. وَسَيُمضِي النِّصفَ الآخَرَ مِن حَياتِهِ يَحمِي البِيئَةَ مِن آثارِ نَشاطِهِ العِلمِيّ وَ (التِّكنولوجِيّ) (1).
فَكَيفَ نَحمِي البِيئَةَ، حَضَرِيَّةً كانَت أَم رِيفِيَّةً، مِن آثارِ (التِّكنولوجيا) المُدَمِّرَةِ؟
إِنَّها مَسؤولِيَّةُ المُواطِنينَ جَميعاً، فَعِندَما يَزدادُ وَعيُ الرَّأيِ العامِّ بِمَسؤولِيَّةٍ تِجاهَ الحَياةِ الإنسانِيَّةِ، وَما يُهَدِّدُها مِن تَلَوُّثِ البِيئَةِ، فَإنَّ الحُكوماتِ سَتَضَعُ التَّشريعاتِ التي تَتَحَكَّمُ في مَصادِرِ التَّلَوُّثِ، كَفَضَلاتِ المَصانِعِ، وَمُخَلَّفاتِ الاِحتِراقِ، وَما يَتَصاعَدُ مِن دُخانٍ وَغازاتٍ تُفسِدُ الهَواءَ الذي نَتَنَفَسَّهُ فَيُصيِبُنا بِأَبلَغِ الأَضرارِ.
وَفي كَثيرٍ مِنَ الوِلاياتِ الأَمريكِيَّةِ وَالبِلادِ الأوروبّيَّةِ، تُلزَمُ السَّيّاراتُ بِأَن تَكُونَ ذاتَ أَجهِزَةٍ تُوقِفُ خُرُوجَ الغازاتِ الضّارَّةِ، بَل إِنَّ هُناكَ تَشريعاتٍ في طَريقِها لأَن تُسَنَّ في الوَقتِ الحاضِرِ، لِلتَّحَكُّمِ في مَصادِرِ التَّلَوُّثِ، وَحَلِّ مُشِكلاتِهِ.
وَهُناكَ مُشكِلَةُ الضَّوضاءِ التي فاقَت حَدَّ الاِحتِمالِ في المُدُنِ المُزدَحِمَةِ. وَتَدُلُّ الدِّراساتُ الحَديثَةُ التي أَجراها العُلَماءُ عَلَى أَنَّ كَثيراً مِنَ النّاسِ لَم يَعُد يَحتَمِلُ الضَّوضاءَ. وَتُجرَى دِراساتٌ كَثيرَةٌ لِمَعرِفَةِ مَا تُحدِثُهُ الضَّوضاءُ مِن آثارٍ ضارَّةٍ بِالإِنسانِ، وَتُوضَعُ بَعضُ القَوانينِ استِخدامِ مُكَبِّراتِ الصَّوتِ، وَأَبواقِ السَّيّاراتِ، وَغَيرِ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ الحالُ فِي استِعمالِ مُرَكَّبِ ال (د. د. ت) المُبِيدِ الحَشَرِيِّ، فَإِنَّنا لَم نَعرِف إلاّ أَخيراً أنَّ تَركيزَ هذا المُرَكَّبِ في النَّباتاتِ وَالتَّربَةِ وَالماءِ يَكُونُ لَهُ تَأثيرٌ ضَارٌّ، فِي صِحَّةِ الحَيَوانِ وَالإنسانِ. صَحيحٌ أَنَّ ذَلِكَ كانَ مُتَوَقِّعاً مُنذُ سَنَواتٍ طَويلَةٍ، وَلَكِنَّهُ لَم يَثبُت كَحَقيقَةٍ عِلمِيَّةٍ إِلاّ في السَّنَواتِ القَليلَةِ الأَخيرَةِ. وَقَد حُدِّدَ الآنَ، بَل حُظِرَ استِعمالُهُ فِي كَثيرٍ مِنَ البِلادِ.
وَلَيسَ مِن شَكٍّ في أَنَّ عُلَماءَ البِيئَةِ لَيسُوا ضِدَّ الاِستِعمالِ السَّليمِ لِمُبِيدات الأَوبِئَةِ، وَمُبِيداتِ الأَعشابِ التي تَجعَلُ الزِّراعَةَ أَكثَرَ إِنتاجاً، ولَكِنَّ هَذِهِ المَوادَّ يَجِبُ أَن يَكونَ استِعمالُها مَأموناً بِوسَائِلَ عِلِميَّةٍ تُحَقَّقُ ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَلاّ تَكونَ الكيماوِيّاتُ المُستَعمَلَةُ ضارَّةً بِالأَحياءِ، فَلا تُصِيبَ غَيرَ أهدافِهُا. وَحَتَّى الآنَ لَم يَحدُث ضَرَرٌ مِن هَذِهِ المُبِيداتِ في بِلادٍ مِثلِ بريطانيا، حَيثُ تُستَعمَلُ في حُدود، وَبِطُرُقٍ تَجعَلُها غَيرَ ضارَّةٍ.
وَنَسمَعُ النّاسَ يَتَحَدَّثونَ عَن أخطارِ المُبِيداتِ الحَشَرِيَّةِ، التي قَضَت عَلَى كَثيرٍ مِنَ الطَّيرِ وَالحَيوانِ، وَلِهذا أَخَذَ العُلَماءُ يُتابِعونَ البَحثَ عَن طُرُقٍ غَيرِ كيماوِيَّةٍ لِمُقاوَمَةِ الحَشَراتِ، وَكَذَلِك لِنَحصُلَ عَلَى مُبيدٍ حَشَرِيٍّ كيماوِيٍّ آمَنَ وَأَفضَلَ.
وَهُناكَ مُشكِلَةُ التَّخَلُّصِ مِنَ المَجاري في المُدُنِ الكَبيرَةِ، وَالتَّخَلُّصِ مِن نِفاياتِ (2) المَصانِع. إنَّها مُشكِلَةٌ صَعبَةٌ، وَلَكِنَّ العِلمَ بِوَسائِلِهِ (التِّكنولوجِيَّةِ) يَستَطِيعُ حَلَّها، وَإن كانَ الحَلُّ باهِظَ النَّفَقاتِ، فَيَنبَغِي تَعبِئَةُ المَوارِدِ لِدَفعِ التَّكاليفِ التي يَتَطَلَّبُها هَذا الحَلُّ.
أَمّا تَلويثُ البِيئَةِ بِالإِشاعاتِ النَّوَوِيَّةِ، فَإنَّهُ مُشكِلَةٌ مِن نَوعٍ آخَرَ، وَعِندَما تُصبِحُ المَحَطّاتُ النَّوَوِيَّةُ أَكثَرَ انتِشاراً، سَتَزيدُ أَحجامُ هذِهِ الفَضَلاتِ الإشعاعِيَّةِ، التي قَد تُؤَدّي إلَى أحداثٍ خَطِيرَةٍ.
وَهُناكَ التَّلَوُّثُ الحَرارِيُّ الذي يُؤَثّرُ في الأَحياءِ المائِيَّةِ خاصَّةً، فَالعُلَماءُ يَخشَونَ أَن تَتَأَثَّرَ الأَحياءُ المائِيَّةُ، نَتيجَةً لِنَشاطِ الإِنسانِ في الصِّناعَةِ، وَما تَقذِفُهُ المَصانِعُ مِنَ المِياهِ السّاخِنَةِ، أَو ما تَستَعمِلُهُ هَذِهِ المَصانِعُ مِن مَياهِ الأَنهارِ وَالبُحَيراتِ في التَّبريدِ، فَيُهَدِدَ حَياةَ السَّمَكِ وَالأَحياءِ المائِيَّةِ، لِما تُقَّدِّمُهُ مِياهُ المَصانِعِ وَمُوَلّداتُ الطّاقَةِ، وَالتي تُوجَدُ عَلَى شَواطِئِها مِن مِياهٍ ساخِنَةٍ، تَرفَعُ دَرَجَةَ حَرارَةِ مِياهِ النَّهرِ بِضعَ دَرَجاتٍ، قَد تَكونُ كافِيَةً لِلقَضاءِ عَلَى الحَياةِ السَّمَكِيَّةِ فيها.
وَقَد تَعَرَّضَت مِياهُ الأَنهارِ إِلَى تَلَوُّثٍ أَيضاً، بِما يُلقَى فيها مِن نِفاياتِ المَصانِع التي أُقِيمت عَلَى شَواطِئِها. وَهَذا يَفرِضُ عَلَى الحُكوماتِ أَن تَنأَى (3) بِمَصانِعِها عَن شَواطِئِ الأنهارِ، فَتَحُفَّها الخُضرَةُ، وَيَصفُوَ هَواؤها، وَيَنسابَ ماؤها عَذباً نَقِيّاً، يَفِيضُ خَيراً وَحَياةً.
وَيَنبَغي أَلاّ تَنسَى أَنَّ لَدَى الإنسانِ غَريزةً قَوِيَّةً لِحِفظِ بَقائِهِ وَحِمايَتِهِ، فَعِندَما تَصِلُ الظُّروفُ البِيئِيَّةُ إلَى نُقطَةِ الخَطَرِ البالِغِ، سَنَجِدُ الإِنسانَ بِما أُوتِيَ مِن عِلمٍ وَمَعرِفَةٍ يُقَرِّرُ النُّظُمَ، وَيَضَعُ الوَسائِلَ التي تَضمَنُ بَقاءَهُ وَتَحميهِ.
وَبِهَذا يَتَحَقَّقُ ما يَقولُهُ العُلَماءُ مِن أَنَّ الإِنسانَ قَد أَمضَى نِصفَ حَياتِه عَلَى الأَرضِ يَحمي نَفسَهُ مِنَ البِيئَةِ، وَسَيُمضِي نِصفَها الآخَرَ لِيَحمِيَ البِيئَةَ مِن آثارِ نَشاطِهِ العِلمِيِّ وَالتِّكنولوجِيِّ. وَإذا كانَ قَد نَجَحَ في الماضي، فَإنَّهُ دُونَ رَيبٍ سَيُتابِعُ نَجاحَهُ، مَعَ ازدِيادِ مَعارِفِهِ العِلمِيَّةِ وَالتِّكنولوجِيَّةِ.
د. عبد الحليم منتصر
من كتاب (الأضواء في اللغة العربيّة)
(وزارة المعارف بمصر)
1. التكنولوجي: التطبيقي: أي تطبيق المعرفة العلميّة في الأغراض العمليّة.
2. النفايات: البقايا.
3. تنأى: تبتعد.
أديب لبناني معاصر، ولد في قرية بسكنتا بلبنان نحوَ سنة 1889، تعلّم في الناصرة، ثُمَّ في كُلّيّة (بلتافة) بروسيا. بعدَها هاجَرَ الى الولايات المتَّحدة، ونال شهادة الحقوق من جامعة واشنطن. وشارَكَ في الحياة الأدبيّة في المَهجَر في (الرابطة القلَمِيّة). وأَلّفَ العديد من الكتب؛ منها: (الغربال)، (جبران خليل جبران)، (سبعون)، (مذكّرات الأرقَش)
غادَرَ نعيمة المهجَر وعاد الى وطنه ليواصل إنتاجه وتأليفه.
سَقفُ بَيتِي حَدِيدْ رُكنُ بَيتِي حَجَرْ
فَاعِصِفِي يا رِياح وَانتَحِب يا شَجَر
وَاسبَحِي يا غُيُوم وَاهطِلِي بِالمَطَر
وَاقصِفِي يا رُعُود لَستُ أَخشَى خَطَر
سَقفُ بَيتِي حَدِيد رُكنُ بَيتِي حَجَر
مِن سِراجِي الضَّئيل أستَمِدُّ البَصَر
كُلَّما اللَّيلُ طال وَالظَّلامُ انتَشَر
وَإذا الفَجرُ مات وَالنَّهارُ انتَحَر
فَاختَفِي يا نُجُوم وَانطَفِئ يا قَمَر
مِن سِراجِي الضَّئيل أَستَمِدُّ البَصَر
بابُ قَلبِي حَصِين مِن صُنوفِ الكَدَر
فَاهجُمِي يا هُمُوم في المَسا وَالسَّحَر
وَازحَفِي يا نُحُوس بِالشَّقا وَالضَّجَر
وَانزِلِي بِالأُلوف يا خُطُوبَ البَشَر
بابُ قَلبِي حَصِين مِن صُنُوفِ الكَدَر
وَحَليفِي القَضاء وَرَفِيقِي القَدَر
فَاقدَحِي يا شُرور حَولَ قَلبِي الشَّرَر
وَاحفِرِي يا مَنُون حَولَ بَيتِي الحُفَر
لَستُ أَخشَى العَذاب لَستُ أَخشَى الضَّرَر
وَحَلِيفِي القَضاء وَرَفِيقِي الكَدَر
ميخائيل نعيمة
من ديوانه
(همس الجفون)
ولد في ارلندا عام 1856. ودرس في كلّيَة (ترينتي) في دبلن. ثُمَّ واصَلَ دراسته في جامعة (أكسفورد). وقد اشتَهَرَ بحبه لكُلّ ما هو جميل. نُشِرَت أَوَّل مجموعة من قصائده عام 1881، وفي عام 1888 بدأ حياة جِدِّيَّةً مليئة بالأعمال. وعرَفَ العالَمُ فيه روائياً وقصصياً من مُستَوّى رفيع. وتوفّي عام 1900 وهو في أوج عظَمَته وَعُنفُوان شبابه.
حَديقَةٌ غَنّاءُ حافِلَةٌ بِما يَسُرُّ الخَواطِرَ، يُغَطّي أَرضَها بِساطٌ نَضِيرٌ، فَقَد تناثَرَت عَلَيهِ الأَزهارُ والرَّياحِينُ، مُختَلِفةَ الأَلوانِ، مُتَعَدِّدَةَ الأَنواعِ، مُتَعَدِّدَةَ الأَنواعِ، وَبَين دَوحِها (1) الوارِفِ (2) الظِّلالِ أَشجارُ الفاكِهَةِ، وَهِيَ فَوَاحَةٌ (3) بِأَرِيجِ أَزهارِها مُعجِبَةٌ بِتَغريدِ أَطيارِها، وَفي وَسَطِ الحَديقَةِ قَصرٌ شاهِقٌ لِطاغِيَةٍ جَبّارٍ.
تِلكَ الحَديقَةُ وَذلكَ القَصرُ، كانا يَستَوقِفانِ الأَطفالِ في غُدوِّهِم وَرَواحِهِم، فَكانوا يَلهُونَ في الحَديقَةِ وَيَمرَحون، وفي غِيابِ الطّاغِيَةِ لِبَعضِ شَأنِهِ، خَلا لَهُمُ الجَوَّ، فَلَمّا عادَ لَم يَهَشَّ لَهُم، بَلِ استَشاطَ غيظاً وَحَنَقاً وَرَماهُم بِالحَصَى فَوَلَّوا الأَدبارَ فَزِعِينَ.
وَأَحاطَ الطّاغِيَةُ الحَديقَةَ بِسُورٍ، فَحَرَمَ الأَطفالَ الإستِمتاعَ بِها وَبِأَطيارِها فَجَعَلوا يَطوفونَ حَولَها وَهُم يَتَحَسَّرونَ.
انقَضَى الشِّتاءُ، وَأَربَعَتِ (4) الحَدائِقُ وَازدانَت بِأَزهارِها وَأَطيارِها، وَلكِن حَديقَةَ الطّاغِيَةِ ظَلَّت فِي رَقدَةِ الشِّتاءِ، تُغَطِّيها الثُّلُوجُ، التي قَضَت عَلى ما كانَ فيها مِن عُشبٍ وَزَهرٍ ناضِرٍ، وَعَرِيَت فُرُوعُ الأَشجارِ مِنَ الأَوراقِ، فَأَوحَشَ المَكان وَأَقفَرَ.
وَعَجِبَ الطّاغِيَةُ مِن تَخَلُّفِ الرَّبيعِ عَن حَديقَتِهِ؛ ثُمَّ أَصافَتِ (5) الحَدائِقُ، وَلكِنَّ حَديقَةً لَم تُصِف، وَحَلَّ الخَريفُ، فَأَثمَرَتِ الحَدائِقُ وَحانَ قِطافُها وَما زالَت حَديقَتُهُ فِي غَمرَةِ الشِّتاءِ.
وَذاتَ يَومٍ سَمِعَ الطّاغِيَةُ طَائِراً يُغَرِّدُ، فَشاقَهُ (6) صَوتُهُ الرَّخِيمُ، وَهَفَت (7) نَفسُهُ إلَى شَدوِهِ، فَبادَرَ إلَى ناحِيَةِ الصَّوتِ، وَإذا جانِبُ الحَديقَةِ كَأَنضَرِ ما تَكونُ الحَدائِقُ، وَالقَصرُ يَعبَقُ (8) بِشَذا (9) الرَّياحِينِ وَالأَزهارِ، وَقَدِ اخضَرَّ العُشبُ وَاكتَسَتِ الأَشجارُ وَأَينعَتِ الثِّمارُ، وَعادَ ذلِكَ كُلُّهُ بِعَودَةِ الصِّغارِ: يَلهُونَ وَيَمرَحونَ، مِنهُم مَن تَسَوَّرَ الحائِطَ، وَمِنهُم مَن نَقَبَ الجِدارَ، ثُمَّ تَسَلَّلوا إلَى الحَديقَةِ وَتَفَرَّقوا تَحتَ الأَشجارِ يَتَفَيَّأونَ ظلالَها (10) وَيَتَشَبَّثون (11) بِأَغصانِها.
رَأَى الطّاغِيَةُ نَفسُهُ ذلِكَ كُلَّهُ بِعَينَيهِ، وَعَجِبَ لِرُؤيَةِ العُشبِ وَالأَزهارِ وَالأَثمارِ وَالطُّيورِ وَأَغصانِ الشَّجَرِ، وَهِيَ تَحنو عَلى الأَطفالِ.
وامتَدَّ بَصَرُهُ إِلَى رُكنٍ بَعيدٍ في الحَديقَةِ، لا يَزالُ في رَقدَةِ الشِّتاءِ، تَكسُوهُ الثُّلوجُ، فَأَبصَرَ غُلاماً صَغيراً يُحاوِلُ التَّعلُّقَ بِأَغصانِ شَجَرَةٍ، فَلا يَستَطِيعُ الوُصولَ إِلَيها، وَيُحاوِلُ تَسَلُّقَها فَلا يَجِدُ إِلَى ذَلِكُم سَبيلاً. عِندَ ذَلِكَ جَرَى الرَّجُلُ نَحوَ الغُلامِ وَفى عَينَيهِ دُموعُ الحُبِّ وَالحَنانِ، فَضَمَّهُ إلَى صَدرِهَ وَرَفَعَهُ إلَى الشَّجَرَةِ اليابِسَةِ فَاخضَرَّت أَوراقُها، وَأَزهَرَت وَأَثمَرَت، وَجاءَت إِلَيها الطُّيورُ تُغَرِّدُ عَلَى أَغصانِها، فَبادَرَ الرَّجُلُ إِلَى الأَسوارِ يَهدِمُها، وَإِلَى الصِّغارِ يَدعُوهُم إِلَى حَديقَتِهِ فَأَقبَلوا عَلَيهِ، وَتَبِعَهُمُ النّاسُ، فَسرَّهُم ما كانَ بَينَ الرَّجُلِ وَأصدِقائِهِ الصِّغارِ، وَما استَوفَتهُ الرَّوضَةُ الغَنّاءُ مِن أَسبابِ الحُسنِ وَالرُّواءِ، وَقالَ لَهُ شَيخٌ مِنهُم: نِعمَ صَديقُ الأَطفالِ أَنتَ.
وَحَدَثَ أن غابَ الغُلامُ الصَّغيرُ عَنِ الشَّيخِ، فَاعتَراهُ الهَمُّ وَتَساقَطَت عَبَراتُهُ، وَسَأَلَ الرِّفاقَ عَنهُ فَلَم يَرُدُّوا لَهفَتَهُ، ثُمَّ انقَضَتِ الأَعوامُ، وَطَعَنَ الرَّجُلُ فِي السِّنِّ، فَلَم يَستَطِع مُشارَكَةَ الأَطفالِ في لَعِبِهِم؛ فَكانَ يَقنَعُ بِمُراقَبَتِهِم.
عادَ الشِّتاءُ، وَأَطَلَّ الشَّيخ عَلَى الحَديقَةِ، وَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَيها، فَرَأى في زاوِيَتِها شَجَرَةً مُورِقَةً، تَفَتَّحَ زَهرُها الأَبيَضُ، وَرَأَى الغُلامَ الذي أَحَبَّهُ وَطالَ شَوقُهُ إِلَيهِ، راقِداً تَحتَ ظِلالِ الشَّجَرَةِ، فَأَسرَعَ إِلَيهَ، وَمالَ عَلَيهِ وَقَبَّلَهُ، وَوَجَدَ نُدُوباً (12) في قَدَمَيهِ وَراحَتَيهِ، فَسَأَلَهُ عَمّا أَصابَهُ، فَأَجابَ الغُلامُ - إِنَّها جِراحُ المَحَبَّةِ. فَصاحَ الشَّيخُ وَقَد أَخَذَتهُ رَهبَةُ: قُل لِي مَن أَنتَ؟ فَأَجابَهُ الغُلامُ باسِماً: لَقَد أَذِنتَ لِي أَن أَلعَبَ في حَديقَتِكَ، وَاليَومَ تَصحَبُني إِلَى حَديقَتي، جَنّاتِ عَدنٍ.
وَفي عَصرِ ذَلِكَ اليَومِ، جاءَ الأَولادُ كَعادَتِهِم إلَى الحَديقَةِ وَإِلَى أَبيهِمُ الشَّيخِ فَوَجَدوهُ تَحتَ الشَّجَرَةِ، وَقَد فارَقَ الحَياةَ. فَبَكَوا فيهِ الحُبَّ والرِّفقَ وَالحَنانَ.
أوسكار وايلد
من كتاب (اللغة العربيّة) ج1
لراضي عبد الهادي وآخرين
1. الدوح: الشجر الضخم.
2. الوارف الظلّ: الكثيف الظلّ.
3. فَوّاحة: منتشرة الرائحة.
4. أربعت: دخلت في فصل الربيع، فاخضرَّت.
5. أَصافت: دخلَت في فصل الصيف.
6. شاقَةَ: جذبه واستماله.
7. هَفَت: اشتاقَت.
8. يَعبَق: يتعطر ويفوح.
9. الشذا: الرائحة الطيّبة.
10. يتفيّأون الظلال: يجلسون في الفَيء - وهو الظلّ.
11. يتشبّثون: يتمسّكون. يتعلّقون.
12. الندوب: آثار الجراح.
من الأدباء المعاصرين. ولد سنة 1852 وتوفي سنة 1912. كان مطران بعلبك، ثمَّ استَغفَى، وأسَّسَ جمعيّة المرسلين البولسيين. وأنشأ مجلّة (المَسَرَّة) الشهيرة. ونشر عدّة كتب ادبية: (السلوة)، (آداب المعاشرة)، (حسناء بيروت)، (ذخيرة الأصغرَين) وغيرها دينيّة- وهذه أهَمّ من الأولى بكثير وهي: (رحلة الفيلسوف الروماني)، (رفيق العابد) وثلاث مجموعات مواعظ، ومقالات عديدة في مجلّة (المسرّة).
خَرَجَ رَهطٌ مِنَ المُوسِرِينَ (1) لِلنُّزهَةِ خارِجَ المَدينَةِ، في بُستانٍ وارِفِ (2) الظِّلالِ، وَكانَ مَعَهُم رَجُلٌ فَكِهٌ (3) طَيِّبُ الحَديثِ، يُدعَى إبراهيمَ. فَلَمّا قَرُبَ وَقتُ الغَداءِ أَخَذوا يَتَعاطَونَ أَقداحَ الشَّرابِ، مُتَرَنِّمينَ مَسرورينَ. وَإذ كانَ إبراهيمُ قَد تَعِبَ مِن فَرطِ التَّكَلُّمِ، لاذَ (4) بِالسُّكوتِ، فَأَحَبّوا أَن يَدفَعوهُ إِلَى الكَلامِ بِسَقيِهِ المُسكِرَ؛ وَلذَلِكَ أخَذوا يُقَدِّمونَ لَهُ كَأساً بَعدَ أُخرَى. فَلَمّا تَناوَلَ اثنَتَينِ جَعَلَ يَرفُضُ ما يُقَدَّمُ لَهُ مِنها، لأَنّهُ لَيسَ مِن عادَتِهِ أَن يَشرَبَ أَكثَرَ مِن كَأسَينِ.
فَألَحّوا عَلَيهِ أَن يَشرَبَ كَأساً أُخرَى بِقَولِهِم: (اشرَب هَذِهِ الكَأسَ لِأَجلِ خاطِرِ أَنطونَ أَفندي). فَشَرِبَها مُكرَهاً إكراماً للِمَذكورِ. وَبَعدَ هُنَيهَةٍ، قالَ أَحَدُهُم: (اشرَب هَذِهِ لأَجلِ خاطِري فَلَيسَ خَاطِرُ أَنطونَ أَفَندي أَعَزَّ عِندَكَ مِن خاطِري). فَاضطَرَّهُ الحَياءُ أَن يَشرَبَها. وَبَعدَ قَليلٍ، قالَ لَهُ آخَرُ مِثلَ ذَلِكَ؛ وَقَدَّمَ لَهُ كَأساً، فَخَجِلَ أَن يَرُدَّها وَشَرِبَها مُتكارِهاً. وَما زالوا يَسقونَهُ كَأساً (لأَجلِ خاطِرِ فُلانٍ)، وَأُخرَى لِأَجلِ خاطِرِ الآخرِ)، حَتَّى فَقَدَ نِصفَ رُشدِهِ، فَطَفَحَ وَجهُهُ بِشراً، وَاندَفَعَ يَتَنادَرُ(5) عَلَيهِم وَيُسمِعُهُم مِن هَزلِيّاتِهِ وَأَحاديثِهِ المُطرِبَةِ ما يُضحِكُ الجَمادَ. فَتَهَلَّلوا وَضَحِكوا حَتَّى كادوا يَفتَضِحونَ مِن شِدَّةِ الضَّحِكِ: فَاستَلقى هَذا عَلَى قَفاهُ، وَلاذَ ذاكَ بِكَشحَيهِ (6)، وَفَحَصَ (7) الآخرُ الأَرضَ بِرِجلَيهِ. وَإبراهيمُ لا يَزدادُ إلاّ هَزلاً وَهَذَياناً (8) لأنَهُ أَضحَى بِتِلكَ الكُؤوسِ غارِبَ الحِجَى (9).
وَلَمّا غَلَبَهُمُ الجوعُ قَاموا لِلطَّعامِ فَأكَلوا ثُمَّ رَقَدوا عَلَى العُشبِ. وَمِن بعدِ تِلكَ القَيلولَةِ (10) الطَّويلَةِ شَرِبوا القَهوَةَ، ثُمَّ أَخَذوا يُعِيدونَ بَعضَ هَزلِيّاتِ إبراهيمَ، عَلَى مَسمَعٍ مِنهُ، وَكانَ قَد عادَ إلَيهِ الوَعيُ (11)، فَأَطرَقَ (12) حَياءً مِمّا بَرَزَ مِن فَمِهِ، مِنَ الجُمَلِ المُنافِيَةِ لآدابِ المُحاضَرَةِ، وَالكَلِماتِ التي لا يَنطِقُ بِها إلاّ الرَّعاعُ (13).
وَلَمّا كانَ الأَصِيلُ (14) رَكِبَ كُلُّ مِنهُم جَوَادَهُ وَعادوا إلى المَدينَةِ، فَمَرّوا في طَريقِهِم عَلَى نَهرٍ فَسَقَوا خَيلَهُم مِنهُ. أَمّا إِبراهيمُ فَلَمّا ارتَوَى جَوَادُهُ وَرَفَعَ رَأسَه عَنِ الماءِ، أَنشَأَ يَقولُ لَهُ: (اشرَب أَيضاً يا أَشهَبُ، لِأَجلِ خاطِرِ أَنطونَ أَفَندي، اشرَب قليلاً لأَجلِ خاطِرِ السَّيِّدِ فارِسٍ، اشرَب جَرعَةً لأَجلِ خاطِرِ سَليمٍ بِك).
وَكانوا كُلُّهم يَسمَعونَ مُخاطَبَتَهُ هذِهِ لِجَوَادِهِ، مُتَعَجِّبينَ. فَقالَ لَهُ أَحَدُهُم: (مِل بِهِ عَنِ الماءِ، يا ابراهيمُ، فَلا يُمكِنُ أَن يَشرَبَ بَعدُ لِأَنّهُ قَدِ ارتَوى)، وَإذ ذاكَ تَقَدَّمَ إبراهيمُ وَقَبَّلَ رَأسَ جَوَادِهِ، ثُمَّ قالَ: (انظُروا، يا إخوانُ، هَذا الجَوادَ الحَزُومَ، إِنَّهُ لِأَفضَلُ مِنّي جِداً، لِأنّهُ أَصَمَّ أُذُنَيهِ عَن سَماعِ ما يُؤذيهِ، وَلَم تَحمِلهُ مُراعاةُ الخَواطِرِ عَلَى مُخالَفةِ سُنَنِ القَناعةِ. أَمّا. أَنا فَغَلَبَني الحَياءُ، وَرَضِيتُ بِما يُؤذِيني وَيَذهَبُ بِرُشدي مُراعاةً لِلخَواطِرِ؛ فَخالَفتُ سُنَنَ الفَضِيلَةِ وَالحَقِ، وَسَكِرتُ وَهَذَيتُ وَنَطَقتُ بِما لا يَلِيقُ بِالأَدِيبِ، فَصَحَّ إذاً أنَّ هَذا البَهِيمَ أَفضَلُ مِنّي.
المطران جرمانوس معقد
من كتاب (المشوّق) المرقاة الخامسة
جمع أ. الفتّال
1. الموسِر: الغنيّ.
2. وارف الظلّ: ممتد الظلّ. كثيف الظلّ.
3. الفَكِه: المَرِح، الخفيف الظلّ.
4. لاذَ بالشيء: التجأ اليه.
5. تنادَرَ بالشيء: يحدّث بالنوادر، وهي الأقوال المُستَملَحَة.
6. الكَشح: الخاصرة.
7. فحص الأرض برجليه: ضَرَبَها بهما.
8. الهَذَيان: التكلّم بغير المعقول.
9. غارِب الحِجَى: شارِد العقل.
10. القَيلولة: النوم في منتصَف النهارِ.
11. الوَعي: الانتباه.
12. أَطرَقَ: أَرخَى عَينَيه ينظر الى الأرض.
13. الرَّعاع: أدنياء القوم.
14. الأصيل: الوقت بين العصر والغروب.
هو مؤيد الدين أبو إسماعيل المعروف بالطغرائي. ولد في أصبهان من أسرة فارسيّة عامَ 1119م. وقد أصبح وزيراً للسلطان مسعود السلجوقي بالموصل، ثُمَّ أُسِرَ وقتل يتهمة الإلحاد.
للطغرائي ديوان شعر أكثره في المدح. وخَير ما فيه قصيدته اللاميّة المعروفة (بلامية العجم) تمييزاً لها من (لاميّة العرب) للشنفرَى. وبها يشكو الشاعر الدهر والإخوان.
أَصالَةُ الرَّأيِ صانَتني مِنَ الخَطَل وَحِليَةُ الـفَضلِ زانَتني لَدَى العَطَلِ (1)
فِـيمَ الإقامَةُ بِالزَّوراءِ، لا سَـكَنِي فيها وَلا ناقَـتِي فـيها وَلا جَـمَلي (2)
ناءٍ عَنِ الأَهـلِ، صِفرُ الكَفِّ، مُنفَرِدٌ كَالسَّيفِ عُرِّيَ مَتناهُ عَنِ الخَلَلِ (3)
أُريـدُ بَـسطَةَ كَفٍّ أَستَعِينُ بـها عَلَى قَضاءِ حُقوقٍ للعلا قِـبَلِي
إنَّ العُلا حَـدَّثَتنِي، وهيَ صادِقَةٌ في ما تـُحَدِّثُ، أَنَّ العِزَّ في النُّقَلِ (4)
أَهَبتُ بِالحَظِّ لَو نادَيتُ مُستَمِعاً وَالحَظُّ عَـنِّيَ بالجُهّالِ في شُغُلِ
أُعَلِّلُ النَّفسَ بالآمالِ أرقُـبُها ما أَضيَقَ العَيشَ لَولا فُسحَةُ الأَمَلِ
تَقَدَّمَتني أُناسٌ كانَ شَـوطُهُمُ وَراءَ خَـطوِيَ إذ أَمشِي عَلَى مَهَلِي
أَعدَى عَدُوِّكَ أَدنَى مَن وَثِقتَ بِهِ فَـحاذِرِ النّاسَ وَاصحَبهُم عَلَى دَخَلِ
وَإِنَّما رَجُلُ الدُّنيا وَواحِدُها مَن لا يُعَوِّلُ في الدُّنيا عَلَى رَجُلِ
الطُّغرائي
من كتاب (جواهر الأدب)
لأحمد الهاشمي
1. صانتني: حفظتني. الخطل: الخطأ.
2. الزوراء: من أسماء بغداد.
3. صفر الكفّ: فارغ اليدين. لا أملك شيئاً.
4. النقَل: التنقُّل.
كاتب مصري معاصر، ولد في إحدى قرى مديريّة البحيرة عامَ 1913، ترعرع في أسرة بائسة متلقياً تجارب أشبَه ما تكون باليُتم غَبَّرَ عنها في قِصَّته (شجرة اللبلاب). ذاعت شهرة الكاتب بعد أن ألَّف قصّة (لقِيطة) التي نالَت الجائزة الأولى بوزارة المعارف بمصر. ثمَّ نال جائزة الدولة على قصَّته (شمس الخريف). له أيضاً مجموعات قصصيّة، منها: (النافذة الغريبة)، (الماضي لا يعود). توفّي الكاتب عامَ 1970.
تَبعُدُ مَحَطَّةُ (التَّوفيقِيَّةِ) عَن قَريَتِنا بِضعَةَ كيلومِتراتٍ. وَيَتَحَتَّمُ عَلَى المُسافِرِينَ إلَى مَدينَةِ طَنطا مِن أَهلِ قَريَتِنا أَوِ القُرَى القريبَةِ أَن يَركَبوا إلَى هذِهِ المَحَطَّةِ، لِيَأخُذوا القِطارَ مِنها إلَى المَدينَةِ.
وَكانَت فَرحَتِي عَظِيمَةً في ذَلِكَ اليَومِ... يَومَ صَحِبتُ أَبِي إِلَى المَحَطَّةِ لِيَركَبَ مِنها إلَى مَدينَةِ طَنطا، وكانَت مُهِمَّتي الرَّئيسِيَّةُ في هَذِهِ الرِّحلَةِ، هِيَ أَن أَعُودَ بِالرَّكايِبِ إِلَى القَريّةِ مِن جَديدٍ؛ لِأَنَّهُ كانَ مِنَ المُقَرَّرِ أن يُقيمَ أَبِي في المدينَةِ ثَلاثَةَ أَيّامٍ كامِلَةٍ.
كُنّا في أُخرَياتِ النَّهارِ، وَالفَصلُ شِتاءٌ، وَالطَّريقُ مُرتَفِعٌ عَن مُستَوَى الحُقولِ وَتَكثُرُ الأَشجارُ عَلَى جانِبَيِه، وَالدَّوابُّ تَسِيرُ الهُوَينا بِي أَنا وَأَبي، وَالجَوُّ مُشمِسٌ وَلَو أَنَّهُ مائِلٌ إِلَى البُرودَةِ.
وَكانَ أَبي سَعيدَ النَّفسِ مُنشَرِحَ الصَّدرِ في هَذا النَّهارِ، يَدُورُ مُعظَمُ حَديثِهِ عَن حُسنِ طالِعِهِ (1) في صَفقَةِ (2) القُطنِ التي باعَها، فَقَد بارَكَ اللهُ مَرَّتَينِ أُولاهُما في المَحصولِ وَالأُخرَى في الشِعرِ. وَهُوَ لِذَلِكَ مُسافِرٌ إِلَى المَدينَةِ لِيَشتَرِيَ لِكُلِّ فَردٍ مِن أفرادِ أُسرَتِنا شَيئاً... وَأَهَمُّ الأَشياءِ التي سَيشتَريها ثِيابٌ مِنَ الصّوفِ والكستورِ (3)، وَمَلابِسُ داخِليَّةٌ، وَقُرطٌ (4) مِنَ الذَّهَبِ لأُختِيَ الصَّغيرَةِ.
وَنَظَرَ أَبِي نَحوَ الغَربِ يُطالِعُ قُرصَ الشَّمسِ للذي يُحَلِّقُ ناحِيَةَ الأُفِقِ. فَرَأَيتُ عَلَى فَمِهِ ابتِسامَةً سَعيدَةً.. سَعيدَةً جِدّاً.. عَرَفتُ سِرَّها بَعدَ أَن صِرتُ أَباً. فَقد تَعَلَّقَت أُختي الصَّغيرَةُ يَومَئِذٍ في عُنُقِهِ وَقَبَّلَتهُ في خَدِّهِ الشّائِكِ، حِينَ أَعلَنَ لَها أَنَّه سَيُهدي إِلَيها قُرطاً مِنَ الذَّهَبِ بِمُناسَبَةٍ بَيعٍ مَحصولِ القُطنِ.
وَقَبلَ أَن تَتَلاشَى هَذِهِ البَسمَةُ عَلَى ثَغرِ أَبِي سَمِعُتُهُ يَقولُ:
- اسمَع يا حُسني... أَظُنُّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَينا أَن نَجتَهِدَ في السَّيرِ شَيئاً ما... يَجِبُ أَن نَحُثَّ الدَّوابَّ لأَنَّني أَخشَى أَن يَسرِقَنا الوَقتُ وَيَفُوتَني القِطارُ.
وَحَرَّكَ كُلٌّ مِنّا عَصاهُ وَأَلهَبَ بِها كَتِفَ الدّابَّةِ التي يَركَبُها.
وَكانَت وُجوهُنا نَحوَ الشَّمالِ، فَكُنَا نَحِسُّ مِقدارَ بُرودَةِ الجَوِّ عَلَى أَطرافٍ أُنوفِنا، لأَنَّ رُؤوسَنا كانَت مُغَطاّةً بِالتَّلافيعِ.
وَكانَ عَلَيَّ أَن أَعودَ بِالرَّكوبَتَينِ بَعدَ أَن تَحَرَّكَ القِطارُ بِأَبِي. وَكانَ يُلَوِّحُ لِي بِكَفِّهِ مِنَ النّافِذَةِ في فَرحَةِ مَن يُسافِرُ إِلَى الأَرضِ المُقَدَّسَةِ. وَحَمَلَ إِلَيَّ الهَواءُ صَوتاً أَعلَى مِن زَفيرِ القِطارِ وَهُوَ صَوتُ أَبِي يَقولُ لِي:
- حُسني... لا تَنسَ أَن تُقابِلَني يَومَ الجُمُعَةِ في قِطارِ الظُّهرِ، مَعَ السَّلامَةِ.
وَرَكِبتُ رُكُوبَةً وَسُقتُ أُخرَى أَمامي. وَبَعدَ أن غادَرتُ مَبنَى المَحَطَّةِ بِرُبعِ ساعَةٍ لاحَ لِيَ الطَّريقُ خالِياً كَئِيباً. وَلَم يَكُنِ الوَقتُ مَوسِمَ زَرعٍ وَلا حَصادٍ؛ فَاستَتبَعَ ذَلِكَ نُدرَةُ النّاسِ في الحُقولِ. وَمالَتِ الشَّمسُ لِلمَغيبِ، فَخُيِّلَ إِلَيَّ مِن فَرطِ وَحشَتِي أَنَّها غَرَبَت قَبلَ المِيعادِ. وَلَم أَكُن أَسمَعُ إِلاّ وَقعَ حَوافِرِ الدَّوابِّ عَلَى الجُزءِ الجافِّ مِنَ الطَّريقِ، الذي لا يَزالُ يَحمِلُ آثارَ مَطَرٍ قَديمٍ.
وَحاوَلتُ أَن أَستَعِيدَ فِكرَةً مُسَلِّيَةً... وَتَرَنَّمتُ بِأُغِنيَةٍ بَعضَ الوَقتِ. ثُمَّ وَجَدتُ نَفسي وَقَد كَفَّت عَنِ الغِناءِ لِأَنَّ الوَحشَةَ غَلَبَتني عَلَى أَمري.
وَكانَ عَلَيَّ أَن أَقطَعَ سَبعَةَ كيلومِتراتٍ بَعدَ غُروبِ الشَّمسِ، وَلَم يَكُن في ذَلِكَ مِن بَأسٍ؛ فَأَنا شَاٌّب رِيفِيٌّ لا يَضِيرُني ذَلِكَ، لَكِنَّ المُشكلَةَ كانَت في التَّغَيُّرِ المُفاجِئِ الذي لَحِقَ الجَوَّ... فَقَدِ اشتَدَّ هُبُوبُ الرِّيحِ، حَتَّى كُنتُ أُمسِكُ نَفسِي عَلَى ظَهرِ دابَّتي، وَأُراقِبُ فِعلَها في تَمايُلِ النَّخلِ وَاضطِرابِ أَوراقِ الشَّجَرِ... وَزَحَفَ مِن ناحِيَةِ الشَّمالِ في مُديرِيَّتِنا المَعروفَةِ بِكَثرَةِ الأَمطارِ- سَحابٌ كَثيفٌ زادَ مِن حُلكَةِ اللَّيلِ، وَرَسَمَ مِن أَشباحِ الشَّجَرِ هَياكِلَ مُخِيفَةً.
قُلتُ في نَفسي وَأَنا أُلهِبُ ظَهرَ رَكوبَتي بِالعَصا: كُلُّ شَيءٍ يُحتَمَلُ إِلاّ الأَمطارَ في هذِهِ اللَّيلَةِ. ذَلِكَ لأَنَّ الطَّريقَ كانَ حَديثَ عَهدٍ بِالمَطَرِ، فَإذا سقته السَّماءُ مَرَّةً أُخرَى فَإِنَّهُ سَيَتَحَولُ إِلَى طَريِقٍ مَرصوفٍ بِالصّابونِ؛ لا تَستَطِيعُ القَدَمُ الواعِيَةُ وَلا العَينُ البَصِيرَةُ أَن تَحفَظَ تَوازُنَها عَلَيهِ. فَلَمّا اشتَدَّت مَخاوِفي لَم أغَنِّ وَلَم أَصفِر بِفَمِي، بَل أَخَذتُ أَهَمهِمُ بِالدُّعاءِ.
غَيرَ أَنَّ الظُّروفَ جَميعاً كانت أقوَى مِن دُعائِي فَأَخَذَتِ السَّماءُ تُمطِرُ. وَكُنتُ أَسمَعُ وَقعَ حَبّاتِ المَطَرِ عَلَى فُرُوعِ الأَشجارِ كَأَنَّهُ صَوتُ النّارِ تَرعَى في الهَشِيمِ. وَتَبَلَّلَت ثِيابِي، وَقَلَّت تَبَعاً لِذَلِكَ سُرعَةُ الدَّوابِّ، فَأَصبَحَت فُرصَةُ تَعَرُّضي لِلمَطَرِ أَطَوَلَ بِطَبيعَةِ الحالِ. عِندَ ذلِكَ شَرَعتُ أُفَكِّرَ بِسُرعَةٍ وَأزِنُ المَعرَكَةَ كَما يَفعَلُ القُوّادُ؛ فَهَل كانَ مِنَ المُمكِنِ أَن أَنحَدِرَ مِن عَلَى الطَّريقِ إِلَى إِحدَى القُرَى فَأَلُوذَ بِأَيِّ مَكانٍ حَتَّى الصَّباحِ؟ وَهَل هَذا أَفضَلُ لِي مِن مُواصَلَةِ السَّيرِ في المَطَرِ وَالظَّلامِ؟
وَوَجَدتُ الفَرضَ الأَوَّلَ شِبهَ مُحالٍ؛ لِأَنَّ الطُّرُقَ الفَرِعِيَّةَ المُؤَدّيَةَ إِلَى أَقرَبِ قَريَةٍ رُبَّما كانَت مَسدودَةً بِالوَحلِ، وَحَتَّى لَوِ انتَهَى هَذا الفَرضُ، فَإنَّ طُرقَ أَبوابِ الدُّورِ في القُرَى في مِثلِ هَذِهِ اللَّيالي عَمَلٌ غَيرُ مَيسورٍ، لِذَلِكَ قَرَّرتُ نِهائِيّاً أَن أُواصِلَ سَيري حَتَّى أَصِلَ قَريَتي.
غَيرَ أَنَّ الرَّكوبَةَ التَي كانَت تَحتَ أَبِي وَالتي أَسُوقُها أَمامِي، بَدا لَها أن تُعَرِّجَ إلَى شَجَرَةٍ عَلَى ناحِيَةٍ مِنَ الطَّريقِ، وَتَقِفَ تَحتَها لِتَستَظِلَّ مِنَ المَطَرِ، فَتَبِعَتها طَبعاً الدّابَّةُ الأُخرَى، فَلَمّا صِرتُ وَراءَها ضَرَبتُها لِتَتَحَرَّكَ، غَيرَ أَنَّها احتَمَلَت أَخَفَّ الضَّرَرَينِ وَأَضرَبَت عَنِ المَشيِ. وَكانَ المَطَرُ تَحتَ الأشجارِ مُضاعَفَ الكَمِّيَةِ، فَأَحسَستُ أَنَّ فَمَ قِربَةٍ قَدِ انفَتَحَ فَوقَ رَأسي، وَعِندَ ذَلِكَ جُنَّ جُنُوني وَصِرت أَضرِبُ الدّابَّةَ بِكُلِّ ما أَملِكُ مِن قُوَّةٍ حَتَّى تَحَرَّكَت وَتَحَرَّكتُ خَلفَها.
لَستُ أَدري ما الذي حَدَثَ بَعدَ ذَلِكَ. وَلِماذا أَنا هَكَذا؟
أَخَذتُ أَنظُرُ حَولي وَأَتَفَقَّدُ الأَشياءَ، فَإذا بِكُلِّ شَيءٍ حَولي مُرتَفِعٌ شاهِقٌ، حَتَّى الدّابَّةِ التي أَركَبُها.
أَحسَستُ فَجأَةً أَنَّني عَلَى الأَرضِ... عَلَى أَوحالِ الطَّريقِ. فَقَدِ انزَلَقَت رَكوبَتي فَسَقَطَت بِي، ثُمَّ استَطاعَت أَن تَنهَضَ في الوَقتِ الذي عَجَزتُ أَنا فيهِ عَنِ النُّهوضِ. وَاستَجمَعتُ حَواشي بِسُرعَةٍ. فَخِفتُ وَأَنا لا أَزالُ عَلَى الأَرضِ أَن تَسِيرَ الدّابَّتان فَتَضِلا مِنّي فِي الظَّلامِ، فَتَحامَلتُ واقِفاً وَأَنا أَدعُوهُما لِلوُقوفِ، وَكانَ القَدَرُ فِي صَفّي فَلَم تَتَحَرَّك واحِدَةٌ مِنهُما.
غَيرَ أَنَّ شَيئاً لَم يَكُن في حِسابي، ظَهَرَ في اللَّحظَةِ التي حاوَلتُ فيها الوُثُوبَ إِلَى ظَهرِ الرَّكوبَةِ لأَستَأِنفَ سَيري، فَقَد أَحسَستُ كَأَنَّ جِسمي مُحَطَّمٌ... كَأَنَّ شَيئاً قَدِ استَنزَفَ قِوايَ، كَأَنَني خارِجٌ مِن مَعرَكَةِ الحُمَّى، ثُمَّ أَخَذَت مَفاصِلي في الاِرتِعاشِ، فَتَلَفَّتُّ حَولي بِحَرَكَةٍ تِلقائِيَّةٍ لِأَبحَثَ عَن شَيءٍ.
كانَتِ الطَّبيعَةُ لَم يُفارِقها غَضَبُها بَعدُ. وَكُنتُ في هَذِهِ اللَّحظَةِ بَينَ بَراثِنِها (5) كَقِطعَةِ الخَشَبِ في مَجرَى الشَّلالِ. وَعَرَفتُ لَيلَتَئِذٍ كَيفَ يَغرَقُ النّاسُ وَهُم عَلَى الأَرضِ، وَكَيفَ يُجَمِّدُ البَردُ أَعضاءَهُم فَيَموتونَ، وَذَكَرتُ أَبِي في مَدينَةِ طَنطا، وَالمُهِمَّةَ التي سافَرَ مِن أَجلِها. سافَرَ لِكَي يَشتَرِيَ لَنا كِسوَةَ الشِّتاءِ. ثُمَّ ذَكَرتُ أُمّي وَإِخوَتِي الذينَ يَنامونَ في دِفءِ الدّارِ تَحتَ غِطاءٍ مِنَ الصُّوفِ، وَبَعدَ عَشاءٍ ساخِنٍ.
ذَكَرتُ كُلَّ هذا وَأنا أَرتَعِدُ وَأَتَلَفَّتُ فِي كُلِّ اتِّجاهٍ أَبحَث ُبِالغَريزَةِ عَن سَفينَةِ نَجاةٍ.
وَفَجأَةً... وَتَحتَ مُستَوَى الطَّريقِ، رَأَيتُ شُعاعاً مِنَ النُّورِ يَلمَعُ وَراءَ بابٍ، فَأَيقَنتُ أَنَّ هُناكَ كُوخاً يَسكُنُهُ إِنسانٌ. وَتَذَكَّرتُ بَيتَ العُمدَةِ أَعلَى بَيتٍ في قَريَتِنا، لَكِنّي رَأَيتُ هَذا الكُوخَ في هَذِهِ اللَّحظَةِ أَعلَى مِنهُ بِكَثيرٍ، وَسَحَبتُ الرَّكُوبَتَيَنِ وَانحَدَرتُ إلَى هُناكَ حَيثُ وَقَفتُ أُنادي.
وَما لَبِثَ البابُ أنِ انفَتَحَ بِرِفقٍ وَحَذَرٍ، وَأَطَلَّ مِنهُ وَجهُ رَجُلٍ عَجوزٍ وَقالَ بِصَوتٍ واهِنٍ: تَعالَ يا مَن تُنادي... لا أَستَطِيعُ أن أَفتَحَ البابَ أَكثَرَ حَتَّى لا يَنطَفِئَ المِصباحُ. فَقُلتُ لَهُ: إِنَّ مَعِي دابَّتَينِ. فَناوَلَني حَبلاً وَقالَ: قَيِّدُهُما بِهِ. ثُمَّ دَخَلتُ.
لَم أُحِسَّ بِالدِّفءِ في حَياتي أَوضَحَ مِمّا أَحسَستُهُ في هَذِهِ اللَّيلَةِ. كانَ في زاوِيَةِ الكُوخِ آثارُ نارٍ خَابيَةٍ، وَعَلَى الأَرضِ حَشِيَّةٌ صُنِعَت مِن شِوالٍ مَليءٍ بِالقَشِّ، وَلَيسَ هُناكَ غِطاءٌ إِلاّ شالٌ قَديمٌ. وَفَحَصَني الشَّيخُ بِعَينَينِ ضَعيفَتَينِ، ثُمَّ تَحَسَّسَ مَلابِسي ثُمَّ قالَ: لا حَولَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ. اخلَع كُلَّ هذا وَإلاّ مُتَّ. وَأَوفَدَ ناراً بِما بَقِيَ مِن حَطَبٍ، وَلَفَّني في الشّالِ حَتَّى جَفَّفَ لي مَلابِسِي عَلَى النّارِ، ثُمَّ أَلبَسَني، وَصَنَعَ لِي شاياً، وَشَرِبتُ مِنهُ حَتَّى زالَتِ الرِّعشَةُ.
عِندئَذٍ فَقَط بَدَأتُ أَذكُرُ الأَشياءَ بِوُضوحٍ، وَبَدَأتُ أُدرِكُ كُلَّ ما حَولِي، فَعَرَفتُ أَنَّ هذا الشَّيخَ يَقومُ فِي حِراسَةِ حَقلٍ مِنَ الخُضَرِ كانَ مَليئاً بِالكُرُنبِ (6) وَالقَصَبِ، وَأَنَّهُ قَضَى عُمرَهُ فِي الحُقولِ. وَسَأَلَني: أَلاَ تَزالُ تُحِسُّ البَردَ؟ فَقُلتُ لَه: لا يا عَمّي... ثُمَّ استَدرَكتُ: وَافرِض أَنَّني لا أَزالُ أُحِسُّ بَرداً، فَهَل تَملِكُ حَطَباً؟ فَابتَسَمَ: نَعَم؛ إِنَّ فَوقَ الكُوخِ كَثيراً مِنَ الحَطَبِ. وَإذا كانَ لا بُدَّ فَفي استِطاعَتي أَن أُخرِجَ مِن أَسفَلِهِ أَعواداً لَم يصِل إِلَيها المَطَرُ. ثُمَّ سَكَتَ كَأَنّهُ يُفَكِّرُ. ثُمَّ استَطرَدَ كَأَنَّهُ تَذَكَّرَ: وَإِذا تَعَذَّرَ عَلَينا ذَلِكَ فَإنَّني أَفُكُّ هَذِهِ الحَشِيَّةَ. إِنَّ فيها قَشَاً يَصلُحُ لِلنّارِ. َأشعِلُهُ لِنَدفَأَ. وَعِندَما تُشرِقُ الشَّمسَ فَإنَّنا سَنَجِدُ قَشّاً غَيرَهُ. وَضحِكَ سائِلاً: هيه... أَلَستَ تَرَى أَنَّ الأُمورَ سَهلَةٌ؟ سَهلَةٌ جِدّاً؟
فَمِلتُ عَلَيهِ وَقَبَّلتُ كَتِفَهُ، فَكَأَنَّني قَبَّلتُ قِطعَةً مِنَ الإِيمانِ. وَكانَ لا بُد لِي أن أَبيتَ مَعَهُ، فَتَقاسَمنا القَشَّ وَالشّالَ القَديمَ، لَكِنَّني لَم أَنَم طُولَ اللَّيلِ.
وَما لَبِثَ يَومُ الجُمُعَةِ أن جاءَ، وَرَجَعتُ إِلَى مَحَطَّةِ التَّوفيقِيَّةِ بِرَكُوبَتَينِ لأُقابِلَ أَبِي، وَكانَ اليَومُ دافِئاً غَيرَ مَطِيرٍ. وَامتَطَى كُلٌّ مِنّا دابَّتَهُ، وَأَعطاني أَبِي (سِبتاً) (7) صَغيراً كانَ فيهِ مَلابِسُ لِي ظّلَّ يُحَدِّثُني عَنها طُولَ الطَّريقِ، وَيَصِفُ لِي رِقَّةَ القُرطِ الصَّغيرِ الذي اشتَراه لأُختي.
ثمَّ ما لَبِثنا أن حاذينا الكُوخَ، فوقفت. سَأَلَني أبِي عَنِ الأَمرِ، فَسَرَدتُ عَلَيهِ وأنا أُشيرُ نَحوَ الرَّجُلِ العائِدِ وَهُوَ يَحمِلُ فَأساً - سَرَدتُ عَلَيهِ حَوادِثَ لَيلَتي المَعهودَةِ، فَاغرَورَقَت عَيناهُ بِالدُّموعِ، وَنَزَل أَبِي إِلَيهِ يَحمِلُ لِفافَةً (8)، وَعِندَما قَدَّمَ محُتَوَياتِها مِنَ المَلابسِ لِلرَّجُلِ أَخَذَ يَتَكَلَّمُ بِشُكرٍ وَدُعاءٍ وَحَياءٍ وَدَهشَةٍ وَخَجَلٍ. كانَ شِحنَةً مِنَ الانفِعالاتِ لَكِن كُلُّها طَيِّبٌ. لَكِنَّ أَبِي قالَ لَهُ:
لَقَد دَفَّأتَ ابنِي بِسَقفِكَ وَنارِكَ، وَهَمَمتَ أَن تُشعِلَ النّارَ في فِراشِكَ لِتُدَفِّئَهُ، فَلَو كُنتَ تَملِكُ كَما يَملِكُ غَيرُكَ ما بَخُلتَ عَلَى أَحَدٍ... فَلِماذا لا تَقبَلُ هَذِهِ الهَدِيَّةَ؟
فَأَخَذَ الشَّيخُ يُقَلِبُ اللِّفافَةَ بَينَ يَدَيهِ، وَعَلَى شَفَتَّيهِ ابتِسامَةٌ رَدَّتهُ إِلَى عَهدِ الصِّبا.
محمد عبد الحليم عبد الله
من مجموعته القصصيّة
(الضفيرة السوداء)
1. الطالِع: الحَظّ.
2. الصفقة: عقد البيع.
3. الكستور: نوع من القِماش.
4. القُرط: الحَلَق الذي يعلق بالأذن.
5. البَراثِن: (من السباع والطير) بمثابة الأصابع من الإنسان.
6. الكرنب: بقلة من فصيلة الصليبيّات- ويقال له أيضاً (أبو ركبة).
7. السِّبت: وعاء صغير من الجلد.
8. لِفافَة: ما يُلَفُّ به.
ولد الشاعر نزار قبّاني في دمشق عام 1923، درس القانون وتخرّج من الجامعة السوريّة عام 1945. شغل مناسب دبلوماسيّة؛ حيث عمل سفيراً في القاهرة، بيروت، لندن، بكين، ومدريد. له مجموعة من الدواوين الشعريّة، منها: (قالت لِيَ السمراء)، (أنت لي)، (سامبا)، (الرسم بالكلمات) وغير ذلك. وله كتاب (الشعر قنديل أخضر) و (قصّتي مع الشعر).
في السَّنَةِ العاشِرَةِ مِن عُمري كُنتُ أَبحَثُ عَن دَورٍ مُناسِبٍ أَلعَبُهُ.
كُنتُ أَشعُرُ بِأَصواتٍ داخِليَّةٍ تَدفَعُني لِأَن أَقولَ شَيئاً، أَو أَفعَلَ شَيئاً، أَكسِرَ شَيئاً.
شَهوَةُ كَسرِ الأَشياءِ هَذِهِ أتعبَتَني وَأتعَبَت أَهلي.
كانَتِ الأَصواتُ في داخِلي تَتَساءَلُ:
لِماذا يَبقَى الشَّيءُ عَلَى حالِهِ؟
لِماذا لا يُغَيَّرُ حَجمُهُ؟
لِماذا لا يُغَيَّرُ اسمُهُ؟
لِماذا يَبقَى المَقعَدُ قاعِداً، وَالشَّجَرَةُ مُستَقِيمةً، وَالطّاوِلَةُ بِأَربَعِ أَرجُلٍ؟
طُفولَتي كانَت مَلِيئَةً بِالأَشياءِ الغَرِيبَةِ.
مَرَّةً أَشعَلتُ النّارَ في ثِيابي مُتَعمِّداً لِأعِرفَ سِرَّ النّارِ.
وَمَرَّةً رَمَيتُ نَفسي مِن فَوقِ سَطحِ المَنزِلِ لِأَكتَشِفَ الشُّعورَ بِالسُّقوطِ.
وَمَرَّةً قَصَصتُ طَربوشَ أَبِي الأَحمَرَ بِالمِقَصِّ؛ لِأَنَّني تَضايَقتُ مِن شَكلِهِ الأُسطُوانِيِّ.
وَمَرَّةً كَسَرتُ ظَهرَ سُلَحفاةِ المَنزِلِ بِالمِطرَقَةِ؛ لِأَعرِفِ أينَ تُخفِي رَأسَها.
دم السلحفاة القتيل لا يزال على راحتي. الحقيقة أنني ما أردت قتلها.
وَلَكِنَّني أَرَدتُ قَتلَ السِّرِّ.
قِشرَةُ الأَشياءِ السَّمِيكَةِ كانَت تُعَذبُني.
كُنتُ أَبحَثُ عَن شَكلٍ وَراءَ الشَّكلِ. وَلَونٍ وَراءَ اللَّونِ.
كانَتِ الأَشياءُ لا عُمرَ لَها بَينَ يَدَيَّ. كانَت كُلُّها هَشَّةً وَسَريعَةَ العَطَبِ.
الدُّمَى لا تُقاوِمُ. قِطاراتُ الطُّفولَةِ لا تُقاوِمُ. كُرّاساتُ رُسومِ الأَطفالِ، الأَقلامُ، الكُتُبُ المُلَوَّنَةُ، الدَّفاتِرُ المَدرَسِيَّة، لا تُقاوِمُ. حَتَّى كَأَنَّ حُجرَةَ طُفولَتي هِيَ مَقبَرَةُ الأَشياءِ المُستَهلَكَةِ.
وَمِن خِلالِ سُخطِ الأَهلِ وَثَورَتِهِم عَلَيَّ، كانَت لِي عَمَّةٌ حَكِيمَةٌ وَفَيلَسُوفَةٌ، تَقولُ لَهُم بِصَوتٍ عَميقٍ تَجَمَّعَت فيهِ كُلُّ حِكمَةِ الدًّهورِ:
(دَعُوهُ يُحَطِّم.. دَعُوهُ يُحَطّم.. فَمِن رَمادِ الأَشياءِ المُحَطَّمَةِ تُخرُجُ النَّباتاتُ الغَريبَةُ).
في الثّانِيَةَ عَشرَةَ مِن عُمري اجتاحَتني حَيرَةٌ لا شَبيهَ لَها. مِن أَينَ أَبدَأُ؟ كَيفَ أَبدَأُ؟
كُنتَ إذا اضطَجَعتُ في سَريري، أَرفَعُ يَدي في الظَّلامِ، وَأَرسُمُ في الفَراغَ خُطوطاً لَيسَ لَها نِهاياتٌ، وَأَشكالاً لا تَعني شَيئاً.
الرَّسمُ؛ رُبَّما كانَ هُوَ قَدَرِي.
وَغَرِقتُ سَنَتَينِ أو ثَلاثاً في قَواريرِ اللَّونِ وَالصِّباغاتِ وَالأَقمِشَةِ. رَسَمتُ بِالماءِ وَبِالفَحمِ وَبِالزَّيتِ.
رَسَمتُ أَزهاراً.. وَثِماراً.. وَبِحاراً.. وَمَراكِبَ.. وَغاباتٍ.. وَشَواِطئَ...
لَم أكُن رَسّاماً رَدِيئاً.. وَلَكِنَّني لَم أَكُن أَيضاً رَسّاماً جَيِّداً.
إذاً فَقَد كانَ الرَّسمُ نَزوَةً. وَلَم تَستَطِع لَوحاتي أَن تَمتَصَّ ذَبذَباتِ نَفسِي.
وَاستَمَرَّ البَلبالُ يَحفِزُني مِنَ الدّاخِلِ. كُنتُ أَشعُرُ أَنَّ اللَّونَ لا صَوتَ لَهُ... وَأَنَّهُ طِفلٌ جَميلٌ لَكِنَّهُ أَخرَسُ.
وَفي الرّابِعَةَ عَشرَةَ، سَكَنَني هاجِسُ الموسيقَى. ظَنَنتُ أَنَّ عالَمَ الأَصواتِ أَرحَبُ وَأَغنَى، وَأَنَّهُ- بِخِلافِ عالَمِ الخُطوطِ- يَستَطِيعُ أَن يَكونَ بابَ الخَلاصِ.
اتَّفَقتُ مَعَ مُعَلّمٍ لِلموسيقَى. وَبَدَأتُ أَتَعَلَّمُ المُدَرَّجَ الموسيقِيَّ (السولفيج). وَفي الدَّرسِ الثّاني شَعَرتُ أَنَّ (السولفيج) كَجَدوَلِ الجَمعِ وَالطَّرحِ عِلمٌ أَبلَهُ.. يَستَنِدُ إِلَى المُعادَلاتِ وَالأَرقامِ الحِسابِيَّةِ. وَلَمّا كانَ عِلمُ الحِسابِ يُرَوِّعُني.. فَقَد قَرَّرتُ أَن أُوقِفَ الرِّحلَةَ مِن بِدايَتِها.
وَرَمَيتُ آلتِي. وَقَطعتُ أَوتاري. وَسَقَطتُ في حَيرَتي مِن جَديدٍ.
وَإِذا كانَت تجَرِبَتَا الرَّسمِ وَالموسيقَى قَد فَشِلَتَا وانتَهَتَا بِالخَيبَةِ، فَإِنَّهُما لَعِبَتَا بَعدَ ذَلِكَ دَوراً أَساسِيّاً في تَكوينِيَ الفَنِّيِّ، وَفي تَشكِيلِ لُغتِي الشِّعرِيَّةِ.
نزار قباني
من كتابه
(قصّتي مع الشعر)
أديب مصري معاصر، ولد سنة 1898، انصرف إلى المسرح والقصة على تصوير المجتمع، ورفع مستوى الكتابة في القصص الحديث.
من آثاره: (أهل الكهف)، (عودة الروح)، (شهرزاد) و (حمار) وتزيد كتبه على السبعين.
الأساطير قصص خرافيّة تُروَى للتفكهة أو للعظة. منها ما هو على ألسِنَة البهائم والطير، ومنها ما هو على ألسنة الناس مِمّا تجري أحداثه بينهم. وهذه القصص الخرافيّة من صنع الخيال، ولكنّها كثيراً ما تسير مع الواقع الإنساني، وكثيراً ما تعالج قضايا البشر. وقد نقل الينا توفيق الحكيم واحدةً منها.
هذا صراع بين الحقّ والباطل: ناسك يعمل على قطع شجرة عبدها بعض الناس، وشيطان يَحُول دونَ ذلك حرصاً منه على بقاء الشرّ. وكان النصر للناسك ما دام صراعه عن عقيدة. فأدرك الشيطان أنّه لن يتغلّب إلاّ إذا أفسَدَ العقيدة عنه خصمه، فلوّحَ له بالمال يأتيه عن أقرب سبيل، ثمَّ قطع المال وعاد الى الصراع فكانت له الغلّبة.
اتَّخَذَ قَومٌ شَجَرَةً، صاروا يَعبُدونَها... فَلَم يَكَد يَقتَرِبُ مِنها رَجُلٌ ناسِكٌ حَتَّى ظَهَرَ لَهُ (إِبليسُ) حَائِلاً (1) بَينَهُ وَبَينَ الشَّجَرَةِ، وَهُوَ يَصيحُ بِهِ:
- مَكانَكَ أَيُّها الرَّجُلَ لِماذا تُريدُ قَطعّها؟
- لأَنَّها تُضِلُّ النّاسَ.
- وَما شَأنُكَ بِهِم؟ دَعهُم في ضَلالِهِم.
- كَيفَ أَدَعُهُم... وَمِن واجِبي أَن أَهدِيَهُم؟
- مِن واجِبِكَ أن تَترُكَ النّاسَ أحراراً، يَفعَلونَ ما يُحِبّونَ.
- إِنَّهُم لَيسوا أحراراً. إنَّهُم يُصغونَ إلَى وَسوَسَةِ (2) الشَّيطانِ
- أَوَ تُريدُ أن يُصغُوا إلَى صَوتِ أنت اللهِ.
- لَن أَدَعَكَ تَقطَعُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ.
- لا بُدَّ لِي مِن أَن أَقطَعَها.
فَأَمسَكَ إِبليسُ بِخِناقِ النّاسِكِ... وَقَبَضَ النّاسِكُ عَلَى قَرنِ الشَّيطانِ... وَتَصارَعا طَويلاً...إِلَى أَنِ انجَلَتِ المَعرَكَةُ عَنِ انتِصارِ النّاسِكِ، فَقَد طَرَحَ الشَّيطانَ عَلَى الأَرضِ، وَجَلَسَ عَلَى صَدرِهِ وَقالَ لَهُ:
- هَل رَأَيتَ قوتي؟
فَقالَ إبليسُ بِصَوتٍ مَخنوقٍ:
- ما كُنتُ أَحسَبُكَ بِهَذِهِ القُوَّةِ. دَعني وَافعَل ما شِئت.
فَخَلَّى النّاسِكُ سبيل الشَّيطانِ... وَكانَ الجُهدُ الذي بَدَلَهُ في المَعرَكَةِ قَد نالَ مِنهُ...وَرَجَعَ إِلَى صَومَعَتِهِ (3) وَاستَراحَ لَيلَتَهُ...
فَلَمّا كانَ اليَومُ التّالي حَمَلَ فَأسَهُ، وَذَهَبَ يُريدُ قَطعَ الشَّجَرَةِ، وَإذا إبليسُ يَخرُجُ مِن خَلفِها صائحاً:
- أَعدُتَ اليَومَ أيضاً لِقَطِعها؟
- قُلتُ لَكَ لا بُدَّ لِي مِن أَن أَقطَعها.
- أَوَ تَظُنكَ قادِراً عَلَى أَن تَغلِبَني اليَومَ أَيضاً؟
- سَأَظَلُّ أُقاتِلُكَ حَتّى أُعلِيَ كَلِمَةً الحَقِّ.
- أَرِنِي إِذاً قُدرَتَكَ.
وَأَمسَكَ بِخناقِهِ فَأَمسَكَ النّاسِكُ بِقَرنِهِ... وَتَقاتَلا وَتَصارَعا...إلى أن آسفَرَت المَوقِعَةُ عَن سُقوطِ الشَّيطانِ تَحتَ قَدَمِي النّاسِكِ. فَجَلَسَ عَلَى صَدرِهِ وَقالَ لَهُ:
- ما قَولُكَ في قُوَّتي؟
- حَقّاً إنَّ قُوَّتَكَ لَعَجِيبَةٌ... دَعني وَافعَل ما تُريدُ.
لَفَظَها الشَّيطانُ بِصَوتِهِ المَتَهَدِّجِ (4) المَخنوقِ... فَأَطلَقَ النّاسِكُ سَراحَهُ (5)... وَذَهَبَ إِلَى صَومَعَتِهِ وَاستَلقَى مِنَ التَّعِبِ وَالإعياءِ حَتَّى مَضَى اللَّيلُ وَطَلَعَ الصُّبحُ، فَحَمَلَ الفَأسَ وَذَهَبَ إِلَى الشَّجَرَةِ. فَبَرَزَ لَهُ إِبليسُ صائِحاً بِهِ:
- أَلَن تَرجِعَ عَن عَزمِكَ أَيُّها الرَّجُل؟
- أَبَداً، بَل لا بُدَّ مِن قَطعِ دابِرِ (6) هذا الشَّرِّ.
- أَتَحسَبُ أَنّي أَترُكُكَ تَفعَلُ؟
- إن نازَلتَني فَإنّي سَأَغِلبُكَ...
فَتَفَكَّرَ إبليسُ لَحظَةً... وَرَأَى أَنَّ النِّزالَ وَالقِتالَ وَالمُصارَعَةَ مَعَ هذا الرَّجُلِ لَن تُتِيحَ لَهُ النَّصرَ عَلَيهِ. فَلَيسَ أَقوَى مِن رَجُلٍ يُقاتِلُ مِن أَجلِ فِكرَةٍ أو عَقِيدَةٍ.
ما مِن بابٍ يَستَطيعُ إبليسُ أن يُنفُدَ مِنهُ إلَى حِصنِ غَيرِ بابٍ واحدٍ: الحِيلَةُ... فَتَلَطَّفَ لِلنّاسِكِ وَقالَ لَهُ بِلَهجَةِ النّاصِحِ المُشفِقِ:
- أَتَعرِفُ لِماذا أُعارِضُكَ في قَطعِ هَذِهِ الشَّجَرِةِ؟ إِنّي ما أُعارِضُ إِلاّ خَشيَةً عَلَيكَ وَرَحمَةً بِكَ. فَإِنَّكَ بِقَطعِها سَتُعَرِّضُ نَفسَكَ لِسُخطِ النّاِس من عُبّادِها. ما لَكَ وَهَذِهِ المَتاعِبِ تَجلُبُها عَلَى نَفسِكَ. أُترُك قَطعَتها وَأَنا أَجعَلُ لَكَ في كُلِّ يَومٍ دينارَينِ تَستَعِينُ بِهما عَلَى نَفَقَتِكَ وَتَعيشُ في أَمنٍ وَطُمأنِينَةٍ وَسَلامَةٍ.
- دينارَين؟
- نعم. في كُلِّ يَومٍ. تجدهما تحتَ وسادتك (7).
فَأَطرَقَ النّاسِكُ مَلِيّاً (8) يُفَكِرُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ وَقالَ لإبليسَ:
- وَمَن يَضمَنُ لِي قِيامَكَ بِهَذا الشَّرطِ؟
- أعاهِدُكَ عَلَى ذَلِكَ ... وَسَتَعرِفُ صِدقَ عَهدي...
- سَأُجَرِّبُك...
- نَعَم. جَرِّبني...
اِتَّفَقنا.
وَضَعَ إِبليسُ يَدَهُ في يَدِ النّاسِكِ وَتَعاهَدا... وَانصَرَفَ النّاسِكُ إِلَى صَومَعَتِهِ وَصارَ يَستَيقِظُ كُلَّ صَباحٍ وَيَمُدُّ يَدَهُ وَيَدُسُّها فَتَخرُجُ بِديناريَنِ، حَتَّى انصَرَمَ (9) الشَّهرُ. وَفي ذاتِ صَباحٍ دَسَّ يَدَهُ تَحَت الوِسادَةِ فَخَرَجَت فارِغَةً. لَقَد قَطَعَ إِبليسُ عَنهُ فَيضَ الذَّهَبِ... فَغَضِبَ النّاسِكُ... وَنَهَضَ فَأَخَذَ فَأسَهُ، وَذَهَبَ إِلَى قَطعِ الشَّجَرَةِ. فَاعتَرَضَهُ إبليسُ في الطَّريقِ وَصاحَ فيهِ:
- مَكانَكَ. إِلَى أينَ؟
- إلى الشَّجَرَةِ أقطَعها.
فَقَهقَهَ الشَّيطانُ ساخِراً:
- تَقطَعُها لأَنّي قَطَعتُ عَنكَ الثَّمَنَ؟
- بَل لأُزيلَ الغَوايَةَ (10) وَأضِئَ مِشعَلَ الهِدايَةِ.
- أَنتَ؟
- أَتَهزَأ بِي أَيُّها اللَّعِينُ؟
- لا تُؤاخِذني. مَنظَرُكَ يُثيرُ الضَّحِك.
- أَنتَ الذي يَقولُ هَذا، أَيُّها الكاذِبُ المُخاتِلُ (11)؟
وَانقَضَّ النّاسِكُ عَلَى إِبليَس وَقَبَضَ عَلَى قَرنِهِ... وَتَصارَعا لَحظَةً... وَإذا المَعرَكَةُ تَنجَلِي عَن سُقوطِ النّاسكِ تَحتَ حافِرِ إبليسَ. فَقَدِ انتَصَرَ وَجَلَسَ عَلَى صَدرِه النّاسِكِ مَزهُوّاً مُختالاً (12) يَقولُ لَهُ:
- أَينَ قُوَّتُكَ الآن أيها الرَّجُلُ؟
فَخَرَجَ مِن صَدرِ النّاسِكِ المَقهورِ صَوتٌ كََالحَشرَجَةِ (13) يَقولُ:
- أَخبِرني كَيفَ تَغَلَّبتَ أَيُّها الشَّيطان.
فَقالَ لَهُ إبليسُ:
- لَما غَضِبتَ للهِ غَلَبتَني، وَلَمّا غَضِبتَ لِنَفسِكَ غَلَبتُكَ... لَمّا قاتَلتَ لِعَقِيدَتِكَ صَرَعتَني، وَلَمّا قاتَلتَ لِمَنفَعَتِكَ صَرَعتُكَ.
توفيق الحكيم
من كتابه
(ليلة الزِّفاف)
1. الحائل: المانع. المعترِض.
2. الوسوسة: حديث الشرّ، الذي لا نفعَ منه.
3. الصومعة: المكان المرتفع يسكنه المتعبّد قصدّ الانفراد.
4. المتهدِّج: المتقطِّع في ارتعاش.
5. أطلقَ سَراحه: تركه يذهب كما يشاء. حَرَّرَهُ.
6. قطع دابره: استأصَلَهُ.
7. الوسادة: المِخَدَّة.
8. أَطرقَ مَليّاً: أَرخَى عَينَيه ينظر إلى الأرض مفكّراً تفكيراً طويلاً.
9. انصرمَ: مضى.
10. الغَوايَة: الضلال والفساد.
11. المُخاتِل: المُخادِع. المُحتال.
12. المُختال: المتكبّر.
13. الحَشرَجَة: الغَرغَرة عند الموت وتردُّد النفَس.
هِيَ فِكرَةٌ سادَت حَتَّى أَصبَحَت عَقيدَةً ثابِتَةً. تِلكَ الفِكرَةُ القائِلَةُ بِأنَّ في أَساسِ كُلِّ اضطِرابٍ يَحِلُّ بِالمُجتَمَعِ، أَو مُصابٍ يُصيبُ العائِلَةَ امرَأَةً. فَإذا ما وَقَعَتِ الواقِعَةُ تُهامَسَ النّاسُ دُونَ تَمحِيص (1)؛ الرِّجال وَالنِّساءُ عَلَى السَّواءِ، فَتِّش عَنِ المَرأَةِ.
تَحِلُّ بِالعالَمِ البِطالَةُ، وَيَملأُ العُمّالُ العاطِلونَ البِلادَ، وَيَطلُبونَ عَمَلاً يَدُرُّ عَلَيهِم قُوتَ أَطفالِهِم فَتَعقِدُ الدُّوَلُ الاجتِماعاتِ لِلنَّظَرِ في حَلِّ يُخَفِّفُ الأَزمَةَ، وَيَبحَثونَ الأَمرَ بَحثاً وَافِياً، ثُمَّ يَخرُجونَ مِن بَحثِهِم وَهُم يَهُزّونَ رُؤوسَهُم قائِلينَ: (فَتِّش عَنِ المَرأَةِ).
لَقَد زاحَمَتِ المَرأَةُ الرَّجُلَ فِي مَيدانِ العَمَلِ، فَأَحدَثَ التَّزاحُمُ هَذِهِ الأَزمَةَ. وَقَد نَسُوا أَن هَذِهِ المَرأَةَ إِنَّما تَعمَلُ في الغالِبِ لِتَعُولَ ذَويها أَو أَطفالَها، بَعدَ أَن فَقَدوا مُعِيلَهُم، أَو لِتَعُولَ نَفسَها، بَعدَ أَن كانَت عِبئاً ثَقيلاً عَلى كَاهِلِ الرَّجُلِ؛ فَهِيَ إِذاً لَيسَت مُزاحِمَةً لَهُ؛ بَل شَريكَةٌ تَعمَلُ مِثلَهُ سَواءً بِسَواءٍ لِتَخفيفِ وَيلاتِ الحَياةِ.
وَتَحِلُّ فَضيحَةٌ في عائِلَةٍ يَتَشاجَرُ صَديقانِ بِسَبَبِ غَرامٍ (2) فاسِدٍ، وَقَد تُسفَكُ الدِّماءُ وَيُقضَى عَلَى شَبابٍ غَضٍّ وَمُستَقبَلٍ باهِرٍ، وَيَتهِامَسُ النّاسُ، وَتَخرُجُ عَن الأَفواهِ زَفرَةٌ مُؤلِمَةٌ. هَذِهِ الكَلِماتُ: فَتِّش عَنِ المَرأةِ. وَهُم لَو أَنصَفوا لأَلقَوا تَبِعَةَ المَأساةِ عَلَى الشَّريكَينِ مَعاً؛ عَلَى الصَّديقِ الذي خانَ الثِّقَةَ، وَعَلَى الزَّوجَةِ التي خانَتِ العَهدَ. لَو أَنصَفوا لأَلقَوا تَبِعَةَ المَأساةِ عَلَى هَوَى فَاسِدٍ لَم يَعرِفِ الإيثارَ وَالتَّضحِيَةَ، وَعَلَى صَداقَةٍ مُتَراخِيَةٍ لَم يُشَدِّد أَزرَها الحُبُّ الأَخَوِيُّ وَالإِخلاصُ السّامِي.
وَتسُودُ الفَوضَى مَنزِلاً، فَوضَى في الاِقتِصادِيّاتِ، وَفَوضَى في النِّظامِ، وَفَوضَى في مُعامَلَةِ الصِّغارِ وَكُلِّ شَيءٍ آخَرَ، وَيَلحَظُهُ الجِيرانُ وَالزّائِرونَ فَيَتَهامَسُون: فَتِّش عَنِ المَرأَةِ. وَلَرُبَّما كانَ مِنَ العَدلِ أَن يُفَتِّشوا عَنِ الرَّجُلِ؛ فَقَد يَكونُ رَبُّ المَنزِلِ مُسرِفاً مُغامِراً يَضِنُّ عَلَى المَرأَةِ بِما يَكفُلُ هَناءَ الأَسرَةِ، وَقَد يَكُونَ سِكِّيراً فاسِقاً أَساءَ مُعامَلَةَ المِّسكِينَةِ فَتَحَطَّمَت أَعصابُها، وَشُغِلَت بِآلامِها وَيَأسِها عَن كُلِّ ما يُحِيطُ بِها.
وَتُساهِمُ المَرأَةُ بِعظائِمِ الأُمورِ التي تَعودُ عَلَى المُجتَمَعِ بِالخَيرِ وَالسَّعادَةِ؛ فَهَذا مُكتَشِفُ أَمريكا يَطرُقُ مُلوكِ أُوروبَا يَطلُبُ حِمايَةً وَمالاً لِيُخرِجَ إِلَى حَيِّزِ الوُجودِ فِكرَةً تُلهِبُ دِماغَهُ، فَيَخذُلُهُ الجَميعُ، حَتَّى إذا ما طَرَقَ بابَ مَلِكِ الإِسبانِ العَظيمِ خَذَلَهُ بِدَورِهِ؛ وَلَكِنَّ امرَأَةً تَتَدَخَّلُ فَتَتَغَلَّبُ عَلَى أَعضاءِ المَجلِسِ الذي عُقِدَ لِلنَّظَرِ في الأَمرِ وَقَرَّرَ رَفضَ الطَّلَبِ، وَتَتَغَلَّبُ كَذَلِكَ عَلَى المَلِكِ الذي خَشِيَ المُجازَفَةَ بِنَفَقاتِ البَحّارِ الشُّجاعِ... لَقد راحَت إيزابِلاّ الحَكيمَةُ زَوجَةُ مَلِكِ الإسبانِ تُحاجُّ وَتُقنِعُ وَتَعرِضُ حَلَّها لِتَفِيَ بِنَفَقاتِ كولومبوسَ، حَتَّى اضطُرَّ المَلِكُ إِزاءَ هَذِهِ التَّضحِيَةِ وَالشَّجاعَةِ لِلرُّضوخِ وَهُوَ يَهتِفُ: لِيَكُن ما تُريدُهُ إِيزبِلا. وَنُفِّذَتِ الفِكرَةُ، وَسَجَّلَ التّاريخُ لِخرستوفَرَ عَمَلَهُ الخالِدَ، بَينَما رَقَدت إِيزابيلاّ الحَكيمَةُ في زاوِيَةٍ مِن زَوايا التّاريخِ، وَلَم يَقُل أَحَدٌ: فَتِّش عَنِ المَرأَةِ.
وَهَذا باستورُ رَجُلُ البَرَكَةِ لِلدُّنيا؛ يَجمعُ الإِحسانَ لِيَشِيدَ مَعَهداً أَو مُختَبَراً طِبِّيّاً، وَيَدخُلُ عَلَى إِحَدى السَّيِّدات يَطلُبُ مُساعَدَةً، فَتُقَدِّمُ لَهُ (شيكاً) يَأخُذُهُ شاكِراً دُونَ أَن يَنظُرَ إِلَيهِ، وَقَدِ اعتَقَدَ أَنَّ السَّيِّدَةَ قَد تَبَرَّعَت بِأَلفِ فرنكٍ عَلَى أَكثَرِ تَقديرٍ. وَيَخرُجُ ثُمَّ يَعودُ مُسرِعاً لِيَهُزَّ يَدَ السَّيِّدَةِ، وَقَد حَبَسَ التَأَثُّرُ عِباراتِ الشًّكرِ في فَمِهِ. لَقد قَرَأ في الوَرَقَةِ هَذِهِ الكَلِماتِ (ادفَعوا لأَمرِ لويس باستور مِليونَ فرنك). وَبُنِيَ مَعهَدُ باستور؛ ذَلِكَ المَعهَدُ الذي كانَ شِعارُهُ: (هُناكُ لا يُسأَلُ الإِنسانُ مَن أَنتَ؟ وَلا بِأَيِّ دِينٍ تُدِينُ؟ كُلُّ ما يُقالُ لَهُ: إِنَّكَ تَتَأَلمُ وَسَنُخَفِّفُ آلامَكَ). بُنِيَ مَعهَدُ باستور، وَحَفِظَ التّاريخُ لِمَلِك الإنسانِيَّةِ أَجمَلَ ذِكرٍ، أَمّا المَرأَةُ التي وَضَعَت أكبَرَ حَجَرٍ في بِناءِ المَعهَدِ فَقَد رَقَدَت في زاوِيَةٍ مُتَواضِعِةً وَلَم يَقُل أَحَدٌ: فَتِّش عَنِ المَرأَةِ.
وَهَذا عَظيمُ العَرَبِ في الأَندَلُسِ عَبدُ الرَّحَمَنِ النّاصِرُ، الرَّجُلُ الذي وَلِي الأَندَلُسَ وَهِيَ تَمِيدُ بِالفِتَنِ وَتَغرَقُ بِالدِّماءِ. فَما لَبِثَت أَن قَرَّت لِحِكمَتِهِ، وَاستَتَبَّ الأَمنُ فيها. الرَّجُلُ الذي فَتَحَ سَبعينَ حِصناً في غَزوَةٍ واحِدَةٍ، ثُمَّ أَمعَنَ في قَلبِ فَرَنسا، وَتَغلغَلَ في أَحشاء سويسرا، وَضَمَّ أَطرافَ إِيطاليا. هَذا الرَّجُلُ الأُعجوبَةُ بِذَكائِهِ وَإقدامِهِ وَإِخلاصِهِ، أَينَ مَن يَذكُرُ عَظَمَتَهُ في فُتوحاتِهِ وَفي آثارِهِ، ثُمَّ يَبحَثُ عَنِ المَرأَةِ التي تَفَرَّدَت بِتَربِيَتِهِ، بَعدَ أَن فَقَدَت زَوجَها يافِعاً، فَأَودَعَت في رُوحِهِ سِرَّ الكَمالِ. أَينَ مَن سَيَبحَثُ عَن هَذِهِ المَرأَةِ لِيَقولَ عَلَى مَلأِ مِنَ النّاسِ: فَتِّش عَنِ المَرأَةِ.
كَم مِنَ امرَأَةٍ عَرَبِيَّةٍ عاشَت لِتَغرِسَ رِياحَ الطُّموحِ في طِفلِها. وَكَم مِنَ امرَأةٍ وَقَفَت بِجانِبِ الرَّجُلِ تُغَذّيهِ بالأَموالِ، وَتَسنُدُهُ بِالإخلاصِ، وَتَنفُخُ فِي رُوحِهِ هِمَّةً وَعَزيمَةً، حَتَّى إذا ما ارتَقَى سُلَّمَ المَجدِ وَقَدَّمَتهُ لِأُمَّتِها رَجُلاً عَظيماُ تَنَحَّت هِيَ جانِباً راضِيَةً مِنَ الدُّنيا بِنَصيبِ الجُندِيِّ المَجهولِ...
نُريدُ عَدلاً لِلمَرأَةِ. عَدلاً لا رَحمَةً. نُريدُ عَدلاً لِهَذا المَخلوقِ الذي يُظلَمُ جَنيناً؛ فَتَكادُ الأمُ تَقتُلُهُ مُتَعَمّدَةً، فِيما لَو تَأَكَّدَت مِن أُنوثَتِهِ، وَيُظلَمُ حالَما يُولَدُ، فَإِذا ما انحَدَرَ مَلاكُ السَّلامِ إِلَى منزِلِ الآلامِ يَحمِلُ عَلَى ذِراعَيهِ طفلَةً، تَجَهَّمَتِ الوُجوهُ وَهَمَسَتِ الأَفواهُ بِمَرارَةٍ (بِنتٌ)... وَيُظلَمُ طِفلاً. فَهِيَ في الدَّرَجَةِ الثّانِيَةِ بَعدَ أَخيها؛ لَهُ نَصيبُ اثنَتَينِ مِنَ الحَلوَى َوالفاكِهَةِ، وَلَهُ نَصيبُ اثنَتَيَنِ مِنَ العَطفِ وَالتَّسامُحِ وَكُلِّ شَيءٍ. هَذا وَهِيَ تَلحَظُ وَلَو طِفلَةً وَتَفهَمُ دُونَ أن تَعلَمَ لِماذا إِنَّها دُونَهُ مَنزِلَةً وَإِنّهُ الأَفضَلُ وَالأَكثَرُ إِعزازاً لأَنَّهُ الصَّبِيُّ وَأَنَّها هِيَ الأُنثَى لاَ يَحِقُّ لَها أَن تُشكَرَ أَو تُطالِبَ بِمِثلِ نَصيبِهِ. وَيُرافِقُها هَذا الشُّعورُ فَتَنمو كَسِيرَةَ القَلبِ، شاعِرَةً بِأَنَّها مَخلوقٌ غَيرُ مَرغوبٍ فيهِ...
مَرَرتُ يَوماً بِطِفلَةٍ في الخامِسَةِ مِن عُمرِها تَجلِسُ عَلى عَتَبَةِ مَنزل وَتَبكي، حَتَّى تَوَرَّمَت عَيناها. سَأَلتُها ما بِكِ يا صَغيرَتي؟ وَبِكُلِّ ما في الأَطفالِ مِن سَذاجَةٍ أَجابَت وَهِيَ تَنتَحِبُ: (أُمّي وَلَدَت بِنتاً... صِرنا أَربَعاً). سِرتُ في طَريقي وصورَةُ الطِّفلَةِ تُرافِقُني... مَخلوقَةً تَشعُرُ بِأَنَّ وُجودَها في المَنزِلِ جَريمةٌ. فَهَل يُنتَظَرُ مِنها إلاّ أَن تَشُبَّ ساخِطَةً عَلَى نَفسِها وَعَلَى الدُّنيا وَعَلَى مَن أَوجَدَها في الدُّنيا؟..
نُريدُ عَدلاً لَها طِفلَةً يَنظُرُ إِلَيها الأَبُ فِي شَبابِهِ كَما يَنظُرُ إِلَيها في شَيخوخَتِهِ؛ مَلاكَ الرَّحمَةِ الذي يَحُومُ حَولَ سَريرِهِ، وَيُغدِقُ عَلَى الأُمّةِ حَنانَهُ وَحُبَّهُ.
نُريدُ عَدلاً لَها شابَّةً يَنظُرُ إِلَيها الشّابُّ كَما يَنظُرُ إِلَى أُختِهِ، وَيُعامِلُها كَما يَوَدُّ الشّابُّ الشَّرقِيُّ أَن يُعامِلَ النّاسُ أُختَهُ.
نُريدُ لَها عَدلاً زَوجَةً... لَقد ظَلِلنا مِئاتِ الأَعوامِ نَطلُبُ مِنها الصَّبرَ عَلَى مَساوِيءِ الزَّوجِ، وَالتَّستُّرَ عَلَى عُيوبِهِ، وَسَنَظَلُّ نَطلُبُ مِنها ذَلِكَ. وَلِكنَّنا سَنَطلُبُ مِنَ الشَّريكِ الآخَرِ أَن يُؤَدِّيَ وَاجِبَهُ نَحوَها بِمُنتَهَى الإِخلاصِ. فَإِذا ما أَحجَمَ فَإِنَّنا لَن نُحَمِّلَها تَبِعَةَ إحجامِهِ، وَلَن نَهمِسَ بِمَرارَةٍ: فَتِّش عَنِ المَرأَة.
نُريدُ لَها عَدلاً أُمّاً... فَكُلُّ ما يُبدَلُ لِأَجلِها لا يُساوي دَمعَةً ذَرَفَتها لأَجِلنا. وُكُلُّ ما يَبدو مِنها مِمّا لا يَنسَجِمُ مَعَ عُقولِنا وَمُيولِنا، تَشفَعُ فِيهِ أُمومَتُها التي يَعجِزُ البَشَرُ عَن وَصفِها.
نُريدُ عَدلاً لَها في كُلِّ الظُّروفِ وَالأَحوالِ كَباقي البَشَرِ، لَها عُيوبُها وَلَها حَسناتُها وَفَضائِلُها. مَخلوقَةٌ لَها أثَرُها في المَآسي وَالأَفراحِ؛ في الخَيرِ وَالشَّرِّ.
نُريدُ عَدلاً لِلمَرأَةِ. وَلّكِن أَينَ يَبتَدِئُ هَذا العَدلُ إِلاّ فِي قَلبِ المَرأَةِ؟ وَأَينَ تُغرَسُ نَواتُهُ إِلاّ في المَنزِلِ الذي تُسَيطِرُ عَلَيهِ وَتُوَجِّهُ مَن فيهِ امرَأةٌ؟
أسمَى طوبي
من مجلّة (المنتدى) عدد 2؛ آذار 1947
هو زين الدين عمر. كانت ولادته في معرَّة النعمان سنة 1279م. ووفاته في حلَب سنة 348. برع في الأدب والنحو واللغة والتاريخ والفقه.
له مؤلفات كثيرة في التاريخ (تتمّة المختصر في أخبار البشر)، وله في النحو (اللباب في الإعراب) و (شرح ألفيّة ابن مالك. تركَ ديوان شعر، ومقامات، وقصيدة في الفصح تُسَمَّى (لامية ابن الوردي)، وتقع في (77) بيتاً.
إعتَزِل ذِكرَ الغَوانِي وَالغَزَل وَقُلِ الفَصلَ، وَجانِب مَن هَزَل
وَدَعِ الذِّكرَى لِأيّامِ الصِّبا فَلأيَّامِ الصِّبا نَجمٌ أَفَل (1)
وَافتَكِرْ في مُنتَهَى حُسنِ الذي أَنـتَ تـَهواهُ تَجِد أَمـراً جَلَلْ
وَاهجُرِ الخَمرَةَ إنْ كُنتَ فتىً كَيفَ يَسعَى في جُنونٍ مَنْ عَقَلْ؟
وَاتَّقِ اللهَ؛ فتقوى اللهِ ما جاوَرَتْ قَلبَ امرِيءٍ إلا وَصَلْ
لَيسَ مَنْ يَقطَعُ طُرقاً بَطَلاً إِنَّما مَنْ يَتَّقِي اللهَ البَطَل
كُتبَ المَوتُ عَلى الخَلقِ فَكَمْ فَلَّ مِن جَيشٍ وَأَفنَى مِن دُوَل (2)
أَينَ نَمرُودُ، وَكنعانُ، وَمَن مَلَكَ الأرضَ وَوَلَّى، وَعَزَل؟
أَينَ من سادُوا وَشادُوا، وَبَنَوا هَلَكَ الكُلُّ، وَلَم تُـغنِ القُلَل
أَينَ أَربابُ الحِجَى، أَهلُ النُّهَى؟ أَيـنَ أَهـلُ العِلمِ، وَالقَومُ الأوَلْ؟ (3)
أُطلُبِ العِلمَ وَلا تكسَلْ. فَما أَبعَدَ الخَيرَ عَلَى أهلِ الكَسَل
لا تَـقُل: قَـد ذَهَبَت أيامُهُ كُلُّ مَن سارَ عَلَى الدَّربِ وَصَل
لا تَقُلْ أَصِلي وَفَصِلي أَبَداً إِنَّما أَصلُ الفَتَى ما قَد حَصَل
قَد يَسُودُ المَرءُ مِن دُونِ أبٍ وَبِحُسنِ السَّبْكِ قدْ يُنفَى الزَّغَل (4)
إنَّما الوَردُ مِنَ الشَّوكِ، وَما يَنبُتُ النَّرجِسُ إلاّ مِن بَصَل
قِيمَـةُ الإنسانِ ما يُحسِنُهُ أَكثَـرَ الإنسانُ مِنهُ أو أقَلّ
لَيسَ يَخلو المَرءُ مِن ضِدٍّ وَلَو حاوَلَ العُزلَةَ في رَأسِ الجَبَلْ
دارِ جارَ السُّوءِ بالصَّبرِ وَإنْ لَمْ تَجِدْ صَبراً فَما أَحلَى النُّقَل (5)
جانِبِ السُّلطانَ وَاحذَرْ بَطشَهُ لا تُعانِدْ مَنْ إذا قـالَ فَعَل
غِب وَزُر غِبِّاَ تَزِد حُبَّاً؛ فَمَنْ أَكثَـرَ التَّردادَ أقصاهُ المَلَل (6)
ابن الوردي
من كتاب (جواهر الأدب)
لأحمد الهاشمي
1. أفل: غابَ
2. فَلَّ: هَزَمَ
3. أرباب الحِجى: ذوو العقول الرزينة أَهل النُّهَى: ذوو الفَهم والعَقل.
4. الزَّغَل: الغِشّ
5. المُداراة: المسايرة، التجَنُّب.
6. زُر غِبّاً: أي في فترات متباعدة.
كاتب مصري ولد في القاهرة سنة 1886، ونشأ مفكراً وأديباً درس في جامعة القاهرة. وتولى عدداً من المناصب العلميّة الرفيعة.
من آثاره الكثيرة: (فجر الإسلام)، (ضحى الإسلام)، (ظهر الإسلام)، (قصة الأدب في العالَم)، (حياتي) و (الى ولدي)... توفّي في القاهرة سنة 1954
إنَّ الطَّبيعَةَ عَلِمَت أَنَّ الدُّنيا لا تَخلو مِن مَتاعِبَ، وَأَنَّ الإِنسانَ سَيُلاقي في حَياتِهِ بَعضَ المَصاعِب، فَسَلَّحَتهُ بِرُوحِ المَرَحِ وَرُوحِ الفُكاهَةِ، وَجَعَلَت ذَلِكَ دَواءً لِدائِهِ، وَبَلسَماً لِشِفائِهِ، فَإذا هُوَ فَقَدَهُ لأّيِّ سَبَبٍ مِنَ الأَسبابِ، فَقَدْ عِلاجَ مَرَضِهِ وَعاشَ في بُؤسِهِ.
لَيسَ المُبتَسِمونَ لِلحَياةِ أَسعَدَ حالاً لأَنفُسِهِم فَقَط؛ بَل هُم كَذَلِكَ أَقدَرُ عَلَى العَمَلِ، وَأَكثَرُ احتمالاً لِلمَسئولِيَّةِ، وَأَصلَحُ لِمُواجَهَةِ الشَّدائِدِ، وَمُعالَجَةِ الصِّعابِ، وَالإتيانِ بِعَظائِمِ الأُمورِ التي تَنفَعُهُم، وَتَنفَعُ النّاسَ.
وَلا قيمَةَ لِلبَسمَةِ الظّاهِرَةِ إِلاّ إذا كانَت مُنبَعِثَةً عَن نَفسٍ بِاسِمَةٍ، وَتَفكيرٍ باسِمٍ، وَكُلُّ شَيءٍ في الطَّبيعَةِ جَميلٌ باسِمٌ مُنسَجِمٌ، وَإِنَّما يَأتي العُبوسُ مِمّا يَعتَري طَبيعَةَ الإنسانِ مِن شُذوذٍ، فَالزَّهرُ بِاسِمٌ، وَالغاباتُ بِاسِمَةٌ، وَالبِحارُ، وَالأنهارُ، وَالسَّماءُ، وَالنُّجومُ، وَالطُّيورُ كُلُّها باسِمَةٌ، وَكانَ الإِنسانُ بِطَبعِهِ باسِماً لَولا ما يَعرِضُ لَهُ مِن طَمَعٍ، وَشَرٍّ وَأنانِيَةٍ تَجعَلُهُ عابِساً. فَكانَ بِذَلِكَ نَشازاً (1) في نَغَماتِ الطَّبيعةِ المُنسَجِمَةِ. وَمِن أَجلِ هَذا لا يَرَى الجَمالَ مَن عَبَسَت نَفسُهُ، وَلا يَرَى الحَقيقَةَ مَن تَدَنَّسَ (2) قَلبُهُ. فَكُلُّ إِنسانٍ يَرَى الدُّنيا مِن خِلالِ عَمَلِهِ وَفكرِهِ وَبَواعِثِهِ، فَإِذا كانَ العَمَلُ طَيِّباً وَالفِكرُ نَظيفاً وَالبَواعِثُ طَاهِرَةً كانَ مِنظارُهُ الذي يَرَى بِهِ الدُّنيا نَقِياً، فَرَأَى الدُّنيا جَميلَةً كَما خُلِقَت، وَإِلاّ تَغَبَّشَ مِنظارُهُ وَاسوَدَّ زُجاجُهُ، فَرَأى كُلَّ شَيءٍ أَسوَدَ مُغبَشاً.
هُناكَ نُفوسٌ تَستَطيعُ أَن تَخلُقَ مِن كُلِّ شَيءٍ شَقاءً، وَنُفوسٌ تَستَطيعُ أَن تَخلُقَ مِن كُلِّ شَيءٍ سَعادَةً، هُناكَ المَرأَةُ في البَيتِ لا تَقَعُ عَينُها إِلاّ عَلَى الخَطَأِ، فَاليَومُ أَسوَدُ؛ لأنَّ طَبَقاً كُسِرْ وَلِأنّ نَوعاً مِنَ الطَّعامِ زَادَ الطّاهِي (3) في مِلحِهِ، أَو لأَنَّها عَثَرَت عَلَى قِطعَةٍ مِنَ الوَرَقِ في الحُجرَةِ، فَتَهِيجُ وَتَسُبُّ، وَيَتَعَدَّى السِّبابُ إِلَى كُلِّ مَن في البَيتِ، وَإذا هُوَ شُعلَةٌ مِن نارٍ. وَهُناكَ رَجُلٌ يُنَغِّصُ عَلَى نَفسِهِ، وَعَلَى مَنْ حَولَهُ مِنْ كَلِمَةٍ يَسمَعُها، أَو يُؤَوِّلُها (4) تَأويلاً سَيِّئاً، أَو مِن عَمَلٍ تافِهٍ حَدَثَ حَولَهُ أو حَدَثَ حَولَهُ، أَو مِن رِبحٍ خَسِرَهُ، أَو مِن رِبحٍ كانَ يَنتَظِرُهُ فَلَم يَحدُث، أَو نَحوِ ذَلِكَ، فَإذا الدُّنيا كُلُّها سَوداءُ فِي نَظَرِهِ، ثُمَّ هُوَ يُسَوِّدها عَلَى مَن حَولَهُ. هؤلاءِ عِندَهُم قُدرَةُ المُبالَغةِ في الشَّرِّ، فَيَجعَلونَ مِنَ الحَبَّةِ قُبَّةً (5) وَمِنَ البَذرَةِ شَجَرَةً، وَلَيسَ عِندَهُم قُدرَةٌ عَلَى الخَيرِ، فَلا يَفرَحونَ بِما أوتوا وَلَو كَثيراً، وَلا يَنعَمونَ بِما نالوا وَلَو عَظيماً.
وَلَيسَ يُوَفَّقُ الإنسانُ في شَيءٍ كَما يُوَفَّقُ إِلَى مُرَبٍّ يُنَمّي مَلَكاتِهِ الطَّبيعِيَّةَ، وَيُعادِلُ بَينَها وَيُوَسِّعُ أُفَقَهُ، وَيُعَوِّدُهُ السَّماحَةَ وَسَعَةَ الصَّدرِ، وَيُعَلِّمُهُ أَنَّ خَيرَ غَرَضٍ يَسعَى إِلَيهِ أَن يَكونَ مَصدَرَ خَيرٍ لِلنّاسِ بِقَدرِ ما يَستَطيعُ، وَأَن تَكونَ نَفسُهُ شَمساً مَشِعَّةً لِلضَّوءِ وَالحُبِّ وَالخَيرِ، وَأَن يَكونَ قَلبُهُ مَملوءاً عَطفاً وَبِرّاً وَإنسانِيَّةً وَحُباً لإيصالِ الخَيرِ لِكُلِّ مَنِ اتَّصَلَ بِهِ.
ثُمَّ لا شَيءَ أَقتَلُ لِلنَّفسِ مِن شُعورِها بِضَعَتِها وَصِغَرِ شَأنِها وَقِلَّةِ قِيمَتِها، وَأَنَّها لا يُمكِنُ أَن يَصدُرَ عَنها عَمَلٌ عَظيمٌ، وَلا يُنتَظَرُ مِنها خَيرٌ كَبيرٌ. هَذا الشُّعورُ بِالضَّعَةِ يُفقِدُ الإِنسانَ الثِّقَةَ بِنَفسِهِ وَالإيمانَ بِقُوَّتِها، فَإِذا أَقدَمَ عَلَى عَمَلٍ ارتابَ في مَقدِرَتِهِ وَفى إمكانِ نَجاحِهِ، وَعالَجَهُ بِفُتورٍ، فَفَشِلَ فيهِ. الثّقَةُ بِالنَّفسِ فَضِيلَةٌ كُبرَى عَلَيها عِمادُ النَّجاحِ في الحَياةِ.
اِبسِم لِلطِّفلِ في مَهدِهِ، وَلِلصّانِعِ في عَمَلِهِ، وَابسِم لِأَولادِكَ وَأَنتَ تُرَبّيهِم. وَابسِم لِلتّاجِرِ وَأَنتَ تُعامِلُهُ، وَابسِم لِلصُّعوبَةِ تَعتَرِضُكَ، وَابسِم إِذا نَجَحتَ، وَابسِم إذا فَشِلتَ، وَانثُرِ البَسَماتِ يَميناً وَشِمالاً عَلَى طولِ الطَّريقِ؛ فَإِنَّكَ لَن تَعودَ لِلسَّيرِ فيهِ.
أحمد أمين
من كتابه (فيض الخاطر) ج 6
1. نشاز: غير منسجِم مع غيره.
2. تَدَنَّسَ: تَلَطَّخَ.
3. الطاهي: الطّبّاخ.
4. يؤوّل: يفسّر.
5. يجعل من الحَبْة قُبَة: أي يُجَسِّم الأمور، ويجعل من الأمر الصغير شيئاً كبيراً.
6. الغَقُور: الجارح، المُؤذي.
7. انكمشَ: تقلَّصَ. والمراد هنا: هَرَبَ منك.
*199*
ولدت في عكا. لم تتيسَّر لها دراسة كاملة؛ فراحَت تزيد من ثقافتها بجهودها الخاصَّة. التحقَت بمحطّة إذاعة الشرق الأدنى. ثمَّ في مكتب المحطَّة في بيروت. وكانت تنشر في الصحف والمجلاّت والراديو. قُتِلت في حادِث اصطدام سيّارة عام 1967.
من آثارها:
(أشياء صغيرة)، (أمريكي في أوروبا)، (جناح النساء)، (الساعة والإنسان). وهي مجموعة قصصيّة، وغير ذلك من الآثار.
استَيقَظَ الأَحَدُ في قَريَتِنا عَلَى دَقّاتٍ فِضِّيَّةٍ نَشِطَةٍ مُتَوَثِّبَةٍ، وَقَبلَ أن تَرتَفِعَ الأَصابِعُ إِلَى الجِباهِ تَلاقَتِ العُيونُ في تَسألِها، فَإِذا كانَ الجَرَسُ جَرَسَ الكَنيسَةِ فَالقارِعُ، حتماً، لَيسَ أَبا مَسعودٍ وَإِذ هَرَعنا لِلسّاحَةِ مُستَطلِعينَ رَأَينا (العِشرين) تَنفُخُ شَبابَها في الجَرَسِ. وَكانَت دَقّاتُهُ قَد فَقَدَت ثَباتَها في (سِتِّينَ) أَبي مَسعودٍ.
إذاً فَقَد فَعَلَها (بونا يَعقوب)، وَأَرنا بِالبُرهانِ أَنَّهُ إذا شاءَ قَضَى، لا مُتَحامِلاً مُتَعَنِّتاً (1)؛ بَل مُشفِقاً أَن يَختَنِقَ النِّداءُ في ثَنايا الدَّقّاتِ الواهِنَةِ، التي شَعَرنا بِها جَميعاً إلاّ (أبا مسعودٍ) الذي يَبدو أَنَّهُ فَقَدَ مَعَ ارتِعاشَةِ اليَدِ الإحساسَ بِاللَّحنِ؛ إذ أخذَ يَتَكَسَّرُ وَيَتَهافَتُ وَيَختَلِطُ. فَما هُوَ لِلمَساءِ يُقرَعُ في الصَّباحِ، وَقَد زَعَموا أَنَّ بَعضَهُم، قَبلَ أن يُعقَدَ عُرسُهُ في الكَنيسَةِ، قد أوصاهُ بِأَن يَنتَبِهَ فَلا يَقرَعَ لِلعُرسِ دَقّاتِ الجَنائِزِ.
مَعذُورٌ الرَّجُلُ، وَقَد أَدرَكَهُ شَيءٌ مِنَ الصَّمَمِ، أَلاّ يَتَبَيَّنَ ذَلِكَ الهَذَيانَ (2) في أَلحانِهِ. فَكَأَنَّهُ وُلِدَ مُعَلَّقاً بِهَذا الحَبلِ، يَشُدُّهُ صَباحاً فَتَنفُضُ القَريَةُ الهاجِعَةُ (3) عَنها اللَّيلَ، وَيَشُدُّهُ مَساءً فَيُعلِنُ انتِهاءَ يَومٍ. الجَرَسُ وَأَبو مَسعودٍ في قريَتِنا شَيءٌ واحِدٌ، شَيءٌ ما فَتِئ يُؤَرِّخُ لِمِيلادِنا وَزِيجاتِنا طَوالَ أَربَعينَ عاماً؛ ما تَخَلَّفَ مَرَّةً أو تَقاعَسَ أَو قَعَدَ بِهِ عَن ذَلِكَ غِيابٌ أو وَعكَةٌ أو مَرَضٌ.
رِعشَةُ السِّتّينَ لَم تَكُن عَلَى بالِهِ أو عَلَى بالِنا، وَالاِستِمرارِيَّةُ في عُرفِنا قانونٌ مُبرَمٌ (4)، أَمّا (بونا يعقوب)، فَقَد شاءَ، ولحيته ما تَزالُ سوداءَ، أن يُضفِيَ عَلَى الكَنيسَةِ شَيئاً مِنَ الشَّبابِ؛ فَبَدَأَ بِالجَرَسِ وَبِالقارِعِ. فما أَنِ انتَهَى مِن أَوَّلِ قُدَاسٍ لَهُ في الكَنيسَةِ حَتَّى نادى (أبا مَسعودٍ)، وَسَأَلَهُ كَمِ انقَضَى عَلَيهِ في هَذِهِ المُهِمَّةِ، فَفَرَشَ هذا ابتِسامَةً مَطَّها بِقَدرٍ ما يَسَعُ فَمُهُ الأَهتَمُ وَقّالَ (أَربَعونَ.. أَربَعونَ عاماً يا بونا). وَكانَ آخِرُ ما يَتَوَقَّعُهُ أَن يَقولَ الكاهِنُ: (أَلاَ تَعتَقِدُ أَنَّهُ قد آنَ لَكَ أن تَستَريحَ؟).
ما تَعَوَّدنا في القَريَةِ أن تُحسَمَ الأمور بِمِثلِ هَذِهِ السُّرعَةِ إلِاّ حِينَ سَعَينا صَباحَ الأَحَدِ ذاكَ، مِثلَما سَعَى أَبو مَسعودٍ، مَدفوعِينَ بِتِلكَ الدَّقّاتِ الفِضِّيَّةِ النَّشِطَةِ المُتَوَثِّبَةِ. وَإِذ رَأَى الرَّجُلُ أنَّ هُناكَ من يَتَعَلَّقُ بِالجَرَسِ غَيرُهُ احمَرَّت عَيناهُ وَانتَفَشَ شارِبُهُ وَهَمَّ يُريدُ خَنقَ الفَتَى بِيَدَيهِ، لَولا لَمسَةٌ تَحَوَّطَتهُ وَرَجَتهُ بِحَقِّ حُرمَةِ الكَنيسَةِ أَلاَّ يَثورَ وّالصَّلاةُ مَعقودَةٌ. وَبَعدَ الخِدمَةِ استَدعاهُ الرّاعي وَأَفهَمَهُ بِصَراحَةٍ بِأّنَّ يَدَهُ باتَت أَضعَفَ مِن أن تَجذِبَ حَبلاً أو تَقرَعَ جَرَساً يُريدُ لِدَقَّاتِهِ أن تَتَجاوَبَ في الأَودِيَةِ.
مُنذُ ذَلِكَ الأَحَدِ لَم يَعُد لأَبي مَسعودٍ من شُغلٍ إِلاّ أَن يَقرَعَ الأَبوابَ يُؤَلِّبُنا عَلَى الكاهِنِ، وَيَسخَرُ مِن هَذا الفَتَى الذي مَسَخَ الجَرَسَ إلى لُعبَةِ أولادٍ... وَيَرُشُّ في وَجوهِنا أَيماناً مُغَلَّظَةٍ بِأَلاّ يَدوسَ عَتَبَةَ الكَنيسَةِ وَراعِيها مِثلُ هَذا الرَّاعِي.
كانَ يَفرُشُ راحَتَهُ النّاشِفَةَ لِكُلِّ واحِدٍ وَيَقولُ: (انظُروا؛ لَقد أَكَلَّ الحَبلُ طَبَقَةً مِن يَدِي... ثُمَّ يريد هَذَا أن يُعَلِّمَني كَيفَ يُقرَعُ جَرَسٌ...).
ثُمَّ يَضُمُّ يَدَهُ في عَصَبِيَّةٍ وَيُرسِلُ شَتِيمَةً يُعَلِّقُهَا في لِحيَةِ الرّاعِي. وَكُنّا نَسمَعُهُ فَنَضحَكُ وَنُهَوِّنُ عَلَيهِ الأمرَ، أَو نَلِجُّ في مُداعَبَتِهِ قائِلينَ: (وَإِذ تَموتُ مَن لَدَيكَ غَيرُهُ يَقرَعُ جَرَسَكَ؟؟). فَيَهتاجُ مِن جَديدٍ وَيَقولُ: (أَموتُ كافِراً ملعوناً ولا يُجَنِّزُني هَذا الكاهِنُ أو يَقرَعُ جَرَسِي هَذا ال...).
وَمَرَّةً اختَفَى مِنَ القَريَةِ أَيّاماً فَنَشِطَتِ الرِواياتُ، قالوا بِأَنَّهُ ماتَ قَهراً، وَأَنَّهُ هَجَرَ القَريَةَ لا يَعودُ إِلَيها، وَأَنَّهُ، وَأَنَّه. وَسَمِعنا فِيما سَمِعنا أَنَّهُ سَعَى لِلقُرَى المُجاوِرَةِ يَلتَمِسُ أن يَكونَ قارِعاً لأَجراسِ كَنائِسِها. وَلَمّا عادَ فَهِمنا أَنَّ أُمنِيَّتَهُ كانت تَمُوتُ لَدَى كُلِّ جَرَسٍ سَعَى إِلَيهِ. وَلَكِنَّهُ عَلَى أَيَّهِ حالٍ قد كَفَّ عَنِ الوُقوفِ أَمامَ جَرَسِ الكَنيسَةِ، وَاكتَفَى بِالوُقوفِ عَلَى عَتَبَةِ بابِهِ رافِعاً يَدَيهِ في الهَواءِ كَمَن يَجذِبُ حَبلاً، مُطلِقاً صَوتَهُ مُدَمدِماً (5) طن تتطن. طن تتطن.. حَتَّى أفاقت القَريَةُ مذعورة ذات لَيلَةٍ وَقَد راحَ جَرَسُها في صَوتٍ لَيسَ لَهُ اتِّزانُ النَّغمَةِ يُمَزِّقُ سُكونَ لَيلِها المُطبِقَ، لِتَجِدَ الرَّجُلَ منفوشَ الشَّعرِ وَالشّارِبِ، مُعَلَّقاً بِالحَبلِ يَجذِبُهُ وَيَكادُ يَطيرُ مَعَهُ حِينَ يَرتَدُّ الحَبلُ بِقُوَّةِ الجَذبِ إلَى أَعلَى، وَقَد تَشَنَّجَت أَصابِعُهُ وَانغَرَسَت أَظافِرُهُ في أليافِ الحَبلِ.
يَومَها تَكَرَّسَت في القَريَةِ شَخصِيَّةٌ جَديدَةٌ بِاسمٍ جَديدٍ، حَتَّى لَكَأنَّها عاشَت قبلاً بِلا اسمٍ.. فَمَن يَعرِفُ لأَبي مَسعودٍ اسماً غَيرَ (مَجنونِ الجَرَسِ)؟؟؟
سميرة عزّام
من مجموعتها القصصيّة
(الساعة والإنسان)
1. المتعَنِّت: المتشَدِّد.
2. الهَذَيان: التكلُّم بغير المعقول لِمَرَضٍ أو غيره.
3. الهاجعة: النائمة.
4. المبُرَم: القاطِع، المُلزِم الذي لا مفرَّ منه.
5. دَمدَمَ: كَلَّمَ بِغَضَب.
كاتب برازيلي من أصل عربي لبناني؛ مشهور بقصصه القصيرة الشائعة.
أَفاقَ عَدنانُ في ذَلِكَ اليَّومِ مُبَكِّراً، في غَيرِ مِيعادِهِ المَألوفِ، وَكانَ قَلبُهُ يَخفُقُ فَرَحاً؛ فَلَقَد سَمَحَ لَهُ أَبوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، أن يَتَوَلَّى بَيعَ فاكِهَةِ البُستانِ في السُّوقِ وَحدَهُ.
كانَتِ الأُمُّ في المَطبَخِ، عِندَما سَمِعَتِ الأَبَ يُنادي ابنَهُ، في اللَّيلَةِ الماضِيَةِ، لِيُبلِغَهُ ذَلِكَ. وَما كانَ فَرَحُها بِأَقَلَّ من فَرَحِ ابنها. إنَّ هَذا يَعني أَنَّ عَدنانَ قَد أَصبَحَ رَجُلاً، في نَظَرِ والِدِهِ. وَتَذَكَّرَتِ المَوسِمَ الماضِيَ، حِينَ طَلَبَت مِن زَوجِها أن يَسمَحَ لِعَدنانَ بِالذَّهابِ إلَى السُّوقِ، مُنفَرِداً، لِبَيعِ الفاكِهَةِ. فَلَقَد رَفَضَ بِشِدَّةٍ قائلِاً:
- ما هَذا الكَلامُ؟ إِنَّهُ لا يَزالُ طِفلاً، فَليَهتَمَّ بِالدَّجاجِ وَجَمعِ البَيضِ، وَإِذا رَجاهُ عَدنانُ أَن يَسمَحَ لَهُ، أَجابَهُ:
- كَلاَ يا بُنَيَّ. ابقَ في البَيتِ وَساعِد أُمَّكَ.
كانَ هذا في المَوسِمِ الماضي. وَلَمّا كانَ عدنانُ يعرف صَلابَةَ أَبيهِ، فَقَد كَبَتَ (1) رَغبَتَهُ، وَأَصبَحَ قانِعاً بِالمُحاوَلَةِ في المَزرَعَةِ. فَكانَ يَقطِفُ بَعضَ الفَواكِهِ، وَيُجري عَمَلِيَّةَ البَيعِ مَعَ حَيَواناتِ المَزرعَةِ كالمِعزاةِ وَالخِنزيرِ وَالدَّجاجِ، كَما لَو أَنَّها زَبائِنُ في السُّوقِ.
أَفاقَ عَدنانُ في ذَلِكَ اليَومِ مُبَكِّراً. فَخَرّجَ مِنَ البَيتِ، وَفَتَحَ بابَ السِّياجِ، وَتَجوَّلَ بَينَ أَشجارِ الفاكِهَةِ؛ فَعَيَّنَ أَحسَنَها ثماراً، وَعادَ إلَى البَيتِ لإِحضارِ السَّلَّةِ الكَبيرَةِ.
كانَ والِدُهُ قَدِ استَيقَظَ، وَأُمُّهُ تُشعِلُ النّارَ وَهِيَ تُغالِبُ (2) النُّعاسَ؛ فَالتَفَتَت إِلَيهِ قائِلَةً:
- كَيفَ أَفَقتَ في مِثلِ هَذِهِ السَاعَةِ؟
ثُمَّ تَذَكَّرَت أَنَّهُ سَيَذهَبُ إلَى السُّوقِ وَحدَهُ، فَأَشارَت إلَى السِّلالِ؛ فَتَناوَلَ بعضاً مِنَها. وَقالَ والِدُهُ:
- هاتِ العَصا الطَّويلَةَ.
فَانطَلَقَ وَأَتَى بِها مُسرِعاً، وَكانَتِ الشَّمسُ قَد أَشرَقَت.
وَجُمِعَتِ الثِّمارُ. فَوَضَعَها في السِّلالِ بِخِفَّةٍ وَرَشاقَةٍ، مُرَتَّبَةً نَظيفَةً، فَازدادَ إِعجابُ الوالِدِ بِابنِهِ، وَداخَلَهُ (3) بَعضُ الاِعتِزازِ وَالحَنانِ نَحوَ هَذا الإبنِ النَّشيطِ، وَلَمَحَ طَيفَ (4) شارِبَينِ عَلَى شَفَةِ الصَّبِيِّ العَليا، فَأَرسَلَهُ لإِحضارِ الحِمارِ وَتَهيِئَةِ السَّرجِ.
كانَتِ الشَّمسُ قَدِ ارتَفَعَت. فَعادَ الأبُ لِتَناوُلِ القَهوَةِ في البَيتِ، وَقالَ لِزَوجَتِهِ:
- لَقَد شَبَّ عَدنانُ؛ فَقَدِّمِي لَهُ القَهوَةَ.
شَرِبَ عَدنانُ القَهوَةَ مَعَ والِدِه أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَوُضِعَتِ السِّلالُ عَلَى ظَهرِ الحِمارِ، فَسارَ قاصِداً السُّوقَ، يُشَيِّعُهُ (5) والِدُهُ.
سارَ عَدنانُ في المُقَدِّمَةِ يَحُثُّ (6) الحِمارَ بِرِفقٍ وَنَشاطٍ. ورافَقَهُ أَبوهُ بِنَظَرِهِ وَهُوَ يَقومُ بِعَمَلِهِ كَالرِّجالِ. وَسارَ وَراءَهُ راضِياً مَسروراً. فَلَمّا اجتازَ بُيوتَ القَريَةِ، أَيقَنَ أنَّ ابنَهُ قَد أَصبَحَ رَجُلاً، وَهُوَ يَستَطِيعُ القِيامَ بِمُهِماتِ والِدِهِ دُونَ خَشيَةٍ أَوِ انزِعاجٍ.
وَتَوَقَّفَ العَجُوزُ يُتابِعُ ابنَهُ، وَهُوَ يَسُوقُ حِمارَهُ مُعتَزّاً؛ وَتَصَوَّرَه وَهُوَ يَقومُ عَنهُ بِأَعمالِ المَزرَعَةِ جَميعاً؛ يُقَدِّمُ العَلَفَ لِلحَيَواناتِ، وَيُصلِحُ السِّياجَ، وَيَرفَعُ الماءَ مِنَ البِئرِ، وَيَسقي الأَرضَ عِندَ الحاجَةِ. وَهَزَّ رَأسَهُ خُيَلاءَ (7) وَكِبراً وَعِزَّةً، وَصَرَخَ بِابنِهِ وَقَدِ ابتَعَدَ:
- عَدنانُ؛ عَدنانُ.
فَأَوقَفَ الصَّبِيُّ حِمارَهُ، وَعادَ إلَى والِدِهِ، وَتَكَلَّمَ الوالِدُ:
- اُنظُر؛ إِن لَم تَبِعِ الفاكِهَةَ كُلَّها، فَلا بَأسَ.
- نَعَم يا أَبِي.
وَخَطَرَت لِلأَبِ خِفَّةُ ابنِهِ وَرَشاقَتُهُ وَنَشاطُهُ، وَحَدَّقَ وَرَأَى طَيفَ شارِبَيهِ، فقالَ وَقَّدِ استَدارَ عائِداً إِلَى البَيتِ:
- ثَمَنُ الحِملِ لَكَ يا بُنَيَّ...
جورج مدوّر
عن كتاب (القراءَة الجديدة)
لباسيلي بيطار وآخرين
1. كَبَتَ: أَخفَى.
2. تغالب النعاس: لم تستيقظ تمامَ الاستيقاظ.
3. داخَلَهُ: سيطَرَ عليه.
4. الطيف: الخَيال.
5. يشيَعه: يرافقه مودّعاً.
6. يحثّ: يشجّع. يسوق.
7. الخُيَلاء: التكبُّر.
ولد في قرية كفر ياسيف عام 1937، توفّي في أواخر عام 1976 على أَثَر حادث طرُق. تلقّى تعليمه في مدرسة كفر ياسيف الثانوية، ثمَّ واصل دراسته الجامعيّة في الجامعة العبريّة في القدس بموضوعَي اللغة العربيَة واللغة العبريّة.
عمل مدرّساً في مدارس الناصرة، كفر ياسيف، وحيفا. ومُعيداً في جامعة حيفا. عُيّنَ مفتشاً للغة العربيّة. ساهَمَ في تحرير مجلّتَي (لقاء) و (آفاق)، ومسؤولاً عن الترجمة في التلفزيون الإسرائيلي. له ديوان شعر بعنوان (شموع).
ساعِدِي الجَبّارُ كَم شادَوَكَم أَعلَى القصورا؛
وَبَنَى صَرحاً وَطِيداً وبيوتاً وَجُسُورا
عَضَلِي المَفتولُ كَم فَجّرَ في الأرض النُّهُورا
فَأَحالَ القَفرَ جَنّاتٍ؛ نَباتاً وزهورا
كُنتُ في الماضي جَهُولاً لستُ أدري ما كِياني
فَرَضِيتُ الذُّلَّ وَالهَونَ وَلَكِن لزمانِ
مَوكِبُ التّاريخِ يَمشي ليس يرضى بِالتَّواني
فَأَفَقنا وَتَمَرَّدنا عَلَى عَيشِ الهَوانِ
تاجُنا الَوَحدَةُ رَغمَ الفَرقِ في جِنسٍ وَلَونِ
نَحنُ لا نَعرِفُ حَدّاً بَينَنا أو أيَّ بونِ
كُلُّنا في الحَقلِ إخوانٌ وَفي المَصنَعِ نَبنِي
دَأبُنا عَيشٌ شَريفٌ وَهَناءٌ وَتَمَنِّي
نَحنُ لا نَرضَى هَواناً وَحَياةً في فسادِ
نحَنُ في عالَمِنا رُكنُ ازدهارٍ وَاجتِهادِ
لا نُبالِي بِخُطوبِ الدَّهرِ أَو بَطشِ الأعادي
نَحنُ مِن نورٍ وَنارٍ في تفانٍ ورشادِ
أَنا كَم شَعَّ ضِياءُ مِن تَجاعيدِ جبيني
وَتَبَدَّى العَزمُ وَالحَزمُ سَناءً في عُيوني
وَتَجَلَّت بَسَماتُ النَّصرِ وَالحُبِّ الدَّفينِ
وَتَنَزَّى الأَلَمُ الدَّفاقُ دَمعاً من عُيوني
نَحنُ لَسنا بِالطُّفَيِليَينَ في هَذِي الحَياةِ
بِجُهودِ السّاعِد الجَبّارِ تَبني في ثباتِ
وَنَشِيدُ العالَمَ المأمولَ سِحرِيَّ السِّماتِ
حَيثُ لا فَقرٌ وَلا مِن جاهِلٍ أو جاهلاتِ
حبيب شويري
من ديوانه (شموع)
عُرِفَ التَّمريضُ مُنذُ أَزمِنَةٍ بَعيدَةٍ: مُنذُ أَن وُجِدَ في الأُسَرِ مَرضَى، وَمُنذُ أَن وُجِدَتِ الجُيوشُ والجَرحَى. وَلا شَكَّ في أَنَّ شَأنَ التَّمريضِ ارتَفَعَ في عُصورِ المَدَنِيَّةِ الإِنسانِيَّةِ، بِتَدَرُّجِ الطِّبِّ وَارتِقائِهِ، وَلكِن لَم يُعرَف وُجودٌ مُنَظَّمٌ لِتَدريبِ الفَتَياتِ المُمَرِّضاتِ وَتَخريجِهِنَّ في مِهنَتِهِنَّ الرَّحيمَةِ.
نَجِدُ عِندَ الهُنودِ - عَلَى لِسانِ أَحَدِ فَلاسِفَتِهِمِ- وَصفاً لِلمُمَرِضَةِ الكامِلَةِ، إذ يَقولُ: (هِيَ الرَّزانَةُ وَالعَطفُ، وَالِانتِباهُ وَالوَلاءُ لِلطَّبيبِ، وَلَكِنَّهُ لا يُشيرُ إِلَى التَّدريبِ الخاصِّ الذي تَتَلقّاهُ المُمَرِّضَةُ أَو يَجِبُ أن تَتَلَقّاهُ لِتَكونَ كَذَلِكَ.
وَقَد أَنشَأَ الفُرسُ مَدرَسَةً طِبِّيَةً عَظِيمَةً في (جَندِيابُورُ)، وَكانَ لَها مُستشفَياتُها. وَكانَ لِلطَّوائِفِ المَسِيحِيَّةِ في أوروبَّا وَغَيرِها مُستَشفّياتٌ. وَكانَ لِلمُسلِمينَ مُستَشفَياتٌ لَعَلَّها أَكثَرُ مِمّا لِغَيرِهِم مِنَ الأُمَمِ، وَأَوسَعُ خِدَماتٍ، وَأَدَقُّ أَنظِمَةً لِوُجودِ أَطِبّاءَ عُظَماءَ كَالرّازيِّ وَابنِ سينا، فكانَتِ المُستَشفَياتُ مَبثوثَةً في المُدُنِ الكَبيرَةِ وَالصَّغيرَةِ وَلا سِيَّما القاهِرَةُ، وَبَغدادُ، وَقُرطُبَةً، وَالقَيرَوانُ، وَغَيرُها. بِالإِضافَةِ إلَى المُستَشفَياتِ الحَربِيَّةِ في الثُّغورِ (1) وَالرُّبطِ، وَكانَت تُعرَفُ بِاسمِ (البِيمارِستاناتِ).
وَالعَقلُ يَفترِضُ أَنَّ وُجودَ خِدَماتٍ طِبِّيَّةٍ واسِعَةٍ عَلَى نَحوِ ما ذَكَرنا يَقتَضي مُمَرَّضاتٍ قَد أُعدِدنَ إِعداداً خاصاً لِهَذِهِ المِهنَةِ، وَتَدَرَّبنَ تَدريباً مُنَظَّماً في مُؤَسَّساتٍ تعليمِيَّةٍ تُعنَى بِشُؤونِ التَّمريضِ؛ لأَنَّ الحاجَةَ إِلَيهِنَّ قائمة، ولِأَنَّ مِنَ المَعروفِ أَنَّ نِساءَ العَرَبِ في الجاهِلِيَّةِ، ثُمَّ في الإسلام كُنَّ يرافِقنَ الجُيوشَ لِلإسعافِ وتضميدِ (2) الجَرحَى، وَالعِنايَةِ بِهِم وَغَيرِ ذَلِكَ مِنَ الأَعمالِ الأُخرى التي يُؤَدّينَها بِمَهارَةٍ فائِقَةٍ. وَلَكِن عَلَى الرَّغمِ مِن ذَلِكَ لَيسَ لَدَينا ما يَدُلُّ عَلَى خِبرَتِهِنَّ الطِّبِّيَّةِ، أو وُجودِ نِظامٍ لِلتَّدرِيبِ عَلَى التَّمريضِ لا عِندَ المُسلمِينَ وَلا عندَ غَيرهِم.
وَقَد يَبدو مِنَ الغَريبِ أَنَّ ظُهورَ المُمَرِّضاتِ المُحتَرِفاتِ اللاّتي تَلَقَّينَ تَدريباً عِملِيّاً مُنَظَّماً يَرجعِ إلَى تاريخٍ حَديثٍ جِدّاً يَبعُدُ عَنّا بِنَحوِ مائَةِ سَنَةٍ تَقريباً.
وَيَرجِعُ الفَضلُ فيهِ إِلَى امرَأَةٍ عَظيمَةٍ هِيَ (فلورَنس نايتِنجيل).
وُلِدَت فلورَنس نايتِنجيل سَنَةَ . في إيطالِيا، وَلَكِنَّها قَضَت كُلَّ شَبابِها في إنجِلترا. وَظَهَرَ حُبُّها لِلخَيرِ، وَمُساعَدَةِ الغَيرِ مُنذُ الطُّفولَةِ؛ فكانت أَلعابُها تَمريضاً وَتِضميداً لِدُماها. وَحِينَ صارَ عُمرُها ثَمانِيَ عَشرَةَ سَنَةً، أَعلَنَت أنَّ اللهَ قد دَعاها لِلقِيامِ بِخِدمتة، فَاختارَت أن تكونَ مُمَرِّضَةً. وَعارَضَت والِدَتُها ذَلِكَ الاِختِيارَ مُعارَضَةً شَديدَةً. وَلَكِنَّ رَغبَةً في خِدمَةِ الإنسانِيَّةِ كانَت لا تُقاوَمُ، فَهَيَّأَت نَفسَها لِتَلَقِّي ثَقافَةٍ تَمريِضِيَّةٍ تُعِينُها عَلَى أَداءِ مُهِمَّتِها، ثُمَّ واصَلَت دِراسَتَها لِنُظُمِ التَّمريضِ في إنجلترا وَالقارَّةِ الأوروبّيَّةِ، وَعادَت إلَى إنجلترا سَنَةَ 1852، فَعُيِّنَت رَئيسَةً لِمُستَوصَفٍ صَغيرٍ لِلِنِّساءِ؛ حَيثُ بَدَّلَت أَوَّلَ جُهُودِها في تَدريبِ المُمَرِّضات.
وَفي سَنَةِ 1854 كانَت إنجلترا قَلِقَةً مُضَطَرِبَةً لأَخبارِ الآلامِ التي يُعانيها الجُنودُ البريطانِيّونَ في القِرمِ (3)؛ سَواءٌ الجَرحَى مِنهُم وَالمَرضَى، لِسُوءِ الأَحوالِ وَانتِشارِ مَرَضِ التِّيِفُوسِ (4) بَينَهُم. فَكَتَبَ وَزيرُ الحَربِيَّةِ البريطانِيَّةِ، وَكانَ صَديقاً لأُسرَتِها، يَسأَلُها عَن مَدَى استِعدادِها لِلذَّهابِ إلَى القِرمِ لتَنظيمِ الخِدمَةِ التَّمريضِيَّةِ فيها، ثِقَةً مِنهُ أَنَّها الوَحيدَةُ التي أَعَدَّت نَفسَها لِذَلِكَ العَمَلِ الجَليلِ، عَلَى الرَّغمِ مِن مُعارَضَةِ القِسمِ الطِّبِّيِّ لِلجَيش زاعماً أَنَّ العَمَلَ هُناكَ لا يَلِيقُ بإمرَأَةٍ.
استَجابَت فلورَنس لِدَعوَةِ وَزيرِ الحَربِيَّةِ، وَترَكَت عَمَلَها في المُستَوصَفِ- قَبلَ أَن تُخَرِّجَ أَوَّلَ فَوجٍ مِن مُمَرِّضاتِها المُتَدَرِّباتِ وَذَهَبت إلَى القِرمِ، فَكانَت تَقِفُ في أَجنِحَةِ المُستَشفَى عِشرينَ ساعَةً مُتَتالِياتٍ في بَعضِ الأَحيانِ: مُرشِدَةً وَمُشِجِّعَةً مَن حَولَها، باعِثَةً الأَمَلَ في المَرضَى، وحافِزَةً لِعَزائِمِ مَرءُوسِيها، حَتَّى غَدَت أخبارُ جُهودِها المُوَفَّقَةِ بينَ المُصابينَ الذينَ كانَت تَتَوَلاّهُم- وَعَدَدُهُم عَشَرّةُ آلافٍ- قِصَّةً أَقرَبَ إلىَ الخُرافَةِ. وَقَدِ انخَفَضَت نِسبَةُ الوَفَياتِ إلَى دَرَجَةٍ تَكادُ لا تُصَدَّقُ. فَكانَت هَذِهِ النَّتيجَةُ انتِصاراً لِلتَّدريبِ الفَنِّيّ، وَالإدارَةِ الحَسَنَةِ، وَالوَسائِلِ الصِّحِّيَّةِ الدَّقيقَةِ، وَالنَّظافَةِ التّامَةِ، وَالإخلاصِ في العَملِ، وَالتَّصميمِ الذي لا يَتَزَعزَعُ.
وَلَمّا انتَهَت مُهِمَّتُها عادَت إلى إِنجلترا في غَيرِ جَلَبَةٍ (5)، مُتَجَنِّبَةً حَفلاتِ الاِستِقبالِ التي كانَ الشَّعبُ يَوَدُّ أن يَستَقبِلَها بها. وَبَعدَ إنِ استَجَمَّت مِنَ المِحنَةِ المُضنِيَةِ (6) التي كانت فيها، وجَّهَت نَفسها إلَى ما أَصبَحَ مشغَلَةَ حَياتِها؛ وَهُوَ إنشاءُ تدريبٍ عِلمِيّ لِلممِرِّضاتِ، وَرَفعُ مقامِهِنَّ الاجتماعِيِّ مِن مَنزِلَةِ أحقَرِ الخادِماتِ إلى مَرتَبَةِ النِّساءِ المُتَدَرِّباتِ الرّاغِباتِ في خِدمَةِ الإِنسانِيَّة. وَتَمَكَّنَت مِنَ النُّهوضِ بِذَلِكَ المَشروعِ بِالمالِ الذي جُمِعَ اعتِرافاً ما صَنَعَت في حَربِ القِرمِ؛ فَأَسَّسَت بِهِ مَدرَسَةَ (نايتِنجيلَ) لِلمُمَرِّضاتِ.
وَإِلى جانِبِ ذَلكَ واصَلَت خِدمَتَها لِلجَيشِ. وَلَم يَكُن مِنَ الشائِعِ في تِلكَ الأَيَامِ أن تَجلِسَ امرَأَةٌ في اللِجانِ الحُكومِيَّةِ، وَلَكِنَّ وَزارَةَ الحَربِ خَرَجَت عَلَى هذا العُرفِ، وَدَأَبَت عَلَى استِشارَتِها في كُلِّ ما يَتَّصِلُ بِشُؤونِ التَّمريضِ، وَكانَت هِيَ العامِلَ القَوِيَّ في إدخالِ كَثيرٍ مِنَ الإصلاحِ عَلَى الوَسائِلِ الصِّحِّيَّةِ وَإدارَةِ خِدمَةِ التَّمريضِ وَالمُستَشفَياتِ، وَإنارَةِ الطَّريقِ أمامَ الرَّاغِبينَ في النُّهوضِ بِها حَتَّى سُمِّيَت لِذَلِكَ- صاحِبَةَ المِصباحِ.
من كتاب (اللغة العربيّة)
لراضي عبد الهادي وآخرين
1. الثغور: جمع ثَغر، وهو بلد محصَّن لحماية الحدود.
2. التضميد: وضع اللفائف وشدّها على الجروح.
3. القِرم: شبه جزيرة شماليّ البحر الأسوَد.
4. التيفوس: نوع من الأمراض الخطيرة.
5. الجَلَبَة: الضجَّة.
6. المُضنِيَة: المُتعِبَة.
ولد الشاعر دافيد شمعوني في روسيا عام 1886، وهو من عائلة مثقَّفة. تعلَّمَ في الكُتَّاب، ومن ثَمَّ على أيدي معلّمين خصوصيّين. وبعد ذلك أكملَ تعلُّمه العالي في الجامعات الألمانيّة، ودرس هناك علم اللغة.
هاجر إلى البلاد عام 1956، وبدأ بنشر قصائده الأولى في جرائد الأطفال. للشاعر مجموعة كبيرة من القصائد، طُبِعَت في أربعة مجلَّدات.
توفّي الشاعر عام 1956.
احرُص وَازرَع ما دُمتَ قادِراً عَلَى ذَلِكَ، وَلَسَوفَ يُثنِي عَلَيكَ مَن سَيَحصُدُ بَعدَكَ. وَإِنَّ بَهجَةَ الحاصِدِينَ- وَإِن كانَت طَيِّبَةً- فَأَطيَبُ مِنها بِكَثيرٍ دُموعُ الزّارعِينَ. وَمَا مِن بَريقٍ دُموعِ الزّارِعِينَ لأَجلِ الآخَرينَ...
احرُث وَازرَع وَأَيقِن بأِنَّ الزَّرعَ سَيَنبُتُ، وَسَوفَ تشدو العَصافيرُ بَينَ السَّنابِلِ.
سَوفَ تَتَلألأُ البَيادِرُ كالذَّهَبِ، وَتَصدَحُ المَطاحِنُ في بَهجَةٍ وَسُرورٍ.
دافيد شمعوني
أديب لبناني ولد في بشرّاي عام 1883، عاش في المهجر حيث اتَّخَذَ له مقرّاً في حيّ قديم من أحياء نيويورك. وفي سنة 1920 انتُخِبَ عميداً للرابطة القلميّة. وفي سنة 1923 طبع كتابه (النبي) باللغة الإنجليزيّة.
ومن آثاره أيضاً: (العواصف)، (دمعة وابتسامة)، آلهة الأرض)، (السابق).
توفي عام 1931، وأعيد جثمانه إلى مسقط رأسه في لبنان.
أُحِبًّ الذي يَشتَغِلُ بِفِكرِهِ؛ فَيَبتَدِعُ مِنَ التُربِ ومن سَدِيمِ خَيالِهِ صُوَراً حَيَّةً جَمِيلَةً جَدِيدَةً نافِعَةً.
أُحِبُّ ذاك الذي يَجِدُ في حديقَةٍ وَرِثَها عَن أَبيهِ شَجَرَةَ تُفّاحٍ واحِدَةً، فَيَغرِسُ إلَى جانِبِها شَجَرَةً ثانِيَةً. وَذاكَ الذي يَشتَرِي كَرَمَةٍ تُثمِرُ قنطاراً من العِنَبِ، فَيَعطِفُ عَلَيها وَيُدَلِلُّ أدِيمَها لِتُعطِيَ قنطارَينِ.
أُحِبُّ الرَّجُلَ الذي يَتَناوَلُ الأَخشابَ الجافَةَ المُهمَلَةَ، فيصنع مِنها مَهداً لِلأَطفالِ، أَو قِيثارَةً حُبلَى بالأَنِغامِ. وَأُحِبُّ الرَّجُلَ الذي يُقِيمُ مِنَ الصُّخورِ التَّماثِيلَ وَالمَنازِلَ وَالهَياكِلَ.
أُحِبُّ ذاكَ الذي يُحَوِّلُ الطِّينَ إِلَى آنِيَةٍ لِلخَمرِ أو لِلزَّيتِ أو للعِطرِ. وَأُحِبُّ الذي يَحُوكُ مِنَ القُطنِ قَمِيصاً وَمِنَ الصُّوفِ جُبَّةً وَمِنَ الحَريرِ برفيراَ (1).
أُحِبُّ الحَدّادَ الذي ما أَنزَلَ مِطرَقَتَهُ عَلَى سِندانِهِ، إلاّ وَأَنزَلَ مَعَها قَطرَةً من دَمِهِ. وَأُحِبُّ الخَيّاطَ الذي يَخِيطُ الأَثوابَ بأَسلاكٍ من نُورٍ عَينَيهِ. وَأُحِبُّ النَّجّارَ الذي لا يَدُقُ مِسماراً إِلاّ وَدَفَنَ مَعَهُ من عزيمَتِهِ.
أُحِبُّ جَمِيعَ هَؤلاءِ. أُحِبُّ أصابِعَهُمُ المَغموسَةَ بَعَناصِرِ الأرضِ. أُحِبُّ وَجُوهَهُم بِما عَلَيها مِن سِيماءِ الصَّبرِ وَالتَّجَلُّدِ. أُحِبُّ جَبَهاتِهِمُ المُشَعشَعَةَ بِجَواهِرِ الإجهادِ.
وَفِي قَلبِي حُبٌّ عَمِيقٌ لِلرّاعِي الذي يَقُودُ قَطِيعَهُ كُلَّ صَباحٍ إلَى المُرُوجِ الخَضراءِ، وَيُورِدُهُ المَناهِلَ الصّافِيَةَ، وَيُناجِيهِ بِشَبّابَتِهِ النَّهارَ بِطُولِهِ، وَعِندَما يَأتِي المَساءُ يَعُودُ إلىَ الحَظِيرَةِ؛ حَيثُ الرّاحَةُ والطمأنِينَةُ.
أُحِبُّ مِنَ النّاسِ العامِلَ لأنَّهُ يُطعِمُنا وَيَحرِمُ نَفسَهُ. أُحِبُّهُ لأَنَّهُ يَغزِلُ وَيَحُوكُ لِنَلبَسَ الأَثوابَ الجَدِيدَةَ. بَينَما زَوجَتُهُ وأولاده في مَلابِسِهِمُ القَدِيمَةِ. أُحِبُّهُ لأَنَّهُ يَبنِي المَنازِلَ العالِيَةِ وَيَسكُنُ الأَكواخَ الحَقِيرَةَ. أُحِبُّ ابتِسامَتَهُ الحُلوَةَ، وَأُحِبُّ نَظرَةَ الاِستقلالِ وَالحُرِّيَّةِ فِي عَينَيهِ.
أُحِبُّ العامِلَ؛ لأَنَّهُ لِدَعَتِهِ يَحسَبُ نَفسَهُ خادِماً وَهُوَ السَّيِّدُ السَّيِّدُ. وَأُحِبُّهُ لأِنَّهُ لِحِشمَتِهِ (2) يَظُنُّ نَفسَهُ فَرعاً وَهُوَ الأَصلُ الأَصلُ. وَأُحِبُّهُ لأنَّهُ خَجُولٌ؛ فَإذا أعطَيتَهُ أُجرَتَهُ شَكَرَكَ قَبلَ أَن تَشكُرَهُ. وَإِذا مَدَحتَهُ عَلَى عَمَلِهِ رَأَيتَ الدُّموعَ في عَينَيهِ.
أُحِبُّ مِنَ النَّاسِ العامِلِ. أُحِبُّ هَذا الذي يَحنِي ظَهرَهُ لِتَستَقيمَ ظُهُورُنا، وَيَلوي عُنُقَهُ لِتَرتَفِعَ وُجُوهُنا نَحوَ الأَعالِي. أُحِبُّ مِنَ النّاسِ العامِلَ.
وَماذا عَسانِي أَقولُ في مَن يَكرَهُ العَمَلَ لِخُمولٍ في جَسَدِهِ وَرُوحِه؟
وَفي مَن يَأبَى العَمَلَ لأَنّهُ بِغِنّى عَنِ الرِّبحِ. وَفي مَن يَحتَقِرُ العَمَلَ مُتَوَهِّماً أَنَّهُ أَشرَفُ مِن أن يُلَوِّثَ يَدَيهِ بِمَفرُوزاتِ التُّرابِ.
ماذا عَسانِي أَقُولُ في الذينَ يَجلِسونَ إلَى مائِدَةِ الوُجودِ، وَلا يَضَعُونَ عَلَيها رَغِيفاً من خُبزِ جهادِهِم، أو كَأساً من ذَوبِ اجتِهادِهِم.
ماذا أَقولُ في الدينَ يحصُدُونَ من حَيثُ لا يَزرَعونَ؟
لا أستَطِيعُ أن أقولَ في هَؤلاءِ، أَكثَرَ أَو أقَلَّ مِمَّا أقولُهُ في النَّباتِ وَالحَشَراتِ الطُّفّيِلِيَّةِ (3) التي تَستَمِدُّ حياتها من عَصِيرَةِ النَّيتِ العامِلِ، وَداءِ الحَيَوانِ السّاعِي.
لا. لا أَستَطِيعُ أن أقولَ في هَؤلاءِ أَكثَرَ أَو أَقَلَّ مِمَّا أَقولُهُ في لِصٍّ يَسرِقُ حُلَى (4) العَرُوسِ لَيلَةَ عُرسِها.
جبران خليل جبران
من كتابه (المجنون)
1. البِرفير: كلمة يونانيّة معناها الثوب.
2. الحِشمَة: الحَياء. الخَجَل.
3. الطفيليّة: التي تعتمد على غيرها.
4. الحُلَى: زينة العروس من ذهَب وفضّة.
شاعر عبّاسي عاش في الفترة ما بين 835- . حصل على ثقافة واسعة. وكانت حياته سلسلة متواصلة من الخيبة والأرزاء؛ فتزعزع كيانه واعتلَّت أعصابه؛ فتشاءَمَ وتطيَّرَ ونُكِبَ في أسرته.
توفّي ابن الرومي مسموماً على يد القاسم بن عبد الله وزير المعتزّ. وقد ترك بعض الرسائل، وديوان شعر فيه مدح وهجاء ورثاء وغزل ووصف وفخر وعتاب وطرد.
رَأَيتُ حَمالاً مُبِينَ العَمَى يَهبِطُ في الأَكمِ وَفي الوَهدِ (1)
مُحتَملاً ثِقلاً عَلَى ظَهرِهِ تَعجِزُ عَنهُ قُوَّةُ الجَلدِ (2)
بَينَ جِمالاتٍ وَأَشباهِها مِن بَشَرٍ نامُوا عَلَى المَجدِ (3)
وَالكُلُّ قَد يَصدِمُهُ عَامِداً أو تائهَ اللُّبِّ بلا عَمدِ (4)
والبائِسُ المِسكينُ مُستَسلِمُ أذَلُّ لِلمَكروهِ مِن عَبدِ
وَما اشتَهَى ذاكَ وَلكِنَّهُ فَرَّ مِنَ اللُّؤمِ إلَى الجِدِّ
ابن الرومي
ديوان (ابن الرومي)
1. مبين العمّى: ظاهر العمَى. الأكمَة: التلّة. الوهَد: المنخفض من الأرض.
2. الجَلد: القويّ. الصبور.
3. جِمالات: جمع جمال جَمَل.
4. عامِداً: قاصِداً. اللبّ: العقل.
*236*
قَبلَ سِتِمِائَةِ عامٍ كانَ لِكُلِّيَةِ الطِّبِ الباريسِيَّةِ أَصغَرُ مَكَتَبَةٍ في العالَم؛ لا تحتَوي إلاَّ عَلَى مُؤَلَّفٍ واحِدٍ. وَهَذا المُؤَّلَّفُ كانَ لِعَرَبِيٍّ كَبيرٍ.
وَكانَ هَذا الأَثَرُ العَظِيمُ ذا قِيمَةٍ كَبيرَةٍ، بِدَليلِ أَنَّ المَلِكَ الشَّهيرَ لويسَ الحادي عَشَرَ، اضطُرَّ إلى دَفعِ اثنَي عَشَرَ ماركاً مِنَ الفِضَّةِ، وَمِائَةِ تالر مِنَ الذَّهَبِ الخالِصِ لِقاءَ استعارَتِهِ هذا الكَنزَ الغالِيَ، رَغبّةً مِنهُ في أن يَنسَجَ اطِبّاؤهُ نُسخَةً يرجِعونَ إلَيها، إذا ما هَدَّدَ مَرَضٌ أَو داءٌ صِحَّتَهُ وَصِحَّةَ عائِلَتِهِ.
وَكانَ هَذا الأثَرُ العِلمِيُّ الضَخمُ يَضُمُّ كُلَّ المَعارفِ الطِّبِيَّةِ مُنذُ أيَام الإغريقِ حَتَّى عامِ 925 بَعدَ المِيلادِ. وَظَلَّ المَرجِعَ الأساسِيَّ في أوروبَا لِمُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَى الأَربَعِمِائَةِ عامٍ بَعدَ ذَلِكَ التَّاريخِ، دُونَ أَن يُزاحِمَهُ مُزاحِمٌ، أو تُؤَثِّرُ فيهِ أو في مَكانَتِهِ مَخطوطَةٌ مِنَ المَخطوطاتِ الأُخرَى. وَهُوَ العَمَلُ الجَبّارُ الذي خَطَّتهُ يَدُ عَربِيٍّ قَديرٍ.
وَلَقَدِ اعتَرَفَ البارِيسِيُّونَ بِقيمَةِ هَذا الكَنزِ العَظِيمِ وَبِفَضلِ صاحِبِهِ عَلَيهِم وَعَلَى الطِّبِ إجمالاً- فَأَقاموا لَهُ نُصباً في باحَةِ القاعَةِ الكَبيرَةِ في مَدرَسَةِ الطِّبِّ لَدَيهِم، وَعَلَّقوا صُورَتَهُ وَصُورَةَ عَرَبِيٍّ آخَرَ كَبيرَةٍ تَقَعُ في شارِعِ سان جرمان، حَتَّى إذا ما تَجَمَّعَ فِيهِ اليَومَ طُلابُ الطِّبِّ وَقَعَت أبصارُهُم عَلَيها، وَرَجَعُوا بذاكِرَتِهِم لِلوَراءِ يَستَرجِعُونَ تارِيخَهُ.
فَمَن هُوَ؟
إِنَّهُ الرّازيُّ أَو رازاسُ كَما سَمَّتهُ بلادُ الغَربِ - وَأمّا اسمُهُ الحَقِيِقيُّ فَهُوَ أَبو بَكرٍ مُحَمَّدُ بنُ زَكَرِيَا. وُلِدَ في مَدِينَةِ (الرَّيّ) بِخُراسانَ شَرِقِيَّ مَدِينَةِ طَهرانَ حالِيّاً. وَقَدِ اهتَمَّ الرَّازِيُّ في شَبابِهِ كَغَيرِهِ بالدِّراساتِ الفَلسَفِيَّةِ وَاللُّغَوِيَّةِ وَالرّياضِيَّةِ. ثُمَّ تَعاطَى الموسيقى فَبَرَعَ فيها نوعاً ما. وأصابَ شُهرةً مَحَلِيَّةً كَمُغَنٍّ وَعازِفٍ. وَظَلَّ عَلَى هَذِهِ الحالَةِ حَتَّى الثَّلاثينَ مِن عُمرِهِ. ثمَّ ضاقَ ذَرعاً (1) بِهَذا الفَراغِ الدّائِمِ وَبِهَذِهِ الرَّتابَةِ، فَعَزَمَ عَلَى تَغِييرِ حَياتِهِ جَذرِياً، فَأَدارَ ظَهرَهُ لِمَدينَتِهِ الأمُّ، وَانطَلَقَ سَعياً وَراءَ تَحقِيقِ آمالِهِ وَطُمُوحِهِ.
إلَى أَينَ؟
إلى مَدِينَةِ الشِّفاءِ وَمَدينَةِ السَّلامِ. إلى بَغدادَ كَعبَةِ كُلِّ ذي طُمُوحٍ وَكُلِّ ذي قَلبٍ كَبيرٍ يَبغِي الرِّفعَةَ والسُّمُوَّ.
وَبِكُلِّ قُواهُ وَتَصمِيمِهِ الأَكِيدِ اندَفَعَ في دِراسَةِ الطِّبِّ. فَتَعَلَّمَ عَلَى يَدِ تِلمِيذٍ مِن تَلامِيذَةِ حُسَينِ بن إسحَقَ. وَتَعَلَّمَ فَنَّ العِلاجِ الإغريقِيِّ وَالفارِسِيّ وَالهِندِيِّ وَالعَرَبِيِّ الحَديثِ العَهدِ، وَعَبَّ مِنهُ عَبّاً، حَتَّى إذا ما ارتَوَى قَفَلَ راجِعاً إلَى بلدته الأُمِّ لِيَعمَلَ كَمُدِيرٍ لِلمُستَشفَى هُناكَ. وَلَكنَ لَيسَ لِمُدَةٍ طَويلَةٍ؛ إذ ما لَبِثَ أن سَعَى إلَى الحُصُولِ عَلَى مَنصِبِ رَئيسِ الطِّبابَةِ في المُستَشفَى الكَبير في العاصِمَة، وَفازَ بِمَطلَبِهِ مِن بَينِ الكَثيرِ مِن منافِسيهِ. وَبهَذا تَفَتَّحَت أَمامَهُ أَبوابُ قُصورِ الخَلِيفَةِ لِيَعمَلَ فيها كَطَبِيبٍ خاصٍّ.
وَلَم يَمضِ وَقتٌ طَويلٌ حَتَّى ذاعَت شُهرَتُهُ في طُولِ البِلادِ وَعَرضِها، وَطَبَّقَتِ الآفاقَ، فَزَحَفَ طُلاّبُ العِلمِ مِن كُلِّ حدبٍ وَصَوبٍ (2)؛ رَغبَةً مِنهُم في تَلَقّي المَعرِفَةِ عَلَى يَدَيِ الرّازِيّ العَظِيمِ.
أحمد محمد صقر وآخران
من كتاب
(الأضواء في اللغة العربيّة)
(وزارة المعارف بمصر)
1. ضاقَ ذَرعاً: مَلَّ.
2. من كُلّ حَدب وصَوب: من كُلّ ناحية من نواحي الأرض.
مستشرقة ألمانيّة ذائعة الشهرة. وهي زوجة الدكتور شولتزا المستشرق الألماني الكبير.
لقد عاشت المؤلّفة مع زوجها عامَين في مراكش. كما قامت بعدد من الزيارات للبلدان العربية للاطّلاع والدراسة.
تناولَت المؤلّفة في أطروحتها التي تقدَّمَت بها لنَيل درجة الدكتوراه في جامعة برلين، أثَر الأدب العربي في الآداب الأوروبيّة.
من مؤلّفاتها: كتاب (الرجل والمرأة) - وهو كتاب تاريخي أَكَّدَت فيه الكاتبة فضل العرب على الحضارة الغربيّة. ولها أيضاً كتاب (شمس العرب تسطع على الغرب)؛ قام بترجمته إلى العربيّة فاروق بيضون وكمال دسوقي.
لَقَد أَقبَلَ العَرَبُ عَلَى اقتِناءِ الكُتُبِ إقبالاً مُنقَطِعَ النَّظِيرِ، يُشبِهُ، إِلَى حَدٍّ كَبيرٍ، شَغَفَ النّاسِ في عَصرِنا هَذا باقتِناءِ السَّيّاراتِ والثَّلاَجاتِ وَأَجهِزِةِ التِّلِفِزيونِ، بَعدَ الدَّمارِ الذي أصابَهُم إِبّانَ الحَربِ العالَمِيَّةِ، فَحَرَمَهُم طَويلاً مِن مُتَعِ الحَياةِ. فَأَصبَحَت الكُتٌبُ هِيَ مَطلَبَ كُلِّ مَن يَستَطِيعُ تَحَمُّلَ نَفَقاتِ الحُصُولِ عَلَيها، وَأَقبَلَ النّاسُ في البُلدانِ العَرَبِيَّةِ عَلَى اقتِنائِها بِلَهفَةٍ (1) مَتَزايِدَةٍ لَم يَعرِف لَها التَّاريخُ من قَبلُ مثيلاً.
وَكَما يُقاسُ ثَراءُ النّاسِ اليَومَ بِمَدَى ما يَملِكونَ مِن عَرَباتٍ فاخِرَةٍ مَثلاً، قَدَّرَ النّاسُ- في ذَلِكَ العَصرِ المُمتَدِّ مِنَ القَرنِ التَّاسِعِ حَتَّى القَرنِ الثَّالِثَ عَشَرَ- الثَّراءَ بِمَدَى ما يُقتَنَى مِن كُتُبٍ أو مَخطُوطاتٍ.
وَلَم يَكُنِ الخَلِيفَةُ، بِتَشجِيعٍ مِن وُزَارئِهِ مِنَ البَرامِكَةِ، لِيُهدِيَ الجَماهيرَ هَدِيَّةً تَتَّفِقُ مَعَ مِزاجِهِم (2)، أَجمَلَ مِن إِنشائِهِ مَكتَبَةً ضَخمَةً في بَغدادَ عُرِفَت بِدارِ الحِكمَةِ.
وَنَمَت دُورُ الكُتُبِ في كُلِّ مَكانٍ نُمُوَّ العُشبِ في الأرضِ الطَّيِّبَةِ. فَفِي عامِ يُحصِي مُسافِرٌ عَدَدَ الكُتُبِ العامَّةِ في بَغدادَ بِأَكثَرَ من مِئَةٍ. وَبَدَأت كُلُّ مَدِينَةٍ تَبنِي لَها داراً لِلكُتُبِ، يَستَطِيعُ عَمرُّو أو زَيدٌ مِنَ النّاسِ استِعارَةَ ما يَشاءُ منها، وَأَن يَجلِسَ في قاعاتِ المُطالَعَةِ لِيَقرَأَ ما يُرِيدُ، كَما يَجتَمِعُ فيها المُتَرجِمونَ وَالمُؤَلِفونَ في قاعاتٍ خُصِّصَت لَهُم، يَتَجادَلونَ وَيَتَناقَشونَ كَما يَحدُثُ اليَومَ في أَرقَى الأَندِيَةِ العِلمِيَّةِ.
وَحَذا حَذوَ الخَلِيفَةِ في بَغدادَ كُلُّ الأُمَراءِ العَرَبِ في مُختَلِفِ أَنحاءِ العالَمِ العَرَبِيِّ؛ فَأَربَت، مَثلاً، مَكتَبَةُ أَميرٍ عَرَبِيٍّ في الجَنوبِ عَلَى مِئَةِ أَلفِ مُجَلَّدٍ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمّا شُفِيَ سُلطانُ بُخارَى، مَحَمَّدٌ المَنصورُ، مِن مَرَضِهِ العُضالِ عَلَى يَدِ ابن سينا، وَهُوَ بَعدُ فَتّى لم يَتَجاوَزِ الثَّامِنَةَ عَشرَةَ، كافأه السُّلطانُ عَلى ذَلِكَ بِأَن سَمَحَ لَهُ أن يَختارَ مِن مَكتَبَةِ قَصرِهِ ما يَحتاجُ إِلَيهِ مِنَ الكُتُبِ لِدِراسَتِهِ، وكانَت كُتُبُها تَشغَلُ جُزءاً مِنَ القَصرِ، وَقَد رُتِّبَت حَسَبَ موضوعاتِها. وَيَكتُبُ ابنُ سِينا عَن ذَلِكَ الحَدِيثِ فَيَقولُ: (وَهُناكَ رَأَيتُ كُتُباً لَم يَسمَع أَغلَبُ النَاسِ حَتَّى بِأَسمائِها).
وَلَم يَكَدِ ابنُ سِينا يُغادِرُ قَصرَ السُّلطانِ، حَتَّى اشتَعَلَتِ النِّيرانُ فيهِ فَقَضَت عَلَى هَذِهِ الكُنُوزِ العِلمِيَّةِ؛ وَتَهامَسَ أعداؤهُ وَحُسّادُهُ قائِلِينَ: (إِنَّهُ هُوَ الذي أَشعَلَ النَّارَ فيها بَعدَما قَرَأَها لِيَدَّعِيَ، فِيما بَعدُ، أنَّ ما عِندَهُ مِن عِلمٍ إِنَّما هُوَ مِن أَبحاثِهِ الخاصَّةِ).
وَلا يَستَطِيعُ أَحَدٌ أن يُقارِنَ نَفسَهُ بِالخَلِيفَةِ العَزِيزِ في القاهِرَةِ. حَتَّى خَلِيفَةُ قُرطُبَةَ، الذي بَعَثَ رِجالَهُ وَسَماسِرَتَهُ في كُلِّ أَنحاءِ الشَّرقِ لِيَجلُبوا لَهُ الكُتُبَ، فَيَزِيدَ رَوائِعَ مَكتَبتِهِ، أَنَّى لَهُ أن يَصِلَ إلَى ما فَعَلَهُ العَزيزُ؟ لَقَد حَوَت مَكتَبَةُ العَزيزِ مِليُونَ مُجَلَّدٍ، فَكانَت بِذَلِكَ أَجمَلَ وَأَكمَلَ دارٍ لِلِكُتُبِ دارٍ لِلكُتُبِ ضَمَّت سِتَّةَ آلافٍ وَخَمَسمِائَةِ مَخطوطَةٍ في الرِّياضِيّاتِ، وَثَمانِيَةَ عَشَرَ أَلفَ مَخطوطَةٍ في الفَلسَفَةِ. وَلَم يَمنَع هذا قَطُّ ابنَهُ مِن بَعدِهِ، حِينَ اعتَلَى العَرشَ، مِن أَن يَبنِيَ مَكتَبَةً ضَخمَةً فيها ثمانِيَ عَشرَةَ قاعَةً لِلمُطالَعَةِ إلَى جِوارِ المَكتَبَةِ القَديِمَةِ.
وَكَذَلِكَ فَعَلَ الوُزَراءُ وَرِجالُ الدَّولَةِ؛ فَلَقَد تَرَكَ الوَزيرُ المُهَلَّبِيُّ، مَثَلاً، عِندَ وَفاتِهِ عامَ مَجموعَةً مِن مِئَةٍ وَسَبعَةَ عَشَرَ أَلفَ مُجَلَّدٍ، وَاستَطاعَ زَمِيلُهُ الشّابُّ ابنُ عَبّادٍ أن يَجمَعَ في مَكتَبَتِهِ مَئَتَينِ وَسِتَّةَ آلافِ كتابٍ، وَجَمَعَ أَحَدُ قُضاتِهِ مِليوناً وَخَمسينَ أَلفَ مُجَلَّدٍ. وَلَمَّا كانَت هَذِهِ الأَرقامُ الضَّخمَةُ قَد حُسِبَت بِالتَّقريبِ وَبُولِغَ في بَعضِها، فإنَّ هَذِهِ المُبالَغَةَ نَفسَها لَهِيَ أَكبَرُ دَليلٍ عَلَى مُفاخَرَتِهِم بِذَلِكَ، وَسُرورِهِم بِكُلِّ جُهدٍ يُبذَلُ في هَذا السَّبيلِ. وَلَيسَ أَدَلَّ عَلَى هذا ممَا نقرَأُهُ مِن أَنَّ بَعضَ الوُزَراءِ لَم يَكُن يَخرُجُ إلَى رِحلَةٍ، إِلاَّ وَمَعَهُ حُمُولَةُ ثَلاثِينَ جَمَلاً مِنَ الكُتُبِ تَصحَبُ رَكبَهُ.
هَل نَستَطِيعُ الآن أن نَعرِفَ أَينَ تَعَلَّمَ القَيصَرُ فرِدريكُ الثاني أن يَصحَبَ مَعَهُ في جَولاتِهِ الكُتُبَ عَلَى ظَهرِ الجِمالِ؟ أَعتَقِدُ أَنَّ الإجابَةَ واضِحَةٌ...
نَعَم... عَلَى يَدِ أساتِذَتِهِ العَرَبِ.
وَرُبَّ إِنسانٍ يَقولُ: إنَّ هَذا لَيسَ بِالشَّيءِ العَجِيبِ الذي يَستَرعِي الإنتِباهَ وَيَحتاجُ فيهِ الكاتِبُ كُلَّ هذا الإستِطرادِ في الوَصفِ وَالتَأكيدِ بِالتِّكرارِ، فَلَقَد وُجٍدَت في كُلِّ عَصرٍ مِنَ العُصورِ تِلكَ الحَفنَةُ مِنَ العُلّماءِ التي تَهتَمُّ بِالكُتُّبِ هَذا الإهتِمامِ، وَإِن لَم يَكُن بِهَذا القَدرِ مِثلَ العَرَبِ. وَلَكِنَّا نَرُدُّ عَلَى هَؤلاءِ بِأَنَّ عِشقَ الكُتُبِ لَم يَكُن وَقفاً عَلَى حَفنَةٍ مِنَ العُلَماءِ فَقَط، بَل كانَ هِوايَةً العرب عَلَى اختِلافِ طَبَقاتِهِم. فَكُلُّ مُتَعَلِّمٍ مِن أَكبَرِ كُبَراءِ الدَّولَةِ إلَى بائِعِ الفَحمِ، وَمِن قاضِي المَدينَةِ إِلَى مُؤَذِّنِ المَسجِدِ، هُوَ زبُونٌ دائِمٌ عِندَ بائِعِ الكُتَبِ. إنَّ مُتَوَسِّطَ ما كانَت تَحتَوِيهِ مَكتَبَةٌ خاصَّةٌ لِعَرَبِيٍّ في القَرنِ العاشِرِ، كانَ أكثَرَ مِمَا تَحوِيهِ كُلُّ مَكتَباتِ الغَربِ مُجتَمِعَةً.
لَم يَكُنِ المَرءُ لِيُحسَبَ مِنَ الأثرِياءِ، ما لَم يَكُن يَملِكُ مَجموعَةً مِنَ الكُتُبِ النَّفِيسَةِ النَّادِرَةِ.
زيغرد هونكه
من كتاب
(شمس العرب تسطع على الغرب)
ترجمة: فاروق بيضون وكمال دسوقي
1. لَهفَة: رَغبة شديدة.
2. المِزاج: الطبع. المَيل.
ولد في بيت جالا عام 1890م. تخرَّجَ بمدرسة الروس بالناصرة، ثمَّ في الكلَّيّة البطريركيّة للروم الكاثوليك في بيروت. نال شهادة الحقوق وعمل قاضياً في عدد من مدن فلسطين في الجليل والجَنوب. كتب الشعر والنثر. ومن أَشهَر آثاره: (حقائق وَعِبَر) - وهي مجموعة مقالات أدبيّة واجتماعيَة. وديوان: (مشاهد الحياة) و (دقَّات القلب). وله كتاب (أدب وطرَب).
توفّي الأديب عام 1972.
بَينَما كانَ عُمَرُ بنُ الخَطّابِ قاعِداً، جاءَهُ رَجُلٌ مِن أَهلِ مِصرَ فَصاحَ: يا أَمِيرَ المُؤمِنينَ، هذا مَقامُ العائِدِ (1) بِكَ؟ فَقالَ أَعِدتَ بِمُجِيرٍ (2)، فَما شأَنُكَ؟
قالَ: سابَقتُ بِفَرَسِي ابناً لِعَمرُو بنِ العاصِ أَمِيرِ مِصرَ، فَجَعَلَ يَضرِبُنِي بِسَوطٍ (3) وَيَقُولُ: أَنا ابنُ الأكرَمِينَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ أَباهُ عَمراً، فَخَشِيّ آن آتِيَكَ فَحَبَسَنِي، فَانفَلَتُّ وَأَتَيتُكَ.
فَكَتَبَ عُمَرُ إلَى عَمرِو بنِ العاصِ: إذا أَتاكَ كِتابِي هَذا فَاشهَدَ المَوسِمَ أَنتَ وَوَلَدُكَ فُلانٌ. وَقالَ لِلِمِصرِيِّ: أَقِم حَتَّى يَأتِيَكَ.
فَأَقامَ حَتَّى قِدِمَ عمرٌو مَعَ ابنِهِ وَشَهِدَ مَوسِمَ الحَجِّ. فَلمَّا قَضَى عُمَرُ فَرضَهُ وَهُوَ قاعِدٌ مَعَ النّاسِ، وَعَمرُو بنُ العاصِ وَابنُهُ إِلَى جانِبِه رَمَى بالدّرَّة (4) إلَى المِصرِيِّ، فَأَخَذَ هَذا يَضرِبُ ابنَ عَمرو، وَلَقَد ضَرَبَهُ وَالقَومُ يَشتَهُونَ أَن يَضرِبَهُ. وَلَم يَنزِع حَتَّى أحَبُّوا أن يَنزِعَ مِن كَثرَةِ ما أَوقَعَ بِهِ، وَعُمَرُ يَقولُ:
- إضرِبِ ابنَ الأكرَمِينَ.
فَقالَ المِصرِيُّ: يا أَمِيرَ المُؤْمِنينَ، قد استَوفَيتُ وَاشتَفَيتُ.
قالَ: ضَعها عَلَى ضِلعِ عَمرو.
قالَ: يا أَمِيرَ المُؤمِنينَ؛ قَد ضَرَبتُ الّذي ضَرَبنِي.
قالَ: أمَا واللهِ، لَو فَعَلتَ بِأَبِيهِ ما مَنَعَكَ أَحَدٌ حَتَّى تَكُونَ أَنتَ الّذي تَنزِعُ.
ثُمَّ أَقبَلَ، عَلَى عمرو وَقالَ: يا ابنَ العاصِ؛ مَتَى استَّعبَدتُمُ النّاسَ، وَقَد وَلَدَتهُم أُمَّهاتُهُم أَحراراً؟؟؟
اسكندر الخوري البيتجالي
من كتابه (أدَب وَطَرَب)
1. العائِد: الملتجيء، المحتمي.
2. مُجير: مُغيث، مُنِقذ.
3. سَوط: كِرباج.
4. الدِّرَّة: السَّوط يُضرَب به.
من مواليد نابلس، ومن خِرّيجي الجامعة الأميركيّة في بيروت، وهو عالِم وأديب. وله شهرة واسعة. كتب مقالات كثيرة علميّة وأدبيّة نشر بعضها وأذاع البعض الآخر. وله عدّة كتب تشغل زاوية قيّمة من زوايا المكتبة العربيّة. منها: (مقام العقل عند العرب)، (الخالدون العرب)، (بين العلم والأدب)، (تراث العرب العلمي)- ومنه أُخِذَ هذا المقال. وفي أواخر حياته كان يدير كليّة النجاح في نابلس.
إنَّ التُّراثَ الَّذي خَلَّفَهُ الأَقدَمُونَ، هُوَ الَّذي أَوصَلَ الإنسانَ إلَى ما وَصَلَ إِلَيهِ. وَجُهُودُ فَردٍ أَو جماعَةٍ في مَياديِنِ المَعرِفَةِ تُمَهِّدُ السُّبُلَ لِظُهُورِ جُهُودٍ جَدِيدَةٍ مِن أَفرادٍ أو جَماعاتٍ أُخرَى، وَلَولا ذَلِكَ لَمَا تَقَدَّمَ الإنسانُ وَلَمَّا تَطَوَّرَتِ المَدَنِيّاتُ، لأنَّ الفِكرَ البَشَرِيَّ يَجِبُ أَن يُنظَرَ إِلَيهِ عَلَى أَنَّهُ كائِنٌ يَنمُو وَيَتَطَوَّرُ، فَأَجزاءٌ مِنهُ تَقُومُ بِأَدوارٍ مُعَيَّنَةٍ فِي أَوقاتٍ خاصَّةٍ قَد تُمًهِّدُ لأِدوارٍ أُخرَى تَأتِي بَعدَها؛ فَاليُونانُ قامُوا بِدَورِهِم فِي الفلسَفَةِ وَالعُلُومِ مَثلاً، وَكانَ هَذا الدَّورُ مُمَهّداً للِدَّورِ الَّذي قامَ بِهِ العَرَبُ، وَهُوَ الدَّورُ الَّذي هَيَّأَ الأَذهانَ وَالعُقُولَ لِلأَدوارِ الَّتي قامَ بِها الغَربِيُّونَ فيما بَعدُ. وَمَا كانَ لِأَحَدٍ مِنهُم أن يَسبِقَ الآخَرَ؛ بَل إنَّ الفَردَ كانَ يِأخُذُ عَن غَيرِهِ مِمَّن تَقَدَّمَهُ وَيَزِيدُ عَلَيهِ. فَوُجُودُ ابنٍ الهَيثَمِ (1) وَجابِرِ بنِ حَيّانَ (2) وَأَمثالِهِما كانَ مُمَهِّداً لِظُهُورِ غاليلُو (3) وَنيُوتُنَ (4). فَلَو لَم يَظهَرِ ابنُ الهَيثَم لأضطُرَّ نيُوتُنُ إلَى أن يَبدَأَ مِن حَيثُ بَدَأَ ابنُ الهَيثَمِ، وَلَو لَم يَظهَر جابِرٌ لبدَأ غاليلُو مِن حَيثُ بَدَأَ جابِرٌ.
وَإِذاً فَلَولا جُهُودُ العَرَبِ لَبَدَأَتِ النَّهضَةُ الأَورُوبّيِّةُ في القَرنِ الرّابِعَ عَشَرَ مِنَ النُّقطَةِ الَّتي بَدَأَ العَرَبُ مِنها نَهضَتَهُمُ العِلمِيَّةِ في القَرنِ الثّامِنِ لِلميلادِ.
لَقَد بَرَعَ العَرَبُ في الرِّياضِّياتِ وَأَجادُوا فيها، وَأَضافُوا إِلَيها إضافاتٍ أثارَت إِعجابَ عُلَماءِ الغَربِ وَدَهشَتَهُم.
لَقَدِ اطَّلَعَ العَرَبُ عَلَى حِسابِ الهُنُودِ وَأَخَذُوا عَنهُ نِظامَ التَّرقِيمِ بَعدَ أن هَدَّبُوهُ وَكَوَّنُوا مِن ذَلِكَ سِلسِلَتَينِ، عُرِفَت إحداهُما بِالأَرقامِ الهِندِيَّةِ وَهِيَّ الَّتِي نَستَعمِلُها اليَومَ في الشَّرقِ العَرَبِيِّ، وَعُرِفَتِ الثَّانِيَةُ بِاسمِ الأَرقامِ العَرَبَيَّةِ، وَقَدِ انتَشَرَ استِعمالُها في المَغرِبِ وَالأندَلُسِ، وَمِنها دَخَلَت إلَى أَورُبّا؛ وَهِيَ الّتِي نَعرِفُها اليَومَ بِاسمِ الأَرقامِ الإفرَنجِيَّةِ.
وَاشتَغَلَ العَرَبُ بِالجَبرِ وَأَتَوا فيهِ بِالعَجَبِ العُجابِ (5)، وَهُم أَوَّلُ مَن أَلَّفَ فيهِ بِصُورَةٍ عِلمِيَّةٍ مُنَظَّمَةٍ. وَأَوَّلَ مَن أَلَّفَ فيهِ مُحَمَّدُ بنُ مُوسَى الخُوارِزمِيُّ (6) زَمَنَ المَأمُونِ، وَكانَ كِتابُهُ في الجَبرِ مَنهَلاً استَقَى مِنهُ عُلًماءُ العَرَبِ وَالغَربِ عَلَى السَّواءِ، حَتَّى لَيَصِحُّ القَولُ: إنَّ الخُوارِزمِيَّ وَضَعَ عِلمِ الجبر وَعَلَّمَهُ، وَعِلمَ الحِسابِ لِلنَاسِ أَجمَعِينَ.
وَفي عِلمِ البَصَريّاتِ بَلَغَ العَرَبُ حَدّاً بَعِيداً. وَثَبَتَ أنَ كِبلَرَ أَخَذَ مَعلوماتِهِ في عِلمِ الضَّوءِ عَنِ ابنِ الهَيثَمِ، الَّذي قَلَبَ الأَوضاعَ القَدِيمَةَ في هَذا العِلمِ، وَأَنشَأَ عِلماً جَدِيداً هُوَ عِلمٌ الضَّوءِ الحَدِيثُ.
وَفي الكِيمِياءِ أَتَى العَرَبُ بِابتكاراتٍ وَإضافاتٍ كانَت ذاتَ أَثَرٍ كَبِيرٍ في تَكوِينِ مَدرسَةٍ كيميائِيَّةٍ هامَّةٍ. وَلَقَد عَرَفُوا عَمَلِيّاتِ التَّقطِيرِ وَالتَّرشِيحِ وَالتَّدرِيبِ، وَكَشَفُوا عَن الحَوامِض والمُرَكَّباتِ الِّتِي تَقُومُ عَلَيها الصِّناعَةُ الحَدِيثَةُ.
وَلِلعَرَبِ فَضلٌ كَبيرٌ في إنقاذِ الطِّبِّ مِنَ الضَّياعِ وَفي الإضافاتِ الَّتِي أَضافُوها إِلَيهِ، وَلَهُمُ الفَضلُ في جَعلِ الجِراحَةِ قِسماً مُنفَصِلاً عَنهُ وَفي إنشاءِ المُستَشفَياتِ.
وَهُمُ الَّذِينَ وَضَعُوا أُسُسَ الصَّيدَلَةِ. وَهُم أَوَّلُ من أَنشَأَ مَدارِسَ، وَقَدِ استَنبَطُوا أنواعاً مِنَ العَقاقِيرِ، وَامتازُوا في مَعرِفَةِ خَصائِصِها وَكَيفِيَّةِ استِخدامِها لِمُداواةِ المَرضَى، كَما أَعطَوا مِنَ النَّباتِ مَوادَّ كَثِيرَةً لِلطِّبِّ وَالصَّيدَلَةِ.
قدري طوقان
من كتابه
(العلوم عند العرب)
1. ابن الهيثم: من علماء العرب المشهورين في الرياضيّات والطبيعيّات، ولد في البصرة عام 965 وتوفّي عام . وعنه أخذ علماء الغرب كثيراً من الآراء العلميَة.
2. جابر بن حيّان: من العرب المشهورين في الكيمياء، عاش في الكوفة في القرن الثامن الميلادي.
3. غاليلو: من علماء الفيزياء والفلك المشهورين، عرف ميزان الحرارة، ولد عام 1564 وتوفّي عام 1642.
4. نيوتن: عالِم إنجليزي ولد عام 1642 وتوفّي عام 1727، وهو الذي عرف الجاذبيَة الأرضيّة. وله مقدرة كبيرة في علم الفلك.
5. العجَب العُجاب: العجَب العظيم.
6. الخوارزمي: عاش في عهد المأمون وتوفّي سنة . وله شهرة كبيرة في الحساب.
ولد في القاهرة سنة 1871. وعندما أنهَى دروسه الابتدائية عكف على المطالعة والكتابة والنظم حتَّى سنة 1911؛ حيث عُيِّنَ رئيساً للقسم الأدبي في دار الكتب المصريّة، وظَلَّ فيها الى سنة 1932؛ إذ أحيل إلى المعاش.
مؤلّفاته: (ديوان حافظ ابراهيم) في جزءَين، (ليالي سطيح)، درَّب عن الفرنسيّة كتاب (البؤساء) لفكتور هوجو.
لُقِبَ بشاعر النيل. وتوفّي في القاهرة عام 1932.
وصل رسول كسرى المدينة وهو يأمل أن يرى الخليفة عمرَ بنَ الخَطَابِ في قصرٍ منيفٍ. ولكنّه وجدَه مستلقياً في صحن المسجد، فأُعجِبَ به وقالَ:
(عَدَلتَ، فأمنتَ، فَنِمتَ):
قَد راعَ صاحِبَ كِسرَى أن رَأَى عُمَراً بَينَ الرَّعِيَّةِ عطلاً وَهوَ راعِيها (1)
وَعَهدُهُ بِمُلوكِ الفُرسِ أنَّ لَها سُوراً مِنَ الجُندِ وَالأَحراسِ يَحمِيها
رَآهُ مُستَغرِقاً في نَومِهِ فَرَأَى فيهِ الجَلالَةَ في أَسمَى مَعانيها (2)
فَوقَ الثَّرَى تَحتَ ظِلِّ الدَّوحِ مُشتَمِلاً بِبُردَةٍ كادَ طُولُ العَهدِ يُبليها (3)
فَهانَ في عَينيِهِ ما كانَ يُكبِرُهُ مِنَ الأكاسِرِ وَالدُّنيا بِأَيديها
وَقالَ قَولَةَ حَقٍ أَصبَحَت مَثَلاً وَأَصبَحَ الجِيلُ بعد الجيلِ يَروِيها
أَمِنتَ لَمّا أَقَمتَ العَدلَ بَينَهُمُ فَنِمتَ نَومَ قَريرِ العَينِ هانِيها (4)
حافظ إبراهيم
ديوان (حافظ ابراهيم)
1. راعَ: أَخافَ. العُطل: الخالي من الشيء. الراعي: المسؤول.
2. استغرقَ في النوم: نامَ نوماً عميقاً. الجَلالة: العظمة والهيبة. أَسمَى: أعلَى.
3. الثَّرَى: التراب. الدوح: الشجر العظيم. مشتمل: ملتف. البُردة: الثوب.
4. قرير العَين: مسرور، مطمئِنّ.
*264*
كانَ في إحدَى المُدُنِ النّائِيَةِ (1) مَلِكٌ جَبّارٌ (2) حَكِيمٌ. وَكانَ مَخُوفاً لِجَبَرُوتِهِ، مَحبوُباً لِحِكمَتِهِ. وَكانَ في وَسَطِ تِلكَ المَدِينَةِ بئرُ ماءٍ نَقِيّ عذبٍ، يَشرَبُ مِنها جَمِيعُ سُكّانِ المدينة مِنَ المَلِكِ وَأَعوانِهِ (3) فَما دُونَهُم، لأَنَّهُ لَم يَكُن في المَدِينَةِ بِئرٌ سِواها.
وَفِيما النّاسُ نِيامٌ في إحدَى اللَّيالِي، جاءَت ساحِرَةٌ إلَى المَدِينَةِ خُلسِةً (4)، وَأَلقَت في البِئرِ سَبعَ نُقَطٍ من سائِلٍ غَريبٍ، وَقالَت: (كُلُّ مَن يَشرَبُ مِن هَذا الماءِ فِيما بَعدُ يَصِيرُ مجنوناُ). وَفي الصَّباحِ التَّالِي شَرِبَ كُلُّ سُكَّانِ المَدِيَنَةِ مِن ماءِ البِئرِ وَجُنُّوا عَلَى نَحوِ ما قالَتِ السّاحِرَةُ. وَلَكِنَّ وَالوَزِيرَ لَم يَشرَبا مِن ذَلِكَ الماءِ.
وَعِندَما بَلَغَ الخَبَرُ آذانَ سُكّانِ المَدِينَةِ، طافوا مِن حَيٍّ إلى حَيٍّ، وَمِن زُقاقٍ إِلَى زُقاقٍ، وَهُم يتسارُّونَ (5) قائِلِينَ: (قَد جُنَّ مَلِكُنا وَوَزِيرُهُ. إنَّ مَلِكَنا وَوَزِيرَهُ قد أضاعا رُشدَهُما. إنَّنا نَأبَى (6) أَن يَملِكَ عَلَينا مَلِيكٌ مَجنونٌ. هَيّا بِنا نَخلَعهُ عَن عَرشِهِ).
وَفي ذَلِكَ المَساءِ سَمِعَ المَلِكُ بِما جَرَى، فَأَمَرَ عَلَى الفَورِ بِأن يُملأَ حُقٌّ (7) ذَهَبِيٌّ، كان قَد وَرِثَهُ عَن أَجدادِهِ مِن مِياهِ البِئرِ. فملأُوهُ في الحالِ وأحضَروهُ إِلَيهِ. فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ وَأَدارَهُ إِلَى فَمِهِ، وَبَعدَ أنِ ارتَوَى مِن مائِهِ، دَفَعَهُ إِلَى وَزِيرِهِ، فَأَتَى الوَزِيرُ عَلَى ثُمالَتِهِ (8).
فَعَرَفَ سُكّانُ المَدِينَةِ بِذَلِكَ، وَفَرِحُوا فَرَحاً عَظِيماً جِدّاً، لِأَنَّ مَلِكَهُم وَوَزِيرَهُ قَد ثابا (9) إِلَى رُشدِهِما.
من كتابه (المجنون)
1. النائية: البعيدة.
2. جَبَار: قويّ.
3. الأعوان: المساعِدون.
4. خُلسَةً: خِفيةً.
5. يتسارَون: يتحدثون بالسرَ.
6. نأبى: نرفُض.
7. الحُقّ: الوِعاء.
8. الثمالة: البقية.
9. ثابا: رجعا.
أَودَعَ رَجُلٌ مالاً عِندَ أَحَدِ التُّجَارِ، وَخَرَجَ المُودِعُ إلَى الحِجازِ، فَلَمّا رَجَعَ طَلَبَ مَالَهُ مِنَ التَّاجِرِ، فَجَحَدَه (1)، فَأَتَى إِياساً فَأَخَبَرَهُ، فَقالَ لَهُ إِياسٌ: هَل أَعلَمتَهُ أَنَّكَ أَتَيتَنِي؟ قالَ: أفنازعته عِندَ غَيري؟ قالَ: لا. قالَ: انصَرِف، وَاكتُم سِرَّكَ، ثُمَّ عُد إِلَيَّ بَعدَ يَومَينِ.
فَمَضَى الرَّجُلُ، وَدَعا إِياسٌ ذلِكَ التّاجِرَ، وَقالَ: قَد حَضَرَ عِندَنا مالٌ كَبيرٌ، أُرِيدُ أن أُسَلّمَهُ إِلَيكَ، أَفَحَصِينٌ مَنزِلُكَ؟ قالَ: نَعَم. قالَ: فَأَعِدَّ مَوضِعاً لِلمالِن وَقَوماً يَحمِلُونَهُ.
وَعادَ الرَّجُلُ إِلَى إِياسٍ، فقال لَهُ: انطَلِقِ (2) الآنَ إِلَى صاحَبِكَ، فإن أَعطاكَ المالَ، فَذاكَ، وَإن جَحَدَ فَقُل لَهُ: إِنِّي أُخبِرُ القاضِيَ بالقِصَّةِ. فَأَتَى الرَّجُلُ صاحِبَهُ فَقالَ: تُعطِينِي الوَدِيعَةَ أو أشكُوكُ إلَى القاضِيَ وَأُخبِرُهُ بِالحالِ؟ فَدَفَعَ إِلَيهِ المالَ، فَرَجَعَ الرَّجُلُ وَأَخبَرَ إياساً.
ثُمَّ جاءً التّاجِرُ إِلَى إِياسٍ ليأخُذَ المالَ المَوعُودَ بِهِ، فَزَجَرَه (3) وَقالَ لَهُ: لا تقرَبنِي بَعدَ هَذا فَقَد نَزَعتُ ثِقَتِي مِنكَ.
من كتاب (قصص العرب) ج 5
لمحمد أحمد جاد المولى
1. جَحَدَهُ: أَنكَرَهُ.
2. انطَلِق: اذهب.
3. زَجَرَهُ: انتَهَرَهُ.
كانَ الأَميرُ عِكرِمَة الفَيّاضُ والِياً لِلجَزِيرَةِ في عَهدِ الخَلِيفَةِ الأُمَوِيِّ سُلَيمانَ بنِ عَبدِ المَلِكِ. وَكانَ في إِحدَى مُدّنِ الجَزِيرَةِ رَجُلٌ يُدعَى خُزَيمَةَ بنَ بِشرٍ ذاعَ صِيتُهُ بِاللُّطف وَالكَرَمِ.
غَيرَ أَنَّ الثَّروَةَ زالَت عَنهُ إذ خَسِرَ خَسائِرَ فادِحَةً، فَتَفَرَّقَ عَنهُ أَصحابُهُ، فَأَحَسَّ أَنَّ المَوتَ أَفضَلُ مِن حالَةِ الفَقرِ، فَدَخَلَ مُخدَعَهُ وَأَقفَلَ عَلَى نَفسِهِ البابَ، بَعدَ أَن أَوصَى زَوجَتَهُ أَلاّ تَسمَحَ لِأَحَدٍ بِالدُّخولِ.
شاءَتِ الصُّدَفُ أن يَأتِيَ أَحَدُ مَن زاروا الأَميرِ عَلَى ذِكرِ خُزَيمَةَ بنِ بشرٍ، فَقالَ هذا: (لَم أَرَهُ مُنذُ زَمَنٍ طَوِيلً، فَهَل سافَرَ إلَى مَكانٍ ما؟).
- أَلَم يَبلُغكَ ما أَصابَهُ، أَيُّها الأَمِيرُ؟
- وَيحَكَ، هَل أُصِيبَ بِمَكروهٍ؟
- لَقد تَلاشَت ثَروَتُهُ فَجأَةً فَأَصبَحَ مُعدِماً. وَدَفَعَ بِهِ اليَأسُ إلىَ أَن يَحجُرَ عَلَى نَفسِهِ في مُخدعِهِ وَلا يُقابِلَ أَحَداً، حَتَّى يُوافِيَهُ المَوتُ.
- لَكِن، أَينَ أَصحابُهُ العَدِيدونَ الذينَ لَم يَنفَكَّ يُوَزِّعُ عَلَيهِمُ الأَموالَ الطّائِلَةَ؟
- لَقَد هَجَروهُ، يا سُمُوَّ الأَميرِ، خَشيَةَ أَن يَسأَلَهُم مُساعَدَةً.
في مُنتَصَف تِلكَ اللَّيلَةِ حَمَلَ الأَمِيرُ صُرَّةً فيها أربَعَةُ آلافِ دِينارٍ، وَرَكِبَ فَرَسَهُ، وَأَردَفَ أَحَدَ الخَدَمِ وَراءَهُ، وَتَوَجَّهَ إلىَ بَيتِ خُزَيمَةَ الواقِعِ في إِحدَى الضَّواحي. تَرَكَ الخادِمَ مَعَ الفَرَسِ غَيرَ بَعيدٍ عَنِ البَيتِ، وَذَهَبَ فَقَرَعَ البابَ. فَتَحَ خُزَيمَةُ البابَ بَعدَ تَرَدُّدٍ طَويلٍ، فَرَأَى رَجُلاً مُتَنَكِّراً فَلَم يَعرِفهُ. فَتَقَّدَّمَ الرَّجُلُ وَسَلَّمَهُ الصُّرَّةَ قائِلاً: (أَرجو أن يُساعِدَكَ هذا المَبلَغُ عَلَى تَخَطّي الضّائِقَةِ).
تَسَلَّمَ خُزَيمَةُ الصُّرَّةَ فَوَجدَها ثَقِيلَةً، فَوَضَعَها عَلَى الأَرضِ وَقالَ: (أُريدُ أَن أَعرِفَ مَن أَنتَ). فَأَجاب الأَمِيرُ المُتَنَكِّرُ وَهُوَ يُسرِعُ لاِمتِطاءِ فَرَسِهِ: (لَم آتِ في هذا الوَقتِ المُتَأَخِّرِ مِنَ اللَّيلِ لأِعَرِّفَكَ عَلَى نَفِسي).
عِندَما رَجَعَ عِكرِمَةُ إلَى قَصرِهِ وَجَدَ زَوجَتَهُ الأَمِيرَةَ قَدِ استَيقَظَت مِن نَومِها وَالقَلَقُ مُستَبِدُّ بِها، فَبادَرَت بِالسُّؤالِ عَنِ المَكانِ الذي ذَهَبَ إِلَيهِ في مِثلِ ذَلِكَ الوَقتِ. فَلَم يَجِد مَفَرّاً مِن أَن يُطلِعَها عَلَى الحَقِيقَةِ، وَاستحلَفَها أَلاّ تَبُوحَ بِالسِّرِّ لإَحَدٍ.
عادَ الأَمَلُ إلَى نَفسِ خُزيَمَةَ بَعدَ تَلَقِّي المَبلَغِ الكَبيرِ، وَاستَأنَفَ حَياتَهُ العادِيَّةَ، وَعادَ إِلَى مُخالَطَةِ النّاسِ. وَقَرَّرَ ذاتَ يومٍ زِيارَةَ صَديقِهِ الخَلِيفَةِ سُلَيمانَ بنِ عَبدِ المَلِكِ في الرَّملَةِ في فِلَسطِينَ. فَسُرَّ الخَلِيفَةُ بِزِيارَتِهِ، وَسَأَلَهُ: (ماذا حالَ دُونَ زِيارَتِكَ إِيّايَ قَبلَ الآنَ؟). فَأَخبَرَهُ خُزَيمَةُ عَن كُلِّ ما أَصابَهُ، وَلَم يَنسَ أَن يَذكُرَ لَهُ مَعرُوفَ الرَّجُلِ المُتَنَكِّرِ الذي جاءَهُ بِالصُّرَّةِ لَيلاً فَأَنقَذَهُ مِنَ الهَلاكِ.
بَعدَ بِضعَةِ أَيّامٍ قالَ الخَليفَةُ لِخُزيَمَةَ: ( لَقَد قَرَّرتُ أَن أُعيِّنَكَ والِياً لِلجَزِيرَةِ بَدَلاً مِن عِكرِمَةَ الفَيّاضِ. وَلَكِن، لا تَنسَ، إذا عَثَرتَ عَلَى الرَّجُلِ الذي أَحسَنَ إلَيكَ، أن تَأتِيَ بِهِ إِلَيَّ). وَأَرسَلَ أَوامِرَ لِعِكرِمَةً بِتَسِليمِ الوِلايَةِ لِخُزَيمَةَ.
عادَ خُزَيمَةُ إِلَى الجَزِيرَةِ لِيَتَسَلَّمَ الوِلايَةَ مِن عِكرِمَةَ الفَيّاضِ، وَفي أَثناءِ التَّسَلُّمِ وَالتَّسلِيمِ، اكتَشَفَ خُزَيمَةُ نَقصاً في الحِسابِ قَدرُهُ أَربَعَةُ آلافِ دينارٍ ذَهَباً فَسَأَلَ عِكرِمَةً عَنِ الوَجهِ الذي أَنفَقَ فيه هذا المَبلَغَ الكَبيرَ، فَلَم يُجِب، بَلِ التَزَمَ الصَّمتَ. فَأَمَرَ بِأَن يُلقَى في السِّجنِ حَتى يَكشِفَ عَنِ الحَقِيقَةِ.
لَم يَلقَ عِكرِمَةُ في السِّجنِ مُعامَلَةً لائِقَةً، وَعَلِمَت زَوجتَهُ الأَمِيرَةُ بِذَلِكَ، فَساءَها أن يَتَعَرَّضَ لِلِإهانَةِ عَلَى مَعرُوفِهِ، فَأَرسَلَت مَن يُطلِعُ خُزَيَمَةَ عَلَى الحَقِيقَةِ.
أَسرَعَ خُزَيَمةُ إلَى السِّجنِ، وَأَطلَقَ سَراحَ عِكرمَةَ، وَاعتذَرَ إِلَيهِ. وَفي صَباحِ اليَومِ التّالِي كانَ الإثنانِ يَقصِدانِ الخَلِيفَةَ.
دَخَلَ خُزَيمَةُ أَوَّلاً وَقالَ: (قَد تَستَغرِبُ يا مَولايَ عَودَتِي بِهَذِه السُّرعَةِ، لَكِنَّنِي عَثَرتُ عَلَى الرَّجُلِ المُتَنَكِّرَ الذي أَسدَى إِلَيَّ المَعرُوفَ). فَقالَ الخَلِيفَةُ مَسروراً: (حَسَناً، وَمَن هُوَ، وَأَيْنَ هُوَ؟). فَقالَ خُزَيمَةُ: (إِنَّهُ عِكرِمَةُ الفَيّاضُ، وَهُوَ يَنتَظِرُ في الخارِجِ).
سُرَّ الخَلِيفَةُ مِن عَمَلِ عِكرِمَةَ، وَأَمَرَ بِإِعطائِهِ مَبلَغاً كَبيراً مِنَ المالِ. فَنَظَرَ إِلَيهِ خُزَيمَةُ وَقالَ: (لا يَكفِيهِ هذا، يا مَولايَ، بَل أرجو أن تَتَكَّرَّمَ وَتُعِيدَهُ وَالياً عَلَى الجَزِيرَةِ مِثلَما كانَ).
نَزَلَ الخَلِيفَةُ عِندَ رَغبَةِ خُزَيمَةَ، وَأَعادَ تَعِيينَ عِكرِمَةَ الفَيّاضِ في مَنصِبِهِ السّابِقِ. وَرَجَعَ الرَّجُلانِ الطَّيِّبانِ إلَى الجَزِيرَةِ سَعِيدَينِ.
من كتاب (الطرائف للقراءة والاستيعاب)
ليعقوب الشاروني
كانً فارِسٌ مِنَ العَرَبِ يَجتازُ عَلَى جَوَادِهِ بادِيَةً اشتَدَّ فيها القَيظُ (1)، وَتَحَوَّلَت رِمالُها إِلَى مِثلِ الجَمرِ. فَلَقِيَ في طَرِيِقِهِ رَجُلاً يَمشِي عَلَى قَدَمَيهِ، يَنتَعِلُ تِلكَ الرِّمالَ المُحرِقَةَ. وَبَعدَ أن قَطَعَ مَسافَةً، تَرَجَّلَ (2) الفارِسُ، وَدَعا الرَّجُلَ الماشِيَ إِلَى رُكُوبِ الجَوادِ، لِيَستَرِيحَ جِسمُهُ مِنَ التَّعَبِ الَّذي أَلَمَّ بِهِ. وَكانَ الماشِي لِصّاُ من لُصُوصِ الخَيلِ، فَما تَمَكَّنَ مِن ظَهرِ الجَوادِ، حَتَّى عَدا لا يَلوِي (3) عَلَى شَيءٍ. فَناداهُ صاحِبُ الجَوادِ وَقالَ لَهُ: (لَقَد وَهَبتُ لَكَ الجَوادَ؛ فَلَن أَسأَلَ عَنهُ بَعدَ اليَومِ، ولَكِنِّي أَطلُبُ مِنكَ أَن تَكتُمَ هَذا الأَمرَ عَنِ النّاسِ، لِئَلاَ يَنتَشِرَ بَينَ قَبائِلِ العَرَبِ، فَلا يُغِيثَ القَوِيُّ الضَّعِيفَ، وَلا يَرِقَّ الرَّاكِبُ للِماشِي، فَتَزُولَ المُرُوءَةُ مِن هَذِهِ الصَّحراءِ، وَيَزُولَ بِزَوالِها أَجمَلُ ما فيها).
فَلَمّا سَمِعَ اللَّصُّ هَذا القَولَ استَحيَا، وَأَعادَ الجَوادَ إلَى صاحِبِهِ، وَلَم يَرضَ أن يَكُونَ أَوَّلَ داعٍ إلَى القَضاءِ عَلى المُرُوءَةِ بَينَ العَرَبِ.
من كتاب (القراءَة الطريفة)
لحلمي اللحّام
1. القَيظ: الحَرَ الشديد.
2. ترجَّلَ: مشى على قدميه.
3. لا يلوي: لا يلتفت.
المَيداني:
هو أبو الفضل بن محمد، توفّي عام 1124م. وهو أديب نحوي لغوي له من التصانيف: (الأنموذَج في النحو) و (شرح المفضَّليَات)، و (مجمع الأمثال)- الذي يحتوي على أكثر من ستّة آلاف مَثَل من أقوال القدماء والمولّدين، وعلى شرح يوضّح كُلَّ مَثَل.
أَحمَقُ مِن جُحا
جُحا رَجُلٌ مِن فَزارَةَ وَكانَ يُكنَى أَبا الغُصنِ. فَمِن حُمقِهِ أَنَّ عيسى بنَ موسى الهاشِمِيَّ مَرَّ بِهِ وَهُوَ يَحفِرُ بِظَهرِ الكُوفَةِ مَوضِعاً، فَقالَ لَهُ: ما لَكَ يا أَبا الغُصنِ؟
قالَ: إِنِّي قَد دَفَنتُ في هَذِهِ الصَّحراءِ دَراهِمَ وَلَستُ أَهتَدِي إلَى مَكانِها.
فقالَ عيسى: كانَ يَجِبُ أن تَجعَلَ عَلَيها عَلامَةً.
قالَ: قَد فَعَلتُ.
قالَ: ماذا؟
قالَ: سَحابَةً في السَّماءِ كانَت تُظِلُّها وَلَستُ أَرَى العَلامَةَ.
المصدر: (مجمع الأمثال)
للميداني.
أبو هلال العسكري:
هو الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري. والعسكري نسبة الى عسكر مُكرم. وهي مدينة من كنوز الأهواز. ومَكرم الذي تُنسَب اليه هو مكرم الباهلي؛ وهو أوّل مَن اختطَّها؛ كما يقول ابن خِلِّكان.
وأبو هلال العسكري صاحب كتاب الصناعتّين (الكتابة والشعر)، وكان يُجِيد الشعر. وله كتاب (جمهرة الأمثال). توفّي سنة 395 ه.
إن كُنتَ رِيحاً فَقَد لاقيتَ إعصاراً (1):
يُضرَبُ مَثَلاً يَلقَى أَقوَى مِنهُ. وَالإعصارُ: الرِّيحُ الشَّديدَةُ تُثِيرُ الغُبارَ، حَتَّى يَتَصَعَّدَ في السَّماءِ، وَالجَمعُ: الأَعاصِيرُ. وَفي القُرآنِ الكَرِيمِ: (فَأَصابَها إِعصارٌ فيهِ نارٌ فَاحتَرَقَت). (البقرة - آية 266).
المصدر: (جمهرة الأمثال)؛
لأبي هلال العسكريّ.
قَولُهُم: اطلُب تَظفَر،
وَقَولُهُم: أَلقِ دَلوَكَ في الدِّلاءِ:
يُضرَبُ في الحَثِّ عَلَى الاِكتِسابِ وَتَركِ التَّوانِي (2) في طلَبِ الرِّزِق.
المصدر: (جمهرة الأمثال)؛
لأبي هلال العسكريّ.
1. الإعصار: العاصفة الشديدة.
2. التواني: التباطؤ والكسل.
قالَت ضِفدِعَةٌ لِرَفِيقَتِها، في يَومٍ مِن أَيّامِ الصَّيفِ: (أَنا أَخشَى أَن نُزعِجَ أولِئَكَ القَومَ الَّذينَ يُقٍيمُونَ في ذَلِكَ البَيتِ، عَلَى الشَّاطِئِ، بأغنينا اللَّيلِيَّةِ).
أَجابَت رَفِيقَتُها قَائِلَةً: (حَسَنٌ؛ وَلَكِن أَلاَ تَجِدينَ أَنَّهم يُعِكّرونَ صَمتَنا أَثناءَ النَّهارِ بِثَرثَرَتِهِم؟).
قالَتِ الضِّفدِعَةُ: (يَجِبُ أن لا يَغرُبَ عَن بالِنا أَنَّنا نُكثِرُ الغِناءَ، وَنَغلُو في الإِكثارِ مِنهُ، أَثناءَ اللَّيلِ).
قالَت رَفِيقَتُها: (يَجِبُ أن لا يَغرُبَ عَن بالِنا أَنَّهُم يُكثِرُونَ الضَّجِيجَ وَالثَّرثَرَةَ، وَيُغالُونَ في اللَّغَطِ (1) أَثناءَ النَّهارِ...).
قالَتِ الضِّفدِعَةُ: (حَسَنٌ؛ فَلنَكُن أَفضَلَ مِن هَذِهِ الكائِناتِ البَشَرِيَّةِ. لِنَهدَأ في اللَّيلِ، وَلنَحتَفِظ بِأَغانِينا في قُلُوبِنا، حَتَّى وَإِن تاقَ (2) إِلَى أَنغامِنا، وَتَطَلَّعَتِ النُّجُومُ إلَى إيقاعِنا. لِنَصمُت لَيلَةً أَو لَيلَتَينِ عَلَى الأَقَلِ، وَحَتَّى ثَلاثَ لَيالٍ مُتَوالِياتٍ).
قالَت رَفيقَتُها: (حَسَنٌ جِدّاً؛ أنا أُوافِقُ. وَسَنَرَى ما سَيَنجُمُ (3) عَن طِيبَةِ قَلبِكِ).
وَمَرَّت تِلكَ اللَّيلَةُ، وَالضَّفادِعُ صامِتَةٌ. وَصَمَتَت أَيضاً في اللَّيلَةِ الَّتي تَلَت، ثُمَّ في اللَّيلَةِ الثّالِثَةِ.
وَكانَ أَغرَبُ ما جَرَى أَنَّ المَرأَةَ الثَّرثارَةَ الَّتي كانَت تُقِيمُ في البَيتِ القَائِمِ بِجانِبِ البُحَيرَةِ، نَزَلَت في اليَومِ الثّالِثِ تَتَناوَلُ فُطُورَها، وَصاحَت لِزَوجِها: (مَرَّتِ اللَّيالِي الثَّلاثُ الماضِيَةُ وَلَم أَذُق خِلالَها طَعمَ النَّومِ. لَقد كُنتُ أَغفُو عَلَى نَقِيقِ الضَّفادِعِ، وَلا بُدَّ مِن أن يَكُونَ هُنالِكَ شَيءٌ قَد حَدَثَ، فَإنّي لَم أَسمَع لَها صَوتاً مُنذُ لَيالٍ ثَلاثٍ، وَيَكادُ جُنُوني يُجَنُّ مِنَ الأرَقِ (4).
سَمِعَتِ الضِّفدِعَةُ هَذا الكَلامَ، وَدارَت نَحوَ رَفِيقَتِها، وَقالَت وَهِيَ تَغمِزُ بِطَرَفِ عَينِها: (وَنَحنُ كِدنا نُجَنُّ مِنَ الصَّمتِ. ألَم نَكَد نُجَنُّ؟). أَجابَت رَفِيقَتُها: (بَلىَ؛ كانَ صمتُ اللَّيلِ ثَقِيلاً عَلَينا. وَقَد أَصبَحَ في مُستَطاعِيَ الآنَ أَن أُدرِكَ، أن لا حاجَةَ إلَى الإِنقِطاعِ عَنِ الغِناءِ، تَرفيهاً عَن أولَئِكَ الَّذينَ يَملأُونَ فَراغَ نُفُوسِهِم بِالضَّجِيجِ).
من كتابه (التائه)
1. اللَّغَط: الأصوات المُبهَمة التي لا تُفهَم. والمراد هنا الضجيج.
2. تاقَ: اشتاق.
3. ينِجُم: ينتُج.
4. الأَرَق: عدم النوم.
مِسكَوّيهِ:
هو أبو عليّ أحمد بن محمّد مسكويه المعروف بالخازن لأنّه كان كاتباً وخازناً عند الملك عضّد الدولة.
التقّى مسكويه بابن سينا مِراراً وتناقَشا في عدد من الأمور الفلسفيّة. ومات مسكويه وقد طَعَنَ في السنّ عام 1030م.
من مؤلّفاته: كتاب (تجارب الأمم)، (الحكمة الخالدة) الذي يحتوي على شَتَّى الحِكَم المنسوبة إلى اليونان والفُرس والروم وغير ذلك.
- مِن حِكَمِ العَرَبِ: قالَ رَسولُ اللهِ (صلعم): (فَضلُ العِلمِ خَيرٌ مِن فَضلِ العِبادَةِ).
- سُئِلَ أَفلاطون: لِمَ كُلَّما عَلِمتُم كانت عِنايَتُكُم بِالتَّعَلُّمِ أَشَدَّ؟
قالَ: لإنّا كُلَّما ازدَدنا معرفة، ازددنا مَعرِفَةً بِمَنفَعَةِ العِلمِ.
المصدر: (الحكمة الخالدة)؛
لمِسكَوَيِه.
من حِكَمِ عبد الله بن المقفَّع
حَقَّ عَلَى العاقِلِ أن يَتَّخِذَ مِرآتَينِ، فَيَنظُرَ مِن إحداهُما في مساؤِئِ نَفسِهِ، فَيَتَصاغَرَ بِها، وَيُصلِحَ ما استَطاعَ منها، وَيَنظُرَ مِنَ الأُخرَى في مَحاسِنِ النّاسِ، فَيُحَلِّيَهُم بِها، وَيَأخُذَ ما استَطاعَ مِنها.
المصدر: (الأدب الصغير)،
المنسوب لابن المقفَّع.
أَقوالٌ في البخل والجُود
قالَ رَسولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: اليَدُ العُليا خَيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفلَى.
وَقالَ: ما عالَ مَنِ اقتَصَدَ.
قالَ عَلِيُّ بنُ أَبي طالِبٍ: كُن سَمِحاً (1) وَلا تَكُن مُبَذِّراً، وَكُن مُقَدِراً (2) وَلا تَكُن مُقَتِّراً (3).
المصدر: (لُباب الآداب)؛
لأُسامة بن منقذ.
في الكلام والصمت
قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: رَحِمَ اللهُ امرءاً قالَ خَيراً فَغَنِمَ، أو سَكَتَ فَسَلِمَ.
المصدر: (الحكمة الخالدة)؛
لمسكويه.
1. السَّمِح: الكريم.
2. المقدّر: المعتدِل.
3. المقتّر: البخيل. الذي يضيّق في النفقة.
أقوال مأثورة من التراث العبري
أقوال لشالوم عليخم
المَنطِقُ وَالنَّومُ يَتَأَخَّرانِ دائِماً في المَجيءِ.
الكَعكُ في الحُلمِ هُوَ حُلمٌ لا كَعكٌ.
الفَقرُ لَيسَ عيباً، وَهُوَ كَذّلِكَ لَيسَ شَرَفاً عَظِيماً.
لا تَرمِيمَ لِقِدرٍ مَثقُوبَةٍ.
الثَّمَرُ يَدُلُّ عَلَى الشَّجَرِ.
ها هِيَ المائِدَةُ وَها هِيَ الأَطاييبُ، وَلَكِن أَينَ الفَمُ الذي يَأكُلُ؟
الإنسانُ يَرَى جَمِيعَ الرُّقَعِ إلاّ رُقَعَ مَلابِسِهِ.
إذا لَم يَكُن طَحِينٌ، فَمِن أَينَ نَأتِي بِالرغِيفِ؟
مَن كَدَحَ في وَجبَة فَهُوَ الذي يَأكُلُها.
مَن يَملِك رَغِيفاً في سَلَّتِهِ يَجِب عَلَيهِ أَلاّ يَنظُرَ إلَى كَعكِ الغَيرِ
المصدر: (مَجَلَّتِي) العدد الأول 1984؛
السنة التاسعة، تشرين الأوّل- 1985
شالوم عليخم:
ولد الأديب شلوم عليخم في روسيا سنة لعائلة يهوديّة متدينّة. نبغ في الأدب، وألَّفَ عشرات الكتب الأدبيّة بالإديش. وصف فيها حياة الجاليات اليهوديّة في شرقيّ أوروبا. منها قصّة (طوفيا بائع الحليب)- التي كانت أساس الفيلم المشهور (عازف على السطح).
معظم كتَبه تُرجِمَ إلى اللغة العبريّة وإلى لغات عالَميّة أخرى.
توفّي في أمريكا عام 1916 إثرَ مرض عضال.
أقوال لأحاد هعام
العَقلُ وَحدَهُ هُوَ كُلُّ الإنسانِ
أَسَمِعتُم بِأَنَّ ابناً تَرَكَ أُمَّهُ لأَنَّهُ وَجَدَ وَالِدّةً خَيراً مِنها؟
مَن قَدِمَ إِلَى رُبُوِعِنا- أَخُونا هُوَ.
لا يُمِكنُ تَحطِيمُ البِرمِيلِ وَحِفظُ شَرابِهِ.
لَيسَتِ اللُّغَةُ إِلاّ مِرآةً لِلحَياةِ.
إِنَّ العَباقِرَةَ وَأفَكارَهُم مُلكُ العالَمَ أَجمَعَ.
خَيرُ التَّعليمِ هُوَ ما يُوصِلُ إِلَى المَحَبَّةِ.
حَيثُ يَكونُ العَمَلُ تَكونُ الحَياةُ.
البِطالَةُ طَرِيقُ المَوتِ.
الإبتِداءُ نِصفُ العَمَلِ.
المصدر: (مجلَّتي)- العدد الأوّل 1974؛
السنة الثامنة، تشرين الأوّل- 1984
أحاد هعام:
ولد الأديب أحاد هعام في مدينة كييف في روسيا عام 1856. له العديد من المؤلفات الأدبيّة النثريّة التي جُمِعَت في أربعة مجلّدات. وقد عَكَسَ فيها ذكرياته أثناء الدراسة الجامعيّة وتَجواله في أقطار العالَم.
كان أحاد هعام أحد كبار مفّكري الحركة الصهيونية، وناقداً اجتماعياً متعمّقاً. وهو صاحب المجلّة الشهريّة الأدبيّة الاجتماعية (شيلوح).
قدم الى البلاد عام 1922، وتوفّي فيها عام 1927.
عبد الله بن المقفَّع (724- 760):
ابن المقفَّع من أبناء الفرس المستعربين. نشأ في البصيرة، وأسلَمَ في عهد العبّاسيين، فسُمّيَ عبد الله، وكُنّيَ أبا محمد. إلاّ أنّه ظَلَّ متَّهَماً بالمَيل إلى المَجوسيّة والزندَقة.
نقل كتاب (كليلة ودمنة) الى العربيّة. ومن كتُب ابن المقفّع (الأدَب الصغير) و (الأدرب الكبير)- والكتابان يحتويان حِكَماً في الصداقة والسلطان وما الى ذلك.
- اَلمَثَلُ قِصَّةٌ خُرافِيَّةٌ، كَثيراً ما تَدُورُ عَلَى ألسِنَةِ البَهائِمِ وَالطَّيرِ، وَتَهدِفُ إِلَى تَعلِيمِ الحِكمَةِ، وَإِصلاحِ الفَسادِ في المُجتَمَعِ البَشَرِيِّ.
- في القَصَصِ الخُرافِيّ، كَما في سائِرِ القَصَصِ، قُوَى مُتَصارِعَةٌ تَقُومُ المُتعةُ عَلَى صِراعِها؛ فَهِيَ تَتَحَرَّكُ في جَوٍّ مُلائِمٍ، وَتَشتَدُّ حَرَكَتُها باشِتدادِ صِراعِها؛ إِلَى أن تَتَأَزَّمَ الحالُ، ثُمَّ تَنحَلَّ العُقدَةُ شَيئاً فَشَيئاً، وَتَرتاحَ النُّفُوسُ إلَى النَّتيجَةِ.
زَعَمُوا أَنَّهُ كانَ أَسَدٌ في أَجَمَةٍ (1)، وَكانَ مَعَهُ ابنُ آوَى يَأكُلُ من فَضَلاتِ طَعامِهِ. فَأَصابَ الأَسَدَ جَرَبٌ، وَضَعُفَ شَدِيداً وَجُهٍدَ، فَلَم يَستَطِعِ الصَّيدَ. فَقَالَ لَهُ ابنُ آوَى: (ما بالُكَ يا سَيِّدَ السِّباعِ، قَد تَغَيَّرَت أحوالُكُ؟). قالَ: (هَذا الجَرَبُ الَّذِي قَد جَهَدَنِي، وَلَيسَ لَهُ دَواءٌ إِلاّ قَلبُ حِمارٍ وَأُذُناهُ). قالَ ابنُ آوى: (ما أَيسَرَ هَذا؛ وَقَد عَرَفتُ بِمَكانِ كَذا حِماراً مَعَ قَصّارٍ (2) يُحَمِّلُ عَلَيهِ ثِيابَهُ، وَأَنا آتِيكَ بِهِ).
ثُمَّ دَلَفَ (3) إِلَى الحِمارِ، فَأَدناهُ وَسَلَّمَ عَلَيهِ، وَقالَ لَهُ: (ما لِي أراكَ مَهزُولاً؟). قالَ: (لِسُوءِ تدبير صاحِبِي، فَإِنَّهُ لا يَزالُ يُجِيعُ بَطنِي وَيُثقِلُ ظَهرِي.
وَما تَجتَمِعُ هاتانِ الحالَتانِ عَلَى جِسمٍ إِلاّ أنحَلَتاهُ وَأسقَمَتاهُ). فَقالَ لَهُ: (كَيفَ تَرضَى المُقامَ مَعَهُ عَلَى هذا؟). قالَ: (ما لِي حِيلَةٌ لِلهَرَبِ مِنهُ؟ فَلَستُ أَتَوِجَّهُ إِلَى جِهَةٍ إلاّ أَضَرَّ بِي إِنسانٌ فَكَدَّنِي (4) وأجاعَنِي). قالَ ابنُ آوّى: (فِأَنا أَدُلُّكَ عَلَى مَكانٍ مَعزُولٍ عَنِ النّاسِ، وَلا يَمُرُّ بِهِ إِنسانٌ، خَصِيبِ المَرعَى، فِيهِ عانَةٌ مِنَ الحُمُرِ (5) تَرعَى آمِنَةً مُطمَئِنَّةً). قالَ الحِمارُ: (وَما يَحبِسُنا عَنها؟ فَانطَلِق بِنا إلَيها).
فَانطَلَقَ بِهِ نَحوَ الأَسَدِ، وَتَقَدَّمَ ابن آوى، وَدَخَلَ الغابَةً عَلَى الأَسَدِ، فَأخبَرَهُ بِمَكانِ الحِمارِ. فَخَرَجَ إِلَيهِ، وَأَرادَ أَن يَثِبَ عَلَيهِ، فَلَم يَستَطِع لِضَعفِهِ، وَتَخَلَّصَ الحِمارُ مِنهُ، فَأَفَلَتَ هَلِعاً (6) عَلَى وَجهِهِ. فَلَمّا رَأَى ابنُ آوَى أَنَّ الأَسَدَ لَم يَقدِر على الحِمارِ، قالَ لَهُ: (يا سَيِّدَ السِّباعِ، أَعَجَزتَ إلَى هَذِهِ الغايَةِ؟). فَقالَ لَهُ:
(إِن جِئتَنِي بِهِ مَرَّةً أخرَى فَلَن يَنجُوَ مِنِّي أبَداً).
فَمَضَى ابنُ آوى إلَى الحِمارِ فقالَ لهُ: (ما الَّذِي جَرَى عَلَيكَ؟ إِنَّ أَحَدَ الحُمُرِ رَآكَ غَرِيباً، فَخَرَجَ يَتَلَقّاكَ مُرَحِباً بِكَ، وَلَو ثَبَتَّ لآنَسَكَ وَمَضَى بِكَ إِلَى أصحابِهِ). فَلَمّا سَمِعَ الحِمارُ ذَلِكَ، وَلَم يَكُن رَأَى أَسداً قَطُّ، صَدَّقَ ما قالَهُ ابنُ آوَى، وَأَخَذَ طَرِيقَهُ إلَى الأَسَدِ. فَسَبَقَهُ ابنُ آوَى إلىَ الأسَدِ، وَأَعلَمَهُ بِمَكانِهِ، وَقالَ لَهُ: (استَعِدَّ لَهُ، فَقَد خَدَعتُهُ لَكَ، فَلا يُدرِكَنَّكَ الضَّعفُ في هَذِهِ النَّوبَةِ (7)، فَإنَّهُ إن أَفلَتَ لَن يَعُودَ مَعِي أبَداً، وَالفُرَصُ لا تُصابُ في كُلِّ وَقتٍ). فَجاشَ جَأشُ الأَسَدِ (8)، لِتَحرِيضِ ابنِ آوى لَهُ. وَخَرَجَ إلَى مَوضِعٍ الحِمارِ؛ فَلَمّا بَصُرَ بِهِ عاجَلَهُ بِوَثبَةٍ افتَرَسَهُ بها.
ثُمَّ قالَ: (ذَكَرَتِ الأَطِبّاءُ أَنَّهُ لا يُؤكَلُ إلاَ بَعدَ الإغتِسالِ وَالطُّهُورِ. فَاحتَفِظ بِهِ حَتَّى أَعُودَ، فَآكُلَ قَلبَهُ وَأُذُنَيهِ، وَأَترُكَ ما سِوَى ذَلِكَ قُوتاً لَكَ). فَلَمّا ذَهَبَ الأَسَدُ لِيَغتَسِلَ، عَمَدَ ابنُ آوَى إلى الحِمارِ، فَأَكَلَ قَلبَهُ وَأذُنَيهِ، رَجاءَ أن يَتَطَيَّرَ (9) الأَسَدُ مِنهُ، فَلا يَأكُلَ مِنهُ شيئاً. ثُمَّ إنَّ الأَسَدَ رَجَعَ إلى مَكانِهِ، فقالَ لابنِ آوى: (أين قلبُ الحِمارِ وَأُذُناهُ؟). قالَ ابن آوى: (أَلَم تَعلَم أَنَّهُ لَو كانَ لَهُ قَلبٌ يَعقِلُ بِهِ، وَأُذُنانِ يَسمَعُ بِهِما، لَم يَرجِع إلَيكَ بَعدَ ما أَفلَتَ وَنَجا مِنَ الهَلَكَةِ)؟
ابن المقفَّع
كليلة ودمنة
1. الأجَمَة: الغابة. الشجر الكثير الملتّفْ.
2. القَصّار: مُحَوِّر الثياب، أي مُبيِّضها.
3. دَلَفَ: مَشَى. وأصلها مشى متقارب الخَطو كَالمُقَيَد.
4. كَدَّني: أتعَبَني.
5. العانَة من الحُمُر: القطيع من حُمُر الوَحش.
6. الهَلِع: الجَزِع والخائف.
7. النوبة: المَرَّة.
8. جاشَ جأشه: حَمِيَت نفسه. والجأش - القُوَّة.
9. يَتَطَيَّر: يَتَشاءَم.
قَالَ أَحَدُّ التُّجّارِ:
قَصَدتُ الحَجَّ في بَعضِ الأَعوامِ، وَكانَت تِجارَتِي عَظِيمَةً، وَأموالي كَثِيرَةً، وَكانَ فِي وَسَطِي هِميانٌ (1) فِيهِ دَنانِيرُ وَجَواهِرُ قَيِّمَةٌ. وَكانَ الهِميانُ مِن دِيباجٍ أَسوَدَ.
فَلَمّا كُنتُ بِبَعضِ الطَّرِيقِ نَزَلتُ لِأَقضِيَ بَعضَ شَأِني، فَانحَلَّ الهِميانُ مِن وَسَطِي، وَسَقَطَ وَلَم أَعلَم بِذَلِكَ، إِلاّ بَعَد أَن سِرتُ عَنِ المَوضِعِ فَراسِخَ، وَلِكنَّ ذَلِكَ لَم يَكُن يُؤَّثِّرُ في قَلبِي لِمَا كُنتُ أَحتَوِيهِ مِن غِنَّى. وَاستَخلَفتُ ذَلِكَ المالَ عِندَ اللهِ؛ إذ كُنتُ فِي طَرِيقي إلَيهِ تَعالَى.
وَلَمّا قَضَيتُ حِجَّتي وَعُدتُ، تَتَابَعَتِ المِحَنُ عَلَيَّ حَتَّى لَم أَملِك شَيئاً. فَهَرَبتُ عَلَى وَجهِي مِن بَلَدِي. وَلَمّا كَانَ بَعدَ سِنينَ مِن فَقرِي، أَفضَيتُ إِلَى مَكانٍ وَزَوجي مَعي، وَما أَملِكُ في تِلكَ اللَّيلَةِ إِلاّ دَانِقاً وَنِصفاً. وَكانَتِ اللَّيلَةُ مَطِيرَةً، فَأَوَيتُ فِي بَعضِ القُرَى إِلَى خانٍ خَرابٍ، فَجاءَ زَوجِيَ المَخاضُ فَتَحَيَّرت، ثُمَّ وَلَدَت فَقالَت: يا هَذا، السّاعَةَ تَخرُجُ رُوحِي، فاتّخِذ لِي شَيئاً أَتَقَوَّتُ بِهِ.
فَخَرَجتُ أَخبِطُ في الظُّلمَةِ وَالمَطَرِ، حَتَّى جِئتُ إلَى بَدّالٍ (2) فَوَقَفتُ عَلَيهِ، فَكَلَّمَنِي بَعدَ جُهدٍ، فَشَرَحتُ لَهُ حالِي، فَرَحِمَنِي وَأَعطانِي بِتِلكَ القِطَعِ حُلبَةً وَزَيتاً وَأغلاهُما، وَأَعارَني إناءً جَعَلتُ ذَلِكَ فِيهِ، وَجِئتُ أُريدُ المَوضِعَ، فَلَمّا مَشَيتُ بَعِيداً مِنَ الخانِ زَلِقَت رِجلِي، وَانكَسَرَ الإناءُ وَذَهَبَ جَمِيعُ ما فيهِ، فَوَرَدَ عَلَى قَلبِي أَمرٌ عَظِيمٌ مَا وَرَدَ عَلَيَّ مِثلُهُ قَطُّ. فَأَقبَلتُ أَبكِي وَأُصِيحُ. وإِذا بِرَجُلٍ قَد أَخرَجَ رَأسَهُ مِن شُبَاكِ دارِهِ وَقالَ: وَيلَكَ. ما لَكَ تَبكِي؟ ما تَدَعُنا نَنامُ.
فَشَرَحتُ لَهُ القِصَّةَ، فَقَالَ: يا هَذا؛ البُكاءُ كُلُّهُ بِسَبَبِ دانِقٍ وَنِصفٍ؟
قالَ: فَداخَلَنِي مِنَ الغّمِّ أَعَظمُ مِنَ الغَمِّ الأوَّلِ، فَقُلتُ: يا هَذا؛ وَاللهِ ما عِندِي شَيءٌ لِما ذَهبَ مِنِّي؟ وَلَكِنَّ بُكائِي رَحمَةً لِزَوجِي وَلِنَفسِي؛ فَإنَّ امرِأَتِي تَمُوتُ جُوعاً. وَوَاللهِ لَقَد حَجَجتُ في سَنَةِ كَذا وكَذا وَأَنا أَملِكُ مِنَ المالِ شَيئاً كَثِيراً، فَذَهَبَ مِنِّي هِميانٌ فِيِه دَنانِيرُ وَجَواهِرُ تُساوِي ثَلاثَةَ آلافِ دِينارٍ، فَما فَكَّرتُ فِيهِ، وَأَنتَ تَرانِيَ السّاعَةَ أَبكِي بِسَبَبِ داِنقٍ وَنِصفٍ، فَأسأَلِ اللهَ السَّلامَةَ وَلا تُعايِرنِي فَتُبلَى بِمِثلِ بَلوايَ. قالَ: فَقالَ لِي: بِاللهِ يا رَجُلُ ما كانَت صِفَةُ هِميانِكَ. فَأقبَلتُ أبَكِي وَقُلتُ: مَا يَنفَعُنِي ما خاطَبتَنِي بِهِ، أو ما يَكِفينِي ما تَراهُ مِن جُهدِي وَقِيامِي في المَطَرِ حَتَّى تَستَهزِئَ بِي أَيضاً؟ وَما يَنفَعُنِي وَيَنفَعُكَ مِن هِميانِي الَّذي ضَاعَ مُنذُ كَذا وَكَذا؟
قالَ: وَمَشَيتُ فَإِذا بِالرَّجُلِ قَد خَرَجَ وَهُوَ يَصِيحُ بِي: خُذ يا هَذا. فَظَنَنتُهُ يَتَصَدَّقُ عَلَيَّ، فَجِئتُ وَقُلتُ لَهُ: أَيَّ شَيءٍ تُرِيدُ؟ فَقالَ لِي: صِف هِميانَكَ. وَقَبَضَ عَلَيَّ، فَلَم أَجِد لِلخَلاصِ سَبِيلاً غَيرَ وَصفِهِ لَهُ، فَوَصَفتُهُ، فَقالَ لِي: ادخُل. فَدَخَلتُ، فَقَالَ: أَينَ امرَأَتُكَ؟ قُلتُ: فِي الخانِ. فَأرسَلَ غِلمانَهُ فَجاءُوا بِها، وَأُدخِلَت إلَى حَرَمِهِ، فَأصلَحُوا مِن شَأنِها وَأطعَمُوها كُلَّ ما تَحتاجُ إِلَيهِ، وَجاءُونِي بِجُبَّةٍ وَقمِيصٍ وَغِمامَةٍ وَسَراوِيلَ، وَأُدخِلتُ الحَمّامَ سَحَراً، وَطَرَحَ ذَلِكَ عَلَيَّ، وَأَصبَحتُ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ. وَقالَ: أِقِم عِندِي أَيّاماَ. فَأَقَمتُ عَشَرَةَ أَيّامٍ كانَ يُعطِينِي فِي كُلِّ يَومٍ عَشَرَةَ دَنانِيَر، وَأَنا مُتَحَيّرٌ فِي عِظَمِ بِرِّهِ بَعدَ شِدَّةِ جَفائِهِ.
فَلَمّا كَانَ بَعدَ ذَلِكَ قالَ لِي: فِي أَيِّ شَيءٍ تَتَصَرَّفُ؟ قُلتُ: كُنتُ تاجِراً. قالَ: َفِلي غَلاتٌ وَأَنا أُعطيكَ رَأسَ مالٍ تَتَّجِر فِيهِ وَتُشرِكُنِي. فَقُلتُ: أَفعَل فَأخرَجَ مِائَتَي دِينارٍ. فَقالَ: خُذها وَاتّجِر فيها ها هُنا. فَقُلتْ: هَذا مَعاشٌ قَد أَغناني بِه اللهُ يَجِبُ أَن أَلزَمَهُ فَلزِمتُهُ.
فَلَمّا كانَ بَعدَ شُهُورٍ رَبِحتُ فَجِئتُهُ وَأَخَذتُ حَقِّي وَأَعطَيتُهُ حَقَّهُ فَقالَ: اجلِس، فَجَلَستُ، فَأَخرَجَ لِي هِيميانِي بِعَينِهِ، وَقالَ: أَتعرِفُ هَذا؟ فَحِينَ رَأيتُهُ شَهَقتُ وَأُغمِيَ عَلَيَّ، فَما أَفَقتُ إِلَا بَعدَ ساعَةٍ. ثُم قُلتُ لَهُ: ما هَذا، أَمَلَكٌ أَنتَ أَم نَبِيٌّ؟ فَقالَ: أَنا أَحفَظُهُ مُنذُ كَذا وَكَذا سَنَةً، فَلَمّا سَمِعتُكَ تِلكَ اللَّيلَةَ تَقُولُ ما قُلتَهُ، وَطَلَبتُكَ بِالعَلامَةِ فَأعطَيتَها، أَرَدتُ أَن أُعطِيَكَ لِلوَقتِ هِميانَكَ، فَخِفتُ أَن يُغشَى عَلَيكَ، فَأعطَيتُكَ تِلكَ الدَّنانِيرَ الَّتي أَوهَمتُكَ أَنَّها هِبَةٌ، وَإِنَّما أعطَيتُكَها مِن هِميانِكَ، فَخُذ هِميانَكَ وَاجعَلنِي في حِلٍّ، فَشَكَرتُهُ وَدَعَوت لَهُ.
وَأَخَذتُ الهِميانَ، وَرَجَعتُ إِلَى بَلَدِي، فَبِعتُ الجَوهَرَ، وَضَمَمت ثَمَنَهُ إِلَى ما مَعِي، وَاتَّجَرتُ، فَما مَضَت إِلاّ سَنَواتٌ حَتَّى صِرتُ صاحِبَ عَشَرَةِ آلافِ دِينارٍ وَصَلُحَت حالِي.
من كتاب (قصص العرب) ج5
لمحمد أحمد جاد المولى
1. الهِميان: محفظة من جِلد.
2. البَدّال: البَقّال، بائع المأكولات.
أديب وروائي لبناني، له آثار مطبوعة؛ منها: (ثورة بَيدَبا). وقد كتَبَ الشعر والنثر على السَّواء.
(الأَميرُ في فِناءِ (1) مَنزِلهِ في المَدينَةِ، وَمَعَهُ المُهِّرجُ أَشعَبُ المُلَقَّبُ بِالطَّمَاعِ، وَمُرافِقٌ يُقالُ لَهُ ابنُ فَضلٍ).
الأَمير: قاتَلَكَ اللهُ يا أَشعَبُ؛ شَبَّ النَّهارُ وَلَم تَظفَر بِما يَكفُلُ لَنا زادَنا اليَومِيَّ مِنَ الضَّحِكِ.
أشعب: لا بُدَّ أن يَسُوقَ اللهُ إلَينا رِزقَنا، فَلا تَعجَل أيُّها الأَمِيرُ.
ابن فضل: إنَّكَ أَيُّها الأمِيرُ لَشَغُوفٌ (2) بِالضَّحِكِ.
الأمير: هُوَ شَرابٌ لِلعافِيَةِ يُرَطِّبُ الحَلقَ وَيُنّشِّطُ النَّفسَ، فَكَيفَ لا أُشغَفُ بِهِ؟
أشعب: (يُطِلُّ عَلَى الطَّرِيقِ فَيَرَى أَعرابِيّاً وَجَمَلَهُ مُقبِلَينِ، فَيَقُولُ) يَبدُو لِي أَنَّنا وَقَعنا عَلَى صَيدٍ صالِحٍ.
ابن فضل: (مُتَطاوِلاً بِعُنُقِهِ إِلَى الطَّرِيق) مَا أَعجَبَ هَذا الأَعرابِيَّ.
الأمير: (مُتَطاوِلاً بِعُنُقِهِ أَيضاً) قاتلَهُ اللهُ ما أَغضَبَهُ؛ يَتَلَظَّى (3) كَأَنَّهُ أَفعّى، وَتُقرَأ حُرُوفُ الشَّرِّ عَلَى قَسَمَاتِ (4) وَجهِهِ. انظُر إِلَيهِ كَيفَ َيشتُمُ جَمَلَهُ وَيَنهَرُ مَن دَنا مِنهُ.
أشعب: أَقُولُ لَكَ ادعُهُ إلَينا أَيًّها الأمِيرُ. إِنَّهُ لَصَيدٌ صالِحٌ لِلضَّحِكِ. سَنُساوِمُهُ عَلَى جَمَلِهِ، وَعَهدِي بِكَ عِندَكَ صُرَّةٌ مِن مَتاعٍ رَثٍ قَدِيم. فَنَدفَعُ لَهُ ثَمَنَ الجَمَلِ مِن هَذا المَتاعِ، وَنَرَى ما يَكُونُ مِن أَمرِهِ.
(الأمير يوافق. أشعب يمضي لحظةً ويعودُ بِالأَعرابِيّ وَقد تركَ جملَهُ مربوطاً بالبابِ على مَرأى من أَهلِ المجلس).
الأعرابيّ: حَيّا اللهُ الأَمِيرَ وَرَحِمَ أَباهُ.
الأمير: سَلَّمَكَ اللهُ. مِمَّن أَنتَ يا خالُ؟ لَقد أَنِستُ بِوَجَهِكَ.
الأعرابيَ: مِن بَنِي قَحطَبَةَ.
الأمير: (مُتَظاهِراً بِانطِلاقِ الأَسارِيرِ) إِذاً فَأنتَ حَقاً مِنَ الأخوالِ. حَبِيبٌ ازدادَ حُبّاً. استَرِح. (يَخرُجُ الأعرابيّ. الأمير يوجّه نظرَه إلى الجمل كأنّه يتفحّصه ثمَّ يَستأنف الكلام) مُنذُ مُدَّةٍ وَأَنا أَبحَثُ عَن جَمَلٍ كَجَمَلِكَ فَلا أَظفَرُ بِهِ عَلَى هَذِهِ الشّاكِلَةِ وَالصِّفَةِ؛ قامَةً وَصَدراً وَلَوناً وَوَركاً وَأخفافاً (5). فالحَمدُ لِلهِ الَّذي ساقَ إلَيَّ حاجَتِي. ثُمَّ الحَمدُ لِلهِ الَّذي زادَ بِأَن جَعَلَ حاجَتِي عِندَ حَبِيبٍ نَسِيبٍ. أَتَبِيعُ جَمَلَكَ يا خالُ؟
الأعرابيّ: أَهلَكَهُ اللهُ إن لَم يَكُن لِلبَيعِ وَالشِّراءِ، أَيُّها الأَمِيرُ.
الأمير: (فَوراً) فَليَكُن لَكَ بِهِ مِائَةُ دِينارٍ.
الأعرابيَ: (يَفهَمُ أَنَّ جَمَلَهُ لا يُساوي عَشَرَةَ دَنانِيرَ، فَيَنتَفِخُ، وَيَظهَرُ الطَّمَعُ واَلسُّرُورُ فِي مُحَيّاهُ وَيُجِيبُ) أَقلَلتَ أَيُّها الأَمِيرُ. وَلَكِن لا تَصِحُّ بَينَنا مُساوَمَةٌ.
الأمير: (يَميلُ على أشعبَ وَيقولُ بِصَوتٍ شَديدِ الإنِخفاضِ) إِنَّ خالِي هَذا لَمِن أَهلِكَ. إِنَّهُ طَمّاعٌ مِثلُكَ. فَقابِلهُ بِما عِندَكَ، وَأوسِع لَهُ.
(أشعب يَهُزُّ رأسَه بِجِدٍّ وَوَقارٍ).
الأمير: (يَعُودُ فَيَلتَفِتُ إلَى الأعرابِيِّ مُخاطِباً) قَد تَعلَمُ يا خال أَنَّ جَمَلَكَ هَذا لا يُساوي إلاّ سِتِّينَ دِيناراً. غَيرَ أَنِّي زدتُكَ أَربَعينَ دَيناراً وَأَنا عَلَى بَصِيرَةٍ (6) بِما أَفعَلُ. فَالنَّقدُ عِندَنا قَلِيلٌ. فَإذا قَبِلتَ أَعطَيتُكَ مَتاعاً يُساوِي مِائَةً وَفَوقَ.
الأعرابيّ: (يَشتَدُّ ظُهُورُ الطَّمَعِ في مُحَيّاهُ وَتَلمَعُ عَيناهُ لَمَعاناً خَبِيثاً) قَد تَعلَمُ أَيُّها الأَمِيرُ أَنَّنِي أُوِثِرُ الدَّنانِيرَ. وَلّكِن لا طاقةَ لِي أَن أَحبِسَ عَنكَ الجَمَلَ وَأَنتَ تُرِيدُهُ. فَلا بَأسَ بِأَن تُؤَدِّيَ إِلَيَّ ثَمَنَهُ مَتاعاً كَما قُلتَ.
الأمير: (لِأشعب) إِذَاً قُم فَجِئنِي بِالصُّرَّةِ الَّتِي تَعرِفُها. وَيَعلَمُ اللهُ أَنَّنِي ما كُنتُ لِأفارِقَ شَيئاً مِنها لَولا هَذا الخالُ الكَرِيمُ وَجَمَلُهُ.
أشعب: (يَنهَضُ فَيَغيبُ لَحظَةً وَيرجِعُ بِالصًّرَّةِ لاهِثاً مُنفَعِلاً) ها هِيَ طِلبَتُكَ أَيُّها الأَمِيُر، وَما كُنتُ عُمرِي أَتَصَوَّرُ أَنَّكَ تَرضَى بِمُفارَقَةِ شَيءٍ مِمّا فِيها.
الأمير: فُكَّها يا أَشعَبُ، وَأَخرِج ما فيها قِطعَةً قِطعَةً، وَقَوِّم (7) فَإنَّكَ خَبِيرٌ.
أشعب: (يَفُكُّ الصُّرَّةَ وَالأعرابيُّ مُتَّسِعَةٌ عَيناهُ مِن شِدَّةِ الحَملَقَةِ. يُخرِجُ أَشعَبُ عِمامَةً (8) مِن حَرِيرٍ أَشرَفَت عَلَى الزَّوالِ، تُساوِي أَربَعَةَ دَراهِمَ، ثُمَّ يَنثُرُها وَيَقُولُ) عِمامَةُ الأمِيرِ؛ شَرَّفَها بِهامَتِهِ الكَرِيمَةِ، تُعرَفُ بِهِ وَتُعَظَّمُ لِتَعظِيمِهِ. يَشهَدُ فِيها أيّامَ الجُمَعِ وَالأعيادِ وَيَلقَى الخُلفَاءَ. إن قُدِّرَ قُماشُها بِثَمَنٍ فَلا تُقَدَّرُ قِيمَةُ مَعناها. خَمسُونَ دِيناراً وَلَم أَزِد
الأمير: مِثلُكَ لا يُسَفَّهُ (9) يا أشعَبُ. ضَعها بَينَ يَدَي خالِي. وِأَنتَ كاتِبٌ يا ابنَ فَضلٍ، فَهاتِ قَلَمَكَ وَأَثبِت ثَمَنَها. (تُوضَعُ العِمامَةُ بَينَ يَدَي الأعرابِيِّ، فَتَجحَظُ (10) عَيناهُ وَهُوَ يَتَفَرَّس (11) فيها، وَيُسمَعُ لِرِيقِهِ في حَلقِهِ صَوتُ البَلعِ الغَصبِ).
أشعب: (يُدخِلُ يَدَهُ في الصُّرَّةِ وَهُوَ مُحافِظٌ عَلَى جِدِّهِ وَوَقارهِ، فَيُخرِجُ قِطعَةً وَيَنشُرُها، فَإذا هِيَ قَلَنسُوَةٌ (12) طَوِيلَةٌ مُتَحَزِّقَةٌ، خَالَطَ حَواشِيَها (13) الدُّهنُ مِنَ الوَسَخِ وَالعَرَقِ) قَلَنسُوَةُ الأَمِيرِ، تَركَبُ قِمَّةَ رَأسِهِ الشَّرِيفَةَ. يَمثُلُ بِها بَينَ يَدَي رَبِّهِ مُصلِّياً، وَيَجلِسُ بِها لِلحُكمِ وَنَصِب مِيزانِ العَدلِ. (يُفَكِّرُ قَليلاً) فَلتَكُن بِثَلاثينَ دِيناراً.
الأمير: (لإبنِ فَضل) إِنَّ أَشعَبَ يُسايِرُ خالِي كَثِيراً. لَكِنِ أكتُب.
(الأعرابيُّ يُوشكُ أَن يَنشَقَّ غَيظاً، وَيَثِبُ، غَيرَ أَنَّهُ يُمسِكُ نَفسَهُ فِي مَكانِهِ مُتَقَلقِلاً (14)).
أشعب: (يُدخِلُ يَدَهُ فِي الصُّرَّةِ وَيُخرِجُ خُفَّينِ (15) مُتَقَشِرَينِ مُتَفَتِّقَينِ وَيرفَعُ صَوتَهُ قَائِلاً) خُفَّا الأَمِيرِ. ما أَحسَنَ حَظَّكَ يا رَجُلُ. أَجَل خُفَّا الأَمِيرِ. كَرُمَا بِمُلابَسَةِ رِجلَيهِ، وَمَسَّ بِهِما تُرابُ الرَّوضَةِ الشَّرِيفَةِ، وَصَعِدَ بِهِما المِنبَرَ. فَلتَكُن بِأربَعينَ دِيناراً.
الأمير: وَيحَكَ. أنَصِف يَا أَشعَبُ وَلا تُحَمِّل ضَمِيرَكَ.
أشعب: إِنَّما أَقَوِّمُ مادَّةَ المَتاعِ، أَيُّها الأَمِيرُ؛ لا قَدرَهُ وَمَعناهُ، وَخالُكَ أَجدَرُ بِأَن يُسايَرَ.
الأمير: لا بَأسَ. (مُلتَفِتاً إِلَى ابنِ فَضلٍ) اكتُب وَانظُر ما بَلَغَ مَجمُوعُ المالِ. أَظُنُّهُ مِائَةً وَعشرِينَ دِيناراً. إِذَن فَيَبقَى لَنا عِشرُونَ دِيناراً.
ابن فضل: (يَقرَعُ سِنَّهُ بِالقَلَمِ وَيُجٍيبُ) هُو ذاكَ أَيُّها الأَميرُ.
الأمير: (لِلأَعرابِيّ) بارَكَ اللهُ في هَذا المَتاعِ يا خالُ. سَلِّمِ الجَمَلَ، وَسَأبعَثُ مَعَكَ بِخادِمٍ إِلَى السُّوقِ تُعطِيهِ ما بَقِيَ لَنا في ذِمَّتِكَ.
الأعرابِيّ: (عَيناهُ تَقدَحانِ الشَّرَرَ، وَعُرُوقُ وَجهِهِ تَهُمُّ بِالإنفِجارِ دَماً). يَنتَصِب كَأنَّ الشَّيطانَ دَخَلَ فيهِ، يَخبِطُ وَجهَ ابنِ فَضلٍ بِالعمامَةِ وَالقَلَنسُوَةِ، وَيَصِيحُ بِهِ) وَدِدتُ لَو حَطَّمتُ جُمجُمَتَكَ فَأخرَجتُ دِماغَكَ كُلًّهُ عَلَى سِنِّ هَذا القَلَمِ الَّذي كَتَبتَ بِهِ المالَ وَجَمَعتَهُ. (ثُمَّ يَلتَفِتُ إِلَى أَشعَبَ وَيقِذفُهُ بِالخُفَّينِ وَيُواصِلُ صِياحَهُ).. أَمّا أنتَ فَقَد كُنتُ أَشتَهِي أن أُعَلِّقَ في عُنُقِكَ هَذَينِ الخُفَّينِ وَأَطوفَ بِكَ في الأسواقِ. (وَأخيراً يَلتَفِتُ إلَى الأَمِيرِ الغارِقِ في القَهقَهَةِ فَيَقُولُ لَهُ وَقَد لاحَ عَليَهِ بَعضُ الهُدُوءِ): أَصلَحَكَ اللهُ؛ زَعَمتَ في نَفسِكَ أَنتَ وَأَعوانُكَ، أَنَّنِي أَعرابِيُّ يُعبَثُ بِهِ وَيُسَخَرُ مِنهُ. أَتعلَمُ يا هذا مِن أَيِّ شَيءٍ أَمُوتُ؟ لِأَنِّي لَم أُدرِك أَباكَ حَتَّى أَقتُلَهُ إِذ وَلَدَ مِثلَكَ.
(ثُمَّ يَثِبُ وَثبَةً وَاحِدَةً إِلَى مَكانِ جَمَلِهِ فَيَفُكُّهُ وَيَجُرُّهُ وَهُوَ يَغلِي، وَالقَهقَهات تَتَبَعُهُ. لَكِنَّ القَهقَهاتِ سَرعانَ ما تَغُورُ (16)).
الأمير: ما رَأَيتُ كَاليَومِ يَوماً خُضنا فِيهِ غِمارَ الهَزلِ، فَاصطَدَمنا بِصَخرَةِ الجِدِّ.
رئيف خوري
من كتاب
(الجديد في القراءَة العربيّة:
لباسلي بيطار
1. فِناء: ساحة.
2. شَغُوف: مولَع.
3. يتلظى: يحرّك رأسه غّيظاً.
4. قَسَمات: ملامح. تقاطيع.
5. الأخفاف: جمع خُفّ؛ وهو قَدَم الجَمَل.
6. البصيرة: المعرفة والفهم.
7. قَوّم: قَدِّر الثمن والقيمة.
8. عِمامة: لَفّة.
9. يُسَقّه: يَستَخَفُّ بكلامه.
10. تجحَظ: تبرز.
11. يتفرَّس: ينظر.
12. القلَنسُوَة: غطاء الرأس.
13. الحَواشي: الأطراف.
14. متقلقل: متحرّك.
15. الخُفان: النعلان.
16. تغُور: تختفي.
*319*
ولد في قرية عبلين سنة 1932، ودرس في المدرسة الثانويّة في مدينة صفد، من الجليل. وبعد ذلك بدأ يعمل في التدريس. ومن آثاره الشعريّة: (ورد وقتاد)، (على الرصيف)، (لهب الحنين)، (فليَخجَل التاريخ) و (راسخون). وله كتب أخرى ضمَّنَها مقالات في الأدب والاجتماع والرحلات. منها: (من حقل الحياة)، (سطّر يا قلم)، (انطباعات رحلة إلى أوروبا) و (الشعر العربي في خدمة السلام).
قالُوا: ثَمِلتَ بَلا كَأسٍ وَلا راحِ فَقُلتُ: سِحرُ بِلادِي مِلءُ أَقداحِي (1)
جَليلُها شامِخٌ تَزهُو غَلائِلُهُ بِالعِطرِ مِن لَوزٍ وَتُفّاحِ (2)
وَمرجُها ناضِرٌ تَشدُو عَنادِلُهُ فَلَستَ تَسمَعُ إِلاّ شَدوَ صَدّاحِ (3)
وَغَورُها فِتنَةٌ لِلنّاظِرينَ إِذا جَنَّ الظَّلامُ وَوافَى جَيشُ أَشباحِ (4)
وَفي المُثَلَّثِ إيقاعٌ وَزَغرَدَةٌ تُوحِي بِما فِيه مِن سَعدٍ وَأَفراحِ (5)
فَكَم طَرِبتُ لِحَسُّونٍ عَلَى فَنَن وَبُلبُلٍ في رِحابِ الجَوِّ سَبّاحِ (6)
وَزَنبَقٍ يَتَجَلَّى في خَمائِلِهِ قُربَ الغَديرِ زَكِّيِ العَرفِ فَوّاحِ (7)
وَقُبَّةٍ رَصَّعَتها أَنجُمٌ زُهُرٌ وَكَوكَبٍ في ضَمِيرِ اللّيلِ وَضّاحِ (8)
وَزَورَقٍ يَتَهادَى عِندَ شَاطِئِها وَنَغمَةٍ صَدَرَت عَن أَلفِ مَلاَحِ (9)
وَالشَّمسِ إذ زَعفَرَت كُثبانَها فَبَدَت كَالتِّبرِ تَبهَرُ مَن يَرنُو بِإِلحاحِ (10)
وَبَعدُ؛ لا تَعجَبُوا مِن نَشوَتِي، فَأَنا جَعَلتُ سِحرَ بِلادِي مِلءَ أَقداحِي (11)
أَعُبُّ مِنهُ، وَلا أَنفَكُّ أَرشُفُهُ فَتَنثَنِي عَن حِياضِي كُلُّ أَتراحِي (12)
جورج نجيب خليل
من ديوانه
(لهَب الحنين)
1. ثَمِلتَ: سَكِرتَ. الراح: الخمر.
2. شامخ: مرتفع. الغَلائل: الشرائط الرقيقة التي تُلبَس تحت الثوب. يعبق: يفوح.
3. ناضر: أخضر. العنادل: جمع عندليب؛ وهو طائر حسّن الصوت. الصدّاح: المغّرد.
4. جَنَّ الظلام: انتشرَ الظلام. وافى: حضَرَ. الأشباح: الخَيالات.
5. تُوحِي: تَدُلُّ.
6. الحَسُّون: طائر حسن الصوت؛ يقال له العروس. الفنن: الغصن.
7. الخَمائل: الحدائق. العَرف: الرائحة الطيّبة.
8. رَصَّعَتها: زَيَّنَتها. وَضّاح: شديد اللمعان.
9. يتهادى: يتمايَل زهواً.
10. زَعفرَتها: صَبَغَتها بلَون الزعفران (الأصفر). الكُثبان: تِلال الرمل. التبر: اللهَب. تَبهَر: تغلب. يرنو: ينظر باستمرار.
11. النشوة: الشعور بالطرب والفرحة.
12. أَغُبُّ: أشرب. أرشف: أَمتَصَ. تَنثَني: تتراجع. الحِياض: الدِّيار. الأتراح: الأحزان.
ولد في قرية معليا عام 1931، تعلّم في مدرسة القرية الابتدائيّة، ثمَّ في ثانويّة عكا. والتحقّ بالجامعة فدرس لشهادة اللقب الأوّل الجامعي، ثمَّ الثاني، وأخيراً حصل على شهادة الدكتوراه في موضوع تاريخ الشرق الأوسط من الجامعة العبريّة بالقدس.
عمل فترة طويلة في سلك التعليم ومدير ومرشد في دار المعلّمين للعرب بحيفا. وحالياً يحاضر في جامعة حيفا.
مؤلّفاته: (المرشد في الموضوع الشامل)، (دراسة في جغرافية المدن)، (السهل الساحلي في القرن التاسع عشر)، (الأرض، الإنسان والجهد)، (القرية العربيّة الفلسطينية).
(اللهُ نُورُ السَّمَواتِ وَالأَرضِ، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشاةٍ فيها مِصباحٌ، المِصباحُ في زُجاجَةٍ، الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوكَبُ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيتونَةٍ لا شَرقِيَّةٍ وَلا غَربِيَّةٍ، يَكادُ زَيتُها يُضِيءُ وَلَو لَم تَمسَهُ نارٌ) (1).
وَهَكَذا كُرِّمَتِ الزَّيتونَةُ في القُرآنِ الكَريمِ، وَكانَتِ التَّوراةُ قَد ذَكَرَتها مِن قَبلُ. أَمّا المَسِيحِيَّونَ فَيَمسَحُونَ بِزَيتِها أَطفالَهُم ساعَةَ عِمادِهِم (2). هَذِهِ الشَّجَرَة المُبارَكَةُ كانَت وَما زَالت أَغصانُها رَمزاً للِسَّلامِ. فَهَذِهِ حَمامَةُ سَيّدِنا نُوح تَحمِلُ إلَيهِ وَهُوُ في السَّفِينَةِ غُصنَ زَيتونٍ رَمزَ انتِهاءِ غَضَبِ اللهِ عَلى الأَرضِ. أَمَّا سُكَانُ القُدسِ فَاستَقبَلُوا السَّيِّدَ المَسيحَ بِأَغصانِها يَومَ دَخَلَ المَدينَةَ قَبلَ مَوعِدِ صَلبِهِ بِأُسبوعٍ. وَما زالَ أَولادُ النَّصارَى يَحمِلونَ مَجموعَةً مِن نَفسِ الأَغصانِ يُزَيِّنونَها بِالوُرودِ وَالبَيضِ وَالبالوناتِ في مِثلِ هَذِهِ الذِّكرَى. أَمّا أُمَّهاتُنا فَيُبَخِّرن بِأَوراقِها أَبناءَهُنَّ وَحَتَّى حَيَواناتِهِنَّ إن هُنَّ ظَنَنَّ أَنَّهُم أُصِيبوا بِالعَينِ. وَالزَّيتونُ رَغمَ مُنافَسَةِ نَباتاتٍ أُخرَى لَهُ، ما زالَ يَتَصَدَّرُ النَّباتاتِ التي تُنتِجُ الزُّيوتَ النَّباتِيَّةَ كَالسُّويا وَالسّمسِمِ وَالفُستُقِ وَعَبّادِ الشَّمسِ وَغَيرِها. وَما زالَ الشَّرقُ وَبُلدانُ المُتَوَسِّطِ تُصَدِّرُ زَيتَ الزَّيتونِ مُعَلَّباً إِلَى أَرجاءِ الأَرضِ لِيُضافَ إِلَى الأَكَلاتِ المُختَلِفَةِ، بِالإِضافَةِ إِلَى كَونِهِ مادَّةً مُمتازَةً لِلمَساجاتِ وَالمَعِدَةِ الماسِكَةِ.. وَغَيرِ ذَلِكَ مِنَ الاِستِعمالاتِ النَّفسِيَّةِ وَالدّينِيَّةِ.
إِنَّ أَحرجَ حَوضِ المُتَوَسِّطِ مَلأَى بِشَجَرِ الزَّيتونِ البَرِّيِّ، يَنمو بَينَ زَميلاتِهِ الأَشجارِ الأُخرَياتِ. فَهُوَ يَنمو إلَى جانِبِ السِّندِيانِ وَالبُطمِ وَالقَندُولِ، وَيُزاحِمُها عَلَى أَخذِ غِذائِهِ مِنَ التُّربَةِ وَالهَواءِ، التي تَملأُ سُفوحَ جِبالِ بِلادِنا وَبَعضَ أَقسامِها السَّهلِيَّةِ. وَالشَّجَرَةُ البَرِّيَّةُ التي نَقَلَها الإِنسانُ، وَأَجدادُنا مِن بَينِهِم، (رُكِّبَت) مِن أَنواعٍ إِنتَقاها أَعطَتهُ ثَمَراً جَرَّبَهُ زَيتوناً وَزَيتاَ فَأَعجَبَهُ مَردُودُهُ.
وَنَسمَعَ فَلاّحِينا يَقولونَ: (هَذِهِ شَجَرَةٌ رُوِميَّةٌ). فَالزَّيتونَةُ شَجَرَةٌ تُعَمَّرُ مِئاتِ وَآلافَ السِّنِينِ. وَإِذا صَحَّ أَنَّ الرّومانَ وَالبيزَنِطِيّينَ هُمُ الذينَ غَرَسوها وَأَكثَروا مِن أَعدادِها الجَوِّيَّةِ، فَإنَّنا حافَظنا عَلَيها يَومَ أَصبَحَتِ الزِّراعَةُ جُزءاً مِن أَنِشطَتِنا الحَياتِيَّةِ، وَمِحوَراً لِحَياتِنا الاِقتِصادِيَّةِ في هَذا البَلَدِ. وَلا يَزالُ كَثيرٌ مِن قُرانا يَحمِلُ اسمَ الزَّيتونِ إِمّا تَبَرُّكاً بِهِ، وَإمّا لأّنَّ هذَهِ القُرَى أَكثَرَت مِن غَرسِهِ وَالعِنايَةِ بِهِ. فَهَذِهِ عَينُ الزَّيتونِ قُربَ صَفَدَ، زَيتا مِن قُرى نابلسَ وَطولكرم والخَليل، وبير زيت مِن قُرَى رامَ الله. لَقدِ احتَّلَّت أَشجارُ الزَّيتونِ أَكبَرَ مِساحَةٍ مِنَ الأّرضِ بَعدَ الحُبوبِ. وَحَتَّى وَقتٍ قَصيرٍ كانَتِ الشَّجَرَةَ السّائِدَةَ دُونَ باقي الأَشجارِ التَّربَوِيَّةِ. لَكِنَّ الطَّلَبَ عَلَى الحّمِضّياتِ جَعَلَها في المَرتَبَةِ الثّانِيَةِ في هَذا القَرنِ مِن حَيثُ المِساحَةُ التي تَحتَلُها في بِلادِنا.
من كتابه: (الأرض، الإنسان والجهد)
1. (الله نور السموات والأرض) أي منوّرها بالشمس والقمر (مثل نوره) أي صفته في قلب المؤمن (كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة) هي القنديل والمصباح السراج أي الفتيلة الموجودة والمشكاة الطاقة غير النافذة أي الأنبوبة في القنديل (الزجاجة كأنها) والنور فيها (كوكب دُرّيَ) أي مضئ. منسوب إلى الدُّرِّ: اللؤلؤ (شجرة مباركة زيتونة لا شرقيّا وَلا غربيّة) بل بينهما فلا يتمكن منها حَرّ ولا بّرد مُضِرِّينِ (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسه ناراً لصفائه).
2. العِماد الاسم من عَمَدَ الولَد، أي غَسَلَهُ بماء المعموديّة: وهي أوَّل أسرار الدين المسيحي.
ولدت الكاتبة القصصّية والمسرحيّة بالناصرة عام 1920، وتلقَّت علومها الابتدائيّة والثانوية في الناصرة. بقيت في حيفا حتَّى أواسط الستّينات؛ حيث انتقلّت مع زوجها القِسّ رفيق فرح إلى الضفّة الغربيّة.
من مؤلّفاتها: (عابرو السبيل)- وهو مجموعة قصصيّة. وكذلك (دروب ومصابيح)، ومسرحيّة (سِرّ شهرزاد)، وكتاب (عبير وأصداء) - وهو عبارة عن صُوَر قلميّة؛ وغير ذلك.
تَطمَئِنُّ نَفسِي عِندَ رُؤيَتِكِ أَيَّتُها الزَّيتُونةُ،
كَما تَطمَئِنُّ نَفسُ الفَتاةِ عِندَ جُلُوسِها إِلَى جَدَّةٍ حَكِيمَةٍ.
أَنتِ تَملِكِينَ سَلامَ القَلبِ الَّذي لا تُزَعزِعُهُ أَحداثُ (1) الزَّمانِ،
أَنتِ غَنِيَّةٌ بِقَناعَتِكِ،
تَتَرَبَّعِينَ في السُّهُوِل، عَفِيفَةً زاهِدَةً،
كَمَن رَأى في شَبابِهِ عِزّاً (2) وَمَجداً، وَلَن يَهُمَّهُ بَعدُ كَيفَ تَنقَضِي الأَيّامُ،
تَبعَثِينَ في نَفسِيَ الفَرَحَ. أُلاقِيكِ في سَفَرِي كَما أُلاقِي أَصدِقاءَ أَعِزّاءَ،
يَهرَعُ قَلبِي لِمُعانَقَتِكِ، وَتَتَعَلَّقُ عَينايَ بِكِ بَعدَ أَن يَمُرَّ القِطارُ.
كَم أُحِبًّ أَن أَمكُثَ عِندَكِ، لِأنَّ نَفسِيَ الحائِرَة َبِحاجَةٍ إلَى ثِقَتِكِ،
وَقَلبِيَ المُضطَرِبَ يَشتاقُ إِلَى سَلامَتِكِ،
وَوَحدَتِيَ المُخِيفَةَ تَتَعَلَّقَ بِأُنسِكِ.
جَهلِي يَحتاجُ إلَى حِكمَتِكِ، وَقَلَقِي مُتَشَبِّثُ بِهُدُوئِكِ.
تَنَتِصبِينَ أَمامِي كَأطيافٍ مِن الماضِي الجَمِيلِ،
كَرُمُوزٍ تُشِيرُ إِلَيهِ، وَرُسُلٍ آتِيَةٍ مِن عِندِهِ.
حِينَ كانَتِ الطُّفُولَةُ مُغامَرَةً سِحرِيَّةً.
حِينَ كانَت غِلالاتٍ مِنَ الفِضَّةِ تُنثَرُ عَلَى شُؤونِ الحَياةِ الرَّتِيبَةِ.
ثُمَّ أَنتِ تَنثُرِينَ عَبِيرَ المَقدِسِ في هَذِهِ الأَرضِ الحَبِيبَةِ.
أَنتِ عِندِي أَقدَسُ مِن كُلِّ الآثارِ،
لأِنَكِ حَقِيقَةٌ، حَيَّةٌ، لا تَتَظاهَرِينَ، وَلا تُبالِغينَ، وَلا تَستَعطِفِينَ،
وَلَكِن تَستَمِرِّينَ في حَدِيثِكِ عَنِ الرِّوايَةِ- الرِّوايَةِ المُقَدَّسَةِ.
نجوى قعوار فرح
من كتابها (عبير وأصداء)
1. أحداث الزمان: مصائب الزمان.
2. العِزّ: عكس الذُّلّ.
أديبة لبنانيّة، ولدت في الناصرة سنة 1895، وترعرعت في لبنان حيث تهذَّبَت ثم نزَحَت الى مصر مع ذويها. لها آثار كثيرة منها: (باحثة البادية)، (كلمات وإشارات)، (ظلمات وأشِعّة)، و (المساواة).
توفّيت الأديبة سنة 1941.
كَما تُسرِعُ المَوجَةُ الصَّغِيرَةُ إِلَى الاِختباءِ في حِضنِ أُمِّها بَعدَ مُداعَبَةِ الشّاطِئ،ِ كَذَلِكَ تَجلِسُ حَيفا في سَفحِ الكَرمِلِ. كَأَنَّها بَعدَ غَسلِ بُيُوتِها في البَحرِ ابتَعَدَت وَارتَفَعَت خَوفاً مِنَ البَلَلِ. وَمِن جَوانِبِها تَتَشَعَّب السُّبُلُ إِلَى مُختَلِفِ الأَنحاءِ، فَأسِيرُ فيها بِالتَّخّيُّلِ وَالذِّكرى.
هَذِهِ سَبِيلٌ تُحاذِي (1) شَفَةَ البَحرِ إِلَى عَكّاءَ الجَمِيلَةِ الضَّواحِي، الغَنِيَّةِ التّاريخِ. وَمِن ثَمَّ إِلَى حَديقَةِ (البَهجَةِ) أَجمَلِ حَدائِقِ تِلكَ البُقَعَةِ. وَفي جِوارِها (بُستانُ العَجَمِ) عُزلَةٌ كَبِيرِ البَهائِيِّينَ عَبّاسٍ أَفَندي، وَمِن أَحفَلِ الجَنّاتِ بِالوُرُودِ. ثُمَّ تَمتَدُّ الطَّرِيقُ وَتَتَلَوَّى، وَتَرتَفِعُ وَتنخَفِض حَتَّى (صُورَ) ابنَةِ (صَيدا) وَأُمِّ (قِرطاجَةَ).
هُنا ما زالَتِ الطَّبِيعَةُ فَتِيَّةً باسِمَةً. فِي بَساتِينِها تَتَهَدَّلُ (2) الأَثمارُ وَيَعذُبُ الجَنَى (3). وَفي فَضائِها تَنتَشِر عُطُورُ الأَزهارِ وَأرواحُ (4) جَمِيعِ مَا تُنتِجُ الأَرضُ.. وَالبَحرُ يَعزِفُ أُنشُودَتَهُ في ظِلِّ جِبالِ لُبنانَ المُضَمَّخَةِ (5) بِهَناءِ مَعناها وَحُبِّ أَبنائِها.
لَيسَ الجَبَلُ الَّذي تَستَنِدُ عَلَيهِ حَيفا القائِمَةُ أَمامِي لُبنانَ؛ بَل هُوَ الكَرمِلُ هُوَ أَكَمَةٌ مِن سِسِلَةِ الجِبالِ الُممتَدَّةِ بَينَ بِلادِ الجَليلِ وَالسّامِرَةِ. لَقد سافَرتُ في حَياتِيَ الصَّغِيرَةِ مَرّاتٍ عَلَى ظَهرِ الجَوادِ فِي ظِلِّ هَذِهِ الجِبالِ، وَاستَوعَبَت رُوحِي ما يَنطَلِقُ مِن أُشكالِها وَرَوائِحِها وَبِقاعِها وَغاباتِها وَصُخُورِها مِنَ المَعانِي وَالأَخيِلَةِ. وَلَكَم شَهِدتُ أَسرابَ الطًّيُورِ فَوقَها وَحَوالَيها مُرَفرِفَةً. وَلَكَم رَأَيتُ الأَرانبَ وَالغِزلانَ بَينَ صُخُورِها وَأشجارِها شارِدَةً.
رَأسُ الكَرمِلِ أَعلَى الرُّؤوسِ في الشَّواطِئِ السُّورِيَّةِ. وَقَد شادَ الآباءُ الكَرمِليُّونَ كَنِيسَةً عَلَى قِمَّتِهِ، قَاَم بِجِوارِها دَيرٌ يَقطُنُهُ عَشَراتٌ مِنَ الأتِقياءِ الصّالِحينَ. إِنَّها لِعُزلَةُ جَمِيلَةٌ تُطِلُّ عَلَى مَنظَرٍ بَديعِ. هُناكَ لا يُزعِجُكَ صَوتٌ مَمقُوتٌ، وَلا جَلبَةُ (6) الإجتِماع وَأَكاذيِبُهُ. بَل ما تَسمَعُهُ صَباحَ مَساءَ هُو أَناشيدُ التَّسبِيحِ وَالتَّهلِيلِ عَلَى تَوقِيعِ الأُرغُنِ الحَنّانِ. وَتَظَلُّ ابِتهالاتُ الغَسَقِ وَالضُّحَى وَالأَصِيلِ مُتَعالِيَةً نَحوَ الّذي رَفَعَ الجِبالَ وَمَرَجَ البِحارَ.
لَستُ أَدرِي أَأَنا أَشَدُّ حُبّاً لِلكَرمِلَ، أَم لِجَبَلِ الطُّورِ المُستَدِيرِ هُناكَ عَلَى صَفحَةِ مَرجِ ابِنِ عامِرٍ.
قَد تَنتَهِي أَيّامِي قَبلَ أَن أَكُونَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنَ الأَمرِ. كُلُّ هَذا يَثبُتُ في النَّفسِ عَواطِفَ رَحِيبَةً. وَكَأَنَّهُ يُوَسِّعُ التَّنَفُّسَ فِي الصَّدرِ، وَيَجتازُ بِالمَرءِ كُلِّ عاطِفَةٍ وَكُلَّ تَأَثُّرٍ وَكُلَّ إِحساسٍ بِما يَنشُرُهُ مِن أَشكالٍ وَألوانٍ وَخُطُوطٍ وَعُطُورٍ وَتَذكاراتٍ قَديمَةٍ مَجهُولَةٍ. وَسِحرُهُ الأَكبَرُ، كَسِحرِ كُلِّ مَحبوبٍ، هُوَ الشَّيءُّ الّذي لا يُعَبَّرُ عَنهُ.
عَلَى أَنَّ أَعذَبَ تَذكارٍ لَدَيَّ مِن هَذا المِيناءِ، هُوَ أَنّي عِندَما تَعَرَّفتُ بِالبَحرِ وَقَفَتُ في حَضرَتِهِ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ فِي طُفُولَتي. وَهُوَ الذي رَكِبتُهُ يَومَئذٍ لِأذهَبَ إِلَى مَدرَسَةِ راهِباتِ الزِّيارَةِ في عينطورةَ.
مَساءٌ ما زالَ حَيّاً كَأنَّهُ مَساءُ البارحَةِ.
كانَ الَقَمرُ بَدراً يَغمُرُ هَذِهِ الجِبالَ وَالبِقاعَ المُنبَسِطَةَ عِندَ مَوطِئِها. وَكانَت أَشِعَّتُهُ تَنصَبُّ سَيلاً عَلَى المِياهِ، فَتَخُطُّ فِيها مَمَرّاً نُورانِيّاً وَسِيعاً. قَضَيتُ تِلكَ السَّهرَةَ وَأَنا أَرقُبُ أُلُوفَ الأَرواحِ الصّامِتَةِ تَغتَسِلُ فيهِ جَذلَى. وَإذ هَمَّتِ الباخِرَة بِالمَسِيرِ حَمَلَ إِلَينا النَّسيمُ مَقاطِعَ شَدوٍ كُلُّهُ شَهِيقٌ وَنحِيبٌ. كانَ النَّسيمُ يَحمِلُ ذَلِكَ الشَّدوَ مُتَقَطِّعاً كَأَنَهُ مُثقَلٌ بِعُطُورِ الكَرمِلِ؛ مِن صَعتَرٍ وَنَعناعٍ وَخُزامَى وَخَلِيطٍ مِن شَذا سائِرِ الأَعشابِ البَرِّيَّةِ.
ما هُوَ هَذا الصَّوتُ؟ أَصَوتُ وَداعٍ بَعِيدٌ؟ أَهُوَ يَأسٌ يَتَفَطَّرُ في أَواخِرِ السَّهرَةِ عِندَما يَطُوفُ الكَّرَى في اللَّواحِظِ؟ أَهُوَ نَشِيدٌ لِلبَحرِ أَم نَشِيدٌ مِنَ البَحرِ؟ أَم هُوَ إيذانٌ بِالرَّحِيلِ لِلسَّفِينَةِ المُتأَهِّبَةِ (7)؟ لَم أَعلَم يَومَئذٍ. وَلَقد زادَ هَذا الجَهلُ فِي تَفخِيمِ اللُّغزِ وَإبهامِ (8) لَذاذَتِهِ. وَمَرَّت أعوامٌ قَبلَ أَن أَعلَمَ أَنَّ ذَلِكَ كانَ صَوتَ كَمَنجَةٍ- تِلكَ الآلةِ الوَتَرِيَّةِ التي هِيَ أُعجُوبَةٌ عُذُوبَةٍ وَتَفَجُّعٍ، كَأفعَلِ حَنجَرَةٍ إِنسانِيَّةٍ شادِيَةٍ.
ميّ زيادة
من كتاب (ميّ زيادة)
لعبد اللطيف شرارة
1. تُحاذي: توازن؟
2. تتهدَّل: تتدلَّى.
3. الجَنَى: الثمَر
4. أرواح: رَوائِحِ.
5. المضمّخة: المعطّرة.
6. الجَلَبَة: الضجيج.
7. المتأهّبة: الجاهزة.
8. إبهام: غُمُوض.
ولد الشاعر والكاتب راشد حسين في قرية مصمص عام 1939، ودرس وأحرزَ الشهادة الثانويّة في المدرسة البلديّة بالناصرة. بدأ ينظم الشعر في سِنّ مبكّرة. وأصدر أوّل ديوان شعر (مع الفجر) عام 1957، ثمَّ ديوان (صواريخ) عام 1958، و (أمّنا الأرض لا تحرميني المطر) عام 1976.
ترك البلاد عام 1969 الى الولايات المتّحدة. وقد توفّي عام 1977 في حادث مؤسف على أثَر حريق شَبَّ في بيته بنيويورك. وقد أعيد جثمانه إلى مسقط رأسه مصمص، حيث ووري الترابّ هناك.
هَيَ قَريَةٌ صُلِبَت عَلَى صَدرِ المُثَلَّثِ دُورُها
لا يَستَحِي أَن يَنتَمِي لِحُقُولها عُصفُورُها
وَذَوائِبُ الزَّيتونِ يَرجُفُ فِي الهَواءِ حُبُورُها (1)
وَإِذا اختَفَى شَلالُ نُورِ الشَّمسِ قامَ بُنِيرُها.
.. قِنديلُ زَيتٍ مِن ذُبالَتِهِ تُطِلُّ زُهورُها (2)
دِيوانُها كَالبَرلَمان تَدُورُ فِيهِ أُمورُها
إبريقُ قَهوَتِهِ تَشامَخَ عَالِياً مُتَأفِّفا (3)
وَالجَمرُ يَغمِزُ جانِبَيهِ مُداعِباً وَمُعَنِّفا (4)
فَتَثُورُ فيهِ دِماؤهُ فَيُرِيقُها مُتَعَجرِفاً (5)
فَتُشاهِدُ الجَمرَ المُعَربِدَ قَد َتأَدَّبَ وَانطَفا
فَيَقولُ جَدِّي، (يا بُنَيَّ).. يَقُولُها مُتَلَطِّفا:
(قُم وَاملإ الفِنجان ثانِيَةً لِعَمِّكَ مُصطَفَى).
من ديوان (صواريخ)
1. الذوائب: الخُصُلات، والمقصود هُنا القصوف العالية.
الحُبور: السرور.
2. الذُّبالَة: الفَتِيل.
3. تَشامَخَ: ارتفعَ. مُتَأّفِّفاً: مُتَضَجِّراً.
4. غَمَزَ: جَسَّ. مُعَنِّفاً: مُوَبِّخاً.
5. يُريقها: يَسكُبها. مَتَعَجرِفاً: مُتكَبِّراً.
ولد محمد حسين هيكل سنة 1888 لأسرة مصريّة ريفيّة. تَعلَّمَ في الكُتّاب، ثُمَّ في مدرسة الجماليّة الابتدائيّة. ثمَّ مدرسة الخديويّة الثانويّة. ثمَّ واصلَ دراسته في كلّيّة الحقوق حيث تَخرَّجَ عام 1909. وبعد ذلك واصلَ دراسته في فرنسا، فحصل على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي عام 1912، وكتبَ وهو في باريس قصّة (زينب) التي وصف فيها حياة الريف والفلاّحين في مصر. وقد واصَلَ عمله الأدبي فَكتَبَ المقالات التي جُمِعَت في كتابَين هُما: (في أوقات الفراغ) و (ثورة الأدب). وله أيضاً (حياة محمّد) و (في منزل الوحي). وله قصة (هكذا خلقت).
وَأَصبَحنا يَومَ الأَحَدِ وَلِلسَّفْرِ (1) جَميعاً حَدِيثٌ واحِدٌ: اليَومَ سَنَرىَ في طَريقنا جَزيرَةَ (إِلبا) حَيثُ نُفِيَ نابليونُ لأَوَّلِ مَرَّةٍ(2)، وَمِنها عادَ لِيَرتَقِيَ عَرشَهُ ثانِيَةً في فَرَنسا، حَتَّى يَهوِيَ نَجمُهُ فَينهَزِم في واترلو وَيُنفَى أَخيراً إِلَى جَزيرَةِ القِدِّيسَةِ هِيلانَةَ. وَاليَومَ نَستَعِيضُ بِمَرأَى جَزيرَةِ (إلبا) عَن مَرآى جزيرَةِ كورسيكا مَسقِطِ رَأسِ نابليونَ. وَظَلِلنا كَذَلِكَ طِيلَةَ النَّهارِ تَتَبَدَّى لَنا بَينَ وَقتٍ وَوَقتٍ شُبُهاتٌ مِنَ الأَرضِ يَذكُرُ الرُّبَانُ أَنَّ بَعضَها مَصَبُّ (التَّبَرِ)؛ حَيثُ تَقُومُ المَدينَةُ الخالِدَةُ روما العَظِيمَةُ، وَأَنَّ الآخَرَ نُتُوءٌ (3) مِن إيطاليا وَسَطَ البَحرِ، حَتَّى إِذا قارَبَتِ السّاعَةُ الثَّامِنَةُ مِنَ المَساءِ، وَآنَ لِلشَّمسِ أَن تَنحَدِرَ في مَغِيبِها، كانَت (إلبا) قَد تَكَشَّفَت لَنا، وَما كِدنا نُتِمُّ تَناوُلَ طَعامِ العَشاءِ.
اُنظُر إِلَى الشَّمسِ تَنحَدِرُ في مَغيبِها، وَتُخَلِّفُ بَعدَها أَلواناً مُختَلِفَةً؛ مِن بُرتُقالِيّ وَبَنَفسجِيٍّ. وَانظُر إِلَى هذا الهِلالِ الوَليدِ يَحبُو (4) عَلَى اسِتحياءٍ في لُجَّةِ (5) السَّماءِ، وَيَرقُبُ (إلبا) وَإيطاليا وَأَضواءَهُما التي بَدَأَت تَظهَرُ في جَوفِ اللَّيلِ السّاجِي (6)، وَما تَزالُ مُولياتُ الضّياءِ تُغالِبُ سَوادَهُ. ثُمَّ انظُر إِلَى مِياهِ البَحرِ. لَقد كانَ البَحرُ في أَثناءِ سِياحَتِنا كُلِّها جَميلاً، رَفيقَ المَوجِ، حُلوَ النَّسيمِ، لَكِنَّهُ اللَّيلَةَ مَلائِكيٌّ وَأكثَرُ مِن مَلائِكِيٍّ. يَسري النَّسيمُ مِنهُ فَوقَ صَفحَةٍ مَصقُولَةٍ صَقلَ المِرآةِ أو هِيَ أَصفَى، تَنعَكِسُ عَلَيها تِلكَ الأَشِعَةُ المُتَعاقِبَةُ الأَلوانِ؛ مِمّا خَلَّفَتِ الشَّمسُ ساعَةَ مَغِيبِها، وَتَندَمِجُ فيها الشُّعاعاتُ الَقليلَةُ التي يُحاوِلُ الهِلالُ أَن يَبعَثَ بِها مِن سَمائِهِ.
وَاللَّيلُ يُطارِدُ النُّورَ وَيَطرُدُهُ، فَتَبدُو أَنوارُ (إِلبا) مُبَعثَرَةً كَأَنَّها النُّجومُ أُلقِيَ بِها في الماءِ. أَنوارٌ يَقِفُ عِندَها نَظَرُكَ وَانتِباهُكَ وَسَمعُكَ وَقَلبُكَ وَكُلُّ حَواسِّكَ، وَتُنسِيكَ نابليونَ وَالتَّفكِيرَ فيهِ، وَالتّاريخَ وَصَفَحاتِهِ، وَالماضِيَ وَالمُستَقَبَلَ، وَكَأَنَّما هِيَ وَالماءُ وَالنَّسيمُ وَالهِلالُ وَكُلُّ ذَلِكَ المَنظَرِ السّاحِرِ يَنسَكِبُ في نَفِسكَ انسِكاباً، وَيَجرِي في رُوحِكَ عَذباً سَلسَبيلاً (7). وَيَدُورُ النّاسُ إلَى الجانِبِ الثّاني مِنَ الباخِرَةِ لِيَرَوا شَاطِئَ إيطاليا وَفَنارَهُ (8) وَأَنوارَهُ، وَإذا (إلبا) تَجذِبُهُم إِلَيها مِن جَديدٍ، كَأَنَّ النَّسيمَ إلَى ناحِيَتِها غَيرُ النّسيمِ إلَى الجانِبِ الثّاني، وَكَأَنَّ رُوحَها التي حَسِبنا أَنّا نَسِيناها في جَمالِ الوَقتِ، هَذِهِ الرُّوحَ التي قَوِيَت بِقُوَّةِ نابليونَ، وَاشتَدَّت جاذِبِيَّتُها بِشِدَّةِ جاذِبِيَّتِهِ، لَها عَلَى كُلِّ ما يُحِيطُ بِها مِن بَحرٍ وَقَمَرٍ وَنَسيمٍ وَناسٍ سُلطانٌ لَيسَ لِأَحَدٍ دُونَ الوَلاءِ لَهُ سَبيلٌ (9)
محمد حسين هيكل
من كتابه (ولدي)
1. السَّفر: المسافرون.
2. نُفِيَ نابليون اليها سنة 1814، وقد انكسر في واترلو سنة 1815.
3. النتوء: المرتفَع البارز.
4. يحبو: يمشي متباطئاً.
5. اللُّجَّة: معظم الماء.
6. الساجي: الهادئ. الساكن.
7. السلسبيل: العَذب.
8. الفَنار: المنارة.
9. ليس لأحد دون الولاء له سبيل: أي لا يستطيع أحد إلاّ أن يوالِيَهُ ويصادقه ويخضع له.
ولد الشاعر جمال قعوار في الناصرة عام 1930، يعمل معلّماً لِلُّغة العربيّة في دار المعلّمين العرب بحيفا، وفي جامعة حيفا أيضاً.
حاز على شهادته الجامعيّة الأولى من جامعة حيفا، وحصل على إجازة الماجستير من الجامعة العبريّة في القدس. وأخيراً على شهادة الدكتوراه في اللغة العربية من جامعة تل أبيب.
من آثاره: (سلمى)- مجموعة أقاصيص شعريّة، ودواوين شعريّة منها: (أغنيات من الجليل)، (غبار السفر)، (الريح والشراع) و (أيلول).
عَلَى ثَراها الطَّيِّبِ دَرَجتُ طِفلاً وَصَبِي (1)
نَسِيمُها مِن عَنبَرٍ وَتُربُها مِن ذَهَبِ (2)
وَالخَيرُ في (جَلِيلِها) مُلَوِّحٌ (لِلنَّقَبِ
مِياهُهُ مِن كَوثَرٍ تَروِي كُرُومَ العِنَبِ (3)
وَالخِصبُ في (شارونها) مَعِينُهُ لَم يَنضُبِ (4)
لَيمُونُهُ مُلَوَّنٌ مِن ساحِرٍ مُحتَجِبِ
وَالكَرمِلُ الشّامِخُ كَالجَبّارِ بَينَ الشُّهُبِ
أَطيارُهُ حَبِيبَةٌ في شَدوِها المُحَبَّبِ (5)
وَرِحلَةٌ مُمتِعَةٌ إِلَى الفَضاءِ الرَّحِبِ
وَذِكرَياتٌ عَذبَةٌ عَلَى الغَدِيرِ العَذِبِ
وَعَودَةٌ مَعَ المَساءِ العَطِرِ المُخَصَّبِ (6)
يا مَوطِناً عَلَى ثَراهُ عاشَ جَدِّي وَأَبِي
تارِيخُهُ أُغنِيَةٌ أَهدَت ثَلاثَ الكُتُبِ
مِنَ الإِخاءِ رُوحُه وَمِن صَفاءِ المَذهَبِ
الحُبُّ في شُعاعِهِ مُبَدِّدٌ لِلغَيهَبِ (7)
نَسِيمُهُ مِن عَنبَرٍ وَتُربُهُ مِن ذَهَبِ
وَالخَيرُ في (جَليلِهِ) مُلَوِّحٌ (لِلنَّقَبِ)
جمال قعوار
من ديوانه:
(أغنيات من الجليل)
1. الثَّرَى: التراب.
2. العنبّر: نوع من الطُّيوب.
3. الكَوثَر: نهر في الجَنَّة. الشراب العَذب.
4. المَعِين: النبع. يَنضُب: يَجِفّ.
5. الشدو: الغناء.
6. المُخَضَّب: المُلَوَّن بِلَون الحِنّاء.
7. مُبَدّد: مُفَرِّق. الغيهب: الظُّلمَة.
بِأَيِّ لَحنٍ أَزُفُّ النَايَ لِلوَتَر وَكَيفَ أَنظِمُ عِقدَ القَولِ بِالدُّرَرِ؟
بِالأَذرُعِ الخُضرِ فَوقَ السَّفحِ ضارِعَةً قَدِ استَجابَت لَها قِيثارَةُ المَطَرِ (1)
أَم نَسمَةٍ فَوقَ خَدِ الماءِ تُرعِشُهُ بِالسِّحرِ، أَم أَنَّ هَذا السِّحرَ فِي النَّظَرِ؟
لا تَسأَلَنَّ عَنِ السّاعاتِ نُنفِقُها عِندَ البُحَيرَةِ، وَالأَصحابُ في سَمَرِ
غَشّاهُمُ الصَّمتُ وَالنَّشوَى، وَقَد صَدَحَت أُنشُودَةُ المَوجِ وَالأَنامِ وَالزَّهَر (2)
إذ أُذِّنَ الظُّهرُ في الآفاقِ فَانطَلَقَت تُرَجِّعُ الصَّوتَ أَطيارٌ عَلَى الشَّجَرِ
حَتَّى سَجَدنا عَلَى الأَوراقِ إذ سَقَطَت في سُندُسٍ سِابِحٍ في لَوحَةِ القَدَرِ
ثُمَّ التَفَتنا نُجِيلُ الطَّرفَ في عَجَبٍ كَيفَ القُلُوبُ هُنا قُدَّت مِنَ الحَجَرِ (3)
كَيفَ الَّذِينَ يَرَونَ الشَّمسَ بازِغَةً لا يُبصِرُونَ. كَأَنَّ اللَّيلَ في البَصَرِ (4)
سُبحانَ رَبِّي. رَأَينا اليَومَ مُعجِزَةً ما أَدرَكُوها، وَقَد طارُوا إلَى القَمَرِ
محيي الدين عطيّة
عن مجلة (العربي)
عدد 270 أيّار 1981
1. ضارعة: متوسّلة. راجيّة.
2. غشّاهُم: غَطّاهُم. الصَّمت: السكوت.
3. نُجيل الطَّرف: نُدِير النظَر. قُدَّت: قُطِعَت.
4. بازعة: طالعة.
أديب مصري معاصر، له كثير من الدواوين والمؤلّفات، منها:
1. معرض الأدب والتاريخ الإسلامي
2. حياة ميّ زيادة.
3. المرأة والدولة في فجر الإسلام.
4. أعلام من الشرق والغرب.
5. أدب الهجر.
ومن الشعر له دواوين: (من وحي النبّرة)، (من نبع الحياة)، (ماضٍ من العُمر). وكُلّ هذه الدواوين من الحجم الصغير، وفيها موضوعات دينّية وسياسيّة وقوميّة ووصفيّة واجتماعيّة وإنسانيّة. نطمّ في مختلف الفنون. وله شعر وجداني رائع.
(في اليوم السادس من شهر أبريل 1909 استطاع رجل صلب الإرادة، قويّ العزيمة، أَن يقف على قمّة العالّم، وأن يصل إلى نقطة القطب الشمالي، وهي أعلى وأبّعد نقطة من جهة الشمال على سطح الكرة الأرضيّة... هذا الرجل.. هو الكومندور بيري الذي أصبح من أعلام الاستكشاف في العصر الحديث.
القطب الشمالي يقع في أغوار بحر يبلغ عمقه اثنّين من الأميال... وَرُوّاده يزحفون اليه فوق كتل من الجليد تتحرّك فوق البحار... وهذا مشهد رائع من مشاهد الرحلة التي قام بها بيري الأميركيّ سنة 1906 والتي كانّت مرحلة من مراحل غزوه لذلك القطب.
أَلقَتِ السَّفينَةُ (روزفلتُ) مَراسِيَها أَمامَ رَأسِ شيريدانّ تَنتَظِرُ تَحَسُّنّ الظُّروفِ، وَلَكِنَّها لَم تَكُن في مَوْقِفها هذا تامَّة الآمانِ. لقّد وَقَفَت وَصَدرُها في مُواجَهَةِ الشّمالِ، وَلَكِنّ بيري لَم يَقلَق عَلَى مَصِيرِها. وَكانَ أَوَّلُ هَمِّهِ أَن يُنزِلَ مِنها المَؤونَةَ وَالطَّعامَ وَالإِمداداتِ وَيَضَعها عَلّى السّاحِلِ، حَتَّى لا يَفقِدّها إِذا ما أُصيبَت سَفِينَتُهُ بِسُوءٍ...
وَبَدَأَ بيري يَخرُجُ في فَصلِ الشِّتاءِ المٌظلِمِ لِصَيدِ الثِّيرانِ وَالرِّنَّةِ وَالأَرانِبَ القُطبِيَّةِ، وَعَلى الرَّغمِ مِنَ اشتِدادِ البَردِ وَشِدَّةِ الزَّمهَرِيرِ (1) وَعَصفِ الرِّياحِ، كانَ بيري وَرِجالُهُ يَتَمَتِّعُونَ بِدِفءٍ نِسبِيٍّ في ثِيابِهِمُ المَصنوعَةِ مِنَ الفِراءِ. أَمّا بَقِيَّةُ الرَّجالِ وَالنِّساءِ مِن غَيرِ الصَّيّادِينَ، فَقَد ظَلّوا في السَّفينَةِ الرّاسِيَةِ يُصلِحونَ الزَّخافاتِ وَيُعِدُّونَها لِلرِّحلَةِ القادِمَةِ، وَيَتَعَهَّدونَ الكِلابَ (2)، وَيَعمَلونَ الخِيامَ وَثِيابَ الفِراءِ.
وَصَمّمَ بيري في شَهِر يَنايِرَ أَن يَمضِيَ في خُطَّتِهِ لِلهُجومِ عَلَى الشَّمالِ، وَلَكِنَّهُ خَشِيَ أَنَّ المِياهَ المُتَفَتِّحَةَ بَينَ مِساحاتِ الجَليدِ قَد تَقَطَعُ خَطَّ مُواصَلاتِهِم، أَو تَقطَعُ عَلَيهِم طِريقَ العَودَةِ إِلَى القاعِدَةِ التي سَيَتَّخِذُها بِدايَةً لِلهُجومِ.
وَاختارَ بيري تابِعَةُ الزِّنجِيَّ هانسون، لِيَختَبِرَ لَهُ طَريقًا عَلَى الجَليدِ، وَلِيكونَ طَلِيعَةَ الحَملَةِ إِلَى الشَّمالِ، لأَنَّهُ كانَ قَد أَصبَحَ خَبيراً مُدَرَّباً عَلَى قَيادَةِ الكِلابِ فَوقَ الثُّلوجِ...
وَفي مُنتَصَفِ فِبراير 1906 لاحَ وَمَيضُّ (3) مِنَ الشَّمسِ عَلَى الأُفُقِ لِمُدَّةَ دَقائِقَ، حِينَما بَدَأَ بيري تَحَرُّكَهُ.
لَعَلَّها وَمضَةُ الأَمَلِ، وَإِشْراقَةُ النَّجاحِ.
وَسارَ بيري بِخُطَواتٍ مَملوءَةٍ بِالثَّقَةِ وَالإيمانِ، وَكانَ في نِهايَةِ كُلِّ مَرَحَلةٍ يُقيمِ بيتاً مِن الثّلوجِ، لِيَنتَفِعَ بِهِ الآتونَ بَعدَهُ مِن أَعضاء الفَرِيقِ.
وَكانَ الجَليدُ يَتَشَقَّقُ تَحتَ هَذِهِ البُيوتِ الثَّلجِيَّةِ، وَيَمشي في حَرَكَتِهِ المُستَّمِرَّةِ، فَتَنها رُهَدِهِ البُيُوتُ وَتَتَصَدَّعُ، وَلَكِنَّها كانَت تُصلَحُ بَعدَ قَليلٍ.
وَكانَت قِطَعُ الجَليدِ المَتَحَرِّكَةُ يَصطَدِمُ بَعضُها بِبَعضٍ، فَيُسمَعُ لَها صَوتٌ، وَتَحدُثُ لَها رَجفَةٌ كَرَجفَةِ الزِّلزالِ...
وَلِحُسنِ الحَظِّ كانَتِ المِياهُ المُتَفَتِّحَةُ بَينَ الجَليدِ تَتَجَمَّدُ بِسُرعَةٍ - لِشِدَّةِ البَردِ - وَلَولا ذَلِكَ لاَستَحالَ تَقَدُّمُ الرِّجالِ إِلَى الأَمامِ خُطوَةً واحِدَةً.
وَما كانَ أَشَدَّ إِيمانَ بيري بالنَّجاحِ، وَهُوَ يَتَقَدَّمُ في يَقَظَةٍ وَحِرصٍ. وَلَم يَكُن يَسمَحُ لِلنَّومِ أَن يَزورَ عَينَيهِ، مَخافَةَ أَن تُفاجِئَةَ المِياهُ المَفتوحَةُ بَينَ الجَليدِ، فَلتُعَرِّضَهُ لِخَطَرٍ مِنَ الأَمامِ، أَو تَقطَعَ عَلَيهِ خَطَّ الرَّجعَةِ.
وَكانَ عَلَيهِ أَن يُسرِعَ فَيَصِلَ إِلَى نَتِيجَةٍ يَطمَئِنُ إِلَيها، قَبلَ أَن بَنتَهِيَ فَصلُ الشِّتاءِ، وَيَبدَأَ الجَليدُ بِالذَّوَبانِ، فَيَستَحِيلَ عَلَيهِ الزَّحفُ خَطوَةً واحِدَةً.
وَفي خِلالِ تَقَدُّمِهِ السَّريعِ لَمَحَ مِن بُعدٍ ثَلاثَةَ أَشباحٍ مُظلِمَةٍ... يا لَلعَجَبِ؛ ماذا تَكُونُ هَذِهِ الأَشباحُ؟ إِنَّها ثَلاثُ جَماعاتٍ مِن رِجالِ حَملَتِهِ قَدِ اعتَرَضَ سَبيلَهُم بَحرٌ مَفتوحٌ بَعدَ زَحفِهِم آمِنِينَ عَلَى الجَليدِ، وَلَم يَكُن هَذا البَحرُ ضَيِّقاً حَتَّى يُمكِنَ التِئامُهُ وَتَجَمُّدُ مائِهِ ثانِيَةً، وَلَكِنَّهُ بَلَغَ مِنَ العَرضِ اثنَينِ مِنَ الأَميالِ.
لَقَد سُمِّيَ هَذا البَحرُ المائِيُّ السّائِلُ بَينَ جَليدِ الشَّمالِ بِاسمِ (نَهرِ هِدسون)، وَيا لَهُ مِن بَحرٍ مُستَحِيلِ العُبورِ؛ لأَنَّهُ لَيسَ هُناكَ سَفينَةٌ وَلا قارِبٌ يَعبُرُهُ. وَكَيفَ تَصِلُ إِلَيهِ السُّفُنُ وَبَينَهُ وَبَينَها مِساحاتٌ شاسِعَةٌ مِنَ الجَليدِ؟
وَحاوَل بيري أَن يَجِدَ طَريقاً يَعبُرُ بِهِ هَذا البَحرَ المائِيَّ، وَذَلِكَ عَن طَريقِ قِطَعٍ الجَليدِ التي قَد تَلتَحِمُ وَتَلتَصِقُ بَينَ المِياهِ وَتَصلُحُ كَأَرضٍ تَمِشي عَلَيها الزَّخّافاتُ.
وَفي هذِهِ المِساحاتِ الشَّمالِيَّةِ تَظهَرُ ظاهِرَةٌ غَريبَةٌ لِلرَّحّالِينَ، وَخاصَّةً حِينَ تَكُونُ الشَّمسُ غَيرَ مُشرِقَةٍ. إِنَّهُ لا يَبدو هُناكَ أَيُّ أَثَرٍ لِلظِّلالِ، لأَنَّهُ لَيسَ هُناكَ غَيرُ الثُّلوجِ وَالجَليدِ، فَلا تَستَطِيعُ العَينُ أَن تَتَبَيَّنَ مِن بَعيدٍ أَو تَتَرَكَّزَ إِلاّ عَلَى الزَّخافاتِ وَالكِلابَ.
وَمِن هُنا يُصبِحُ الزّاحِفُ عَلَى هَذِهِ المِساحاتِ الواسِعَةِ مِن بَياضِ الثَّلجِ وَالجّليدِ لا يَرَى السَّطحَ الذي يَمشي عَلَيهِ. وَلَكِنَّهُ يُحِسُّهُ فَقط. وَهَكَذا يَتَعرَّضُ الماشي لِخَطَرِ الوُقوعِ في الحُفَرِ وَالشُّقوقِ بَينَ لَحظَةٍ وَأُخرَى...
وَمِنَ السَّهلِ جِدّاً عَلَى السّائِرِ هُناكَ أَن يُصابَ بِالبُهرِ - أَوِ العَمَى القُطبِيِّ - تَحتَ هَذِهِ الظُروفِ، لأَنَّ العَينَ تُجهَدُ أَشَدَّ الإِجهادِ مِن تَثبيتِها عَلَى شَيءٍ واحِدٍ.
وَأَخَذَ الجَوُّ يَزدادُ شِدَّةً، وَالعَواصِفُ الثَّلجِيَّةُ تَشتَدُّ قُوَّةً، وَكُتَلُ الجَليدَ العائِمَةُ تَسُوقُ بيري وَجَمتاعَتَهُ - رَغمَ أَنفِهِ - إِلَى الشَّرقِ مِنَ الطَّريقِ الذي يُريدُ أَن يَسلُكَهُ.
وَما كادَت تَهدَأُ العاصِفَةُ حَتَّى بَعَثَ بيري بَعضَ الرِّجالِ لِلبَحثِ عَن بَقِيَّةِ أَعضاءِ الحَملَةِ. وَجاءَتهُ الأنباءُ مَعَ الرُّسُلِ بِأَنَّ البَحرَ المائِيَّ (نَهرَ هِدسون) قَدِ انفَتَحَ ثانِيَةً، وَأَنَّ الإمداداتِ وَالمُؤَنَ لَن تَستَطِيعَ أَن تَأتِيَ إِلَيهِ مِن مَركَزِ التَّموينِ، بَعدَ أَن قَطَعَ الماءُ عَلَيهُمِ الطَّريقَ...
وَأَخيراً بَلَغَ بيري الدَّرَجَةَ (87) السّابِعَةَ وَالثَّمانينَ، وَالدَّقِيقَةَ السّادِسَةَ (6) مِن خُطوطِ العَرضِ الشَّمالِيَّةِ. وَلَم يَستَطِع أَن يَتَقَدَّمَ أَكُثَرَ مِن هَذا خُطوَةً واحِدَةً.
وَلَعَلَّ وُجوهَ رِفاقِهِ الشّاحِبَةَ التي بَدا عَليها الهُزالُ، وَهَياكِلَ أَجسامِهِمُ المُحَطَّمَةِ، وَزَحَافاتِهِمُ الخاوِيَةَ مِن كُلِّ زادٍ أَو طَعامٍ، وَجِبالَ الجَليدِ العائِمَةَ المُتَحَرِّكَةَ، وَالمِياهَ المَفتوحَةَ الخَطِرَةَ بَينَ جِبالِ الجَليدِ... لَعَلَّ ذَلِكَ كُلَّهُ قَدِ اضطَرَّهُ إِلَى الوُقوفِ بِرِحلَتِهِ عِندَ هَذِهِ الغايَةِ التي كانَتِ انتِصارًا لا بَأسَ بِهِ.
نَعَم؛ لَقَد كانَت نَصرًا كَبيرًا، لِأَنَّهُ كانَ مِن قِمَّةِ القُطبِ عَلَى مَسافَةِ 170 ميلاً فَقَط.
وَهَكَذا وَلَّى وَجهَهُ شَطرَ الجَنُوبِ، عائِدًا زَيا لَها مِن عَودَةٍ لَم تُحَقِّق لَهُ بُلُوغَ الهَدَفِ المَأمولِ.
وَفي شَهرِ أَبريلَ سَنَةَ 1906 كانَ بيري في طَريقِهِ إِلَى وَطَنِهِ...
محمد عبد الغني حسن
من كتابه:
(بيري مكتشف القطب الشمالي)
1. الزمهَرير: البرد الشديد.
2. يَتَعَهَّدونَها: يَعتَنونَ بها.
3. الوَميض: اللمَعان.
ولد الشاعر فهد أبو خضرة في الرينة عام 1935، أنهى دراسته للدكتوراه في الجامعة العبريّة حول موضوع (ابن المعتزّ الرجل وإنتاجه الأدبي).
يصل حاليّاً محاضراً في قسم اللغة العربّية بجامعة حيفا، ومدرّساً في دار المعلّمين العرب بحيفا.
من مؤلّفاته: رواية (الليل والحدود)، وديوان (الزنبق والحروف).
صُداحُكَ العَذبُ يا غِرِّيدُ أَنسانِي لِساعَةٍ أَنَّنِي في عالَمٍ فانِي
نَسيتُ أَفكارِيَ السَّوداءَ وَانحَسَرَت لِزَقزَقاتِكَ آهاتِي وَأَشجانِي (1)
وَرَفَّ في خاطِري حُلمُ الصِّبا خَضِلاً يُعيدُ عُمرِي لأَيّامِ الهَوَى الحانِي (2)
أَيّامَ كانَت لَيالِينا مُعَطِّرَةً بِالوَردِ، بِالطِّيبِ، بِالأَلحانِ تَلقانِي
يَهَشُّ لِي الزَّهرُ جَدلاناً وَيَبسِمُ لِي ثَغرُ الأَقاحِ بِتَرحِيبٍ وَتَحنانِ
كانَ الشَّدا مِن أَغانينا وَهَمسَتِنا وَكانَ مِن طُهرِنا نُوّارُ نَيسانِ
لِلهِ ما كانَ آحلاها وَأَعذبَها دُنيا حِيِيتُ بِها طَيراً بِبُستانِ
أَعَدتَ لِي الشَّوقَ يا صَدّاحُ مُستَعِراً فَهَل تُعِيدُ لِقَلبِي بَعضَ إِيمانِي؟ (3)
وَهَل تُعِيدُ المُنَى لِلرُّوحِ زاهِرةً وَتُبرِيُّ العُمرَ مِن نارِي وَحِرمانِي؟ (4)
قُل لِلفُؤادِ الذي أَودَى السَّقامُ بِهِ بِأَنَّ لِي وَالأَمانِي مَوِعداً ثانِي
فهد أَبو خضرة
من كتاب
(ألوان من الشعر العربي الإسرائيلي)
جمع: شموئيل موريه
1. انحَسَرَت: انكَشَفَت. زالتَ. الزقزقة: التغريد. الآهات: الزفّرات. الأشجان: الأحزان
2. الخاطِر: الفِكر الخَضِل: الندِيّ. الحاني: الشّفوق.
3. المُستَعِر: المُلتَهِب
4. المُنّى: التطّلُّعات.
يسكن حاليّاً في مدينة عكا. وكان والده يعمل مدير قسم الجباية في بلديّتها. وقد ألَّفَ كتاباً بعنوان (عكّا بين الماضي والحاضر).
مِن بَينِ المَساجِدِ العَديدَةِ التي تَزخَرُ بِها مَدينَةُ عَكّا، وَعَدَدّها ثَمانِيّةٌ، يَبرُزُ جامِعُ الأَنوارِ أَو (جامِعُ الجَزّارِ) كَما هُوَ مَعروفٌ بَينَ النّاسِ. تِلكَ الآيَةُ الفَنِّيَّةُ وَالتّاريخِيَّةُ الرائِعَةُ التي أَصبَحَت أَكبَرَ مُعلَمٍ يَدُلُّ عَلَى المَدينَةِ. فَهُما مُرتَبِطانِ في الذِّهنِ مَعاً. فَحَيثُما قُلتَ (جامِعُ الجَزّارِ) قَفَزَت إِلَى الذِّهنِ حالاً صورَةُ مَدينَةِ عَكّا التَاريخِيَّةِ. وَحَيثُما قُلتَ (عَكّا) تَخَيَّلتَ رَأساً مَسجِدَ الجَزّارِ فيها. وَلَعَلَّ أَكبَرَ بُرهانٍ عَلَى ذَلِكَ هُوَ بُروزُ شَكِلِ جامِعِ الجَزّارِ في (الشِّعارِ) الذي اختارَتهُ بَلَدِيَّةُ عَكّا وَنَقَشَتهُ عَلَى عَلَمِها وَمَطبوعاتِها.
وَلَقَد بَنَى هَذا المَسجِدَ الرّائِعَ والِي عَكّا الشَّهِيرُ أَحمَدُ باشا الجَزّارُ وَسَمّاهُ (جامِعَ الأَنوارِ). وَأَصلُ التَّسمِيَةِ يَعودُ إِلَى أَنَّهُ بِالإِضافَةِ إِلَى أَنوارِهِ الضَّوئِيَّةِ التي كانَت تَنَبُعِثُ مِن قناديلِ الزَّيتِ العَديدَةِ المُعَلَّقَةِ في داخِلِهِ وَخارِجِهِ، وَالتي ما زالَت حَمّالاتُها مَوجودَةً حَتَّى الَيومِ تشهَدُ عَلَى دَورِها في عَهدٍ مَضَى، إِضافَةً إِلَى ذَلِكَ فَقَد أَرادَ بانِيهِ أَن يَكُونَ مَنارَةَ عِلمٍ وَمَعرِفَةٍ وَمَركَزَ إِشعاعٍ دِينِيٍّ؛ وَقَد كانَ
يَقَعُ مَسجِدُ الأَنوارِ في مَدخَلِ البَلدَةِ القَديمَةِ مِن جِهَتِها الشَّمالِيَّةِ، فَبَعدَ تَجاوُزِ السُّورِ يَجِدُ الزّائِرُ شارِعاً يَنعَطِفُ إِلَى اليَمِينِ يَحمِلُ اسمَ شارِعِ الجَزّارِ. وَبَعدَ مَسِيرَةِ بِضعٍ خُطَواتٍ في هَذا الشّارِعِ يِقِفُ الزّائِرُ أَمامَ سَيلِ ماءٍ يَعرَفُ عِندَ أَهلِ عَكّا بِاسمِ (سَبِيلِ الطّاساتِ)؛ وَقَد شَيَّدَهُ الجَزّارُ، وَتَمَّ بِناؤهُ عامَ 1280 هِجرِيَّةً، كَما هُوَ مُدَوَّنٌ (1) عَلَى بَلاطَةٍ رُخامِيَّةٍ مُثَبَّتَةٍ عَلَى حائِطِهِ.
وَالسَّبِيلُ مَبنِيُّ بِشَكلٍ فَنِيٍّ جَمِيلٍ مُغَطًّى مِنَ الخارِجِ بِحاجِزٍ مُشَبَّكٍ مِن قُضبانِ الحَديدِ وَالبرونزِ تَتَخَلَّلُهُ فَتَحاتٌ. وَمُقابِلَ كُلِّ فَتحَةٍ جُرنُ (2) ماءٍ وَطاسَةٌ نُحاسِيَّةٌ مُثَبَّتَةُ مِن طَرَفِها بِحَلَقاتٍ حَديدِيَّةٍ طَويلَةٍ إِلَى الجُرنِ. وَكانَ النّاسُ في الماضِي يَشرَبونَ الماءَ مِن هَذِهِ الطّاساتِ بَعدَ تَعبِئَتِها مِنَ الأَجرانِ.
وَبِجانَبِ هَذا السَّبيلِ مِن جِهَةِ الشَّرقِ يَرَى الزّائِرُ دَرَجاتِ سُلَّمٍ شِبهِ دائِرِيٍّ. وَيُشَكِّلُ هَذا السُّلَّمُ المَدخَلَ الرَّئيسِيَّ لِلمَسجِدِ. وَهُناكَ مَدخَلٌ آخَرُ مِنَ الجِهَةِ الشَّرْقِيَّةِ بِمُحاذاةِ (السوق العتم) لا يُفْتَحُ إِلاّ في أَيّامِ الجُمُعَةِ وَالأَعيادِ وَالمُناسَباتِ.
أَمّا الدّاخِلُ إِلَى المَسجِدِ فَتُواجِهُهُ حَديقَةٌ غَنّاءُ فيها زُهورٌ مُختَلِفَةٌ وَأَشجارُ السَّروِ الضَّخمَةُ وَالنَّخيلِ، مَعَ ساحَةٍ مُبَلَّطَةٍ مُرَبَّعَةِ الشَّكلِ وَواسِعَةِ الأَطرافِ تُشَكِّلُ السّاحَةَ الخارِجِيَّةِ لِلمَسجِدِ. تُحِيطُ بِهَذِهِ السّاحَةِ مِن جِهاتٍ ثَلاثٍ أَروِقَةٌ (3) طَويلَةٌ مُقَنطَرَةٌ تَستَنِدُ إِلَى صَفٍّ طَويلٍ مِن أَعمِدَةِ الرُّخامِ وَالغرانيتِ، يُقالُ إِنَّ هَذِهِ الأَعمِدَةَ قَد جُلِبَت مِن خَرائِبِ قيسارِيَةَ. وَمِنَ المُستَبعَدِ أَن تَكونَ هَذِهِ الأَقوالُ صَحيحَةً؛ إِذ إِنَّ الأَمرَ يَتَعَلَّقُ بِبِناءِ مَسجِدٍ. وَالمَعروفُ في الإِسلامِ أَنَّ بِناء المَسجِدِ هُوَ أَكبَرُ قُربَى يَتَقَرَّبُ بِها المُسلِمُ إِلَى اللَهِ، فَلَن يَبخَلَ صاحِبُ هَذا البِناءِ الفَخمِ، أَو يَجِدَ صُعوبَةً في إِحضارَ الأَعمِدَةِ المُلائِمَةِ وَالمُتَناسِقَةِ بِهَذا الشَّكلِ مِن مَخاجِرِ الغرانيتِ في مِصرَ أَوِ الرُذخامِ في إيطاليا. فَمِثلُ هَذِهِ الأَقوالِ لا تَعدُو التَّكَهُّناتِ التي لا دَليلَ عَلَيها.
وَعَلَى طولِ هَذِهِ المَمَرّاتِ تُوجَدُ حُجَيراتٌ صَغيرَةٌ تَعلوها قُبّاتٌ تُناسِبُ حَجمَها وَتُضفي عَلَى المَكانَ رَوعَةً وَجَمالاً. وَفي نِهايَةِ الرِّواقِ الشَّرقِيِّ يَقَعُ المَدخَلُ الشَّرقِيُّ الذي مَرَّ ذِكرُهُ. ثُمَّ إِلَى الجَنوبَ مِنهُ توجَدُ غُرَفٌ واسَعَةٌ وَكَبيرَةٌ، كانَت تُستَعمَلُ في الماضي غُرَفاً لِلتَّدريسِ في المَجرَسَةِ الشَّرعِيَّةِ الأَحمَدِيَّةِ المُلحَقَةِ بِالمَسجِدِ. أَمّا الحُجَيراتُ الصَّغيرَةُ فَقَد كانَت تُستَعمَلُ غُرَفَ سَكَنٍ لِطَلَبَةِ هَذِهِ المَدرَسَةِ الشَّرعِيَّةِ.
أَمّا اليَومَ فَإِنَّ الحُجَيراتِ يُستَعمَلُ يَعضُها مِن قِبَلِ خَدَمِ المَسجِدِ. وَأَكثَرُها مُغلّقٌ. كَما أنَّ غُرَفَ التَّدريسِ بَعضُها مُغلَقٌ، وَالبَعضُ الآخرُ يُستَعمَلُ كَمَكتَبٍ وَصالَةِ اسِتقبالٍ لَلَجنَةِ أُمَناءِ الوَقفِ وَغُرفَةِ مَكتَبَةٍ جُمِعَت فيها بَقايا الكُتُبِ العِلمِيَّةِ وَالمَخطوطاتِ النَّفِيسَةِ (4) التي كانَت في مَكتَبَةِ المَسجِدِ؛ وَهُوَ نَزرٌ يَسيرٌ (5). أَمّا أَكثَرُ هَذِهِ الكُتُبِ وَالمَخطوطاتِ قَقَد ضاعَ أَو فُقِدَ أَو أَصابَهُ التَّلَفُ بِسَبَبِ الإِهمالِ. وَقَد تَنَبَّهَت إِحدَى لِجانِ الأُمَناءِ المُتَعاقِبَةِ قَبلَ سَنَواتٍ قَليلَةٍ إِلَى أَهَمِّيَّةِ المَكتَبَةِ وَما تَحويهِ مِن بَقايا كُنوزٍ عِلمِيَّةٍ؛ فَعَمَدَت بِمُساعَدَةِ بَعضِ الشَّبابِ الجامِعِيِّ العَكِّيِّ إِلَى جمعِ هَذِهِ الكُتُبِ وَتَصنِيفِها وَتَرتيبِها. كَما اشتَرَت كَمّيَّةً مِنَ الكُتُبِ الحَديثَةِ، وَعَيَّنَت أَميناً لِلمَكتَبَةِ يَفتَحُها لِلجُمهُورِ مَرَّتَينِ في الأُسبوعِ؛ حَيثُ يَؤمُّها الطُّلاّبُ وَالمَعنِيّونَ بِالدّراساتِ الإِسلامِيَّةِ.
أَمّا غُرفَةُ المَكتَبَةِ القَديمَةِ في الرِّواقِ الشَّرقِيِّ، وَالتي ما زالتَ عَلَى حائِطِها بَلاطَةٌ مُثَبَّتَةٌ مَنقوشٌ عَلَيها بِخَطٍّ جَميلٍ الآيَةُ الكَريمَةُ (فيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) فَإِنَّها تُستَعمَلُ الآنَ مَعَ الغُرَفِ التي بِجانِبِها كَدِيوانِ القاضِي الشَّرعِيِّ وَمَكاتِبِ المَحكَمَةِ الشّرعِيَّةِ.
في وَسطِ ساحَةِ المَسجِدِ، وَإِلَى الشَّمالِ مِن مَدخَلِ الحَرَمِ يَجِدُ الزّائِرُ أَمامَهُ بركَةَ ماءٍ جَميلَةٍ مِن بَلاطِ الرُّخامِ تَعلُوها قُبَّةٌ خَضراءُ آيّةٌ في الجَمالِ، وَيُحِيطُ بِها مِن جَميعِ جِهاتِها صَنابيرُ الماء (الحَنَفِيّاتُ) لِلوُضُوءِ. وَإِلَى الجِهَةِ الشَّمالِيَّةِ الغربِيَّةِ مِنَ السّاحَةِ تُوجَدُ (المِزوَلَةُ)؛ وَهِيَ ساعَةٌ شَمسِيَّةٌ مِن بَلاطِ الرُّخامِ تَرتَكِزُ عَلَى عَمُودٍ مِنَ الرُّخامِ في عُلُوِّ مِترٍ وَنِصفٍ تَقريباً، وَيُحِيطُ بِها سِياجٌ مِنَ الحَديدِ المُشَبَّكِ، كانَت تُستَعمَلُ في الماضِي لِضَبطِ وَتَعيينِ مَواعِيدِ الأَذانِ لِلصَّلاةِ حَسَبَ ظِلِّ الشَّمسِ الواقِعِ عَلَى وَتِدٍ مِنَ الحَديدِ في وَسَطِها.
وَقَد نُقِشَ عَلَى أَسفَلِ بَلاطَةِ المِزوَلَةِ العِباراتُ التّالِيةُ.
هَذِهِ مِزوَلَةُ جامِعِ الأَنوارِ الأَحمَدِيَّةِ،
المَوقُوفِ لِنَفعِ البَرِيَّةِ،
وَقفِ الوَزيرِ المُكَرَّمِ الشَّهيرِ المُفَخَّمِ،
الحاجِّ أَحمَدَ باشا الجَزّارِ،
أثابَهُ المَلِكُ الغَفّارُ.
عَمَلُ إِبراهيمَ الفرضِيِّ الكُردِيِّ عامَ واحِدٍ وَمِائَتَينِ وَأَلفٍ مِنَ الهِجرَةِ النَّبَوِيَّةِ. وَإِلَى الجَنوبِ مِنَ المِزوَلَةِ في مُقابِلِها تَماماً، وَفي الجِهَةِ الجَنوبِيَّةِ الغَربِيَّةِ مِن ساحَةِ المَسجِدِ الخارِجِيَّةِ، هُناكَ بِناءٌ عَلَى يَحتَوي عَلَى ضَريحَينِ؛ الضَّريحُ (6) الأَوَّلُ يُمكِنُ مُشاهَدَتُهُ مِنَ النّافِذَةِ الغَربِيَّةِ وَهُوَ ضَريحُ مُنشِيِء المَكانِ أَحمَدَ باشا الجَزّارِ، وَالضَّريحُ الثّاني وَالدي يُمكِنُ مُشاهَدَتُهُ مِنَ النّافِذَةِ الشَّمالِيَّةِ لِوَزِيرِهِ وَخَليفَتِهِ في الحُكمِ وَوِلايَةِ عَكّا سُلَيمانَ باشا.
بَقِيَ القَولُ إِنَّ هَذِهِ السّاحَةَ الكَبيرةَ التي تُشَكِّلُ الفناءَ الخارِجِيَّ لِلمَسجِدِ، إِنَّما تَقِفُ بِمُعظَمِها عَلَى صِهريجٍ (7) ضَخمٍ مِنَ الماءِ يُشَكِّلُ بِئرًا لِجَمعِ مِياهِ الأَمطارِ التي تَنصَبُّ فيهِ مِن مَصارِفَ مُختَلِفَةٍ مُنبَثَّةٍ في السّاحَةِ، بِالإِضافَةِ إِلَى مِياهِ المَزارِيبِ التي تُصَبُّ مِن سُطوحِ المَسجِدِ وأَروِقَتِهِ إِلَى السّاحَةِ وَمِنها إِلَى الصِّهريجِ. وَيُوجَدُ مَدخَلٌ إِلَى الصِّهريجِ مِن جِهَةِ بَوّابَةِ المَسجِدِ الشَّرقِيَّةِ. كَما تُوجَدُ في السّاحَةِ بِئرانِ لِنَشلِ المِياهِ مِنَ الصَّهريجِ.
وَحِينَ يَدخُلُ الزّائِرُ إِلَى داخِلِ الحَرَمِ، يَرَى أَمامَهُ بِناءٍ فَسيحاً مُرَبَّعَ الشَّكلِ مُتَدانِيَ الأَطرافِ، تُحِيطُ بِهِ أَعمِدَةُ الرُّخامِ المُتَناسقَةُ. وَهِيَ تَحمِلُ الطّابِقَ الثّانِيَ المُخَصَّصَ لِلنِّساءِ. وَعَلَى ارتِفاعٍ شاهِقٍ قُبَّةٌ ضَخمَةٌ تُغَطِّي هَذِهِ المِساحَةَ كَبيرَةَ كُلَّها، وَتَتَدَلَّى مِنها سِلسِلَةٌ طَويلَةٌ تَحمِلُ ثُرَيّا ضَخمَةً تُضِيءُ بِأَنوارِها السّاطِعَةِ لَيلاً مِساحَةً كَبيرَةً، وَتُضفِي مَعَ بَقِيَّةِ الثُّرَيّاتِ وَالأَضواءِ عَلَى المَكانِ هَيبَةً وَجَمالاً.
وَالمَكانُ كُلُّهُ تُحِيطُ بِهِ سِلسِلَةٌ مِنَ النُّوافِذِ الكَبيرَةِ عَلَى امتِدادِهِ وَمِن جَمِيعٍ الجِهاتِ، وَفي كُلِّ طابِقٍ مِن طَوابِقِهِ تَرَى نُورَ الشَّمسِ يَملأُ المَكانَ فَيَزيدُهُ بَهجَةً وَرَوَعَةً. فَإِذا نَظَرَ الزّائِرُ إِلَى الجُدرانِ وَجَدَها كُلَّها وَعَلَى امتِدادِ وَارتِفاعِ هَذا البِناءِ الضَّخمِ مِنَ الرُّخامِ الأَبيَضِ وَالمُلَوَّنِ وَبِأَشكالٍ مُختَلِفَةٍ مِنَ الزَّخرَفَةِ الإِسلامِيَّةِ الأَخّاذَةِ. وَعَلَى ارتِفاعٍ مُتَناسِقٍ ابتِداءً مِنَ القُبًّةِ، وَانتِهاءً بِالطّابِقِ الأَرضِيِّ، نُقِشَت بِخَطٍّ جَمِيلٍ وَبِشَكلِ طَوقٍ دائِرِيٍّ آياتٌ كَريمَةٌ مِنَ القُرآنِ الكَريمِ مِن سُورَةِ الفَتحِ.
أَمّا الأَرضُ فَقَد غطِّيَت بِالحَصيرِ الشّامِيِّ الفاخِرِ صَيفًا، وَبِالسَّجّادِ العَجَمِيِّ (8) الثمِينِ شِتاءً. وَإِلَى اليَمِينِ مِنَ المَدخَلِ يُوجَدُ بابٌ، ثُمَّ بِضعُ دَرَجاتٍ يَتَشَعَّبُ بَعدَها دَرَجٌ؛ قِسمٌ إِلَى اليَمِينِ يَمضي صُعُداً مَعَ المِئذَنَةِ العالِيَةِ، التي تُعتَبَرُ مِن أَعَلى المَآذِنِ في البِلادِ، وَالتي يَراها القادِمُ إِلَى عَكّا مَعَ القُبَّةِ الضَّخمَةِ وَامتِدادِ السُّورِ مِن بَعِيدٍ كَأَنَّها لَوحَةُ رَسّامٍ لا حَقيقَةٌ واقِعَةٌ. أَمّا القِسمُ الثّاني إِلَى اليَسارِ فَيَمضِي إِلَى الطّابِقِ الأَوَّلِ المُخَصَّصِ لِلنِّساءِ.
وَإِذا نَظَرَ الزّائِرُ أَمامَهُ إِلَى الجِهَةِ الجَنوبِيَّةِ يَرَى المِنبَرَ الضَّخمَ المَبنِيَّ مِن الرُّخامِ الأَبيضِ، حَيثُ يَعلوهُ إِمامُ المَسجِدِ كُلَّ يَومٍ جُمُعَةٍ، أَو في الأَعيادِ، لإلقاءِ خُطبَةِ الجُمُعَةِ أَو خُطبَةِ العيدِ.
بَقِيَ أَن نُشيرَ إِلَى أَنَّ هَذا المَعلَمَ الأَثَرِيِّ الجَميلَ بِحاجَةٍ دائِمَةٍ إِلَى العِنايَةِ وَالصِّيانَةِ، وَفي أَجزاءٍ مِنهُ إِلَى التَّرميمِ. وَقَد تَعَرَّضَت قُبَتُهُ الضَّخمَةُ إِلَى خَطَر السُقوطِ قَبلَ حَوالَي عِشرينَ عاماً. فَبادَرَت دائِرَةُ الأَشغالِ العامَّةِ إِلَى إِجراءِ التَّرميمِ اللازمِ. وِقَبلَ حَوالَي أَربِعِ سَنَواتٍ ظَهَرَت عَلاماتُ الخَطَرِ عَلَى القُبَّةِ مَرَّةً أُخرَى، وَبَدَأَتِ القِصارَةُ تَتَساقَطُ عَلَى المُصَلّونَ، فَبادَرَت لَجنَةُ أُمَناءِ الوَقفِ الإِسلامِيِّ إِلَى إِجراءِ تَرميمٍ كامِلٍ، وَاستَعانَت لِذَلِكَ بِمُهَندِسٍ مَختَصٍّ في الفَنِّ المِعمارِيِّ الإسلامِيِّ مَمَّن يُشرِفونَ عَلَى صِيانَةِ قُبَّةِ الصَّخرَةِ المُشَرَّفَةِ وَالمَسجِدِ الأَقصى المُبارَكِ.
مازن فايز الكردي
عن مجلّة (صدى التربية) بتصرُّف
عدد 5 1985 المجلّد 33 حزيران
1. مدوَّن: مكتوب مسجَّل.
2. الجُرن: الحَجَر المنقور.
3. الأروِقَة: جمع رِواق ورُواق في مقدَّم البيت.
4. النفية: الغالية الثمن.
5. النَّزر اليَيِر: الشيء القليل
6. الضريح: القبر.
7. الصِّهريج: حَوض الماء.
8. العَجَمي: نِسبةً الى بلاد العَجَم (فارس وإيران حاليّاً.
*384*
ولد في منفلوط من صعيد مصر سنة 1876، وتلقَّى مبادئ القراءَة في مدرستها الأوّليّة، ثمَّ انتقل إلى الأزهَر فمكث فيه عشر سنوات يدرس علوم الدين واللغة.
في سنة 1908 أخذ يراسل جريدة (المؤيّد) بمقالات أسبوعيَة امتازّت بأسلوبها الجديد.
وللمنفلوطي آثار غير قليلة بين موضوع ومترجَم، ومنثور ومنظوم، وأكثرها في الاجتماع، نذكر منها: (النظرات) - في أجزاء، و (العَبّرات) - وهي مجموعة قصص محزنة، و (الشاعر) و (الفضيلة). توفّي المنفلوطي سنة 1924.
اِستَيقَظتُ في فَجرِ هَذا اليَومِ عَلَى صَوتِ هِرَّةٍ تَمُوءُ (1) بِجانِبِ الفِراشِ، تَلتَصِقُ بِي، وَتُلِحُّ فى ذَلِكَ إِلحاحاً غَرِيباً. فَرَابَنِى (2) أَمرُها وَأَهَمَّنِى هَمُّها وَقُلتُ (لَعَلَّها جائِعَةٌ). فَنَهَضتُ وَأَحضَرتُ لَها طَعاماً، فَعافَتهُ (3) وَانصَرَفَت عَنهُ. فَقُلتُ (لَعَلَّها عَطِشَةٌ) فَأَرشَدتُها إِلَى الماءِ، فَلَم تَحفِل (4) بِهِ، وَأَنشَأَت تَنظُرُ إِلَيَّ نَظَراتٍ تَنطِقُ بِما تَشتَمِلُ عَلَيهِ نَفسُها مِنَ الآلامِ وَالاحزانِ. فَأَثَّرَ فى نَفسِى مَنظَرُها هَذا تَأثِيراً شَدِيداً، حَتَّى تَمَنَّيتُ لو كُنتُ سُلَيمانَ، أَفهَمُ لُغَةَ الحَيَوانِ، لِأَعرِفَ حاجَتَها، وَأُفَرِّجَ كَربَتَها (5).
كاَن بابُ الغُرفَةِ مُقفَلاً، فَرَأَيتُ أَنَّها تُطِيلُ النَّظَرَ إِلَيهِ وَتَلتَصِقُ بِى، إِذا رَأَتنِى أَتَّجِهُ إِلَيهِ، فَأَدرَكتُ غَرَضَها، وَعَرَفتُ أنَّها تُرِيدُ أَن أَفتَحَ لها البابَ فَأَسرَعتُ بِفَتحِهِ. فَما وَقَعَ نَظَرُها عَلَى الفَضاءِ، وَرَأَت وَجهَ السَّماِء، حَتَّى استَحالَت حالَتُها مِن حُزنٍ وَهَمٍّ إِلَى اطمِئنانٍ وَسُرُورٍ، وَانطَلَقَت تَعدُو فى سَبِيلِها.عُدْت إِلَى فِراشِي، وَأَسنَدتُ رَأسِي إِلَى يَدِي، وَأَنشَأتُ أُفَكِّرُ فى أَمرِ هَذِهِ الهِرَةِ، وَأعجَبُ لِشَأنِها، وأقُولُ: (لَيتَ شِعرِي، هَل تَفهَمُ الهِرَّةُ مَعنَى الحُرِّيَّةِ؛ فَهِىَ تَحزَنُ لِفُقدانِها وَتَفرَحُ لِفُقدانِها وَتَفرَحُ بِلُقياها؟). أَجَل؛ إِنَّها تُرِيدُ الحُّرِّيَّةِ، وَما كانَ تَضَرُّعُها (7) وَرَجاؤها وَالتِصاقُها بِي وَإِلحاحُها إِلاّ سَعياً وَراءَ بُلُوغِها.
مصطفى لطفي المنفلوطي
من كتابه (النظّرات)
1. تَمُوء: تَصيح.
2. رابَني: أَزعَجَني. أَقلَقَني.
3. عافَته: كَرَهَتهُ.
4. تَحفِل: تَهتَّمّ.
5. الكَربَة: الضِّيق.
6. الإمساك: الامتِناع.
7. التَضرُّع: التوسُّل.
تَناثَري تَناثَري يا بَهجَة النَّظَرْ
يا مَرقَصَ الشَّمسِ وَيا أُرجُوحَةَ القَمَر
يا أُرغُنَ اللَّيلَ وَيا قِيثارَةَ السَّحَر
يا رَمزَ فِكرٍ حائِرِ وَرَسمَ رُوحٍ ثائِرِ
يا ذِكرَ مَجدٍ غابِرِ قَد عافَكِ الشَّجَر
تَناثَري تَناثَري
تَعانَقِي وَعانِقِي أَشباحَ ما مَضَى
وَزَوِّدِي أَنظارَكِ مِن طَلعَةِ الفَضا
هَيهاتَ أَن، هَيهاتَ أَن يَعُودَ ما انقَضَى (1)
وَبَعدَ أَن تُفارِقي أَترابَ عَهدٍ سابِقِ (2)
سِيري بِقَلبٍ خافِقِ في مَوكِبِ الفَضا
تَعانَقِي تَعانَقِي
سِيري وَلا تُعاتِبِي لا يَنفَعُ العِتابْ
وَلا تَلومِي الغُصنَ وَالرِّياحَ وَالسَّحاب
فَهيَ إِذا خاطَبتِها لا تُحسِنُ الجَواب
وَالَّدهرُ ذُو العَجائِبِ وَباعِثُ النَّوائِبِ (3)
وَخانِقُ الرَّغائِبِ لا يَفهَم الخِطاب
سِيري وَلا تُعاتِبِي
عُودِي أَلَى حِضنِ الثّرَى وَجَدِّدِي العُهودْ
وَانسَي جَمالاً قَد ذَوَى ما كانَ لَن يَعُود
كَم أَزهَرَت مِن قَبلِكِ وَكَم ذَوَت وُرُود
فَلا تَخافِي ما جَرَى وَلا تَلُومِي القَدَرا
مَن قَد أَضاعَ جَوهَرا يَلقاهُ في اللُّحُود (4)
عُودِي إِلَى حِضنِ الثَّرَى
1. هَيهاتِ: بَعُدَ. انقَضى: انتهَى.
2. الأتراب: جمع تِرب بمعنَى الصديقة من نفس الجيل.
3. النوائب: المَصائب.
4. اللحود: القبور.
أديب فلسطيني، وأستاذ من أساتذة الأدب العربي. ولد في القدس عامَ 1904، وقد عمل في سلك التدريس والتفتيش. له عدَّة مؤلّفات أبرزها: (مذكّرات دجاجة)، (رأيي في تدريس اللغة العربيّة)، (القروض السهل)، (هَل الأدباء بشَر)... وغيرها من المؤلَّفات القيّمة.
عاش الأديب فترة طويلة في مصر. ولكنّه عاد الى مسقط رأسه القدس: حيث واصَلَ نشاطه الأدبيّ.
لَقَد شَغَفَنِي (1) زَوجِي حُبّاً، وَتَمَلَّكَ كُلَّ جارِحَةٍ مِن جَوارِحِي. وَلَو كانَ لِي أَن أَقتَطِعَ مِن لَحمِي شَطرًا وَأُطعِمَهُ إِيّاهُ لَفَعَلتُ، وَلَو كانَ لِي أَن أَكسُوهُ أَجمَلَ ثِيابِي لَمَا تَرَدَّدتُ.
جَمالُهُ فِتنَةٌ لا مَثِيلَ لَها. وَصُورَتُهُ سِحرٌ لا يُشبِهُهُ شَيءٌ. أَوَدُّ أَحياناً أَن يَنقَلِبَ جِسمِي كُلُّهُ عَيناً واسَعَةَ الحَدَقَةِ (2) لِتَستَمتِعَ بِجَمالِه، وَلِتَغتَرِفَ مِن جَلالِهِ ما شاءَ لَها أَن تَفعلَ. وَكَم أَوَدُّ أَن يَنقَلِبَ جِسمِي كُلُّهُ أُذُناً واسِعَةً مُرهَفَةً (3) لِتَتَلَقَّفَ (4) صَوتَهُ الجَمِيلَ، وَلِتَستَمِعَ إِلَى أَناشِيدِهِ الرّائِعَةِ وَغِنائِهِ العَذبِ.
أَمّا ذَلِكَ العُرفُ (5) القِرمِزِيُّ اللَّيِّنُ الَّذي يَتَدَلَّى مِن مَفرِقِهِ فَقِطعَةٌ فَنِّيَّةٌ مِن صُنعِ خالِقٍ مِفَنٍّ (6) بارِعٍ. وَأَمّا ذَلِكَ الفَمُ الجَمِيلُ الدَّقِيقُ الَّذي أَوَدَعَهُ اللهُ أَعذَبَ لِسانٍ، وَأَمّا ذانِكَ الجَناحانِ المُلَوَّنانِ بِأَجمَلِ الأَلوانِ، وَأَمّا تانِكَ السّاقانِ الدَّقيقَتانِ، وَتِلكَ الأَصابِعُ الزُّمُرُّدِيَّةُ، وَتِلكَ الأَظافِرُ العاجِيَّةُ، وَتِلكَ المِشيَةُ المُتَهادِيَةُ (7)، فَصُنعُ خالِقٍ جمِيلٍ أَحَبَّ الجَمالَ فَطَبَعَ خَلقَهُ بِطابَعِهِ، وَأَنشَأَهُم مِن صُورَتِهِ، فَجاءُوا أَجمَلَ مَخلُوقاتٍ مِن صُنعِ أَجمَلِ خالِقٍ.
ما أبهَجَ صَباحَنا حِينَ يَخرُجُ زَوجُنا مِن مُخدَعِهِ (8)، وَيَمشِي مِشيَةَ المُدِلِّ (9) بجَمالِهِ، وَيَصعَدُ في أًعلَى مَكانٍ، وَيَفتَنُّ في الإنشادِ وَالشَّدوِ في صَوتٍ هُوَ السِّحرُ الحَلالُ. إِنّا لَنَخرُجُ في الصَّباحِ ونَقِفُ ذاهِلاتٍ مِنَ فَرطِ ما نَشعُرُ بِهِ مِن رَوعَةٍ وَنشوَةٍ. وَكَم نَتَمَنَّى أَن يَقِفَ الزَّمانُ في تِلكَ اللَّحظَةِ لِيَستَمِرَّ ذَلِكَ الصَّوتُ في نَغَماتِهِ.
1. شَغَفَني: أصابَني في الصميم.
2. الحَدَقَة: سَواد العين.
3. المُرهَفَة: الدقيقة السمع التي تلتقط أَدَقَ الأَصوات.
4. تَلَقَّفَ الشيء: تناوَلَه بسرعة.
5. عُرف الديك: لَحمَة تَعلو رأسه.
6. المِفَنّ: الذي يأتي بعجائب الأمور.
7. المتهادية: المتمايلة.
8. المُخَدع: بيت داخل البيت الكبير. غرفة النوم.
9. المُدِلّ بِجَماله: الواثِق به.
لِمَ لا أَحيا وَظلُّ الوردِ يَحيا فى الشِّفاهْ،
وَنَشِيدُ البُلبُلِ الشّا دي حَياةٌ لِهَواه؟
لِمَ لا أَحيا، وفى قَلبى وفى عَينِى الحَياه؟
سَوفَ أَحيا سَوفَ أَحيا
يا رَفيقَى نَحنُ مِن نُو رٍ إِلَى نُورٍ مَضَينا
وَمَعَ النَّجمِ ذَهَبنا وَمَعَ الشَّمسِ أَتَينا
أَينَ ما يُدعَى ظَلاماً يا رَفيقَ اللَّيلِ أَينا؟
إِنَّ نُورَ اللهِ فى القَلبَ وَهَذا ما أَراه...
سَوفَ أَحيا سَوفَ أَحيا
لَيسَ سِرّاً يا رَفيقى أَنَّ أَيّامى قَليلَه
لَيسَ سِرّاً، إِنَّما الأَيّامُ بَسماتٌ طَويلَه
إِن أَرَدتَ السِّرَّ فَاسأَل عَنهُ أَزهارَ الخَميلَه
عُمرُها يَومٌ.. وَتَحيا اليَومَ حَتَّى مُنتَهاه...
سَوفَ أَحيا سَوفَ أَحيا
مرسي جميل عزيز
من كتاب (حديقتي) ج 5
لفالح فلوح وآخرين
ولد القاضي الياس كتيلة في حيفا 1911، وبعد أن أكمل دراسته حصل على شهادة المترك عام 1930، وبدأ يعمل كموظّف في سكّة الحديد. ثمَّ عُيِّنَ مترجِماً في المحكمة المركزيّة بحيفا. ثمَّ واصل دراسته للحقوق بالقدس عن طريق المراسّلة. وبعد حصوله على إجازة الحقوق عُيَّنَ قاضياً للصلح في مدينة الناصرة عام 1945، وبقي في هذا العمل حتَّى أحيلَ الى التقاعُد عام 1982.
توفّي القاضي الياس كتيلة بتاريخ 28/7/1985.
عَلَى نَواحِي الطُّرُقِ العامَّةِ وَأَطرافِ الجِبالِ وَشِفاهِ الأَودِيَّةِ، يَرَى المارَّةُ لافِتاتٍ كَبِيرَةً كُتِبَ عَلَيها بِأَحرُفٍ بارِزَةٍ عِبارَةُ (امنَعِ الحَرائِقَ). وَعَلَى هَذِهِ اللاّفِتاتِ صُورَةُ شَجَرَةٍ لَسَعَتها أَلسِنَةُ اللَّهَبِ. وَبِجانِبِها عُودُ ثِقابٍ مُشتَعِلٌ أَو (قمعةُ) سِيجارَةٍ مُدَخِّنَةٌ، أَو مَوقِدَةٌ مُلتَهِبَةٌ.. وَيُفهَمُ مِن مَدلُولِ هَذا كُلِّهِ أَنَّ عَلَى المُواطِنِينَ الاِهتِمامَ بِالأَشجارِ وَالأَحراشِ، وَإِطفاءَ أَعوادِ الثِّقابِ وَأَعقابِ السَّجايِرِ قَبلَ إِلقائِها، وَالمَواقِدِ التي أَقامُوها قَبلَ مُغادَرَتِهِمُ المَكانَ.
وَفي سوريا ولُبنانَ - جارَتَينا في الشَّمالِ - كُنّا نَرَى لافِتاتٍ كَهَذِهِ كُتِبَ عَلَيها (أزرَع وَلا تَقلَع). وَيُفهَمُ مِن مَدلُولِها أَنَّ عَلَى المُواطِنِينَ أَلاَ يَقطَعُوا هَذِهِ الأَشجارَ لِلوَقُودِ وَلِلحاجَةِ، بَل عَلَيهِمُ المُحافَظَةُ عَلَيها وَزِيادَةُ عَدَدِها.
وَفي روسيا وَأَمريكا مَنَعَتِ الحُكُومَتانِ قَطعَ الأَشجارِ لاِستِعمالِها لِزِينَةِ عِيدِ المِيلادِ، وَاستَبدَلَتها بِالأَشجارِ المُصطَنَعَةِ. وَذَلِكَ لِصِيانَتِها وَالحِفاظِ عَلَيها.
فَالأَحراشُ ثَروَةٌ قَومِيَّةٌ ثَمِينَةٌ فيها فائِدَةٌ لِلنّاسِ، مِنها يَحتَظِبُونَ ما يَلزَمُهُم مِنَ الوَقُودِ، وَمِنها يَستَخِرجُونَ الخَشَبَ اللاّزِمَ لِلبِناءِ وَالصِّناعَةِ؛ وَلَكِن بِشَرطِ أَن يُحافِظُوا عَلَى مَراسِمِ القَلعِ وَالتَّحطِيبِ وَالغَرسِ مُحافَظَةً تامَّةً.
وَعَدا عَن هَذا، فَأَشجارُ الأَحراشِ مُرَطِّبَةٌ لِلجَوِّ صَيفاً، وَأَوراقُها تُكَوِّنُ حاجِزاً لِلرِّياحِ وَالهَواءِ. وَهِيَ مَجلَبَةٌ لِلأَمطارِ شِتاءً.
وَجِبالُ بِلادِنا في الأَجيالِ الماضِيَةِ كانَت مَكسُوَّةً بِالأَشجارِ الحُرشِيَّةِ الباسِقَةِ. وَلِجَهلِ الأَهلِينَ في العُصُورِ المُتَعاقِبَةِ وَإِهمالهِمِ لَها، امتَدَّت إِلَيها يَدُ الفَناءِ وَالبّوارِ. وَإِبّانَ الحَربِ العالَمِيَّةِ الأُولَى أَمَرَتِ الحُكُومَةُ العُثمانِيَّةُ بَتَحطِيبِ الأَشجارِ الحُرشِيَّةِ لاِستِعمالِ حَطَبِها لِوَقُودِ القاطِراتِ البُخارِيَّةِ؛ وَذَلِكَ لاِنقِطاعِ وارِدِ الفَحمِ الحَجَرِيِّ
هَكَذا اختَفَت آثارُ أَشجارٍ عَديدَةٍ، وَانكَشَفَتِ التُّربَةُ، وَسَحَبَتِ الأَمطارِ تُربَةَ هَذِهِ المَواقِعِ أَوِ الأَودِيَةِ، فَتَجَرَّدَتِ الأَرضُ وَتَعَرَّت، وَبانَتِ الصُّخُورُ، وَأَصبَحَتِ الجِبالُ جَرداءَ قَرعاءَ لا يُرَى مِنها إِلاّ صُخُورٌ صَمّاءُ (1) وَقَليلٌ مِن جُذُورِ الَشجارِ القَدِيمَةِ المُتَمَسِّكَةِ بِباطِنِ الأَرضِ.
وَإِبّانَ الاِنتدابِ البريطانِيِّ قامَتِ الحُكُومَةُ وَالوَكالَةُ اليَهُودِيَّةُ بِغَرسِ مَناطِقَ مُعَيَّنَةٍ اختارَتها لِلأَحراشِ، وَتَضاعَفَ الغَرسُ بَعدَ إِقامَةِ دَولَةِ إِسرائيلَ، وَصَدَرَتِ الأَوامِرُ بِعَدَمِ تَربِيَةِ قُطعانِ الماعِزِ؛ لأَنَّ الماعِزَ هُوَ أَكبَرُ (السَّخَطاتِ) المُسَبِّبةِ لإِبادَةِ الأَحراشِ. فَالعَنزَةُ كَالعِفرِيتِ تَأكُلُ المُرَّ وَالحُلوَ مِنَ الأَشجارِ، وَتَقضِمُ الفُرُوعَ وَالجُدُوعَ. وَمَن يَمُرَّ الآنَ في أَعالِي الجَليلِ وَأَواسِطِهِ، يَرَ أَحراشَ السِّندِيانِ، وَقَد قامَت فُرُوعُها مِن جَديدٍ بِشَكلٍ يَبهَجُ العَينَ وَيَسُرُّ الخاطِرِ (2).
وَقامَتِ الحُكُومَةُ بِفَرزِ مِساحاتٍ جَرداءَ واسِعَةٍ غَرَسَتها بالأَشجارِ الحُرشِيَّةِ المُنَوَّعَةِ كَالسَّروِ وَالأَرزِ وَالصَّنَوبَرِ وَغَيرِها. كَما غَرَسَتِ الأَشجارَ عَلَى جَوانِبِ الطُّرُقِ العامَّةِ وَحُدُودِ البِلادِ، فَعَمَرَت بِها وَتَزَيَّنَت بِخُضرَتِها وَنَضرَتِها.
وَلَقَد أَقامَتِ الأُمُمُ أَعياداً لِلشَّجَرَةِ. وَنَحنُ نَعلَمُ أَنَّ المَسِيحِيَّةَ نَقَلَت عادَةَ تَزيِينِ الأَشجارِ المِيلادِيَّةِ عَن قَبائِلِ الحِرمانِ القُدماءِ. فَقَد كانُوا يُؤَلّهُونَ الأَشجارَ وَيَعبُدُونَها. وَكَدا كانَ المِصرِيُّونَ القُدَماءُ.
وَيَقُومُ إِخوَتُنا اليَهُودُ بِالاِحتِفالِ بِعِيدِ الشَّجَرَةِ في اليَومِ الخامِسَ عَشَرَ مِن شَهرِ شُباطَ العِبرِيِّ مِن كُلِّ عامٍ. وَفيهِ يَخرُجُ النّاسُ وَطُلاّبُ المَدارِسِ لِزَرع الأَشجارِ، حَيثُما يُرادُ زَرعُها.
فَلنَذكُر في هَذا العِيدِ أَهَمِّيَّةِ الشَّجَرَةِ وَمَنافِعَها. وَليَكُن شِعارُنا دائِماً (ازرَع وَلا تَقلَع). وَكُلَّ عامٍ وَأَنتُم بِخَيرٍ.
القاضي: الياس توفيق كتيلة
عن مجلّة (اليوم لأولادنا)
السنة 6؛ العدد 9؛
1/ 2/ 1966
1. صَمّاء: صُلبة. متينة.
2. الخاطِر: الفِكر.
عالِم مصري، يعمل في المركز القومي للبحوث. له كتاب (مطالَعات علميّة)؛ يستعرض فيه جهود أجيال من العلماء يتحمّلون مسؤوليّة تطوير الحياة عن طريق استقراء ظواهر الطبيعة وتفسيرها. ويهدف الى تقديم العلوم في صورة مبسَّطة، بعيداً عن المصطَلَحات العلميّة.
بَعدَ مُرورِ أَكثَرَ مِن خمسَةَ عَشَرَ عاماً على بدايةِ عَصرِ الفضاءِ، بِإطلاقِ الاتِّحادِ السوفييتيِّ للصاروخِ سبوتنيك في 4 أكتوبر 1975، وبالرغمِ مِنَ التَّقَدُّمِ المُذهِلِ في هذا النجالِ، والذي تُوِّجَ بِهُبوطِ الإنسانِ على سطحِ القمرِ لأَوَّلِ مرَّةٍ عامَ 1969، فما زالَ الناسُ يتساءَلونَ في حَيرةٍ وَعَجَبٍ.. ما هي الفوائدُ التي ستعودُ على بنِي البَشَرِ من ريادةِ الفضاءِ؟ وهل الهُبوطُ على سطحِ القمرِ مُجَرَّدُ استِعراضِ عَضَلاتٍ لا طائِلَ منهُ؟ أَم أَنّهُ يحملُ بين طيَاتِهِ الخيرَ للبشرِيَّةِ.. وهذه البَلايينُ المخصَّصَةُ لأَبحاثِ الفَضاءِ.. أَلَيسَ أَولَى بِها أَن تُنفَقَ في حَلِّ المَشاكِلِ المُلِحَّةِ على الأرضِ؟
ولقَد كَثُرَ الجدَلُ حَولَ إِجاباتِ هذه الأَسئِلَةِ، وانقسمَ العلماءُ والفلاسفةُ على أنفسهِم بين مُعَضِّدٍ (1) ومُعارضٍ. ففي حينِ يرى المؤرّخُ البريطانيُّ أرنولد توينبي أَنَّ الذهابَ الى القمرِ يشابهُ بناءَ الأَهرامِ في مِصرَ، أَو بناءَ قَصرِ لويسَ الرابعَ عشرَ في فرساي، وأَنّه من الشائِنِ أن نفعلَ ذلك في حينِ يفتقرُ بِنُو الإنسانِ الى الضَّروريّاتِ، نَجِدُ الكثيرَ من علماءِ العصرِ يؤيّدونَ رِيادَةَ الفضاءِ، لأنّها تمثّلُ أكبرَ مغامَرَةٍ قامَ بها الإنسانُ على مَرِّ الزَّمانِ، وَلأَنَّ تحريرَ الإنسانِ من جاذبيَّةِ الأرضِ لأوَلِ مَرَّةٍ هو بمثابةِ ميلادِ حضارةٍ جديدةٍ لم تَتَّضِح مَعالِمُها بَعدُ. فأَبحاثُ الفضاءِ ما زالت في مرحلةِ صِباها الأولى.. ومن الصَّعبِ على أيِّ عالِمٍ أن يتنبَّأَ بِدِقَّةٍ عَمّا سَيُسفِرُ عنه ارتِيادُ الفضاءِ.. هل هُنالِكَ عَوالِمُ جديدةٌ سَيُكشَفُ عنها النِّقابُ؟.. ما هي الآفاقُ الجديدةُ التي سَتُتاحُ لِلإِنسانِ من جَرّاءِ غزوه للقمرِ وغيرهِ من الكواكبِ الأخرى؟ الى غيرِ ذلك من الأسئلةِ التي تتوارَدُ على الدِّهنِ.
ويرى علماءُ الإنسانِ (الإنثروبولوجي) أَنَّ مجرَّدَ افتِراضِ وُجودِ حياةٍ بشكلٍ ما في أيَّةِ بقعةٍ من الكَونِ، سَيُقَلِّلُ بدرجةٍ كبيرةٍ من غَطرَسَةِ (2) الإنسانِ وَتَعاليهِ ضِدَّ أَخيه الإنسانِ؛ مِمّا يُؤدّي على اتّحادِ بني البشرِ بصفتهم آدَمِيّينَ لهم مصالِحُ مشتَرَكَةٌ في الدفاعِ عن كِيانِهم ووجودِهم. وهذه الوَحدةُ البشريّةُ في حَدِّ ذاتِها تمثِّلُ أكبرَ إنجازاتِ رِيادَةِ الفضاءِ.
ومِمّا لا شكَّ فيه أَنَّ ارتيادَ الفضاءِ قد حَقَّقَ حتَّى الآنَ الكثيرَ من المنافعِ للبشرِ في شَتَّى (3) مجالاتِ الحياةِ. فلا يمادُ يوجدُ إنسانٌ على سطحِ الأرضِ لَم يتأَثَّر بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ بعصرِ الفضاءِ. فلقَد تجمَّعَ لدَى البشرِ مِنَ الإمكانيّاتِ المادَيّةِ والخِبرةِ الفنّيّةِ والمعلوماتِ المخزونةِ في العقولِ الإلِكترونيّةِ رصيدٌ ضَخمٌ لم يتوفَّر عَبرَ العصورِ الماضيةِ، يمكنُ الاستِفادةُ منه في حَلِّ مشاكلِ الزراعةِ والصناعةِ والصحَّةِ والمواصَلاتِ والتعليمِ وغيرِ ذلك مِمّا حارَ فيه العِلمُ الحديثُ.
إِنَّ الحاجَةَ الى خاماتٍ جديدةٍ لتَصنيعِ وبناءِ محطّاتِ وسفنِ الفضاءِ، أَدَّت الى ابتِكارِ (4) العديدِ من الموادِّ الجديدةِ، التي امتدَّ استعمالُها لخِدمةِ النّاسِ على سطحِ الأرضِ، فأَصبَحَ مخلوطُ الألومِنيوم ورَغوَةُ البلاستيك يُستَخدَمانِ في صناعةِ حوائطِ المباني الجاهزة، واتَّسَعَت دائرةُ الاستفادةِ من التيتانيوم والسليكون والزركزم (5) في صِناعاتِ الطائراتِ ومَركَباتِ الفضاءِ وفي الدوائرِ الإِلِكترونيَّةِ (6)، وعُمِّمَت صناعةُ منسوجاتٍ الفضاءِ لِتُسْتَعمَلَ على الأرضِ في صناعةِ المباني العازلةِ للحرارةِ، وفي صناعةِ السفنِ والسيّاراتِ والثلاّجاتِ.
ولِتوفيرِ مُتَطَلَّباتِ الحياةِ داخِلَ مَرَكَباتِ الفضاءِ المُغلَقَةِ، تمكَّنَ العلماء مِن تصميم أنواعٍ جديدةٍ من البطّاريّاتِ الصغيرةِ الحَجمِ المَحشُوَّةِ بالطاقةِ، والتي يُمكِنُ أَن تُستَخدَمَ الآنَ في تشغيلِ السيّاراتِ والجَرّاراتِ الزراعيّةِ، وفي استِخراجِ البترولِ، وفي المِلاحةِ الجَوّيّةِ، وفي المَنازلِ والمصانعِ والمستَشفَياتِ والمعامِلِ، وفي تشغيل أَجهِزَةِ التليفزيونِ، وفي المناطقِ النائِيَةِ.
وفي محالِ الصحَّةِ أَمكَنَ إِنقاذُ حياةِ الآلافِ من المَرضَى، وَتَيسيرُ سُبُلِ العَيشِ المُرِضي لهمْ بتَطبيقِ الإنجازاتِ التي حَقَّقَتها تِكنولوجيا الفضاءِ في مَجالِ الطِّبِّ الوِقائِيِّ والتَّنَبّؤ بالأمراضِ. فأصبحَ لدينا الكثيرُ من الأجهزةِ التعويضيّةِ كَمُحَرِّكاتِ الكُلَى وَمِضَخاتِ القلبِ الصناعيَّةِ التي لا غَنًى عَنها في العمليّاتِ الجراحيَّةِ. ويقومُ الأطباءُ الآن بعلاجِ حالاتِ انفِصامِ الشَّخصِيَّةِ (7) والمَشيِ أَثناءَ النومِ، باسِتعمالِ خُوذاتِ (8) رجالِ الفضاءِ، بَعدَ تَزويدَها بِأَقطابٍ إِسفَنجِيَّةٍ تَقِيسُ ذَبذَباتِ المُخِّ بِمجرَّدِ وَضعِ الخُوذَةِ فوقَ الرأسِ، ودُونَ الحاجةِ الى أيَّةِ توصيلاتٍ أو إزالةِ الشَّعرِ أَو الدُّهنِ ويمكنُ استخدامُ الماشياتِ التي صُمِّمَت لِتُعِينَ رُوّادَ الفضاءِ على التَّجَوُّلِ فوقَ سطحِ القمرِ في عِلاجِ حالاتِ كُساحِ الأطفالِ. وكذلكَ شاعَ استِخدامُ البطّاريّاتِ الدَّرِّيَّةِ والنَّنَوِيَّةِ داخِلَ أَجسامِ مرضَى القلبِ لتنظيمِ ضَرَباتِهِ. وانتشَرَ استخدامُ أَشِعَّةِ الليزر (9) في العمليّاتِ الجِراحِيَّةِ بدلاً من اللجوءِ الى المِشرَطِ (10) حيثُ إِنَّها لا تُسَبِّبُ أَيَّ أَلَمٍ أو نَزِيفٍ.
وَيَجُوبُ الفضاءَ الآنَ مجموعةٌ كبيرةٌ من الأَقمارِ الصِّناعيَّةِ وسفُنِ الفضاءِ، تَخدُمُ العالَمَ بِأَسرِهِ (11)، مِمّا أَدَّى الى تحسينٍ كبيرٍ في مجالاتِ التَّنَبُّؤِ بِالجَوِّ والزراعةِ والمواصَلاتِ والتعليمِ والثقافةِ.
ففي مجالِ الأَرصادِ الجَوِّيَّةِ تعملُ الأَقمارُ الصناعيَّةُ كَمَحَطّاتٍ لِلرَّصدِ الجَوِّيِّ، لها القدرةُ على قِماشِ الأَحوالِ الجَوّيِّةِ في كافَّةِ بِقاعِ الأرضِ، بما في ذلكَ المناطقُ التي يستطيعُ الإنسانُ أَن يُدرِكَها. وتقومُ هذه الأقمارُ بِإرسالِ صُوَرٍ للمشاهداتِ الجَوِّيَّةِ مَرَّتَيننِ في اليومِ يُمكِنُ لِخُبَراءِ الأَرصادِ الجَوِّيَّةِ من خلالِها تَحديدُ مساراتِ العواصفِ والزوابعِ والأعاصيرِ، وَتَحرُّكاتِ الرياحِ والأمطارِ الموسِمِيَّةِ بِدِقَّةٍ بالِغَةٍ. ولا يَخفَى على أحدٍ ما لهذه المعلوماتِ من أهمّيّةٍ في تَمكِينِ المُزارِعينَ من تَحديدِ أَنسَبِ مواعيدِ الزراعةِ والرِّيِّ والتسميدِ، وفي توجيهِ أساطيلِ صَيدِ الأسماكِ الى البِقاعِ الآمنةِ، وفي إرشادِ السفنِ الحاملةِ للموادِّ الغِذائيَّةِ عن تحرُّكاتِ الثلوجِ، وتَغَيُّرِ درجاتِ الحرارةِ خلالِ رِحَلاتٍ حتّى لا يتطاوَلَ الفسادُ الى حُمولَتِها.
وفي مجالِ المواصَلاتِ، فإِنَّ نجاحَ الإرسالِ التليفزيونيِّ من سطحِ القمرِ في أَن يَصِلَ الى ملايينِ البَشَرِ على سطحِ الأرضِ في نفسِ الوقتِ، يبشِّرُ بِإِمكانِيَّةِ نَقلِ كافَّةِ أَنواعِ الرسائلِ والبرقِيّاتِ في لَمحِ البصرِ من أقصَى الكُرَةِ الأرضِيَّةِ الى أقصاها، وبطريقةٍ تفُوقُ في كِفايَتِها وَسِرِّيَّتِها ما يُمكِنُ أن تؤدّيَهُ أَجهزِةُ اللاسِلكِيِّ عاليةُ التَّرَدُّدِ (12) أو الكابتُ البحرِيَّةُ.
وسوفَ ينعكسُ هذا التطَوُّرُ على التعليمِ والثقافةِ من خلالِ إعلام وَعرضِ بَرامِجَ ثقافيّةٍ تعليميّةٍ تُوصِلُ المعرفةَ من خلالِ أَجهِزَةِ الاستقبالِ، الى مختلِفِ تَجَمُّعاتِ البشرِ بطريقةٍ سريعةٍ وسَهلَةٍ ورخيصةٍ.
وفي نفسِ الوقتِ فإنَّ الأقمارَ الصناعَيَّةَ وسفُنَ الفضاءِ تُعَدُّ بمثابةِ صِمامِ أَمانٍ يُمِدُّ الطائراتِ والسفُنَ في كافَةِ بِقاعِ الأرضِ بالبَياناتِ الدقيقةِ عن موقعها أَو اتّجاهِها إِذا ما لاقَت المتاعبَ. كما أنَّها سَتُيَسِّرُ لِفِرَقِ الإِنقاذِ الإِسراعَ الى يَواقعِ الحوادثِ والكَوارثِ لِنَجدَةِ بَني البشرِ في الوقتِ المناسِبِ.
ومعَ ارتيادِ الفضاءِ سَوفَ تتغيَّرُ القِيَمُ الاقتصاديَّةُ لِلثَرَواتِ الطبيعيّةِ... أَفَلَيسَ من الممكنِ أَن تكونَ الصخورُ والمعادنُ الكامنةُ تحتَ سطحِ كَوكَبِ الزُّهَرَةِ أَو زُحَلَ هي نفسُها التي توجَدُ تحتَ سطحِ الأرضِ؟ وفي هذا المجالِ يُمكِنُ دِراسَةُ النجومِ الصغيرةِ التي كانت كواكبَ ثُمَّ فُتِّتَت على مَرِّ الزَّمَنِ.. فقَد نَجِدُ بَينَ هذهِ النُّجَيماتِ ما يتكوَّنُ كُلُّهُ من مَعدِنٍ ثَقِيلٍ مفيدٍ لِبَني البشَرِ.. وفي هذه الحالةِ يكونُ جَذبُ هذهِ النُّجَيمَةِ الى الأرضِ بواسطةِ تحرُّكٍ صاروخيٍّ نَفّاثٍ. وبذلكَ نحصُلُ على آلافِ الأَطنانِ من المعادنِ الثَّمينَةِ.
ولقَد تَبَيَّنَ لنا أَنَّ نَقلَ خاماتِ الفضاءِ سيكونُ باهظَ التكاليفِ من وُجهَةِ النظرِ الاقتِصادِيَّةِ.. فَإِنَّهُ من الممكنِ بناءُ المُعَدّاتِ الخاصَّةِ لتصنيعِ هذه الخاماتِ بالقرب من أماكن وجودها بإطلاقِ مصانعَ من الأرضِ. وليسَ هُناكَ أَيُّ شَيءٍ خارِقٍ للعادةِ في هذه الآراءِ.. فمن الممكنِ أن نُطلِقَ الى كوكبِ المشتري على سبيلِ المِثالِ مصانعَ نَستَخرِجُ منها غازَ المِيثانِ أو الأمونيا، وتُنقَلُ الى الأرضِ بعدَ ذلكِ.
وسوفَ يفتحُ ارتيادُ الفضاءِ البابَ على مِصراعَيهِ أَمامَ عُلَماءِ الفَلَكِ.. فَبِناءُ - مَحَطّاتِ أَرصادٍ جَوّيّةٍ على القمرِ سَوفَ يُمَكِّنُنا من فتحِ صفحةٍ جديدةٍ في عالَمِ السَّماءِ.. وسوفَ نرى الكَونَ بطريقةٍ جديدةٍ، وبِزاويةٍ جديدةٍ لَم يسبِق لَنا أَن طالَعناها.
من كتابه:
(مطالعات علميّة)
1. مُعَضِّد: مؤيّد.
2. الغَطرّسة: الكِبريياء.
3. شَتَّى المجالات: مختلِف المجالات
4. ابتكار: اختراع.
5. التيتانيوم والسليكون والزركزم: أنواع من العناصر الكيماويّة.
6. الإلكترونيةّ: الكهربائية المعقّدة.
7. انفصام الشخصية: انقسام الشخصيّة - مرّض لا شفاهَ منه.
8. الخوذّة: طاسة الحديد التي توضع على الرأس.
9. أشِعَة الليزر: تمتاز هذه الأشعة بكونها أحاديّة اللون، وبعدَم تفرُّقها، وبقدرتها على اختراق الحواجز. وهي على أنواع مختلفة.
10. المِشرّط: مِضَع الجَرّاح.
11. بِأَسره: بِكامله.
12. التردَد: عدد الدورات في الثانية الواحدة.
هو أبو الطيّب أحمد بن الحسين. ولد سنة 915م في الكوفة. اتّصل بسيف الدولة الحمداني صاحب حلب، ثمَّ اتّصل بكافور الإخشيدي أمير مصر. بعد ذلك رحل إلى العراق، وهناك قُتِلَ عام 965م. وللمتنبّي شعر جُمِعَ في ديوان. وقَد وُصِفَ بأنَّه من أعظَم شعراء العرب وأخصَبهم خيالاً.
(كان بدر بن عمّار يتولَّى الجيش في طبريّة، فلزمه المتنبّي مدَّةَ سنتين أو ثلاث.. وقد لقيّ قيه ضالّتَهُ المنشودةَ من كرَم ورجولة ومجد قوميّ... فجرى في أحد الأيّام أن خرج بدر بن عمّار الى أسد فهرب الأسد منه. وكان قد خرج قبلَه الى أسد آخَر فهاجَهُ عن بقرة افترسها بعد أن شبع وثقل. فوثب الى كفّل فرسه، فأعجَلَه عن استِلال سيفه، فضربه بالسوط، ودارَ به الجيش. فقال أبو الطيّب القصيدة التي نجتزيْ منها بوَصف الأسد، مادحاً بدر بن عَمّار).
وَردٌ إِذا وَرَدَ البُحَيرَةَ شارِباً وَرَدَ الفُراتَ زَئِيرُهُ وَالنِّيلا (1)
مُتَخَضَّبٌ بِدَمِ الفَوارِسِ، لابِسٌ في غِيلِهِ مِن لِبدَتَيهِ غِـيلا (2)
ما قُوبِلَت عَيناهُ إِلاّ ظُنَّتا تَحتَ الدُّجَى، نارَ الفَريقِ حُلُولا (3)
في وَحدَةِ الرُّهبانِ، إِلاّ أَنَّهُ لا يَعرِفُ التَّحريمَ وَالتَّحليلا (4)
يَطَأً الثَّرَى مُتَرَفَّقاً مِن تِيهِهِ فَكَأَنَّهُ آسٍ يَجُسُّ عَليلا (5)
وَيَرُدُّ عُفرَتَهُ إِلَى يَأفُوخِهِ حَتَّى تَصِيرَ لِرَأسِهِ إِكليلا (6)
وَتَظُّنُهُ، مِمّا يُزَمجِرُ، نَفسُهُ عَنها، لِشِدَّةِ غَيظِهِ، مَشغولا (7)
قَصَرَت مَخافَتَهُ الخُطَى، فَكَأَنَّما رَكِبَ الكَمِيُّ جَوَادَهُ مَشكُولا (8)
أَلقَى فَرِيسَتَهُ وَبَربَرَ دُونَها وَقَرُبتَ قُرباً خالَهُ تَطفيلا (9)
ما زالَ يَجمَعُ نَفسَهُ في زَورِهِ حَتَّى حَسِبتَ العَرضَ مِنهُ الطُّولا (10)
وَيَدُقُّ بِالصَّدرِ الحِجارَ كَأَنَّهُ يَبغِي إِلَى ما في الحَضيضِ سَبيلا (11)
وَكَأَنَّهُ غَرَّتهُ عَينٌ فَادَّنَى لا يُبصِرُ الخَطبَ الجَليلَ جَليلا (12)
المتنبّي
(ديوان المتنبّي)
1. الوَرد: الذي يضرب لونه الى الحُمرة، وكُفِيَ بذلك عن الأسد. والمراد بالبحيرة بحيرة طبريّا.
الزئير: صوت الأسد.
2. مُتَخَضَّب: مصبوغ بلّون الحِنّاء. الغِيل: الغابة.
3. الفريق: الجماعة.
4. الوَحدَة: العُزلة.
5. يَطَأً: يدوس. التّيِه: الكِبرياء. الآسي: الطبيب. العَليل: المَريض.
6. الغُفرَة: شَعر مؤخَّر العنق. البأفوخ: ملتقّى عَظم مقدَّم الرأس ومؤخّره (النافوخ).
7. يُزَمجِر: يردّد زئيره. الغَيظ: ويقصد هُنا أنَّ نَفسَ الأسد تظنّه مشغولاً عمها لكَثرَة ما يزمجر من شدّة غضبه.
8. الكَمِيّ: لابِس السلاح. الجَواد: الفرَس الكريم. المَشكول: المُقَيَّد.
9. البَربَرَة: كلام المُغضَب، وقد استعارها لزمجرة الأسد. التطفيل: الدخول على الآكِلِين من غير دَعوَة.
10. الزَور: هُنا وسَط الصدر حيث تلتقي عظامه.
11. يَدُقّ: يكسر. الحَضيض: القَرار من الأرض. والمعنى أنَّ الأسد كان لشدة غيظه يضرب الحجارة بصدره فيدقّها، كأنَّه يريد أن يحفر الأرض ويتَّخذ سبيلاً الى قرارها.
12. ادَّنَى: اقتَرَبَ. الخَطب الجَليل: المُصاب العظيم.
أديب وشاعر فرنسي رومانسيّ الاتّجاه، له (حكايات من إسبانيا وإيطاليا)، و (الليالي).
عادَ البَجَعُ في ضَبابِ المَساءِ، وَقَد أَتعَبَتهُ رِحلَةٌ طَوِيلَةٌ...
تَركُضُ صِغارُهُ الجائِعَةُ عَلَى الشَّطِّ؛ إِذ تَراهُ مِن بَعِيدٍ يَرِفُّ عَلَى الماءِ.
وَتَحسَبُ أَنَّها أَصابَت فَرِيسَةً تَتَقاسَمُها.
فَتُسرِعُ أَبِيها وَهِيَ تَصِيحُ فَرِحَةً مَسرُورَةً
تَهُزُّ مَناقِيرَها عَلَى حُلُوقِها المَفتُوحَةِ.
أَمّا هُوَ. فَبِخُطًى وَئِيدَةٍ مُتَمَهِّلَةٍ مُثقَلَةٍ، يَصِلُ إٍلَى صَخرَةٍ مُرتَفِعَةٍ.
فَيُؤوِي فِراخَهُ تَحتَ جَناحَينِ مُستَرخِيَينِ.
وَبَنظُرُ إِلَى السَّماءِ كَصَيّادٍ حَزِينٍ.
وَيَدفُقُ الدَّمُ مِن صَدرِهِ المَفجُوعِ المَكشُوفِ.
لَقَد جاسَ أَعماقَ البِحارِ دُونَ جَدوَى.
المُحيطُ فارِغٌ وَالشَّطُّ قفرٌ.
فَلَيسَ سِوَى قَلبِهِ يَحملُهُ لِفِراخِهِ.
غِذاءً... وَقُوتاً.
وَفي صَمتٍ وَكَآبَةٍ.
يَستَلقِي عَلَى الصَّخرِ وَيَتَمَدَّدُ.
يَقسِمُ أَحشاءَهُ بَينَ صِغارِهِ.
وَفي حُبٍّ مُتَسامٍ... يُهَدهِدُ أَلَمَهُ..
وَلَكِنَّهُ في غمرَةِ هَذِهِ التَّضحِيَةِ المُقَدَّسَةِ..
يَنهَضُ إذ ذاكَ وَيَرتَفِعُ فاتِحًا جَناحَيهِ لِلرِّيحِ.
يُلقي وَداعَهُ المُحزِنَ بِصُراخٍ هائِلٍ، تَهجُرُ مِن هَولِهِ طُيُورُ البِحارِ الشَّطَّ.
وَيَقِفُ المُسافِرُ، الَّذي تَأَخَّرَ عَلَى الشّاطِيِء، مَذعُوراً يَبْتَهِلُ إِلَى اللهِ...
وَقَد شَعَرَ ِبِالمَوتِ يَمُرُّ مِن أَمامِهِ..
وَيَهوِي البَجَعُ مِن عَليائِهِ سَعِيداً...
يَهوِي سَعِيداً بِما قَدَّمَهُ لِصِغارِهِ.
عَلَى حِينِ يَنصَرِفُ الصِّغارُ إِلَى لَعِبِهِم فَرِحِينَ مَسرُرورِينَ.
أَلفرِد دي موسيه
ترجمة: توفيق اليازجي (بتصرُّف)
من كتاب (حديقتي) ج 5
لنجاة عامودي وآخرين
في مِنطَقَةِ الشّارونِ الشَّمالِيَّةِ - في ضَواحِي بِنيامينا وَقِيساريا، يَجري نَهرٌ يَنبُعُ مِن جِبالِ السّامِرَةِ، وَيَنحَدِرُ غَرباً إِلَى البَحرِ الأَبيَضِ المُتَوَسِّطِ.
وَقَد سَمّاهُ العَرَبُ نَهرَ الزَّرقاءِ لْزُرقَةِ مِياهِهِ التي تَجري بَينَ ضِفَّتَيهِ الخَضراوَين. وَمِن هَذا الاِسمِ اشتُقَّ اسمُ قَريَةِ جِسرِ الزَّرقا التي يَسكُنُها عَرَبُ الغَوارِنَةِ حالِيّاً. وَفي القُرُونِ الوُسطَى سَمّاهُ العَرَبُ (وادِيَ التَّماسيحِ). وَفِعلاً كانَت تَعِيشُ في هَذا النَّهرِ تَماسيحُ كَثِيرَةٌ؛ وَلِدا سًمِّيَ بِهَذا الاِسمِ. وَفي سَنَةِ 1877، اصطِيدَت فيهِ أُنَثى لِتِمساحٍ بَلَغَ طولُها ثَلاثَةَ أَمتارٍ، وَفي بَطنِها ثَمَانٍ وَأَرَبعُونَ بَيضَةً.
كانَت تَقُومُ عَلَى ضِفَّتَي نَهرِ التَّماسيحِ وَعِندَ مَصَبِّهِ في البَحرِ الأَبيَضِ المُتَوَسِّطِ؛ مَدينَةٌ اسمُها كروكوديلوفوس - وَهُوَ اسمٌ رُومانٌّ بِمَعنَى مَدينَةِ التَّماسيحِ وَخَرائِبُ هَذِهِ المَدينَةِ تُكَوِّنُ اليَومَ تَلاًّ يُسَمّى (تَلَّ مِلحَةَ).
وَيَتَحَدَّثُ قرطلوسُ، وَهُوَ أَحَدُ الحُجّاجِ المَسيحِيّينَ، الذي زارَ البِلادَ حَوالَي عامِ 1148، يَتَحَدَّثُ عَن نَهرِ التَّماسيحِ، وَهُوَ يُسَمّيهِ علَى اسمِ قيسارِيَةَ المَدينَةِ المُجاوِرَةِ وَيَقولُ: تَعِيشُ في النَّهرِ تَماسيحُ فَظِيعَةٌ (1)، وَهِيَ مُعادِيَةٌ لِإِنسانِ أَكثَرَ مِن أَيِّ حَيَوانٍ آخَرَ. وَهُوَ يَرويَ لَنا كَيفَ جاءَتِ التَّماسيحُ إِلَى النَّهرِ.
يَقولُ إِنَّهُ في قَديمِ الزَّمانِ كانَ يَحكُمُ قيسارِيَةَ أَخَوانِ يَقتَسِمانِ السُّلطَة عَلَيها، وَكانَ يَحُزُّ في نَفسِ الأَخِ الأَكبَرِ أَنَّهُ لَم يَكُنِ الحاكِمَ الوَحيدَ عَلَى المَدينَةِ. فَفَكَّرَ في خُطَّةٍ يَتَخَلَّصُ بِها مِن أَخيهِ. وَكانَ أَخوهُ مُصاباً بِالجُذامِ (2) وَاعتادَ أَن يَغتَسِلَ يَومِيّاً في النَّهرِ آمِلاً أَن يَكُونَ ذَلِكَ شِفاؤهُ. فَذَهَبَ أَخوهُ الأَكبَرُ إِلَى مِصرَ، وَجَلَبَ مِن نَهرِ النّيلِ زَوجَينِ مِنَ التَّماسيحِ، وَرَماهُما في النَّهرِ كَي يَفتَرِسا أَخاهُ عِندَما يَغتَسِلُ في النَّهرِ. وَمُنذُ ذَلِكَ الحِينَ بَدَأَتِ التَّماسيحُ تَتَكاثَرُ في النَّهرِ.
وَيَروِي زائِرٌ آخَرُ وَهُوَ إِنجِليزِيٌّ، أَنَّ جَماعَةً مِنَ المِصريِّينَ كانوا يَسكُنونَ في ضَواحِي قيسارِيَةَ، وَكانوا يَعتَبِرونَ التِّمساحَ إِلَهاً يَعبُدونَهُ. لِذلِكَ أَحضَروا مَعَهُمُ التَّماسيحَ مِن بِلادِهِم وَأَلَقوها في هَذا النَّهرِ كَي يَستَمرّوا في عِبادَتِها.
وَنَهرُ التَّماسيحِ اليَومَ مَحمِيَّةٌ طَبيعِيَّةٌ يَأتيها الزُّوّارُ بِكَثرَةٍ لِيَستَحِمُّوا بِمِياهِ النَّهرِ العَذبَةِ، وَيُمَتِّعُوا النَّظَرَ بِآثارِ القَناطِرِ وَالمَبانِي القَديمَةِ هُناكَ.
عن مجلّة (لأولادنا)
العدد 2؛ السنة 14،
25/ 10/ 1973
كانَتِ الكُتُبُ قَبلَ اختِراعِ المَطبَعَةِ تُنسَخُ (1) بِالأَيدِي، وَلِهَذا ظَلَّت نادِرَةَ الوُجُودِ، غالِيَةَ الثَّمَنِ، وَظَلَّ العِلمُ في مَهدِ الطُّفولَةِ، لا يُعدوُ نَفَراً (2) مِنَ الأَغنِياءِ، حَتَّى اختُرِعَ فَنُّ الطِّباعَةِ، فَانتَشَرَتِ الكُتُبُ في أَرجاءِ (3) المَعمُورَةِ، وَأَقبَلَ الغَنِيُّ وَالفَقِيرُ عَلَى ارتِشافِ رُضابِ (4) العُلُومِ وَاجتِناءِ ثِمارِها.
وَيُقالُ إِنَّ الصِّينِيِّينَ سَبَقُوا سائِرَ الأُممِ إِلَى هَذا الفَنِّ، وَعَرَفُوهُ مُنذُ القرنِ السّادِسِ المِيلادِيِّ، وَأَوَّلُ مَنِ اختَرَعَهُ أَحَدُ وُزَرائِهِمُ المُسَمَّى (فونغ تاون)، وَلَكِنَّهُ لَم يَنتَشِر قَبلَ القَرنِ العاشِرِ؛ إِذ طَلَبَ وَزِيرانِ مِن وُزَرائِهِم إِلَى عاهِلِهمِ (5) سَنَةَ 932 أَن يَأمُرَ بِطَبعِ بَعضِ كُتُبِهِم، فَأَجابَهُم إِلَى طَلَبِهِم، وَثابَروا عَلَى العَمَلِ عِشرِينَ عاماً حَتَّى أَتَمُّوهُ. وَفي أُخرَياتِ القَرنِ الثّالِثَ عَشَرَ، كانَ قَد طُبِعَ مِن كُتُبِهِم أَكُثَرُ التَّآلِيفِ الأَدَبِيَّةِ القَدِيمَةِ. وَطَرِيقَتُهُم في ذَلِكَ أَن يَكتُبُوا ما يَرُمُونَ (6) طَبعَهُ عَلَى وَرَقَةٍ، وَيُلقُوا الوَجَه المَكتُوبَ عَلَى قِطعَةٍ مِنَ الخَشَبِ الصُّلبِ الأَملَسِ، فَيُنقَلَ حِبرُ الكِتابَةِ مِنَ الصَّفحَةِ إِلَى الخَشَبِ، ثُمَّ يَحفِرُوا ما لَم يُصِبهُ الحِبرُ، وَيَستَّبقُوا الكَلِماتِ بارِزَةً، وَيَطلُوا وَجهَها بِالحِبرِ، وَيَضغَطُوا عَلَى القِرطاسِ وَيَمسَحُوا ظاهِرَهُ، فَتُطبَعَ فيهِ، وَلَدَيهِم حَتَّى الآنَ كُتُبُ مَطبُوعَةٌ مِن عَهدِ مُلُوكِ أُسرَةِ (سنغ) مِن سَنَةِ تِسعِمايَةٍ وَسِتّينَ إِلَى أَلفٍ وَمِئَتَينِ وَتِسعٍ وَسَبعِينَ. وَقَد نَقَلَ عَنهُمُ اليابانِيُّونَ هَذِهِ الصِّناعَةَ مُنذُ زَمَنٍ بعِيدٍ، وَجَرَوا فيها عَلَى طَرِيقَتِهِم، وَسارَ النَّسّاخُونَ في إِيطاليا وَالأَندَلُسِ وَصِقِلِّيَةَ في أَواخِرِ القَرنِ الثّانِي عَشَرَ عَلَى طَرِيقَتِهِم أَيضاً في طَبعِ النَّقشِ عَلَى أَنسجَتِهِمُ الحَرِيرِيَّةِ وَالقُطنِيَّةِ، وَكَدا طَبَعُوا وَرَقَ اللَّعِبِ، حَتَّى تَوَصَّلوا في أَوائِلِ القَرنِ الخامِسَ عَشَرَ إِلَى حَفرِ الصُّوَرِ الدِّينِيَّةِ عَلَى الخَشَبِ.
وَما زالَتِ الطِّباعَةُ عَلَى تِلكَ الحالِ، حَتَّى اختُرِعَتِ المَطبَعَةُ الحَدِيثَةُ. وَقَدِ اختَلَفَ المُؤَرِخُونَ في مُختَرِعِها، فَزَعَمَ الهُولَندِيُّونَ أَنَّهُ (لورَنس كوستر) المُتَوَفَّى سَنَةَ أَلفٍ وَأَربَعِمِئَةٍ وَاثنَتَينِ وَثَلاثِينَ، وَأَنَّ حَنّا جُتِنبرج كانَ أَحَدَ عُمّالِهِ، فَسَرَقَ الاِختِراعَ، وَانتَحَلَهُ لِنَفسِهِ، أَمّا عُلَماءُ الأَلمانِ فَذَهَبوا إِلَى أَنَّ مُختَرِعَها إِنَّما هُوَ (جوتنبرج) سَنَةَ أَلفٍ وَأَربَعِمِئَةٍ وَسِتٍّ وَثَلاثِينَ. وَهُوَ رَجُلٌ أَلمانِيٌّ وُلِدَ سَنَةَ أَلفٍ وَأَربَعِمِئَةٍ وَتٍسعٍ. وَقَد هَداهُ إِلَى كَشفِ سِرِّ هَذِهِ الصِّناعَةِ ما شاهَدَهُ مِنَ اتِّباعِ المُصَوِّرِينَ في عَمَلِهِمُ الطَّرِيقَةَ الصِّينِيَّةَ السّالِفَةَ، وَمِن ثَمَّ عَنَّ لَهُ أَن يَنقُشَ الكَلِماتِ حَفراً عَلَى صَفائِحِ الأَلواحِ، وَجَدَّ في ذَلِكَ وَكَدَّ، حَتَّى كُلِّلَ عَمَلُهُ بِالنَّجاحِ. وَبَعدَ عَشرِ سِنِينَ، استَطاعَ أَن يَستَعمِلَ الحُرُوفَ المُتَحَرِّكَةَ في طَبعِ الكُتُبِ، بَيدَ (7) أَنَّهُ لَقِيَ صِعاباً جَمَّةً (8) في اختِيارِ المَعدِنِ المُلائِمِ لِصُنعِها. فَكانَ يَظهَرُ لَهُ أَنَّ الحَدِيدَ شَدِيدُ الصَّلابَةِ، وَأَنَّ الرَّصاصَ شَدِيدُ الرَّخاوَةِ، حَتَّى ذَهَبَتِ اختِباراتُهُ الكَثيرَةُ بِما كانَ لَدَيهِ مِن ثَروَةٍ. وَتَعاوَنَ مَعَهُ في مَشروعِهِ ثَلاثَةٌ واصَلُوا السَّعيَ، حَتَّى استَنفَذُوا ثَروَتَهُم، وَأَثقَلَتِ الدُّيُونُ كاهِلَ (جوتنبرج)، وَلَكِنَّهُ لَم يَيأَس، حَتَّى اهتَدَى إِلَى خَلطِ الرَّصاصِ بِالأَنتِمُونِ وَسَبَكَ مِنهُما الحُرُوفَ.
وَكانَ الكِتابُ المُقَدَّسُ أَوَّلَ ما طَبَعَهُ (جوتنبرج) بِاللُّغَةِ اللاّتِينِيَّةِ. وَلَمَّا رَأَى النّاسُ ذَلِكَ، زَعَمُوا أَنَّها كُتِبَت بِقُوَّةٍ سِحرِيَّةٍ. وَلَمّا أَبصَروا فيها سُطوراً مَكتوبَةً بِمِدادٍ أَحمَرَ، قالوا إِنَّها كُتِبَت بِدَمِ الشَّياطِينِ، وَكادوا يَبطشُونَ بِهِ، لَولا أَنَّهُ أَنبَأَهُم بِحَقِيقَةِ الأَمرِ.
وَتَحَسَّنَتِ المَطابِعُ مَعَ الأَيّامِ، وَانتَشَرَتِ الطِّباعَةُ في جَمِيعِ أَنحاءِ العالَمِ، وَاختَرَعَ الأوروبيّونَ المَطابِعَ العَرَبِيَّةَ، وَطَبَعوا الكُتُبَ المُقَدَّسَةَ، وَالكَثِيرَ مِنَ الكُتُبِ العَرَبِيَّةِ الجَلِيلَةِ (9) نَقَلوها مِن دُورِ الكُتُبِ بِالأَندَلُسِ وَالشَّرقِ أَثناءَ الغاراتِ الصَّلِيبِيَّةِ.
وَأَوَّلُ مَطبَعَةٍ عَرَبِيَّةٍ دَخَلَت مِصرَ، كانَت مَعَ اللَّجنَةِ العِلمِيَّةِ، التي صَحِبَت نابليون بونابرت سَنَةً أَلفٍ وَسَبعِمِئَةٍ وَثَمانٍ وَتِسعِينَ مِيلادِيَّةً، وَكانَ عَمَلُها إِذ ذاكَ مَقصُوراً عَلَى طَبعِ مَنشُوراتِهِ، وَطُبِعَ بِها بَعضُ صَغِيرَةٍ في التَّهجِيَةِ العَرَبِيَّةِ. وَلَمّا تَوَلَّى مُحَمَّدُ عَلِيٍّ عَرشَ مِصرَ، أَنشَأَ داراً لِلطِّباعَةِ في بُولاقَ سَنَةَ أَلفٍ وَثَمانِمِئَةٍ وَثَلاثٍ وَعِشرِينَ، وَقَد طُبِعَ بِها كَثِيرٌ مِنَ الكُتُبِ المُتَرجَمَةِ، مِن عِلمِيَّةٍ وَأَدَبِيَّةٍ. ثُمَّ أَنشَأَ المِصرِيُّونَ بَعدَ ذَلِكَ عِدَّةَ مَطابِعَ لِطَبعِ الكُتُبِ وَالصُّحُفِ وَالمَجَلاّتِ.
ثُمَّ انتَشَرَتِ المَطابِعُ العَرَبِيَّةُ في أَكثَرِ أَنحاءِ الشَّرقِ، فَتَعَدَّدَت في سوريَّةَ وَتُركِيَّةَ وَالهِندِ وَفارِسَ وَمَرّاكِشَ وَالجَزائِرِ وَزِنجِبارَ وَغَيرِها.
من كتاب
(الطرائف للقراءَة والاستيعاب)
ليعقوب الشاروني
1. تُنسَخ: تُكتَب.
2. النفَر: الجماعة من الرجال من ثلاثة الى عشرة.
3. أَرجاء: أَنحاء. أطراف.
4. الرُّضاب: القتل. الماء الطيِّب العذب.
5. العاهل: المَلِك.
6. يَرمون: يُريدون. يَطلُبون.
7. بَيدَ أَنَّه: غَيرَ أَنَّه.
8. جَمَّة: كثيرة.
9. الجليلة: العظيمة.
هو الوليد بن عبيد الله. ولد في مَنبِج قُربَ حلَب. له ديوان مطبوع، وكتاب (حماسة البحتري). توفّي سنة 284 ه، وَيُعَدُّ من أشهَر شعراء الوصف.
تَنصَبُّ فيها وُفُودُ الماءِ مُعجَلَةً كَالخَيلِ خارِجَةً مِن حَبلِ مُجرِيها
كَأَنَّما الفِضَّةُ البَيضاءُ سائِلَةً مِنَ السَّبائِكَ تَجرِي في مَجارِيها (1)
إِذا عَلَتها الصَّبا أَبدَت لَها حُبُكاً مِثلَ الجَواشِنِ مَصقولاً حَواشِيها (2)
فَحاجِبُ الشَّمسِ أَحياناً يُضاحِكُها وَرَيِّقُ الغَيثِ أَحياناً يُباكِيها (3)
إِذا النُّجُومُ تَراءَت في جَوانِبِها لَيلاً حَسبتَ سَماءً رُكِّبَت فيها (4)
لا يَبلُغُ السَّمَكُ المَحصُورُ غايَتَها لِبُعدِ ما بَينَ قاصِيها وَدانِيها (5)
البحتري
ديوان (البحتري)
1. السبائك: جمع سبيكة؛ وعي القالَب من المعدِن المُتَّخلَص.
2. الصَّبا: الريح الشرقيّة الباردة. الحُبُك: الدروغ. الجَواشَ: جمع جَوشَن وهو الدرع أيضاً المَصقول: الناعم. الأَملَس. الحواشي: الأطراف.
3. حاجب الشمس: طرفُها. الغَيث: المطَر.
4. تَراءَت: ظَهَرَت.
5. الغابة: النهاية. القاصي: البعيد. الداني: القريب.
حِينَ هَبطتُ أَنا وجم ايروين عَلَى سُلَّمِ المَركَبَةِ وَخَطَونا عَلَى سَطحِ القَمَرِ، شَعَرنا بِشُعُورِ الحُرِّيَّةِ السّارِّ. لَقَد حُشِرنا في مَركَبَتِنا الفَضائِيَّةِ، المُحكَمَةِ الإِغلاقِ، التي جاءَت بِنا إِلَى هُنا، لِمُدَّةِ خَمسَةِ أيّامٍ التَّوالِي، أَمّا الآنَ فَقَدِ استَعَدنا تَمامَ حَرَكَتِنا.
وَلَكِنّا سَرعانَ ما تَبَيَّنّا أَنَّ لِلحَرَكَةِ عَلَى القَمَرِ قُيُوداً وَمَحاذِيرَ خاصَّةً بِها. لَقَد أصبَحنا نَزِنُ سُدسَ وَزنِنا العادِيِّ في جاذِبِيَّةٍ تَعدِلُ سُدسَ جاذِبِيَّةٍ الأَرضِ. وَأَخَذَت مِشَيَتُنا تَنتَقِلُ بِسُرعَةٍ إِلَى حَرَكَةٍ إِيقاعِيَّةٍ مُقَيَّدَةٍ، كَأَنَّ لَها خِفَّةَ وَسُهُولَةَ السَّيرِ عَلَى نَقَراتِ التّرومبلين (1).
وَفِي الوَقتِ ذاتِهِ، كانَت عَمَلِيَّتا التَّقَدُّمِ وَالتَّوَقُّفِ تَتَطَلَّبانِ جُهداً غَيرَ عادِيٍّ، نَظَراً إِلَى أَنَّ كُتلَةَ أَجسامِنا، وَمَلابِسَنا الخاصَّةَ، وَقُصُورَنا الذّاتِيَّ، لَم يَطرَأ عَلَيها شَيءٌ مِنَ التَّبدِيلِ. تَعَلَّمتُ شَقَّ طَرِيقِي بِدَفعٍ جِسمِي إِلَى الأَمامِ كَما لَو كُنتُ أَخطُو في الهَواءِ. أَمّا عَمَلِيَّةُ الوُقُوفِ فَكانَت تَدفَعُنِي إِلَى أَغرِزَ كَعبَيَّ وَأَمِيلَ إِلَى الَوراءِ.
إِنَّ السُقُوطَ عَلَى القَمَرِ - وَقَد سَقَطتُ عِدَّةَ مَرّاتٍ - يُعِيدُ الإِنسانَ إِلَى استِرجاعِ مَرحَلَةِ الطُّفُولَةِ مَرَّةً أُخرَى؛ إِذ إِنَّكَ تَنحَدِرُ بِحَرَكَةٍ بَطِيئَةٍ إِلَى أَسفَلَ، فَتَكُونُ الصَّدمَةُ طَفِيفَةً، وَيَكُونُ احتِمالُ الأَذَى عَلَى الغالِبِ صِفراً. وَبِمَعزِلٍ عَن وقفِ الكِبارِ العاقِلِينَ الَّذي لا يَعتَبْرُ السُّقُوطَ فَقداً لِلكَرامَةِ وَحَسبُ، بل مَصدَراً لِكَسرِ العِظامِ، فَإِنَّ السائِرَ عَلَى القَمَرِ هُوَ كَالطِّفلِ يَتَقَبَّلُهُ كَنَوعٍ مِنَ التَّسلِيَةِ. إِنَّ الغُبارَ القَمَرِيَّ اللَّزِجَ، وَمَطلَبَ التَّزَوُّدِ بِالأُكسِجِينِ الصَّعبِ وَالَّذي تَدعُو إِلَيهِ عَمَلِيَّةُ النُّهوضِ، هُما العِلَّتانِ الوَحِيدَتانِ في تَقليلِ الشُّعُورِ بِبَهجَةِ السَّقطَةِ.
لَقَد لَمَستُ شَخصِيّاً أَنَّ في الجاذِبِيَّةِ السُّدسِيَّةِ التي يَمتازُ بِها القَمَرُ أَكبَرَ مِن تِلكَ التي يُحدِثُها انعِدامُ الوَزنِ في الفَضاءِ. وَقَد كُنتُ أَشعُرُ بِنَفسِ الشُّعُورِ المَلِيءِ بِالفَرَحِ وَالسُّرُورِ. ذَلِكَ أَنَّ القَمَرَ يَمنَحُ نَتِيجَةَ الصَّعَداتِ وَالهَبَطاتِ أَثناءَ السًّيرِ عَلَيهِ شُعُوراً قَوِيّاً باِلاِطمِئنانِ.
ما إِن بَدَأنا بِتَفرِيغِ حُمُولَتِنا وَتَركِيبِ آلاتِنا - بِما في ذَلِكَ سَيّارَةُ الرّوفر (2) ذاتُ الإطاراتِ الأَربَعَةِ التي تُشَغَّلُ بِالبَطّارِيّاتِ - إِذ تَقَرَّرَ أَن تَنقُلَنا عَلَى سَطحِ القَمَرِ بِمُعَدَّلِ سِتَّةِ أَميالٍ أَو يَزِيدُ في السّاعَةِ. في تِلكَ الأَثناءِ كُنتُ أُحَملِقُ في ما حَولي مِنَ السُّهُولِ وَالجِبالِ التي غَدَت عالَماً لَنا. لَقَد كانَت عَينايَ تَتبَعانِ أَرضاً خَراباً غَرِيبَةً تَتَّسِمُ (3) بِتَعَرُّجٍ عَجِيبٍ. كُنتُ أُنعِمُ النَّظَرَ في الجِبالِ الشَّامِخَةِ إِنعاماً يَنتابُنِي (4) مَعَهُ شُعُورٌ غَرِيبٌ لا يُوصَفُ. فَلَم يَسبِق لِعَينٍ مُجَرَّدَةٍ أَن شاهَدَت ذَلِكَ مِن قَبلُ. وَلا لِقَدَمٍ أَن وَطِئَتهُ. لَقَد بَدَوتُ وَكَأَنّي مُتَطَفِّلُ في هَذا العَراءِ السَّرمَدِيِّ (5).
كانَ الجُزءُ البارِزُ مِنَ القَمَرِ الذي لَم تُشَوِّهُه قِمَّةٌ مُثَلَّمَةٌ (6) واحِدَةٌ يُذَكِّرُني بِمُرتَفَعاتِ الأرضِ المُغَطّاةِ بِطَبَقَةٍ سَمِيكَةٍ مِنَ الثَّلجِ النَّقِيِّ النّاعِمِ. وَكانَ لَونُ الغُبارِ القَمَرِيِّ الرَّمادِيِّ الدّاكِنِ (7) - الذي تُشبِهُ مُحتَوَياتُهُ شَيئاً وَسَطاً بَين غُبارِ الفَحمِ وَمَسحُوقِ الطَّلقِ (8) - يَغمُرُ كُلَّ مَعلَمٍ (9) مِن مَعالِمِ سَطحِ القَمَرِ الطَّبِيعِيَّةِ. غاصَت أَحدِيَتُنا بِرِفقٍ في هَذا الغُبارِ أَثناءَ السَّيرِ، مَمّا جَعَلَنا نُخَلِّفُ آثارَ أَقدامِنا بِوُضُوحٍ بالِغٍ.
يَخضَعُ اللَّونُ هُنا إِلَى تَحَوُّلٍ غَرِيبٍ. لَقَد كانَ كُلُّ شَيءٍ تَحتَ أَقدامِنا أَو إِلَى جانِبِنا رَمادِيّاً. وَقَد تَمازَجَ هَذا اللّونُ بِشَكلٍ تَدرِيجِيٍّ حَتَّى استَحالَ إِلَى لَونِ دِباغٍ ذَهَبِيٍّ يُمَيِّزُ المَواقِعَ البَعِيدَةَ. كَما يَتَحَرَّكُ هَذا الاِنحِلالُ الضَّوئِيُّ مَعَ السّائِرِ
وَيَنطَلِقُ لَونُ الرَّمادِيُّ الخَفِيفُ عَلَى مُعظَمِ الصُّخُورِ المُتَناثِرَةِ هُنا وَهُناكَ، إِلاّ أَنَّنا وَجَدنا صَخرَتَينِ اثنَتَينِ فاحِمَتِيِ السَّوادِ، وَاثنَتَينِ خَضراوَينِ خُضرَةً فاتِحَةً، وَرَأَينا كَثيراً مِنَ الصُخُورِ البَلُّورِيَّةِ التي غُلِّفَ بَعضُها بِالزُّجاجِ. وَكانَت واحِدَةٌ مِنها بَيضاءَ اللَّونِ.
كُنا في تَقَدُّمِنا مُحاطينَ بِهالَةٍ مِنَ السُّكُونِ، فَلا رِيحٌ تَهُبُّ، وَلا أَصداءٌ لِصَوتٍ. لَم يَكُن هُنالِكَ مِن شَيءٍ سِوَى حَرَكَةِ الظِّلالِ، وَهَدِيرِ الآلاتِ الصَّغِيرَةِ التي تُزَوِّدُنِي مِن خِلالِ البِدلَةِ الفَضائِيَّةِ بِالأُكسجينِ الصّالِحِ. وَتَقِينِي غائِلَةَ (10) الدَّرَجاتِ الفِهرِنهايتِيَّةِ الخَمسِينَ بَعدَ المِائَةِ، والتي تُشَكِّلُ دَرَجَة حَرارَةِ سَطحِ القَمَرِ في الصَّباحِ.
إِنَّ أَيَّ عُطلٍ في أَجهِزَةِ الِبذلَةِ الفَضائِيَّةِ أَوِ المَركَبَةِ، يُمكِنُ أَن يُودِيَ بِحَياةِ رائِدِ الفَضاءِ. وَكُنّا نَثِقُ بِقُدُراتِنا الخاصَّةِ ثِقَةً تامَّةً، وَنُؤمِنُ إِيماناً غَيرَ مَحدودٍ بِهَؤلاءِ المُهَندِسِينَ وَالتَّقنِيِّينَ (1) الدينَ صَنَعوا هَذِهِ الأَجهِزَةَ - التي تَنقُلُنا وَتُحافِظُ عَلَى بَقائِنا في الفَضاءِ -. وَغالِباً ما تَذَكَّرتُ في أَثناءِ الفَترَةِ التي قَضَيتُها عَلَى سَطحِ القَمَرِ كَلِماتِ الشّاعِرِ الأَمريكِيِّ (ادوين ما ركهام) - (هُنالِكَ قَدَرٌ يَجعَلُنا إِخوَةً، فَلا أَحَدٌ يَنفِرِدُ بِسبِيلٍ).
لَقَد عانَينا في أوَّلِ الأَمرِ مِن مُشكِلَةِ الرُّؤيَةِ المُضَلِّلَةِ. لَم يَكُن بِاستِطاعَتِنا تَحدِيدُ بُعدِ الأَشياءِ وَتَعيِينُ كَونِها قَريبَةً أَم بَعِيدَةً، صَغِيرَةً أَم كَبِيرَةً، في مِنطَقَةٍ تَنعَدِمُ فيها الشَّواخِصُ (12) المَألُوفَةُ عَلَى كَوكَبِنا الأُمِ - مِن شَجَرٍ وَأَعمِدَةِ هَواتِفَ وَغُيومٍ وَضَبابٍ -.
لَقَد أَلِفَت أَعيُنُنا بِالتَّدرِيجِ رُؤيَةَ فُوهاتِ البَراكِينِ بِكُلِّ أَحجامِها الضَّخمَةِ وَالوُسطَى وَالضَّئِيلَةِ، وَالتي تَتَرَبَّعُ عَلى كُلِّ بُوصَةٍ (13) مِنَ السَّطحِ. وَغَدَا القَمَرُ بِالتَّدرِيجِ مَكاناً أَلِيفاً لَنا. وَقَد خَطَرَت إِذ ذاكَ بِبالِي فِكرَةٌ: (هَل تَستَطِيعَ كائِناتٌ بَشَرِيَّةٌ وُلِدَت عَلَى سَطحِ القَمَرِ أَن تَشُقَّ طَرِيقَها عَبرَ أَشجارِ الأَرضِ وَغُيُومِها؟).
كانَ الوَقتُ المُخَصَّصُ لِكُلِّ جَولَةٍ مِنَ الجَولاتِ عَلَى سَطحِ القَمَرِ سَبعَ ساعاتٍ. رُبَّما يَعُودُ ذَلِكَ إِلَى التَّقَيُّدِ بِإِمكاناتِ الحِفاظِ عَلَى الحَياةِ داخِلَ المَلابِسِ الفَضائِيَّةِ. كُنّا نَثقُبُ وَنَحفِرُ في السَّطحِ، وَنَجمَعُ الصُّخُورَ وَالتُّرابَ، وَنَلتَقِطُ صُوَراً فوتوغرافِيَّةً لا تُعدُّ. وَفي اعتِقادِي أَنَّ الصُّوَرَ تُزَوِّدُنا بِمَواثِيقَ (14) تَتَجاوَزُ الزَّمَنَ؛ لأَنَّنا رُبَّما كُنّا نُصَوِّرُ بِذَلَكِ ماضِيَ كَوكَبِنا السَّحيقَ بِعَينِهِ.
كانَت سَيّارَتُنا الروفر، تَعملُ بِدُونِ تَوقُّفٍ؛ حَيثُ نَستَقِلُها مِن مَكانٍ إِلَى مَكانٍ، جامِعِينَ بِذَلِكَ شَذراً (15) مِنَ التّاريخِ. لَقَد كُنّا نَعُلو وَنَهبِطُ أَثناءَ مُرورِنا بحُفَرٍ تُشبِهُ فُوهاتِ البرَاكِينِ، وَهِيَ مُنتَشِرَةٌ في كُلِّ مَكانٍ. وَكانَت حَرَكاتُنا هَذِهِ تُشبْهُ عَلَى وَجهِ التَّحدِيدِ حَرَكَةَ القارِبِ الصَّغِيرِ الذي يَسدِرُ (16) في بَحرٍ هائِجٍ. مَعَ أَنَّ مَجهُودَنا الجِسمِيَّ لَم يَكُن يَقِلُّ عَنِ المَجهُودِ الذي يُبدَلُ في مِثلِ ذلِكَ العَمَلِ. إِنَّ دُوَارَ البَحرِ في بِيئَةِ القَمَرِ القاحِلَةِ يُمْكِنُ أَن يُصبِحَ كَما يَبدوُ مُخاطَرَةً عَمَلِيَّةً غَيرَ مَعقُولَةٍ.
كُنّا بَعدَ كُلِّ جَولَةٍ مِن جَولاتِنا نَصعَدُ عائِدَينَ إِلَى المَركَبَةِ خائِرِي القِوى؛ حَيثُ يُوجَدُ الأُكسِجِينُ وَالغِداءُ وَالماءُ. وَكانَت مَركَبَتُنا تُشبِهُ بِذَلِكَ أَرضاً اصطِناعِيَّةً صُغرَى تُوَفِّرُ لَنا أَسبابَ الرّاحَةِ في ساعاتِ الفَراغِ.
لَقَد كانَ نَزعُنا لِبِذلاتِ الفَضاءِ، وَتَنظِيمُنا لِثَنايا المَركَبَةِ يَستَغرِقُ مِنّا مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ لا تَقِلُّ عَن ساعَتَينِ. كُنّا نَشُمُّ في الدَّقائِقِ العِشرِينَ الأُولَى رائِحَةً مُنتَشِرَةً شَبيهَةً بِرائِحَةِ البارودِ مِن جَرّاءِ الغُبارِ القَمَرِيِّ الذي كُنّا نَجتازُهُ. كانَ بِاستِطاعَتِنا استِعمالُ جِهازِ تَنقِيَةِ الهَواءِ الذي يَطرُدُ الرَّوائِحَ الكَريهَةَ فَوراً، إِلاّ أَنَّ ذَلِكَ لَم يَكُن مُمكِناً حِيالَ الغُبارِ القَمَرِيِّ اللَّزِجِ النّاعِمِ الذي يَعلَقُ بِكُلِّ شَيءٍ. وَسَيَكُونُ مِنَ الاِستِحالَةِ بِمَكانٍ - بَعدَ عَودَتِنا إِلَى الأَرضِ - أَن تَنجَحَ عَمَلِيَّةُ تَنظِيفٍ أَيّاً كانَت في تَغيِيرِ اللَّونِ الرَّمادِيِّ الذي اكتَسَبَتهُ بِذلاتُنا الفَضائِيَّةُ مِنَ القَمَرِ، وَإِعادَتُها إِلَى لَونِها الأَبيَضِ الأَصِيلِ.
كُنّا نَخلُقُ جَوّاً شَبِيهاً بِاللَّيلِ كَي نَستَغرِقَ في نَومٍ عَمِيقٍ. لَقَد جَلَّلنا فَتَحاتِ المَركَبَةِ بِسَتائِرَ غَيرِ شَفّافَةٍ، لِتَحُولَ دُونَ تَسَرُّبِ أَشِعَّةِ الشَّمسِ الحارِقَةِ المُنعَكِسَةِ مِن سَطحِ القَمَرِ. ثُمَّ نَقُومُ بَعدَ ذَلِكَ بِتَأدِيَةِ نَشاطاتِ الغُرُوبِ البَسِيطَةِ التي تُجرَى عَلَى الأَرضِ، بِما في ذَلِكَ نَزعُ الأَضواءِ التي فَوقَ رُؤوسِنا. وَحِينَ كُنّا نُطفِئ في النِهايَةِ كُلَّ تِلكَ الأَنوارِ، نَفِيءُ إِلَى الأُرجُوحَةِ الشَّبَكِيَّةِ. وَمَعَ أَنِّي لَم أَكُن أَجِدُها مَرِيحَةً عَلَى الأَرضِ إِطلاقاً، إِلاّ أَنَّنِي استَطَعتُ بِجِسمِي ذِي الثَّلاثينَ كِيلوغراماً مِن أَن أَتَكَيَّفَ بِشَكلٍ جَيِّدٍ لَها؛ مِمّا جَعَلَنِي أَغِطُّ في نَومٍ عَمِيقٍ.
كانَ وُثُوبُنا المُتواصِلُ في سَيّارَةِ الروفر أَثناءِ جَولَتِنا الثّالِثَةِ والأَخِيرَةِ قَد بَدَأَ يُشعِرُنا بِأَنَّنا عَلَى أَرِضنا في مَوطِنِنا الجَدِيد هَذا. لَقَد بَدَت فُوهاتُ البَراكِينِ شَيئاً مَألُوفاً ساعَدَنا في قِياسِ المَسافاتِ. وَقَد خاطَرنا في الأُفُقِ بِدُونِ قَلَقٍ، وَنَحنُ أوَّلُ رُوّادٍ نَفعَلُ هَذا. هَل يُمكِنُ يا تُرَى أَن يَتَعَطَّلَ هَذا الجِهازُ المُعَقَّدُ الذي يُدِيرُ سَيّارَةَ الروفر؟ إِنَّ لَدَينا بُوصَلَةً شَمسِيَّةً مِنَ الكرتُونِ المُقَوَّى صَنَعَها أَحَدُ فَنِّيِّي هيوستن. وَهِيَ جِهازٌ صَغِيرٌ مُغَطًّى بِغُبارٍ قَمَرِيٍّ، وَيَضعُفُ بِفِعلِ ضَوءِ الشَّمسِ القَمَرِيِّ العَنيفِ؛ مِمّا سَيَمنَحُنا قُدرَةً عَلَى مُواصَلَةِ السَّيرِ. وَلَكِنَّ قَناعَتَنا الجَديدَةَ بَدَأَت تَنبُعُ مِن فَهمِنا وَتَعَرُّفِنا عَلَى ما يُحِيطُ بِنا، أَكثَرَ مِمّا تَنبُعُ مِنَ الآلاتِ التي نَملِكُها.
رُؤيَةَ مَركَبَتِنا الفَضائِيَّةِ لِعِدَّةِ دَقائِقَ. وَلَكِنّا بَلَغنا هَدَفَنا أَخِيراً.
وَحِينَ وَصَلنا إِلَى المَركَبَةِ الفَضائِيَّةِ، عانَيتُ مِن شُعُورٍ بِخَسارَةٍ وَشيكَةِ الحُدُوثِ، سَأَترُكُ القَمَرَ فَوراً وَرُبَّما إِلَى الأَبَدِ. بَدَأتُ أَشعُرُ بِتَأَثُرٍ غَرِيبٍ نَحوَ رِفيقِ الأَرضِ المُسالِمِ غَيرِ المُتَغَيِّرِ.
رَقِيتُ السُّلَّمَ لآِخِرِ مَرَّةٍ. وَقَفتُ وَحَدَّقتُ ثانِيَةٍ في سَيّارَةِ الروفر. لَقَد بَدَت بَدِيعةً مُتَّزِنَةً وَقابِلَةً لِعَمَلِها الآتِي. وَكانَ تِّزانُها في وَقفَتِها تِلكَ بالِغاً تَستَطِيعُ أَن تَبقَى عَلَيهِ لآِلافِ بَل مَلايَينِ السِّنِينَ، بِدُونِ سائِقٍ، مَفقُودَةً في وَحشَةِ هَذا العالَمِ المَيِّتِ. وَسَوفَ يَربِضُ (17) إِلَى جانِبِها هُنا، الجُزءُ المُتَبَقِّي مِنَ المَركَبَةِ وَباقي مُعَدّاتِ رِحلَتِنا المُرَكَّبَةِ كَحُرّاسٍ أَوفِياءَ. إِنَّ خُلُوَّ الفَضاءِ الذي لا يُحدِثُ سِوَى تَبَدُّلٍ طَفِيفٍ لا يُذكَرُ عَلَى الأَشياءِ، سَيَمنَحُ كُلَّ مَعلَمٍ مِنَ مَعالِمِ رِحلَتِنا طابَعَ البَقاءِ الذي يُشبِهُ الخُلُودَ، بِما في ذَلِكَ آثارَ أَقدامِنا مِنَ الغُبارِ القَمَرِيِّ اللُّزِجِ.
لَقَد أَلَحَّت عَلَينا فِكرَةٌ تَقُولُ بِأَنَّ وَضعَ نِهايَةٍ لِرِحَلاتِ أَبوللو سَيَكونُ كَفيلاً بِتَسجِيلِ أخِرِ زِيارَةٍ للِإنسانِ إِلَى سَطحِ القَمَرِ لِأَمَدٍ طَوِيلٍ. أَمّا إِذا استَمَرَّت هَذِهِ الرِّحَلاتُ فَإِنَّ مُعظَمَ العُلَماءِ يَقتَرِحُونَ أَن تَتَرَكَّزَ جَمِيعُ الجُهُودِ لِلوُصُولِ إِلَى المَرِّيخِ، بَل إِلَى ما هُوَ أَبعَدُ مِنهُ. وَعَلَى هَذا الغِرار (18)، فَإِنَّ صِناعاتِنا القَمَرِيَّةَ التي سَتَنخَرِطُ في سِباقِها إِلَى الكَواكِبِ يُمكِنَ أَن تَبقَى دائِمَةً أَبَدِيَّةً بِدوُنِ انقِطاعٍ.
حِينَ أَمسَكتُ بِسُلَّمِ العَرَبَةِ رَفَعتُ بَصَرِي - الذي كانَ مُنصَبّاً عَلَى سَطحِ القَمَرِ المَألُوفِ - إِلَى كَوكَبِ الأَرضِ الذي كان يَتَأَلَّقُ في السَّمَواتِ الدّاكِنَة. كانَ ذَلِكَ العالَمُ الأَزرَقُ الجَمِيلُ النّابِضُ بِالحَياةِ مَحَبَّباً إلى النَّفسِ. وَلَكِنَّهُ كانَ مَعَ كُلِّ ذَلِكَ باعِثاً عَلَى التَّشوِيشِ بِسَبَبِ ما فيهِ مِنَ المَوازِينِ الاِجتِماعِيَّةِ الخاطِئَةِ وَالمَجاعاتِ المُنتَشِرَةِ، وَنَقصِ الطّاقَةِ الذي يُمكِنَ أَن يَدفَعَ بِنا إِلَى البَحثِ عَن مَصادِرَ تَعدُو مُحيطَ الأَرضِ. إِنَّ المُشتَغِلينَ بِرِحَلاتِ أَبوللو يَعتَقِدُونَ أَنَّ التَّقنِيَّةَ القادِرَةَ عَلَى استِكشافِ الفَضاءِ تَستَطِيعُ، بل تُساعِدُ عَلَى مُعضِلاتٍ (19) كَهَذِهِ. لَقَد شَعَرنا بإِحساسٍ مَلِيءٍ بِالفَخرِ نَتِيجَةً لِلإنجازاتِ التي حَقَّقَها بَرنامَجُنا، وَلَكِنَّنا لا تَستَطِيعُ التَّنَصُّلَ حَتَّى الآنَ مِن شُعُورِ الاِهتِمامِ البالِغِ بِكَوكَبِنا وَمِصِيرِ الأَجناسِ التي عَلَيهِ.
لَقَد دَفَعَ بِنا هَذا الاِهتمامُ إِلَى أَن نُضِيفَ أَجهِزَةً أُخرَى إِلَى تِلكَ التي خَلَّفناها عَلى القَمَرِ، وَإِنَّنا لَنَأمُلُ أَن يُشَكِّلَ نِتاجُ هَذِهِ الأَشياءِ خُلاصَةً لِعَصرِنا في تاريخِ الجِنسِ البَشَرِيِّ المُتَواصِلِ.
رُبَّما يَمُرُّ في هَذا السَّبِيلِ، بَعدَنا في الدُّهُورِ القادِمَةِ، رُوّادُّ مِن أَعماقِ الفَضاءِ - مِنَ المَجموعاتِ الشَّمسِيَّةِ في مَجَرّاتٍ (20) أُخرَى - وَرُبَّما يَجِدونَ آثارَنا وَأَجهِزَتَنا المَهجُورَةَ. إِنَّ إِحدَى اللَّوحاتِ الأَلومنيومِيَّةِ المُثَبَّتَةِ عَلَى الجُزءِ المُتَبَقِّي مِن مَركَبتِنا تُصَوِّرُ مُنتَصَفَي كَوكَبِنا. وَقَد حُفِرَ اسمُ سَفِينَتِنا الفَضائِيَّةِ وَتارِيخُ بَعثَتِنا وَأَعمالُ طاقَمِها. إِنَّ المَخلوقاتِ الذَّكِيَّةِ سَتَستَنتِجُ بِسُهُولَةٍ مِن خِلالِ هَذِهِ المَعلوماتِ وَالتَّجهِيزاتِ، وَحَتَّى مِن خِلالِ آثارِ أَقدامِنا، أَيَّ نَوعٍ مِنَ المَخلُوقاتِ نَحنُ، وَمِن أَينَ أَتَينا؟ لَقَد خَلَّفنا وَراءَنا كَذَلِكَ جُزءاً مِن حَيَوانٍ أَرضِيٍّ (ريشة صقر)، وَشَيئاً مِن نَباتٍ أَرضِيٍّ (أَربَع صَفائِح من البرسيم). كَما تَرَكنا إِلَى جانِبِ كُلِّ ذَلِكَ في أَحَدِ التَّجويفاتِ الصَّغِيرَةِ في الغُبارِ القَمَرِيِّ شَكلاً مُجَسَّماً لإنسانٍ في بِذلَتِهِ الفَضائِيَّةِ، وَبِمُحاذاتِهِ لَوحَةً مَعدِنِيَّةً أُخرَى تَحمِلُ أَسماءَ أَربَعَةَ عَشَرَ رائِدَ فَضاءٍ - مِنَ الرّوسِ وَالأَمريكانِ - مِمَّن وَهَبوا أَرواحَهُم مِن أَجلِ أَن يَجُوبَ الإِنسانُ أَرجاءَ الكَونَ. وَأَودَعنا القَمَرَ في نِهايَةِ الأَمرِ كِتاباً فَريداً مِن نَوعِهِ، أَلا وَهُوَ الإنجِيلُ.
لَقَدِ انتَهَت رِحلَتُنا بِمَزِيجٍ مِنَ العَناءِ وَالبَهجَةِ. وَحَظِيَت كَأَوَّلِ رِحلَةٍ عِلمِيَّةٍ طَوِيلَةٍ إِلَى القَمَرِ بِنَجاحٍ مُذهِلٍ. وَقَد سُرِّحَ طاقَمُنا بَعدَ أَن أَعطَى إِفاداتِهِ وَساعَدَ عَلَى تَحليلِ النَّتائِجِ التي تَوَصَّلَ إِلَيها.
أُواصِلُ عَمَلِي الآن في مَركَزِ جونسون الفَضائِيِّ قُربَ هيوستن. وَرَغمَ مُضِيِّ سَنَتَينِ عَلَى تِلكَ الرِّحلَةِ، أَستَطِيعُ في حَقِيقَةِ الأَمرِ أَن أَصِفَها لَحظَةً بِلَحظَةٍ، وَأَنا مَعَ كُلِّ ذَلِكَ لا أَكادُ أُصَدِّقُ أَحياناً أَنَّنِي قَد سِرتُ عَلَى القَمَرِ بِالفِعلِ.
وَحِينَ أَتَمَشَّى في بَعضِ الأَوقاتِ، في لَيلَةٍ خَرِيفِيَّةٍ مُنعِسَةٍ، أَو أَسُوقُ سَيّارَتِي عَلى طَرِيقِ تكساس المُستَقِيمَةِ العَرِيضَةِ، أَنظُرُ إِلَى القَمَرِ الذي يَعتَلِي سابِحاتِ الغُيُومِ مُتَلألِئاً مَزهُوّاً، وَتَتَبَيَّنُ عَينِي تِلكَ البُقَعَةَ الأَكثَرَ دائِرِيَّةً عَلَى سَطحِ القَمَرِ الفِضِيِّ، أَلا وَهِيَ (ميراميريوم).
هُناكَ في الجانِبِ الشَّرِقِيِّ لِتِلكَ البُقَعَةِ هَبَطتُ ذاتَ مَرَّةٍ في سَفِينَةٍ فَضائِيِّةٍ، وَأَغلَبُ الظَّنِّ أَنَّنِي لَن أَعودَ أَبدَاً.
يُثِيرُ ذَلِكَ فِيَّ شُعوراً مِنَ الحَنِينِ الوَطَنِيِّ. إِنَّنِي حِينَ أَنظُرُ إِلَى القَمَرِ لا أَلمُسُ فيهِ عالَماً آخَرَ غَريباً خَواءً (21)؛ إِنَّني أَرَى فيهِ جِسماً مُشِعّاً خَطا الإنسانُ عَلَيهِ خُطَواتِهِ الأُولَى إِلَى تُخُومٍ (22) لَن تَكُونَ لَها نِهايَةٌ عَلَى الإطلاقِ.
ترجمة: بسلان قرشي
أحمد صالح.
عن مجلة (العربي)
عدد 204؛ نوفمبر 1975
1. الترومبلين: آلة موسيقيّة.
2. الروفر: نوع من السيّارات المتجوّلة.
3. تَتَّسِم: تَتَّصِف.
4. ينتابني: يصيبني.
5: السرمَدي: الأبدي.
6. المُثَلَّمَة: المُشَقَّقَة.
7. الداكِن: القاتِم. الرمادي. شديد السَّواد.
8. مسحوق الطلق: ذَرور معدِني يسمّيه الإفرنج (تلك) باسمِه العربي.
9. المَعلَم: ما يُستَّدَلُّ به على الشئ.
10. الغائلة: الشرّ.
11. التقنيّ: الفَنّيّ.
12. الشواخص: الشواهد. الدلائل.
13. البوصة: الإنش - مقياس إنجليزي يساوي .
14. المواثيق: جمع ميثاق؛ وهو الدليل أو الضمان.
15. الشَّدر: القشطَع. النُبَد.
16. يَسدِر: يُسرِع في سيره.
17. يربِض: يبرُك.
18. الغِرار: المِنوال. النَّسَق.
19. المعضِلات: المشكِلات الصعبة.
20. المَجَرّات: جمع مَجَرَّة؛ وهي المجموعة الشمسيّة.
21. الخَواء: الخالي. الفارغ.
22. تُخوم: حُدود.
كانَ الطَّقسُ صَحواً، وَالشَّمسُ مُشرِقَةً، وَالسَّماءُ صافِيَةً. وَتَحَرَّكَتِ الطائِرَةُ فَوقَ أَرضِ مَطارِ اللُّدِّ.. وَبَعدَ مُدَّةٍ مِن إِقلاعِ الطّائِرَةِ تَغَيَّرَ الطَّقسُ الجَميلُ وَظَهَرَتِ السُّحُبُ وَأَخَذَتِ الأَمطارُ تَهطِلُ، حَتَّى لَم يَعُد بِإِمكانِ الرُّكّابِ رُؤيَةُ شَيءٍ مِنَ النّافِذَةِ. وَقَلِقَ الرُّكّابُ مِن هَذِهِ الظُّرُوفِ؛ فَدَخَلَ أَحَدهُمُ غُرفَةَ الطَّيّارِ وَطَلَبَ مِنهُ مَعرِفَةَ إِمكانِيّاتِ النَّجاةِ في مِثلِ هَذِهِ الأَحوالِ الجَوِّيَّةِ، فَطَمأَنَهُ الطَّيّارُ إِلَى أَنَّ كُلَّ شَيءٍ عَلى ما يُرامُ. وَقالَ إِنَهُ عَلِمَ بِأَحوالِ الجَوِّ قَبلَ إِقلاعِ الطّائِرَةِ.
فَتَساءَلَ الرّاكِبُ في دَهشَةٍ: وَكَيفَ عَرَفتَ أَنَّ الأَحوالَ الجَوِّيَّةَ سَتَتَغَيَّرُ؟ فَأَعلَمَهُ الطَّيّارُ أَنَّ المُوظَّفِ في مَحَطَّةِ الأَرصادِ الجَوِّيَّةِ أَخبَرَهُ بِذَلِكَ. فَعَلَى كُلِّ طَيّارٍ تَسَلُّمُ لائِحَةِ أَحوالِ الجَوِّ عَلَى طُولِ خَطِّ رِحلَتِهِ قَبلَ إِقلاعِ طائِرَتِهِ.
فَالمَعرُوفُ أَنَّ هُناكَ تَيّاراتٍ هَوائِيَّةً تُحِيطُ بِالكُرَةِ الأَرضِيَّةِ. وَهَذِهِ التَّيّاراتُ في حَرَكَةٍ دائِمَةٍ؛ تَنتَقِلُ مِن مِنطَقَةٍ إِلَى أُخرَى. بَعضُها عَلَى شَكلٍ أُفُقِيٍّ، وَالآخَرُ على شَكلٍ عَمُودِيٍّ. وَهِيَ التي تُسَبِّبُ اختِلافَ الجَوِّ.. وَبِمَعرِفَةِ تِلكَ التَّيّاراتِ وَحَرَكاتِها، يُمكِنُ مَعرَفَةُ أَحوالِ الجَوِّ يَومِيَاً.. فَلَو علِمنا أَنَّ هُناكَ تَيّاراتٍ ساخِنَةً تَتَحَرَّكُ مِنَ الجَنُوبِ صَوبَ الشَّمالِ، لَعَرَفنا أَنَّ دَرَجَةَ الحَرارَةِ سَتَرتَفِعُ لَدَى وُصولِها إِلَينا. وَلَو أَدرَكنا حَرَكَةَ السُّحُبِ الماطِرَةِ لَعَرفنا المَناطِقَ التي سَتُمطِرُ فيها وَوَقتَ هَطلِها. وَفي مَحَطَّةِ الأَرصادِ الجَوِّيَّةِ تُراقَبُ تِلكَ التَّيّاراتُ معَ كُلِّ المُؤَثّراتِ التي تُسَبِّبُ انتِقالَها كَالضَّغطِ مَثَلاً.. فَلَو كانَت فَوقَ مِصرَ مِنطَقَةُ ضَغطٍ عالٍ، وَهَواءٌ ساخِنٌ، وَفَوقَنا مِنطَقَةُ ضَغطٍ مُنخفِضٍ، وَأَمطارٌ، لَفَهِمنا أَنَّ الهَواءَ السّاخِنَ في مِصرَ سَيَنتَقِلُ إِلَينا؛ ذَلِكَ لأَنَّ الهَواءَ يَتَحَرَّكُ مِن مَنطَقَةِ ضَغطٍ عالٍ إِلَى مَنخَفِضٍ، وَبِهَذا يَعرِفُ المُراقِبُ أَنَّ السَّماءَ سَتَصفُو غَداً وَتَرتَفِعُ دَرَجَةُ الحَرارَةِ..
إِلَى هُنا وَالأَمرُ واضِحٌ. وَلَكِن كَيفَ تَعرَفُ مَناطِقُ وُجُودِ الضَّغطِ العالِي أَوِ المُنخَفِضِ؟
إِنَّ الظَّواهِرَ الطَّبيعِيَّةّ تَحدُثُ فَوقَ كُلِّ قارَّةٍ. وَلِمُتابَعَةِ تِلكَ الظَّواهِرِ، هُناكَ مَحَطّاتُ مُراقَبَةٍ في كُلِّ أَنحاءِ العالَمِ. وَفي كُلِّ كَحَطَّةٍ تُقاسُ تِلكَ الظَّواهِرُ كُلَّ ساعةٍ بِالأَجهِزَةِ المُتَعَدِّدَةِ، ثُمَّ تُقارَنُ مَعَ الأَحوالِ المُناخِيَّةِ الأُخرى في العالَمِ. فَبَعدَ قِياسِ دَرَجَة الحَرارَةِ، الضَّغطِ، رُطُوبَةِ الجَوِّ، الرِّياحِ وَقُوَّتها، كَمِّيَّةِ الأَمطارِ وَأَنواعِها وَالرُّؤيَةِ الجَوِّيَّةِ، تُنقَلُ إِلَى المَحَطَّةِ الرَّئيسِيَّةِ بِشَتَّى وَسائِلِ الاتَصالِ مِنَ المَحَطّاتِ الأَخرَى في العالَمِ مضرَّةً كُلَّ ثَلاثِ ساعاتٍ.
وَاختِصاراً لِلوَقتِ تُنقَلُ تِلكَ المَعلُوماتُ بِرُمُوزٍ دَوِليَّةٍ. وَهَذا شَيءٌ مَتَّفَقٌ عَلَيهِ مَعَ المَحَطّاتِ العالَمِيَّةِ الأُخرَى.
عن مجلّة: (اليوم لأولادنا)
السنة 6؛ العدد 11
1/3/1966
نهاية الكتاب