المختار من الأدب العربي
للمرحلة الإعدادية
السابع - التاسع
محمود أبو فنة
إصدار: جيستليت
حيفا م.ض - 1989
صفحات بخط عادي 1-210
الناسخة ريهام إغبارية
المكتبة المركزية للمكفوفين
نتانيا اسرائيل 2007م
*1*
-2
*1*
(و) اذكر ( إذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بنيّ) تصغير إشفاق (لا تشرك بالله إن الشرك) بالله (الظلم عظيم) فرجع إليه وأسلم.) وَاِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِاْبنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (ووصينا الإنسسان بوالديه) أمرناه أن يبرّهما (حملته أمه) فوهنت (وهنًا غلى وهنٍ) ضعفت للحمل وضعفت للطلق وضعفت للولادة (وفصاله) أي فطامه (في عامين أن وقلنا له (اشكر لي ولوالديك إليّ المصير) أي المرجع.) وَوَصَّيْنا الْأنْسانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم) موافقة للواقع (فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفًا) بالمعروف: البر والصلة (واتبع سبيل) طريق (من أناب) رجع (إليَّ) بالطاعة (ثم إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) فأجازيكم عليه وجملة الوصية وما بعدها اعتراض.) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُما فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئْكُمْ بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (يا بنيَّ إنها) الخصلة السيئة (إن تك مثقال حبة من خردلٍ فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض) أو في أخفى مكان من ذلك (يأت بها الله) فيحاسب عليها (إن الله لطيف) باستخراجها (خبير) بمكانها.) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطيفٌ خَبيرٌ (يا بنيَّ أقم الصلاة وأُمر بالمعروف وانْهَ) (عن المنكر واصبر على ما أصابك) بسبب الأمر والنهي (إن ذلك) المذكور (من عزم الأمور) معزوماتها التي يعزم عليها لوجوبها.) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلوةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرِ عَلَى مَا أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمورِ (ولا تصعِّر) وفي قراءة (كلمة غير واضحة) (خدك للناس) لا تمل وجهك (كلمة غير واضحة) تكبرًا (وتمش في الأرض مرححا) خيلاء (إن الله لا يحب كل مختالٍ) متبختر في مشيه (فخور) على الناس.) وَلَا تُصَعِّرَ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (واقصد في مشيك) توسط فيه بين الدبيب والإسراع، وعليك السكينة والوقار (واغضض) أخفض (من صوتك إن أنكر الأصوات) أقبحها (لصوت الحمير) أوله زفير وآخره شهيق.) وَاقْصِدْ سفِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ.
المصدر: القرآن الكريم
*3*
*3*
بسم الله الرَّحْمن الرَّحيم
(ألم تر) استفهام تعجب، أي اعجب (كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) هو محمود وأصحابه أبرهة ملك اليمن وجيشه بنى بصنعاء كنيسة ليصرف إليها الحاج عن مكة فأحدث رجل من كنانة فيها ولطخ قبلتها بالعذرة احتقارًا بها فحلف أبرهة ليهدمنَّ الكعبة فجاء مكة بجيشه على أفيال اليمن مقدمها محمود فحين توجهوا لهدم الكعبة أرسل الله عليهم ما قصه في قوله.) أَلم تر كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بأَصْحَابِ الْفيل ((ألم يجعل) أي جعل (كيدهم) في هدم الكعبة (في تضليل) خسارة وهلاك.) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (وأرسل عليهم طيرًا أبابيل) جماعات قيل لا واحد له كأساطير وقيل واحدة أبول أو إبَّال أو إبيل كعجول ومفتاح وسكين.) وأَرْسل عَلَيْهم طَيْرًا أَبابِيلَ(وأرسل عليهم طيرًا أبابيل) جماعات قيل لا واحد له كأساطير وقيل واحدة أبول أو إبَّال أو إبيل كعجول ومفتاح وسكين.) تَرْمِيهمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (فجعلهم كعصف مأكول) كورق زرع أكلته الدواب وداسته وأفنته أهلكهم الله تعالى كل واحد بحجره المكتوب عليه إسمه وهو أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة يخرق البيضة والرجل والفيل ويصل إلى الأرض وكان هذا عام مولد النبي صلى الله عليه وسلّم.) فَجَعَلَهُمْ كعصف مأْكول.
المصدر: القرآن الكريم
*4*
-5
*4*
(قل تعالوا أتل) أقرأ (ما حرّم ربكم عليكم أ)ن مفسره (لا تشركوا به شيئًا و) أحسنوا (بالوالدين ولا تقتلوا اولادكم) بالوأد (من) أجل (إملاق) فقر تخافونه (نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش) الكبائر كالزنا (ما ظهر منها وما بطن) أي علانيتها وسرها (ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق) كالقود وحد الردة ورجم المحصن (ذلكم) المذكور (وصاكم به لعلكم تعقلون) يتدبرون.) قُلْ تَعَالوُا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا شَيْئًا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النفْسَ الَّتي حَرَّمَ اللهُ اِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي) أي بالخصلة التي (هي أحسن) وهي ما فيه صلاحه (حتى يبلغ أشده) بأن يحتلم (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط) بالعدل وترك البخس (لا نكلف نفسًا إلا وسعها) طاقتها في ذلك فإن أخطأ في الكيل والوزن والله يعلم صحة نيته فلا مؤاخذة عليه كما ورد في حديث (وإذا قلتم) في حكم أو غيره (فأعدلوا) بالصدق (ولو كان) المقول له أو عليه (ذا قربى) قرابة (وبعهد الله أوْفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون) بالتشديد تَتَّعظون والسكون.) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيتِيمِ إِلَّا بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى اَبْلُغَ اَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالمِزانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا اِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَّا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرونْ (وأن) بالفتح على تقدير اللام والكسر استئنافًا (هذا) الذي وصيتكم به (صراطي مستقيمًا) حال (فاتّبعوه ولا تتبعوا السبل) الطرق المخالفة له (فتفرق) فيه إحدى التاءين تميل (بكم عن سبيله) دينه (ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون). وَأَنَّ هذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ به لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
المصدر: القرآن الكريم
*6*
*6*
- حديث شريف
حث الإسلام على طلب العلم، واستخدامه في نفع البشرية وخدمة السلام، لأن العلم عماد نهضة الأمم، ورفعة الشعوب، والعلماء ورثة الأنبياء، في هذا الحديث الشريف.
عَنْ أَبي الدَّرْدَا (أبو الدردراء: صحابي جليل من رواة الحديث.) "رَضِيَ اللهُ عنه" قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يقول: "مَنْ سَلَكَ طَريقًا (سلك طريقا: سار فيه.) يَبْتَغي (يبتغي: يطلب.) فيهِ علْمًا (سهل الله له طريقا إلى الجنة: المراد أعطاه ثوابا يدخله الجنة.) سَهَّلَ اللهُ له طَريقًا إِلى الجَنَّة، وإِنَّ الملَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنحَتَهَا (تضع اجنحتها: المراد تكرمه وترفع منزلته.) لِطَالِب العِلْمِ رِضًا بِمَا صَنَعَ، وإِن العَالِمَ ليَسْتَغْفِرُ (يستغفر له: يطلب له المغفرة.) له مَنْ في السَّموات والأَرْض، وإِن العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ (ورثة الأنبياء: المراد أنهم ينشرون الهدى والعلم كما نشره الأنبياء.)، وإِن الْأَنْبِيَاء لَمْ يُوَرِّثوا دِينارًا ولا دِرْهَمًا (دينارًا، درهمًا: نوعين من العملة مثل الجنيه والقرش الآن.)، وإِنَّما وَرَّثُوا العلْمَ، فَمَنْ أَخَذَه أَخَذَ بحَظٍّ وافِر (حظ وافر: نصيب كبير.)..".
المصدر: الجامع الصحيح للترمذي
*7*
*7*
طُوبَى (طوبى لك: الخير والسعادة لك.) للإنْسَان الذي يَجِدُ الحِكْمَةَ وللرَّجُل الَّذِي يَنَالُ الفَهْمَ. لِأَنَّ تجارَتَها خَيْرٌ منْ تجارَةِ الفِضَّةِ ورِبْحَها خَيْرٌ مِنَ الذَّهَب الخالِصِ. هِيَ أَثْمَنُ منَ اللآلئ وكُلُّ جَواهِرِكَ لا تُسَاوِيها. فش يَمِينِها طولُ أَيَّمٍ وفي يَسارِها الغنى والمَجْدُ. طُرُقُها طُرُقُ نِعَمٍ وكُلُّ مَسالِكِها سَلامٌ. هِيَ شَجَرَةُ حَياةٍ لمُمْسكيها والمُتَمَسِّكُ بها مَغْبوطٌ (مغبوط: مسرور.). الربُّ بالحِكمَةِ أَسَّسَ الأَرْضَ. أَثْبَتَ السموات بالفَهْم. بعلْمه انْشَقَّت اللُّجَجُ (اللجج: البحار الواسعة.) وتَقَطَّرَ السَّحابُ نَدًى.
يا ابْني! لا تَبْرَحْ هذه منْ عَيْنَيْكَ. احْفَظِ الرَّأْيَ والتدبيرَ فيكُونَا حياة لنَفْسكَ ونعْمَةً لعُنُقِكَ. حينئِذٍ تَسْلُكُ في طَرِيقِكَ. آمِنًا ولا تَعْثُرُ رِجْلُكَ.
المصدر: الكتاب المقدس
*8*
*8*
لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا. لِأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ. وَبِالْكَيْلِ (الكيل: الوزن.) الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. وَلِمَاذَا تَنْظُرُ القَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ. وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلَا تَقْطَنُ لَهَا. أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لِأَخِيكَ: دَعْني أُخْرِجِ الْقَذَى عَيْنِكَ (المرائي: الخدّاع.). يَا مُرَائِي أَخْرِجْ أَوَّلًا الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ. وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ.
اِسْأَلُوا تُعْطوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. أَم أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ إِذَا سَأَلَهُ ابْنُهُ خُبْزًا يُعْطِيهِ حَجَرًا. وَإِنْ سَأَلَهُ سَمَكَةً يُعْطِيهِ حَيَّةً. فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً فَكَمْ بِالْحَرِيِّ (الحريّ: الجدير، المناسب.) أَبُوكُمْ الَّذي فِي النَّاسُ بِكُمْ افْعَلُوا هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ. لِأَنَّ هذَا هُوَ النَّامُوسُ وَالْأَنْبيَاءُ.
المصدر: الكتاب المقدس
*9*
*9*
رشدي معلوف: أديب مهجري معاصر.
رَبِّي سَأَلْتُكَ باسْمهِنَّهْ أَنْ تَفْرُشُ الدُّنْيَا لَهُنَّهْ
بالْوَرْد، إنْ سَمَحَتْ يَدَاكَ، وَبِالْبَنَفْسَجِ بَعْدَهُنَّهْ
حب الحَيَاة بمِنَّتَيْنِ وَحُبُّهُنَّ بِغَيْرِ مِنَّهْ ْ(منه: إحسان.)
نَمْشي عَلَى أَجْفَانِهُنَّ وَنَهْتَدِي بِقُلُوبِهِنَّهْ
فرْدَوْسُهُنَّ وَبُؤْسُهُنَّ بِبَسْمَةٍ، مِنَّا، وَأَنَّهْ (الأَنَّه: صوت الأَلم.)
سُمَّارُنَا في غُرْبَة الدُّنْيا وَصَفْوَةُ كُلِّ جَنَّهْ ...
رَبِّي سَأَلْتُكَ رَحْمَةً وَجْهَ السَّمَاءِ وَوَجْهَهُنَّهْ
المصدر: كتاب الجديد في الادب العربي ج 8 حنا الفاخوري
*10*
*10*
مصطفى لطفي المنفلوطي
ولد في منفلوط في صعيد مصر سنة 1876.
وتلقى مبادئ القراءة في مدرستها الأولية، ثم انتقل الى الازهر فمكث فيه عشر سنوات يدرس علوم الدين واللغة.
في سنة 1908 أخذ يراسل جريدة "المؤيد" بمقالات اسبوعية امتازت بأسلوبها الجديد.
وللمنفلوطي آثار غير قليلة بين موضوع ومترجم ومنثور ومنظوم وأكثرها في الاجتما، نذكر منها "النظرات" في 3 اجزاء، و "العبرات" وهي مجموعة قصص محزنة، "الشاعر" و "الفضيلة". توفى المنفلوطي سنة 1924.
أفضل ما سمعتُ في بابِ المروءَةِ والإحسانِ، أنَّ امرأةً بائِسةً وقفَتْ ليلةَ عيد من الأعياد بحانوت تماثيلَ في باريس، يطرُقهُ (يطرقه: يأتي اليه.) الناسُ في تلكَ الليلة لابتياع اللُّعَب لأَطفالهمُ الصِّغارِ، فوقعَ نظرُها على تمثالٍ صغير من المَرْمَرِ، هو آيةُ الآيات في حُسْنِهِ وجمالِهِ. فابْتهجَتْ بمرآهُ ابتهاجًا عظيمًا، لا لأَنَّها غريرةٌ (غريرة: لا تجربة لها.) بلهاءُ يَسْتَفِزُّها (يستفزها: يثيرها.) من تلكَ المناظرِ الصِّبْيانِيَّةِ ما يستفزُّ الأطفالَ الصغارَ، بل لأَنَّها كانَتْ تنظرُ اليهِ بعينِ ولدِها الصغيرِ الذي تركتْهُ في منزِلِها ينتظرُ عَوْدَتَها إليهِ بلُعْبَةِ العيدِ كما وَعَدَتْهُ.
فأخذَتْ تساومُ (تساوم: تجادل في الثمن.) صاحبَ الحانوت فيهِ ساعة، والرجلُ يُغالي بهِ مُغالاةً شديدةَ، حتذَى علمَتْ أن يدَها لا تستطيعُ الوصولَ إِلى ثَمنِهِ، وأنَّها لا تستطيعُ العودةَ بدونهِ. فَساقَتْها الضرورةُ (الضرورة: الحاجة.) التي لا يقدِّرُ قَدْرَها إلَّا من حَملَ بين جَنْبَيْه قَلْبًا كقلب الأُمِّ، إلى أَنْ تَمُدَّ يدَها خِفْيةً الى التمثالِ، فتسرقَهُ من
*11*
حيثُ تظُنُّ أن الرجلَ لا يَرَاها، ولا يشعرُ بِمكانِها. ثم رجَعتْ أَدْرَاجَها، وقلبُها يَخْفقُ في آن واحد خفقتَيْنِ مختلفتَيْنِ، خفقةَ الخوفِ من عاقبةِ فِعْلَتِها، وخفقةَ السُّرورِ بالهديَّةِ الجميلةِ التي ستُقَدِّمُها بعدَ لحظاتٍ قليلةٍ إلى وَلَدِها.
وكانَ صاحبُ الحانوتِ من اليَقَظَةِ (اليقظة: الانتباه.) وحِدَّةِ النَّظرِ بحيثُ لا تَنوتُهُ مَعْرِفةُ ما يدورُ حَوْلَ حانوتِهِ، فما بَرِحَتِ المرأةُ مكانَها حتَّى تَبِعَها يترسَّمُ مواقعَ أَقْدامها (يترسَّم مواقع اقدامها: يتبع أَثَرَها.)، حتَّى عَرَفَ منزلَها، ثم تركها وشأْنَها وذهبَ إلى الشُّرْطَة فجاءَ بجندِيَّيْنِ للقبضِ عليها، وصعِدُوا جميعًا إلى الغرفةِ التي تسكُنُها، ففَاجأُوها وهي جالسةٌ بين يَديْ ولدِها، تنظرُ إلى فرحِهِ وابْتِهاجِهِ بتمثالِهِ نظرات الغبْطَة والسرور. فهجمَ الجنديَّانِ على الأُمِّ فاعْتَقَلاها (اعتقل: أسر.). وهجمَ
*12*
الرجلُ على الولدِ فانْتزَعَ التمثالَ من يدِهِ، فصرخَ الولدُ صرخةً عُظْمَى، لا على التمثالِ الذي انتُزِعَ مِنْهُ، بَلْ على أُمِّهِ المُرتعِدَةِ بينَ يَدَي الجندِيَّيْنِ. وكانَتْ كلمةً نطقَ بها وهُو جاثٍ (جاثٍ: راكع.) بين يديِ الرَّجُلِ: رُحماكَ بِأُمِّي يا مولايَ.
وظلَّ الولدُ يبكي بكاءً شديدًا. فجَمَدَ الرجلُ أمامَ هذا المنظرِ المؤَثّرِ، وأطرقَ إِطْراقًا طويلًا. وإِنَّه لكَذَلِكَ إِذْ دَقَّتْ أَجْراسُ الكَنائِسِ مُؤْذِنَةً بإشراقِ فجرِ العيدِ. فانْتَفَضَ انتفاضةً شديدةً، وصعُبَ عليهِ أنْ يتركَ هذِهِ الأُسْرةَ الصغيرةَ المسكينةَ حزينةً منكوبةً في اليومِ الذي يفرحُ فيهِ الناسُ جميعًا، فالتفتَ إلى الجنديَّيْنِ وقالَ لهما: "أظنُّ أنِّي أخطَأْتُ في اتّهامِ هذهِ المرأةِ فإِنِّي لا أبيعُ هذا النوعَ من التماثيلِ.
فانصرفا لِشَأْنِهِما. والتفتَ هو إلى الولدِ، فاسْتغفَره ذَنْبَهُ إليهِ وإلى أُمِّهِ. ثُمَّ مشَى إلى الأُمِّ فاعتذرَ إليها عن خُشونَتِهِ وشِدَّتِهِ، فشكرَتْ له فَضْلَهُ ومُروإِلى تَه، وجَبِينُها يَرْفَضُّ (يرفضُّ: يسيل.) عرَقًا حياءً من فِعْلَتِها. ولَمْ يُفارِقْهُما حتى أَسدَى (أسدى: أعطى.) إلَيْهِما من النِّعَمِ ما جَعَلَ عيدَهُما أَسْعَدَ وأَهْنَأَ مِمَّا كانَا يَظُنَّانِ.
المصدر: كتاب النظرات للمنفلوطي
*13*
*13*
*14*
انور العطار
شاعر سوري معاصر، ولد بمدينة دمشق سنة 1913، نشأ في اسرة تُقًى وعلم، واشتغل بالتعليم في سوريا، آثاره "ظلال الايام" وهو ديوان حافل بوصف الطبيعة والمدن، وفيه طائفة من شعر الحماسة الوطنية. ومن كتبه ايضًا: "الوصف والتزويق عند البحتري" و " "أسرة الغزل في العصر الاموي" ومن دواوينه الشعرية "البواكير". "اشواق"، "منعطف النهر"، "الليل المسحور" و "وادي الاحلام".
بُنَيَّتي عُصفورةٌ شاديَهْ تَلعب في عُشّ الصِّبا لاهِيَهْ (العُصفورةُ الشّادية: العصفورة المغنّية.)
بُنَيَّتي لَحْنٌ رقيقٌ سرَتْ في مُهْجَتي أَفراحُه صافِيَهْ
بُنَيَّتي أُمنّتي في الدُّنا ومأْملي والبُغيةُ الغالِيَهْ (الدُّنا: جمع الدُّنيا.)
سريرُها يهتزُّ في أَضلُي تَنامُ في أَعطافِه هانِيَهْ (أعطافُ السّرير: جوانب السرير.)
أَيّامُها مُشرقَةٌ بالمُنَى طافِحَةٌ بالضِّحْكِ والعافِيَهْ (المُنى: جمع مُنْية وهي ما يَتَمنّاهُ الإنسانُ. طافحةٌ بالضِّحك: ملانةٌ بالضِّحك.)
إذا تطلّعتُ إلى وَجهِها رأيتُ أُمّي مَرّةً ثانِيَهْ (تطلَّعتُ إلى وجْهها: نظرتُ إلى وجْهها.)
المصدر: ديوان ظلال الايام لانور العطار
*15*
*15*
توفيق يوسف عواد
أديب لبناني معاصر، ولد في بحر صاف سنة 1911، انصرف الى الكتابة القصصية، وكان من الناجحين فيها. وقد زاول الصحافة، فأنشأ "الجديد" سنة 1941، ثم انتقل الى السلك الدبلوماسي. من مجموعاته القصصية "الصبي الاعرج" و "قميص الصوف" "والرغيف" ومن رواياته: "طواحين بيروت" و "الرغيف".
وله ديوان شعر "المنارة والزورق".
جلَستْ على حَشِيَّتها (الحشيَّة: مقعد محشوّ بالصوف يفرش على الارض.) أمامَ الموقدِ تَنْكُتُ النارَ (تَنْكُتُ النار: تضربها، تحركها.) بالْمِلْقَطِ، مصوِّبةً إلى الجَمَراتِ الملتمعةِ بين يدَيْها نظراتٍ عميقةً. ثم تناولَتِ الصِّنَّارتَيْنِ وقميصًا من الصوفِ كانَتْ قد بدأتْ نَسْجَهُ، ووضَعَتْ كرةَ الخيطانِ في حضْنِها واستأنَفَتِ العملَ. وأحسَّتْ بالحنانِ يغمُرُ قلبَها لمَّا نظرَتْ إِلى هذا القميصِ. ولدُها ما زالَ يذكُرُها، ما زالَ يُحِبُّها بالرغْمِ من زواجِهِ وابتعادِهِ عَنْها. أَلَمْ يُرْسلُ إِليها منذُ يومَيْنِ هذهِ الخيطانَ هديتَهُ كما يقولُ، في عيدِ الميلاد؟ ويقولُ أيضًا في رسالتِهِ: "جاء دَوْريَ اليومَ يا أُمِّي في تقديمِ الهدَايا إِلَيْكَ"، بعد أَنْ كانَتْ تُقدمُها إِليهِ وهُوَ صغيرٌ. ويعتذرُ من تَفَاهةِ مت أَهْدَى، ولكنَّهُ يرى الصوفَ ذا منفعةٍ في ردِّ البَرْدِ في تلكَ القريَة العاليةِ. عليها أن تُسْرِعَ في النسِيجِ، ولَيتَها تُجيدُهُ، إِنَّ يَدَيْها لم تتعوَّدوا إلا صُنْعَ الأَشياءِ الكبيرةِ الضَّخْمةِ.
وأدغشتِ (أدغشت: أظلمت.) الدنيا، فَنهضتِ الأُمُّ وأشعلتِ القنديلَ وألْقَتْ نظرةً على
*16*
-17
الطعامِ. كانَتْ قدْ ذبَحتْ، إِكْرامًا لزيارةِ أمين، ديكَ دجاجَاتِها. فلتَبْقَ الدجاجاتُ بِلا ديكٍ! الليلةُ ليلةُ عيدٍ، وأمينٌ لا يلأتي إِلى القرية كلَّ يومٍ. إِن أَمينًا لم يزُرْها منذُ سنَةٍ. يكتبُ اليها كلَّ شهرَيْنِ وكلَّ اربعةِ أَشهرٍ أحيانًا، ويقولُ إِنَّ صحتَهُ جيِّدةٌ. ولكنَّ أُمَّهُ تعرفُهُ، وتعرِفُ أنَّهُ عصبيُّ المزاجِ (المزاج: الطببع.) وأَنهُ كثيرُ التَّدْخينِ، قليلُ الأَكلِ مِثلُ أبيهِ، وهي تريدُ أَنْ يأكُلَ ويَسْمَنَ.
تقَدَّم الليلُ. يجبُ ان تكونَ الساعَةُ قد تجاوزتِ السلبعةَ، وأمينٌ وزوجتهُ لم يصِلا بعْدُ. كانت الأُمُّ تُرْهِفُ (أرهف الشيء: جعله رقيقًا حادًّا.) أُذنَيْها لكلِّ حركةٍ في الخارجِ، ويَقْفِزُ قلبُها بين أَضْلاعِها، وتقومُ إلى النافذةِ صوبَ الطرِيقِ تمْسحُ بكَفَّيْها رَشْحَ (الرشح: العرق.) المطر عليها وتنْتظرُ. تُرَى لماذا تأخَّرَ؟ بيروتُ لا تبعدُ مِنْ ساعةٍ في السيارةِ، هذهِ السيارةِ التى تَنْهَبُ الأَرْضَ نَهْبًا، والتي رَكِبَتْها الأُمُّ أَربعَ مرّاتٍ في حياتِها إِلى بيروتَ ومِنْها، فما علِمَتْ هلِ اجتازَتِ المسافةَ حقيقةً أو أَنَّ طيرًا من حكاياتِ الجنِّ حَمَلَها على جناحَيْهِ. هل انقلَبَتْ بهما السيارةُ، هذهِ الآلةُ الجهنميَّةُ فحصلَ لهُ حادثٌ؟ لا سمح اللهُ ! أَو تكونُ امرأتُهُ حَملَته على قضاءِ ليلةِ العيدِ في المدينةِ؟ تكونُ قدْ قالَتْ لهُ: "القرية، الجبل ! هل تريدُ أَن نُضيعَ لَيْلَتَنا هذِه إِكرامًا لأُمِّكَ؟" هل أصغَى إليها واقتنَعَ مِنْها ولم يرحَمْ أمَّهُ؟
لا. لا. إِنَّهُ يؤكِّدُ في رسالتِهِ التي قرأَتْها لها بنتُ جارتِها ثلاثَ مراتٍ، يؤكدُ أَنهُ سيجيءُ وأَنهُ مُشْتاقٌ إِليها. وَكانَتِ الرسالةُ في صدْرِها، فتناولتها وفَتحتْها وطَفِقَتْ (طفقت: أخذت، شرعت.) تُجيلُ فيها نظَراتِها، وَقد أَمْسَكَتْها مقلوبةً ! فتقِفُ عيناهَا على السطورِ والكلماتِ والحُروفِ وَقَفاتٍ معذَّبَةٍ بلهاءَ. وبعد أن لبِثَتِ الرسالةُ في كَفِّها دقائِقَ طوَتْها وخبَّأَتها في مكانها، وكأنّها ذاقَتْ تأكيدَهُ، على جَهْلِها القراءَةَ، فانفَرجَتْ أساريرُ (أسارير: خطوط الجبهة و تجاعيدها.) وَجْهِها وَعادَ الى نَفْسِها اطمئْنانُ الاْنتظارِ.
غَيْرَ أنَّ الوقتَ طالَ فدبَّ فيها اليأسُ من جديدِ. هذا شأنُ أولادِ هذا الزمانِ ! هذا شأنُ المتزوِّجينَ في هذا العصرِ المتمدِّنْ عبيدٌ لنِسائهِمْ ! كانتِ الأُمُّ تفكِّرُ بهذهِ الأُمورِ وهي متوجِّهةٌ إلى غُرْفَتِها لتنامَ، ثم قَعَدَتْ في فِراشها.
وما كادتْ تُلْقي رأسَها حتى سمِعَتْ هديرَ سيَّارةٍ على الطريقِ. حَبَسَتْ أَنْفاسَها، فإِذا البابُ يُدَقُّ دَقَّاتٍ متواليةً قويَّةً. هذهِ دقَّتُهُ. إِنَّها تعرفُ دَقَّتَهُ هكذا كانَ أبوه يأتي من قَبْلِه!
المصدر: قميص الصوف لتوفيق عواد
*18*
*18*
جورج نجيب خليل
ولد في قرية عبلين سنة 1932 ودرس في المدرسة الثانوية في صفد من الجليل. وبعد ذلك بدأ يعمل في التدريس. من آثاره الشعرية "ورد وقتاد"، "على الرصيف"، "لهب الحنين"، "فليخجل التاريخ"، "راسخون". وله كتب اخرى ضمنها مقالات في الادب والاجتماع والرحلات منها: "من حقل الحياة"، "سطر يا قلم"، "انطباعات رحلة الى اوروبا"، و "الشعر العربي في خدمة السلام".
يا أَبِي حُيِّيْتَ مِنْ رَجُلِ يا مِثَال الْجِدِّ وَالْعَمَلِ
فَلْتَدُمْ يا مُنْتَهَى أَمَلِي سالِمًا مِنْ وَطْأَةِ الْعِلَلِ (وطأَة: عَناء.)
أَنْتَ عِنْدِي كَوْكَبِي الْهادِي دائِمًا تَسْعَى لِإِسْعَادِي
فِيكَ يَحْلُو الْيَوْمَ إِنْشَادِي لَكَ مِنِّي أَصْدَقُ الْقُبَلِ
يا جَلِيلَ الْقَدْرِ وَالشّانِ قَلْبُكُمْ يَنْبُوعُ تَحْنانِ
*19*
طالَما بَدَّدْتَ أَحْزَانِي بحَدِيثٍ سال كَالْعسَلِ
كَمْ سَهِرْتَ اللَّيْلَ تَخْفُرُنِي وَبِكُلِّ الْعَطْفِ تَغْمُرُنِي (تَخْفُرُني: تَحْرُسُني.)
وَأَمامَ النَّاسِ تَذْكُرُنِي وَالتَّبَاهِي لاحَ فِي الْمُقَلِ (المُقَل: العُيون.)
فَجَزَاكُمْ فَوْقَ مَقْدورِي يا سِراجًا دائِمَ النُّورِ
يا مَنارًا وَسْطَ دَيْجُورِي صانَنِي مِنْ شائِنِ الزَّلَلِ (دَيْجور: ظلام.، شائن: مَعِيب)
فَلَكُمْ قَلْبِي وَوِجْدانِي وَبِكُمْ عَلَّقْتُ إِيمانِي
يا إِلهِي صُنْ أَبِي الْحانِي رافِلًا فِي أَبْهَجِ الْحُلَلِ (رافِلًا: جارًّا ذيله تبخترًا.)
المصدر: ديوان فليخجل التاريخ لجورج نجيب خليل
*20*
*20*
كلثوم عوده فاسيليفيا
ولدت في الناصرة سنة 1892، تخرجت من دار المعلمات الروسية في بيت جالا، ومارست التعليم خمس سنوات. وفي سنة 1914 تعرفت الى طبيب روسي، تزَوّجا، وسافرت معه الى روسيا. وفيما هما في الطريق نشبت الحرب العالمية الاولى. درست التمريض ومارست مهنتها بين الفلاحين مع زوجها. توفي زوجها ولها ثلاث بنات، وهنا كان عليها أن تكافح لتعيل نفسها وأطفالها، ووجدت طريقها بعد زمن الى أكاديمية العلوم الشرقية حيث علَّمت وألَّفت وترجمت. حصلت على رتبة برفسور، ومنحت وسام الشرف من الدولة السوفياتية مرتين. توفيت الاديبة في سنة 1966.
لَقَدْ اسْتُقْبِلَ ظُهوري في هذا العالَمِ بِالدُّموعِ. وَكُلٌّ يَعْلَمُ كَيْفَ تُسْتَقْبَلُ وِلادَةُ البِنتِ عِندَنا نَحنُ العربَ، خُصوصًا إِذَا كانَتْ هذِه التَّعِسَةُ خامِسَةَ أَخَواتِها، وَفي عائِلَةٍ لَمْ يَرْزُقْها اللهُ صَبِيًّا. وهذِه الكَراهَةُ رافَقَتني منذُ صِغَرِي. فَلَمْ أَذْكُرْ أَنَّ والِدَيَّ عَطَفا مَرَّةً عَلَيَّ وَزادَ في كَراهَةِ والِدَتي لى زَعْمُها أَنّي قَبيحَةُ الصورةِ. فَنَشَأْتُ قَليلَةُ الكَلامِ كَتُومًا (كَتُوما: سكوتا.) أَتَجَنَّبُ الناسَ، ولا هَمَّ لي سِوَى التَّعَلُّمِ، وَلا أَذْكُرُ أَنَّ أَحَدًا في بَيْتِنا دَعاني في صِغَري سِوَى "يا سِتّي يا سكوت" أَوْ "يا سلولة"، وانْكِبابي (انكبابي على العلم: لزومي اياه.) على العِلْمِ في بادِيءِ الأَمْرِ نَشَأَ مِنْ كَثْرَةِ ما كُنْتُ أَسْمَعُ مِنْ والِدَتي "مين ياخدك يا سودة. بتبقي طول عمرك عند امرَأة أَخيكِ خَدَّامه".
وَكانَ ثَمَّةَ شَبَحٌ لهذا التَّهْديدِ، إِنَّ عَمَّتي لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَكانَتْ عِنْدَنا في البيتِ بمَثابَةِ خادِمٍ. ففَهالَ عَقْلِيَ الصَّغيرَ هذا الأَمْرُ، وَصِرْتُ أُفَكِّرُ كَيْفَ
*21*
أَتَخَلَّصُ مِنْ هذا المُستقبَلِ التَّعِسِ. لَمْ أَرَ بابًا إِلّا بِالْعِلْم وَلَمْ يَكُنْ سِوَى مِهْنَة التَّعليمِ في ذلكَ الوقتِ تُباحُ(تباح: تسمح.) للمَرأةُ. وَقَدْ كانَتِ العادَةُ قَبْلَ الحربِ أَنَّ مَنْ يُكونُ أَوَّلَ تِلميذٍ في المدارِس الروسية الابتدائيَّة (- المدارس الروسيية: أنشئت في بلادنا في أواخر القرن الماضي كثير من المدارس الروسية. في المدن والقرى، وكانت في الناصرة دار للمعلمين، وفي بيت جالا دار للمعلمات.) يتعلمُ في القِسْمِ الداخِلِيِّ مَجانًا وَبَعْدَها يَحْصُلُ على رُتْبَةِ مُعَلِّمٍ. فَعَكَفْتُ على العَمَلِوَبَلَغْتُ مُرادي. والفَضْلُ في هذا لِوالِدِي، إِذْ إِنًّ والِدَتي المرحومَةَ قاوَمَتْ بِكُلِّ ما لَدَيْها مِنْ وَسائِلَ دُخولِيَ الْمَدْرَسَةَ. فَهَلْ كُنْتُ سَعيدَةً في حَياتي؟ نَعَمْ. إِنّي وَجَدْتُ في نَفسي خَصْلَتَيْنِ هُما مِنْ أَهَمَّ العَوامِلَ في هَناءِ عَيْشي: الإِقْدامُ على العَمَلِ مع الثَّباتِ فيه، والمحَبَّةُ، مَحَبَّةُ كُلِّ شَيْءٍ، الناسِ والطبيعةِ والعملِ. هذهِ الخَصْلَةُ الثانيةُ هِيَ التي تُساعِدُني دائِمًا في أَحْرَجِ مَواقِفَ حَياتي.
إَنَّ تَذْليلَ المَصاعِبِ لِبُلوغِ المُراد هُوَ أَكْبَرُ عَوامِلَ السعادةِ. فَإِذا اقْتَرَنَتْ هذِه بِسَعادَةِ مَنْ يُحيطُ بِنا أَيْضًا، فَهُناكَ هَناءُ العَيْشٍ حَقًّ. قَضَيْتُ خَمْسَ سَنَواتٍ بَيْنَ أولئِكَ البَناتِ اللواتي كُنْتُ أُعَلِّمُهُنَّ. وَقَدْ أَحْبَبْتُهُنَّ حُبًّا ساعَدَني على أَنْ أَعيشَ مَعَ كُلِّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِعِيشَتِها الصَّغيرَةَ، وَأَنْ أُساعِدَهُنَّ على قَدْرِ طاقَتي.
وَقَدْ قابَلْنَني بِالْمِثْلِ، فَكُنْتُ دائِمًا أَرَى وُجوهًا باسِمَةً ضاحِكَةً وَكُنَّ يُرافِقْنَني في كَثيرٍ مِنْ نُزُهاتي. وَأَذْكُرُ أَنّي زُرْتُ مَرَّةً إِحْدَى صَديقاتي وَكانَتِ ابْنَتُها تتعَلَّمُ عِنْدي وَلَها اثنتا عَشْرَةَ سَنَةً مِنَ الْعُمْرِ. وَوَجَدْتُ صَديقَتي في الْفِراشِ. فَأَخْبَرَتْني في أَثْناءِ الحَديثِ بِأَنَّها غَضِبَتْ أَمْسِ على
*22*
ابْنَتِها إِذْ قالَتْ لِأَبِيها: إِذا ماتَتْ أُمّي فَتَزَوَّج مُعُلِّمَتي، فَهِيَ تَكونُ لي أُمًّا... شَعَرْتُ بِسَعادَةٍ لَمْ أَشْعُرْ بِمِثْلِها مِنْ قَبْلُ مَلَأَتْ قَلْبي، إذْ إِنَّ أولَئِكَ الصَّغيراتِ يُحْببْنَني كَما أُحِبُّهُنَّ. وفي وَقتِ فَراغي كُنْتُ أَزورُ اَطْرافَ المدينة، حَيْثُ يَعيشُ الفلاحونَ، وَأَتَفَقَّدُ أَطْفالَهُمُ الصِّغارَ الْمُهْمَلينَ وَقْتَ الحَصاد، وَكانَ قَلْبي يَتَقَطَّعُ أَلَمًا عِنْدَما أَرَى تِلْكَ العُيونَ المُلْتَهِبَةَ بالرَّمَدِ(رَمَد العيون: نوع من مرض العيون، إذ تصاب العين بنوع من الهيجان.)، فَأَغْسِلُها بمَحْلولِ البوريكِ، وَبَعْدَ تَنْظيفِها أَنْقُطُ مَحْلولَ الزِّنْكِ عَلَيْها. أَظُنُّ أَنَّ بَعْضَ الأَطِبّاءِ الذينَ لَمْ يَجْعَلْهُممُ الزَّمَنُ آلِهَةً بَلْ ظَلّوا بَشَرًا، يُدْرِكونَ تِلْكَ السعادةَ التي أَشْعُرُ بِها. عِنْدَما كُنْتُ أَرَى بَعْدَ أَيَّامٍ تِلكَ العُيونَ سليمةً صافِيَةً، وَتِلكُ الْأَيدِي الصَّغيرةَ تُطَوِّقُ عُنُقي. هذا الشُعورُ كثيرًا ما كانَ يُنْسيني تَعَبي، عِنْدَما كُنْتُ في ساحَةِ الحربِ في البَلْقانِ وَفي روسيا. أَلَمْ أَكُنْ سَعيدَةً لِتَعَافِي كُلِّ جُنْدِيٍّ، أَوْ لِتَخْفيفِ آلامِهِ ! أَلَمْ يَرْقُضْ قَلْبي طَرَبًا، عَنْدَما كُنْتُ أَزورُ المَريضَ وَأَراهُ مُتَّجِهًا إلى الصِّحةِ، وَأَرَى عائلَتَهُ سَعيدَةً لِشِفائِهِ؟ بَلَى إِنّي كُنْتُ أُحِبُّ الجَميعَ، فَأَتَأَلَّمُ لِآلامِ كُلِّ فَرْدٍ وَأَفْرَحُ لِفَرَحِهِ، وَلِهذا لَمْ تَشْعُرْ نَفْسي أَنَّها غَريبَةٌ، مَعَ أَنَّ لي مُدَّةً طويلَةً في الغُرْبَة.
والأَمْرُ الثاني، وَأَهَمِّيَتُهُ لا تقِلُّ عَنِ الأَوَّلِ، وَهُوَ حُسْباني كُلَّ عَمَلٍ شَريفًا، فَلَسْتُ أَخْجَلُ مِنْ أَيِّ عَمَلٍ كانَ، ما دامَ غَيْرَ ماسٍّ بِشَرَفي وَلا بشَرَف غَيْري.
وَلا أَذْكُرُ مَنْ قالَ مِنَ الروسِيّين: يَنْبوع الحَياةِ في داخِلِنا. فَيا لَها مِنْ
*23*
حِكْمَةٍ بالِغَةٍ. نَعَمْ، إِنَّ يَنْبوع الحَياةِ فينا، فَإِذا قَدِرْنا أَنْ نُروِيَ جَميعَ مَظاهِرِ حياتِنا بِهِ، صارَتْ حَياتُنا وَرْدَةً زاهِرَةً تَتَغَلَّبُ بِرائِحَتِها العَطِرَة وَجَمالِها على الأَشْواكِ التي هي كَثيرَةٌ جِدًّا في طَريقِنا. فَلا تُؤْلِمُنا هذهِ الأَشْواكُ كَما لَوْ كانَتْ وَحْدَها. وَمَنْ لا يَرْتَوي لا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَقِفَ كَالعَطْشانِ فَتَجِفَّ حَياتُهُ وَتَصيرَ صَحْراءَ، والسَعادَةُ كَالسَّرابِ (السراب: ما يشاهد نصف النهار من اشتداد الحر كأنه ماء تنعكس فيه الاشجار والبيوت وغيرها- ويضرب به المثل في الكذب والخداع.) فِيها يَرْكُضُ وَراءَهُ فَلا يَصِلُ إِلَيْهِ وَلَوْ كانَتْ لَدَيْهِ المَلايِينُ.
تَعَلَّمْتُ أَنْ أَجدَ الجَمالَ في كُلِّ ما يُحيطُ بي، طَبيعِيًّا كانَ أَوْ مِنْ صُنْعِ البشَر، فجَمالُ الطبيعة كانَ دائمًا يُسَكِّنُ اضْطِرابَ نَفْسي، لِأَنَّهُ رَمْزُ الخُلودِ، وأَما صُنْعُ البَشَر فَإِنَّهُ كانُ يُجَدِّدُ قُوايَ وَيُكْسِبُني إِعْجابًا بِعَقْلِ الإِنْسانِ، فَأَنْكبُّ على العَمَل كالنَّمْلَة. فَأَنا، وَلا مُبالَغَةَ، كُنْتُ في جَميعِ أَطْوارِ حَياتي سعيدة أشتغلُ راغبةً لا مُلْزَمَةً.
المصدر: مجلة الغد، العدد الثالث السنة الاولى 1945 القدس
*24*
*24*
رشيد سليم الخوري
ولد في ضيعة البربارة في لبنان سنة 1887، وتلققى التدريس الثانوي في كلية بيروت الامريكية. ثم قضى ثمانية أعوام في التعليم، وهاجر بعد ذلك إلى البرازيل، حيث انصرف الى التجارة وواصل نظم الشعر. نشر ثلاثة دواوين: "الرشيديات" و "القرويات" و "الاعاصير". وجمع اخيرًا شعره في ديوانه الضخم: "ديوان الشاعر القروي رشيد سليم الخوري سنة 1952 ". وفي الثامن والعشرين من شهر آب 1984 انتقل الى رحمته تعالى عن عمر يناهز السابعة والتسعين عاما.
وَلَوْ عَصَفَتْ رِيَاحُ الهَمِّ عَصْفَا وَلَوْ قَصَفَتْ رُعُودُ المَوْتِ قَصْفَا (عصفت: هبت بشدة.)
فَفي أُذَنِيَّ عِنْدَ النَّزْعِ صَوْتٌ يُحَوِّلُ لِي عَزِيفَ الجِنِّ عَزْفا (النزع: ساعة مفارقة الحياة.، عزيف: صوت.)
فَيُطْرِبُنِي وَذلِكَ صَوْتُ أُمِّي
وَلَوْ مُلِئَتْ لِيَ الجَامَاتُ صَبْرا وَلَوْ جُرِّعْتُ كَأْسَ العَيشِ مُرَّا (الجامات: الكاسات.)
فَفي شَفَتَيَّ يَنْبُوعٌ عَجِيبٌ يُحَوِّلُ لِي كُؤُوسَ الخَلِّ خَمْرَا
فَيُسْكِرُنِي وَذلِكَ ذِكْرُ أَمِّي
وَلَوْ هَجَمَتْ عَلَى قَلْبِي البَلَايا وَهَدَّتْ سُورَ آمالِي الرَّزَايا (البلايا: المصائب.)
فَإِنَّ بِبابِ فِرْدَوْسِي مَلَاكًا يَسُلُّ السَّيْفَ في وَجْهِ المَنَايا (يسل السيف: يسحبه من قرابه.، المنايا: جمع منية وهي الموت.)
فَيَحْرُسُنِي وَذلِكَ طَيْفُ أُمِّي
*25*
وَلَوْ يَا رَبُّ في اليَوْمِ العَظيمِ تَلَوْتَ عَلَيَّ حُكْمَكَ بالجَحِيمِ
فَلِي أَمَلٌ بأَنْ سَتَعُودُ يَوْمًا فَتَصْفَحُ في جَهَنَّمَ عَنْ أَثيمِ
وَتَغْفِرُ زَلَّتِي مِنْ أَجْلِ أَمِّي (زلتي: خطيئتي.)
المصدر: كتاب الشاعر القروي لعبد اللطيف شرارة
*26*
*26*
حطان بن المعلى
شاعر اسلامي مقل (لم ينظم كثيرا) عرف بقصيدة "اولادنا" أو "اكبادنا" التي ذكرها ابو تمام في كتابه "الحماسة".
أَنزلني الدهرُ عَلَى حُكْمِهِ من شامخٍ عالٍ إِلى خَفْضِ(شامخ: عال.)
وغالني الدهرُ بِوَفْرِ الغِنى فليسَ لي مالٌ سوى عِرْضي(غال: نكب.)
أَبكانيَ الدهرُ ويا رُبَّما أَضحكني الدهرُ بما يُرضي
لولا بُنيَّاتٌ كَزُغْبِ القَطَا رُدِدْنَ من بَعضٍ إِلى بعضِ (زغب القطا: أفراخ طائر كالحمامة.)
لكانَ لي مُضْطَرَبٌ واسعٌ في الأَرضِ ذاتِ الطولِ والعَرْضِ (مضطرب: مجال.)
وإنما أولادُنا بَنيْنَا أكبادُنا تمشي عَلَى الارضِ
لو هَبَّت الريحُ عَلَى بعضِهم لامْتَنَعَتْ عَيْنِي من الغُمضِ
المصدر كتاب الحماسة لابي تمام
*27*
*27*
مؤيد ابراهيم
ولد الشاعر مؤيد ابراهيم في عكا سنة 1910.
تلقى علومه في عكا.
عمل في بلدية حيفا مدة 46 عاما حتى احيل الى التقاعد سنة 1975، وحاز على مواطنة شرف مدينة حيفا. وكان رئيسًا لقسم الثقافة العربية في المجلس الشعبي للآداب والفنون. يقيم في مدينة حيفا.
من مؤلفاته الشعرية: "الدموع"، "مجنون ليلى"، "من الاعماق"، "الى الافاق".
وَأَذكْرُ أُمِّي وَعَهْدَ الصِّبَا وَلَيالِي الشِّتاءْ
وَدَمْدَمَةَ المَطَرِ المُنْهَمِي (المنهمي: الساقط.) عَلى السطحِ ثَرَّ (ثرّ: غزير.) البُكاءْ
وَكانونَ وَالْبَرْدَ مِلْءَ الجِواءْ
وَنَبْحَ الكِلابِ عَدَتْ في الأَزِقَّةِ مُنْذُ المَساءْ
مُطارِدَةً قطَطًا مَلَأَتْ حَيِّنا بالْعُواءْ
وَمَعْرَكَة القِطَط الجائِعاتِ على فَضَلاتِ الغِذاءْ
يَفيضُ بِهِنَّ الوِعاءْ
بجانِبِ مَنْزِلنا في الفِناءْ...
وَأَذْكُرُ غُرْفَتَنا في لَيالى الشتاءْ
تَدُقُّ الرِّياحُ على بابِها في عُواءْ
وَكانونَ نار وَإبْريقَ ماءْ
على الجَمْرِ يَغْلي شَجيَّ الغِناءْ
وَقِنْدِيلَ كَاز يَصُبُّ الضِّياءْ
*28*
على صفحات كتابى المُضاء
أُراجعُ درسي به في عناء
وقد ثقلتت أجفني من عياء
ونفسي إلى العلم تشكو الظَّماءْ (الظماء: العطش.)
وأغفو... مكبا (مكبا: لازما.) على دفْتَري رَغْمَ ما بي منَ الْكِبرِياءْ
فتسحب أمي علي الغطاء
ولكن تعُودُ فَتُوْقِظُني بعد حين فَأَشْكُرُها في حَياءْ
وأمي بجنبي حنانٌ وَدفْءٌ سَخيٌّ العَطاءْ
ومجْموعةٌ من أساطير... منْ قصص الأَوْلياءْ
قد اشتعل الشَّيْبُ في رأاْسها وَنَظْرَتُها أَخَذَتْ في انْطِفاءْ (كلمة غي واضحة إستعين بالمعلم ) من حكايا اللَّيالي عَلَيْها سُطورٌ وِضاءْ
المصدر: مجلة الهدف عدد 6 آدر 1962
*29*
*29*
ابراهيم طوقان
شاعر فلسطيني ولد في نابلس عام 1905، ونشأ في القدس، وحصل على ثثقافته الواسعة في بيروت. دَرَّسَ في الجامعة الامريكية، ونظم الشعر فكان له منه ديوان حافل بالروح النابضة، والنزعة الاجتماعية التقدمية. جمعت قصائده ونشرت في كتاب بعنوان "ديوان ابراهيم" أشرف على اعداده الاديبة فدوى طوقان شقيقة الشاعر. توفي ابراهيم أثر مرض عضال سنة 1941.
بِيضُ الْحَمائِمِ حَسْبُهُنَّهْ - ( حسبهن: يكفيهن.) - أَنّي أُرَدِّدُ سَجْعَهُنَّهْ - (السجع: الغناء.)
رَمْزُ السَّلامَةِ وَالوَداعَةِ - مُنْذُ بَدْءِ الْخَلْقِ هُنَّهْ
في كُلِّ رَوْضٍ فَوْقَ دانِيَةِ - الْقُطُوفِ (دانية القطوف: القطوف المتدلية.) لَهَنَّ أَنَّه (أَنَّة: صوت الألم، الأنين.)
وَيَمِلْنَ وَالأَغْصانَ ما خَطَرَ - النَّسِيمُ (خطر النسيم: هب النسيم.) بِرَوْضِهِنَّهْ
وَتَخالُهُنَّ بِلا رُؤوسٍ - حِيْنُ يُقْبِلُ لَيْلُهُنَّهْ
اَخْفَيْنَها تَحْتَ الجَناحِ - ووَنِمْنَ مِلْءَ جُفُوْنِهِنَّهْ
فَإِذا صَلاهُنَّ الْهَجِيرُ - هَبَبْنَ نَحْوَ غَدِيْرِهِنَّهْ (صلاهن الهجير: احترقن بحر اللافحة وقت الظهر.)
يَهْبِطْنَ بَعْدَ الْحَوْمَ مِثْلَ - الْوَحْيِ لا تَدْرِي بِهِنَّهْ
فَإذا وَقَعْنَ عَلى الْغَدِيْرِ - تَرَتَّبَتْ أَسْرابُهُنَّهْ
صَفيْنِ طُوْلَ الضِّفَّتَيْنِ تَعَرَّجَا بِوُقُوفِهِنَّهْ
كُلٌّ تُقَبِّلُ رَسْمَها - فِي الْماءِ ساعَةَ شُرْبِهِنَّهْ ( رسمها: صورتها.)
يَطْفِئْنَ حَرَّ جُسُوْمِهِنَّ بِغَمْسِهِنَّ صًدُورَهُنَّهْ
يَقَعُ الرَّشَاشُ إِذا انْتَفَضْنَ لَآلِئاً لِرُؤُوسِهِنًّهْ
وَيَطِرْنَ بَعْدَ الْإِبْتِرادِ - إِلى الْغُصُونِ مُهُوْدِهِنَّهْ (المهد: السرير.)
*30*
تُنْبِيْكَ أَجْنِححَةٌ تُصَفِّقُ كَيْفَ كانَ سُرُورُهُنَّهْ
وَتَمِيْلُ نَشْوانًا - وَلا خَمْرٌ بِعَذْبِ هَدِيلِهِنَّهْ - (النشوان: الفرحان.)
كَمْ هِجْنَنِي وَرَوَيْتُ - عَنْهُنّ الْهَدِيْلَ (الهديل: صوت الحمامة.)... فَدَيْتُهُنَّهْ
أَلْمُحْسِناتُ إِلى الْمَرِيضِ غَدَوْنَ أَشْباهاً لَهُنَّهْ
اَلرَّوْضُ كَالْمَسْتَشْفَياتِ - دَواؤُها إِيْناسُهُنَّهْ
ما الْكَهْرَباءُ وَطِبُّها بِأَجَلَّ مِنْ نَظَراتِهِنَّهْ
يَشْفِي الْعَلِيلَ عَناؤُهُنَّ وَعَطْفُهُنَّ وَلَطْفُهُنَّهْ
مُرُّ الدَّواءِ بِفِيكَ حُلْوٌ مِنْ عُذوبَةِ نُطْقِهِنَّهْ
مَهْلاً فَعِنْدِي فارِققٌ بَيْنَ الْحَمامِ وَبَيْنَهُنَّهْ
فَلَرُبَّما انْقَطَعَ الْحما ئِمُ في الدُّجَى عَنْ شَدْوِهِنَّهْ
أًمّا جَمِيْلُ الْمُحْسِناتِ فَفِي النَّهارِ وَفِي الدُّجَنَّهْ (الدُّجَنَّة: الليل، الظلام.)
المصدر: ديوان ابراهيم
*31*
*31*
حافظ ابراهيم
ولد في القاهرة سنة 1871، ولما أنهى دروسه الابتدائية عكف على المطالعة والكتابة والنظم، حتى كانت سنة 1911 فعين رئيساً للقسم الادبي في دار الكتب المصرية وظل فيها الى سنة 1932 إذ أحيل الى المعاش.
مؤلفاته: "ديوان حافظ ابراهيم" في ثلاثة أجزاء، و "ليالي سطح". وعرّب عن الفرنسية كتاب "البؤساء" لفكتور هوجو. لُقِّبَ بشاعر النيل. توفي في القاهرة سنة 1932.
مَنْ لي بِتَربيةِ النساءِ فإِنَّها في الشَّرْقِ عِلَّةُ ذلك الإِخفاقِ
الأمُّ مدرسةٌ إِذا أَعْدَدتَها أَعْدَدتَ شَعْباً طَيِّبَ الأَعْراقِ (الاعراق: جمع العرق وهو الاصل.)
الأمُّ رَوْضٌ إِنْ تَعَهَّدَهُ الحَيا - بالرِّيِّ أَوْرَقَ أيَّما إِيراقِ (الحيا: المطر.)
الأمُّ أُسْتاذُ الأَساتِذَةِ الأُولَى شَغَلَتْ مآثِرُهُمْ (مآثرهم: افضالهم.) مَدَى الآفاقِ
لَيْسَتْ نِساؤُكُمْ حِلًى وجَواهِراً خَوْفَ الضَّياعِ تُصانُ في الأَحْقاقِ (الاحقاق: الاوعية.)
لَيْسَتْ نِساؤُكُمْ أَثَاثاً يُقْتَنَى في الدُّورِ بَيْنَ مَخادِعٍ وطِباقِ (طباق: اغطية.)
تَتَشَكَّلُ الأَزْمانُ في دَوَرَانِها دُوَلاً (دولا: لا ثبات لها ولا قرار.) وَهَنَّ عَلَى الجُمودِ بَوَاقِ.
فَتَوَسَّطوا في الحالَتَيْنِ وأَنْصِفُوا فالشَّرُّ في التَّقْبِبدِ واإِطلاقِ
رَبُّوا البناتِ عَلَى الفضيلةِ إِنَّها في المَوْقِفَيْنِ لَهُنَّ خَيْرُ وِثاقِ
وعَلَيْكُمُ أن تَسْتَبينَ (تستبين: تستوضح.) بَنَاتُكُمْ نُورَ الهُدى وعَلَى الحياءِ الباقي
المصدر: ديوان حافظ ابراهيم
*32*
*32*
عبد الرحمن الباشا ومحمد جبر أبو حرب
"هيلين كيلر" هي معجزة القرن العشرين. وُلِدت سويَّةً كاملة الخَلقِ كما تولد أيَّةُ طفلة، فلمَّا صار لها من العمر سنة وسبعة أشهر أصابها داء وبيل أودى ببصرها وسمعها ونطقها فصارت كتلة من اللحم الحيّ. ولكنَّها على الرغم من عماها فقد قرأت عدداً من الكتب يزيد كثيراً عمَّا قرأهُ أيُّ مُبْصِر، وعلى الرَّغم من صممها فهي تستمع بالموسيقا أيَّما استمتاع، وعلى الرَّغم من بكمها فقد ألقت مئات المحاضرات في أنحاءِ العالم.
فاستمع اليها تحدِّثْك عن طرف من هذه المعجزة.
قبلَ أَن تجيءَ "آني سوليفان" إلى بيتنا كان كثير من النَّاسِ يؤَكِّدون لِأُمّي أَنَّني كائِنٌ حيٌّ أَبْلَهُ (الأبْله: ضعيف العقل.). وأَستَطيعُ الآنَ أَنْ أَعْرِفَ السَّبَبَ، فقد كانَ هناك كائِنٌ حَيٌّ صغيرٌ عُمرُهُ تسعةَ عَشَرَ شَهْرًا، لَمْ يَنْتَقِلْ مِن عالَمِ الضِّياءِ إِلى عالَمِ الظَّلامِ فحسب، إِنَّما انتقَلَ إِلى عالَمِ السُّكونِ أَيضًا.
فكَلماتي القليلةُ قد تَبَدَّدَتْ، وَعَقلي مغْلولٌ في الظَّلالِ، وجسمي النَّامي تَحْكُمُهُ دوافعُ حيوانِيَّةٌ.ولَمْ تَكُنِ المُصادَفَةُ هي التي حَرَّرَتْ عَقْلي مِن قَيَودِهِ، وإِنّما هي مُدَرِّسَةٌ مَوْهوبَةٌ تُدْعى "آني سوليفان".
ولَمْ يَحْدُثْ أَنْ واجَهَتِ امْرَأَةٌ نبيلَةٌ مثلَ هذا المَوْقِفِ الذي واجَهَتْهُ "آني سوليفان"وإِنّي لأَذْكُرُ مُحاوَلاتِها المُتَكَرِّرَةَ لِتَتَهَجَّى بَعضَ الكَلِماتِ التي لم يكنْ لها أَيُّ مَعنى بالنِّسبَةِ لي، وأَصابِعُها في يَدي، وأَخيراً حَدَثَ في الخامِسِ مِن نيسانَ مِن سنة سبعٍ وثمانين وثمانِمائة وأَلف أَي بعد مَجيئِها
*33*
إلى بَيْتنا بشهْرٍ واحِدٍ أَنْ نقلَتْ إِلى ذِهْني كَلِمَةَ "ماء". فقد كُنْتُ أَقِفُ أمامَ الماءِ وأَحمِلُ كُوزاً (الكوز: اناءٌ أصغرُ من الابريق.) في يَدي، فأَلْقَتْ قَطَراتٍ من الماءِ فوق يَدي، وظَلَّتْ تَكَرِّرُ حروفَ الكلمةِ (م ا ء) بأَصابِعِها في يَدي، وفجأةً فَهِمْتُ وفَرِحْتُ بالكَلِمَةِ الجديدة التي عَرَفْتُها، وأَخَذْتُ أَمُدُّ يَدي إِلى يَدِها المُسْتَعِدَّةِ دائماً أَطْلُبُ مَدَداً من الكَلِماتِ لِكَيْ أُسَمِّيَ بِها كُلَّ ما أَلْمِسُه مِن الأَشياءِ. وكانت مُعْجِزَةٌ. ومِنْ ذلك الوَقْتِ أَصْبَحَ يَسيرُ جَنْباً إِلى جَنْبٍ كائِنانِ فُتِنَ أَحَدُهُما بالآخَرِ هما: هيلين والمُدَرِّسَة.
وكانت هذه الكلماتُ التي تَعَلَّمْتُها كالأَشِعَّةِ الأُولى الدَّافِئَةِ التي تذيبُ ثُلوجَ الشِّتاءِ، وبعدَ هذه الأَسماءِ جاءَتِ الصِّفاتُ والْأَفعالُ، وازْدادَ ذَوَبانُ الجَليدِ بِسُرْعَةٍ، ولم أَستَطِعْ أن أَتَصَوَّرَ كلماتٍ مثل: ماذا، ولِماذا، وكيفَ، وغيرِها مِنَ الأَسماءِ الموْصولَةِ التي تَرْبِطُ بعضَ الجُمْلَةِ بِبَعْضِها الآخَرِ.
ولكنْ بعد أنْ تَعَلَّمْتُ هذه الأَسماءَ لَمْ أَعُدْ في عُزْلَةٍ. وَالفضْلُ يَرْجِعُ إِلى يَد المُدَرِّسَةِ (آني)، فكُلُّ شيءٍ أَلْمِسُهُ يَتَحَوَّلُ إِلى كلمة: الأَرْضُ والهواءُ والماءُ كُلُّها قد انْتَقَلَتْ إِلى رَأْسي بوَساطَةِ هذه اليَدِ الرَّحِيَمَةِ الأَمِينَةِ، والحياةُ التي تَغْمُرني بمعانيها الكثيرةِ بِفَضْلِ يَدِ المُعَلِّمَةِ المَبْدِعَةِ، وكانَ مِن أُولى خطوات هذه المُدَرِّسَةِ أنْ عَلَّمَتْني كيفَ أَلْعَبُ؟ إِنّني لَمْ أَضْحَكْ مُنْذُ أصبَحْتُ صَمَّاءَ، فقد وَضَعَتْ يَدي فوقَ وَجْهِها المُشْرِق المُتَحَرِّكِ وتَهَجَّتْ كلمةَ "يضحك"، ثم دَغْدَغَتْني فانْفَجَرْتُ ضاحِكَةً، وامْتَلَأَتْ قُلُوبُ أُسْرَتي بالسُّرورِ. وبعد ذلك قامَتْ بِتَدْريبي على جميع أَنواع اللَّعِبِ، وفي كُلِّ حَرَكَةٍ جَديدةٍ تُضيفُ كلمةً جديدةً، ولَمْ تَمضِ سِوى أيامٍ
*34*
قَليلَةٍ، حتّى أصْبَحْتُ طِفْلَةً أُخْرى، أُواصِلُ السَّيْرَ في عَوالِمَ جَدِيدَةٍ عن طريقِ الأَصابِعِ السَّاحِرَةِ التي تَتَهَجَّى الكَلِماتِ.
ولم تكن مُدَرِّسَتي تتركُ الدُّنيا مِن حَوْلي صامِتَةً، وإِنَّما جَعَلَتْني أَسْمَعُ بأَصابِعي تَثاؤُبَ الإِنسانِ وصهيلَ الحِصانِ وخُوارِ البَقَرِ، وثُغاءَ الحَمَلِ، وَنَقَلَتْني إِلى عالَمِ اللَّمْس، وجَعَلَتْني على اتِّصالِ بًكُلِّ شَيءٍ يُمْكِنُ الإِحساسُ بة أَو لَمْسُهُ: ضوءِ الشَّمْسِ، وعصفِ الرّيحِ وصريرِ البابِ، والصوتِ الجميلِ.
و "آني سوليفان" هذه ابنةُ أُسرةٍ إِيرلنديَّة مُهاجِرَة، وُلِدَتْ في فَقْرٍ مُدْقِعٍ (الفَقر المُدْقِع: الفقر الشديد.)، وهي تَذْكُرُ دائماً أنَّها كانتْ تَشْكُو مِنْ عَيْنَيْها، ماتَتْ أُمُّها وهي في الثّامِنَةِ مِن عُمُرها، تارِكَةً ثَلاثَةَ مِن الأَطْفالِ هَجَرَهُمْ أبوهُمْ بعدَ سَنَتَيْنِ، ولا تَدْري "آني" حتى الآن ماذا حَدث للأَب بعد ذلك، فقد كُفَّ بَصَرُها، وفي مَعْهَد "بركنز" لِلعميان تعلَّمَتْ طريقَةَ "بريْل" (بريل: هو لوي بريل، وُلِدَ قرب باريس وأصابه العمى في الرَّابعة من العمر. وقد تعلَّم القراءة في كتب العميان ذات الحروف البارزة التي تُشبِهُ الحروف التي يستعملُها المُبصِرون، ثمَّ أحسَ بعقم هذه الطريقة وصعوبة تعَلُّمِها فابتكَرَ طريقةً جديدةً، استخدم ستَّ نقاطٍ فقط توقع بترتيبات خاصَّة بحيثُ تدلُّ على كل حرفٍ من حروف الهجاء، وقد أصبحت طريقته هذه بعد وقت؛ سنة 1952م الطَّريقةَ العالميةَ لتعليم العميان القراءة والكتابة.) في القراءة، وَتَعَلَّمَتِ الأَبجدِيَّة، وبعد ذلك أُجْرِيَتْ لها عَمَلِيَّةٌ اسْتَعادَتْ بها بعضَ مَقْدِرَتِها على الإِبْصارِ. ولكنَّها بَقِيَتْ في المَعْهَدِ نَفْسِهِ سِتَّ سَنَواتٍ أُخْرى، إِلى أَنْ تَقَدَّمَ أَبي يَطْلُبُ مُساعَدَتَها.
و "آني" مِن أَوائِلِ الذين أَدْرَكوا تِلكَ الطَّبيعَةَ المُؤْلِمَةَ التي يُعانيهاالعميان إِنَّهم يَعيشُونَ في عزلةٍ، ويَسْتَحِقُّونَ الإِشفاقَ. وكانت تعدُّ العميانَ كائِناتٍ حَيَّةً، مِن حَقِّهِم أنْ يَتَعَلَّمُوا، وأن يَسْتَريحوا وأنْ يَعْمَلُوا.
وشَبَبْتُ وجَعَلْتُ أنْتَقِلُ مِن مَدْرَسَةٍ إِلى مدرسَةٍ، وتَنْتَقِلُ معي "آني" وكانت تجلِسُ إِلى جِواري، وكانت تنقُلُ لي باصابِعِها كل ما يقوله
*35*
الأَساتِذَةُ في المحاضَراتِ، وكثيراً ما أَرْهَقَتْ عَيْنَيْها بالقِراءةِ، ونَقَلَتْ لي كُلَّ ما قرأت بالإِضافَة ألِى ما أُتابِعُه في مطبوعات بريل.
وتَمَنَّت "آني سوليفان" أن تَنْقُلَ إِلَيَّ الكلامَ الطَّبيعِيَّ واستعانَتْ على ذلك بِصَبْرٍ خارِقٍ للعادَةِ، فوَضَعَتْ يدي على شَفَتَيْها وجَعَلَتْني أُحِسُّ كُلَّ ذَبْذَبَةٍ (الذبذبة: الاهتزازة الخفيفة.) تَخْرُجُ مِنهما ومِن حَلْقِها، ورُحْنا نُرَدِّدُ مَعاً كلماتٍ وعِبارات، حتّى أصبحتُ أكثرَ مُرونَةً وأكثرَ إِحْساساً بِنَفْسي.
والحقيقةُ المُؤْلِمَةُ هي أنَّها أَخْطَأَتْ في عَدَمِ تَنْمِيَةِ أعضائي الصَّوْتِيَّةِ قبلَ أنْ تُعَلِّمَني النُّطْقَ، وعلى الرَّغمِ مِن هذا فإِنَّني مَضَيْتُ وتَقَدَّمْتُ، ولَمْ يَكُنْ نُطْقي مُحَبَّباً ولكنّي مضيْتُ أُتَهْتِهُ (أتهته: أتعثر في النطق واتلعثم.)، وكُنتُ سَعيدَةً لِأَنَّني أَخَذْتُ أَلْفِظُ كلماتٍ كانت تَفْهَمُها أُسرَتي وبعضُ أصدقائي.
ولكنّ "آني" لم نَسْتَطِعْ أنْ تَتَخَلَّصَ مِنْ رَغْبَتِها في بلوغِ الكمالِ؟ ومَضَتْ تَحْمِلُ هذا العِبْءَ الشاقَّ دونَ تَوَقُّفٍ إِلى أن مَرِضَتْ مَرَضَها الاخيرَ، ولم أحْزَنْ على شيءٍ في حَياتي قَدْرَ حُزْني عليها.
كانت هناكَ قُوَّةٌ تَنْتَقِلُ إِلَيَّ مِن اتِّصالي بها حتّى بَعد مَوْتِها وأحْسَسْتُ بالشَّجاعَة وبالرَّغْبَةِ العارِمَةِ (الرغبة العارمة: الرغبة الشديدة.) في أنْ أُواصِلَ البحثَ عن سُبُلٍ جديدةٍ كي أَهَبَ مَزيداً مِن الحياةِ لغَيْري مِنَ الرِّجالِ والنِّساء مِمَّنْ يَعيشُونَ في الظَّلامِ والصَّمْت.
كانَتْ مُدَرِّسَتي تُؤْمنُ بي وقَرَّرْتُ ألَّا أَخُونَ هذا الإِيمانَ. وكانت تَقُولُ لي
*36*
مَهْما يَحْدُثْ لَكِ فابدَئي مِن جَديدٍ فتزدادَ قُوَّتُكِ، وبذلك تُحَقّقينَ هَدَفاً آخَرَ. لقد حاوَلْتُ مِراراً لا عِدادَ لها وأخْفَقْتُ ثمَّ انتصَرْتُ في النهايَةِ.
المصدر: القراءة والنصوص الادبية للصف الثالث الاعدادي
*37*
*37*
*38*
طه حسين
كاتب مصري واسع الشهرة، ولد سنة سنة 1989، وفقد نظره في عامه الثاني. في سنة 1914 نال من الجامعة المصرية لقب دكتوراة في الآداب، ثم نال مثلها من كلية الآدااب في باريس، مع شهادة الدراسة العليا في التاريخ وفي سنة 1925 عين استاذ الآداب العربية في الجامعة المصرية، ثم عميد كلية الآداب في هذه الجامعة.
له مؤلفات كثيرة نذكر منها: "الآداب الجاهلي" و "مع المتنبي" و "كتاب الأيام" - الذي قَصَّ فيه أحاديث طفولته البائسة – و "في ذكرى أبي العلاء" توفى طه حسين عميد الادب العربي سنة 1973.
كان العريف في الكتَّاب شابًّا طويلاً نحيفاً أسود فاحماً، أبوه سودانيٌّ وأُمُّه مولَّدة (مولِّدة: اي ابوها عربي دون أُمِّها.). زكان سيِّىءَ الحظَّ، لم يوفَّق في حياته لخير؛ جرّب الأعمال كلها فلم يفلح في شيءٍ منها. أرسله أبوه عند كثير من الصنَّاع ليتعلَّم صنعةً فلم يُفلح. وحاولَ أن يجد له في معمل السُّكَّرر ششغل العامل أوِ الخفير (الخفير: الحارس.) أو البوَّاب أو الخادم، فلم يُفلح في شيءٍ من هذا. وكان أبوه ضيِّق الصدر به، يمقته ويزدريه، ويؤثر عليه (يُؤْثر عليه: يُفَضِّلُ عليهِ.) إِخوته الذين يعملون جميعًا ويكسبون.
وكان قد ذهب إِلى الكتَّاب في صباه فتعلَّم القراءة والكتابة وحفظ سوراً من القرآن لم يلببث أن نسيها. فلما ضاقت به الحياة، وضاق بها أقبل إلى "سيِّدنا"، فشكا اليهه أمره. قال له سيِّدنا: "تعال هنا، فكنْ عريفاً. عليك أن تعلِّمَ الصِّبيان القراءة والكتابة، وتلاحظهم وتمنعهم من العبث (العبث: اللهو.) وتقوم
*39*
مقامي متى غبتُ، وعَليَّ أن أُقرئهم القرآن وأُحفِّظَهُم إِيَّاه.
وعليك أن تفتح الكتَّاب قبل أن تطلع الشمس، وتشرف على تنظيفه قبل أن يحضر الصِّبيان. وعليك أن تغلق المتَّاب متى صُلِّيَت العصرُ، وتأخذ مفتاحه. وعليك مع هذا كله أن تكون يدي اليمنى، ولكَ ربع ما يأتي به الكتَّاب من نقد، تقتضي ذلك كل أسبوع أو كلّ شهر". وتَمَّ هذا العقد بين الرَّجلين وقرأ عليه الفاتحة، وبدأ العريف عمله.
وكان العرريفُ يُبغض سيِّدنا بغضاً شديداً ويزدَريه، ولكنَّه يصانعه (يصانعه: يداريه ويلاينه.). وكانَ سيِّدنا يكره العريف كرهاً عنيفاً ويحتقرُه، ولكنَّه يتملَّقُه...
ومن غريب الأمر أنَّ الرَّجُلين كانا مضطرِّين إلى أن يتعاونا على كره ومضض (المضض: الوجع.). أحدُهُما محتاج إلى أن يعيش، والآخرُ محتاج إلى من يدبِّر له أُمورَ الكتَّاب.
المصدر: كتاب الأيام لطه حسين.
*40*
*40*
سميرة عزام
ولدت في عكا. لم يتيسر لها دراسة كاملة، فراحت تزيد من ثقافتها بجهودها الخاصة. التحقت بمحطة اذاعة الشرق الادب ثم في مكتب المحطة في بيروت. وكانت تنشر في الصحف والمجلات والراديو. قتلت في حادث اصطدام سيارة في سنة 1967.
من آثارها: "أشياء صغيرة"، "امريكي في اوربا"، "جناح النساء"، "الساعة والانسان" وهي مجموعة قصصية وغير ذلك من الآثار.
لا شَكَّ في أَنَّ أَسَفَنا لِفَقْدِ سَجّادَةٍ صَغيرَةٍ تَضيعُ مِنْ بَيْتِنا كانَ كَبيراً، ولكنَّ أَسَفَ أَبي، بصورةٍ خاصَّةٍ، كان أَكبَر، قطعةُ السَّجَّادِ الوَحيدَةُ التي اشْتَراها. وَلَعَلَّ مَبْعَثَ أَسَفِهِ لم يَكُنْ فُقْدانَ شيءٍ اشْتَراهُ وَدَفَعَ فيهِ مبلغاً من النقود. فَقَدْ خَيِّلَ إِلَيْنا أَنَّ السَّجَّادَةَ بِضَياعِها قَدْ فَوَّتَتْ عليهِ (فوتت عليه: اضاعت عليه.) أَنْ يَجدَ مُناسَبَةً يَتَحَدَّثُ فيها إلى زائِرينا، الذينَ تَسْتَلْفِتُ السَّجّادَةُ الْحَمْراءُ الْمُعَلَّقَةُ على الحائِطِ اهْتِمامَهُمْ، عَنْ زِيارَتِهِ لإِيرانَ فَيَشْرَعُ (شرع: بدأ.)، بَعْدَ أَنْ يَسْمَعَ كلمةَ إعْجابِ فيها حَتّى قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ، يَقولُ بِأَنَّهُ فَكَّرَ وهو يَتَفَرَّجُ على السَّجّاد في طَهرانَ أَنْ يَبْتاعَ واحدةً، ولكنَّهُ أَدْرَكَ بَعْدَ عمليَّةٍ حسابية، أَنَّ ما سَيَدْفَعُهُ عليها مِن مُكوسٍ (مُكوس: ضرائب.) يُكَلِّفُهُ المبلغَ المرقومَ أَعلاهُ... (لماذا أَعْلاهُ؟) إلاّ أَنَّهُ عَلمَ مِنْ أَحَدِ مَعارِفِهِ هُناكَ، بِأَنَّ سَجاجيدَ الصلاةِ الصغيرةَ تُعْفَى منَ المُكوسِ فَما تَرَدَّدَ، ولو أَنَّهُ ليسَ مُصَلِّياً، في شِراء واحدة وَحَمْلها.
لَقَدْ فُقدَتِ السَّجّادَةُ يَوْماً، وَقَدْ يَبْدو غَريباً أَنْ أَقولَ ذلكَ؛ إِذْ الْواقِعُ أَنَّ
*41*
يَداً غَريبَةً لَمْ تَمْتَدَّ إِليها في بَيتِنا، إَلاّ أَنَّ تَخْمينَ الطريقةِ لم يَكُنْ عَسيراً (عسيرا: صعبا.) أَبَداً. إِذْ كانَتْ أُمّي قَدْ نَشَرَتْ بَعْضَ قِطَعِ السَّجّاد والأَبْسِطَةِ على إفْرِيزِ الشُّرْفَةِ بِقَصْدِ تَشْميسِهِ، قَبْلَ أَنْ تَلُفَّهُ وَتَرْفَعَهُ إِيذاناً بِانْصرافِ الشِّتاءِ، فهذا دأْبُها ودأْبُ كُلِّ بَيْتٍ في كُلِّ مَوْسِمٍ.
وَمَعَ أَنَّ أُمّي تُقْسِمُ أَنَّ وَضْعَ السَّجّادَةِ لم يَكُنْ يَسْمَحُ لَها بِالِاْنزْلاقِ إلى الشارع، إَلاّ أَنَّهَا انْزَلَقَتْ. فَما أَصْبَحَ الصباحُ إَلاّ وَلاحَظَتْ أُمّي اخْتِفاءَها، فَهَرْوَلْنا نَبْحَثُ عَنها في الرصيفِ فلم نَجِدْ شَيْئاً، وكانَ من السذاجةِ أَنْ نتوقَّعَ أَنْ نَجِدَها، فَقَدْ مَرَّ ساعَتانِ على انبثاقِ الفَجْرِ. وَذَرَعَتِ الرَّصيفَ خُطَواتٌ كَثيرَةٌ، والواقِعُ أَنَّ أَقْدامَ السابِلَةِ لا تَنْقَطِعُ حَتّى في اللَّيْلِ، فأَنّى لَنا أَنْ نَعْرِفَ نَصيبَ مَنْ كانَتْ مِنَ الناسِ؟ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ خَيْطٌ نَسْتطيعُ أَنْ نُمْسِكَ بِطَرَفِهِ، وَلَقَدْ تَأَثَّرَتْ أُمّي فَبَكَتْ، وانْفَعَلَ أَبي ولكنَّهُ لم يَبْكِ، وَوَجَمْنا (وجمنا: صمتنا.) نَحْنُ الأولادَ، ولكِنَّ وُجومَنا لم يَقْعُدْ بِنا عَنْ تَناوُلِ طَعامِ الإِفْطارِ بِشَهِيَّةٍ.
قُلْتُ إِنَّ ذلكَ قَبْلَ خَمْسِ سَنَواتٍ، وَقَدْ كِدْنا نَنْسَى السَّجّادَة، إِلاّ حينَ نَفْتَقِدُ عُرْيِ جِدارِنا في الشتاءِ، وَكان آخِرَ شَيْءٍ نَتَوَقَّعُهُ، أَنْ نُصْبِحَ ذاتَ صَباحِ فَنَجِدَ السَّجّادَةَ مُكَوَّمَةً أَمامَ البابِ، وَقَدْ شَكَّتْ فيها وَرْقَةٌ صغيرةٌ، وكانَتْ أُمّي أَوَّلَ مَنْ رآها هُناكَ حِينَ فَتَحَتِ البابَ لِبائِعِ الحَليبِ، فَصاحَتْ دَهِشَةً وَما صَدَّقَتْ عَيْنَيْها، وَانْدَفَعَتْ تَهُزُّ أَبي بِعُنْفٍ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، فَقامَ وكانَتِ الورقةُ ما تزالُ في مَكانِها، إِذْ أَحْجَمَتْ (احجمت: امتنعت.) أُمّي عَنْ فَتْحِها قَبْلَ أَنْ يَرَى أَبي السَّجّادَةَ، وَكَيْفَ تَكَوَّمَتْ أَمامَ البابِ.
*42*
صَحيحٌ أَنَّ زَمَنَ الخَوارِقِ (الخوارق: المعجزات.) لم يَنْقَضِ تَماماً. فَما قَرَأْناهُ في الورقةِ كانَ اكثَرَ طَرافَةً مِنْ عَوْدَةِ السَّجّادَةِ لَنا. لَقَدْ اعْتَرَفَ واضِعُها أَنَّ الْجَوَّ أَمْطَرَ عليهِ ذاتَ لَيْلِ هذِهِ السَّجّادَةِ، وَلَمّا رَفَعَ رأسَهُ لاحَظَ، بِقَدْرِ ما سَمَحَ لَهُ مِصْباحُ الشارِعِ، أَنَّ ثَمَّةَ سَجّاداً مَبْسوطاً على إِفْريزِ هذا البيتِ، وَقَدْ وَقَفَأَمامَ السَّجّادَةِ الساقِطَةِ مَتَرَدِّداً، ثم لم يَتَحَرَّجْ آخِرَ الأَمْرِ مِنْ حَمْلِها، شاعِراً بِأَنَّ الأَمْرَ لا يَخْلو تَماماً من قُبْحِ السذَرِقَةِ، وَلَقَدِ احْتَفَظَ بِها طولَ هذِهِ المدَّةِ، ولكِنَّهُ مُؤَخَّراً عَزَمَ عَلى أَنْ يَتوبَ لِرَبِّهِ لِسَبَبٍ لَيْسَتْ لَهُ عَلاقَةُ بِالسَّجّادَةِ، وَأَنْ يَجْعَلَ تَوْبَتَهُ مقرونةً بِأَداءِ الفُروضِ. فَلَمّا هَمَّ بِأَداءِ صَلاتِهِ الأُولَى اخْتارَ هذِهِ السَّجّادَةَ لِرُكوعِهِ، إِلاّ أَنَّهُ حينَ فَرَشَها وَحاوَلَ أَنْ يَشْرَعَ في الصلاةِ
*43*
أَحَسَّ كَأَنَّ هَزَّةَ كَهْرَباءَ تَرُجُّ جِسْمَهُ رَجًّا عَنيفاً. كَيْفَ يَبْدَأُ تَوْبَتَهُ بِالصَّلاةِ على سَجّادَةٍ مَسْروقَةٍ؟ وهكذا لَفَّها وَأَعادَها مُخْتاراً راجِياَ اللهَ أَلاّ يَحْتَسِبَ فِعْلَتَهُ مِمّا لا يُغْتَفَرُ مِنَ الذُّنوبِ..
ذلكَ كانَ مضمونَ الرِسالَةِ، وَلَقَدْ كانَتْ فَرْحَتُنا بِالسِّجّادَةِ، وَقَدْ عادَتْ، تَفوقُ حُزْنَنا على ضَياعِها. أَمّا أُمّي فَقَدِ انْفَعَلَتْ كَعادَتِها، وَأَمّا أَبي فَإِنَّهُ لم يَقُلْ شَيْئاً، ولم يَخْطُرْ لَهُ أَنَّ عُنْصُرَ الحكايَة لم يَنْعَقِدْ على السَّجّادَةِ إِلاّ بضَياعِها وَعَوْدَتِها، بَلْ حَدَّقَ في (كلمة غير واضحة)، ثم طَواها بِهُدوءٍ، وَرَفَعَ السَّجّادَةَ وَحَمَلَها إلى زاوِيَةٍ مِنْ بَيْتنا، وراحَ يُصَلّي.
أَجلْ، لَقَدْ غَدا أَبي مُصّلِّياً مُواظِباً مُنْذُ ذلكَ الصباحِ!!
المصدر: من المجموعة القصصية "الساعة والانسان"
*44*
*44*
*45*
احمد أمين
كاتب مصري ولد في القاهرة سنة 1886، ونشأ مفكراً وأديباً. دَرَّسَ في جامعة القاهرة.
تولَّى عدَداً من المناصب العلمية الرفيعة.
من آثثاره الكثيرة "فجرر الاسلام"، "ضحى الاسلام"، "وظهر الاسلام"، و "قصة الادب في العالم"، و "حياتي" و "إلى ولدي" و "فيض الخاطر". توفي في القاهرة سنة 1954.
قالَ لي ابني - وقد انتَهى من مرحلةِ (مرحلة: طور، دور.) التعليمِ الابتدائِيِّ ودخلَ في مَرْحَلَةِ التعليمِ الثَّانويِّ - "أريد بنطلوناً طويلاً".
- لماذا؟
- لأَني لَمْ أَعُدْ طفلاً، وأريدُ أنْ أكونَ رجلاً تُعاملونَني معامَلةَ الرِّجالِ؛ فأركبُ الترامَ وَحْدي، وأذهبُ إلى المدرسةِ وحدي، وأستَأْذِنكَمْ في الذَّهابِ إلى السِّينما وَحْدي.
- هل تَتِمُّ لك رجولتُكَ يا بنيَّ بلُبْسِ البنطلونِ الطويلِ؟ لو كانَ الأَمرُ كذلكَ، لَمَا كانَ أسهلَ من تكوينِ الرِّجالِ.
إن أكثرَ من يَلْبَسونَ البنطلونَ، ليسُوا رجالاً يا بُنَيَّ. ولو قَصَرنا (قصرنا: وقفنا، خصصنا.) لُبْسَ البنطلونِ الطويلِ على الرجالِ، لَفَتَحْنا أَلْفَ مَصْننَعٍ للبنطلونِ القصيرِ، ورُبْعَ مَصْنَعٍ للبنطلون الطويل، والرُّبْعُ كثيرٌ ! ولَوْ كانَ مقياسُ الرُّجولَةِ ركوبَ الترام منن غيرِ حارسٍ، والذهابَ إلى السِّينما من غيرِ رَقيبٍ، لانحطَّ سعرُ الرِّجالِ، معَ أَنَّه أعلى من الذهبِ الخالصِ والْجَوْهرِ الكريمِ.
ليستِ الرجولةُ يا بُنَيَّ ببنطلونٍ طويلٍ، ولا بملابسَ فَخْمةٍ، بسيجارةٍ
*46*
تُوضَعُ في الفمِ، ولا بِعَصاً ثمينةٍ، ولا بأيِّ شيءٍ من المظاهرِ، وإِلاَّ كانتِ الصورةُ من الجِبْسِ (الجبس: مادة تصنع منها التماثيل.)، تَلْبَسُ بنطلوناً طويلاً، وتُمْسِكُ بِعَصاً ثمينةٍ وتُعرَضُ في المتاجرِ الكبيرةِ .. رَجُلاً أيَّ رَجُلٍ.
قد يكونُ الإنسانُ غنيًّا كبيراً وليسَ رَجُلاً، وقد يكونُ وزيراً وليسَ رَجُلاً، وقد يكونُ بَحْراً في العِلْمِ وليسَ رَجُلاً، لأَن الرجولةَ وَراءَ ذلك كُلِّه وفَوْقَ ذلكَ كُلِّه.
إِنَّ الرجولةَ شُعورٌ بالمسؤوليَّةِ (المسؤولية: ما يكون به الإنسان مطالباً عن أمور أو أفعال.) نَحوَ النَّفسِ ونحوَ الأُسرَةِ ونحوَ الناسِ ونحوَ الوَطَنِ.
الرجولَةُ ضميرٌ حيٌّ يَشْعُرُ بالواجِبِ ويَبْذُلُ كُلَّ ما يستطيعُ لِأَدائِهِ (لِأَدائه: للقيام به، لعمله.).
الرجولةُ شَجاعَةٌ لِتَحْقيقِ غايَةٍ سامِيَةٍ ومَقْصِدٍ نبيلٍ.
في الرجولةِ يتحكَّمُ الواجِبُ لا السُّوقُ، والفَضِيلةُ لا الرِّيْحُ، والحِكْمَةُ لا الشُّهرةُ، والضَّميرُ لا المنفعةُ، وَالعَقْلُ الرزين (الرزين: المتزن، اصيل الرأي.) لا العاطفةُ الهَوْجاءُ (الهوجاء: الحمقاء الطائشة.).
أفَهِمْتَ يا بُنَيَّ ما يتطلَّبُهُ البنطلونُ الطويلُ؟
إِن لَمْ تفهمْ بعضَ ما قُلْتُ اليومَ فستَفْهَمُهُ على مَدَى الأَيَّامِ.
المصدر: كتاب فيض الخاطر
*47*
*47*
جان كريستيان اندرسون
كاتب دنمركي مشهور ولد عام 1805. الف العديد من القصص والاساطير التيي ترجمت إلى معظم لغات العالم. اشتغل في المسرح في بداية حياته. ثم انتقل للدراسة في مدينة كوبنهاجن عاصمة الدنمارك...
قام بزيارات تعليمية لمعظم الدول الاوروبية. وخلالها كتب العديد من القصص والحكايات الجميلة. توفي في سنة 1875.
كانَ البَرْدُ شديداً جدًّا، والثلجُ يَتَساقَطُ في تلكَ الأُمْسيَةِ، آخر أُمْسيَة لآخِرِ يوم من السنةِ.
وفي ذلكَ البَرْدِ الققارِسِ والظلامِ الشديدِ، كانَتْ طِفْلَةٌ تَجوبُ (تجوب: تطوف.) الشوارِعَ مكشوفةَ الرأْس، حافيةَ القَدَمَيْن. إِنهاا لم تكنْ حافيةً حينَما غادَرَتْ بَيْتَها. لقدد كانَ في قدَمَيْها حِذاءانِ قَديمانِ، ولكنَّهُما لم يكونا يُفيدانِها كثراً، فقدْ كانا كبيرَيْنِ جِدًّا. كانا في الأصلِ حِذاءَيْنِ لِوالِدَتِها. وكانا واسعَيْنِ ممززَّقَيْنِ، ولذلكَ سَقَطَا مِنْ الطفلةِ بَيْننَما كانَتْ تُحاوِلُ أَنْ تَعْبُرَ الشارِعَ بسرعةٍ، لتَتَفَادى (تتفادى: تتجنب.) الوُقوعَ بينَ عَرَبَتَيْنِ كادَتا تتَتَصادَمانِ. وعادَتْ تَبْحَثُ عَنهُما فَوَجَدَتْ أَحَدَهُما قَدِ اخْتَفَى وَوَجَدَتِ الآخَرَ في يَدِ وَلَدٍ مُتَشَرِّدٍ خَبيثٍ، وَأَبَى أَنْ يُعيدَ الحِذاءَ إِليها. قالَ إَنه يُريدُ أن يَتَّخِذَ منه سريراً لِأَوَّلِ طفلٍ يولَدُ له.
وهكذا اضطُرَّت الطفلةُ أنْ تَسيرَ حافيةً بِقَدَمَيْها الصغيرَتَيْنِ وَقَدِ احمَرَّتا من شدَّة البَرْدِ. وكانَتْ تَحملُ في ثوبِها عدداً من عُلَبِ الكِبريتِ، حَمَلَتْ بِيَدِها
*48*
عُلْبَةً منها. ومضَى النهارُ كُلُّهُ ولم تَبِعْ عُلْبَةً واحِدَةً. ولم يُحْسِنْ أَحَدٌ إِلَيْها بمالٍ.
كانت تُعاني الجوعَ والبَرْدَ. وَتَوَرَّمَ خَدَّاها، والثلجُ يَتَساقَطُ على شَعْرِها الأشقرِ الطويلِ، وقد تَناثَرَ على عُنُقِها خُصَلاً جميلةً، ولكنَّها بالطبعِ لم تَكُنْ تففكرُ في تلكَ الخُصَلِ الجميلة. كانت الانوارُ تَسْطَعُ من جميعِ النّوافِذِ التي حَوْلَها، وورائِحَةُ الشِّواءِ.. نَعَمْ رائِحَةُ الشِّواءِ تَملأُ الشارِعَ فتسطعُ في أنفِ اليَتيمةِ الجائِعَةِ.
إنَّها ليلةُ رأسِ السنةِ.
وفي زاوِيَةٍ بَيْنَ بَيْتَيْنِ، أَحَدُهُما يَقِفُ على طَرَفِ الشارعِ، جَلَسَتِ الطفلةُ مَنْهوكَةً مِنْ شِدَّةِ الجوعِ والبَرْدِ، وَثَنَتْ ساقَيْها تَحْتَها لِتُدْفِئَهُما. ولكنَّ البَرْدَ كانَ يَشتدُّ بها أكثرَ فأكثرَ. ولم تكنْ تَجْرُؤُ على العَوْدَةِ إلى البيتِ بِعُلَبِ الكبريتِ التي لم تَبِعْ منها طولَ النهارِ شَيْئاً. إِنَّ والِدَها لَنْ يُعْفِيَها مِنَ الضرْبِ لَو عادَتْ اليهِ هكذا فارغةَ اليَدَيْنِ. كانِتْ تُقِيمُ مع أَبَوَيْها في بيتٍ أشبَهَ بالعَراءِ، تَهُبُّ فيهِ الريحُ من كُلِّ جانِبٍ دُونَ عائِقٍ، ولم يَنْفَعْهُ أَنَّ الفَتَحَاتِ والشقوقَ الكبيرَةَ التي بِهِ كانَتْ قَدْ سُدَّتْ بالْقَشِّ أَوْ بِقِطَعٍ من الثيابِ العتيقةِ.
لقد كادَتْ يَداها الصغيرتانِ تَموتانِ من شِدَّةِ البَرْدِ، وَذَكَرَتِ الكِبريتَ، وذَكَرَتْ ما فيهِ مِنْ دِفْءٍ. فلو أَنها أَخَذَتْ عُوداً مِنَ العُلبةِ التي بِيَدِها، وَأَشْعَلَتْهُ لاَسْتَطاعَتْ أن تَبْعَثَ في يَدَيْها شَيْئاً مِنَ الدِّفْءِ. وَتَناوَلَتْ عُودا
*49*
فَأَشْعَلَتْهُ. كانَ ضَوْؤُهُ جَميلاً يَبْعَثُ الحرارةَ. كانَ أشبَهَ بشمعَةٍ صغيرةٍ. وَبَعَثَتْ شُعْلَتُهُ الدِّفْءَ في اليَدَيْنِ الصغيرتَيْنِ المتجمدَتَيْنِ. وَخُيِّلَ إلى الطفلةِ والضوءُ الصغيرُ يتراقَصُ بينَ يديها، أنها جالسةٌ بِجانِبِ مِدْفَأَةٍ حَديديةٍ كبيرةٍ، ذذاتِ غِطاءٍ برونزيٍّ لامِعٍ، ووالنارُ تشتعلُ فيها متصِلةً هادِئَةً.
وَأَخَذَتِ الطفلةُ تَمُدُّ ساقَيْها لِيَنالَهُما الدِّفْءُ أَيْضاً، ولكنَّ الشُعْلَةَ انْطَفَأَتْ، واخْتفَتِ المِدفأَةُ الحديديةُ الكبيرةُ التي تَراءَتْ في خَيالِ الطفلةِ الساذَج، وَوَجَدَتِ الطفلةُ نَفْسَها وَلَيْسَ في يَدِها غَيْرُ عُودِ الكِبْريتِ المُحْتَرِقِ.
*50*
فَأَشْعَلَتْ عُوداً آخَرَ، فَعادَتْ تَسْتَأْنِسُ بِضَوْئِهِ وحَرارَتِهِ، وَرَأَتْ على ضَوْئه الصغيرِ، أو تَراءَى لها، أَنَّ الحائِطَ الذي بِجانِبِها قَدْ شَفَّ (شفّ: اصبح شفافاً، رقيقا.)، فَرَأَتْ مِنْ خلالِهِ، في الغُرفَة التي خَلْفَهُ، مائِدَةً قَدْ مُدَّتْ فيها، عليها غِطاءٌ جميلٌ ناصعُ البَياضِ، وَأواانِ بَديعةٌ، وَفي وَسَطِها بَطَّةٌ مُحَمَّرَةٌ ذاتُ رائِحَةٍ شهِيَّةٍ، ومن حَوْلها اصْطُفَّتِ الْحَلْوَى والفاكِهَةُ اللذيذةُ. وَأَجْمَلُ ما صَوَّرَهُ لِلطفلةِ خَيالُها أَنها رَأَت البَطَّةَ تَقْفزُ عَنِ المائدةِ، وفي ظَهْرِها السِّكّينُ والشوكَةُ، وَرَانْها تَسيرُ مُتَّجهَةً نحوَها... ولكنَّ عُودَ الكِببريتِ انطفأَ في يَدِها قَبْلَ أنْ تَصلَ البَطَّةَ، فَلَمْ تَعُدْ تَرَى غَيْرَ الحائِطِ الصفيقِ البارِدِ.
وأَشْعَلَت عوداً ثالثاً، وعلى ضَوْئِهِ تَراءَى لها أنها تجلسُ تحتَ شجرةٍ كبيرة من أشجار عيدِ المييلاد، أكبَرَ وأجمَلَ وأَكثَرَ زينَةً مِنْ تِلكَ التي كانتْ (كلمة غير واضحة) مِنْ وَرَاء الزجاج في بَيْت التاجر الغَنِيَّ، في لَيْلة عيدِ الميلادِ التي سبقتْ. كانت أُلوفُ الأَضْواء تلمعُ بين الأغصانِ الخضراءِ، وأَشْكالٌ ودُمى (دُمًى: مفردها دُمْيَةٌ وهي الصورة المزينة فيها حمرة كالدم.) عديدةٌ مُلَوَّنَةٌ كانت كَأَنَّما تنظرُ إلى الطفلة. فَمَدَّتْ الطفلةُ يديهانَحْوَها ولكنَّ العُودَ انْطَفَأَ... وتوارت الشجرةُ واللُّعَبُ العديدةُ التي عليها، والحَقُ أَنه لم يَكُنْ هُناكَ سوى النجومِ التي تَرَصَّعَتْ (ترصعت: تزينت بها وتنظمت.) بِها قُبَّةُ السماءِ.
وسقطت إحدى النجومِ مِنْ مكانِها ساحِبَةً خَلْفَها شريطاً طَويلاً مِن الضوءِ في قلب الظلمةِ السائِدَةِ.
فَقالَت الطفلةُ: سَيَموتُ الآنَ إِنْسانٌ.
*51*
كانت جدتها العجوزُ قالَتْ لها ذاتَ مَرَّةٍ – وهيَ الإنسانةُ الوحيدةُ في الدنيا التي كانت تعاملُها بَحُبّ وَحَنانٍ، وَقَدْ تَوَفِّيَتِ الآنَ – كانَتْ قالَتْ لها: عنْدَما يسْقُطُ من السماء نَجْمٌ، تَرْتَفِعُ إلى الله رُوحُ إِنْسانٍ.
وعادَت الطفلةُ فَأَشْعَلَتْ عُوداً آخَرَ بِجانِبِ الحائِطِ، فَأَنارَ كُلَّ ما كانَ حَوْلَها، وفي ضوْئه تَراءَتْ لها جَدَّتُها العَجوزُ تَشِعُّ بالنورِ، طَيِّبَةً عاطِفَةً حنونَة كما كانت دائماً. فَهَتَفَت الطفلةُ:
- جدتي: خُذيني معَكِ. أَنا أَعْلَمُ أَنَّكِ سَتَخْتَفِينَ حالَما ينطفئُ عُودُ الثقابِ، كما اخْتَفَتْ منْ قبل المدْفَأَةُ الحديديَّةُ الدافِئةُ، وَاخْتَفَت البَطَّةُ المُحَمَّرَةُ ذاتُ الرائحة الشهيَّة، وَاختفت شجرة عيد الميلادِ الكبيرةُ.
واسرعت الفتاةُ فأشعلت جميعَ عيدان الثقابِ التي كانَتْ في العُلبةِ الواحدة. كانت تُريدُ أن تَبقى جَدتُها لَديْها وَقْتاً أَطْوَلَ. فَأَعْطَتْها عِيدانُ الثقاب (كلمة غير واضحة إستعين بالمعلم) نوراً أكثَرَ. كانَتْ كَأَنَّها في وَضْحِ النهار. وبَدَتْ لها جَدَّتُها اجمل مما كانَتْ منْ قبْلُ... وَمَدَّتِ الجَدَّةُ ذِراعَيْها فَحَمَلَتِ الطفلةَ بَيْنَهُما، وطارتا معا عاليا في السماءِ حَيْثُ لا جوعٌ ولا بَرْدٌ، ولا عَناءٌ.
وطلع الصباحُ الباردُ على هذا الرُّكْن منَ الشارِعِ، فَرَأَى المارَّةُ طفلةً مُوردةَ الخدَّيْن، على شَفَتَيْها ابْتِسامَةٌ، وَقَدْ ماتَتْ مِنْ شِدَّةِ البَرْدِ. ماتَتْ في هذِهِ الليلةِ الأَخيرة منَ العامِ. وَعُلَبُ الكِبْريتِ فَرَغَتْ مِنْها واحِدَةٌ فَقَطْ.
وَقالَ العابرونَ: لَقَدْ كانَتِ المِسْكينَةُ تُحاوِلُ أن تَسْتَدْفِئَ... ووَلكِنْ لَمْ
*52*
يَكُنْ فيهِم مَنْ عَرَفَ ما رَأَتِ الطفلةُ وَهِيَ تُشْعِلُ الثِّقابَ مِنْ بَعْدِ الثِّقابِ.
ترجمة عيسى الناعوري
المصدر: مجلة العربي - العدد السابع حزيران 1959
*53*
*53*
كمال جمبلاط
ولد كما جمبلاط عام 1917 في لبنان. تلقى دروسه الابتدائية في مدرسة عين طورة. تعلم في الجامعة اليسوعية وجامعة السوريون، إذ درس علم النفس والفلسسفة والاجتماع والمحاماة.
أسس الحزب الاشتراكي التقدمي وكان زعيما له. اشتغل في وزارات كثيرة منها التربية، الاشغال العامة، الداخلية. بالاضافة للسياسة اشتغل في الأدب وفي التأليف. من مؤلفاته: "نشيد النور"، "حقيقة الثورة اللبنانية"، "في مجرى السياسة اللبنانية"، "أدب الحياة"، وغير ذلك. توفي في حادثة اغتيال بتاريخ 16/3َ/1977.
المَكانُ العامُّ ليسَ هَوَ لَكَ وَحْدَكَ، وَلَيْسَ هو مَوْضِعَ انْطِلاقِ نَشاطِ حَواسِّكَ في أَيِّ حالٍ، أَوِ اتِّخاذِكَ مِنَ الحُرِّيَّة الشخصيّةِ عُذْراً لِلتَّصَرُّفِ بِما يَأْباهُ (يأباه: يرفضه.) الْخُلُقُ السَّليمُ، وَيَخْرُجُ عَنْ مَقامِ اللَّياقَةِ والأَدَبِ، وَيَنْحَرِفُ عَنْ مَعاني الحِشْمَةِ ومَظاهِرِها، وَيَجْعَلُكَ مَصْدَرَ إِزْعاجٍ وَتَشْويشٍ وَبَلْبَلَةٍ للْآخرينَ، وإِيَّاكَ في كُلِّ حالٍ - على حَدِّ تَعْبيرِ النّاصِرِيِّ - أَنْ تَكونَ مَوْضِعَ تَجْرِبَةٍ أَوْ مُناسَبَةَ مِثالٍ عاطِلٍ بالنِّسبَةِ لِلْآخَرِينَ.
وَلْيَكُنْ جُلوسُكَ مُتأدِّباً مُحْتَشَماً، لا تَنْظُرْ نِظْرَةَ الْحَشْرِيَّةِ إلى مَنْ حَوْلَكَ، كَمَنْ يَتَلَصْلَصُ على أَخْبارِ الآخَرينَ، ولا تَهُزَّ رَأْسَكَ وَتُحَرِّكْ هامَتَكَ (هامتك: رأسك.) ذاتَ اليَمينِ، وذاتَ الشِّمالِ، وَتَضْحَكْ عالِياً، وَتُحَدِّثْ جارَكَ بِصَوْتٍ عالٍ، أَوْ تُنادِ بَعْضَ الذين نَأَوْا (نأوا: بَعُدو.) عَنْكَ في مَجْلِسِهِمْ، أَوْ تَأْكُلْ بَعْضَ الفُسْتُقِ أَوِ الْحَلْوَى ثُمَّ تَرْمِ بِنَفاياها على الأَرْضِ، وَأَنْتَ لا تَفْعَلُ ذلكَ في بَيْتِكَ، بَيْنَكَ وَبَيْنَ نَفْسِكَ.
*54*
وَعَلَيْكَ أَنْ لا تَضْطَجِعَ في الْكُرْسِىَّ، أَوْ تَمُدَّ رِجْلَكَ في وَجْهِ الآخَرينَ على مِثالِ هذِهِ القاعِدَةِ الأمريكيَّةِ القَبيحَةِ، أَوْ تَضَعَ قَدَمَكَ فَوْقَ كُرْسِيٍّ آخَرَ، كَمَنْ هُوَ غَيْرُ مُكْتَرِثٍ (مكترث: مهتمّ.) بِوُجودِ الآخَرِينَ. إِنَّما عَلَيْنا دائِماً وأَبَداً أَنْ نَجِلِسَ مع اْآخَرِينَ، وفي نَفْسنا شُعورٌ مُفْعَمٌ (مفعم: مليء، طافح.) بِالاِحْتِرامِ وَالمُراعاةِ والتقدير لِشُؤُونِهمْ وانْسجام حُرِّيَّتنا مَعَ حُرِّيَّتِهِمْ. فَلِلْجالس مَعَكَ حَقٌّ عليكَ في أن تَحْتَرِمَ ما هُوَ عليه. وَإنَّما الجالسُ مَعَ الآخرينَ كَمَنْ يَتَخايَلُ أَنِّه في مَعْبَد منَ الْتقاء النُّفُوس، يَتَمَثَّلُ مِنْ خلالها، ويَتَشَخَّصُ رُوحُ الواحد الأَحَد الذي هُوَ فيهِمْ.
عنْدَما تَتَحَدَّثُ في مَجْلِسِ مَعَ جار لَكَ في الْمَقْعَدِ، فَلْيَكُنْ صَوْتُكَ هادئاً، لا عالياً فَيُزْعجُ، ولا مُنْخَفضاً فَلا يُسْمَعُ. وَأَوْجزْ ما اسْتَطَعْتَ بحديثك، وَاخْتَصرْ به ما يَهُمُّ مَعْرِفَتُهُ، فَتَكونَ أَسْبابُ كَلامكَ واضحَةً سَهْلةَ الإِدْراك، وَيَكونَ ما تَطْلُبُهُ واضحَ الفَهْم يَسْتَطيعُ كُلَّ أَحَد أَنْ يَسْتَوْعِبَهُ بسرعة. فلا تُضِعْ وَقْتَكَ وَأَوْقاتَ الناسِ بما لا يُفيدُ منْ هُراء الكَلام (هُراء الكلام: الكلام الفاسد لا نظام له.) وَثَرْثَرَةَ اللِّسان وروايَةَ القصَص، وإيَّاكَ منْ إبْراز القيل والقال؛ فَتَقَوُّلُكَ عن الآخرين يُفْسدُكَ عَقْلاً وشُعووراً وَعَمَلاً، بما تَقْدمُ عليه، منْ غيْبَة، وتفسد على الآخَرينَ بدون جَدْوَى، وَالْحَقيقَةُ لا تُقالُ إلاّ في موضع الإفادة منها وَلا تُدرْ بوَجْهكَ للْحَديث كَأَنَّ قَرِيبَكَ في الْمَقْعد لا يسمع، ولا توجه فمك إلى وَجْهه فَتَقْذفَ بنَفَسكَ في نَفَسِهِ فَتُزْعِجَهُ وَتُضَيِّقَ عَلَيْهِ الْخِناقَ. كمن تَبْغي مُحاصَرَتَهُ، وَقَدْ يَصْدُفُ وَتَكونَ خَلوفَ الْفَم - أَيْ ذا رائِحَة غير مُسْتَحَبَّة - فَلا تُزْعج الآخَرينَ وَتُعَكِّرْ صَفْوَ طِيبِهِمْ بَما أَنْتَ عَلَيْهِ منْ فساد الطبيعة.
*55*
وَمنْ آداب الجلوسِ أَنْ تَتَكَلَّمَ مِنْ مَوْضِعِكَ حَيْثُ تَجْلِسُ، فَلا فائِدَةَ لَكَ منْ أَنْ تَقفَ وَتُديرَ ظَهْرَكَ لِلآخَرِينَ، لِأَنَّ السامِعَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْمَعَكَ وَهُوَ على بضْعَة أَمْتارِ مِنْكَ. وَانْتَظِرْ وَقْـتَكَ في الكَلامِ، وَفُرْصَةً لا يَتَحَدَّثُ فيها غَيْرُكَ، فَلا تَحْشُرْ نَفْسَكَ في زُمْرَةِ الْمَحْشورِينَ الْمَدْفوعِينَ على الكَلامِ، وَلا تَقْطَعْ سَبيلَ غَيْركَ وَحَديثَ غَيْرِكَ، فَالْحِشْمَةُ وَالْأَدَبُ هُما في احْتِرامِ مُبادَرَةِ الْآخَرينَ وَالسَّماعَ لَهُمْ وَانْتِظارِ اسْتِيفاءِ دَوْرِهِمْ وَإِلاّ كُنْتَ مِنَ الْمُتَطَفِّلِينَ (المتطفل أو الطفليّ: الذي يدخل وليمة يَدْعَ إِلَيْها.).
المصدر: كتاب ادب الحياة
*56*
*56*
محمود تيمور
ولد في القاهرة سنة 1894، وهو من أشهر الروائيين القصصيين المعاصرين في مصر، ويعتبر من رواد الرواية المصرية التي تحوي وصفا دقيقا للمصريين وبيئتهم واخلاقهم.
من مؤلفاته الروائية: "الشيخ جمعة"، "عم متولي"، "الشيخ سيد عبيط"، "رجب أفندي"، "الحاج شلبي" و "فن القصص"...
وله عدد من المسرحيات منها "حواء الخالدة"، "اليوم خمر" و "صقر قريش". توفي محمود تيمور سنة 1973.
كانَتِ الساعةُ تدُقُّ الثانيةَ عشْرةَ، والدكتورُ في مكتَبِهِ يكتبُ خطاباً لِيُلْقِيَهُ في المجْمعِ (المجمع: الاجتماع.). وكانَ أحدُ الفقراءِ في تلكَ الساعةِ جَالساً بجوارِ فراشِ ابنَتِهِ الحامِل (الحامل: الحُبْلى.) التي كانَتْ تَصرُخُ من الأَلَمِ، وهي ترتعِدُ من البردِ، وقَدِ اصْطَكَّتْ أسنانُها وتقلَّصَتْ (تقلصت: انقبضت.) شفتاها وسالَتْ دُموعُها على خَدَّيْها. ابنَةٌ في الثامنة عشْرةَ من عُمْرها، ماتَ زوجُها بعدَ أَنْ تركَها حامِلاً، وهي تَلدُ بعد
*57*
قليلِ، وقدْ تعسَّرَتْ (تعسرت: صعبت وامتننعت.) ولادتُها فأصبَحَتْ على قيدِ شِبْرَيْنِ من الموْتِ.
جلسَ الرجلُ الفقير القُرفُصاءَ، واضعاً رأسَهُ بين يَدَيْهِ وهو كاسفُ البالِ (كاسف البال: حزبن.)، غائرُ العينينِ، لا يعرفُ ماذا يفعلُ، ولا يهتدي إلى وسيلةٍ (وسيلة: طريقة.) يخفِّفُ بها آلاَمَ ابنتِهِ. وإِذا بزوجتِهِ العَمْياءِ التي كانَتْ تبكي وتضرِبُ الحائِطَ برأْسها، تقولُ له: "أنسِيتَ أَنَّ الدكتورَ الفلانيَّ يعالجُ الفقراءَ مجّاناً (مَجّاناً: بدون مقابل.) ؟ إذهبْ إليه واطرُقْ بابَهُ، فرُبَّما رَقَّ قلبُهُ وأَنْقَذَ ابنَتَنا من الموتِ". فقام الرجلُ دونَ أَن يفوهَ بكلمةِ، وخرجَ إلى الشارِعِ ليأْتيَ بالطبيبِ، فدَقَّهُ ثلاثاً، فخرجَ له خادمٌ أسودُ وهو يُزَمْجِرُ وقال له: ماذا تريد؟ - ابنتي تموت، وأريدُ أن أُحادثَ الدكتورَ.
- هو مشغولٌ جدًّا، وقد نبَّهني أَنْ لا أُجيبَ سائلاً.
فأجابَهُ الفقيرُ: "ولكنَّ ابنتي تموتُ". فأقْفَلَ الخادمُ البابَ في وَجْهِهِ، ورجَعَ الفقيرُ من حيثُ أَتَى وهو نخافِقُ القَلْبِ.
وقفَ الفقير برهةً قبلَ أَنْ يصلَ إلى مَنْزِله، وقال لنفسهِ: "أَجَلْ سأَفعلُ ذلك، وما ضَرَّني لو فَعَلْتُهُ؟ ". وإذا به يرى رَجُلاً يسيرُ على مَهْلٍ في الطريقِ، فمَدَّ له يدَهُ وقال: "حسنةً يا سيِّدي".
*58*
فانتهرهُ الرجلُ وسارَ في طريقهِ، ومرَّ ثان وثالثٌ ورابعٌ، وكانَ نَصيبُ الفقير الفَشَلَ في كُلِّ مَرَّة. وإذا بشَرطِيٍّ يمُرُّ بهِ ويقول له: "ما هذا العملُ، يا رجلُ، مُتسوِّلٌ (متسوِّل: شحاذ.) في الطريقِ؟ هيَّا إلى مركَز البوليس". فقالَ له الفقيرُ: "لم أتعوَّد التسوُّلَ يا سيِّدي، ولكنَّ ابنتي تموتُ، فأرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أُجْرَةَ الطبيب فلَمْ أَجِدْ غيرَ هذه الطريقةِ". ولكنَّ الشرطيَّ قادَهُ إلى مركَزِ البوليس وهناكَ قضَى الفقيرُ ليلتَهُ.
وفى الصباح عادَ إلى منْزلِهِ، بعدَ أَنْ أُطْلِقَ سَراحَهُ، وكانتِ الساعةُ تدقُّ العاشرةَ، وإذا به يسمعُ صُراخاً ووَلْوَلَةً (الولولة: صوت البكاء.)، فهَرْوَلَ إلى دارِهِ، فوجدَ زوجتَهُ تكي وتَصْرُخُ، وابنتَهُ قد فارَقَتِ الحياةَ، فأَكَبَّ عليها وقدْ فَقَدَ الرُّشْدَ. وفي هذه الساعة كانَ الطبيب واقفاً يخطُبُ في المَجْمَعِ ويصيحُ قائلاً: "الطبُّ، أيُّها السادةُ، هو النبعُ الفَيَّاضُ الذي يُسْقَى منهُ الفُقراءُ مجانا".
المصدر: كتاب سنابل من حقول الادب لسامى مزيغبت
8) يترنح: يتمايل
9) الثمل: السكران
(يوجد كلمتان في الكتاب لم تظهرا في الفصة إستعين بالمعلم)
*59*
*59*
خليل السكاكيني
ولد الاديب خليل السكاكيني سنة 1878 في مدينة القدس. عمل معلما، ثم مفتشا للغة العربية. بعد عام 1948 انتقل الى مصر وعين عضوا في مجمع اللغة العربية في القاهرة، وعين عضوا في المجمع العلمي بدمشق.
آثاره: "كذا انا يا دنيا"، "مطالعات في الادب"، "حاشية على تقرير لجنة النظر في تيسير قواعد اللغة العربية"، "الجديد" - أربعة اجزاء - وهو كتاب تدريس لصفوف المرحلة الدنيا، و "سَرِيّ" - عبارة عن مجموعة رسائل الى ابنه سَرِيّ. توفي السكاكيني سنة 1953 في القاهرة.
إذا أَرَدْتَ أَنْ تَحْفَظَ شَبابَكَ وَجَمالَكَ، وَتُجَدِّدَ قُوَّتَكَ وَنَشَاطَكَ، وَتَلْتَّذَّ بِحَياتِكَ، وَتَرْبَأَ (تَرَبأ: تحرص على، تعلو عن.) بِنَفْسِكَ عَنِ الِاْنْحِطاطِ، وَبِعَقْلِكَ عَنِ الجُمودِ، وَبِأَهْوائكَ (الأهواء: المُيول.) عَن التَّسَفُّلِ، فَلا تَخْرُجْ مِنْ بَيْتِكَ في الصباحِ قَبْلَ أَنْ تُمَرِّنَ جَسَدَكَ، ثُمَّ تَكْتُبَ حَوادِثَكَ وَخَواطِرَكَ، ثُمَّ تُغَنِّيَ أَوْ تَلْعَبَ على آلَةِ طَرَبٍ.
الأَلعابُ الرياضيَّةُ، والاسْتِحْمامُ بالماءِ البارِدِ، والطعامُ المُغَذِّي، والمُطالَعَةُ والكِتابَةُ والموسيقَى، هذا هو الأُسلوبُ الذي سَيَتَغَلَّبُ على العالَمِ كُلِّهِ. وإِذا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَقِيْلَ بَعْدَ الْغَداءِ فَذلِكَ أَدْعَى لِلاِسْتِجْمامِ وَحِفْظِ الشَّبابِ. ثم إِذا ساعَدَكَ الحَظُّ فَكانَ لَكَ أَصْدِقاءُ كِرامٌ أَذْكِياءُ على جانِبٍ مِنَ الْعِلْمِ والأدبِ والذَّوْقِ السليمِ فَاجْلِسْ إِلَيْهِمْ، أَوِ اخْرُجْ مَعَهُمْ إِلى الطبيعَةِ تَعِشْ سَعِيداً إِنْ شاءَ اللهُ.
*60*
وَإِنْ كُنْتَ مُتَزَوِّجاً فَاجْعَلْ بَيْتَكَ فِرْدَوْساً تَنْعَمُ بِهِ إِلى أَنْ يَحِينَ الأَجَلُ، فَتَذْهَبَ قَرِيْرَ الْعَيْنِ مَذْكوراًبالْخَيْرِ مَأْسوفاً عَلَيْكَ.
إِنِّي لِأُشْفِقُ أَوْلئِكَ الذينَ لا يَعْرِفونَ السُّرورَ، الذينَ لا يَسْتَقْبِلونَ الأَيَّامَ إِلاّ بِوُجوهٍ مُقَطَّبَةٍ (مقطّبة: عابسة.) وَصُدورٍ مُنْقَبِضَةٍ وَأَخْلاقٍ ضَيِّقَةٍ، الذينَ لا يَلْتَذُّونَ بِشَيْءٍ، بَلْ دَأْبُهُمُ الاِنْتِقادُ وَالاِعْتِراضُ وَالاِسْتِهْجانُ وَالاِسْتِقْباحُ وَالاِشْمِئْزازُ وَالتَبَرُّمُ (التبرُّم: التذمُّر والتشكّي.) وَالتَشَكِّي لِغَيْرِ عَلَّةٍ، فَيُزْعِجونَ أِنْفُسَهُمْ وَيُززْعِجونَ الناسَ. أُولئِكَ أَحَقُّ الناسِ بِالشَّفَقَةِ، وَلا بُدَّ أَنْ يَكونَ ذلِكَ ناشِئاً عن مَرَضٍ في النَّفْسِ أو في الْجِسْمِ، وَلا دَواءَ لِهذا أو مَهْما كانَ سَبَبُهُ إِلاّ اتِّباعُ هذا الأُسْلوبِ.
وَلَيْسَ هذا مَحَلاًّ لِبَسْطِ هذا الأُسْلوبِ بِتَفاصِيلِهِ، فَإِنَّ ذلكَ يَحْتاجُ إِلى كتابٍ بِرَأْسِهِ وَلكِنَّني أَكْتَفي بِالإِشارَةِ إلى أَثَرِهِ في نَفْسي:
أَقومُ مِنَ النَّوْمِ فَأُحِسُّ أَنّي تَلَذَّذْتُ بِنَوْمي، أَلْعَبُ فَأُحِسُّ أَنّي تَلَذَّذْتُ بِأَلْعابي، أَسْتَحِمُّ فَأُحِسُّ أَنَّ السَّعادَةَ كُلَّها في الاِسْتِحْمامِ بِالْماءِ البارِدِ، آكُلُ فَأَتَلَذَّذُ بِأَكْلي وَلَوْ كانَ خُبْزاً يابِساً، أُدَخِّنُ فَأَحْسَبُ السَّعادَةَ في التَّدْخينِ، أَقْرَأُ وَأَكْتُبُ فَأَتَلَذَّذُ بِما أَقْرَأُ وَبِما أَكْتُبُ، أَمْشِي فَأَتَلَذَّذُ بِالمَشْيِ، أَعْمَلُ فَأَتَلَذَّذُ بِالْعَمَلِ، أَجْلِسُ إِلى أَصْدِقائي فَأَتَلَذَّذُ بِرَواحي وَمَجِيئي. أَدْخُلُ بَيْتي فَأَمْلَأُهُ حَياةً ووَسُروراً، أُقابِلُ صِعابَ الأُمورِ فَأَتَلَذَّذُ بِمُقاوَمَتِها وَالتَّغَلُّبِ عَلَيْها، تُلِمُّ بِيَ الْمَصائِبُ فَأَتَعَزَّى بِالصَّبْرِ، بَلْ أَكادُ أَتَلَذَّذُ بِما أَكْتتَشِفُهُ فِيها مِنَ الدُّرُوسِ وَالعِبَرِ
*61*
وَالْمَصائِبُ وَإِنْ جَلَّتْ لا بُدَّ أَنْ يَكونَ فيها مَكْمَنُ لَذَّةٍ، أَوْ مَظْهَرُ جَمالٍ، أَوْ جانِبُ نَفْعٍ.
إِذا كُنْتُ مِنْ أَتْباعِ هذا الأُسْلوبِ فَبَشِّرْ بِهِ، وَلا تَلْقَ أَحَداً مِنْ أَصْدِقائِكَ إِلاّ هَزَزْتَ يَدَهُ هَزًّا عَنيفاً وَسَألْتَهُ:
هَلْ لَعِبْتَ؟
هَلِ اسْتَحْمَمْتَ؟
هَلْ أَكَلْتَ؟
هَلْ قَرَأْتَ وَكَتَبْتَ؟
هَلْ غَنَّيْتَ أَوْ لَعِبْتَ عَلى آلَةِ طَرَبِكَ؟
لا تَقُلْ مَنْ يَسْتَطيعُ اتِّباعَ أُسْلوبك، إِنَّ أُسْلوبي سَهْلٌ؛ وَإِذا لَمْ تُحافِظْ عَلَيْهِ بِحَذافيرِهِ (حذافير: جوانب.) فَإِنَّكَ تَسْتَطيعُ أَنْ تَتَصَرَّفَ فيهِ، وَما لا يُدْرَكُ كُلُّهُ، لا يُتْرَكُ كُلُّهُ، وَإِذا قُلْتُ لا يَسْتَطيعُ اتِّباعَ أَسْلوبِكَ هذا إِلاّ المُتْرَفونَ، قُلْتُ إِنَّ كاتِبِ هذِه السُّطور حافَظَ على أُسْلوبِهِ هذا يَوْمَ كانَ يَشْتَغِلُ عامِلاً في أَحَدِ مَعامِلِ أَمريكا، بَلْ يَوْمَ كانَ رَهينَ السِّجْنِ ظُلْماً وَعُدْواناً.
المصدر: كتاب ماتيسر لخليل السكاكيني
*62*
*62*
خليل الهنداوي
ولد سنة 1906 في مدينة صيدا في لبنان. عاش الشطر الاكبر من حياته في سوريا، وفي مدينة حلب بالذات، يدرّس الادب العربي في الثانويات.
واستطاع، إلى جانب عمله في التدريس، أن يؤلّف عدة رسائل وكتب منها: "صفحة من حياة باريس"، "هاروت وماروت"، "مسرحية "سارق النار" وهي مجموعة مسرحيات فنية قصيرة، "تيسير الإنشاء"، - كتاب مدرسي - و "دمعة صلاح الدين" - مجموعة قصص قصيرة.
أَنْتَ إِنْسانٌ، وَإِنْسانٌ أَنا فَلِماذا نَحْنُ خصمان هُنا
تُنْبِتُ الْأَرْضُ لَنا أَزْهارَها ثُم لا نُنْبِتُها إِلاّ قَنَا؟ (القنا: الرماح.)
أَرْضُنا - إِنْ شِئْتَ - تَغْدو مَسْكَناً وَإِذا شِئْتَ اسْتَحالَتْ مَدْفِنا (استحالت: تحوَّلت إلى.)
يا أَخي ! قَصْرُكَ قَصْرٌ شامخٌ أَكَثيرٌ أَنْ تَرَى الْكوخَ لَنا
أَيُّها السّائِلُ عَنّي مَنْ أَنا أَنا ذَوْبُ الْحُبِّ طِيْباً وَجَنَى
أَنا مَنْ أَرْسَلْتُ قَلْبي عاشِقاً يَرْحَمُ الْقُبْحَ وَيَهْوَى الْحُسْنَا
سَأُنادِيْكَ وَلَوْ ضاعَ الصَّدى وَأَدُقُّ الْبابَ حَتَّى تَأْذَنا (الصدى: رَجْعُ الصوت.)
كُنْ كَما شِئْتَ، وَخالِفْ مَذْهَبِي لَنْ تَراني حاقِداً مُضْطَغِنَا (مُضْطَغِنٌ: مُنْطَوٍ على الحقد.)
مَذْهَبِي الْحُبُّ وَإِيمانِي الهَوَى لا غِنًى كَالْحُبِّ في دُنْيا الفَنَا
لَوْ رَعَيْتَ الْحُبَّ لِلْحُبِّ لَمَا كُنْتَ في شَرْعِيَ إِلا مُؤْمِنَا
مَوْطِني الْإِنْسانُ لا لَوْنَ لَهُ فَاجْعَلِ الْإِنْسانَ مِثْلِي مَوْطِنَا
*63*
إِنْ زَرَعْنا الْبُغْضَ يَأْكُلْنا مَعاً إِنْ غَرَسْنا الْحُبَّ يُزْهِرْ حَوْلَنا
اُدْنُ مِنّي !! ستَرانِي دانِياً فَإِذا أَنْتَ، مَعَ الْحُبَّ، أَنا
وَإِذا نَحْنُ على هامِ الدُّنا نَتَحَدَّى... نَتَحَدَّى الزَّمَنَا (هام: مفردها هامّة بمعنى رأس كلّ شيء.)
المصدر: كتاب الادب العربي المعاصر في سوريا لسامي الكيالي
*64*
*64*
يوسف زعبلاوي
كاتب صحفي معاصر.
يشرف على تحرير الملحق الادبي الثقافي في "مجلة العربي" الكويتية، المعروف باسم "العربي الصغير".
كانَتِ الساعةُ حَوالَي الخامسةِ صباحاً، عِندَ الفجرِ... وكانت العاصفةُ الهوجاءُ تَهُبُّ وَتَعْصِفُ طولَ الليلِ في تلكَ الأصقاعِ (الأصقاع: مفردها صُقْعٌ وهو الناحية.) الشَّماليةِ، فَتَزيدُ بِحارُها الصاخِبةُ صَخْباً.. وارْتَفَعَتْ مِياهُ البحرِ وَراحَتْ أَمواجُهُ تَتَلاطَمُ على جِدارِ المَنارةِ، تلكَ المَنارَةِ القائمةِ على جزيرةٍ صغيرةٍ تَبْعُدُ نَحْوَ 5-6 كيلومتراتٍ عَنْ شاطئِ اسكتلنندةَ.. واستمرَّتِ العاصفةُ طولَ الليلِ حتى تَعَذَّرَ النومُ على مُديرِ المَنارةِ، المستر دارلنج، وكذلك على زَوْجَتِهِ وَابْنَتِهِ.
وَاتَّفَقَ لِلْفَتاةِ، وكانَ اسمُها جريس وتبلغُ من العمرِ 22 سنةً، أنْ نَظَرَتْ مِنْ إحْدى نوافِذِ المنارةِ.. وَفَجْأَةً جَمَدَ بَصَرُها عندَ صخرةٍ لم تَكُنْ بَعيدةً... فَقَدْ لاحَ لها ما أَفْزَعَها، فأَسْرَعَتْ إِللى مِنْظارِ أبيها لِتَتَأَكَّدَ مِمَّا تَراءَى لها عَنْ بُعْدِ 600-. ولما لم تَجِدْ جريس المنظارَفي مَكانِهِ قَدَّرَتْ أَنَّ أباها لا بُدَّ وَأَنْ يَكونَ لاحَظَ ما لاحَظَتْ، فَصَعِدَ بالمِنظارِ إِلى نافذةِ المنارةِ العُلْيا.
وَلم تمضِ لَحَظاتٌ حَتَّى كانَتِ الفتاةُ مَعَ ابيها، تُصغي اليهِ وهو يقولُ:
*65*
- إنها السفينةُ (ك).. لقد غَرِقَتْ في العاصفةِ ولم يبقَ منها إلاّ الحُطامُ (الحطام: ما تكسر من الشيء.) الذي تَرَيْنَ فوقَ تلكَ الصخرةِ... مِسكينٌ جون.. قُبْطانُهَا (قبطان السفينة: قائدها.).. لا رَيْبَ أنهُ اغَرِقَ وماتَ.. إنه شابٌّ ولم يبلغِ الاربعينَ بَعْدُ.. لقد ذَهَبَ ضَحِيَّةَ التجديدِ، وفي سبيلِ المحَرِّكاتِ البخاريةِ التي شاعَتْ في المدةِ الأخيرةِ، وراحوا يعتمدونَ عليها في تسييرِ السُفُنِ.. أنا واثِقٌ من أَنَّ غَرَقَ السفينةِ (ك) إنّما كانَ بِسببِ هذِه المحرّكاتِ التي وَضَعَ جون كُلَّ ثِقَتِهِ فيها.. وَرَدَّتَ جريس قائِلَةً: - ولكنَّ العاصفةَ يا أبي لا تَرْحَمُ، ولا تعرف محركاتٍ ولا تعترفُ
*66*
بأشرِعَةٍ.. فالعاصفةُ والأَمواجُ الهائلةُ هي التي أغرقَتِ السفينةَ وَمَنْ عليها.. مِسْكينٌ العَمُّ جون.. وَمِسْكينةٌ ابْنَتُهُ أَليزابث..
قالَتِ الفتاةُ ما قالَتْهُ وَهي تُمْسِكُ بِمِنْظارِ أبيها وتنظرُ فيه باتِّجاهِ الصخرةِ. وإذا بها تصرُخُ وكأَنَّ وحشاً كاسراً يُوشِكُ أن ينقضَّ عليها. وأعطَتْ أباها المنظارَ لعلَّهُ يَرَى بِخِلافِ ما رَأَتْ. ولكنَّ الخَوْفَ والقلقَ ظهرا على وجهِ الرجُلِ وهو يُدَقِّقُ النظرَ في المنظارِ ويقول:
- يا لَلتُّعَساءِ.. ثمانيةُ رِجالٍ أو تسعةٌ.. وَبَيْنَهُمُ امْرَأَةٌ... هم كُلُّ الذينَ نَجَوْا من رُكابِ السفينةِ... ولكنَّ نَجاتَهُمْ مؤقتةٌ ولا رَيْبَ، فهذهِ الامواجُ كفيلةٌ بإِغْراقِهِمْ بينَ لحظةٍ وأخرَى..
وقطعَت الفتاةُ على أبيها الكلامَ وقالَتْ: - ولكنْ لا بُدَّ لَنا مِنْ إِنْقاذِهِمُ، الآنَ في هذهِ اللحظةِ.. لا يمكنُ أن نترُكَهم يموتونَ ونحنُ مكتوفو الأَيدي..
- ننقذُهم بماذا يا ابنتي..؟ بقارِبِنا الصغيرِ الذي يكادُ يصلحُ لصيدِ الاسماكِ في مياهِ البحيراتِ الهادئةِ..
وَمَنْ يُجَدِّفُ هذا القارِبِ..
- قارِبُنا صغيرٌ حَقاً ولكنَّهُ مصنوعٌ من خشبِ الساجِ (الساج: نوع من الشجر موطنه آسية الجنوبية، وهو ينتج أحد اجود أنواع الخشب الصلبة.) ومتينٌ، وهوَ يتسعُ لعشرةِ أشخاصٍ على كُلِّ حالٍ... أما التجديفُ فنتعااونُ عليهِ أنتَ وأنا، وسأكونُ عندَ حُسْنِ الظنِّ.
- ولكنَّ البحرَ يا جريس مملوءٌ بالتياراتِ والدُّوّامات (الدُّوّامات: الحوّامات المائية.)، وأخشَى ألاّ
*67*
نقطعَ بقارِبِنا بضعَةَ امتارٍ حتى يرتفعَ عَدَدُ الضحايا فيزيدَ اثْنَيْنِ.. وَأَطْرَقَتْ جريس وَوَجَمَتْ (وجمت: صمتت.) ولم تُجِبْ بكلمةٍ.. وأدركَ الأبُ ما كانت تعانيهِ الفتاةُ في أعماقِ نفسِها.. إذ كانَ يعرفُ طبيعَتَها الطيِّبَةَ، ومِزاجَها الْمُرْهَفَ، حَقَّ المَعرِفَةِ. وكان يشعرُ أنها قد تُصابُ بانْهِيارٍ عَصَبِيٍّ لو هَلَكَ أولئكَ المنكوبونَ وَلَمْ تُبذَلْ محاوَلَةٌ جادَّةٌ لِإِنْقاذِهِمْ.
ثم إنه يُحِبُّها وَيَحْرِصُ على إَرْضائِها.
ولَطالَما تَخَلَّى عن آرائِهِ في سبيلِ الأَخْذِ ببآرائِها، وذلكَ بِدافِعِ مَوَدَّتِهِ لَها.
لا عَجَبَ إِذَنْ أَنْ راح الأَبُ يفكرُ ويُعيدُ النظرَ فيما قالَهُ لابنَتِهِ.. فالصعوباتُ التي ذَكَرَها لَها لا تَعْدو كَوْنَها صُعوباتٍ، ومُحاوَلةُ إِنقاذِ أولئكَ المقطوعينَ قد يُكْتَبُ لها النجاحُ رغمَ تلكَ الصعوباتِ... مَنْ يَدْري، فقدْ يكونُ بينَهم احدُ الأَصدقاءِ أوِ الأقرباءِ... ومضى المستر دارلنج يفكرُ ويحاسب نفسَهُ على هذا النحوِ حتر انتهى إِلى مشاركة ابنتِهِ مَوْقِفَها..
*68*
ولا تَسَلْ عن فرحةِ جريس حينَ رَأَت الْاِبْتِسامَةَ الرقيقةَ التي عَلَتْ وجهَ أبيها، وحينَ سَمِعَتْ صَوْتَهُ الخافِتِ وهو يقولُ – هيا بنا يا جريس.. علَينا أن نَسْبِقَ الزمنَ وَنُنْقِذَ المساكينَ قبلَ فَواتِ الأوانِ.
وما أسرعَ ما كانَ الرجلُ وابنتُهُ في القارِبِ الصغيرِ يُجَدِّفانِ بِكُلِّ ما أوتيا من قوةٍ.. وتمكّنَ المستر دارلنج، وكانَ بحَّاراً قديماً، من تَحاشِي الكَثييرِ مِنَ الدُّوّاماتِ، ولكنهُ لم يستطِعْ تفاديَ الأَمواجِ الهائلةِ التي أَخَذَتْ تَتَقَاذَفُ القارِبَ وكأنهُ البرتقالةُ الصغيرةُ.. وَمَهْما يَكُنْ، فقد نَجَحَ الرجلُ وابنتُهُ في الوُصولِ إِلى الصخرةِ بسلامٍ...
وهناكَ قفزَ المستر دارلنج الى الصخرةِ لِيَحولَ دونَ تَدافُعِ الرجالِ إِلى القارِبِ في وقتٍ واحدٍ فَيَغوصَ القارِبُ بِمَنْ عليهِ.
وكانَ على ابنتِهِ جريس أن تحتفظَ بالقارِبِ بِمحاذاةِ الصخرةِ دونَ الْاِرْتِطاامِ بِها.
وهي مُهِمَّةٌ شاقَّةٌ، لا سِيَّما في ذلكَ البحرِ الهائجِ، وتَتَطَلَّبُ سَواعِدَ قَويةً، غيرَ سواعِدِ الفتاةِ النحيلةِ.
ونَجَحَ الرجلُ وابنتُهُ بِمَهامِّهِما. وتَمَّ إنْقاذُ المنكوبينَ على دَفْعَتَيْنِ؛ كانَتِ المرأةُ ضِمْنَ الدَّفْعَةِ الأولى.
المصدر: مجلة العربي تموز 1984 اعداد يوسف زعبلاوي
*69*
*69*
توفيق الحكيم
أديب مصري معاصر. ولد سنة 1898، انصرف الى المسرح والقصة، وعمل على تصوير المجتمع، ورفع مستوى الكتابة في القصص الحديث.
من آثاره: "أهل الكهف"، "عودة الروح"، "شهرزاد" و "حمار الحكيم" وتزيد كتبه على السبعين.
البارِحَةَ، تَحْتَ مِصْبَاحِيَ الْأَخضَرِ فَتَحْتُ كِتاباً وَرَدَتْ فيهِ هذهِ الْأُسْطورَةُ مِنْ أَساطِيرِ الشَّرْقِ الْقَدِيمَةِ:
... في سالِفِ الْأَزْمانِ عاشَ رَجُلٌ أَلْقَتْ إِلَيْهِ السَّماءُ بِخاتَمٍ نادِرِ الْوُجودِ، خاتَمٍ مِنْ حَجَرٍ كَريمٍ تَنْبَثِقُ (تنبثق: تخرج، تصدر.) مِنْهُ أَشِعَّةٌ عَجيبَةٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوانِ، خاتَمٍ سِحْرِيٍّ: مَنْ حَمَلَهُ وَآمَنَ بِهِ فَقَدْ رَضِيَ عَنْهُ اللهُ، وَرَضِيَتْ عَنْهُ النَّاسُ. فَحَرِصَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ، وَوَضَعَهُ في إِصْبَعِهِ لا يَنْزِعُهُ مِنْهُ قَطُّ. وَرَأَى أَنْ يَحْفَظَهُ في بَيْتِهِ يَتَوَارَثُهُ خَيْرُ الْخَلَفِ عَنْ خَيْرِ السَّلَفِ (الخَلَف: الذُّرّيَّة. خير خلف لخير سلف اي خير أبناء.). فَأَوْصَى أَنْ يَؤُولَ (آلَ إليه الشيء: انتهى.) هذَا الْخاتَمُ مِنْ بَعْدِهِ لِأَحَبِّ أَوْلادِهِ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ أَنْ يُوَرِّثَهُ هذا الْوَلَدُ لِأَعَزِّ أَبْنَائِهِ عَلَيْهِ، دونَ أَنْ يَكونَ لِلسِّنِّ فَضْلٌ وَلا لِلْأَكْبَرِ مِنَ الْأَبْناءِ حَقٌّ. وَأَنْ يُعْطَى الْخاتَمُ لِأَحَبِّ الْأَوْلادِ دَائِماً، وَيُكْفَلُ لِمَنْ حازَهُ حَقُّ زَعامَةِ الْبَيْتِ.
وَسَارَتِ الْأَحْوالُ عَلَى هذا الْمِنْوالِ أَجْيالاً بَعْدَ أَجْيالٍ، وَانْتَقَلَ الْخاتَمُ مِن ابْنٍ إِلى ابْنٍ، حَتَّى وَقَعَ آخِرَ الْأَمْرِ في يَدِ رَجُلٍ لَهُ ثَلاثَةُ أَبْناءٍ كُلُّهُمْ حَبيبٌ إِلى قَلْبِهِ. وَقَدْ حَمَلَهُ الضَّعْفُ عَلَى أَنْ هَمَسَ (همس في أذنه: تكلم بصوت خافت.) في أُذْنِ كُلٍّ مِنَ
*70*
الثَّلاثَةِ عَلَى انْفِرادٍ بِأَنَّ الْخاتَمَ لَهُ دونَ سِواهُ. وَحَضَرَتْهُ الْمَنِيَّةُ (المنيَّة: الموت.) آخِرَ الْأَمْرِ، فَوَقَعَ في حَيْرَةٍ وَفَكَّرَ طَويلاً وَتَأَمَّلَ كَثيراً: مَاذَا يَصْنَعُ؟ وَهَدَتْهُ السَّماءُ إِلى فِكْرَةٍ سَطَعَتْ كالنُّورِ الْإِلهيِّ. فَدَعَا لَهُ سِراًّ صائِغاًمِنْ مَهَرَةِ الصُّيَّاغِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَصْنَعَ لَهُ خاتَمَيْنِ عَلَى مِثالِ خاتَمِهِ، وَأَوْصاهُ أَلاَّ يَدَّخِرَ مالاً وَلا جُهْداً في سَبيلِ إِتْقانِ التَّقْليدِ، وَصُدِعَ (صُدِعَ الصائغ بالأمر: انقاد له.) الصَّائِغُ بِالْأَمْرِ، وَمَضَى بِالْخاتَمِ ثُمَّ عادَ بِالْخَواتِمِ ثُمَّ عادَ بِالْخَواتِمِ الثَّلاثَةِ وَوَضَعَهَا أَمامَ الْأَبِ. فَنَظَرَ إِلَيْهَا الْأَبُ فأَخَذَهُ الْعَجَبُ. وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُخْرِجَ الْأَصيلَ مِنَ الدَّخيلِ، وَلَمْ يَعُدْ يُمَيِّزُ الصَّادِقَ مِنَ الزَّائِفِ (الزائف: الكاذب.) فَفَرِحَ وَطَلَبَ أَوْلادَهُ.
وَاجْتَمَعَ بِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمْ مُنْفَرِداً، وَأَعْطَاهُ الْخاتَمَ، وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ أَسْلَمَ الرُّوحَ. وَوَارَى (وارى الشيء: أخفاهُ.) الْأَبْناءُ أَباهُمْ في التُّرابِ، وَما كَادُوا يَفْرَغُونَ مِنْ أَمْرِهِ حَتَّى أَبْرَزَ كُلٌّ خاتَمَهُ، وَادَّعَى أَنَّهُ صاحِبُ الْحَقِّ في زَعامَةِ الْبَيْتِ. وَوَقَعَ بَيْنَهُمُ الْخِلافُ، وَدَبَّ الشِّجارُ (الشجار: الخلاف.) وَتَفاقَمَ النِّزاعُ (تفاقم النزاع: عظم الخلاف.). وَالْكُلُّ شَدِيدُ الِاقْتِناعِ أَنَّ خاتَمَهُ هُوَ الصَّحِيحُ. وَذَهَبَ الْجَميعُ إِلى الْقاضِي...
فَحارَ القاضِي وَلَمْ يَدْرِ مَاذَا يَصْنَعُ، وَكَيْفَ يَقْضِي في هذا الْأَمْرِ العَسيرِ فَصاحَ:
- أَحْضِروا أَباكُمْ أَسْأَلْهُ.
فَقالوا:
- إِنَّهُ مَيْتٌ، في التُّرابِ، كَيْفَ نَسْتَطِيعُ إِحْضارَهُ؟
فَقالَ الْقاضِي:
*71*
- وَأَنا كَيْفَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَحْكُمَ بَيْنَكُمْ؟ أَتَحْسَبُونَنِي قَدِيراً عَلَى حَلِّ الْأَلْغازِ؟ وَلكِنْ إِذا أَرَدْتُمْ مِنِّي نَصيحَةً أُسدِيها (أسدى إليه النصيحة: قدمها له.) إِلَيْكُمْ بَدَلَ الْحُكْمِ بَيْنَكُمْ فإِنِّي أَقولُ لَكُمْ: خُذُوا الْأُمُورَ عَلَى وَضْعِها القائِمِك فإِنِّي أَقولُ لَكُمْ: خُذُوا الْأُمُورَ عَلَى وَضْعِها القائِمِ، وَلْيَعْتَقِدْ كُلٌّ مِنْكُمْ أَنَّ خاتَمَهُ هُوَ الصَّحيحُ، ولْيَجْهَدْ في إِظْهارِ فِعْلِهِ السِّحْرِيِّ، وَذلِكَ لَنْ يَكُونَ إِلاّ بِالْعَمَلِ عَلَى إِرْضاءِ اللهِ وَالنَّاسِ، فَإِذَا مَضَى كُلٌّ مَنْكُمُ في هذَا السَّبِيلِ وَنافَسَ أَخاهُ بِالْخُلُقِ الطَّيِّبِ... وَالْأَعْمالِ الصَّالِحَةِ... إِذا فَعَلَ كُلٌّ مِنْكُمْ هذا، وَغَرَسَ بُذُورَهُ في نُفُوسِ تَابِعِيهِ وَذَوِيهِ، وَشَعَرَ أَنَّ خاتَمَهُ قَدْ أَحْدَثَ الْأَثَرَ الْمَسْحُور، فَلْيَتَقَدَّمْ إِلى هذِهِ الْمَحْكَمَةِ، فَإِنْ كُنْتُ بَعْدُ عَلَى قَيْدِ الْحَياةِ حَكَمْتُ، وَإِلاَّ وَجَدْتُمْ غَيْرِي فِي مَكَانِي أَكْثَرَ مِنِّي حِكْمَةً وَأَغْزَرَ عِلْماً يَتَوَلَّى النُّطْقَ بِالحُكْمِ...
المصدر: الشوق في المطالعة والادب ج 1 بيروت 1975 لحنا الفاخوري
*72*
*72*
ابو علي القالي
عاش الاديب ابو علي القالي في القرن العاشر الميلادي. ونشأ في ديار بكر، ثم رحل إلى العراق فالاندلس في ايام عبد الرحمن الناصر، واستوطن قرطبة فدرس في مسجدها. وهناك وضع كتاب "الأمالي" وفيه معلومات شتى في اللغة والنوادر والأمثال. وله ايضاً كتاب "البارع" في اللغة.
الحسن البصري
ولد بالمدينة المنورة سنة 642م ونشأ في وادي القِرَى. ثم استقر بالبصرة وفيها توفي. كان وَرِعاً تَقِياًّ متقشّفاً. توفي سنة 728م.
- حُسْنُ الاِسْتِماعِ -
أَوْصَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ابْنَهُ فَقالَ: يا بُنَيَّ إِذا جالَسْتَ الْعُلَمَاءَ فَكُنْ عَلَى أَنْ تَسْمَعَ أَحْرَصَ مِنْكَ عَلَى أَنْ تَقُولَ فَتَعَلَّمَ حُسْنَ الاِسْتِماعِ كَمَا تَتَعَلَّمُ حُسْنَ الصَّمْتِ. وَلا تَقْطَعْ عَلَى أَحَدٍ حَديثاً وَإِنْ طالَ حَتَّى يُمْسِكَ (يمسك: ينقطع أو يتوقف.).
- مجالسة أَهْلِ الْعِلْمِ
رَوَى أَبو عَلِيٍّ الْقالِيُّ في أَمالِيهِ (أماليه: كتاب الأمالي.) مِنْ كَلامِ الْعَرَبِ وَوَصاياها: جالِسْ أَهْلَ الْعِلْمِ فَإِنْ جَهِلْتَ عَلَّمُوكَ، وَإِنْ زَلَلْتَ قَوَّمُوكَ، وَإِنْ أَخْطَأْتَ لَمْ يُفَنِّدوكَ (لم يفندوك: لم يكذّبوك أو لم ينسبوا إلى عقلِكَ الضعف.)، وَإِنْ صَحِبْتَ زانُوكَ، وَإِنْ غِبْتَ تَفَقَّدُوكَ. وَلا تُجالِسْ أَهْلَ الْجَهْلِ، فَإِنَّكَ إِنْ جَهِلْتَ عَنَّفُوكَ، وَإِنْ زَلَلْتَ لَمْ يُقَوِّمُوكَ، وَإِنْ أَخْطَأْتَ لَمْ يُثَبِّتُوكَ.
*73*
وَصِيَّةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُعاوِيَةَ
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُعاوِيةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طالِبٍ لِابْنِهِ:أَيْ بُنَيَّ؛ إِنِّي مُؤَدٍّ حَقَّ اللهِ في تَأْدِيبِكَ، فَأَدّ إِلَيَّ حَقَّ اللهِ في الاِسْتِماعِ مِنِّي. كُفَّ الْأَذَى وَارْفُضِ الْبَذَا (البذا: الفحش.)، وَاسْتَعِنْ عَلَى الْكَلالامِ بِطُولِ الْفِكْرِ في الْمَواطِنِ التي تَدْعُوكَ فيها نَفْسُكَ إِلَى الْكَلامِ، فَإِنَّ لِلْقَوْلِ ساعاتٍ يَضُرُّ فيها الْخَطَأُ، وَلا يَنْفَعُ فيها الصَّوابُ. وَاحْذَرْ مَشَوْرَةَ الجاهِلِ وَإِنْ كانَ ناصِحاً، كَما تَحْذَرُ مَشَوْرَةَ الْعاقِلِ إِذا كانَ غاشاًّ، لِأَنَّهُ يُرْديْكَ (يرديك: يهلكك.) بِمَشُوْرَتِهِ.
وَاعْلَمْ يا بُنَيَّ أَنَّ رَأْيَكَ إِذا احْتَجْتَ إِلَيْهِ وَجَدْتَهُ نائِماً، وَوَجَدْتَ هَواكَ يَقْظانَ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَسْتَبِدَّ بِرَأْيِكَ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ هَواكَ، وَلا تَفْعَلْ فِعْلاً إِلاّ وَأَنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّ عاقِبَتَهُ لا تُرْدِيْكَ، وَأَنَّ نَتِيجَتَهُ لا تَجْنِي عَلَيْكَ.
المصدر: كتاب نزهة القارئ جمع احمد الاسكندري
*74*
*74*
حسن مصطفى
أديب معاصر ولد في منطقة القدس. اشتغل في التأليف فأصدر مجموعة مقالات بعنوان "خطرات ريفية" مع تقديم للدكتور أسحق موسى الحسيني في عام 1945. وأصدر كتابا آخر بعنوان "شخصيات" عام 1947.
"رَيَّانُ يا فُجْلُ" مَثَلٌ سائِرٌ يُسْتَشْهَدُ بِهِ لِلدَّلالَةِ عَلى طَريقَةٍ خاصَّةٍ بِأُسْلُوبٍ مُعَيَّنٍ. وَلِهذا الْمَثَلِ قِصَّةٌ تُشِيرُ إِلَى مَضْمُونِهِ.
يُرْوَى، واللهُ أَعْلَمُ، أَنَّ أَحَدَ الْمُحارِبِينَ الْمُتَقَاعِدِينَ، وَقَدْ بَلَغَ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (بلغ من الكبر عتيًّا: جاوز في كِبَرِهِ الحديث.)، خَرَجَ مِنَ الْجَيْشِ وَهُوَ خالِي الْوفاضِ (الوفاض: مفردُها وفضة بمعنى وِعاء كالجُعبة.) فَراحَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ في سُوقِ الْأَعْمال لِشُعُورِهِ بِالْعَجْزِ وَلِطَبْعِهِ الْعَسكَرِيِّ الصُّلْبِ الْجافِّ. ثُمَّ راحَ يَبْحَثُ في مَيْدانِ التِّجارَةِ عَسَى أَنْ يَجِدَ فيهِ مَجالاً لِلحُصولِ على قُوْتِهِ وَما تَقْتَضِيهِ الْحَياةُ مِنْ مَطالِبَ وَواجِباتٍ. فَاسْتَهْوَتْهُ تِجارَةُ الْخُضَرِ، وَقَدْ رَآها أَيْسَرَ مَنالاً وَأَسْهَلَ مُمارَسَةً وَأَقَلَّ عَناءً وَأَوْفَرَ رِبْحاً، وَلَعَلَّهُ بِدافِعٍ لا شُعُوريٍّ نَفَرَ مِنْ أَصْنافِ الْخُضَرِ كُلِّها وَاخْتارَ (الْفُجْلَ) لِلتِجارَةِ بِهِ.
اِنْزَوَى (انزوى: جلس في الزاوية.) صاحِبُنا في رُكْنٍ مِنَ السُّوقِ، يُزاحِمُ غَيْرَهُ مِنْ باعَةِ الصِّنْفِ نَفْسِهِ، وَهُمْ كُثْرٌ وَكُلٌّ مِنْهُمْ في بَيْعِهِ عَلى طَريقَتِهِ. وَكانَ الْمارُّ في تِلْكَ الْمِنْطَقَةِ سَمْعَهُ مُخْتَلِفُ النِّداءاتِ تَتَلَوَّنُ وَفْقَ الْحاجَةِ وَحَسَبَ الزَّبائِنِ مِنَ الْمَشْتَرِينَ، وَلكِنَّها في مَجْموعِها لا تَخْلُو مِنْ إِغْراءٍ وَتَشْوِيقٍ إِلاّ صَوْتَ
*75*
صاحبِنا الْمُحارِب فَقَدْ كان على وَتيرَةٍ (ناشِزاً) بَيْنَ تِلْكَ الْأَصوات لا تَشْوِيق فيه ولا إغْراءَ بَلْ مُجَرَّدَ عَرْضٍ بِطَرِيقَةٍ عَسْكَرِيَّةٍ لَمْ تَكُن تُنَفِّرُ الزَّبائنَ فَحَسْبُ بلْ تُجْفَلُ الْمارَّة، وَتُرْعِبُ أَحْياناً الْأَطْفالَ حِينَما يَهْدُرُ صَوْتُهُ في السُّوق "بُورْده فُجْل، بُورْده فُجْل..."
وَلَمْ يَكُنْ يُؤْلمُ صاحبنا هذا تَجَنُّبُ الزَّبائن لَهُ وابْتعاد الْمارَّة عنْهُ، بقدرِ ما يُؤْلمُهُ صَوْتُ جارٍ مزاحمٍ لَهُ يعرض على النَّاسِ فُجْلاً بطَرِيقَةٍ كُلُّها طلاوةٌ وَتشويقٌ وإغْراءٌ، حين ينطلق صوته الْعذب وهو يحمل الْفجل باليمنى
*76*
وَيُشِيرُ إِلى الْمارَّةِ بِالْيُسْرَى وَيَتَثَنَّى (يتثنّى: ينعطِف في مَشيِهِ أو يتمايل.) وَفْقَ نَغَماتِهِ، وَهُوَ يَقُولُ "رَيّانُ يا فُجْلُ، خَجْلانُ يا فُجْلُ.. يا حَلاوَتَكَ يا فُجْلُ.. يا سُكَّرُ يا فُجْلُ.." فَكانَتْ هذِهِ الْحالَةُ تَهِيْجُ صاحِبَنا الْعَسْكَررِيَّ غَيْظاً فَيَخْبِطُ الْأَرْضَ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى، وَتَعْبَثُ أَنامِلَهُ بِشارِبِهِ، وَيَهُزُّ رَأْسَهُ الضَّخْمُ مُسْتَنْكِراً وَهُوَ يَقُولُ: " أَسْتَغْفِرُ اللهَ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ. لاحَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ... فُجْلٌ لِلسَّلَطَةِ. لكِنْ بَشَرٌ أَمْرُهُ غَرِيبٌ، (بوْرْدَه) فُجلُ ما ياخد، لكِنْ تَنْميق، غِناء، تَخَلُّع، يَشْتَرون...".
المصدر: خطرات ريفية لحسن مصطفى القدس 1954
*77*
*77*
محمود تيمور
قضيتُ صباحَ أمسِ ساعةً في حديقةٍ عامةٍ، قرأتُ فيها الجرائدَ، ثم همَمْتُ واقفاً، وعزمتُ على العودةِ إِلى داري للغَداءِ، فَقصدتُ المحطةَ لأركب الترامَ. وبينما كنتُ مارًّا أمامَ دارِ البَريدِ، استوقَفَني شابٌّ أسمرُ الوجهِ، قويُّ العضلاتِ، رشيقُ الحركاتِ، يدلُّ بريق عينَيْهِ عَلَى ما في قلبِهِ من عزمٍ ونشاطٍ، وكان لابساً مِعطفاً جديداً وحُلَّةً بديعةَ التفصيل والخياطة. استوقفني الشابُّ بقولهِ: صباحَ الخير.
فردَدْتُ التحيةَ، ونظرتُ إليهِ نِظرةَ استغرابٍ وحَيْرَةٍ، وقلتُ لنفسي: "ماذا يريدُ الشابُّ مني، وليسَ لي بهِ معرفةٌ، ولم أصادِفْهُ في طريقي قبلَ اليومِ؟ لعلَّهُ صديقُ أحدِ اصدقائي، يريدُ محادثتي في أمرٍ يخصُّ ذلك الصديقَ، أو لعلَّ لهُ قصداً آخرَ؟" ومشى الشابُّ بجانبي وهو يبتسمُ وقالَ:
- السيدُ بلا شكِّ عَلَى موعدٍ لأنَّهُ يسرعُ في سيرِهِ؟
- كلاّ يا سيدي أَنا عائدٌ لداري.
- أيسمحُ لِيَ السيدُ بخمسِ دقائقَ؟
- بلا شك.
- السيدُ يهمُّهُ أمرُ الأدباءِ، وهو معروفٌ بأَنَّهُ يساعدُهم.
فأجبتهُ بِابْتِسامةِ صفراءَ قائلاً: "والسيدُ ليسَ في جيبهِ إِلا ثمنُ تذكرةِ
*78*
الترام". فَضحِكَ الشابُّ وقالَ: "أنا أطلبُ مبلغاً لا يزيد على خمسةِ قروش ولا يَنْقُصُ عن خُمْسِ هذا المبلغِ، والسيدُ كريمٌ". فأخرجتُ من جيبي قرشينن وأعطيتُها إيّاهُ، وسرتُ في طريقي لأركبَ الترامَ.
نزلْتُ من الترام في الحيِّ الذي اسكنُ فيهِ، واتخذتُ وُجهة داري وأنا أسيرُ الهُوَيْنا (الهوينا: على مهل.). وعند وُصولي للمنزلِ، وَجدْتُ شيخاً يبدو انهُ يبلغُ الستين، ضَخْمَ الجثةِ، مَحْنِيَّ الظهرِ، له لحيةٌ بيضاءُ تتدلَّى على صدرِهِ، يدفعُ بيدهِ عربةً صغيرةً عليها فُجْلٌ يبيعهُ للناسِ، يسيرُ هُنيهةً ويستريحُ أُخْرى، ويصرُخُ من أعماقِ قلبهِ: "ريَّانُ يا فُجْلُ".
سارَ الرجلُ في طريقهِ إلى أنْ وَصلَ إلى نهاية الشارعِ، وحانَتْ مني
*79*
التفاتَةٌ لهُ، فوجَدْتُهُ يصرُخُ ريَّانُ يا فُجلُ، ثم حاولَ الجلوسَ ليستريحَ، وإذا بهِ يَهوي على الأرضِ، فأسرعتُ مع الخَدَمِ إليهِ، فوجدناهُ ملقًى على الثَّرَى وهو يَلْهَثُ من التعبِ وقد عَجَزَ عن الكلامِ فحملناهُ إلى الدارِ ليستريحَ ويأكلَ ويشربَ.
سُبحانَ ربّي! الفرقُ بينَ الاثنين كبيرٌ.
الاول شابٌّ اتخذَ الكسلَ حِرفةً، والكسلُ سَبيلُ التدهورِ (التدهور: السقوط، النزول.) إلى الدنيا التي تموتُ فيها العواطفُ. والآخرُ مُسِنٌّ ضعيفٌ، ولكنَّهُ أَبى أن يَرجِعَ إلى الوراء في معركةِ الحياةِ، وعزَّ عليهِ أن يمدَّ يدَهُ للسُّؤَالِ، فراحَ يعملُ مُفَضِّلاً الموتَ على الجُبْنِ. والعملُ سبيلُ الارتقاء إلى الدُّنيا التي يرتفعُ فيها الإنسانُ إلى قمّة الشَّرَفِ.
المصدر: كتاب سنابل من حقول الأدب لسامي مزيغيت
*80*
*80*
سليم خوري
ولد في البروة سنة 1934. وتعلم في البقيعة وكفر ياسيف. ويعيش حاليا في مدينة حيفا. إلي جانب عمله في التعليم كتب العديد من المسرحيات، ومن القصص للأحداث.
من مؤلفاته" "وريث الجزار"، "آمنة"، "حنين"، "الجِنّ والإنس"، "معلمون وتلاميذ"، "اجنحة العواطف".
قَبْلَ أَنْ يُقْرَعَ جَرَسُ الاِسْتِراحَةِ - أَيْ قَبْلَ العاشِرِةِ صَباحاً بِقَليلٍ - سُمِع صَوْتُ بائع الآرتك.
"آرتك مَع حليب، مَع شوكولاطة.."
لَمْ يَكُنِ انْتِباةُ الطّلابِ إلى صَوْتِهِ كَانْتِباهِ مُنيرٍ، الذي أَصْغَى بِكُلِّيَّتِهِ إلى بائِع الآرتك الذي يُنادي على بِضاعَتِهِ بِصَوْتٍ جَميلٍ، وَبِلَحْنٍ خاصٍّ. وَيَبْدُو أَنَّ المُعَلِّمَ قَدْ لاحَظَ أَنَّ مُنيراً لا يُصْغِي إِلَيْهِ.
- "أَنْتَ يا مُنيرُ! هَلْ أَنْتَ فاهِمٌ ما أَقولُ؟" قالَ المعلمُ نَجِيبٌ بِصَوْتِهِ الهادئ الرَّزين (الرزين: المتزن). إِلاّ أَنَّ مُنيراً لَمْ يَسْمَعْ كلامَ المعَلّمِ. ولم يَنْتَبِهْ إلى المعلمِ وَهُوَ يُشيرُ بِإِصْبَعِهِ إِلَيْهِ.
لَكَزَ عَزيزٌ مُنِيراَ- الجالِسَ بِجانِبِهِ - وقالَ هامِساً:
"مُنيرُ! المعلمُ يَسْأَلُكَ."
فقالَ مُنيرٌ بِهَمْسٍ:
*81*
"أَلاَ تَسْمَعُ نِداءَ بائِعِ الآرتِكِ؟ لَقَدْ جاءَ.. إِنَّهُ لا يَتَعَلَّمُ أَبَداً."
فصاحَ المعلمُ:
"مُنيرُ! ما هذا؟!"
آنذاكَ انْتَبَهَ منيرٌ إِلى صَوْتِ المعلمِ، فَحَنَى رَأْسَهُ بَعْدَ أَنِ اصْطَبَغَ وَجْهُهُ بِحُمْرَةِ الخَجَلِ.
تابَعَ المعلمُ شَرْحَهُ، وَعادَ التلاميذُ يَنْتَبِهونَ إلى الدرسِ، إِلاّ أَنَّ مُنيراً الذي أَخَذَ يَسْتَعيدُ بِذاكِرَتِهِ ما يَفْعَلُهُ مَعَ بائِعِ الآرتِكِ هذا، فَقَدْ كانَ يَهْرَعُ
*82*
مَعَ شِلَّةِ الطلاّبِ إلى بائِعِ الآرتِكِ، يَتَجَمَّعونَ حَوْلَهُ وَيَهْزَأونَ بِهِ، وَيشدون بِمَلابِسِهِ الرَّثَّة (الرثة: القذرة.). أَوْ يُقَلِّدونَهُ بِمِشْيَتِهِ وَهُوَ "يَعْرُجُ". وَكانَ مُنيرٌ أَكْثَرَ الطّلاّبِ وَقاحَةً في مُلاحَقَةِ هذا البائِعِ الذي كانَ يَتَحَمَّلُ إيلامَهُ لَهُ بَعْضَ الوَقْتِ رَيْثَما يَبيعُ ما مَعَهُ مِنْ حَبّاتِ الآرتِكِ.. وَلَمْ يُصْغِ مُنيرٌ مَرَّةً واحِدَةً إلى تَوَسُّلاتِهِ.. فَقَدْ كانَ يَقولُ لَهُ: "مِشْ عيب عليك، زَيّ ما أَبوك عندُه أولاد أنا كمان عندي اولاد، بدّي أعَيّشهُم، وخَلّيني أَبيع وأَترَزَّق.." وَلَمْ يَكُنْ مِنْ منيرِ عندَما يَقولُ لَهُ ذلكَ إِلاّ أَنْ يَبْتَدِعَ حِيلَةً أُخْرَى لِيَهْزَأَ بِهِ.
قُررعَ جَرَسُ الاسْتِراحَةِ، فَخَرَجَ التلاميذ مِنْ صُفوفِهِم، وَراحَ البَعْضُ يَأكلُ ما مَعَهُ منْ "سندويش"، والبَعْضُ الآخَرُ يَتَراكَضُ إلى الباعَةِ الذينَ يَحْمِلونَ أَصْنافاً مُتَنَوِّعَةً منَ الفَواكه والكَعْكِ والحَلْوَى، فَيَشْتْرَوْنَ مِنْهُمْ بِما مَعَهُمْ مِنْ نُقود، والبَعضُ لَمْ يَفْعَلوا لا هذا ولا ذاكَ، وَلكِنَّهُمْ فَتَحوا كُتُبَهُمْ، وَأَخَذوا يَسْتَذْكرون دُروسهُمْ، وَيُلْقونَ عَلى بَعْضِهِمْ الْأَسْئِلَةَ. أَمّا مُنيرٌ فَإِنّضهُ رَكَضَ نَحْوَ بائع الآرتك على رَأْسس شلَّةٍ (شِلَّة: مجموعة.) منَ الطلاّبِ، وَتَحَلَّقوا حَوْلَهُ. أَخَذَ مُنيرٌ يُثيرُ النُّكَتَ وَيَهْزَأُ به.. وَالطُّلاّبُ يَتَصايَحونَ وَيَتَضاحَكونَ.. وَقِسْمٌ مِنْهُمْ أَخَذَ يشُدُّ بثيابه الرَّثَّة.. وقسْمٌ آخَرُ اقْتَرَبَ مِنْ صُنْدوقِ الآرتِكِ يَفْتَحُهُ، وَيُقْفِلُهُ بشدة.. والبعضُ يقْذفُهُ ببالحَصَى الصَّغيرَة.. وَكانَ واضِحاً أَنَّ مُنيراً هو الذي كان يَجْعَلُ الطلاّب يَتَجَرَّأونَ على مثْلِ هذهِ الأَعْمالِ.
- "اسْمعوا يا شياطينُ.. آرتك على حليب، على شوكولاطة.. آرتك! اُبْعُدُوا يا أَوْلادُ. اُبْعُدُوا يا أَوْلادُ. مَنْ يُحبُّ على حليب، على شوكولاطة.. اسْتحوا عَ حالكو!
آرتك!!" صاحَ بائعُ الآرتك وفي صَوْتِهِ رَنَّةٌ حَزينَةٌ، وَكَأَنَّها صادِرَةٌ عَنْ جُرْحٍ
*83*
مُؤْلِمٍ جِدًّا..
وَلَمْ يَكُنْ مِنْ مُنيرٍ إِلاّ أَنْ صَفَّقَ بِشِدَّةٍ.. فَتَبِعَهُ بَقِيَّةُ الأولادِ تَصْفيفاً وَضَحِكاً.
وَكانَ المُديرُ يُلاحِظُ هذا المَنْظَرَ عَنْ بُعْدٍ، فَأَحَسَّ في نَفْسِهِ أَلَماً شَدِيداً مِنْ جَرَّاءِ طُلاّبِ مَدْرَسَتِهِ لِهذا البائِعِ المِسْكينِ. والمُديرُ يَوَدُّ لَوْ كانَ كُلُّ طُلاّبِ مَدْرَسَتِهِ مُؤَدَّبِينَ يَشْعُرونَ مَعَ الغَيْرِ، وَيَمُدُّونَ يَدَ المُساعَدَةِ لِكُلِّ عاجِزٍ، وَلِكُلِّ مُحْتاجٍ إلى المُساعَدَةِ. وَكَمْ مِنْ مَرَّةٍ عَمِلَ مَعَ المُعَلِّمينَ على حَضِّ الطلاّبِ على فِعْلِ الخَيْرِ وَمُساعَدَةِ كُلِّ ذي حاجَةٍ.
وَعِنْدَما رَأَى هذا المَنْظَرَ، وَتَذَكَّرَ كُلَّ ذلكَ، فَقَدَ السَيطَرَةَ على صوْتِهِ، وصاحَ بِصَوْتٍ عالٍ مَمْلوءٍ بِالشدَّةِ وَالغَضَبِ: "يا أَوْلاد! يا مُنيرُ!!" عِنْدَما سَمِعَ الأَولادُ صَوْتَ المُديرِ الغاضِبِ فَزِعُوا وَأَخَذُوا يَتَراكَضونَ مِنْ حَوْلِ بائِعِ الآرتِك.. أَمّا مُنيرٌ فَأِنَّهُ رَكَضَ بَدونِ وَعْيٍ، وَلَمْ يَنْتَبِهْ إلى ما في طَريقِهِ، فَاصْطَدَمَ بِحَجَرٍ.. وَسَقَطَ على الأَرْضِ.. فَجُرِحَتْ جَبْهَتُهُ.. وَسالَ الدَّمُ الأَحْمَرُ النَّقِيُّ بِغَزارَةٍ..
وَلَمْ يَكُنْ قَريباً مِنْ مُنيرٍ إِلاّ بائِعُ الآرتِكِ.. وَحَالَما رَأَى الدَّمَ الأَحْمَرَ يَتَدَفَّقُ مِنْ جَبْهَةِ مُنيرٍ خافَ عَلَيْهِ، وَقَذَفَ صُندوقَ الآرتِكِ مِنْ يَدِهِ، فَانْفَتَحَ، وسَقَطَتْ أَكْثَرُ حَبّاتِ الآرتِكِ عَلى الأَرْضِ.
أَسْرَعَ بائِعُ الآرتِكِ الأَعْرَجُ.. وَحَمَلَ مُنيراً بَيْنَ ذراعَيْه.. وُأَخَذَ يَرْكُضُ نَحْوَ غُرْفَةِ المُمَرِّضَةِ.. وَتَبِعَهُ المُديرُ لِيُساعِدَهُ، وَلكِنَّهُ أَبَى أَنْ يُسَلِّمَ مُنيراً لِأَحَدٍ.. وَبَقِيَ مُنيرٌ بَيْنَ ذِراعَيْهِ حَتَّى وَضَعَهُ أَمامَ المُمَرِّضَةِ التي باشَرَتْ عَمَلَها
*84*
وَأَخَذَتْ تُنَظِّفُ الْجُرْحَ.. وَتُضَمِّدُهُ (ضمّدهُ: شدّهُ بالعِصابة.). وَبَقِيَ بائِعُ الآرتِكِ واقِفاً أَمامَ مُنيرٍ وَهُوَ يُتَمْتِمُ: "مِسْكينٌ. العَجَلَةُ مِنَ الشيطانِ.. مِسْكينٌ! إِنْ شاءَ اللهُ بسيطة يا نارسة؟" قالَ ذلكَ وهو ينظرُ بِعَيْنَيْنِ كُلُّهُما حُنُوٌّ وَعَطْفٌ وَيَبْدو أَنَّهُ نَسِيَ صُنْدوقَ الآرتك، وَلَمْ يَنْتَبِهْ إلى الحبّاتِ التي سَقَطَتْ مِنْهُ.
عِنْدَما انْتَهَت المُمَرِّضَةُ مِنْ تَضْمِيدِ الْجُرْحِ، نَظَرَ مُنيرٌ حَوْلَهُ فَرَأَى بائِعَ الآرتك.. نَظَرَ إلَيْه وَطَفَرَت (طَفَرَتْ: وثبت.) الدُّموعُ مِنْ عَيْنَيْهِ، وَجَثا عَلى رُكْبَتَيْهِ، لِيَقولَ لَهُ: "هَلْ تَسْمَحُ لي؟ إِنَّ لَكَ قَلْباً طَيِّباً كَأَبي.. هَلْ تَغْفِرُ لي يا عَمّاه؟!".
وَوَضَعَ بائعُ الآرتِكِ يَدَهُ على رَأْسِ مُنيرٍ، وَقالَ لَهُ: "سلامتك! قوم عَ صَفّك!"
قال ذلك وَخَرَجَ مِنْ غُرْفَةِ المُمَرِّضَةِ، وَما إِنْ أَطَلَّ مِنَ البابِ حتَّى لاحَظَ أَنَّ أَكْثَرَ الطلاّبِ يَحْمِلونَ حَبّاتِ الآرتِكِ وَيَمْتَصُّونَها بِلَذَّةٍ.. وَاقْتَرَبَ مِنْهُ أَحَدُ الطلاّب الكبار، وَبِيَدِهِ الصُّنْدوقُ فارِغاً.. وَهوَ يَقولُ: "تَفَضَّلْ يا عَمُّ هذا الصُّنْدوقَ!" وَأَخْرَجَ منْ جَيْبِهِ حَفْنَةً مِنَ النُّقُودِ وَأَرْدَفَ: "هذا ثَمَنُ ما كانَ فِيهِ منْ آرْتك".
تَناوَلَ بائِعُ الآرتِكِ الصُّنْدوقَ وابْتَسَمَ.. ثُمَّ نَظَرَ إلى الطلاّبِ وَدَمْعَتانِ تَتَلَأْلَآن في عَيْنَيْهِ.
المصدر: مجموعة قلوب بيضاء لسليم خوري
*85*
*85*
ميخائيل نعيمة
هو أديب لبناني معاصر ولد في قرية بسكنتا بلبنان نحو سنة 1889، تعلم في الناصرة ثم في كلية "بلتافه" في روسيا. بعدها هاجر إلى الولايات المتحدة ونال شهادة الحقوق من جامعة واشنطن. وشارك في الحياة الاديبة في المهجر في "الرابطة القلمية"، وألّف العديد من الكتب منها: "الغربال"، "جبران خليل جبران"، "سبعون"، "مذكرات الارقش"... غادر نعيمة المهجر إلى وطنه ليواصل انتاجه وتأليفه.
كانَ من حُسْنِ تَدبيرِ القائمين أنهم خصّصوا لنا ساعةً في الأسبوعِ للأَشغالِ اليدويةِ. وتلك الساعةُ كانت من أمتَعِ الساعات عندي. فقد كانَ لنا مَشغلٌ مجهَّزٌ بِأَحدثِ أدواتِ النِّجارةِ. والحفر في الخشبِ، وتَجليدِ الكُتُبِ. وَلَكُمْ كانَ يُسْعدُني أن أنسَى نَفسي إذ أنكبُّ (انكب: الزم الامر.) بكلِّ فِكري وقَلبي وعَضَلاتي على خَشَباتٍ في يَدِي. اَناً بالمِنشارِ وآوِنَةً بِالْمِنْجَرِ أو بالإزميل. فإِذا بِها تتحوَّلُ بالتدريج إِسْكَمْلَةً أو طاوِلَةً أو إطاراً لِصورَةٍ.
وما كانَ أَطيَبَ العَرَقَ يَتَصَبَّبُ من جبِيني فَأَمْسَحُهُ بِمِنْديلي مِثْلَما يَفْعَلُ الفلاّحُ في حَقْلِهِ وَالعامِلُ في مَعْمَلِهِ. بَلْ ما كانَ أَطْيَبَ حَتَّى الغِراءَ تتلوّثُ بِهِ يَدِي!
ولماذا؟ لِأَنني أشعُرُ بِلَذَّةِ الْخَلْقِ. إِنّني أَخْلُقُ من أشياءَ موجودةٍ أشياءَ لَمْ يَكُنْ لها وُجودٌ. أَخْلُقُها حَسَبَ تَصميمٍ مَدْروسٍ في أَدَقِّ تَفاصيلِهِ من حيثُ الشَّكْلُ والقياسُ والغايَةُ. فلا أَنتهي منها حتى أَعودَ أتأمَّلُها، فإِذا
*86*
جاءَتْ كما أَرَدْتُها، وكانَتْ خاليةً من العَيْبِ، أشاعَتْ في نَفْسِي البَهْجَةَ والغِبْطَةِ. إِنهما بَهجَةُ الخالِقِ وَغِبْطَتُهُ بِجَمالِ ما خَلَقَ. أَمَا قيلَ عَنِ اللهِ إنّهُ، بعدِ أن فَرَغَ من الخَلْق، نَظَرَ إلى صُنْعِ يَدَيْهِ وَوَجَدَهُ "حَسَناً جِدًّا"؟
خالِقٌ هوَ الذي يَصْنَعُ المِحراثَ. وخالِقٌ هو الذي يَسْتَنْبِتُ بِالمِحراثِ شَتَّى البُقولِ والحُبوبِ والثِّمارِ. وخالِقٌ هو الذي يَغْزِلُ الشَّعْرَ فَيَحوكَ مِنهُ خَيْمَةً أو بِساطاً. أو الصوفَ فيصنَعُ منهُ عَباءَةً أو قَميصاً. وخالقٌ هو الذي يصوغَ مِنَ الفِضَّةِ أوِ الذهَبِ خاتَماً أو قُرْطاً (القُرْط: ما يُعَلَّقُ في شَحْمةِ الأُذُنِ من دُرَّةٍ ونحوها.). والذي يَسْكُبُ الكلِماتِ في قَوالِبِ مِنَ النثرِ أوِ الشِّعْرِ فإِذا بِها أَدْمِغَةٌ تَتَوَهَّجُ أَفْكاراً، وَقُلوبٌ تَنْبِضُ مَشاعِرَ. وَأَوْتارٌ تَسيلُ أَلْحاناً، وَتَماثيلُ تَفِيضُ جَمالاً. وخالِقٌ هو كُلُّ مَنْ قالَ لِشَيءٍ لم يَكُنْ "كُنْ" فَكانَ. والإِنْسانُ وَحدَه مِنْ بَيْنِ سُكّانِ الأرضِ أُوتِيَ الْقُدرَةَ على الخَلْقِ. وَلا حَدَّ لِقُدْرَتِهِ ولا نِهايَةَ. فَما أَعْظَمَهُ! وَما أَشَدَّ عَمَى
*87*
الذين لا يُبْصِرونَ عَظَمَتَهُ فَيُعامِلونَهُ كَما لَوْ كانَ آلَةً لِلتَّناسُلِ والإنتاجِ لا أَكْثَرَ. بَلْ كَما لَو كانَ بَيْدَقاً (البَيْدَق: حجر الشَّطْرَنْج.) على رُقْعَةِ شِطْرَنْجٍ. أو وَرَقَةَ نَقْدٍ يَبْتاعونَ بها النِّفْطَ وَالنُّقوذَ. أو وَقوداً لِمِرْجَلٍ جَهَنَّمِيٍّ يَدْعونَهُ الدَّوْلَةَ أَوِ الوَطَنَ. أَوِ المَدَنِيَّةَ!
وَإِنَّها لَجَريمَةٌ نَكْراءُ مِنْ جَرائِمِ هذا العصرِ الأَعْمَى أَنْ تَكْثُرَ مَدارِسُهُ وَأَنْ يَقِلَّ فيهِ الخالِقونَ. فَكَمْ مِنْ طالِبٍ ما لَمَسَتْ يَدُهُ المِعْوَلَ أَوِ المِنْجَلَ. ولا هي تَسْتَطِيعُ أن تَدُقَّ مِسْماراً في حائِطٍ، أو أن تُدْخِلُ خَيْطاً في ثُقْبِ إِبْرَةٍ ! وَكَمْ مِنْ طالِبٍ يَجْهَلُ كَيْفَ تُنْبِتُ حَبَّةُ الْقَمْحِ أَوِ الْبَصَلَةُ. وَمِنْ أَيْنَ تَأْتِيهِ الزُّبْدَةُ أَوِ القِشْدَةُ التي على مائِدَتِهِ. وَكَمْ مِنَ الذينَ يَعيشونَ أعمارَهُمْ في هذا الزَّمانِ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ تَكادُ لا تَلْمُسُ التُّراب!
المصدر: كتاب "سبعون" لنعيمة
*88*
*88*
شكا رجلٌ إِلى النبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم شِدَّةَ الفقر، فقالَ لَهُ: أما عِندَكَ شَيءٌ قال: لا، فَأَعْطاهُ دِرْهَمَيْنِ، وقالَ لَهُ: (اذهبْ فَاشْتَرِ بِأَحدِهِما طَعاماً وبِالْآخَرِفَأْساً، واحْتَطِبْ وَبِعْ)، فَغابَ الرَّجُلُ خَمسَةَ عَشَرَ يَوماً ثم أَتَى فقال: بارك اللهُ فيما أَمَرْتَني بهِ، اكتَسَبْتُ عشَرَةَ دراهم، فاشتريت لِأَهلي بِخمسةٍ طعاماً وبخمسة كُسْوَةً، فقال صلّى اللهُ عليهِ وسَلّم: هذا خيْرٌ لَكَ مِنَ المَسْأَلَة.
قال ابن عباس رضي الله عنه: قَدِمَ قَوْمٌ على النّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: إِنَّ فُلاناً يَصُومُ النَّهارَ، وَيَقومُ اللَّيْلَ، وَيُكْثِرُ الذِّكْرَ. فقالَ: "أَيُّكُمْ كانَ يَكْفِي طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، " فقَالوا: "كُلُّنَا. َقَالَ: كُلُّكُمْ خَيْرٌ مِنْهُ.
مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ"
وقوله صلى الله عليهِ وسلم: "لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً على ظَهْرِهِ، فَيَبيعَ، فَيَكُفَّ اللهُ بِها وَجْهَهُ -خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ".
وقد بَيَّنَ لهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم أن الشرفَ وعزةَ النفسِ، ورِفعةَ المنزلةِ تقتضي الإنسانَ ألا يأكلَ إلا من كسبٍ طيبٍ، وأن الذي يتناول ما حرم اللهُ يقطعُ صِلَتَهُ باللهِ؛ فلا يُستجابُ له دعاءٌ؛ فقد رُوِيَ عنه
*89*
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيها الناس، إن الله طيِّب، ولا يقبلُ إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسَلين؛ فقال تعالى: "يَأَيُّهَا الرُّسُلُ كلُوا مِنَ الطَّيِّبَتِ وَاعْمَلوا صلِحاً، إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ".
وقال: "يَأَيّثهَا الَّذينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَتِ مَا رَزَقْنَكُمْ".
ثُمَّ ذَكَرَ الرجلَ يطيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ يَمُدُّ يديه إِلى السماء... يا رب، يا رب، ومَطْعَمُهُ حرام، وملبسه حرام؛ فأَنّى يستجابُ لذلك).
وقد حث عمر رضي الله عنه الناس على طلب الرزق بقوله: (لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول اللهم ارزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة).
المصدر: كتاب أدب الاسلام لمحمد بكر ابراهيم وآخرين
*90*
*90*
يحيى يخلف
كاتب وقاص فلسطيني ولد عام 1941 في سمخ. أصدر مجموعته القصصية الأولى بعنوان "الهمزة"، ثم مجموعة "نورما ورجل الثلج" القصصية عام 1977. وله رواية بعنوان "نجران تحت الصفر" صدرت في رام الله عام 1978.
وصدرت له في عكا قصة "تلك المرأة الوردة" عام 1980.
هَبَّتِ الريحُ القويةُ فاقتَلَعَتْ ساقَ القصبِ من الأَرْضِ، وَحَمَلَتْها بَعيداً. كانت ساقاً فارغةً مجَوَّفَةً خَفيفةً، تنتقِلُ مِنْ مَكانٍ إِلى مَكانٍ.
كانت تَرَى أَنَّ الأَشجارَ تحملُ الثمارَ اللذيذةَ. والطيورَ الجميلةَ تغَرِّدُ.
والنهرَ يَسْقِي الناسَ. والغيومَ تُمْطِرُ فَتَسْقِي الزَّرْعَ. فَتَحسَبُ أَنًّ كُلَّ
*91*
الأَشْياءِ لها فائدةٌ، إلاّ هِيَ.
تَمَنَّتْ ساقُ القصبِ أَنْ تُصبحَ شيئاً نافعاً، وأخيراً، أوصلَتْها الرياحُ إِلى أحدِ الحقول، كانَ صاحبُ الحَقلِ يَحْرِثُ الأَرْضَ بِمِحْراثٍ يَجُرُّهُ ثَوْرٌ، وعندما وقعَ بَصَرُهُ على ساقِ القصب قال: "هذه الساقُ تَنفعُني، أستطيعُ أن أضرِبَ بِها الثَّورَ إِذا توقّفَ عَنِ العَمَلِ فَيَمشي". وهكذا تَحَوَّلَتْ ساقُ القصبِ إِلى عصاً في يَدِ صاحبِ الأَرْضِ.
لكنّها حَزِنَتْ، لِأَنّها لا تُريدُ أن تَكونَ شيئاً مُؤْذِياً. لذلكَ، حينَ هَبَّتِ الرياحُ ذَهَبَتْ ساقُ القصبِ مَعَها إِلى مَكانٍ آخَرَ.
ألقتِ الرياحُ بساقِ القصبِ أمامَ صيّادِ العصافيرِ.
هَجَمَ عَليها صيادُ العصافيرِ وأَمسَك بِها قائِلاً: "غَداً أكسِرُ هذهِ الساقَ، وأصنَعُ مًنها قَفَصاً أضَعُ فيهِ العصافيرَ الحيَّةَ التي أصطادُها".
حَزِنَتْ ساقُ القصبِ، لأنّها ستُصبِحُ سِجْناً للعصافيرِ، وهي لا تُريدُ أن تُصبحَ شيئاً مُؤْذياً.
وما إِنْ وَضَعَها الصيادُ على الأَرضِ حتى حَمَلَتْها الرياحُ من جَديد إِلى مَكانٍ آخَرَ.
أَلقَتِ الرياحُ بِها أمامَ أطفالٍ يَلعبونَ في ساحةِ القريةِ، فهجم عليها الاطفالُ يَلْهُونَ بِها، وجعلوا يَمْتَطونَها (يمتطونها: يركبونها.) كما لَو كانت فَرَساً.
فَرِحَتْ ساقُ القصبِ فَها هِيَ تُدْخِلُ السعادَةَ إِلى قُلوبِ الأطفالِ. إِلاّ أَنَّ سعادَتَها لم تكتملْ اذ داس عليها أحدُ الأطفالِ عن غيرِ قصدٍ، فانْكَسَرَتْ
*92*
إِلى قِسْمَيْنِ.
حَزِنَتْ ساقُ القصبِ المَكسورَةُ لِأَنّها لم تَعُدْ صالِحةً.
عندما عادَ الأطفالُ إِلى بيوتِهِم، جاءَ راعي الغَنَمِ. فَأَبْصَرَ ساقَ القصبِ الحزينةَ، فانْحَنى وَالتَقطَ قِسْماً منها.
وصل الراعى إلى بَيته. فتناولَ السكينَ، وأخذَ يُقَلِّمُ طَرَفَي قِطعَةِ الساق، ثم صَنَع لها عُيوناً عِدَّةً، وما هِيَ إلاّ ساعَةٌ حَتّى أصْبَحَتْ ساقُ القصب المكسورَةُ شَبابَةَ (الشَّبّابة: نوع من الآلات الموسيقيّة النافخة.) ذاتَ شَكْلٍ جميلٍ.
حمل الراعي الشبابة ببيَدَيْه ثم قَرَّبَها من فَمِهِ وأخذَ يَعْزِفُ عليها لحناً مرحا.
منذ ذلك فرحت ساقُ القصب فرحا كبيرا.
لقد أصبحت شيئا نافعا.
المصدر: مجلة المجتمع، السنة التاسعة 1981
*93*
*93*
هُو أَبو بَطَّة... دعوه كَذلكَ لِتَوَرُّمِ مُزْمنٍ (مزمن: مستحكم منذ زمن بعيد.) في "بَطَّة" سَاقِهِ الْيُمْنى، جعل حجْمها ضعْفَيْ حَجْم شَقيقَتِهَا الْيُسْرَى أَوْ يَزيدُ. وَقَدْ تَشابَكَتْ فيهَا عروقٌ ثَخينةٌ، تبدُو مُتَعَرِّجَةً كَأَنَّها مَحْقونَةٌ بمَحْلولِ منَ النِّيلِ.
وأَشدُّ ما تكون هذه العُرُوقُ بُرُوزاً وانْتفَاخاً في أَيَّامِ الْحَرِّ، وَعِنْدَمَا ينهض صاحبها يحمل من الْأَحْمال الثَّقيلَة الَّتي تَفَرَّدَ بِحَمْلِها.
*94*
وَلَعَلَّنِي أُسِيءُ الظَّنَّ إِلَيْكَ، وَإِلَى صَدِيقِي أَبي بَطَّة، إِنْ أَنَا أَوْهَمْتُكَ أَنَّ شُهْرَتَهُ الوَاسِعَةَ فِي السُّوقِ، وَمَكَانَتَهُ العَالِيَةَ بَيْنَ الْعَتَّالِينَ تَرْتَكِزَانِ أَوَّلاً وَآخِراً عَلَى ضَخَامَةِ بَطَّتِهِ، وَالْحَقِيقَةُ هِيَ أَنَّ تِلْكَ "الْبَطَّةَ" دِعَامَةٌ واحِدَةٌ مِنْ دِعَامَتَيْنِ، تَقُومُ عَلَيْهِمَا ششُهْرَتُهُ وَمَكَانَتُهُ. أَمَّا الثَّانِيَةُ فَهِيَ قُدْرَتُهُ الْبَدَنِيَّةُ الْعَجِيبَةُ الْكَامِنَةُ فِي عَضَلاَتِهِ الْمَفْتُولَةِ، وَعَمُودِهِ الْفَقْرِيِّ، تَدْعَمُهَا ثِقَةٌ بِالنَّفْسِ لاَ حَدَّ لَها. وَالْعَتَّالُونَ أَنْفُسُهُمْ يَرْوُونَ لَكَ الرِّوايَةَ تِلْوَ الرِّوَايَةِ، عَنِ الْأَثْقَالِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي قَامَ بِنَقْلِهَا "أَبو بَطَّة"، وَكَانَ يَعْجِزُ عَنْهَا أَكْبَر الْجِمَالِ، وَأَقْدَرُ الْبَغَالِ.
وَأَنْتَ لَوْ رَأَيْتَ أَبَا بَطَّة لَمَا رَأَيْتُ غَيْرَ عَتَّالٍ كَسَائِرِ الْعَتَّالِينَ، بَلْ قَدْ تَسْتَخِفُّ بِهِ (تستخفّ به: لا تقيم له وزناً.) لِأَوَّلِ نَظْرَةٍ تُلْقِيهَا عَلَيْهِ، فَهُوَ دُونَ الرَّبَعِ (الربع: المتوسط القامة.) مِنَ الرِّجَالِ، وَالنَّاظِرُ إِلَى وَجْهِهِ الشَّاحِبِ وَعَيْنَيْهِ الصَّغِيرَتَيْنِ الْغَائِرَتَيْنِ، وَإِلَى لِحْيَتِهِ الْكَثَّةِ (الكثة: الكثيفة الشعر.) الَّتِي لاَ تَدْنُو مِنْهَا الْمُوسَى أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ فِي الشَّهْرِ أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَإِلَى رِجْلَيْهِ الْقَصِيرَتَيْنِ، الْحَافِيَتَيْنِ، لاَ يَكَادُ يَحْسَبُهُ يَقْوَى عَلَى رَفْعِ حَقِيبَةٍ صَغِيرَةٍ، إِلاَّ إِذَا أَنْعَمَ النَّظَرَ فِي رَقْبَتِهِ الْغَلِيظَةِ الاَّصِقَةِ بِكَتِفَيْهِ، وَيَدَيْهِ السَّمِينَتَيْنِ بِأَصَابِعِهِمَا الْقَصِيرَةِ الثَّخِينَةِ، وَصَدْرِهِ الرَّحْبِ، وَمَنْكِبَيْهِ الْعَرِيضَيْنِ فَقَدْ تَلُوحُ لَهُ فِي كُلِّ هذَا أَمَارَاتُ (إمارات: علامات.) الْقُوَّةِ! وَلاَ عَجَبَ فَلَكَمْ خَدَعَتْنَا الظَّوَاهِرُ عَنِ الْبَوَاطِنِ.
لَحَظْتُ فِي السَّنَوَاتِ الْأَخِيرَةِ أَنَّ تِلْكَ الْاِبْتِسَامَةَ الْبَلْهَاءَ الَّتِي مَا كَانَتْ تُفَارِقُ وَجْهَهُ، قَدْ غَابَتْ خَلْفَ نِقَابٍ كَثِيفٍ مِنَ الْقَلَقِ، وَالْعُبُوسَة. فَأَبُو بَطَّة،
*95*
عَلَى غَيْرِ عَهْدِي بِهِ (على غير عهدي به: على غير ما أعرف.)، قَلِيلُ الْكَلاَمِ يَصْرِفُ جُلَّ نَهَارِهِ رَابِضاً عَلَى عَتَبَةِ الْمَخْزَنِ الَّذِي اسْتَقَلَّ مِنْ زَمَانٍ بِعِتَالَةِ بَضَائِعِهِ، لاَ يُفَارِقُ الْغَلْيُونَ شَفَتَيْهِ، وَلاَ الْحَبْلُ كَتِفَيْهِ، وَالظِّهَارَةُ الَّتِي عَلَى ظَهْرِهِ قَدْ تَهَرَّأَتْ، وَالْعِصَابَةُ الَّتِي يَعْصِبُ بِهَا رَأْسَهُ قَدْ تَهَلْهَلَتْ فَتَدَلَّتْ خُيُوطُهَا فِي كُلِّ جَانِبٍ.
بَلَى. لَقَدْ تَغَيَّرَ صَدِيقِي أَبُو بَطَّة، وَمُنْذُ أَيَّامٍ حَسِبْتُنِي أَدْرَكْتُ سِرَّ ذلِكَ التَّغَيُّرِ، فَقَدْ خَطَرَ لِصَاحِبَ الْمَخْزَنِ أَنْ يَدْعُوَ عَتَّالاً غَيْرَ أَبِي بَطَّة لِنَقْلِ صُنْدُوقٍ ثَقِيلٍ، مَا ظَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهِ، وَهُوَ فِي الْخَامِسَةِ وَالثَّمَانِينَ مِنْ عُمْرِهِ، وَاتَّفَقَ أَنَّ العَتَّالَ الغَرِيبَ مَا كَانَ غَيْرَ ابْنِ أَبِي بَطَّة، واسْمُهُ حُسَيْن. وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْقُدْرَةُ الْبَدَنِيَّةُ يَكَادُ يَكُونُ وَرِيثَ أَبِيهِ.
وَمَا دَخَلَ ابْنُهُ حُسَيْنٌ الْمَخْزَنَ، وَأَلْقَى يَدَهُ عَلَى الصُّنْدُوقِ حَتَّى وَثَبَ وَالدُهُ مِنْ مَرْبَضِهِ عَلَى الْعَتَبَةِ، كَأَنَّهُ الذِّئْبُ الضَارِي (الضاري: المفترس.)، أَوِ النَّمِرُ الْغَضْبَانُ.
ومنْ غَيْرِ أَنْ يُوَجِّهَ كَلِمَةً إِلَى ابْنِهِ صَفَعَهُ صَفْعَةً مُدَوِّيَةً وَزَمْجَرَ: "اغْرُبْ (اغْرب: اختفِ.) مِنْ هُنا يا كلْبُ! مَا مَاتَ أَبُوكَ بَعْدُ!" وَأَكَبَّ عَلَى الصُّنْدُوقِ الثَّقِيلِ، وَمَا زَالَ يُعَالجُهُ بيَدَيْهِ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ظَهْرِهِ، وَخَرَجَ بِهِ مُتَبَاطِئاً، وَلكِنْ برُكْبَتَيْن ثَابِتَتَيْنِ، فَالْتَفَتُّ إِلَى "بَطَّتِهِ" الْمُتَوَرِّمَةِ وَإِذَا بِهَا تَكَادُ تَنْشَقُّ.
وَعَادَ أَبُو بَطَّة إِلَى مَرْبَضِهِ. وَلكِنَّ الاِبْتِسَامَةَ الْبَلْهَاءَ لَمْ تَعُدْ إِلَى وَجْهِهِ؛ فَحَاوَلَ صَاحِبُ الْمَخْزَنِ أَنْ يُقْنِعَهُ بِأَنَّ الْخَمْسَ وَالثَّمَانِينَ مِنَ الْعُمْرِ غَيْرُ الْخَمْسِ وَالثَّلاَثِينَ، فَجَدِيرٌ بِهِ أَنْ يَتَخَلَّى عَنِ الْأَحْمَالِ الثَّقِيلَةِ لِابْنِهِ حُسَيْنٍ.
فمَا كَانَ مِنْ أَبِي بَطَّة إلاّ أَنْ تَمْتَمَ بِحَنَقٍ وَاشْمِئْزَازٍ.
*96*
وَكَانَ أَمْسِ... وَاتَّفَقَ لِي أَنْ ذَهَبْتُ لِأَبْتَاعَ حَاجَةً مِنَ الْمَخْزَنِ الَّذِي وَقَفَ أَبُو بَطَّة جُلَّ عُمْرِهِ عَلَى خِدْمَتِهِ، فَأَلْفَيْتُهُ عَلَى عَادَتِهِ، رَابِضاً عَلَى الْعَتَبَةِ وَفِي يَدِهِ رَغِيفٌ مِنَ الْخُبْزِ يَقْضِمُهُ عَلَى مَهَلٍ بِمَا تَبَقَّى فِي فَمِهِ مِنْ أَسْنَانٍ بَالِيَةٍ.
حَيَّيْتُهُ بِلُطْفٍ فَمَا هَشَّ وَلاَ بَشَّ، بَلْ تَظَاهَرَ كَأَنَّهُ لَمْ يَرَنِي وَلَمْ يَسْمَعْنِي. وَمَا دَخَلْتُ الْمَخْزَنَ حَتَّى بَادَرَنِي صَاحِبُهُ بِقَوْلِهِ: "جِئْتَ فِي وَقْتِكَ؛ أَتَرَى ذلِكَ الْبِرْمِيلَ مِنْ زَيْتِ النَّفْطِ؟ إِنَّ صَاحِبَكَ أَبَا بَطَّة يَجْبُنُ عَننْ حَمْلِهِ، وَيُؤَكِّدُ أَنْ لَيْسَ فِي الْمَدِينَةِ كُلِّهَا عَتَّالٌ يَقْوَى عَلَيْهِ، وَيَأْبَى أَنْ نَأْتِيَ بِابْنِهِ حُسَيْنٍ ليَحْمِلَهُ."
مَا كَادَ صَاحِبُ الْمَخْزَنِ يُنْهِي كَلاَمَهُ حَتَّى وَثَبَ أَبُو بَطَّة مِنْ مَرْبَضِهِ، وَصَاحَ، بَلْ زَمْجَرَ، وَاللُّقْمَةُ مَا تَزَالُ فِي فَمِهِ يُحَاوِلُ بَلْعَهَا فَلاَ تَنْبَلِعُ: "نَادُوهُ! لاَ حُسَيْنٌ وَلاَ جَدُّ حُسَيْنٍ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْمِلَهُ وَيَخْطُوَ بِهِ خُطْوَةً وَاحِدَة!".
وَجَاءُوا بِحُسَيْنٍ، فَأَلْقَى نَظْرَةً عَلَى الْبِرْمِيلِ، ثُمَّ دَحْرَجَهُ قَلِيلاً، وَحَاوَلَ رَفْعَهُ مِنْ جَانِبٍ، ثُمَّ جَمَدَ مَكَانَهُ بُرْهَةً فِي تَرَدُّدٍ وَوَجَلٍ. وَأَخِيراً تَنَحَّى وَقَالَ بِخَجَلٍ وانْكِسَارِ قَلْبٍ: "وَلاَ أَبِي فِي رَبِيعِ مَجْدِهِ كَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ بِهِ!".
عِنْدَئِذٍ تَقَدَّمَ أَبُو بَطَّة مِنَ الْبِرْمِيلِ، وَبِحَرَكَةٍ عَصَبِيَّةٍ مِنْ يَدِهِ الْيُمْنَى دَفَعَ ابْنَهُ بِضْعَ خُطُوَاتٍ إِلَى الْوَرَاءِ مُتَمْتِماً: "كَلْبٌ ! اليَوْمَ أُعَرِّفُكَ قَدْرَ نَفْسِكَّ !" ثُمَّ صَاحَ بِصَوْتٍ عَالٍ: "إِيتُونِي بِمَنْ يَرْفَعُهُ عَلَى ظَهْرِي ّ" فَجَاءُوهُ بِعَتَّالَيْنِ
*97*
آخَرَيْنِ عِلاَوَةً عَلَى حُسَيْنٍ، وَالثَّلاَثَةُ رَفَعُوا الْبِرْمِيلَ، وَأَوْثَقُوهُ جَيِّداً بِالْحَبْلِ إِلَى ظَهْرِ أَبِي بَطَّة، وَلَحَظْتُ أَنَّ الْعَتَّالَيْنِ وَصَاحِبَ الْمَخْزَنِ وَمُسْتَخْدَمِيهِ قَدْ حَبَسُوا اَنْفَاسَهُمْ مِثْلِي، وَسَمَّرُوا أَبْصَارَهُمْ عَلَى بَطَلِ الْمَشْهَدِ، وَقَدِ انْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ (الأوداج: العروق في العنق.)، وَطَفَرَ الدَّمُ إِلَى وَجْهِهِ، وَنَفَرَتِ العُرُوقُ فِي بَطَّتَيْهِ - الْمُتَوَرِّمَةِ وَالسَّلِيمَةِ - حَتَّى كَأَنَّهَا الْحِبَالُ الْمَفْتُولَةُ، وَلَيْسَ مَن يُصَدِّقُ أَنَّهُ سَيَخْطُو بِالْبِرْمِيلِ خُطْوَةً وَاحِدَةً.
وَلكِنَّ أَبَا بَطَّة خَطَا بِالْبِرْمِيلَ خُطْوَةً، ثُمَّ أُخْرَى، ثُمَّ أُخْرَى... وَاجْتَازَ الْعَتَبَةَ إِلَى الرَّصِيفِ، فَصَاحَ بِهِ صَاحِبُ الْمَخْزَنِ: "احْتَرِسْ (احترِس: تنبَّه.)، يَا أَبَا بَطَّة ! فَمَا فِى الْبِرْمِيلِ يُسَاوِي أَلْفَ لِيرَةٍ عَدًّا وَنَقْداً. "أَمَّا الآخَرُونَ فَمَا تَمَالَكُوا مِنَ الْهُتَافِ: "عَاشَ بَطَلُ الْحَمَّالِينَ وَقَاهِرُ الْخَمْسِ وَالثَّمَانِينَ!".
وَبَغْتَةً رَأَيْتُ أَبَا بَطَّة يجْمُدُ مَكَانَهُ، وَسَمِعْتُهُ يَتْفُلُ قَائِلاً: "تْفُو عَلَى الْخَمْسِ وَالثَّمَانِينَ !" وَأَبْصَرْتُ أَنَّ مَا تَفَلَهُ كانَ أَحْمَرَ... ثُمَّ أَبْصَرْتُهُ يُهْوِي فَيَنْطَحُ الْأَرْضَ بِجَبِينِهِ، وَأَبْصَرْتُ الْبِرْمِيلَ يَتَدَحْرَجُ عَنْ ظَهْرِهِ فَيَمَسُّ طَرَفَ حِذَاءِ سَيِّدَةٍ كَانَتْ وَاقِفَةً عَلَى الرَّصِيفِ. وَأَبْصَرْتُ السَّيِّدَةَ تَنْقَبِضُ سَحْنَتُهَا، فَتَنْقَضُّ عَلَى أَبِي بَطَّةَ وَتَرْكُلَهُ رَكْلَتَيْنِ قَائِلَةً عِنْدَ كُلِّ رَكْلَةٍ: "وَحْش!" ثُمَّ أَبْصَرْتُ صَاحِبَ الْمَخْزَنِ يُهَرْوِلُ صَائِحاً فِي الْعَتَّالِينَ: "الْبِرْمِيلَ! الْبِرْمِيلَ! أَلْفُ لِيرَةِ!.."
وَكَانَ آخِرُ مَا أَبْصَرْتُ جُثَّةً هَامِدَةً تَجَمَّدَ الدَّمُ عَلَى شَفَتَيْهَا وَجَبْهَتِهَا، وَالْتَفَّ الْحَبْلُ حَوْلَ عُنُقِهَا.
*98*
وَكَانَ آخِرُ مَا سمِعْتُ نِدَاءَ الْمُؤَذّنِ: "أللهُ أَكْبَرُ!".
المصدر: كتاب "أبو بطة" لنعيمة
*99*
*99*
أحمد شوقي
ولد سنة 1868 بالقاهرة، تابع دراسته العليا في فرنسا، فدرس الحقوق وأطلع على الاداب الاجنبية. له ديوان "الشوقيات" في أربعة أجزاء، وله عدد من المسرحيات الشعرية منها: "مصرع كليوبترا"، "مجنون ليلى"، "عنترة"، "قمبيز"، "علي بك الكبير" وغيرها.
توفي في القاهرة سنة 1932.
عُصفورَتان في الحِجَازِ حَلَّتا عَلى فَنَنْ (فنن: غصن.)
في خاملٍ منَ الرِّياضِ لا نَدٍ ولا حَسَرْ (ندٍ: طَرِي مُبْتَلّ بالندى.)
بَيْنا هُما تَنْتَجيانِ سَحَراً عَلى الغُصُنْ (تنتجيان: تتسارّان؛ سَحَراً: قُبَيْلَ الصبح.)
مَرَّ عَلى أيْكهما ريحٌ سَرى منَ اليَمَنْ (الأَيْك: الشجر الملتفّ؛ سرى: سار في الليل.)
حَيًّا (حَيّا: سلم) وَقالَ: دُرَّتانِ (دُرَّتان: جوهرتان) في وِعاءٍ مُمْتَهَنْ (ممتهَن: حَقير.)
*100*
لَقَدْ رَأيتُ حَولَ صَنْعاءَ وَفي ظِلِّ عَدَنْ
خمائِلاً كأَنَّها بَقِيَّةٌ مِنْ ذِي يَزَنْ (خمائل: أشجار كبيرةملتفة.)
الحَبُّ فيها سُكَّرٌ والماءُ شَهْدٌ وَلَبَنْ (شهد: عسل.)
لم يَرَها الطَّيرُ وَلَمْ يَسمَع بِها إِلاّ افْتَتَنْ (افتتن بها: أححبها.)
هَيَّا ارْكبَاني ناْتِها في سَاعَةٍ مِنَ الزَمَنْ
قالَتْ لَهُ إِحدَاهُما، والطَّيرُ مِنْهُنَّ الفَطِنُ (الفطن: الذكي.)
يا رِيحُ أنْتَ السَّبيلِ ما عَرَفتَ ما السَّكَنْ (ابن السبيل: الذي لا بيت له.)
هَبْ جنَّةَ الْخُلْدِ اليَمنْ لا شيءَ يَعْدِلُ الوَطَنْ (هَبْ: افرض؛ يعدل: يساوي)
المصدر: الشوقيات ج3 لشوقي
*101*
*101*
طه حسين
ثمَّ حرَّمْتُ على نفسي من ألوان اللَّعِبِ كلَّ شيءٍ، إلا ما لا يعرِّضُني للضحكِ أو الرحمةِ. فكانَ أَحَبُّ اللعبِ إِليَّ أن أجمعَ شيئاً مِنَ الحديدِ أَخْلُو بهِ في زاويةٍ منَ البيتِ فأَجْمَعُهُ وأُفَرِّقُهُ، وأضربُ بَعْضَهُ ببعضٍ حتَّى إذا تعبتُ وقفتُ على إِخْوَتي وهُمْ يلعبون فشاركْتُهُمْ في اللعبِ بِعَقْلي لا بيدي. وانصِرافي هذا عنِ اللّعبِ حبَّبَ إِليَّ الاستماعَ إلى القصصِ والأحاديث.
وكانَ أبي وجماعةٌ من أصحابهِ يحبُّونَ القصصَ حبًّا شديداً. فإِذا صَلَّوا العصرَ اجْتَمَعوا إِلى واحدٍ منهُمْ يقصُّ عليهم قصصَ الفُتُوحِ والغَزَواتِ، وأخبارَ عَنْتَرَةَ وأخبارَ الأنبياءِ والرِّجالِ الصالحينَ. كنتُ أقْعُدُ على مَسافةٍ مِنْهُمْ وهُمْ عَنّي غافِلونَ (غافل: لاه، غير منتبه.)، ولكنّي لم أكُنْ غافلاً عمَّا أسمَعُ، بَلْ لم أكُنْ غافلاً عمَّا يتركُهُ القَصَصُ في نفوسِ السَّامعينَ من الأَثَرِ.
وكانَ القومُ إِذا غربتِ الشَّمْسُ يتفرَّقونَ إِلى طَعامِهِمْ حتَّى إذا صَلُّوا العشاءَ اجتمعُوا فَتَحَدَّثُوا مدةً من الليلِ. وكنتُ أجلِسُ فأَسمعُ في أولِ الليلِ كما كنتُ أسمعُ في آخرِ النهارِ.
والنساءُ في قُرَى مِصْرَ لا يُحْبِبْنَ السُّكوتَ. فإِذا خَلَتِ المرأةُ إِلى نَفْسِها، ولم تَجِدْ من تَتَحَدَّثُ إِلَيهِ تحدثَتْ إِلى نفسِها، فغنَّتْ إِنْ كانَتْ فَرِحَةً،
*102*
وعدَّدَتْ إِنْ كانت محزونةً. وكلُّ امرأةٍ في مصرَ حزينةٌ حينَ تريدُ. وأَحَبُّ شيءٍ إِلى المرأةِ تذكُرَ آلامَها. وكثيراً يَنْتهي هذا التعديدُ إِلى البكاءِ حقًّا. أسعدَ الناسِ بالاستماعِ إِلى أخواتي وهُنَّ يَتَغَنَّيْنَ، وإِلى أُمّي وهي تُعَدِّدُ. وكان تعديدُ أُمّي يَهُزُّني هَزًّا وكنتُ أبكي مَعَها بكاءً مُرًّا. وعلى هذا النحوِ حفظتُ كثيراً من الأَغاني، وكثيراً من التَّعْديدِ، وكثيراً من القصصِ، وحفظتُ كذلك الصَّلواتِ التي كانَ يَتْلُوها جَدِّي الشيخُ الأَعْمَى.
كانَ جَدِّي يُقيمُ في بيتِنا فصلَ الشتاءِ من كُلِّ سنةٍ. فكانَ يُصَلِّي الخَمْسَ لِأَوْقاتِها، ولم يَكُنْ لِسَانُهُ يسكُتُ عن ذكرِ اللهِ. وكانَ يَسْتَيقِظُ آخرَ الليلِ ليقرأَ صلاةَ السَّحَرِ (السحر: قبل الصبح.). وكانَ ينامُ في ساعةٍ متأخِّرةٍ بعدَ أَنْ يصلّيَ العِشاءَ ويقرأَ الكثيرَ من آياتِ القرآنِ. وكنتُ أنا في حجرةٍ مجاورةٍ لِحُجْرَةِ هذا الشيخ، فكنتُ أسمعُهُ وهو يقرأُ، وكنتُ أحفظُ ما يقرأُ حتَّى حَفِظتُ منهُ شيئاً كثيراً. ولم أَبْلغِ التاسعةَ من عُمْري حتى كنتُ قد حفِظْتُ من الأَغاني والتعديد والقصصِ جُمْلَةً صالِحَةً، وحفظتُ إِلى ذلك كُلِّهِ القرآنَ.
المصدر: كتاب الايام لطه حسين
*103*
*103*
حليم دموس
شاعر لبناني معاصر، ولد في زحلة سنة 1888. وقد نشر كثيرا من القصائد والمقالات في صحف لبنان والمهجر من سنة 1905 الى اليوم، ومن مجموعات قصائده "ديوان حليم"، ثم "المثالث والمثاني" في جزئين وفي سنة 1932 انشأ في بيروت جريدة "الاقلام" الاسبوعية الادبية. توفي حليم في بيروت عام 1957م ودفن في جونيه.
عليك منّي السلام يا أرضَ أجدادي
ففيكِ طاب المقام وطاب إنشادي
عشقت فيك السَّمَرْ وبهجةَ النادي
عشقت ضوء القمر والكوكبَ الهادي
والليل لمّا اعتَكَرْ والنَّهْرُ والوادي
والفجرَ لمّا انتَشَرْ في أرض أجدادي
أهوى عيون العسل أهوى سواقيها
أهوى ثلوجَ الجبل سالت لآليها
هذي مجاري الأمل سبحان مجريها
سالت كدمع المقل في أرض أجدادي (المُقَل: العيون.)
*104*
يا قوم هذا الوطن نفسي تناجيهِ
فعالجوا في المحن جراحَ أهليهِ (المحَن: المصائب.)
إن تهجروه فمن في الخطبِ يحميهِ (الخَطْب: المصيبة.)
يا ما أحيلى السكن في أرض أجدادي
المصدر: المشوق
*105*
*105*
ميخائيل نعيمة
كان ميخائيل نعيمة حدثاً عندما غادر بسكنتا وتوجّه إلى المدرسة المسكوبية في الناصرة وكان سفره في باخرة اسمها جولي وهي "زورق كبير مزوّد بمحرّك بخاريّ، والخط الذي تسير عليه هو : بيروت – الدامور - صيدا - صور - عكا - حيفا - يافا، وبالعكس. وهي تسير أبداً بنحاذاة الشاطئ. فتقطع المسافة بين بيروت وحيفا في 36 إلى 40 ساعة".
إنه لَعالمٌ غريبٌ جدًّا هذا العالمُ الذي أَجدني فيه على ظهر الباخرة "جولي". لقد رأَيتُ القاربَ يتحرَّك بالْمَجاذيف. أمَّا باخرتُنا "الحلْوةُ" فلا مجاذيف فيها. فكيف تتحرَّك؟ وكيف لا تَغرقُ بمن عليها وما عليها؟ لقد سمعتُ عن البخار. أمَّا كيف يغدو قوَّةً تدفعُ السُّفُنَ إِلى الأَمامِ فأَمرٌ ما كنتُ أَعرفُ عنه شيئاً...
وتتحرَّك الباخرة. فتحين منّي التِفاتَةٌ إِلى الشرق، وإذا بعَيْني تقعُ على جبهة صنين وقد ألقت الشَّمس عليها وِشاحاً ساعةَ غيابِها ليس يشبهُهُ أَيّ وشاح: إنه لمن الطَّرائف - بل من العجائب - لا تستطيعُ الإِتيانَ بمثلها إلاَّ يدُ الطبيعةِ الخلاَّقةُ. وخيرُ ما يوصفُ به أَنه لا يوصفُ. ويهتفُ هاتفٌ في داخلي: " واحسرتاه عليك يا ميخائيل!.. أَين كنتَ وأَين أَنت؟ كنت هناك – هناك... حيث ذلك الوشاح - وشاح النُّور الذي لا يوصَفُ. وها أَنت ها هُنا - على ظهر خشباتٍ عائماتٍ في بحرٍ شاسعٍ، واسع، لا متناهٍ.
وحواليك أَقوامٌ يؤذيكَ لَغَطُهُم (اللغط: أصوات مبهمة لا تفهم.) ويخدِش (يخدِش: يجرح.) أذنيك هَرجُهم (الهرج والمرج: الصياح والكلام المختلط.)... وليس
*106*
لك أَين القُرْفُصاءَ، ولا أَينَ تضع رأسك. إِنّك غريبٌ يا ميخائيل.
غريبٌ... غريبٌ..."
ولِأَوَّلِ مرة أفهمُ معنى الغربةِ وأُحِسُّها إحساساً يَنفُذُ إِلى الصَّميم.
فيننكمشُ قلبي ويوشكُ هو الآخرُ أَن يَغدُوَ غريباً عنّي. فتقفِزُ الدَّمعةُ إِلى عيني وتكادُ تَطْفرُ منها لولا حيائي من الناس، وخشيَتي أَن أَبدُوَ في عيونهم ولداً ضعيفاً من بعدِ أَن كنتُ أَراني رجلاً يقتحم وحده المجهول ولا يُبالي.
بعد ليلتين ونهارِ من السَّفرَ، أصبحنا في ميناءٍ، قيل لي إنه حيفا حيث يترتَّبُ عليَّ النزولُ، لِأُسافرَ من هناك إِلى الناصرة. أَمَّا كيف أنزل، وأَين أَتَّجهُ من بعد أَن أَنزِلَ، وكيف أهتدي إِلى مَن ينقُلُني إِلى الناصرة، وكم تبعُدُ الناصرةُ عن حيفا، وما هي وسائل النَّقل بينهما - فجميع هذه كانت أَسئلةً مُبهمةً في خاطري، وكنتُ أَتهرَّبُ من الجوابِ عَنْها. وكيف أُجيبُ وأَنا كالقطِّ في الكيسِ، على حدِّ تعبيرِ العامّةِ؟
حملتُ حقيبَتي الصغيرة في يدي، ووقفتُ بالقُرب من سُلَّم الباخرة مع الواقفين. واعتراني الخوف لدى منظر القوارب المتسابقة من جهة المدينة إِلى حيث رست (رست: وقفت.) باخرتُنا. إِنَّ البحَّارة الذين في تلك القوارب يبدون لي كالكواسر والضواري (الكواسر: الطيور الجارحة؛ الضواري: الحيوانات المفترسة.) تتسابق إِلى جيفةٍ. فصُراخُهم يصُمُّ الآذان... وشتائِمِهم وأزياؤهم تبعثُ الرُّعب في النفوس. ها هم يتسلَّقون السلالم وكأَنهم العفاريت. وأَنا لا أَدري ضحيَّةَ أَيّ منهم أكونُ.
*107*
(صورة في الكتاب)
*108*
في هذه اللحظة الحاسمة بالذات أَحسَسْتُ يداً تُمسكُ بيدي وسمعتُ صَوتاً يُخاطبني: "هل أَنت وحدك يا ابني؟ أليس معك رفيقٌ أو أَحدٌ من أَهلِك؟"
التفتُّ وإذا الذي يُخاطبُني رجلٌ لطيفُ الوَجهِ، رَبعُ القامة (رَبعُ القامة: متوسط القامة.)، نحيلُها، متوسِطُ العمرِ، يلبسُ قُمبازاً ويعتمرُ طربوشاً. فأَجبتُهُ:
- "وحدي".
- "وهل تعرف أحداً ي حيفا؟"
- "لا".
- "وإِلى أَين تقصُدُ؟"
- "إِلى المدرسة المسكوبية في الناصرة".
فشدَّ على يدي وهمس في أُذُني همساً : "اتبعني يا ابني. إِيَّاك أَن تبتعد عنِّي. بلِ الأَفضلُ أَن تبقى متمسِّكاً بي".
وللحال فارقني الشعور بالغربة، وتغلغلت الطمأنينةُ في دمي إِذ تغلغلَ صوتُ الرَّجلِ في أُذني.
المصدر: "سبعون" لنعيمة
*109*
*109*
(جبل الطور: يقع هذا الجبل في الطرف الشرقي لمرج ابن عامر، وهو تابع لسلسلة جبال الناصرة. يعلو عن البحر 588م.)
خليل السكاكيني
أَكْتُبُ إِلَيْكَ هذِه الرسالَةَ من الناصرةِ، وَقَدْ جِئْنا إلَيها يومَ الأَحَدِ بعدَ الظهرِ. هذِه أَوَّلُ مَرَّةٍ زارَتْ أُمُّكَ وَأُخْتاكَ فيها هذِهِ المَدينةَ، مدينةَ يسوعَ الناصِرِيِّ، وَأَوَّلَ مَرَّةٍ زارَتْ أُمُّكَ وَأُخْتاكَ فيها هذِهِ المَدينةَ، مدينةَ يسوعَ الناصِرِيِّ، وَأَوَّلَ مَرَّةٍ قَطَعَتْ أُمُّكَ فيها مَرْجَ ابْنِ عامِرٍ مِنَ الجَنوبِ إِلى الشَّمالِ.
وَصَلْنا الناصرةَ في آخِرِ النهارِ فَذَهَبْنا تَوًّا (توّا: في الحال.) إِلى عينِ العذراءِ، وكانَتِ الفَتَياتُ ذاهباتٍ آتِياتٍ يَحْمِلْنَ الجِرارَ على رُؤوسِهِنَّ بِرَشاقَةٍ فَخُيِّلَ إلَيْنا أَنَّ العذراءَ أُمَّ الإِلهِ بَيْنَهُنَّ، وكانَ الصِّبْيانُ يلعبونَ في الطريقِ فَخُيِّلَ إلَيْنا أَنَّ يَسُوعَ الناصِرِيَّ يلعبُ مَعَهُمْ. وَما أَدْرانا أَنَّ مَرْيَمَ أُخْرَى وَأَنًّ يَسُوعَ آخَرَ قَدْ تَأْتِي بِهِما الأَيَّامُ وتَرْقَى الأُمُّ وَيَرْقَى الابْنُ إلى مَصافِّ الإِلهِ وَتَتَّصِلُ الأَرْضُ بالسَّماءِ مَرَّةً ثانِيَةً.
ذَهَبْنا بالأمسِ بعدَ الظهرِ مَعَ الأُسْتاذِ نعمة الصباغ وَسَيِّدَتِهِ وَوَلَدِهِ الصَّغيرِ في سَيَّارَةٍ وَاحِدَةٍ فَكُنَّا أَرْبَعَةً كِباراً يَزِنُ الواحِدُ مِنَّا نِصْفَ قِنْطارٍ (القنطار: وزن اختلف مقدار موزنه مع الايام ويقال مائة رطل.) على الأَقَلِّ، وَثَلاثَةً صِغاراً، ما عدا السائِقِ، إِلى طورِ ثابورَ. وَما أَدراكَ ما طورُ ثابورَ؟ جَبَلٌ رَسا أصلُهُ تَحْتَ الثَرى وسما بِهِ إِلى النجمِ فَرْعٌ لا يُنالُ طَويلُ، يَبعُدُ عنِ الناصِرةِ نَحْوَ اثْنَيْن وعشرينَ كيلومتراً. تَسَلَّقْنا هذا الجبلَ في سَيَّارَتِنا في طَريقٍ تُرابِيَّةٍ كثيرةِ الدَّوْراتِ ضَيِّقَةٍ فَفي كُلِّ خُطْوَةٍ منها خَطَرٌ. وَقَدْ تَلَذَّذْنا كثيراً لِوُجُود هذا الخطرِ فَلَوْلاهُ لَما كانَ في
*110*
(صورة في الكتاب)
*111*
تَسَلُّقِهِ كَبيرُ أَمْرٍ. ما وَصَلْنا إِلى أَعلاهُ إلاّ وَالأَرْواح قد بَلَغَتِ التَّراقِي (التراقي: القِمَّة.). قَدْ يَكونُ الصعودُ إِليهِ مَشْياً أَوْ على الدَّوابِّ أَسْهَلَ وَآمَنَ وَلكِنْ لا يُمْكِنُ أَنْ نَجِدَ هذِه اللَّذَّةَ التي وَجَدْناها مَعَ الخَطَرِ. لا شَكَّ في أَنَّ هذا شَأْنُ الإنْسانِ في كُلِّ أَمْرٍ، لَو كانَتْ طُرُقُ الحَياةِ سَهْلَةً واسِعَةً مُعَببَّدَةً مَفْرُوشَةً بِالرَّياحِينِ لَما كانَتْ في اجتِيازِها لَذَّةٌ، بَلْ أَحْرَى بِالْحَياةِ إذا كانَتْ سَهْلَةً كُلَّ السَّهْلَةِ أَنْ تتَكونَ مُمِلَّةً تافِهَةً، أَلَيس الأَمْرُ كَذلِكَ؟
على قِمَّةِ هذا الجبلِ دَيْرانِ: الواحِدُ للرومِ الأُرْثوذُكْسِ. وَهو بِناءٌ قَدِيمٌ مُتَواضِعٌ. وَالآخَرُ لِلاّتِينِ، وهو بناءٌ فَخْمٌ رائِعٌ وفيهِ كَنيسةٌ مِنْ أَفْخَمِ كَنائِس البِلادِ زُيِّنَتْ سُقُوفُها بِالفُسَيْفِساءِ المُلَوَّنَةِ.
القمَّةُ ضَيِّقَةٌ وَمِنْ أَيِّ النَواحي جِئْتَها أَطْلَلْتَ على مَناظِرَ رائِعَةٍ تملأُ القَلبَ هَيْبَةً وجَلالاً، جَبَلٌ ناتِئٌ (ناتئ: بارز.) إِلى النجومِ في وَسَطِ مَرْجٍ مُنْبَسِطٍ إِلى مدًى بَعيد تُحِيطُ بِأَطْرافِهِ جِبالٌ إذا قِيْسَتْ بِهذا الجبل كانَ السَّيِّدَ وَكانَتْ إِماءً (الإِماء: الجواري.) وَأَيْنَ وَقَفْتَ منها اسْتَشْعَرْتَ الخَطَرَ. إذا أَرَدْنا أن نَكونَ على صِلَةٍ بالسَّماءِ فَلْنَرْقَ إِلى هذا الجبلِ فَإِنَّ السماءَ قَريبةٌ تَكادُ تَمَسُّها بِإصْبَعِكَ. يَققُولُونَ إِنَّ المَسيح تَجَلَّى على هذا الجبلِ واستُ أَشُكُّ أَنَّهُ تَسَلَّقَهُ في يَوْم منْ أيَّامِ الربيعِ عندَ الفَجْرِ قَدْ ظَلَّلَتِ الجَبَلَ، وَكانَتِ الشَّمْسُ تُطالِعُهُمْ مِنْ خِلالِ السّحُبِ، فَخُيِّلَ أَنَّ السُّحُبَ تَحْمِلُهُ وَخُيِّلَ إلَيْهِمْ حينَ كانَتِ الشَّمْسُ تَسْطَعُ على وَجْهِ المَسيحِ الْجميلِ وَقَدْ كَلَّلَهُ العَرَقُ أَنَّ أضبْوابَ السَّماءِ تَفَتَّحَتْ وَأَنَّ أَنْوارَ السماءِ قَدْ سَطَعَتْ
*112*
على ذلكَ الوَجْهِ الجميلِ. إشذا لَمْ يَكُنْ هذا تَجَلِّياً، فَكَيْفَ يَكونُ التَّجَلّي؟ لَقَدْ أَحْسَسْنا وَنَحْنُ نُصَعِّدُ فيهِ أَنَّنا لا نَرْقَى قَليلاً إِلاّ شَعَرْنا أَنَّنا أَرْقَى في نُفوسِنا، ونَحْنُ لَمْ نَتَسَلَّقِ الجبلَ إِلاّ بِقَصْدِ النُّزْهَةِ وَإِمتاعِ العُيونِ بالمَناظِرِ الساحِرَةِ الفتّانَةِ، فَكَيْفَ لَو تَسَلَّقْناهُ وَنَحْنُ مُشبَعُونَ بِفِكْرَةٍ دِينِيَّةٍ، إذَنْ لَقُلْنا كما قالَ تَلاميذُ المَسيحِ لَهُ: "حَسَنٌ لَوْ نَصْنَعُ لَنا ثَلاثَ مِظالَّ" لا دَيْراً أو دَيرَيْنِ فَخْمَيْنِ، فَنُطَلِّقُ الدُّنْيا بِأَسْرِها فَإِنَّها أَحْقَرُ مِنْ أَنْ تُشْغِلَ لَنا بالاً.
سَنَرَى في رِحْلَتِنا هذِه مَناظِرَ ساحِرَةً فَتَّانَةً، وَلكنْ لا شَكَّ في أَنَّ أَرْوَعَ ما رَأَيْناهُ وَسَنَرَاهُ هو قِمَّةُ هذا الجَبَلِ. إِنَّها لَحَرِيَّةٌ أَنْ يُحَجَّ إِلَيْها. أَيْنَ نَواطِحُ السحابِ في أَميركا بِإِزاءِ هذِهِ القِمَّةِ!...
المصدر: كتاب كذا أنا يا دنيا للسكاكيني
*113*
*113*
مصطفى لطفي المنفلوطي
أضاعَ رجلٌ رفيقَهُ معَ بعيرٍ (بعير: جمل.) لَهُ في إِحدَى الصَّحاري، وظلَّ ينشدُهُما (ينشدهما: يطلبهما.) طولَ النهارِ من غيرِ جَدْوَى. ثم لقِيَ وقتَ العَصْرِ أعرابيًّا، فَفرحَ بهذه المصادفةِ وسأَلَهُ هل رأى الرجلَ والبعير. فقالَ له الآعرابيُّ: "هل كانَ رفيقُكَ سميناً وأَعْرَجَ؟" قالَ الرجلُ: "نعم، وأينَ هُو؟" أجابَ الأعرابيُّ: "لا أدري أينَ هو، ولكنْ قُلْ لي هل كان بيَدِ رفيقِكَ عصاً، وهل كان البعيرُ أَعْوَرَ يحمِلُ حِمْلاً من التَّمْرِ؟" فكادَ الرجلُ يطيرُ فرحاً وأجابَ مُسْرعاً: "نعم عرفتَ رفيقي وبَعيري، وقد أنهكني التعبُ وأنا أنْشُدًهُما من غيرِ جَدْوَى في هذا الحرِّ الشديدِ. باللهِ عليكَ دُلَّني على مَحَلِّهِما، متى رأيتَهُما وأينَ ذهبا؟"
قالَ الاعرابيُّ: إِنني لم أَرَ رفيقَك ومعَ ذلك أعرف صفاتِهِ، بل أعرف أَنَّهُ استراحَ مدةً تحتَ هذهِ النخلةِ، ثم ذهبَ إِلى جِهَةِ الشَّامِ، وكانَ ذلك قَبْلَ نَحْوِ ثلاث ساعاتٍ". فصاح الرجلُ وقد فرغَ صَبْرُهُ: "كيف تعرفُ كلَّ ذلك إِذا كُنْتَ لم تَرَهُ؟"
فقالَ الأعرابيُّ: "لم أَرَهُ بعيني ولكني عَرَفْتُهُ من آثارِهِ".
ثم أمسكَ بيدِ الرجلِ وتقدَّم بِهِ نَحوَ آثارِ الأقدامِ الباقيَةِ على الرمالِ، وقالَ لهُ: "انْظُرْ إِلى هذهِ الآثارِ: فهذهِ آثارُ قَدَمِ الرجلِ، وهذه آثارُ خُفِّ البعيرِ، وهذهِ العَصَا. انظرْ إِلى آثارِ قَدميِ الرجلِ، تجِدِ اليُسْرَى منهما
*114*
أعمقَ وأكبرَ من اليُمْنَى، أليسَ ذلك دليلاً على أنَّه كانَ أَعرجَ؟ وقارِنْ (قارن: قابل.) بينَ هذهِ الآثارِ قدميَّ أنا، أَلَيْسَتْ أعمقَ منها؟ ألا تفهمُ من ذلك أن الرجلَ كان أَسْمَنَ مِنّي؟" فدَهِشَ الرجلُ من هذهِ الاسْتِدْلالاتِ وصاحَ قائلاً: "كلُّ ذلك حَسَنٌ جدًّا، ولكن قُلْ لي كيفَ يُمكِنُكَ أن تعرفَ أَنَّ البعيرَ كانَ أعورَ والعينُ لا تتركُ أثراً على الأرْضِ؟"
فضحكَ الأعرابيُّ وقال: "هذا صحيحٌ، إِن العينَ لا تتركُ أثراً على الرِّمالِ، ولكنَّها تركَتْ أَثراً في هذهِ الأعشابِ. فانظُر إِلى هذا الكَلإِ (الكلَأُ: العشب.) وانْتَبِهْ إِلى آثار الأَكْلِ فيه، أَلَمْ تَرَ أَنَّ المَرْعيَّ منهُ في الجهةِ اليُمْنَى فقط؟ألم تفهَمْ من ذلك أَنه كان أعوَرَ لا يَرَى إلا بالعينِ اليُمْنَى؟ "فزادَ استغرابُ الرجلِ وسأَلَهُ: "والحِمْلُ؟ والتَّمْرُ؟ هل يمكنُ أن يكونَ لهما آثارٌ أيضاً؟"
*115*
فتقدَّمَ الأعرابيُّ نحو عشرين خطوةً وقالَ: "انظُرْ إِلى النَّمْلِ حولَ آثارِ الأقدامِ، ألمْ تَرَ أَنَّها تجَمَّعَتْ وصارَتْ تروحُ وتَجيءُ حولَ عُصارةِ التَّمْرِ؟" فأطرقَ الرجلُ مفَكِّراً متعجباً ثم قالَ: "والساعةُ كيفَ يُمكِنُكَ أن تَعْرِفَها؟"
فأخذهُ الأعرابيُّ نحو النخلةِ وقالَ لهُ: "انظرْ إِلى هذهِ، ألم تفهَمْ منها أن رفيقَك كانَ قدِ استراحَ هُنَا والبعيرُ معَهُ؟" فأجابَ الرجلُ: "ولكن كيفَ عرفتَ ان ذلك كانَ قبلَ ثلاثِ ساعاتٍ؟"
فضحِكَ الأعرابيُّ مرةً أثخْرى وقالَ: "انظرْ إِلى ظلِّ النخلةِ أينَ هُو الآنَ. هل تظنُّ أَنَّ رفيقَك تركَ الظلَّ وجلسَ في الشمسِ؟ كلاَّ. لا شكَّ في أنَّه استراحَ حيثُ كانَ الظلُّ. وأنا ابْنُ البادِيَةِ، أعرفُ أَنَّ الظلَّ لا يتحوَّلُ من محلِّ هذهِ الآثارِ إِلى المحلِّ الذي هو فيهِ الآنَ إِلاَّ في نِحْوِ ثَلاثَ ساعاتٍ؛ وبهذا عرفتُ أنَّه ذهبَ من هُنا قبلَ ثلاثِ ساعاتٍ".
المصدر: الاصول العربية
*116*
*116*
ميسون بنت بحدل الكلبيَّة
هي زوجة معاوية بن ابي سفيان. وفي أخبار يزيد بن معاوية جاء أنه قد أقام عند أمه ميسون وبين أهلها في البادية وتعلم الفصاحة ونظم الشعر هناك في بادية بني كلب. وكان سبب إرساله مع أُمِّهِ هناك أن معاوية سمع ميسون بنت بحدل تنشد الأبيات المذكورة أعلاه. ويقال أن معاوية عندما سمعها تنشد هذه الأبيات قال لها: ما رضيتِ يا ابنه بحْدل حتى جَعَلْتِني علْجاً عنيفاً (العلْج: حمار الوحش السمين القوي) الْحَقِي بِأَهْلِكَ. فمضت إِلى بادية بني كلب ويزيد معها.
لَبيتٌ تخفُقُ الأرواحُ فيه أحبُّ إِلَيَّ مِنْ قصرٍ مُنيفِ، (منيف: عالٍ.)
وَلُبْسُ عباءَةٍ وتقَرُّ عيني أحبُّ إِلَيَّ من لُبْسِ الشُّفوفِ، (الشفوف: مفردها الشِّفُّ أو الشَّفُّ وهو الثوب أو الستر الرقيق.)
وَأصواتُ الرِّياحِ بكلِّ فَجٍّ أحبُّ إِلَيَّ من نَقْرِ الدُّفوف، (فَجّ: وادٍ.)
... خُشونةُ عيشتي في البَدْوِ أشهى إلى نفسي من العيشِ الظَّريفِ
فما أبغي سوى وطني بديلاً فحسبي ذاكَ من وطنٍ شريفِ.
المصدر: ديوان الشعر العربي الكتاب الاول أدونيس
*117*
*117*
الدمرداش محمد
رافقْتُ قافِلةً من الجمالِ كانَتْ مُتَّجِهَةً إِلى الواحاتِ البحريةِ في الصحراء الغريبةِ، وكانت القافلةُ مكوَّنةً من اثنيْ عَشَرَ جملاً، محمَّلةً بسلَع (سلع: بضائع.) لبعضِ تجارِ الواحة. وكان قائدُ القافلةِ ودليلُها يُدعى الحاجَّ مصطَفَى. فحصلَ بعد أن توغَّلنا (توغل: دخل وأبعد.) في الصحراءَ مَسيرةَ يومينِ أن أُصيبَ الحاجُّ مصطفى بمرضٍ شديدٍ أعجَزَه عن متابعةِ السَّيْرِ، فتركَ قِيادةَ القافلة لوكِيلِهِ، وركِبَ هو أحدَ الجِمالِ في المؤخَّرَةِ، وكان الوكيلُ رجلاً طاعناً في السنِّ (طاعن في السنّ: كبير، هرم.) ضعيفَ النظرِ.
وكان من عادةِ القافلةِ أن تسيرَ بالليلِ إِلى ما يقربُ من منتصَفهِ، ثم تستريحَ حتى بزوغِ الشمسِ في اليومِ التالي، ثم تسْتأنفَ السيرَ حتى الظهرِ، ثم تستريحَ حتى العصرِ، ثم تبدأَ السَّيْرَ وَهكذا.
وقد حدثَ في تلك الليلةِ انِ اختلطَ الأَمرُ على الدليلِ، فحادَ عن الدَرْبِ، ودخلَ بالقافلةِ في مِنْطقةٍ واسعةٍ غيرِ مطروقةٍ (غير مطروقة: لا يدخلها أحد.) من كثبانِ الرمالِ. ولم ينتبهْ أحدٌ من قادةِ الجمالِ الآخرين لهذا الخطإِ لظلامِ الليل وتشابُهِ المَسَالِكِ (المسالك: الطرق.) وحداثةِ عهدِهم بالصحراءِ، فأَوْغَلَتِ القافلةُ بينَ الكثبانِ في تيهٍ عظيمٍ لا آخرَ له كالمحيطِ. وبقِينا نضرِبُ في هذا التيهِ على غيرِ هُدًى حتى قبيلَ ظُهْرِ اليومِ التالي، حينما اعترضَ سيرَنا وادٍ عميقٌ، فتقدَّمَ الدليلُ الوكيلُ ليستطلعَ (يتطلع: يستكشف.) الوَادِيَ. وهنا كانَتْ وقفةٌ لا أنساها ما حييتُ،
*118*
فقد شاهدتُ الرجلَ يقفُ على حافة الوادي، ثم يتطلَّعُ إِليه مَلِيًّا (مليا: طويلا.)، ثم ينقلبُ إِلينا مُهَرْوِلاً مذعوراً كالمجنون، وهو يصيحُ بصوتٍ أجشَّ (أجش: خشن.) كالمخنوقِ: "لقد ضلَلْنا الطريقَ يا حاجُّ مصطفى!" كانت صيحةً مُنْكَرَةً، ومعناها في الصحراءِ الهلاكُ على أبشعِ صورةٍ. فكان وقعُها في نفوسنا شديداً أليماً تَفَكَّكَتْ لها أوْصالُنا (أوصالنا: أعضاؤنا.) وهَلعَتْ لها نفوسُنا. واستيقظَ الحاجُّ مصطفى - وكانَ لا يزالُ محمولاً على الجمل - على صياحِ الدليلِ الوكيلِ وضجيجِنا، فقَفَزَ عن ظهرِ البعيرِ كالمخبولِ، وجسمُهُ يرتجفُ من شدَّة الحُمَّى، واندفعَ نحوَ الوادي يجرُّ جسمَهُ جرًّا وقد بدا عليه الضُّعفُ وشدَّةُ الهُزالِ.
وعلى حافة الوادي نظرَ هو الآخَرُ إلى الوادي نظرةً فاحصةً، ثم ارتمى على الأرض وأخذَ يندُبُ سوءَ المصيرِ، متوَعِّداً وكليلَهُ بأشدِّ أنواع العقابِ. وأصابَ القَوْمَ مَسٌّ من الجنونِ فهاجوا وثاروا، وأخذوا يَسُبُّونَ بعضُهم بعضاَ ويكيلونَ للوكيلِ اللَّعناتِ، ثم اشتبكوا في مشاحناتٍ (مشاحنات: قتال وتباغض.) وعراكٍ واستمرُّوا هكذا نحوَ ساعةٍ حتَّى هدأَتْ أعصابُهم الهائجةُ، فسَكَنَ القَومُ وسكَتُوا واستَسْلَموا للقدرِ. وأَفاقَ الحاجُّ مصطفى من الصَّدْمةِ وعادَ إليهِ رُشدُهُ، وتذكَّر واجباته نحو القافلةِ كقائدٍ لها ودليلٍ، وتجلَّدَ وتَقَوَّى ودعانا حَوْلَهُ واعتذر إلينا عمَّا حصلَ وَطَمْأَننا على السلامةِ، ثم صاحَ فينا: "أبْشِروا ولا تحزَنُوا اللهُ معنا!". ثم وقفَ مُنْفَعِلاً (منفعلا: متأثرا.) وقد تقَلَّصَتْ عضلاتُ جسمِهِ، وتجَهَّمَ وجهُه، وجمدَتْ عيناهُ وأَشاحَ (أشاح: أَدارَ.) بوجهِهِ نحو السماءِ كمَنْ يستَلْهِمُ المَعونةَ والهِدايةَ.
*119*
وبعد أن مكثَ على هذِه الحالِ نحوَ دقيقةٍ، لا يتكلَّمُ ولا يبدي حَراكاً، عادَ إلى حالتِهِ الطبيعيَّةِ وقد زالَ عنهُ الاضطرابُ والقلقُ. ثم قالَ إنَّه أصبحَ منهوكَ القوَى ضعيفاً، ورأسُه يدورُ ولا يَقْوَى على تعيينِ الاتجاهاتِ. ولهذا فقَدْ عَوَّلَ (عوّل: اتكل.) على تسليمِ قِيادِنا لبعيرِه الخاصِّ. وقالَ وهو يقدِّمُهُ لنا إنّه بعيرٌ أصيلٌ، وُلِدَ في هذِه الصحراءِ ونشأَ فيها، وإنه جَرَّبَهُ في أسفارِهِ السابقةِ فكانَ بعيراً مَوْهوباً يمكنُهُ أن يهتديَ من تِلْقاءِ نفسِهِ إلى عيونِ الماءِ حتى ولو كانَتْ على مسيرةِ خمسةِ أيامٍ.
فتَقَبَّل الجماعةُ قرارَه بالإِذعانِ (الإذعان: الطاعة، الخضوع.) والتسليمِ، ثم عاوَنُوه في ركوبِ البعير فاستلقَى على ظهرِهِ كما كانَ، بعد أن أرخى للبعيرِ الزمامَ. وشَخَصْنا بِأبصارنا إلى دليلِنا الجديدِ وأملِنا الوحيدِ الباقي في النجاةِ نتبعُ حركاتِه وسكَناته بلَهْفةٍ واهتمامٍ. ونظرْتُ إِلى البعيرِ فرأيتُه مرفوعَ الرأسِ، شامخَ الأنف، يجولُ بعينيه في جميعِ الآفاقِ وقد بَدا عليهِ الجِدُّ والاعتدادُ بالنفس.
ولمَا صدرَ الأَمرُ بالسَّيْرِ على بركةِ اللهِ، تقدَّمَنا وحدَه حُرًّا طليقاً، فسارَ الهُوَيْنا على حافةِ الوادي نحوَ ساعةٍ، ثم وقفَ ووقَفْنا. ورفع رأسَه إلى أَعْلَى، وأخذَ يشُمُّ الهواءَ بشهيقٍ عميقٍ، ثم تحوَّلَ نحو الشمالِ الغربيِّ وأَوْغَلَ بين كثبان الرمالِ. وبعد نحوِ ساعتين وقف مِثْلَ وقفتِه الأولى، وأخذ يشُمُّ الهواءَ، ثم اتّجهَ نحو الشمالِ وأخذَ يهرولُ والجمالُ الأُخرى في أثرِهِ تتبَعُهُ كظِلِّهِ، لا تحيدُ عن أثرِهِ كأنَّها عالمةٌ بحَرَجِ الموقفِ.
*120*
(صورة في الكتاب)
*121*
وتابعْنا السيرَ في هذا اليَوْمَ من غيرِ توقُّفٍ ونحنُ في غمٍّ وهَمٍّ، لا ندري ما خَبَأَهُ لنا القدرُ، مُسْتَسْلِمين لحيوانٍ أَعْجمَ (أعجم: لا ينطق.) يقودُنا منذُ الصباحِ حيثُ شاءَ، من سهلٍ إِلى نجدٍ إِلى سهلٍ، وفي فيافي (الفيافي: الأراضي الواسعة الخالية من الماء.) صحراءَ جرداءَ شاسعةٍ واسعةٍ لا نباتَ فيها ولا ماءَ.
وقُبيلَ العصرِ خرَجْنا من منطقةِ الكثبانِ، وبعد ساعةٍ اتَّجْهنا نحو الغربِ، وأخَذْنا نَرْتَقي (نرتقي: نصعد.) هَضْبَةً عاليةً.
وعند الغروبِ وقرصُ الشَّمسِ يَحْتَجِبُ وراءَ الأفق البعيدِ، في تلكَ الساعةِ وقد أدْبَرَ النورُ وأقبَلَ الظلامُ، كنَّا نجاهدُ للحياةِ جهادَ البائِسِ اليائِسِ، ونتبَعُ البعيرَ خطوةً من غيرِ أن يكونَ لنا إرادةٌ أو عقلٌ أو تفكيرٌ.
في تلكَ الساعةِ كنا قد بَلَغْنا القِمَّةَ وانكَشَفَ السهلُ من تَحْتِنا، فأَبْصَرْنا أمامَنا شريطاً طويلاً أبيضَ، يمتدُّ عَرْضَ الصحراءِ من الشرقِ إِلى الغربِ، ولم تكَدِ الجماعةُ تَتَبَيَّنُهُ حتى هاجوا وصاحوا وهَلَّلوا، وفاضَ بهم الفرحُ فبَكَوْا للنجاةِ والخلاصِ. إنه كان الدربَ الذي أضاعَهُ الدليلُ منذُ أن حَلَّ مساءُ الأمس! مُقبِلينَ على البعير يُقَبِّلونَةُ وَيَتَبَرَّكونَ به، وعلى الحاجِّ مصطفى يقَبِّلونَ يَدَيْهِ ورأْسَه.
وأَدْرَكَ البعيرُ أنّه قد أَنْجَزَ مُهِمَّتَهُ فَبَرَكَ على الأرضِ ليستريحَ.
المصدر: مجلة الثقافة المصرية
*122*
*122*
ولد بالناصرة سنة 1931، درس في المدرسة الابتدائية بالناصرة، ثم في مدرستها الثانوية،ثم في جامعة حيفا، ونال شهادة البكالوريا في اللغة العربية وآدابها،الماجستير على أطروحته أفعال القلوب في اللغة العربية، وأخيراً حصل على شهادة الدكتوراة من الجامعة العبرية بالقدس. يعمل معلما للغة العربية في دار المعلمين للعرب بحيفا، ومحاضرا في جامعة حيفا.
من آثاره: "سلمى" مجموعة أقاصيص شعرية، "أغنيات من الجليل - شعر"، "غبار السفر - شعر"، "الريح والشراع شعر".
صباحٌ جميلْ
يَطِلُّ على القريةِ الحالمهْ
فتنْفِرُ فيها الظِّبا النائمهْ
بتِلك السهولْ
تَدِبُّ الحياهْ (تدب: تسري وتتحرّك.)
ويهرعُ كُلّ إِلى شغلِهِ (يهرع: يسرع.)
فيبذَرُ ذلك في حقلِهِ
ويُسْرعُ هذا إِلى إِبْلِهِ (الإبل: الجمال.)
يحمِّلها ما احتَوَتْهُ الخزينهْ
ويوردُها للمدينهْ
ويسرعُ بالْغَنَماتْ
*123*
(صورة في الكتاب)
*124*
رُعاةْ
يسوقونها للرُبى النضِراتْ
على لحنِ نايٍ حزينهْ
وقبلَ الشُّروقْ
هنا في الطريقْ
يُرى موكبُ الفتَياتْ
يسرْنَ إِلى العينِ مبتسماتْ
على رأسِهِنَّ الجرارْ
ليَحْمِلْنَ ماءً إِلى أهلهنَّ
ويَرجِعْنَ قَبْلَ النهارْ
إلى شُغْلِهِنَّ
المصدر: ديوان سلمى لجمال قعوار
*125*
*125*
فانيا بيرجشتين
أديبة عبرية ولدت في بولاندا عام 1908، انتقلت مع أهلها إلى أثكرانيا، وهناك تعلمت في كلية البنات. هاجرت إلى البلاد عام 1930 واستقرت في كيبوتس جبات الموجود في مرج ابن عامر. في حياتها نظمت العديد من القصائد جُمعَتْ في ثلاثةِ دواوين شعرية. ولها أيضا كتابٌ يحوي مجموعة من القصص والمذكرات الشخصية. توفيت الأديبة عام 1950.
أَزْرُعُ الْبُذُورَ الذَّهَبِيَّةَ في حَقْلِي
وَأُخْفيها عَميقاً في أَرْضِي الْمَحْرُوثَةِ
وَأَتَضَرَّعُ إلَى الله
وَأَنْتَظرُ الْمَطَرَ الْأَوَّلَ
ثَمَّ أَمِيلَ إلى الْأَرْض أَرْقُبُ كُلَّ بُرْعُمٍ مُتَفَتِّحٍ
وأُمتِّعُ نَفْسي بالْأَخْضَر النَّامِي
وأُحْصى الْأَيَّامَ واللَّيَالي
وأنْمُو مع السُّنْبُلة
حتَّى إذا ما نضجَتْ وامْتَلَأَتْ بِبُذُورِها
تَمْتَلئ رُوحي إذْ ذاكَ بِبُذُورِ أَمَلِها،
بُذُورِ ذَهَبِيَّة جَميلَة
كَحُلْمِ يَرفُّ عَلَى بساطِ حَياتِي
ثُمَّ يَنْضجُ الْقَمْحَ في حَقْلِي
*126*
وَتَمْتَلِئ السَّنابِلُ الْعَسجَدِيَّةُ (العَسْجَدِيَّة: الذهبيَّة.)
وَتَنْحَنِي رُؤوسُها في اللَّيْلِ
مُثْقَلَةً بِالْحُبُوبِ
مُرْتَقِبَةً يَدَ الْحاصِدِ
المصدر: مطالعات اسرائيلية - جمع بنيامين زكاي
*127*
*127*
حَدَّثَ أحدُ المُحامين وقالَ: نزلتُ ضيفاً على عربيّ يُدْعَى الشيخَ أحمدَ، فرحَّبَ بي أجملَ ترحيبٍ وجلَس إِلى جانبي يحدِّثُني. ثم خرج وأتاني بطعامٍ لا أعرِفُهُ فلَمْ تطاوِعْني نفسي على أن أذوقَ منه شيئاً. فقام مُضيفي على الأثر وجاءَني ببعضِ البيض. فتناولتُ واحدةً وطلبتُ قَبْضةً من المِلْحِ ولم يكن عند الشيخ منه وأنا لا أدري.
وكانَ له ابنٌ وحيدٌ في مقتبل (مقتبل العمر: اول العمر.) العمر يُدعى عليًّا. فاستدعاه وأمرهُ أن يذهب إِلى الأحياء المجاورة ليأتَينا بالملح. فتَصدَّيْتُ (تصدّيت: اعترضت.) للشيخ ورجوتُه أن لا يدَعَ ابنَهُ يَخْطو خطوةً خوفَ أن يُضرَّ به المطرُ المتساقط. فلم يكترثِ (يكترث: يهتم.) الشيخ لقولي وسار الغلامُ في سبيله.
مضى علينا ساعتان ولم يعُدِ الشاب. فظهرت على ملامحِ الشيخِ علامات الجزع والاضطراب، وكان الليل قد أرخى سدولَه على تلك الأنحاء. وفيما نحن كذلك إذ سمعنا عن كثَبٍ صوتاً منكراً طرحتْه امرأة في جَوْف الليل. فوثَبْنا إِلى الخارج لنرى ما الخبرُ،فوجَدْنا رجالاً يحملون جثةً هامدة لم نلبَثْ أن عرَفنا فيها جثةَ الشابِّ عليٍّ الذي أُرسل لجَلْب الملح، فقد لقِيَ ختفَه (الحتف: الموت.) وهو راجعٌ إذ عَثَرَتْ رِجْلُ فَرَسِه فوقع على صخرةٍ وماتَ لساعتهِ، ولما استطالَ أهلُهُ عودتَه أرسلوا قَوْماً يستطلعون خَبَره، فوجدوه صريعاً (صريعا: قتيلا.) بين الصُخور.
*128*
(صورة في الكتاب)
*129*
مُدَّ الميتُ في زاوية المنزل وأشارَ الشيخ إِلى النِّسوةِ أنِ اكفُفْنَ (اكففن: امتنعن.) عن النحيب، فسكتن للحال وخَرَجْنَ مُطْرقات صامتات. وقام الشيخ بعد ذلك وأدخلنا غرفة الطعام وَأَجْلسنا حَوْلَه ونحن لا ننبسُ بكلمةِ، بل كلنا يجيل فى فكْره حوادثَ ذلك النهار المشؤوم (المشؤوم: المنحوس.). بقينا كذلك مُدَّةً وإِذا بالشيخ أحمد يَمْسَحُ وجهَه ولحيتَه بيدَيْه ويقول: "إنّ اللهَ وحدَه أَزليُّ (أزلي: خالد.) لا يموتُ." ثم سأل: "هل أَتَى بالملح؟"
فقام أحدُ الخضور ونَظَرَ في ثيابِ الميت فوجد لفافةً فيها الملح. فتجلد (تجلد: تصبر.) الشيخُ ووجه لى كلامه قائلاً: "يا سيدي، قد أتاكَ ولدي بالملح فَشَرِّفني بأَكل طعامى". وأَرادَ أَنْ يُنَشِّطَنَا فأخَذَ لُقمةً وشَرَعَ يأكلُ وقال للجلوس: "هيا باسم الله، كُلُوا يا أسيادي".
فلما رأيتُ هذا التَجلُّدَ تأَثَّرْتُ كلَّ التَأَثُّرِ واندفَعْتُ أبكي بكاءً عاليا. وخرجتُ من الحىِّ رغماً عن العاصفة والأمطار وأَهْوَال (اهوال: شدائد، مخاوف.) الليل وقفز المكان. فقام الشيخُ والحضورُ ليَرُدُّني إِلى المنزل، إِلاّ أَنّي لم أُجبهم إلى إلحاحهم بل سَرَيْتُ هائماً على وَجْهي.
المصدر: كتاب سنابل من حقول الادب لسامى مزيغيت
*130*
*130*
راضي عبد الهادي
أَوَّلُ مَا ظهرَ خزائن الكُتبِ في الاسلامِ خِزانَةُ خالِدِ بن يزيدِ بن مُعاويةَ المتَوفى سنةَ 85ه فقدْ ذَكَروا أَنه كانَ يُعْنى (يعنى: يهتم.) باقْتناءِ (اقتناء: شراء.) كُتبِ القدماءِ وأَنَّهُ أَوّلُ منْ أَمَر فتُرجمَتْ لهُ كُتُبٌ في الطبِّ والنُّجوم وغيرِهَا.
وكانتِ العنايةُ بدُور الكُتُبِ تامَّةً والرَّغْبَهُ في التَّمْكِينِ لها وَسدِّ حَاجَتِها مَوْفُورةً، فدُورُ الكُتُبِ العامَّةُ التي يَختَلِفُ الناسُ اليها كانتْ تُقامُ على طراز معيَّن يدُلُّ عليها ويُغني عن السُّؤال عنْها، تَتَأّلَّفُ من حُجُراتٍ شَتَّى يُفْرشُ الحَصيرُ والبُسُطُ على أَرْضِها وتتدلَّى السُّتُورُ على نَوافِذِها وأَبْوابها وتُثَبَّتُ في جُدرانها رُفُوفٌ من الخشب تُنَضَّدُ (تنضد: تركب عليها بصورة متسقة.) عليها الكُتُبُ بعْضها فوق بَعْضٍ.
وينقسِمُ النَّشاطُ في دور الكُتُبِ إِلى هذِه الحُجُراتِ فَبعضُها للنسخ والآخَر للاطلاع والمُراجَعةِ والثَّالِثُ للدَّرْسِ والمُناقَشة ورُبَّما اشتملَ بَعْضُ دور الكُتُبِ على حُجُراتٍ للْموسيقى يَختَلِفُ إليها الدَّارسون لِلترفيهِ واستِعادةِ النَّشاطِ كُلَّما أَعياهُمُ الكدُّ أَو خَيم عَليهم السَّأَم.
وكانتْ تَتولَّى الأَعمال في دُورِ الكُتبِ طائفةٌ من الموظَّفِين وهُمُ الخَازنُ والمتَرجمُون والنُّساخُ والمُناولُون.
فأمَّا الخازْن أَو الأَمينُ كَما يُسمَّى في العصر الحاضر فكان إليه الإِشرافُ على أَعْمالها الفنِّيَّةِ والإِدارِيَّة جَميعاً، يجلُبُ الكتب إليها ويُلاحظ
*131*
فهارسَها وييَسِّر للنَّاس أَسباب المُراجعةِ والاطِّلاع، لذلك كان يُختارُ الخازن من الأُدباءِ وأَصحابِ الأَقدار بَيْن المثقَّفين والعلماءِ كسهْل بنِ هارون خازنِ بيتِ الحكمةِ.
وأَمَّا المتَرجمون فكانوا يَنْقلون إِلى العربيةِ ذخائر العلوم التي خَلَّفَتْها أُمَمُ الحَضارةِ القدِيمةِ من المصريين واليونانِ والفُرس وغَيْرهمْ. وكانوا يُعْطَوْن على ذلك العطاءَ الجَزيل.
وأَمَّا النسَّاخُ فكانوا يَعْملون لِدُورِ الكُتُبِ مثْلَما تَعْمَلُ لها اليوم دُورُ الطَّبْعِ والنَّشْرِ، إذ لم تَكُن المَطْبعةُ قدِ اختُرعَتْ بَعْدُ، فكانت الكُتبُ الجديدةُ تُنْقلُ إِلى النُّسَّاخِ في دار الكتبِ أَوْ يُنْقَلُونَ همْ إليها عندَ أَصحابها لِيَكتُبُوا نُسْخاً منْها.
كانَ النُّسَّاخُ يُخْتَارونَ عادةً من المَعْروفينَ بجَوْدةِ الخَطِّ والدقَّةِ في النَّسْخِ. وقَلَّما تَخْلُو منْهُم دارُ الكُتُبِ.
وأَمَّا المُناوِلُون فكانَ عَملُهُمْ أَنْ يُرْشِدوا القُرَّاءَ إِلى مواضِعَ الكُتُبِ على الرُّفُوفِ أَوْ ينْقُلوها من أماكِنها حَيْثُ يطلُبونها وكانُوا يَعْملُونَ في دورِ الكتبِ العامةِ والخاصَّةِ جميعاً.
وكانَ لِدُورِ الكتبِ ذاتِ الشَّأنِ فَهارِسُ دقيقةٌ مُنظَّمةٌ تُبَيِّنُ للطَّالِبِ الكتبَ التي فيها، وتهديه إِلى الكتبِ التي يُريدُها في غير عناء ولا إضاعةِ وقتٍ ورُبَّما اعدّ لدار الكتب الواحدة أكثر من فهرسٍ واحدٍ كدارِ كُتُبِ عَضُدَ الدَّوْلَةِ ابْنِ بُوَيْهِ بشيراز.
*132*
ويحْفَظُ التَّاريخُ أَسماءَ أَسماءَ طائفةٍ من دورِ الكتبِ العظيمةِ التي لها في نَشْرِ الثَّقافةِ وخِدْمةِ العَلْمِ فَضْلٌ مَذكُورٌ ومَقامٌ مَعْلُومٌ مِنها بيتُ الحِكْمةِ ببَغْدادَ ودارُ الحكمةِ بالقاهرةِ ودارُ الكُتُبِ بقُرْطُةَ.
فأَمَّا بيتُ الحكمةِ فأَوَّلُ دارِ كتبٍ عامةٍ ظَهرتْ في الاسلامِ، أَنشَأَها الخليفةُ هارونُ الرَّشيدُ وعَيَّنَ لها المُوظَّفينَ وأتاها حاجَتها من الكتبِ فَنمتْ واشدَّتْ وأَخذتْ تُؤتي أُكُلَها طيِّباً يانعاً.
ولمَّا تَولَّى المأَمُونَ الخِلافةَ جعلَها بمكانٍ عظيمٍ من رِعايتهِ واهْتمامِهِ فجلَبَ إِليها الكتبَ منَ الهنْدِ ومصرَ وفارِسَ واليونانِ وبلادِ الرُّومِ وغَيْرها.
وأَجزَلَ مُكافأَةَ العُلماءِ المُتَرْجِمينَ إذ كان رحِمه اللهُ خليفةً عالماً وإماماً عامِلاً، واسِعَ المَعرِفةِ مُحِبًّا للْعِلْمِ والأَدبِ مُبجِّلا (مبجلا: معظما، مكرما.) للْعُلماءِ والأُدباءِ، وظلَّ بيتُ الحكمةِ بَعْدهُ على العَهْد به يُشِعُّ الحكمةَ والمعرفةَ مُشْرقاً متلَأْلِئاً حيناً، وكاسِفاً حيناً آخَرَ حتَّى داهَمَ التَّتَرُ بَغْدادَ وقتلوا المُسْتَعْصِمَ آخِرَ الخُلفاءِ من بني العبَّاسِ فذهبَ بيتُ الحكمةِ فيما ذهبَ من معالِمِ الحضارةِ الباقيةِ الذِّكْرِ الخالِدةِ على مَرِّ الأَيام.
وأَمَّا دارُ الحكمةِ بالقاهرةِ فقد أَنْشأَها الحاكمُ بأَمْرِ اللهِ الفاطِميُّ في جمادى الاخرى سنة 395 وأراد بها منافسة بيت الحكمة ببغداد فزَيَّنَ بناءَها وفرشَ أَرضَها وعلَّقَ السُّتُورَ على أَبوابها ومداخِلِ طُرُقاتِها وحملَ إليها من خزائنِ قَصْرِه والقُصورِ الأَخرى ما لَمْ يُرَ مثْلُهُ، وزوَّدها بكل ما يحتاجُ الباحثِ إليه من ورقٍ ومحابِرَ وأقلامٍ، وأَقام فيها طائفةً من القُرَّاءِ
*133*
والفُقهاء والمُنجِّمينَ (المُنَجِّم: الذي يزعم معرفة حظوظ الناس ومصائرهم بحسب مواقع النجوم. ويقال لهذا العلم علم التنجيم.) والنَّجاةِ وعُلماءِ اللُّغةِ ومعَهُمْ مَنْ يحتاجُ إِليهمْ العملُ منَ الموظَّفينَ والخدَمِ، وأَجْرى على هؤلاءِ وأُولئكَ الأَرزاقَ السَّنِيَّة فَجعلَ النَّاسُ يَفِدُون إليها من جميعِ الطَّبقاتِ لِلتَّعلُّمِ أوِ القراءةِ أَوِ النَّسْخِ. وبقيتْ دارُ الحكْمةِ قائمةً إِلى عهدِ صلاحِ الدِّينِ فَبنى مَكانَها مَدْرَسَةَ الشَّافعيَّة.
وأَمَّا دارُ الكتبِ بقُرْطُبةَ فقد أَنْشأَها الحَكَمُ بْنُ الناصِرِ وجعلَها حافلَةً (حافلة: مليئة.) جامعةً حتى بلغَ عَدَدُ الكُتُبِ التي احتَشدَتْ (احتشدت: تجَمَّعَتْ.) فيها مئتي أَلْفِ مُجَلَّدٍ بَلْ يُقَدِّرُها كثيرونَ بأَرْبعِمِئَةِ أَلْفٍ وتقعُ فهارِسُها في أَرْبعٍ وأَرْبعِينَ كُرَّاسَةً في كلِّ كُرَّاسَة خَمسونَ ورقَةً ولمْ يَكُنْ مَكْتُوباً فيها غَيْرُ أَسماءِ الكُتُبِ. وأَقامَ الحَكَمُ أَخاهُ عَبْدَ العزيزِ قيِّماً عليها تكْريماً لها وإِعْظاماً لرسالَتها.
وثَمَّةَ خزائنُ أُخرى للْكُتبِ كان لها كذلك في تاريخ الحضارةِ صيتٌ بعيدٌ (صيت بعيد: شهرة واسعة.) وفي خدْمة الثَّقافةِ أثرٌ حميدٌ.
المصدر: كتاب اللغة العربية ج 3 لراضي عبد الهادي وآخرين
*134*
*134*
مصطفى درويش
من كبار الجيولوجيين المصريين المعاصرين
كان روجر الثاني "ملك صقلية" (1101-1145م) مَلِكا طموحا يُؤمِنُ بالعلم، ويبجِّلُ (يبجل: يعظم.) العلماء، ولعلَّ ما خَلَّفَهُ العربُ في (صقلية) من حضارةٍ وتُراثِ علمي عظيم، وما كان يعلمه عن جيرانه العرب في الاندلس من تقدم علمي، قد بعث فى نفسه هذا التقدير والإجلال وقد بلغ اعتزازه بالمآثر (المآثر: جمع مَأْثَرَة وهي المَكرُمَة والمُرادُ الأمجاد.) العربية الإسلامية في بلاده درجة سامية، جعلته يختار بعض العرب ليكونوا من صفوة مستشارية (صفوة مستشارية: المختار منهم.)، ويتخذ شعار دولته: "الحمد لله وحده".
ويتطلع الملك "روجر" إِلى القيام بمشروع عالمي فريد. هو عمل مُصَوَّرٍ للأرض، وما عليها من أقاليم، ومعالم جغرافية فجعل لهذا المشروع العظيم قدرا كبيرا من المال، وقرر أن يختار للنهوض به عالما فذا (فذاً: فريداً.)، ذائع الصيت (ذائع الصيت: واسع الشهرة.) في زمانه فلم يجد أهلا لذلك سوى العلامة العربي "أبي عبدالله محمد بن محمد بن عبد الله الإدريسي"، الذي كان حينذاك أستاذ الأساتذة في علم الجغرافيا.
وقبل العالم العربي الكبير دعوة الملك الأوربي مؤكدا بذلك ما أسداه (ما أسداه: ما قدمه.) علماء العرب للنهضة الأوربية من عظيم الفضل الذي لا ينكره المنصفون من المؤرخين.
*135*
بدأ الإدريسي عمله بالرحلة إلى أجزاء الأرض المعمورة يقيس المسافات ويرصد المواقع، ويعين خطوط العرض والطول، ويسجل المشاهدات عن أقاليم الأرض، والسهول والجبال والوهاد (الوِهاد: المُنخَفَضات؛ جمع وَهْدَة.) والبحار والبحيرات والخلجان والمستنقعات والحيوان والطير والنبات والمعادن.
ولم يكتفِ الإدريسي بذلك، بل سَجَّل أيضا ما يسود المناطق المختلفة من عادات وتقاليد ونشاط تجاري.
وضَمّن ذلك كتابه المشهور: "نُزهة المشتاق في اختراق الآفاق" ثم صنع للملك "روجر" كُرَةً من الفضة الخالصة، تمثل الكرة الأرضية، وعليها خطوط الطول والعرض موضحا ما بها من يابسة ومياه.
وأصبح كتابه موضع اهتمام العلماء وتقديرهم، منذ تأليفه حتى اليوم فقد أضاف بكتابه إلى المعرفة البشرية ما أشاد به المُنْصفون من علماء أوربة.
ولد الإدريسي في الأندلس 492ه-1099م.
وتلقى العلم في جامعة "قرطبة" وقرأ كتب السابقين من علماء الجغرافيا، ولكنه كان على يقين من أن قراءة الكتب لا تغني عن المشاهدة والمعاينة، وإلا تحجرت العلوم وصارت ضربا من الطلاسم (الطلاسم: جمع طِلَّسْم وهو السرّ الخفيّ.) لا تحظى باحترام العقل ولا تفيد في تقدم الممعرفة والحضارة.
ولهذا أخذ الإدريسي يضرب في آفاق الأرض (يضرب في نواحي الأرض: يسير في نواحيها.)، ويُكْثِر من الترحال إلى أقاليمها، حتى قيل إنه لم يترك جزءًا من المعمورة إلا وَطِئتْه قدماه (وطئته قدماه: مشت عليه.)
*136*
وأحاط به علما.
ولم يبلغ الإدريسي هذه المكانة العالية - على مدى العصور - بنبوغه في علم الجغرافيا ومصوراته فحسب.
فقد نبغ أيضا في علم النبات والأدوية المستخلصة من النباتات المختلفة، وله في هذا المجال مؤلفات ذات قيمة علمية جليلة.
وقد أمضى الإدريسي حياته في عمل علمي متصل إلى أن تُوُفِّيَ عام 560ه-1164م.
وهكذا أثبت الإدريسي وغيره من علماء العرب فضلهم على الحضارة وازدهار العلوم، في الشرق والغرب، ولعل ذلك يجعلنا نسعى جادِّين لنحتل مكانتنا العلمية مرة أخرى في هذا العصر.
المصدر: الاضداد في اللغة العربية الصف الثاني الاعدادي - مصر
*137*
*137*
سامي الكيالي
سامي بن علي محمد الكيالي: أديب باحث ولد بحلب سنة 1898، تعلم بها وكان امين السر العام لبلديتها مدة 25 عاما، ومديرا لدار الكتب الوطنية فيها، ومن أعضاء مجمع اللغة في القاهرة.
أصدر مجلة "الحديث" شهرية سنة 1927 إلى سنة 1960، ونشر 26 كتاباً من تصنيفه، منها "نظرات في التاريخ والنقد والأدب"، "شهر في أوربة"، "سيف الدولة وعصر الحمدانيين"، "الفكر العربي بين ماضيه وحاضره"، "المرأة هذا اللغز الأبدي"، "الراحلون"، "صراع في سبيل القومية العربية "، "يوميات في امريكة "، "الحركة الادبية في حلب " ، الادب العربي المعاصر في سوريا " ، "خمر وشعر " و " من خيوط الحياة "؛ وكلها مطبوعة .
توفي الاديب في مدينة حلب سنة 1972.
كانَ صباحُ ذلكَ اليوم الذي زرتُ فيه قصرَ الْحَمراءِ من الأيّامِ العاصِفَةِ الباردَةِ ، وكانتْ ذَرّاتُ الثَّلْجِ تَتَناثَرُ في الفَضاءِ .
وما كانت بُرُودَةُ الجوِّ ولا انْهمارُ الثلوج لتَحُولَ دونَ زيارة هذه الاماكنِ التي جِئتُها من مسافاتٍ بعيدة ، وما كانت "إسبانيا " على ما فيها من روائعَ لتَجْتَذِبَني لولا الأندلس - لولا غرناطةُ وقُرْطُبَةُ وإشْبيليَةُ وطُلَيْطِلَةُ وما ضَمَّتهُ من أَمجادٍ ، لولا قصرُ الحمراء وجَنَّةُ العريف.
إنَّني في الحمراء (في كنف الحمراء: في ظل الحمراء.)، أَقَلْعَةٌ هي، أَمْ قَصْرٌ، أَمْ عِدَّةُ قُصُورٍ؟ إنَّها َلْعَةٌ وقُصُورٌ وحدائقُ قامتْ على هَضَبات تُحيطُ بها قِمَمٌ عاليةٌ صَعْبَةُ الْمُنحَدَرِ، وقد حُصِّنَ القَصْرُ بأسوارِ غُطِّيَتْ بالمرْمَرِ، وسُمِّيَت "الحمراءَ" لأنَّ أَسوارَها
*138*
وجُدْرانَها تَضرِبُ إِلى الحٌمْرَةِ (تضرب إلى الحمرة: تميل إلى الحمرة.)، ورُبَّما جاءتْ هذه التَّسْمِيةُ مِنْ لونِ التربة التي قامتْ عليها ومُعظَمُها مبنِيٌّ مِنَ الخَزَف (الخزف: الفخار.) والكِلْسِ والحصْباءِ (الحصباء: الحصى.).
دَخلتُ قَصرَ الحمراءِ وفي ذِهني حَشْدٌ من المعلوماتِ عن ماضيه وحاضِره، فاخترتُ مَدْخَلَهُ إِلى بابِ العدلِ وهو مدخلٌ تَعْلوهُ قُبَّةٌ ضَخْمَةٌ بُرْتقاليَّةُ اللونِ تَضرِبُ إِلى الحمرةِ، وهوذو أَروِقةٍ تَعْصِفُ بها الرِّياحُ.
وباحةُ "قاعةِ الرَّيحانِ" كبيرةٌ واسعةٌ يراوح طولها بين الثلاثين والأربعين متراً وعرضُها في حدود العشرينَ متراً، يبدو جمالُها بحوضِها المستطيل الذي يتوسطُها وقد قامتْ حَوْلَهُ شجيراتُ الرَّيحانِ، وأَوَّلُ ما يَلْفِتُ نظرَ الزَّائِرِ هذه العقودُ العربيةُ التي استَنَدَتْ إِلى عُمُدٍ مَرْمَرِيَّةٍ هي ركائزُ المقاصيرِ (المقاصير: الحجرات.) ما تزالُ بجمالِ رَوْنِقها بهجةً للناظرين.
وقد زُخْرِفَتْ العقودُ والمِساحةُ التي تعلوها بالجَصِّ المزَخْرَفِ بفُروعٍ نباتيَّةٍ، ويُحيطُ الأبواب والنوافِذِ شريط منَ الفُسيفِساء (الفسيفساء: قطع صغيرة ملونة من الرخام وغيره يؤلف بعضها إلى بعض على أشكال مختلفة وصور متنوّعة.) تكَرَّرَتْ فيها آياتٌ قرآنيَّةُ مثل: "نصرٌ منَ للهِ وفتحٌ قَريب" و "بَشّرِ المؤمنين".
وقاعةُ السُّفراءِ هي القاعةُ التي كان يَسْتَقْبِلُ فيها ملوكُ بني الأحْمَرِ سُفَراءَ الافرنج.
أَنشأها أَبو الحجَّاجِ يُوسُفُ الأحمر.
دَخلنا فِناءَها متأَمِّلين، وقد بَهرَتْنا زَخارِفُها ورَوعةُ نُقوشِها المذهبَةِ إِنَّها شيءٌ يَشْدَهُ (يُشْدَهُ: يُدْهَشُ.) العَقْلَ... فحَيْثُما تَنَقَّلَ الإِنسانُ تراءَت له دِقَّةُ الفنِّ العرَبيِّ
*139*
سواءٌ بهذِهِ النقوشِ أو العُقُودِ أَو المُقَرْنصاتِ (المُقَرْنَصات: يقال سقف مُقَرنَص أي عمل على هيئة السلم.) أَوِ الكِتاباتِ العَرَبِيَّةِ التي ازدانتْ بها الجُدرانُ والمداخلَ والسُّقُوفُ... كلُّ شيءٍ قد لَعِبَتْ فيه يَدُ الفَنِّ بِمهارَةٍ عجيبة ودِقَّةٍ فَريدَةٍ.
تَرَكْنا قاعَةَ السُّفَرَاءِ إِلى بَهْوِ السِّباع وهو الذي كثُرَ الحديثُ عنه، فما مِنْ زائِرٍ في الماضي أو في الحاضر إلاَّ خَصَّ هذا البَهْوَ بالكلام الكثير.
فالواقعُ أَنَّهُ أَعظمُ أبهاءِ قصرِ الحمراءِ... يَبلُغُ طولُهُ مائَةَ قَدَمٍ وعَرضُهُ خمسين. وحين يسيرُ الزئِرُ بينَ أَرْوِقَتِهِ التي قامت على أَكثرَ من مائةِ عَمودٍ مَرْمَرِيٍّ يَقِفُ مَشْدوهاً بِتناسُقِها الجَميلِ وبعقودِها ذات التَّخاريمِ المُزَخْرَفَةِ البدِيعَةِ.
ولعلَّ أَظهرَ ما في هذا البَهْوِ النافورَةُ التي تحْملُ اثني عَشَرَ أَسداً من المَرْمَرِ الأَبْيَض يَقْذِفُ كلُّ أَسدٍ المياهَ من أُنْبوبٍ في فَمِهِ. وقد نُحِتَتْ هذه الأُسودُ على طرازِ رؤوسِ الحَيوانات ونُقِشَتْ عليها كتاباتٌ كوفيَّةٌ من شعرِ ابن زَمْرَك.
والحَقُّ أَنَّ الانسانَ لَيَعْجِزُ عن بيانِ ما يَشعُرُ به حينَ يَمُرُّ مِنْ قاعةِ البِرْكةِ، ويدخُلُ في قاعةِ الاسودِ فيَرَى الأرْوِقَةَ التي تَزِينُها الأَقْواسُ المُنَوّعَةُ الْمُزَخْرَفَةُ بالنُّقُوش الْمُزهرَةِ والزَّخارفِ المُتدَلِّيَةِ والتخاريم التي كانت ذهبيَّةً ملوَّنةً، وتقع عينُهُ على غابَةٍ من الأعمدَةِ الهِيفِ (الهيف: جمع أهيف وهو الضامر الرقيق مونثة هيفاء.) التي وُضِعَ بعضُها مُنفرداً وبعضُها الا خَرُ مجتمعاً على شكلٍ بديعٍ يُبْصَرُ من خلالها الْتماعُ مياهِ فِسقَيَّةِ (الفسْقِيَّة: الحوض.) الأُسود المتَدَفِّقَة.
*140*
وسرتُ أتنقَّلُ أَطرافِ جَنَّةِ العريف، وهي جَوْسَقُ (الجَوْسَق: القَصر.) القصرِ الأكبرُ، يُصَوِّرُ ظاهِرَةَ بساطة الفنِّ الشرقيِّ حَديقةٌ كبيرةٌ مُستطيلةُ الشَّكْلِ، تَتَوَسَّطُها بركةٌ ضيِّقَةٌ ويَحُفُّ (يحف: يحيط.) بأحد أَطرافِها رُوَاقٌ مَكشوفٌ، ويُحيطُ بها وبالقصرِ بُستانٌ كبيرٌ لهُ سورٌ عالٍ فيه بابٌ كبيرٌ، ويَتَدَرَّجُ البُستانُ على ثلاث مناطقَ تعلو كلٌّ منها الأُخرَى ببضعةِ أمتارٍ يُصعَدُ إليها بوَساطَةِ أدراج من الرُّخامِ، في جوانِبِها نافوراتُ ماءٍ إذا فُتِحَتْ يَنْبَعِثُ منها الماءُ على شكلِ أَقْواسٍ من البِلَّورِ تنتهي إِلى وَسَطِ البُحيْرةِ بأنْغامٍ شَجِيّة.
وجَنَّةُ العريفِ مَلأى بأشجار الليمونِ والنارَنجِ (النارنج: ضرب من الليمون.)، وقد راقَ لي أن أَقْطِفَ نارَنْجَةً، فاحتفظتُ بهاا خلال الرِّحْلَةِ أَشُمُّ عَبَقَها (عبقها: طيبها.)، عَبَقَ تلكَ الجَنَّةِ التي أَنْشأها بنو الأحمرِ لتكونَ صورةً من فيحاءِ طَرابُلُسَ؛ وما تزالُ المعالِمُ والصُّوَرُ هي هي لم تتبدَّلْ مع مرور الزمان.
المصدر: كتاب في الربوع الأندلسية لسامي الكيالي
*141*
*141*
أبو القاسم الشابّي
شاعر عربي معاصر ولد في الشابّة الواقعة في جنوب تونس سنة 1909م.
تلقي ثقافته الاولى في الكُتّاب وعلى يدي والده الذي كان رئيساً لإِحدى المحاكم الشرعية، ثم تخرج في جامعة الزيتونة وفي كلية الحقوق. وتوفي سنة 1934 إثر مرض عضال ألَمَّ به. ترك ديوان شعرٍ حافلاً بالوصف والغزل والشعر القومي الوطني وله كتاب "الخيال الشعري عند العرب".
حل الشاعر ضيفاً بعين دراهم "من الشمال التونسي" مستشفياً.
وهناك فوق الطبيعة العذراء الساحرة والغابات الملتفة الهائلة، والجبال الشم المجللة بالسنديان قضى عهداً شعرياً، وادعاً، خالصاً للشعر، والسحر والأحلام. وفي القصيد التالي صورة صغيرة من صور الحياة بين تلك الجبال والأودية والغابات:
أقْبَلَ الصُّبْحُ جَميلاً، يَمْلاُ الأُفْقَ بَهَاهْ
فَتَمَطَّى الزّهْرُ، والطّيرُ، وَأَمْوَاجَ المِيَاهْ
قَدْ أَفاقَ العالَمُ الحَيُّ، وَغَنّى للحَيَاهْ
فَأفيقِي يَا خِرافي، وَهَلُمّي يا شِيَاهْ
وَاتْبَعيني يا شِياهي، بَيْنَ أسرابِ الطُّيُورْ (اسراب: حماعات.)
وَامْلَئي الوادِي ثُغَاءً، وَمِراحاً وَحُبُورْ
*142*
وَاسمَعي هَمسَ السَّواقِي، وانْشَقي عِطرَ الزُّهُورْ
وانُري الوادي، يُغَشِّيهِ الضّبابُ المُستَنِيرْ
واقطِفي مِنْ كَلإ الأرْضِ، وَمَرْعاها الجَديدْ (كَلأ: عشب.)
وَاسمَعي شَبّابَتي تَشْدُو، بِمَعسُول النّشيدْ
نَغَمٌ يَصْعَدُ مِنْ قَلبي، كأنفاسِ الوُرودْ
ثُمَّ يَسْمُو طائِراً، كالبُلبُلِ الشّادي السّعيدْ
وإذا جِئْنا إلى الغَابِ، وغَطّانَا الشّجَرْ
فَاقطِفي ما شِئْتِ مِنْ عُشبٍ، وَزَهْرٍ وَثَمَرْ
أرْضَعَتْهُ الشّمْسُ بالضّوْء، وَغَذّاهُ القَمَرْ
وَارْتَوَى مِنْ قَطَرَاتِ الطّلّ، في وَقتِ السَحَرْ
*143*
وَامرَحي ما شِئتِ في الوديانِ، أوْ فَوْقَ التّلالْ
وَارْبِضي في ظِلّها الوَارِفَ، إنْ خِفتِ الكَلالْ (الوارف: الممتد؛ الكلال: التعب.)
وَامضُغي الأعشابَ، وَالأفكَارَ في صَمتِ الظّلالْ
وَاسْمَعي الرّيحَ تُغنّي في شماريخِ الجِبَالْ(شماريخ: رؤوس.)
لَنْ تَمَلّي، يا خِرافي، في حِمى الغابِ الظّليلْ
فَزَمانُ الغابِ طِفلٌ، لاعِبٌ، عَذبٌ، جميلْ
وَزَمانُ النّاسِ شَيْخٌ، عابِسُ الوَجهِ، ثَقيلْ
يَتَمَشَّى في مَلالٍ، فَوْقَ هَاتِيكَ السّهُولْ
لكِ في الغابَاتِ مَرْعَاكِ، وَمَسْعَاكِ الجَميلْ
وَليَ الإنْشَادُ، وَالعَزْفُ إِلى وَقْتِ الأصيلْ
فَإذا طَالَتْ ظِلالُ الكَلإ، الغَضّ، الضّئيلْ
فَهَلُمّي نَرْجِعِ المَسعَى إلى الحَيّ النّبيلْ
المصدر: كتاب "الشابي" لعبد اللطيف شرارة
*144*
*144*
مي زيادة
أديبة لبنانية ولدت في الناصرة سنة 1895، وترعرعت في لبنان، حيث تهذبت،ثم نزحت إلى مصر مع ذويها.
لها آثار كثيرة منها "باحثة البادية"، "كلمات واشارات"، "ظلمات وأشعة" و "المساواة".
توفيت الاديبة سنة 1941.
طائِرٌ صغيرٌ نَسَجَتْ (نسجت: حاكت.) أشعةُ الشمسِ ذهبَ جناحَيْهِ، وانحنى الليلُ عليهِ فتركَ منن سوادِهِ قُبْلَةً في عينيهِ. ثم سَطَتْ (سطت عليه: وثبت عليه وقهرته.) عليهِ يدُ الإِنْسانِ، فَضيَّقتْ دائرَة فضائهِ، وَسَجَنَتْهُ في قفصٍ كان بيتَهُ في حياتِهِ وَنَعْشَهُ في مماتِهِ.
طائرٌ صغيرٌأَحبَبْتُهُ شهوراً طِوالاً. غَرَّدَ لٍكَآبَتي فأطرَبَها وآنسَ وحشتي (الوحشة: الخَلْوَة والانقباض.)، وغنَّى لقلبي فأرقَصَهُ وملأَ وَحْدَتي ألحاناً.
في الصباحِ كنتُ أفتحُ عينيَّ فيَسْتقبلُني بالغناءِ، وتَسِيلُ موسيقى ألحانهِ على قَلْبي فَتُسْكِرُهُ. كنتُ أجلسُ للدرسِ والكتابَةِ فَتَشْمَئِزُّ نفسي أحياناً من الكتبِ، ويَثْقُلُ قلمي في يدي، فيأخذُ كَنارِيَّ في الوقزقةِ، وتأتي جماعةُ طيرِ من الخارجِ وتضُمُّ تغريدَها إِلى تغريدِهِ، فتبتسمُ الأَفكارُ على صفحاتِ الكتبِ أمامَ ناظِرَيَّ، ويَتَمايَلُ اليَراعُ (اليراع: القلم.) بين أَنامِلي تمايُلَ الصَّفصافِ بقُرْبِ الغديرِ، وتنجلي الغيومُ عن فؤادي وتَطْرَبُ رُوحي.
*145*
وفي المساءِ كانَ يصمُتُ الكَنارِيُّ إِجلالاً للظلامِ فيُخِفي رأسَهُ بينَ جناحَيْهِ.
والآنَ أَنْظُرُ إِلى القفصِ، لقَدْ صَمَتَ الطائِرُ المغَرِّدُ، ماتَ الصغيرُ المغرِّدُ، ماتَ قبلَ غروبِ الشمسِ وقبلَ انقضاءِ الربيعِ، ولم يَبْقَ في نَفسِي إلا أَثَرٌ من ذلكَ اللحنِ البديعِ.
المصدر: كتاب ميّ زيادة اعبد اللطيف شرارة
*146*
*146*
*147*
جبران خليل جبران
أديب لبناني ولد في بشراي 1883، عاش في المهجر، حيث اتخذ له مقراً في حي قديم من أحياء نيويورك.
وفي سنة 1920 انتخب عميداً للرابطة القلمية.
وفي سنة 1923 طبع كتابه "النبيّ" باللغة الإنكليزية.
ومن آثاره أيضا "العواصف"، "دمعة وابتسامة"، آلهة الأرض" و "السابق"... توفي عام 1931 وَأُعيد جثمانه لمسقط رأسه في لبنان.
كانَ في أحدِ المروجِ نَعْجَةٌ وحَمَلٌ يرعيانِ.
وكانَ فَوْقَهما في الجوِّ نَسْرٌ يحومُ ناظِراً إِلى الحملِ بعَيْنٍ جائِعَةٍ يَبْغِي افتراسَهُ. وبينما هو يهمُّ بالهبوطِ لاقتناصِ (اقتناص: صيد.) فريستِهِ، جاءَ نسرٌ آخَرُ، وبدأَ يرفرفُ فوقَ النعجةِ وصغِيرِها وفي أعماقِهِ جَشعُ (جشع: طمع.) زميلِهِ. فتلاقَيَا وتقاتلا حتى مَلأَ صُراخُهما الوحشيُّ أطرافَ الفضاءِ.
فرَفَعتِ النعجةُ نظرَها إليهما مذهولةً (مذهولة: مدهوشة)، والتفَتَتْ إِلى حَمَلِها وقالَتْ لهُ: تأَمَّلْ يا ولدِي، ما أَغْرَبَ قِتالَ هذَيْنِ الطائِرَيْنِ الكبيرين ! أَوَلَيْسَ من العارِ عليهما أن يتقاتلا، وهذا الجوُّ الواسِعُ كافٍ لِكِلَيْهما ليَعيشا مُتَسَالِمَيْنِ؟ ولكنْ صَلِّ يا صغيري، صلِّ في قَلْبِكَ إِلى اللهِ لكيْ يُرسِلَ سلاماً إِلى أَخَوَيْكَ المُجَنَّحَيْنِ."
فصَلَّى الحَمَلُ من أعماقِ قَلْبِهِ!
المصدر: كتاب "السابق" لجبران
*148*
*148*
يا نَهْرُ هَلْ نَضَبَتْ (نَضَبَتْ: جَفَّتْ.) مِياهُكَ فانْقَطَعْتَ عَنِ الْخَريرْ؟
أَمْ قَدْ هَرِمْتَ (هَرِمْتَ: شِخْتَ؛ خار عزمك: ضعفت قوتك.) وَخارَ عَزْمُكَ فَانْثَنَيْتَ عَنِ الْمَسِيرْ؟
بِالْأَمْسِ كَنْتَ مُرَنِّماً بَيْنَ الْحدائِقِ وَالزُّهُورْ
تَتْلُو عَلَى الدُّنْيا وَما فِيها أَحاديثَ الدُّهُورْ
بِالْأَمْسِ كُنْتَ تَسِيرُ لا تَخْشَى الْمَوانِعَ في الطَّرِيقْ
وَالْيَوْمَ قَدْ هَبَطَتْ عَلَيْكَ سَكِينَةُ اللَّحْدِ الْعَمِيقْ
بِالْأَمْسِ كُنْتَ إِذا أَتَيْتُكَ باكِياً سَلَّيْتَننِي
وَلْيَوْمَ صِرْتَ إِذا أَتَيْتُكَ ضاحَكاً أَبْكَيْتَنِي
بِالْأَمْسِ كُنْتَ إِذا سَمِعْتَ تَنَهُّدِي وَتَوَجُّعِي
تَبْكِي، وَها أَبْكِي أَنا وَحْدِي وَلا تَبْكِي مَعِي!
ما هذِهِ الْأَكْفانُ؟ أَمْ هذي قُيُودٌ مِنْ جَلِيدْ
قَدْ كَبَّلَتْكَ (كبلتك: قيدتك.) وَذَلَّلَتْكَ بِها يَدُ الْبَرْدِ الشَّدِيد؟
*149*
(صورة في الكتاب)
*150*
ها حَوْلَكَ الصَّفْصافُ لا وَرَقٌ عَلَيْهِ وَلا جَمالْ
يَجْثُو كَئِيباً كُلَّما مَرَّتْ بِهِ رِيحُ الشَّمالْ
وَالْحَوْرُ يَنْدُبُ فَوْقَ رَأْسِكَ ناثِراً أَغْصانَهُ
لا يَسْرَحُ الحَسُّونُ فيهِ مُرَدِّداً أَلْحانَهُ
تَأْتِيهِ أَسْرابٌ مِنَ الْغِرْبانِ تَنْعَقُ في الْفَضَا
فَكَأَنَّها تَرْثِي شَباباً مِنْ حَياتِكَ قَدْ مَضَى
وَكَأَنَّها في نَعْيِها عِنْدَ الصَّباحِ وَفِي الْمَساءْ
جَوْقٌ تُشَيِّعُ جِسْمَكَ الصَّافِي إِلى دارِ الْبَقاءْ
لكِنْ سَيَنْصَرِفُ الشِّتَا، وَتَعُودُ أَيَّامُ الرَّبِيعْ
فَتَفُكَّ جِسْمَك مِنْ عقالٍ مَكَّنَتْهُ يَدُ الصَّقِيعْ (عقال: وثاق؛ مكنته: ثبتته؛ الصقيع: الجليد.)
وَتَكُرُّ مَوْجَتُكَ النَّقِيَّةُ حُرَّةً نَحْوَ الْبِحارْ
حُبْلَى بِأَسْرارِ الدُّجَى، ثَمْلَى بِأَنْوارِ النَّهارْ
وَتَعُودُ تَبْسِمُ إِذْ يُلاطِفُ وَجْهَكَ الصَّافِي النَسِيمْ
وَتَعُودُ تَسبَحُ فِي مِياهِكَ أَنْجُمُ اللَّيْلِ الْبَهِيمْ (البهيم: المظلمم.)
*151*
وَالْبَدْرُ يَبْسُطُ مِنْ سَماهْ عَلَيْكَ سِتْراً مِنْ لُجَيْنْ
وَالشَّمْسُ تَسْتُرُ بِالْأَزْاهِرِ مَنْكِبَيْكَ الْعارِيَيْنْ
وَالْحَوْرُ يَنْسَى ما اعْتَرَاهُ (اعتراه: أصابه.) مِنَ الْمَصائِبِ وَالْمِحَنْ
وَيَعُودُ يَشْمَخُ أَنْفُهُ وَيَمِيْسُ مُخْضَرَّ الْفَنَنْ (الفنن: الغصنْ.)
وَتَعُودُ لِلصَّفْصافِ بَعْدَ الشَّيْبِ أَيَّامُ الشَّبابْ
فَيُغَرِّدُ الْحَسُّونُ فَوْقَ غُصُونِهِ بَدَلَ الْغُرابْ
قَدْ كانَ لِي يا نَهْرُ قَلْبٌ ضاحِكٌ مَثْلُ المُرُوجْ
حُرٌّ كَقَلْبِكَ فِيهِ أَهْوَاءٌ وَآمالٌ تَمُوجْ
قَدْ كانَ يُضْحِي غَيْرَ ما يُمْسِي وَلا يَشْكُو الْمَلَلْ
وَالْيَوْمَ قَدْ جَمَدَتْ كَوَجْهِكَ فِيهِ أَمْواجُ الْأَمَلْ...
فَتَساوَتِ الْأَيَّامُ فيهِ: صَباحُها وَمَساؤُها
وَتَوازَنَتْ فِيهِ الْحَياةُ: نَعِيمُها وَشَقاؤُها
سِيّانِ فِيهِ غَدَا الرَّبِيعُ مَعَ الْخَريفِ أَوِ الشِّتاءْ
سِيّانِ نَوْحُ الْبائِسِينَ، وَضِحْكُ أَبْناءِ الصَّفاءْ
*152*
نَبَذَتْهُ ضَوْضاءُ الْحَياةِ فَمالَ عَنْها وَانْفَرَدْ
وَغَدَا جَماداً لا يَحِنُّ وَلا يَمِيلُ إِلى أَحَدْ
وَغَدَا غَرِيباً بَيْنَ قَوْمٍ كانَ قَبْلاً مِنْهُمُ
وَغَدَوْتَ بَيْنَ النَّاسِ لُغْزاً فِيهِ لُغْزٌ مُبْهَمُ...
يا نَهْرُ! قَلْبِي أَراهُ كَما أَراك مُكَبَّلاً
وَالْفَرْقُ أَنَّكَ سَوْفَ تَنْشَطُ مِنْ عِقالِكَ، وَهْوَ.. لا
المصدر: ديوان همس الجفون لميخائيل نعيمة
*153*
*153*
ألف ليلة وليلة
هو كتابٌ يحوي مجموعةً من الحكايات التي تدور على الخرافات والاساطير مرة، وعلى الحكايات الواقعية التي ضمنها الخيال الى ابعد الحدود مرة أخرى. أساسُ المتاب هندي وهو يتناول قصصا كانت شهرزاد ابنة الوزير تقصُّها على الملكِ شهريار. وقد عرف العرب هذا الكتاب ونقلوه إلى لغتهم منذ القرن التاسع الميلادي، ولكنهم أضافوا إليه كثيراً من الأصول اليونانية والعربية، وربما كان القسم البغدادي، وفيه اخبار هارون الرشيد، امتع الأقسام وأكثرها تصويراً لحياة بغداد آنذاك.
كانَ أبي مِنْ كِبارِ تُجارِ بَغْدادَ. فَلَمَّا ماتَ تَرَكَ لي مالاً وعَقاراً (عقار: موادّ ثابتة مثل الأراضي والدور.). وكُنْتُ حينَئِذٍ وَلَداً صَغيراً فَلَمَّا كَبِرْتُ أخَذْتُ أُنْفِقُ عَلى نَفْسي وعَلى أصْحابي مِنْ ها المالِ الَّذي لَمْ أتْعَبْ في جَمْعِهِ أقَلَّ تَعَبٍ، وقَدْ أكَلْتُ أكْلاً مَليحاً، وَشَرِبْتُ شُرْباً مَليحاً، وعاشَرْتُ الْأَصحابَ وأنا أُنْفِقُ دونَ أنْ أُفَكِّرَ في عَواقِبِ هذا الْإِسْرافِ.
ثُمَّ إنِّي وَجَدْتُ في أحَدِ الْأَيَّامِ أنَّ مالي قَدْ مالَ، وحالي قَدْ حالَ، وذَهَبَ جَمِيعُ ما كانَ مَعي، فَخِفْتُ مِنْ هذِهِ الْعاقِبَةِ. وَكُنْتُ قَدْ سَمِعْتُ سابِقاً أقْوالَ سَيِّدِنا سُلَيْمانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ – فَتَذَكَّرْتُ مِنْها قَوْلَهُ: ثَلاثَةٌ خَيْرٌ مِنْ ثَلاثَةٍ: يَوْمُ المَماتِ خَيْرٌ مِنْ يَوْمِ الْوِلادةِ، وَكَلْبٌ حَيٌّ خَيْرٌ مِنْ أسَدٍ مَيْتٍ؛ والقَبْرُ خَيْرَ مِنَ الْقَصْرِ.
ثُمَّ عَزَمْتُ عَلى السَّفَرِ، فَبِعْتُ كُلَّ ما بَقِيَ عِنْدي مِنْ مَتاعٍ (متاع: جمع أمتعة - ملابس.)، واشْتَرَيْتُ بِثَمَنِهِ بَضائِعَ أتَّجِرُ بِها، وسافَرْتُ مَعَ جَماعَةٍ مِنَ التُّجَّارِ مِنْ مَدِينَةِ بَغْدادَ
*154*
حَتَّى وَصَلْنا إِلى مدينةِ الْبَصْرَةِ حَيْثُ أُقْلِعَتْ بِنا سَفِينَةٌ كَبِييرَةُ مَعَ جَماعًةٍ مِنَ التُّجَّارِ.
وقَدْ مَرَرْنا بِجَزيرَةٍ بَعْدَ جَزيرَةٍ، وَعَبَرْنا مِنْ بَحْرٍ إِلى بَحْرٍ ومِنْ بَرٍّ إِلى بَرٍّ. كُلِّ مَكانٍ مَرَرْنا بِهِ كُنَّا نَبيعُ ونَشْتَري.
وبَيْنَما نَحْنُ في عُرْضِ الْبَحْرِ رَأيْنا جَزيرَةً كَأَنَّها رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الْجَنَّةِ، فَاقْتَرَبْنا مَنْها، ونَزَلَ جَميعُ مَنْ كانوا في السَّفينَةِ إِلى الْجَزيرَةِ، وأوقَدوا النَّارَ. وَاخْتَلَفَتْ أَشْغالُ النَّاسِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ يَطْبُخُ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَدَأ يَغْسِلُ؛ ومِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ يَتَفَرَّجُ. وكُنْتُ أنا مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَفَرِّجِينَ في جَوانِبِ الْجَزيرَةِ؛ وقَدِ اجْتَمَعَ الرُّكَّابُ عَلى أكْلٍ وشُرْبٍ ولهْوٍ ولَعِبٍ.
وبَيْنَما نَحْنُ عَلى هذِهِ الْحالَةِ اهْتَزَّتِ الْجَزيرَةُ اهْتِزازاً عَنيفاً، فَصَرَخْنا مِنَ الْخَوْفِ، وصاحَ رُبَّانُ السَّفينَةِ بَأَعْلَى صَوْتِهِ: يا رُكَّابُ ! أسْرِعوا إِلى السَّفينَةِ، وخَلِّصوا أنْفُسِكُمْ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بَكُمْ مُصيبَةٌ عَظيمَةٌ...". ولَمْ يَكَدْ يُتِمُّ كَلامَهُ حَتَّى تَحَرَّكَتِ الْجَزيرَةُ حَرَكَةً عَنيفَةً ثانِيَةً، فَأَسْرَعَ إِلى السفينَةِ مَنْ كانَ قَريباً مِنْها فَنَجا، وغَرِقَ مَنْ كانَ بَعيداً عَنِ السَّفينَةِ.
ولَمْ تَكُنْ هذِهِ جَزيرَةً، وإِنَّما كانَتْ سَمَكَةً كَبيرَةً، نائِمَةً عَلى الْماءِ زَمَناً طَويلاً، فَبَنَى عَلَيْها الرَّمْلُ، فَصارَتْ مِثْلَ الْجَزيرَةِ، وقَدْ نَبَتَتْ عَلَيْها الْأَشْجارُ، فَلَمَّا أوْقَدنا النَّارَ أحَسَّتْ بِالسُّخونَةِ فَتَحَرَّكَتْ وغاصَتْ في الْبَحْرِ.
*155*
أمّا أنا فَكُنْتُ مِنْ جُمْلَةِ الَّذينَ تَخَلَّفوا عَلى الْجَزيرَة، لِأَنِّي كَنْتُ بَعيداً عَنِ السَّفينَةِ، فَلَمْ أتَمَكَّنْ مِنَ الوُصولِ إِلَيْها، فَوَقَعْتُ في الْبَحْرِ مَعَ جُمْلَةِ مَنْ وَقَعوا بَيْنَ الْأَمْواجِ.
وقَدْ رَأيْتُ الرُّبَّانَ (الربان: قائد السفينة.) يَنْشُرُ قِلاعَ السَّفينَةِ، فَنادَيْتُ بِأعْلى صَوْتي، فَلَمْ يَسْمَعْني أحَدٌ، ثُمَّ أخَذَتِ السَّفينةُ تَخْتَفي عَنِّي.
وكانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّي أنِّي رَأيْتُ لَوْحاً مِنَ الْخَشَبِ قَريباً مِنِّي، فَأمْسَكْتُهُ بِيَدِي، وَرَكِبْتُهُ. وهكَذا خَلَّصَني اللهُ مِنَ الغَرَقِ، إِلاّ أنَّ الْأَمْواجَ كانَتْ تَلْعَبُ بي يَميناً وشِمالاً. وأظْلَمَ اللَّيْلُ، وأنا عَلى تِلْكَ الْحالَةِ بَيْنَ الْأَمْواجِ الْهائِجَةِ، والْغَرَقُ يُهَدِّدُني في كُلِّ لَحْظَةٍ.
وبَقِيتُ عَلى هذِهِ الْحالَةِ طولَ اللَّيْلِ، حَتَّى إِذا أصْبَحَ الصَّباحُ قَذَفَتْني الْأَمْواج إِلى شاطِئِ جَزيرَةٍ كَبيرَةِ بَيْنَ الرِّمالِ والصُّخورِ...
المصدر: ألف ليلة وليلة
*156*
*156*
ابن بطوطة
ولد في طنجة بمراكش سنة 1304، وقام بثلاثث رحلات استغرقت 29 سنة، زار في خلالِها مصرَ والشامَ والحجازَ والعراقَ وبلادَ العَجَمِ وجنوبَ بلادِ العرب، وافريقيا الشرقيةَ.وبلادَ آسيا الصغرى، وفارَسَ والهندَ والصينَ والبنغال والهندَ الأقصَى. وهو دقيقُ الملاحظةِ فَكِهُ الأسلوبِ. لَهُ "تُحفةُ النظارِ في غرائبِ الأَمصارِ وعجائبِ الأَسفارِ" المعروفةُ بِ "رحلة ابنِ بَطوطَةَ". توفي سنة 1377م.
وَأَهْلُ الصين أعظَمُ الأُمَمِ إِحْكاماً لِلصِناعاتِ وأشَدُّهُمْ إِتْقاناً فِيها، وذلكَ مَشْهورٌ مِنْ حالِهِمْ، قَدْ وَصَفَهُ النَّاسُ في تَصانيفِهِمْ فَأَطْنَبوا (أطنبوا فيه: توسّعوا.) فيهِ.
وَأَمَّا التَّصويرُ فلا يُجاريهِم أَحَدٌ في إِحْكامِهِ مِنَ الروم وَلا مِنْ سِواهُمْ فَإِنَّ لَهُمْ فيهِ اقْتِداراً عَظيماً. وَمِنْ عَجيبِ ما شاهَدْتُ لَهُمْ مِنْ ذلكُ أنّي ما دخَلْتُ قَطُّ مَدينَةً مِنْ مُدُنِهِمْ ثم إِلَيْها إلاّ ورَأيْتُ صورَتي وَصُوَرَ أصحابي مَنْقوشَةً في الحِيطانِ والكَواغِدِ (كواغد: مفردها كاغد أي القرطاس.) موضوعةً في الأَسْواقِ. وَلَقَدْ دَخَلْتُ إِلى مَدينَةِ السُّلطانِ فَمَرَرْتُ عَلى سُوقِ النَّقَّاشينَ وَوَصَلْتُ إِلى قَصْرِ السلطانِ مع أصحابي ونَحنُ عَلى زِيِّ العِراقِيّينَ، فَلَمَّا عُدْتُ مِنَ القَصْرِ عَشِيًّا مَرَرْتُ بَالسُّوقِ المَذكورَةِ فَرَأيْتُ صُورَتي وَصَورَةَ أصحابي مُنقوشَةً في كاغدٍ قَدْ أَلْصَقوهُ بِالْحائطِ، فَجَعَلَ كُلُّ واحِدٍ مِنّأ ينظُرُ إِلى صورَةِ صاحِبِهِ لا تُخْطِئ شَيْئاً مِنْ شَبَهِهِ وَذُكِرَ لِي أَنَّ السلطانَ أَمَرَهُمْ بَذلك، وأَنَّهُمْ أَتَوْا إِلى قَصْرٍ وَنَحنُبِهِ فَجَعَلوا يَنْظُرُونَ إلَيْنا وَيُصَوِّرُونَ صُوَرَنا وَنَحْنُ لَمْ نَشْعُرْ بذلكَ، وتلكَ عادَةُ لَهُمْ في تَصْويرِ كُلِّ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ وَتَنْتَهي حالُهُمْ في ذلكَ إِلى أَنَّ الغَريبَ إذا فَعَلَ ما يوجِبُ فِرارَهُ عنهم بَعَثوا صورَتَهُ إِلى البِلاد وَبُحِثَ عَنْهُ
*157*
فَحَيْثُما وُجِدَ شَبَهُ تِلكَ الصورةِ أُخِذَ.
وَمغاصُ الْجَوْهَرِ فيما بَيْنَ سِيرافَ والبَحْرَينِ في خَوْرٍ (الخور: المنخفض من الأرض.) راكِدٍ مِثْلِ الوادي العَظيمِ، فَإِذا كانَ شَهْرُ إبريلَ وشهرُ مايو تأتي إليهِ القوارِبُ الكَثيرَةُ فيها الْغوَّاصونَ وَتُجَّارُ فارِسَ والبَحْرَيْنِ وَالقَطيفِ، وَيَجْعَلُ الغَّواصُ على وَجْهِهِ مَهْما أرادَ أن يغوصَ شَيْئاً يَكْسُوهُ مِنْ عَظْمِ الغَيْلَم وَهِيَ السُّلَحْفاةُ، وَيَصْنَعُ مِنْ هذا العَظْمِ أيضاً شَكْلاً شِبْهَ المِقْراضِ (المقراض: ما يقرض به الثوب أي يقطع.) يَشُدُّهُ على أَنْفِهِ، ثُمَّ يَرْبِطُ حَبْلاً في وَسَطِهِ ويغوصُ، وَيَتَفاوَتونَ في الصَّبْرِ في الماءِ، فَمِنْهَمْ مَنْ يَصْبِرُ السَّاعةَ والساعتَيْنِ فَما دونَ ذلكَ، فَإِذا وَصَلَ إِلى قَعْرِ البَجرِ يَجِدُ الصَّدَفَ هُنالِكَ فيما بَيْنَ الأحجارِ الصِّغارِ مُثَبَّتاً في الرملِ فَيَقْتَلِعُهُ بِيَدِهِ أَوْ يَقْطَعُهُ بِحَديدَةٍ عَنْدَهُ مُعَدَّةٍ لِذلِكَ وِيَجْعَلُها في مِخْلاةِ جِلْدٍ مَنُوطَةٍ (منوطة: معلّقة.) بَعُنُقِهِ.
فَإِذا ضاقَ نَفَسُهُ حَرَّكَ الحَبْلَ فَيُحِسُّ بِهِ الرجُلُ المُمْسِكُ لِلْحَبْلِ على الساحِلِ، فَيَرْفَعُهُ إِلى القارِبِ فَتُؤْخَذُ مِنْهُ المِخْلاةُ وَيُفْتَحُ الصَّدَفُ فَيُوجَدُ في أَجْوافِها قِطَعُ لَحْمٍ تُقْطَعُ بِحَدِيدَةٍ، فَإِذا باشَرَتِ الْهَوَاءَ جَمَدَتْ فَصارَتْ جَواهِرَ، فَيَجْمَعُ جَميعُها مِنْ صَغيرٍ وَكَبيرٍ، فيأخُذُ السلطانُ خُمْسَهُ والباقي يَشْتَريهِ التُّجَّار الحاضِرونَ بتلكَ القوارِبِ، وَأَكْبَرُهُمْ يَكونُ لَهُ الدَّيْنُ على الغوّاصينَ فَيَأْخُذُ الجَوْهَرَ في دَيْنِهِ.
المصدر: تحفة النظار في عجائب الأسفار
لابن بطوطة
*158*
*158*
أبو فراس الحمداني
عاش في القرن العاشر الميلادي، في عصر الامير سيفِ الدولةِ، الذي أقام في مدينة حلب بشمال سوريا. حارب مع سيف الدولة ضد البيزنطيين.
وقد وقع في الأسر. وفي أَسْرِهِ نظم مجموعةً من القصائدِ عُرِفَتْ ب "الروميات"، عَبَّرَ فيها عن شَوْقِهِ وَحَنِينِهِ لِلرُّجوعِ إِلى أرضِ الوطنِ.
أُطْلِقَ سَراحُهُ بعد سبع سنوات من الأسر. وبعد وفاة الأميرِ سيف الدولة الحمداني، أراد التغلّبَ على مدينة حمص، فأرسل إليه أبو المعالي بن سيف مِنَ الرجال مَنْ قاتَلَهُ، فَجُرِحَ أبو فراس، وتوفي إِثْرَ ذلك عام 968م.
أقول وقد ناحت بقربي حمامةٌ أيا جارتا، هل تشعرين بحالي
معاذَ الهوى! ما ذُقتِ طارقةَ النوى ولا خطرتْ منكِ الهمومُ ببالِ! (معاذ الهوى: أي أعصم الهوى وأحفظه منك.)
أتحملُ محزونَ الفؤادِ قوادمٌ على غصنٍ نائي المسافةِ عالِ (القوادم: كبار الريش في جناح الطائر.)
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالَيْ أُقاسِمْك الهمومَ، تعالِي!
تعالَيْ ترَيْ روحاً لديّ ضعيفةً، تَرَدَّدُ في جسمٍ يعذَّبُ بالِ!
أيضحك مأسورٌ، وتبكي طليقةٌ ويسكتُ محزونٌ، ويندب سالِ؟
لقد كنت أولى منكِ بالدمع مُقلةً ولكنّ دمعي في الحوادثِ غالِ!
المصدر: ديوان أبي فراس الحمداني
*159*
الحيوانات المرضى بالطاعون
أحمد شوقي
(الحيوانات مجتمعة حول الأسد في غابة)
الاسد:
نَحْنُ اجْتَمَعْنَا ها هُنا حَتَّى نَرَى فِي أَمْرِنَا
حَلَّ بنَا الطَّاعُونُ أَلْمَرَضُ الْمَلْعُونُ
بُعْداً لَهُ مِنْ دَاءِ مُسْتَصْعَبِ الشِّفاءِ!
وَقَدْ رَوَوْا أَنَّ السَّلفْ قِدْماً أَسَرُّوا لِلخَلَفْ
أَنَّ الوَبَاءَ يَقْرُبُ مِنْ كُلِّ قَوْمٍ أَذْنَبُوا، (الوباء: المرض العام.)
لِكنَّهُمْ إِنْ أَعْرَضُوا عَنْهُ، يَزُولُ الْمَرَضُ (أعرض عن شيء: مال عنه وتركه. والإعراض هنا عن الذنب.)
فَلْنَعْتَرِفْ بِمَا بَدَرْ مِنَّا وَمَا عَنَّا اسْتَتَرْ
ثُمَّ نُضَحِّي الْمُفْسِدَا وَمَنْ عَلَى الْخَلْقِ اعْتَدَى
النمر:
هذَا هُوَ الرَّأْيُ الصَّوَابُ،
الثعلب:
يَعِيشُ مَوْلاَنَا الْأَسَدْ!
كُلٌّ سَيُبْدِي رَأْيَهُ لِيَرُدَّ عَنْ أَهْلِ الْبَلَدْ
الاسد:
فَإِلَيْكُمْ يَا قَوْمُ رَأَيِي، إِنَّهُ الرَّأَيُ الصَّرِيحْ،
*160*
كَمْ مِنْ قَتِيلٍ قَدْ تَرَكْتُ عَلَى الْفَلاَةِ وَمِنْ جَرِيحْ!
وَتَرَكْتُ خَلْفَهُمْ نِسَاءً، عِنْدَ أَيْتَامٍ تَصِيحْ !
هَلْ تَحْسِبُونِيَ مُذْنِباً؟
الثعلب:
لاَ، أَنْتَ أَهْلٌ لِلمَدِيحْ،
أُقْتُلْ جَمِيعَ النَّاسِ، يَا مَلِكَ الْوُحُوشِ لِنَسْتَريحْ
النمر:
أَمَّا أَنَا فَلَقَدْ نَشَرْتُ عَلَى جَمِيعِ الْأَرْضِ خَوْفاً،
أَمْضِي إِذَا نَزَلَ الظَّلاَمُ، فَأّخْطَفُ الْأَطْفالَ خَطْفَا،
وَلَكَمْ أَتَيْتُ مَظَالِماً لاَ أَسْتَطِيعُ لَهُنَّ وَصْفَا
هَلْ تَحْسِبُونِيَ مُذْنِباً،
الثعلب:
كَلاَّ: فَفَضْلُكَ لَيْسَ يَخْفَى
الذئب:
أَنَا إِنْ خَرَجْتُ إِلى الْحُقُولِ، وَكَانَتْ الدُّنْيَا ظَلاَمَا،
وَرَأَيْتُ أَشْخَاصاً كثَاراً، رُحْتُ أَلْتَمِسُ السَّلاَمَا، (ألتمس: أطلب.)
لكنْ إَذا أَبْصَرْتُهُمْ مُتَفَرِّقِينَ غَدَوْا عِظَامَا،
هَلْ تَحْسبُونيَ مُذْنِباً،
الثعلب:
لاَ، والَّذِي خَلَقَ الْأَنَامَا (الأنام: الناس، الخلق.)
*161*
الدبّ: أنّي أُغِيرُ عَلَى الْمَزَارِعِ، آكِلاً أَثْمَارَهَا، (أغار على الشيء: هجم.)
وَإِذَا مَرَرْتُ بِقَرْيَةٍ خَنَقَتْ يَدَايَ صِغارَهَا
وَأَفِرُّ إِننْ بَدَتِ السُّيُوفُ وَأَتَّقِى أَخْطَارَهَا،
هَلْ ذَاكَ فِيَّ مَذَمَّةٌ؟
النمر:
حَاشَاكَ أَنْ تَخْتَارَهَا!
الثعلب:
شَرُّ الْمَنَارِلِ لِلْفَتَى مَا لَيْسَ يَنْفَعُ أَوْ يَضُرُّ
إِنَّ الشُّجَاعَ إِذَا رَأَى خَطَراً يُحِيطُ بِهِ يَفِرُّ
(ملتفتاً إلى الحمار)
وَالْآنَ مَا لَكَ ييَا حِمَارُ لَزِمْتَ صَمْتَكَ مُسْتَرِيحَا؟
ذِي سَكْتَةُ الْجَانِي يَخَافُ إِذَا تَكَلَّمَ أَنْ يَبُوحَا (الجاني: المذنب.)
الذئب:
مَاذَا جَنَيْتَ؟
الدب:
وَمَا ارْتَكَبْتَ؟
الاسد:
وَهَاتِ رَأيَكَ لِي صَرِيحَا
الحمار:
أَنَا مَا جَنَيْتُ وَلَسْتُ أَذْكُرُ أَنَّ لِي عَمَلاً قَبِيحَا
*162*
الثعلب:
إِخْرَسْ!
الذئب:
مَتَى أَصْبَحْتَ يَا أَدْنَى الْوَرَى فَطِناً فَصِيحَا
الاسد:
دَعْهُ يَقُولُ لَعَلَّ فِي أَقْوَالِهِ رَأياً صَحِيحَا
الحمار:
قَدْ كُنْتُ يَوْماً جائِعاً
(تبدأ الوحوش تزأر بصوت منخفض ولكنه مسموع)
واللَّيْلُ يُوشِكُ أَنْ يَلُوحَا؟
وَالْأَرْضُ تَبْعَثُ حَرَّهَا وَيَكَادُ جِسْمِي أَنْ يَسُوحَا، (ساح يسيح: يذوب.)
فَمَرَرْتُ قُرْبَ الدَّيْرِ أَشْكُو فِي الْفُؤَادِ لَهُ جَرُوحَا،
وَتَكَادُ رِجْلِي أَنْ تَزِلَّ وَكَادَ جَفْنِي أَنْ يَنُوحَا،
فَوَجَدْتُ عُشْباً ذَابِلاً فِي بَعْضِ سَاحَتِهِ طَرِيحَا
وَتَمَثَّلَ الشَّيْطَانُ يُغْرِينِي وَيَبْدُو لِي نَصِيحَا
الثعلب:
أَأَكَلْتَ مِنْهُ؟
الحمار:
نَعَمْ أَكَلْتُ
النمر:
قَدِ اعْتَرَفْتُ!
*163*
الذئب:
كُنِ الذَّبِيحَا!
الثعلب:
إِنِّي سَأَرْجِعُ لِلشَّرِيعَةِ كَيْ أَرَى النَّصَّ الصَّرِيحَا
(يفتح كتاباً ويقلب صفحاته، يقرأ(
"مَنْ مَسَّ مَالَ الْوَقْفِ، فِي قَانُونِنَا، دَمُهُ أُبِيحَا"
(الاسد ينهض اليعطي الحكم)
هذَا الَّذي جَلَبَ الْوَبَاءَ بِأَكْلِهِ مَالَ الصَّوَامِعِ وَاسْتَحَلَّ دِمَاءَنَا
فَخُذُوا احْرُقُوهُ، وَاجْعَلُوا مِنْ جِسْمِهِ لِلهِ قُرْبَاناً يَكُونُ شِفاءَنَا
النمر:
هَيَّا!
الاسد:
اسْحَبُوهُ!
الذئب:
ااخْرُجْ بِنَا!
الدب:
هَيَّا بِنَا!
النمر:
لاَ عَاشَ شَخْصٌ لاَ يُرِيدُ هَنَاءَنَا
الثعلب:
إِنَّ الْفَتَى إِنْ كَانَ ذَا بَطْشٍ، مَسَاوِئُهُ شَرِيفَهْ
*164*
لكِنْ إِذَا كَانَ الضَّعِيفَ، فَإِنَّ حُجَّتَهُ ضَعِيفَهْ
(يخرج)
المصدر: كتاب الجديد في الادب العربي لحنا الفاخوري
*165*
*165*
جون هوك
مَكانَةُ الثعابينِ في العالمِ:
تَبْدُو الثعابينُ دائماً على شيءٍ من الغَرابَةِ والغُموضِ، ولا شَكَّ في ذلك طَبْعاً. ولَعَلَّ السَّبَبَ في هذا شَكْلُها الغَريبُ وطَريقَتُها الساحِرةُ في الزحفِ، أو رُبَّما صَمْتُها التامُّ، فَهِيَ تَنْزَلِقُ بسُرْعَةٍ وبهُدوءٍ في طُرُقاتِنا وَلَيْسَ لَها صَوْتٌ كَأَغلَبِ الطيورِ، أَو عُواءٌ كَكَثيرٍ مِنَ الحَيواناتِ البرّيّةِ، أو قَدْ يَكونُ السبَبُ أَنَّها في عُزْلَةٍ تامَّةٍ وَعِيشَةٍ مُستَقِلَّةٍ، فَكُلُّ ثُعْبانٍ يَعيشُ مُعْتَمِداً على نَفسِهِ منذُ اليومِ الأوّلِ في طُفولَتِهِ. فَهُوَ لا يُنْشئ مَسْكَناً يُكَوِّنُ فيهِ أُسْرَةً أبَداً، كَما تَفْعَلُ مُعْظَمُ الطيورِ والحَيواناتِ. هذا طَبعاً بالإِضافَةِ إِلى أَنَّ بَعْضَ الثَّعابينِ سامٌّ؛ ممَّا يَدْفَعُ النّاسَ إِلى خَشْيَتِها كُلِّها حَتَّى غَيْرِ الضّارِّ مِنْها.
*166*
وَكُلَّما أَرَدْنا معرفةً بالثعابينِ، أَدْرَكْنا أَنَّهُ لا يَكْتَنِفُها (يكتنفها: يحيطها.) في حَقيقةِ الأَمْرِ غُموضٌ، فَأَغلَبُ الثعابين لَيسَ ضارًّا، وكثيرٌ مِنْها لَهُ قِيمَةٌ. وَلا يَخْلُو كُلُّها مِنْ وَجْهٍ مِنْ وُجوهِ الأهمّيَّةِ. ونحنُ نَعْلَمُ الآنَ ما يُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ قَدْ دارَ بخَلَدِ (الخَلَد: البال والقلب.) قُدَماءِ المِصْرِيِّينَ عِنْدَما ابْتَدَأُوا يَحْفَظُونَ الثعابينَ في مَعابِدِهِمْ. فَكَثيرٌ منها لَهُ فائِدَةٌ؛ خاصَّةً لِلْفَلاَّحِ، فَهِيَ تُأْكُلُ كَثيراً مِنَ الْفِئْرانِ وَالِْرذانِ وَكَثيراً غَيْرَها مِنَ الحَيواناتِ الصغِيرَةِ التي تُتْلِفُ مَحْصُولَ الفَلاّحِ.
كَما أَنَّ بَعْضَها يَأْكُلُ القَواقِعَ وَالْيَرَقاتِ (اليرقة: شكل بعض الحيوانات والحشرات حين ولادتها.) وَالْحَشَراتِ، بَيْنَما الْبَعْضُ الآخَرُ منها - وَهُوَ غَيْرُ ضارّ - يَأْكُلُ الثعابين السّامَّةَ.
وَيَقْتُلُ بَعْضُ الناسِ الثعابينَ دونَ تَفكيرٍ. وَغالِباً ما يَقْتُلُونَ الثعابينَ المُفيدَةَ مِنْها، أو على الأَقَلِّ يَقْتُلُونَ الثعابين غَيْرَ الضارَّةِ، التي يَجِبُ أَنْ تُتْرَكَ لِتَعيشَ، سَواءٌ أَكانَتْ لَها قِيمَةٌ أَمْ لا. وَإِذا عَرَفَ هؤلاءِ الناسُ الكَثيرَ عَن الثعابينِ، لَفَهِمُوا مَدَى الْخَطَإِ في قَتْلِ ثُعْبانٍ لِمُجَرَّدِ خَوْفٍ مِنْهُ لا مَعْنًى لَهُ.
كيف تَهْتَدي الثعابينُ إِلى طَريقِها؟
لِلثَّعابينِ عُيُونٌ قَوِيَّةٌ حادَّةُ الإِبْصارِ، وَلكِنْ لِمَسافاتٍ قَصيرةٍ فَقَطْ.
فَتَخْتَلِفُ عُيونُ الثعابين عَنْ عُيونِ الحَيواناتِ الأُخْرَى. وَلِلثُّعْبانِ قِشْرةَ شَفّافَةٌ كَالنّافِذَةِ فَوْقَ عَيْنِهِ لِتَحْمِيَهُ مِنَ الغُبارِ وَالأَقْذارِ. وَهِيَ في الحَقيقَةِ جَفْنٌ، إِلاّ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَحَرِّكٍ، وعلى هذا فَالثُّعْبانُ لا يَرْمِشُ أبَداً، وَهُوَ يَنْظُرُ دائِماً كَانَّهُ مُحَدِّقٌ، وَتَظَلُّ عَيْناهُ مَفْتُوحَتَيْنِ حَتَّى في أَثْناءِ نَوْمِهِ.
*167*
وَليسَ لِلثُّعْبانِ مَخالِبُ، وعلى هذا لا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَسَّسَ طَريقَهُ. وليسَ لهُ شَوارِبُ لِيَسْتَخْدِمَها كَحاسَّةٍ لِلَّمْسِ كَما تَفْعَلُ النُّمورُ والقِطَطُ والسِّباعُ.
وَآذانُ الثعبان لَيسَتْ كَآذانِ الحَيَواناتِ الأُخْرَى، فَهُوَ لا يَسْتَطيعُ أَنْ يَسْمَعَ الأشياءَ في طَريقِهِ بالطَّريقَةِ العادِيَّةِ. كُلُّ هذا يَجْعَلُكَ تَتَعَجَّبُ كَيْفَ تَشُقُّ الثعابينُ طَريقَها في الحَياةِ بِنَجاحٍ. وَلِماذا لا تَقَعُ دائِماً في الخَطَرِ.
وَيُساعِدُ جِسْمُ الثعبانِ على حَلِّ هذا المُشْكِلِ. إِذْ إِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ بِهِ الذَبْذَباتِ عَبْرَ الأَرْضِ. وَبِالإِضافَةِ إِلى هذا فإِنَّ لِلثُّعْبانِ أَداةً تُعَوِّضُهُ ما يَنْقُصُهُ مِنَ المُعَدَّاتِ العادِيَّةِ. فَإِنَّكَ إِذا راقَبْتَ ثُعْباناً تَراهُ يُخْرِجُ لِسانَهُ الرفيعَ المَشْقوقَ مِنْ فَمِهِ وَيُدْخلُهُ بِسُرْعَةٍ كَثيرَةٍ مرَّاتٍ مُتَعَدِّدَة. وهذا اللسانُ السريعُ الحسّاسُ هو آلَةُ الثعبانِ الخاصَّةُ التي تُخْبِرُهُ أَينَ يَذْهَبُ.
وعِندَما يَزحفُ الثعبانُ يَلْمُسُ بِلِسانِهِ الأرضَ بِخِفَّةٍ، وَيَلْعَقُ بِطَرَفِهِ المُشْقوقِ بعضَ الذَّرّاتِ الدقيقةِ وَيَضَعُها في مَكانٍ مِنَ الفَمِ، حَيْثُ يُوضَعُ عُضْوُ شَمٍّ خاصٌّ. واللسانُ رَقيقٌ جِدًّا، وعِنْدَ عَدَمِ اسْتِعْمالِهِ يَجْذِبُها الثعبانُ داخِلَ غِلافٍ مِنَ الجَلْدِ في قاعِ فَمِهِ لِيَحْمِيَهُ.
أطفال الثعابينِ
تَنْشأُ صِغارُ الثعابينِ بِطَريقَتَينِ مختلفتينِ، فَبَعضُ الثعابينِ يَبِيضُ، والبَعضُ الآخَرُ يَلِدُ. وَتُولَدُ صِغارُ الثعابينِ في أواخِرِ الصيفِ أو في بدايَةِ الخريفِ. وهي تَخْرُجُ مِنْ شِقٍّ صَغيرٍ في الجِهَةِ البَطْنِيَّةِ لِجِسْمِ الأُمِّ. وَيُولَدُ كُلُّ ثُعْبانٍ داخِل كيسٍ سَميكٍ صافٍ يَكادُ يُشْبِهُ الوَرَقَ المُبْتَلَّ، وَسَرْعانَ
*168*
ما يَخْرُجُ الثعبانُ الصَغيرُ من هذا الكيسِ. ويَعتمدُ عَدَدُ الصغار في الوَلْدَةِ الواحِدةِ على نَوْعِ الثعبانِ. فَبَعضُ الثعابينِ ذاتِ الأجراسِ تَلِدُ أربعَةَ ثعابينَ صغارِ، أمّا الثعبانُ ذو الرِّباطِ فَيَلِدُ أحياناً حَوالَيْ سَبْعينَ صَغيراً في المَرَّة الواحدَةِ.
أَمّا الأُمُّ التي تَضَعُ البَيْضَ، فَتَبداُ أَوَّلاً بِالبَحْثِ عَنْ عُشٍّ صالِحٍ في شَهْرِ حَزيرانَ أو تموزَ، وهيَ تُفَضِّلُ المَكانَ الدافِئ المختبئ عَنِ الأَعْيُنِ وَبه رُطوبَةٌ كافِيَةٌ. فَالْحَرارَةُ والرُّطوبَةُ تُساعِدانِ على فَقْصِ البَيْضِ. فَالثقوبُ المَوجودَةُ في كُتَل الخَشَبِ الباليَة، أَوِ الشواطئ الرمليّةُ الشَمْسِيّةُ، أو التجاويفُ الموجودةُ في نشارَة الحشَبِ، أو الأَوراقُ المُتَعَفِّنَةُ، كُلُّ هذِهِ أماكنٌ طيّبَةٌ.
فَإذا ما اختارت الأم المَكانَ وَضَعَتْ بَيْضَها وَهُوَ طَويلٌ في شَكْله، وقشْرَتُهُ صُلْبَةٌ جلْديَّةٌ وَلَيْسَتْ هَشَّةً (هشّة: رخوة وليّنة.) كَبَيْضَةِ الدجاجَةِ. وَمَجْموعَةُ البَيْضِ التى تملأُ عُشًّا تُسَمَّى "كُتْلَةَ البَيْضِ".
ومُعظمُ أُمّات الثعابينِ تَتْرُكُ بَيْضَها لِيَفْقُصَ دونَ أَنْ يَحْظَى بالْتفاتة منْها. إلاّ أَنَّ بَعْضَها يَحْرُسُ أعْشاشَهُ. وَقَليلٌ مِنها يَلتَفُّ حَوْلَ بَيْضِهِ ولو أَنَّهُ غير قادر في ما يَبْدُو على أنْ يُعْطِيَهُ الدِّفْءَ الذي يُساعِدُهُ على الفقص.
ويختلفُ عَدَدُ البَيْض.فَرُبَّما يَضَعُ نَوْعٌ صَغيرٌ كَالثُّعْبانِ الدودِيِّ بَيْضَتَيْنِ، بينما يَضَعُ ثُعبانُ الحنْطَة "دَسْتَةً" (دستة: دزّينة.) أو "دَسْتَتَيْنِ" في المَرَّةِ الواحدة.
*169*
وَكُلَّما امْتَصَّتِ البَيْضَةُ الرطوبَةَ مِنَ العُشِّ، وَكُلَّما أَخَذَتِ الصِّغارُ في النُّموِّ داخِلِ البَيْضِ، ازْدادَ هذا البَيْضُ في الحَجْمِ؛ إَذْ إَنَّ بَيْضَةَ الثعبانِ قابلَةٌ لِلتَّمَدُّدِ. وعِندَما يكونُ الجَنينُ عَلىى وَشْكِ الفَقْصِ تُصْبِحُ البَيْضةُ كُتْلَةً غَيْرَ مُنتَظَمَةٍ. وأخِيراً تكونُ الصغارُ مستعدّةً لِلْخُروجِ، وَيَفْقُصُ بَيْضُ بعْضِ الثعابين بَعْدَ شَهْرَيْنِ مِنْ وَضْعِهِ، بينَما البَعْضُ الآخَرُ يَفْقُصُ بَعد حَوالَيْ ثَلاثَةِ أَشْهُر.
وَلِأَجِنَّةِ الثعابينِ التي تَفْقُصُ مِنَ البَيْضِ بُروزٌ خاصٌّ صَغيرٌ في مُقَدِّمَةِ رُؤُوسِها وَفَوْقَ أَفْواهِها مُباشَرَةً يُسَمَّى "سِنَّ البَيْضَةِ"، وَهِيَ تَسْتَعْمِلُ هذِهِ السِّنَّ كَسِكِّينٍ تَعْمَلُ بِها شِقًّا في قِشْرَةِ البَيْضَةِ. ثَمَّ تَجلسُ الأَجِنَّةُ وَرُؤوسُها خارِجَةٌ مِنَ البَيْضَةِ تَطِلُّ بِها إِلى العالَمِ. وَهِيَ لا تَتَعَجَّلُ الخُروجَ؛ إِنَّها - غالِباً ما تَأْخُذُ يَوْماً كامِلاً تَقْريباً لِتَخْرُجَ مِنَ البَيْضَةِ.
وَصِغارُ الثعابين مستَقِلَّةُ منذُ اللحظَةِ الأُولَى التي تَفْقُصُ فيها أو تُولَدُ. وَتَعِيشُ حَياتَها الخاصَّةَ وَلا تَعْتَني الأُمُّ بِصِغارِها أبَداً. وتَصطادُ صِغارُ الثعابينِ غِذاءَها وَتُدافِعُ عَنْ نَفسِها، وَحَتَّى طِفْلُ الثعبانِ السامِّ يَسْتَخْدِمُ أَنْيَابَهُ كَما يَفْعَلُ الثعبانُ الكَبيرُ.
المصدر: سلسلة كتابك الأول "الثعابين"
*170*
*170*
هُنالَكً تاريخٌ سَيُسَجَّل لأَمَدِ طَويلٍ في كُتُبِ التاريخ القادِمَةِ، ذلكَ هو يَوْمُ الرابِعِ من تِشرينَ الأولِ (أكتوبر) سنة 1957. ففي ذلك اليومِ أطْلَقَ العُلَمَاءُ الرُّوسُ أَوَّلَ تَابِعٍ (التابع: القمر الاصطناعي.) صُنْعِيٍّ لِلْأَرْضِ بِاسمِ سبوتنيك. وقَدْ تَبِعَهُ فيما بَعْدُ عَدَدٌ كَبيرٌ مِنَ التَوابِعِ، حَمَلَ بَعْضُهَا أَوَّلَ رُوّادٍ (الرُّوّاد: الرسل الذين يرسلهم القوم لينظروا لهم مقاماً ينزلون به.) إِلى الفَضاءِ.
فَفي نَفْسِ الوَقْتِ بَذَلَتِ الوِلاياتُ المتحدةُ الامريكيةُ جُهوداً مُماثِلَةً بِغَزْوِ الفَضاءِ. ففي الخامس والعشرين من آيار (مايو) 1961 أعلنَ رئيسُ الولاياتِ المتحدةِ جون ف. كندي أَنَّ بلادَهُ ستحاوِلُ تَحقيقَ مَأْثَرَةٍ جَريئَةٍ هي إنزالُ أفرادِ من البشرِ على سَطْحِ القمرِ، وَأنَّه من المأمولِ أنْ يتمَّ ذلكَ قبلَ عام 1970.
بَدَأَ المشروعُ أولاً بتصميمِ صاروخٍ عِمْلاقٍ هو ساتِرْن 5 ليقومَ بقذفِ سفينة الفضاءِ نحوَ القمرِ في رحلةٍ تدومُ يومينِ ونصف اليومِ تقطع خلالها 400 ألف كيلومتر. وكان قد ثَبَتَ إمكانُ إرسالِ مَرْكَباتٍ غَيرِ مأهولَةٍ لاِستطلاعِ القمرِ سُمّيتْ بالسوابر (سوابر قمرية: نوع من السفن.) القمرية باسمِ أولِ واحدٍ منها. وكانت هذه السوابر مزَوَّدَةً بكاميراتٍ لتُرسِلَ منها إلى الأرض عَدَداً من الصورِ المأخوذة عن قُربٍ لِلصخورِ والمناظرِ الطبيعية.
وقد أختيرَ مَوقِعُ الهبوطِ في أحد سهولِ القمرِ الفَسيحةِ المسمّى بحرَ الهدوءِ. ثم أُجْريَتْ تجربةٌ أخيرةٌ لِأَجرَأِ ما قامَ به الإنسانُ من مغامراتٍ،
*171*
فأُرسِلَ ثلاثةٌ من الرُّوّادِ داروا حَولَ القمرِ في يومِ عِيد الميلادِ عامَ 1968 وعادوا إلى الأرضِ دونَ أن يهبِطوا إليه.
وفي السادسَ عشرَ من تموزَ (يوليو) 1969 كان كلُّ شيءٍ قد أُعِدَّ لمحاوَلَةِ الهُبوط على القمرِ. فانطلق روّادُ الفضاءِ الثلاثةُ؛ إدوين الدرين، ونيل أرمسترونغ ومايكل كولينز، أولاً في مدارٍ حَولَ الأرضِ، ثم انتقلوا منه إِلى رِحْلَتِهِمُ الخطيرةِ نَحوَ القمرِ. اقتربَتْ سَفينَتُهُمُ الفضائيَّةُ المسمّاةُ أبولو من القمرِ في التاسعَ عَشَرَ من تموزَ. وفي اليومِ التَّالي زحَفَ أرمسترونغ وأَلدرين عَبْرَ المعبرِ الضيِّقِ إلى العربةِ القمريَّةِ المسمّاةِ إيجل أيِ النّسرَ، بينما بَقِي الرائدُ الثالِثُ كولينز يدورُ حَولَ القمرِ في الجُزءِ الآخَرِ من سفينةِ الفَضاءِ، وهي مَركبةُ القيادةِ. وأَخذَ يراقِبُ من نافِذَةِ مركَبَتِهِ العربَةَ إيجل تهبِطُ على الكوكبِ الوَعْر الذي تَحتَهُ. وعندما وَصَلَتِ العربةُ القَمَرِيَّةُ إلى بُعْدِ 112 كيلومتراً من سطحِ القمر اشْغَلَ أرمسترونغ مُحَرِّكَ الصاروخِ الأمامِيَّ الكابَحَ (الكابح: الذي يشد المحرك ليتوقف عن الحركة.) لِيُخَفِّفَ السرعةَ، وَهَبَطَتِ العربةُ القمريةُ إيجل بسلامٍ في مكانِ لا يبعُدُ سِوى سِتةِ كيلومتراتٍ فَقَطْ عن الموقِعِ المُقَرَّرِ لِهُبوطِها.
هَبَطَتِ العربةُ إيجل في مكانٍ من أشَدِّ بِقاعِ القمرِ استِواءً، ولكنْ كانَ حَولها ككَثيرٌ منَ الفُوْهات (الفوهات: الفتحات.) البركانيَّةِ الصغيرةِ. وفي الساعةِ الثالثةِ و 56 دقيقةً من صباح الواحدِ والعشرينَ من تموزَ 1969 (بتوقيتِ غرينتش) قام نيل أرمسترونغ وهو يرتدي بِذْلَتَهُ الفضائيةَ الواقيةَ، بِفَتْحِ بابِ العربةِ القمريةِ، وَنَزَلَ درجاتِ السلَّمِ بِاحْتِراس. ولما وَطِئَتْ قَدَماهُ أرض القمرِ
*172*
وكانت تراقبُهُ عيونُ الناسِ على شاشَةِ التِلفِزيونِ، وتَسمَعُ قَوْلَهُ في مَوقِفِهِ هذا الذي لم يقِفْهُ قَبلَهُ ) مُستَكْشِفٌ في التاريخ - قال: هذه خطوةٌ صغيرةٌ يخطوها رَجُلٌ ولكنَّها وثبةٌ عِملاقَةٌ يَثِبُها الجِنسُ البشريُّ. وَبَعدَ قَليلٍ لحقَ بهِ رفيقُهُ ألدرين وأَخَذا يقومانِ بِمهمَّتِهِما الاِستِطلاعيَّةِ التي خُطّطَتْ بِمَزيدٍ من العنايةَ.
وكانَ من أهم أهدافِ رِحلَتِها أن يَجلِبا معَهُما إلى الأرضِ نماذِجَ من ترابِ القمرِ وصُخوره. ولذلكَ فَقَدْ قاما بِجَمْعِها. ثم نصبا علمَ بِلادِهما وركّبا أجهزةً مُعَدَّةً لتبعثَ إلى الأرض معلوماتٍ عن القمرِ كتسجيلاتِ الْاِرِتجافات والهزّات التي تحدُثُ على سطحِهِ.
وبعدَ ساعتين عادَ كلٌّ من أرمسترونغ وألدرين إلى العربةِ القمريَّةِ وأغلقا بابَها إغلاقاً مُحْكَماً. وبَعدَ ذلكَ باثنتَيْ عَشْرَةَ ساعَةً شعلا المُحَرِّكَ الصَّروخيَّ للعربة إيجل، فَصَعِدَتْ بِهما بِلُطْفٍ مُبْتَعِدَةً عن ذلكَ العالَمِ القاحل المُقْفر، لتَتَّصِلَ بِمَركَبَةِ القيادَةِ التي كانت لا تزال في مَدارِها حَولَ القمر.
وانْتَهتْ رحلَتُهُمْ بنجاحٍ وسلامٍ عندما التَقَطَتْ مَركَبَتَهُمْ مِنْ على أمواجِ المُحيط الهادئِ طائرَةٌ طوّافَةٌ (هيليكوبتر) قامَتْ مِنْ على ظَهْرِ سفينَةٍ حامِلَةٍ للطّائرات. ولعلَّ الرحّالينَ إلى القمرِ في المستقبل يعثُرون على بعض الأشياء التي خلّفها الرائدانِ هنالكَ، ومِنْ جُمْلَتِها لَوْحَةٌ من الفولاذ الذي لا يصدأُ نُقشَتْ عليها هذه الكلماتُ: "هُنا وَطئتْ أقدامُ الرَجُلَيْنِ القادِمَيْنِ من
*173*
كوكب الأرضِ سَطْحَ القمرِ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ في تموزَ سَنَةَ 1969 بعدَ الميلاد.
وقد أتيا بسلام من أَجْلِ جميعِ البَشَرِيَّةِ".
المصدر: ريادة الفضاء سلسلة الإنجازات الحضارية.
*174*
*174*
يوسف زعبلاوي
يَظُنُّ البعضُ أَنَّ أَمْجادَنا العِلْمِيَّةَ وَقْفٌ على الماضي دونَ الحاضِرِ.
ويحسَبونَ أَنَّ المخترعينَ والمكتشفينَ الذينَ أَنْجَبَهُمُ التاريخُ العربيُّ لم يَعُدْ لِأَمْثالِهِمْ وُجودٌ حالِيًّا. ولو عَرَفَ هؤلاءِ شيئاً عنِ العلماءِ العربِ الذينَ تحتضِنُهُم امريكا وبِخاصَّةٍ الدكتور فاروق الباز، لَشَعَروا بِالزَّهْوِ والفخرِ، ونظروا إِلى المستقبلِ بقلوبٍ مِلْؤُها الاملُ.
وُلِدَ هذا العالِمُ العربيُّ في بلدةِ الزقازيقِ الواقِعةِ في دلتا النيلِ في مصرَ، سنةَ 1938. وفي سنة 1958 أنهى تحصيلَهُ في جامعة عين شمس، وَحَصَلَ على شهادةِ البكالوريوس (البكالوريوس: اللقب الجامعي الأول.) العلميةِ في موضوعَينِ اثنينِ هما: عِلمُ الكيمياءِ وعلمُ الجيولوجيا (الجيولوجيا: مؤلفة من كلمتين - جيو معناها أرض - لوجي علم. وتعنيي علم طبقات الأرض.).
وبعدَ سنتينِ تَوَجَّهَ فاروق إِلى الولاياتِ المتحدةِ الامريكيةِ، والتحقَ بمدرسةِ ميسوري للمعادنِ والمناجمِ، وحَصَلَ على شهادةِ الماجستير (الماجستير: اللقب الجامعي الثاني.) العلمية في هذه المواضيع سنةَ 1961. ولم تمض ثلاثُ سنواتٍ بَعْدَ ذلكَ حتى حَصَلَ فاروق سَنَةَ 1964 على شهادة الدكتوراة في الجيولوجيا في جامعة ميسوري ومعهد ماساتشوستس الشهير.
وَتَجْدُرُ الإِشارة إِلى أَنَّ الدكتورَ الباز مَضَى في التَّدريسِ منذُ تَخَرُّجِهِ مِنْ جامِةِ أسيوط سنةَ 1958، فَجَمَعَ بَينَ الدِراسَةِ والتَّدريسِ طيلَةَ السَّنَوات
*175*
الستِّ أَوِ السبعِ التي أَعْقَبَتْ ذلك. وقد دَرَّسَ عِلْمَ الجيولوجيا في جامعةِ أسيوط (1958-1960) وفي ميسوري (1963-1964) وكذلك في هَيدلبرغ فى ألمانيا (64-1965).
أمّا الاعمالُ التي مارَسَها الدكتورُ البازُ فَبَدَأَتْ بِأَعْمالِ التنقيبِ عن البترولِ في خَليجِ السويسِ سنةَ 1966.
ثم مالَبِثَ أَنْ عادَ إِلى الولاياتِ المتحدةِ فَالْتَحَقَ بمختبراتِ بلكوم وبل في واشنطن، حيثُ احتَلَّ مَنْصِبَ المُشرِفِ المسؤول عن أعمالِ استكشافِ القَمَرِ، وأعمالِ التخطيطِ لما يُسَمَّى بالعلمِ القَمَريِّ. وقَدْ طالَ أَمَدُ هذا العملِ سِتَّ سنواتٍ ساهَمَ أَثناءَها الدكتورُ فاروقٌ في التخطيطِ لِرِحَلاتِ الفَضَاءِ الامريكيةِ وغَيرِ ذلكَ من أعمالٍ.
أمّا الآنَ فالدكتورُ فاروقُ البازُ يقومُ بِأَعباءِ (أعباء: مسؤوليات.) مدير الأبحاثِ الخاصَّةِ بِدراساتِ الأرض والكواكب. وَتَشْمَلُ أعمالُهُ فيما تَشمَلُ الإشرافَ على الابحاثِ تُجْرَى على النتائجِ التي أَدَّتْ إليها رِحَلاتُ أبولّو، وعلى احتِمالاتِ تطبيقِ هذه النتائج فيما يتصلُ بالكرة الارضية وسائرِ الكواكبِ الأُخْرَى. وَلَقَدِ اكْتَشَفَ الدكتورُ فاروقٌ البازُ فَجْوَةً جَديدَةً على القَمَرِ في الصُّوَرِ التي التَقَطَتْها سفينةُ "أبولّو- 16". وَقَدِ اقْتَرَحَ على "جمعية العلوم الفلكية العالمية" تَسمِيَةَ هذه الفَجْوَةِ بِاسمِ "فَجْوَةِ العَرَبِ". كَما اقَتَرحَ بَعْدُ رِحلَةِ "أبولّو - 17" تسميةَ ثَلاثِ فَجَواتٍ جَديدةٍ أُخْرَى بِأَسماءِ العلماءِ العَرَبِ "الخُوارِزْمِيِّ" و "ابنِ خَلْدونَ" و "جابِرِ بنِ حَيَّانَ" وكُلُّهُمْ مِنْ أساطين (أساطين: مفردها أُسطوانة وهو العمود. أساطين الزمان: أي أفرادها وحكماؤها.)
*176*
العُلومِ العَرَبِ.
والحقيقةُ أَنَّ المَعالِمَ (المَعالم: الآثار.) القَمَريَّةَ التي تَحمِلُ أَسماءً عَرَبِيَّة، يَبْلُغُ عَدَدُها ثَمانيَةَ عَشَرَ فُوهَةً (فوهُة: فتحة.) إِلى الآنَ. وَلَعَلَّهُ مِنَ الوَفَاءِ القَوْلُ بِأَنَّهُ اقْترحَ أخيراً إطلاقق اسْمِ المَرْحوم الدكتور "محمد رضا مدوَّر"، كبيرِ الفلكيّينَ المصْرِيّينَ، على أَحدِ مَعالِمِ القَمَرِ.
وجديرٌ بالذكر أن الامريكيينَ قَدَّروا للدكتورِ فاروقٍ البازِ أعمالَهُ وكِفاياتِهِ الممتازَةَ، فأَنْعَموا عليه بجَوائِزَ عديدَةٍ نَخُصُّ بالذِكرِ منها ميداليةَ المُنْجَزات العِلمية الممتازة. وقَد مَنَحَتْهُ إياها دائرةُ الفضاءِ الامريكيةُ (ناسا)؛ وهي الدائرةُ الحكوميةُ المختصةُ بأبحاثِ الفضاءِ وَغَزْوِهِ.
هذا والدكتورُ البازُ عُضْوٌ في عَدَدٍ مِنَ الجمعياتِ العِلميةِ العالميةِ، وَقَدْ نَشَرَ حَوالَيْ 80 بَحْثاً علميًّا، واشتركَ في تأليفِ ثَلاثَةِ كتبٍ في الجيولوجيا بِما في ذلك كتابٌ عن القَمَرِ صادِرٌ عَنْ دائرَةِ الفضاءِ التي ذَكَرْنا.
والعالمُ العرَبيُّ أَبٌ لأربعِ بَناتٍ هُنَّ: مُنيرَة وثُرَيَّا وكَريمَة وفَيْروز.
المصدر: مجلة العربي تموز 1976
*177*
*177*
جورج وهبة العفي
يَشْغَلُ البترولُ وكيماوياتُ البترولِ مَكاناً غايَةً في الأهميَّةِ في حَياتِنا في هذا العصر الحديثِ. فاللَّدائِنُ (اللدائن: الموادّ الليّنة.) التي تُصْنَعُ منها مُعْظَمُ أدواتِ المنزلِ بَلْ بعْضُ أَجْزائه نفسِها، وهَياكِلُ السياراتِ زُجاجُها وَمُعظَمُ قِطَعِها وأَجْهِزَتِها، والمطّاطُ، والمطاطُ الإِسْفَنْجِيُّ والمنسوجاتُ الصناعيةُ، تُصْنَعُ الآنَ من البترول، بَعْدَ أن كُنّا نَحْصُلُ على جميعِ لوازمِ الحَياةِ، منذُ أقدمِ العُصور، من الحَجَرِ والمعادِنِ، وَمُنْتَجاتِ النباتاتِ مِنْ أخشابٍ وثِمارٍ، لِبِناءِ المساكن، ونسْجِ الأقمِشةِ الطبيعيةِ مِنَ القطنِ والكَتّانِ، وكذلكَ صُوفِ الحيوان. وتُوجَدُ الصِّبَغاتُ مِنَ النباتِ، وأنْواعٌ مِنَ الصُّخورِ والعُطور مِنَ النبات وهكَذا. ثُمَّ عَصْرُ المَوادِّ المصنوعةِ في معاملِ الكيمياءِ وخاصَّةً منَ البترولِ؛ فَحَصَلَ هؤلاءِ الكيماوِيونَ العَباقِرَةُ بَعْدَ بُحوثٍ جبّارَةٍ على النايلونِ الشَبِيهِ بالحَريرِ والأورلونِ والداكرونِ والإكريلانِ والدانيلِ والكريزلانِ الشبيهَةِ بالصوفِ أو القطنِ أو الحريرِ. ثم اللدائنِ والمطاطِ الصناعيِّ والأصباغ والمُنَظِّفاتِ الصناعيةِ والمُفَرْقَعاتِ والعَقاقيرِ والمذيباتِ وَمَوادِّ الطِّلاءِ (الطلاء: الدهان.) والمَوادِّ اللاصِقَةِ والأَسْمِدَةِ والمُبيداتِ (المبيدات: المواد القاتلة السامّة.) الحَشَرِيَّةِ والبروتيناتِ الصناعيةِ التي هي الآنَ في طَوْرِ التجارِبِ لِغِذاءِ الحَيَوانِ.
والشُحومُ والشموعُ والزيوتُ وأنواعُ الوَقودِ الحديثِ للطائراتِ والسياراتِ والمصانعِ.. كُلُّ هذهِ الأشياءِ لايكادُ العقلُ يُصَدِّقُ أَنَّها
*178*
اسْتُخْرِجَتْ أو صُنِعَتْ مِنَ البترولِ أو غازاتِهِ.
واتَّسَعَ نِطاقُ تِلكَ المُنْتَجاتِ البِتْروكيماويةِ الساحِرَةِ وأَصْبَحَتْ بِدايَةَ مجموعةٍ هائلةٍ مِنَ المُرَكَّباتِ التي أُطْلِق عليها اسْمُ "كيماوياتِ البترولِ". كانَ لِبُحوثِ العَلَماءِ الفَضْلُ في أَنْ يَصِلوا إِلى آلافِ النواتِجِ.
وَهُناكَ في جَعْبَتِهِمْ مِئاتُ الأُلوفِ الأُخْرَى في اسْتِطاعَتِهِمْ تَحْضِيرُها مِنَ البترولِ في مَعامِلِهِمْ. ولكنَّهُمْ لا يُخْرِجونَ منها لِلتَّداوُلِ إلا تِلْكَ الأنواعَ ذاتَ المَزايا العَمَلِيَّةِ والاقْتِصادِيَّةِ. إِذْ إِنَّ النَوْعَ الجَديدَ مِنَ اللَّدائِنِ مَثَلاً أَوِ الْمَطَّاطَ أوِ الخُيوطَ الصناعِيَّةَ أوِ الأفلامَ الرقيقةَ يُكَلِّفُ تَحْضِيرُهُ مَبالِغَ طائِلَةً تُنْفَقُ في تَجارِبَ وَبُحُوثٍ مَعْمَلِيَّةٍ (بحوث معمليَّة: بحوث في المختبرات.)، ثُمَّ تُدْرَسُ اسْتِعْمالاتُهُ وَهَلْ هُوَ ذو مَزايا اقْتِصادِيَّةَ تَضْمَنُ إِقْبالَ الْجُمْهورِ عليهِ.
وفي عالَمِ الْغَدِ
اَلسِّيادَةُ لِلطّاقَةِ مِنَ البترولِ أَمِ الطّاقَةِ النّوَوِيَّةِ؟
يُمْكِنُنا أَنْ نُسَمِّيَ النصفَ الثانِيَ من القرنِ العشرينَ عَصْرَ الصواريخِ والأقمارِ الصناعِيَّةِ والطائراتِ الأسرع مِنَ الصوتِ. في هذهِ الفَتْرَةِ مِنَ الزَمَنِ التي لم يَنْقَضِ منها أكثرُ مِنْ عِشرينَ عاماً.. اسْتَطاعَ العِلْمُ أَنْ يَقْهَرَ الحَواجِزَ التي كانَتْ تَفْصِلُهُ عَنِ الفَضاءِ الخارِجِيِّ واسْتِطاعَ أَنْ يَصِلَ إِلى القَمَرِ، وَهُوَ يُفَكِّرُ بَعْدَ أَنْ وَطِئَتْ (وطئت: داست وَخَطَتْ.) أَرْضَهُ قَدَماهُ في دِراسَةِ الوَسائِلِ التي يَستطيعُ بِها إقامَةَ مَحَطّاتٍ مُزَوَّدَةٍ بِكُلِّ ما أَمَدَّنا العِلْمُ بِهِ مِنْ مَظاهِرِ التقدُّمِ التّكْنولوجِيِّ (التكنولوجي: الصناعي.) مِنْ تَشْيِيدِ مَدَنٍ صِناعِيَّةٍ مُغَطَّاةٍ بِأَغْشِيَةٍ (أغشية: أغطية.)، رَبَّما كانَتْ مِنْ أنواعٍ مِنَ اللَّدائِنِ أو سَبائِكِها، مَعَ المَعادِنِ ذاتِ الخَصائِصِ الفائِقَةِ
*179*
الاحْتِمالِ تَقِي ساكِنيها مِنْ أَشِعَّةِ الشَّمسِ المُحْرِقَةِ وَمِنَ البَرْدِ القاتِلِ، هِيَ بالتأكيدِ اليومَ مَوْضِعُ دِراساتٍ جادَّةٍ في مَعامِلِ الاِخْتِبارِ وَإِمْدادِ سُكّانِها بالأكسجين الضَّرورِيِّ لِلحَياةِ بِوَسائِلَ صِناعِيَّةً أَوْ بَاسْتِخْراجِهِ كيميائِيًّا مِنَ الصُّخورِ... وَبِمِياهٍ لِلشُّرْبِ والطَّهْوِ (الطهو: الطبخ.) والتنظيفِ ربَّما كانَتْ كذلكَ بِوَسائِلَ كيماويةٍ.. وَمَزارِعَ تُمِدُّهُ بِأَنْواعٍ جَديدَةٍ مِنَ الغِذاءِ مِنَ الطَّحالِبِ أو النباتاتِ التي يُهَيِّئ لَها جَوًّا خاصًّا لِتَنْمُو وَتُثْمِرَ في ذلكَ الوَسَطِ الجَديدِ..
كُلُّ هذهِ الأشياءِ ما زالَتْ أَحلاماً وَلكِنَّها قابِلَةٌ نَظَرِيًّا لِلتَّحْقيقِ.. فَالتَّقَدُّمُ البِتْروكيميائِيُّ وَزِراعَةُ الطحالِبِ والفِطْرِيَّاتِ لِلْغِذاءِ.. وَإِقامَةُ مَحَطّاتٍ في الفَضاءِ تَصِلُ بَيْنَ الأرضِ والقَمَرِ والكَواكِبِ الأُخْرَى قَدْ تُهَيِّئ لِلأَجْيالِ القادِمَةِ بَعْدَ عَشَراتِ أو مِئاتِ السِّنِينَ أَنْ تُقيمَ إِقامَةً طَويلَةً في القمرِ أو أبْعَدَ مِنْ ذلكَ مِمّا يُخْبِئُهُ المُسْتَقْبَلُ بَيْنَ ثَناياهُ. هذهِ النبوءاتُ والأحلامُ التي قَدْ يُقَدَّرُ لَها أَنْ تَتَحَقَّقَ إِنْ هِيَ إلا نَتيجَةٌ مُباشرةٌ لِما لَعِبَهُ التقدُّمُ في تَحْضيرِ أَنْواعٍ جَديدَةٍ مِنَ الوَقودِ غَيَّرَتْ مِنْ مَظاهِرِ الحَياةِ والمَدَنِيَّةِ الحَديثَةِ في أَنحاءِ العالَمِ وَأَصْبَحَتْ حَضارَةُ الأُمَمِ وَدَرَجَةُ تَصْنيعِها وَثَرائِها وَتَقَدُّمِها رَهْناً بِما لَدَيْها أَوْ ما تَسْتَهْلِكُهُ مِنْ وَقودٍ.
المصدر: سلسلة اقرأ كتاب ماذا نستخرج من البترول
د. جورج وههبة العفي
*180*
*180*
عبد الله المقفع (724-760)
ابن المقفع من ابناء الفرس المستعريين. نشأ في البصرة، وأسلم في عهد العباسيين، فسمى عبد الله، وَكُنِّيَ أبا محمد، إلاّ انه ظل متهما بالميل إلى المجوسية والزندقة.
نقل كتاب "كليلة ودمنة" إلى العربية ومن كتب المقفع "الأدب الصغير" و "الأدب الكبير"، والكتابان يحتويان حكَماً في الصداقة والسلطان وما إلى ذلك.
زعموا أَنَّ حَمامَةً كَانَتْ تُفَرِّخُ في رَأْسِ نَخْلَةٍ طَويلَةٍ ذاهِبَةٍ في السَّماءِ،وَكَانَتْ الْحَمامَةُ تَشْرَعُ في نَقْلِ الْعُشِّ إِلى رَأْسِ تِلْكَ النَّخْلَةِ، فَلاَ يُمْكِنُهَا ذلك إلاّ بعْدَ شدَّة وَتَعَب وَمَشَقَّةٍ، لِطولِ النَّخْلَةِ وَسُحْقِها (السحق: البعد الطول.)، وَكَانَتْ، إذا فرغَتْ من النَّقْل، باضَتْ ثُمَّ ثُمَّ حَضَنَتْ (حَضَنَ الطائر بَيضه: ضَمَّه إِلى نفسه وجثم عليه للتفريخ.) بَيْضَهَا، فَإِذَا انقاضَ (انفقص البيض: انكسر وخرج منه الفرخ.) وَأَدْرَكَ (أدرك الفرخ: كبر وقارب أن يطير.) فراخها، جاءَها ثَعْلَبٌ قَدْ تَعَهَّدَ (تعهد الشيء: تفقده.) ذلِكَ مِنْهَا لِوَقْتٍ قَدْ عَلِمَهُ، رَيْثَمَا يَنْهَضُ فراخُها، فوقف بأَصْل النَّخْلَة، فَصَاحَ بِها، وَتَوَعَّدَهَا أَنْ يَرْقَى إِلَيْها أَوْ تُلْقِيَ إليه فراخها، فَتُلْقيها إلَيْه.
فَبَيْنَما هي، ذَاتَ يَوْمِ، وَقَدْ أَدْرَكَ لَهَا فَرْخَانَ، إِذْ أَقْبَلَ مَالِكٌ الْحَزينُ (مالك الحزين: طائر من طيور الماء طويل العنق والساقين يأكل السمك.) فوَقَعَ عَلَى النَّخْلَة. فَلَمَّا رَأَى الْحَمَامَةَ كَئِيبَةً حَزينَةً شَدِيدَةَ الْهَمِّ، قَالَ لَها: "يَا حَمَامَةُ، مَا لي أَرَاك كَاسِفَةَ الْبَالَ (كاسفة البال: عابسة، حزينة.)، سَيِّئَةَ الْحَالِ؟"
فقالتْ لَهُ: "يَا مَالكُ الْحَزينُ، إِنَّ ثَعْلَباً دُهِيتُ بِهِ، كُلَّما كَانَ لِي فَرْخَانِ
*181*
جَاءَنِي يَتَهَدَّدُنِي، وَيَصِيحُ في أَصْلِ النَّخْلَةِ. فَأَفْرَقُ مِنْهُ (أفرقُ منه: أخاف.)، فَأَطْرَحُ إِلَيْهِ فَرْخَيَّ".
فَقَالَ لَهَا مَالِكُ الْحَزينُ: "إِذَا أَتَاكِ لِيَفْعَلَ مَا تَقُولِينَ، فَقُولِي لَهُ: لاَ أُلْقِي إِلَيْكَ فَرْخَيَّ، فَارْقَ إِلّيَّ وَغَرِّرْ (غَرِّرْبنفسك: عَرِّضْ نفسَك للهلاك.) بِنَفْسِكَ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذلِكَ، وَأَكَلْتَ فَرْخَيَّ طِرْتُ عَنْكَ وَنَجَوْتُ بِنَفْسِي".
فَلَمَّا عَلَّمَهَا مَالِكُ الْحَزينُ هذِهِ الْحِيلَةَ طَارَ فَوَقَعَ عَلَى شَاطِئِ نَهْرٍ، وَأَقْبَلَ الثَّعْلَبُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي عَرَفَ. فَوَقَفَ تَحْتَ النَّخْلَةِ، ثُمَّ صَاحَ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ، فَأَجَابَتْهُ الْحَمَامَةُ بِمَا عَلَّمَهَا مَالِكٌ الْحَزينُ.
فَقَالَ لَهَا: "أَخْبِرِيني، مَنْ عَلَّمَك هذَا؟" فقَالَتْ: "عَلَّمَنِي مَالِكٌ الْحَزِينُ".
*182*
فَتَوَجَّهَ الثَّعْلَبُ حَتَّى أَتَى مَالِكاً الْحَزينَ،عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ، فَوَجَدَهُ وَاقِفاً؛ فَقَالَ لَهُ الثَّعْلَبُ: "يَا مَالِكُ الْحَزينُ، إِذَا أَتَتْكَ الرِّيحُ عَنْ يَمِينِكَ، فَأَيْنَ تَجْعَلُ رَأْسَكَ؟".
قَالَ: "عَنْ شِمالِي".
قَالَ: "فَإِذَا أَتَتْكَ عَنْ شِمَالِكَ، أَيْنَ تَجْعَلُ رَأْسَكَ؟".
قَالَ: "أَجْعَلُهُ عَنْ يَمِينِي أَوْ خَلْفِي".
قَالَ: "فَإِذَا أَتَتْكَ الرِّيحُ مَنْ كُلِّ مَكانٍ وَكُلِّ نَاحِيَةٍ أَيْنَ تَجْعَلُهُ؟".
قَالَ: "أَجْعَلُهُ تَحْتَ جَنَاحَيَّ".
*183*
قَالَ: "وَكَيْفَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَجْعَلُهُ تَحْتَ جَناحَيْكَ؟ مَا أَرَاهُ يَتَهَيَّأُ لَكَ (يتهيأ لك: يحصل لك، أو يتمكن من الحصول عليك.)".
قَالَ: "بَلَى".
قَالَ: "فَأَرِني كَيْفَ تَصْنَعُ، فَلَعَمْرِي، يَا مَعْشَرَ الطَّيْرِ، لَقَدْ فَضَّلَكُمْ اللهُ عَلَيْنَا: إِنَّكُنَّ تَدْرِينَ في سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلَ مَا نَدْرِي في سَنَةٍ، وَتَبْلُغْنَ مَا لاَ نَبْلُغُ، وَتُدْخِلْنَ رُؤُسَكُنَّ تَحْتَ أَجْنِحَتِكُنَّ مِنَ الْبَرْدِ والرِّيحِ، فَهَنِيئاً لَكُنَّ، فَأَرِنِي كَيْفَ تَصْنَعُ!".
فَأَدْخَلَ الطَّائِرُ رَأْسَهُ تَحْتَ جَنَاحَيْهِ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ الثَّعْلَبُ مَكَانَهُ، فَأَخَذَهُ وَهَمَزَهُ (همزه: ضغطه وضربه.) هَمْزَةً دَقَّ عُنُقَهُ (دقّ عنقه: كسرها.). ثُمَّ قَالَ: "يَا عَدُوَّ نَفْسِهِ، تَرَى الرَّأْيَ لِلْحَمَامَةِ، وَتُعَلِّمُهَا الْحِيلَةَ لِنَفْسِهَا، وَتَعْجِزُ عَنْ ذلِكَ لِنَفْسِكَ، حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْكَ عَدُوُّكَ (تمكن منك عدوك: قوي عليك وظفر بك.)". ثُمَّ قَتَلَهُ وَأَكَلَهُ.
المصدر: كليلة ودمنة لابن المقفع
*184*
*184*
ابن المقفع
زَعَمُوا أَنَّ أَسَداً كانَ فِي أَرْضٍ كَثِيرَةِ الْمَاءِ وَالْخِصْبِ وَكَانَ مَا بِتِلْكَ الْبِلادِ مِنَ الْوَحْشِ فِي سَعَةٍ (سَعَة: مُتَّسَع.) مِنَ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى إِلاَّ أَنَّ ذلِكَ لَمْ يَكُنْ يَنْفَعُهَا مِنْ خَوْفِ الأَسَدِ. فائْتَمَرَتْ تِلْكَ الْوُحُوش وَاجْتَمَعَتْ إِلى الأَسَدِ فَقُلْنَ لَهُ:
إِنَّكَ لا تَصِيدُ الدَّابَّةَ مِنَّا فِي يَوْمٍ إِلاَّ فِي تَعَبٍ وَنَصَبٍ (نَصَب: تَعَب.) وَإِنَّا قَدْ رَأَيْنَا رَأْياً لَنَا وَلَكَ فِيهِ رَاحَةٌ فَإِنْ أَنْتَ أَمَّنْتَنَا فَلَمْ تُخِفْنَا جَعَلْنَا لَكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ دابَّةً نُرْسِلُ بِها عِنْدَ غَدَائِكَ. فَرَضِيَ الأَسَدُ بِذلِكَ وَصَالَحَهُمْ عَلَيْهِ وَقَرَّرْنَ ذلِكَ لَهُ. ثُمَّ إِنَّ أَرْنَباً أَصَابَتْهَا الْقُرْعَةُ فَقَالَتْ لَهُنَّ: إِنْ أَنْتُنَّ رَفَقْتُنَّ بِي فِيمَا لاَ يُضِرُّكُنَّ لَعَلِّي أَنْ أُرِيحَكُنَّ مِنَ الأَسَدِ فَقُلْنَ: وَمَا الَّذِي تَأْمُرِينَ مِنَ الرِّفْقِ بِكِ؟.
قَالَتْ: تَأْمُرْنَ مَنْ يَنْطَلِقُ مَعِي أَلاَّ يَتْبَعَنِي لَعَلِّي أَنْ أُبْطِئ عَلَى الأَسَدِ بَعْضَ الإِبْطَاءِ حَتَّى يَتَأَخَّرَ غَدَاؤُهُ. قُلْنَ: فَلَكِ ذلِكَ. فَانْطَلَقَتِ الأَرْنَبُ مُتَأَنِّيَةً حَتَّى إِذَا جَاوَزَتِ (جاوزت: قطعت.) السَّاعَة الَّتِي كَانَ الأَسَدُ يَأْكُلُ فِيهَا تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ تَدِبُّ رُوَيْداً وَقَدْ جَاعَ الأَسَدُ حِينَ أَبْطَأَ عَنْهُ غَدَاؤُهُ فَغَضِبَ وَقَامَ مِنْ مَرْبَضِهِ يَتَمَشَّى حَتَّى إِذَا رَأَى الأَرْنَبَ قَالَ لَهَا: مِنْ أَيْنَ جِئْتِ وَأَيْنَ الْوَحْشَ.
قَالَتْ: إِنِّي رَسُولُ الْوَحْشِ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ وَقَدْ بَعَثْنَ مَعِي لَكَ بِأَرْنَبٍ. فَلَمَّا كُنْتُ هَهُنَا قَرِيباً مِنْكَ اسْتَقْبَلَنِي أَسَدٌ فَأَخَذَهَا مِنِّي وَقَالَ: أَنَا أَوْلَى بِهذِهِ الأَرْضِ وَوَحْشِهَا. فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ هذِهِ غَدَاءُ الْمَلِكِ أَرْسَلَتْ بِهَا إِلَيْهِ الْوَحْشُ فَلاَ تُغْضبَنَّهُ. فَغَضِبَ الأَسَدُ وَقَالَ: انْطَلِقِي مَعِي فَأَرِينِي هذَا الأَسَدَ.
فَانْطَلَقَتْ
*185*
بِالأَسَدِ إِلى جُبٍّ (جُبّ: بِئْر.) ذِي مَاءٍ صَافٍ عَمِيقٍ فَقَالَتْ: هذَا مَكَانُ الأَسَدِ وَأَنَا أَفْرَقُ مَنْهُ إِلاَّ أَنْ تَحْمِلَنِي فِي حِضْنِكَ فَلاَ أَخَافَهُ حَتَّى أُرِيكَهُ. فَاحْتَضَنَهَا الأَسَدُ وَقَدَّمَتْهُ إِلَى الْمَاءِ الصَّافِي فَقَالَتْ لَهُ: هذَا الأَسَدُ وَهذِهِ الأَرْنَبُ. فَاطَّلَعَ الأَسَدُ فَرَأَى ظِلَّهُ وَظِلَّ الأَرْنَبِ فِي الْمَاءِ فَلَمْ يَشُكَّ فِي قَوْلِهَا. فَوَضَعَ الأَرْنَبَ وَوَثَبَ لِقِتَالِهِ فَغَرِقَ فِي الْجُبِّ وَأَفْلَتَتِ الأَرْنَبُ وَعَادَتْ إِلى الْوُحُوشِ فَأَعْلَمَتْهُنَّ صَنِيعَهَا بِالأَسَدِ.
المصدر: كليلة ودمنة لابن المقفع
*186*
*186*
كان ذلك في أحد أيامِ الربيعِ، حين خَرَجَ قَطيعُ المَعْزِ إِلى الحقل ليرعى. وفي طريق عودَتِهِ مساءً، تأخَّرَت عنزةٌ عجوزٌ عن مَوْكِبِ (موكب: جماعة.) رفاقِها.
لقد أَنْهكَ قواها التعبُ والعجزُ، وأضاعَتْ سبيلَها، فأَوتْ إِلى كَهفٍ قريبٍ.
وما كادت تطأُ (تطأ: تدوس.) أرضَهُ حتي أبصرَتْ أسداً جاثِماً في إحدى زواياهُ. فذُعِرَتْ لمنظره، ووقفَت تفكِّرُ في حيلةٍ تُخَلِّصُها من هذا الموتِ الأكيدِ. وسَرْعانَ ما خَطَرَتْ لها فِكرةٌ، فقالت في نفسها: "لَو جَرَّبْتُ أن أهرُبَ، فسَوفَ يلحقُ بِيَ الأسدُ ويمزّقُني تمزيقاً. فلا بُدَّ لي إذن مت التظاهرِ بالشَّجاعةِ فقد تمكِّنُنى من الخلاص".
وهكذا سارَتْ إِلى الأَسدِ دونَ أَن تُبْديَ الرُّعْبَ الذي خالج (خالج: اشغل.) صدْرَها وهَزَّ كيانَها (الكيان: الطبيعة، الخليقة.). ونَظَرَ إليها ملكُ الوحوشِ، وحَدَّقَ فيها طَويلاً، وهو لا يدري ماذا سيكونُ من أمرِ العنزةِ الوقحةِ، التي تجرَّأَتْ على التصرُّفِ بما لم تَسْبقْها (كلمة غير واضحة) واحدةٌ من بناتِ جِنسِها. ولكنَّهُ عادَ وقالَ في نفسِهِ: "لا يمكنُ أن يكونَ هذا الحيوانُ عنزَةً. لا بُدَّ أَنَّهُ مخلوقٌ غريبٌ، لم يَسْبِقْ لي أن رَأيتُهُ قطٌّ في حَياتي". ثم تقدَّم منها وسألها: مَنْ أنتِ؟
فأجابت: "إِنّي مَلكَةُ المَعْزِ. لقد نَذَرْتُ نفسي لِلإِلهِ "شيفا" وأَقْسَمْتُ لَهُ حينَ سَجَدْتُ أمامَ عرشِهِ، أمامَ أفترسَ باسمِهِ مِئَةَ نَمِرٍ وعشرينَ فيلاً وعَشَرَةَ أُسود. وقد افتَرَسْتُ حتى الآنَ جميعَ هؤلاءِ، وبقي أماميَ الأُسودُ فقط!".
أُصيبَ الأَسدُ ما يشبِهُ الخَبَل (الخَبَل: فساد الأعضاء وعدم القدرة على الحركة.) حينَ سَمِعَ هذا الكلامَ. وفَكَّرَ كَيْفَ يُمكِنُهُ الخلاص من هذا المأْزق الحَرِجِ (المأزق الحرج: الموقف الضيق المحيّر.). لكِنّهُ تظاهَرَ بأَنَّهُ يَوَدُّ غَسْلَ وَجْهِهِ عند
*187*
حافَةالنّهر. وما كادَ يَخْطو بابَ الكَهْفِ حتى صادَفَهُ ابنُ آوَى خبيثٌ، لاحَظَ الرُّعْبِ على وجهِ الملكِ، واقتَرَبَ يسأَلُهُ عن حالِهِ وما أَلَّمَّ بِهِ. فَسَرَدَ الأسدُ باختصارِ ما جرى لهُ مع العنزةِ. وكان الحيوانُ الصغيرُ ذكيًّا فلمْ يصدّقْ هذه اللعبةَ. وعَرَفَ أن الحيوانَ الغريبَ ليس سوى عنزةٍ عجوزٍ نَجَحَتْ في حَبْكِ الحيلَة على الملكِ حتَّى تَنْجُوَ بِنفسِها من قبضَتِهِ. وهكذا أقْنَعَ الأَسَدَ بالعَودَة إلى الكَهْفِ لِيَفْتَرِسَ العَنْزَةَ.
وَسَمعَ الأَسدُ نصيحَةَ ابنِ آوَى، فَعَادَ بِصُحْبَتِهِ إِلى الكهفِ وأَبْصَرَتْهُما العنزةُ قادِمَيْنِ من بعيدٍ. فأَدْرَكَتْ ما حَدَثَ، ولكِنَّها اسْتَجْمَعَتْ كلَّ ذرَّةٍ من شجاعتها، وتظاهَرَتْ بالصُّمود. ثمّ تَقَدَّمَتْ وقالَت مخاطِبةً ابنَ آوى: "أبِهذِهِ الطريقةِ تُنَفِّذُ وصيَّتي وتُطيعُ أوامِري؟ لقد أَوْفَدْتُكَ (أوفدتك: أرسلتك.) لتُحضِرَ لي عَشَرَةَ أُسودٍ، فَعُدْتَ لي بأَسَدٍ واحِدٍ فقط... سوفَ أَسْلَخُ جِلْدَكَ على هذا الإهْمالِ!".
فَلَمَّا سَمعَ الأَسدُ هذا الخطابَ، فَكَّرَ أَنَّ ابنَ آوى خَدَعَهُ، وَجَرَّهُ إِلى هذا المكانِ ليُوردَهُ سبيلَ الهلاكِ. وفي ثَوْرَتِهِ انْقَضَّ على الحيوانِ المَصْعوقِ (المصعوق: المدهوش.) وَهَشَّمَهُ، ثم انطلقَ هارِباً بينَ الغاباتِ. وفي تلكَ الأَثناءِ كانتِ العنزةُ تنْسَلُّ من الكهفِ بِحَذَرٍ، وعلى ثَغْرِها ابتسامةُ الظَّفَرِ والغَلَبَةِ.
المصدر: المشوق في المطالعة والأدب ج5 لحنا الفاخوري
*188*
*188*
ابن حجة الحموي
كان ملِكٌ عظيمُ الشَّأْنِ يُحِبُّ التَّنَزُّهَ والصَّيْدَ. وكان لهُ كلبٌ لا يُفارقُه.
فخرجَ يوماً إِلى بَعضِ مُتَنَزَّهاتِهِ وقال لبعضِ غِلْمانه: - قُلْ للطَّبَّاخِ يُصْلِحْ لنا ثُرْدَةً (الثُّردة: خبز يفت ويبل في المرق.) بِلبنٍ. فجاءُوا باللّبنِ إِلى الطَّبَّاخ، ونَسِيَ أَن يُغطِّيَهُ بشيءٍ واشتغلَ بِالطَّبْخ. فخرجت من بعضِ الشُّقوق أَفعى فكرعت (كرع في الماء: مد عنقه وتناول الماء بفيه.) في ذلك اللَّبنِ ونفثت (نفثت: أخرجت.) في الثُّرْدةِ من سُمِّها. والكلبُ رابِضٌ يرى ذلك ولم يجدُ لهُ حيلةً يصلُ بها إِلى الأَفعى.
وكانَ هُناكَ جاريةٌ خرْساءُ قدْ رأتْ ما صنعت الأَفعى. وَوافَى الملِكُ مِنَ الصَّيْدِ في آخِرِ النَّعار فقال: - يا غِلْمانُ أَدْرِكوني (أدركوني: اسعفوني بها.) بالثَّرْدةِ.
فلمَّا وُضِعَتْ بين يديهِ أَوْمأَتِ الخرْساءُ إِليهِ فلمْ يفهمْ ما تقولُ.
ونبحَ الكلبُ وصاحَ فلمْ يلتفِتْ إِليه، ولجَّ في الصّياحِ فلمْ يعلمْ مراده. فقالَ للغلمان:
- نحُّوهُ عنّي.
ومَدَّ يدهُ إلى اللَّبنِ بعدَما رمى إِلى الكلب ما كانَ يرمي إليهِ. فلمْ يلتفت الكلبُ إِلى شيءٍ من ذلك ولم يلتفِتْ إِلى غير الملِك. فلمَّا رآهُ يُريدُ
*189*
أن يضعَ اللُّقمةَ نت اللَّبنِ في فمِهِ وثبَ إِلى وسطِ المائدةِ وأَدخلَ فمهُ وكرعَ من اللَّبنِ وسقطَ ميْتاً.
وبَقِيَ الملِكُ مُتَعَجِّباً من الكلبِ زمِنْ فِعْلِهِ. فأَوْمَأَتِ (أومأت: أشارت.) الخرْساءُ إليهم فعرفوا مُرادَها وما صنعَ الكلبُ.
فقالَ الملِكُ لحاشيَتِهِ:
- هذا الكلبُ قد فداني بنَفْسِهِ وقد وجبَ أن نكافئَه. وما يحمِلُهُ ويدفِئُهُ غَيْري.
فدفنهُ وبنى عليهِ قُبَّةً في ظاهِرِ (ظاهر المدينة: المكان المرتفع والمشرف منها.) المدينة.
المصدر: كتاب ثمرات الأوراق للحموي
*190*
*190*
ايسوب
من أكبر اليونانيين الذين أبدعوا في مضمار الأمثال. ويكتب اسمه بعدة أشكال: ايسوبس وايزوب وايصوبوس. عاش هذا الأديب في اليونان في القرن السادس قبل الميلاد.
له أمثال كثيرة أثّرتْ في الأدب العالميّ تأثيراً ملموساً، وبعضُها قد استقى فكرته من الأمثال الهندية والمصرية القديمة...
(أ) وُجْهَةُ سَيْرٍ واحِدَةٌ
فَقَدَ أَسَدٌ عَجوزٌ قُدْرَتَهُ عَلى تَأمينِ طَعامِهِ في الصيدِ أَوِ القِتالِ، فَقَرَّرَ أن يُؤَمِّنَ قُوتَ يَومِهِ بِذَكائِهِ. جَلَسَ في عَرينِهِ وَزَعَمَ أَنَّهُ مَريضٌ، فَكانَ كُلَّما جاءَهُ حَيَوانٌ لِزِيارَتِهِ أَمْسَكَ بِهِ وَالْتَهَمَهُ.
بَعْدَ أَنْ قَتَلَ عَدَداً مِنَ الحَيَواناتِ عَلى هذهِ الطريقةِ، عادَهُ الثَّعْلَبُ وأَدْرَكَ الْحيلَةَ، فَوَقَفَ على مَسافَةٍ مِنَ العَرينِ (بيت الأسد)، وَراحَ يَسْتَفْسِرُ عَنْ صِحَّةِ الأَسَدِ مِنْ بَعِيدٍ.
أجابَ الأَسَدُ: "صِحَّتِي على أَسْوأ حالٍ".
وَبَعْدَ قَليلٍ قالَ الأَسَدُ مُعاتِباً: "لِماذا لا تَدْخُلُ العَرينَ وَتَزورُني؟" أجابَ الثَّعْلَبُ: "لَمْ أَكُنْ لِأَتَأَخَّرَ عَنْ ذلكَ، لَوْ لَمْ أَرَ العَديدَ مِنَ الحَيَوانِ يَدْخُلُ عَرينَكَ ولا يَخْرُجُ مِنْهُ يا صاحِبِي العَزيزَ".
*191*
(ب) الأَسَدُ والحِمارُ والثَّعْلَبُ
أَقامَ أَسَدٌ وَحِمارٌ وَثَعْلَبٌ شَرِكَةً لِلصَّيْدِ تَكونُ حِصَّةُ كُلِّ واحِدٍ فيها مُتَساوِيَةً. خَرَجَ الشُّرَكَاءُ الثلاثةُ لِلصَّيْدِ، وَحينَ أَصابوا صَيْداً وافِراً طَلَبَ الأَسَدُ مِنَ الحِمار أَنْ يَقْسِمَ الصيْدَ عَلى الشُّرَكَاءِ الثلاثةِ فَقَسَمَهُ إِلى ثلاثةِ أَقْسامٍ بِالتَّساوي، وَطَلَبَ مِنَ الأَسَدِ أَنْ يَخْتارَ حِصَّتَهُ.
غَضِبَ الأَسَدُ وَهَجَمَ على الحِمارِ وَقَتَلَهُ، ثُمَّ طَلَبَ أَنْ يَقْسِمَ الصَّيْدِ.
جَمَعَ الثعلبُ كُلَّ الطَّرائِدِ في كَوْمَةٍ واحِدَةٍ، وَتَرَكَ القَليلَ القليلَ مِنْها لِنَفْسِهِ وَقالَ لِلأَسَدِ: "اخْترْ ما تُريدُ" أُعْجِبَ الأَسَدُ بِبادِرَةِ الثعلبِ وَسَأَلَهُ: "مَنْ عَلَّمَكَ أَنْ تَقْسِمَ الأَشْياءَ عَلى هذا النَّحْوِ؟" أَجابَ الثعلب: "إِنَّ ما عَلَّمَني ذلكَ هُوَ مَصِيرُ الحِمارِ يا صاحِبي".
(ج) الأَسَدُ والفَأْرَةُ
مَشَتْ فَأْرَةٌ فَوْقَ أَسَدٍ نائِمٍ، فَاسْتَيْقَظَ وَأَمْسَكُ بِها وَفَكَّرَ في أَنْ يَأْكُلَها إِلاّ أَنَّ الفَأْرَةَ توسَّلَتْ إِلَيهِ لِيَتْرُكَها، وَوَعَدَتْ بَأَنْ تُكافِئَهُ إِذا تَرَكَها.
ضَحِكَ مِنها الأَسَدُ وتَرَكَها. وَبَعْدَ وَقْتٍ غَيْرِ طَويلٍ سَقَطَ الأسدُ في شِباكٍ أقامَها لَهُ بَعضُ الصيّادينَ. فَسَمِعَتِ الفَأرِةُ أَنينَهُ (صوت الألم) وَانْدَفَعَتْ إِلَيهِ تَقْرِضُ حِبالِ الشِّباكِ حَتَّى أَنْقَذَتْهُ. قالَتْ لَهُ: "ضَحِكْتَ مِنّي في المَرَّةِ الماضِيَةِ، لِأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ تَتَوَقَّعُ مِنّي أَنْ أُكافِئَكَ على حُسْنِ صَنيعِكَ لِي. إِنَّكَ الآنَ تَرَى أَنَّ الفِئْران رَغْمَ تَفاهَتِها لا تَنْسَى الجَمِيلِ".
*192*
(د) فَأْرَةُ المَدينَةِ وَفَأْرَةُ القَريَةِ
دَعَتْ فَأْرَةُ حَقْلٍ صَديقَةً لَها مِنَ الفِئْرانِ التي تَعيشُ في المَدينةِ، لِتَتَناوَلَ الطعامَ مَعَها في بَيْتِها الرّيفِيِّ. قَبِلَتْ فأرَةُ المدينةِ الدعوةَ بِكُلِّ سُرورٍ. ولكنَّها حينَ وَجَدَتْ أَنَّ وَجْبَةَ الطعامِ تَتَألَّفُ مِنَ الشعيرِ وَبَعْضِ حَبّاتِ الذُّرَةِ قالَتْ لِمُضيفَتِها: "اِسْمَحِي لي أَنْ أقولَ لَكِ يا صَديقَتي إِنَّكِ تَعِيشِينَ كَعِيشَةِ النَّمْلِ. أمَّا أنا فَعِنْدي وَفْرَةٌ في الطعامِ؛ فإِنْ جِئْتِ مَعي فَإِنَّكِ تُشارِرِكينَني أَشْهَى المآكِلِ".
وهكذا ذَهَبَتِ الآِثْنَتانِ مَعاً إِلى المَدينة. وَحينَ أَطْلَعَتْها صَديقَتُها ابْنَةُ المَدينَةِ على حُبوبِ البازِلاّ والفاصوليا والخُبْزِ والتَّمْرِ والجُبْنَةِ والعَسَلِ والفاكِهَةِ هَنَّأَتْها فأرَةُ الحَقْلِ بِحَرارَةٍ، وَراحَتْ تَنْدُبُ حَظَّها البائِسِ.
وَكانَتِ الفأرَتانِ على وَشْكِ البَدْءِ بِالطَّعامِ حِينَ فٌتِحَ البابُ فَجْأَةً، فَخافَتِ الفأرَتانِ المِسْكينَتانِ مِنَ الصَوتِ، وَاخْتَبَأَتا في شِقٍّ قَريبٍ. وَحِينَ عادَتا وكانَتا على أُهْبَةِ تَناوُلِ التينِ المُجَفَّفِ شاهَدَتا شَخْصاً يَدْخُلُ الْغُرْفَةَ لِيُحْضِرَ شَيْئاً، فَقَفَزَتا أيضاً إِلى شِقٍّ في الحائِطِ.
عِنْدَئِذٍ قَرَّرَتْ فَأرَةُ الحَقلِ أَنَّها لا تَهْتَمُّ بِالجوعِ، فقالَتْ: "الوَداعَ يا صَديقَتي.. بِإِمْكانِكِ أنْ تَأْكُلي وَتَشْبَعي وَتَفرَحي وَحْدَكِ، وَلكِنَّ نِعْمَتَكِ هذِه تَدفَعينَ ثَمَنَها مَخاوِفَ كَثيرَةً. إِنَّني أُفَضلُ أنْ أَقْضِمَ (أقطع) وَقَعاتِيَ البَسيطَةِ مِنَ الشَّعيرِ والذُّرَةِ دونَ خَوْفٍ أَوْ تَوَقُّعٍ مُداهِمٍ بَيْنَ لَحْظَةٍ وَأُخْرَى".
*193*
(ه) الفَلاّحُ والثُّعْبانُ
خَيْرٌ بِشَرٍّ
وَجَدَ عامِلُ مَزرعةٍ في أَحَدِ أَيامِ الشتاءِ حَيَّةً قَدْ جَمَّدَها البَرْدُ، فَاسْتَبَدَّتْ بِهِ الشَّفَقَةُ، وَرَفَعَ الحَيَّةَ وَوَضَعَها في صَدْرِهِ لِتَدْفَأَ. وَما إِنْ دَبَّ الدِّفْءُ فيها حَتَّى اسْتَعادَتْ فِطْرَتَها الطبيعيَّةَ وَلَسَعَتْ مُنْقِذَها لَسْعَةً قاتِلَةً. فَقالَ الرجُلُ وَهُوَ يَلْفِظُ أَنْفاسَهُ: "نِلْتُ ما أسْتَحِقُّ لِأَنَّني أَشْفَقْتُ على مَخْلوقٍ شِرِّيرٍ".
(و) يَموتُ الجُهَلاءُ لاِفْتِقَارِهِمْ إِلى الْحِكْمَةِ
رَقَصَ قِرْدٌ أمامَ مَجموعةٍ مِنَ الحَيَواناتِ، فَاسْتَأْثَرَ بِإِعْجابِها وانْتَخَبَتْهُ مَلِكاً عَلَيها. دَبَّتِ الغَيْرَةُ في نَفْسِ الثعلبِ. وفيما كانَ يتجولُ في البرّيَّةِ لَمَحَ فَخًّا وَقَدْ صُلِيَ بِقِطْعَةٍ شَهِيَّةٍ مِنَ اللَحمِ، فَأَحْضَرَ القِرْدَ إِلى الفَخِّ وَقالَ لَهُ: - "اِخْتَرْتُ لِجَلالَتِكَ هذهِ القِطْعَةَ الشَّهِيَّةَ مِنَ اللحمِ. لَمْ أَسْمَحْ لِنَفْسي أَنْ آكُلَها.. بَلْ تَرَكْتُها تَكْريماً لِمَقامِكُمْ المَلَكِيِّ العَظيمِ".
اِبْتسَمَ القِرْدُ في غُرورٍ، وَتَوَجَّهَ في غَيْرِ حَذِرٍ إلى قِطْعَةِ اللحمِ، وَما إِنْ شَدَّها إلَيْهِ حَتَّى أطْبَقَ الفَخُّ عليهِ، فَراحَ يَصْرُخُ ويَتَّهِمُ الثعلبَ بِأَنَّهُ هُوَ الذي أَعَدَّ لَهُ هذا الشَّرَكَ. فَقالَ الثعلبُ: "تَصَوَّرْ يا صَدِيقِيَ القِرْدَ ما تَكُونُ حالَةُ الحَيَواناتِ لَوْ أَنَّ جاهِلاً غَبِيًّا مِثْلَكَ تُوِّجَ مَلِكاً عَلَيْها".
*194*
(ز) الرِّجالُ وَالأُسودُ
اِلْتَقَى ذاتَ مَرَّةٍ رَجُلٌ بِأَسَدٍ، فَتَرافَقا مَعاً في الطريقِ، وَراحَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما يُحادِثُ رَفيقَهُ مُفاخِراً.
بَرَزَ أمامَهُما إِلى جانِبِ الطريقِ نُصْبٌ (حجر منصوب مكتوب عليه أو محفور) مِنَ الرُّخامِ حُفِرَتْ عَلَيهِ صورَةُ رَجُلٍ يَخْنُقُ أَسَداً. فَأَشارَ الرَّجُلُ بِإِصْبَعِهِ في حَرَكَةٍ ماكِرَةِ وَقالَ لِرَفيقِ طَريقِهِ: "أَرَأَيْتَ؟ نَحْنُ الرجالَ أَقْوَى مِنَ الأُسودِ".
اِرْتَسَمَتِ ابْتِسامَةٌ عَلى وَجْهِ الأَسَدِ وَقالَ: "لَوْ كانَتِ الأُسودُ تَعْرِفُ الحَفْرَ عَلى الحَجَرِ لَكُنْتَ رَأَيْتَ دائِماً صُورَةَ أَسَدٍ يَرْبِضُ فَوْقَ صَدْرِ رَجُلٍ".
المصدر: كتاب أشهر الخرافات والأساطير العالمية
ترجمه جوزيف فاخوري
*195*
*195*
(أ) القرد والنجار
قالَ كَليلةُ: زَعَموا أَنَّ قِرْداً رَأَى نَجَّاراً يَشُقُّ خَشَبَةً وهو راكِبٌ عَليها، وَكُلَّما شَقَّ مِنها ذِراعاً أَدْخَلَ فيها وَتِداً. فَوَقَفَ يَنظُرُ إِليهِ وقد أَعْجَبَهُ ذلكَ. ثُمَّ إِنَّ النجّارَ ذَهَبَ إِلى بَعْضِ شَأْنِهِ فَرَكِبَ الخَشَبَةَ وَجَعَلَ ظَهْرَهُ قِبَلَ (جهة) الوَتِد وَوَجْهَهُ قِبَلَ طَرَفِ الخَشَبَة، فَتَدَلَّى ذَنَبُهُ في الشِّقِّ وَنَزَعَ الوَتِدِ فَلَزِمَ الشِّقُّ عليه، فكادَ يُغْشَى عَليه (أغمى عليه) مِنَ الأَلَم.
ثُمَّ إِنَّ النّجارَ أَتاهُ فَوَجَدَهُ على تلكَ الحالَة، فَأَقْبَلَ عليه يَضْربُهُ؛ فَكانَ ما لَقِيَ مِنَ النَّجّارِ مِنَ الضَّرْبِ أَشَدَّ مما أَصابَهُ مِنَ الخشبة.
المصدر: "كليلة ودمنة" ترجمه ابن القفع
(ب) الثعلبُ
خرج الثعلبُ منْ مَأْواه عندَ شُروق الشّمسِ، فَتَطَلَّعَ إلى ظلِّهِ مُنْذَهلاً، وقال: "سَأَتغدى اليوم جملا !" ثُمَّ مَضَى في سَبيلِهِ يُفَتِّشُ عَنِ الجِمالِ الصباح كله. وعند الظهيرة، تفرس (نظر مثبتاً نظره فيه.) في ظِلِّهِ ثانِيَةً فَقالَ مُندَهِشاً: "بلى (نعم)، إِنَّ فَأْرَةً واحدَةً تَكْفيني".
المصدر: "المجنون" لجبران خليل جبران
*196*
*196*
ابراهيم عبد القادر المازني
ولد بالقاهرة سنة 1890، له ديوان شعر في جزئين وعدة كتب نثرية من أشهرها "شعر حافظ ابراهيم"، "صندوق الدنيا"، "حصدا الهشيم" وفي هذا الكتاب الأخير تتوفر المقالات النقدية.
توفي في القاهرة سنة 1949.
وقفتُ مَرَّةً بِبابِ مَكْتَبَةٍ أَتَأَمَّلُ مَعْروضاتِها مِنْ وَراءِ الزُّجاجِ، فأَخَذَتْ عَيني كُتَيِّباً يُعَلِّمُ الأَجانِبَ "اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ بِلا مُعَلِّمٍ"، فَراعَتْني (راعة الأمر: أفزعه ويأتي بمعنى أعجبه كما في النص) هذِهِ الجُرْأَةُ، وَتَمَثَّلَ لِخاطِرِي ما يُكابِدُهُ الأَساتِذَةُ مِنَ العَناءِ في تَدْريس هذِهِ اللُّغَةِ، بَلْ ما نُعانيهِ نَحْنُ الذينَ نَزْعَمُ أَنْفُسَنا أَدَباءَ (جمع أديب وهو الذي يتعاطى العلوم والمعارف المستظرفة والذي يجيد الكتابة فيها.) وَشُعَرَاءَ، ولا أُطيلُ. اِشْتَرَيْتُ الكتابَ بِثَمَنٍ باهِظِ، ثُمَّ انْتَحَيْتُ زاوِيَةً (انتحى المكان: قصده واعتزل به.) في مَقْهًى، وَرُحْتُ أُقَلِّبُهُ، فَإِذا هُوَ لا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفاظٍ ومُحادَثاتٍ بِاللُّغَةِ الإِنْكِلِزِيَّةِ وما يُقابِلُها بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، فَتَحَسَّرْتُ عَلى ما بَذَلْتُ فيهِ، وَسَأَلْتُ نَفْسي: "ماذا أَصْنَعُ بِهِ؟ كَيْفَ أُعَوِّضُ عَنْ خَسارَتي؟" واللهُ أَكرَمُ مِنْ أَنْ يُضيعَ على فَقيرٍ مِثْلي مالَهُ، إِذا صَحَّ أَنْ تُسَمَّى القُروشُ مالاً.
فَأَلْهَمَني أَنْ أَنْتزِعَ مِنهُ مُتْعَةً (ما ينعم به المرء ويتلذّذ.)لا أَظُنُّ مِصْرِيًّا غَيْري حَلَمَ بِها أوْ طَمِعَ فيها. ذلِكَ أَنّي فَرَضْتُ أَنّي مالِطِي (من مالطة، وهي جزيرة في البحر المتوسط) واتَّخَذْتُ هذا الكِتابَ مُرْشِداً لي، وقُلْتُ: أَتَقَيَّدُ بِجُمَلِهِ في المُحادَثاتِ التي أُضْطَرُّ إِلَيْها في تَجْوالي في المَدينَةِ.
*197*
وَلَمِّا كُنْتُ سائِحاً، وشوارِعُ المَدينَةِ مُشْتَبِكةً تُضِلُّ الغَريبَ، فَقَدْ وَجَبَ، وَفْقاً لِمَشورَةِ الكِتابِ، أَنْ أَرْكَبَ عَرَبَةً وأَنْ أَحْتَمِلَ هذا التَّرَفَ (اللين في العيشة والسعة؛ التنعُّم.) الضَّرورِيَّ، فَفَتَحْتُ الصَّفْحَةَ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ، حَيْثُ الحَديثُ مَعَ سائقِ العَرَبَةِ، وَدَنَوْتُ مِنَ المَوْقِفِ وأَشَرْتُ بِعَصاً اشْتَرَيْتُهَا خُصوصاً لِهذِهِ الفُرْصَةِ السَّعيدَةِ وَصِحْتُ بِلِسانِ مِلْتونَ (شاعر انكليزي عاش من سنة 1608 الى سنة 1674، من آثاره "الفردوس المفقود".) "أَرْبَجي!" فَأَلْهَبَ (ألهب الجواد: هاجه وآثاره.) السائِقُ جَوادَيْهِ وعَدا إِلَيَّ بِهِما.
فَلَمَّا صارَ عِنْدي، عُدْتُ إِلى الكِتابِ، أَسْتَوْحيهِ الجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ الَّتي يَنْبَغي أَنْ تَتْلُوَ النّداءَ، ثُمَّ رَفَعْتُ إِلَيْهِ رَأْسي وَقُلْتُ: "رُوهْ هاتْ أَرَبَهْ!" فَكَأَنّي لَطَمْتُ الرَجُلَ عَلى وَجْهِهِ، فَانْطَلَقَ يُمْطِرُني وابِلاً (الوبل: المطر الشديد الضخم القطر.) مِنَ الكَلامِ، لَمْ أَفْهَمْهُ، كما هُوَ المَفْروضُ، إِذْ كنْتُ غَريباً عَنْ هذِهِ الدِّيارِ.
وَلكِنَّني تَبَيَّنْتُ مِن لَهْجَةِ الرَّجُلِ وإِشاراتِهِ أَنَّ المعاني جَميلَةٌ جِدًّا، وأَن جُمْلَتي راقَتْهُ كَما لَمْ يَرُقْهُ شَيْءٌ في حياتِهِ.
وَعُدْتُ إِلى الكِتابِ أَسْتَمليهِ الجُمْلَةَ الثَّالِثَةَ، لَعَلَّها تَحُلُّ الإشْكالَ (الالتباس وعدم الوضوح، الصعوبة.) فَقُلْتُ: "يا أَرْبَجي، إِنْتَ فاضي؟" فَرَماني بِنِظْرَةِ مَغِيظٍ، لَمْ أَدْرِ ما مُسَوِّغُها (مُسوّغ الأمر: ما يُبيحه ويُجيزه.)، ثُمَّ رَفَعَ طَرْفَهُ وَكَفَّيْهِ إِلى السَّماءِ، ثُمَّ صاحَ بِالنَّاسِ، فَالْتَفَّ حَوْلي مِنْهُمُ اثنانِ، كَلَّمَني أَحَدُهُما بِالفَرَنْسِيَّةِ، فَهَزَزْتُ لَهُ رَأْسي فَخاطَبَني بِاليونانِيَّةِ، فَظَلِلْتُ أَهُزُّ لَهُ رَأْسي، فَجَرَّبَ الثَّاني الإِيطالِيَّةَ، فَأَشَرْتُ لَهُ بِإِصْبَعِي أَنْ لا. وخِفْتُ أَنْ يَطولَ الأَمْرُ، فَجاوَبْتُهُ بِالإِنْكِلِيزِيَّةِ، وَجَعَلَ يَرْفَعُني ويَخْفِضُني بِعَيْنِهِ. وأُوجِزُ فأَقولُ: إنِّي حَسْماً لِلنِّزاعِ (حسم النزاع: قطع الجدال.) رَكِبْتُ، وَقَلْتُ لِلسائِقِ "طَيِّبْ !" إِذْهَبْ بي إِلى المَهَطَّة"، فَانْطَلَقَتِ العَرَبَةُ؛ وبَديهيٌّ (ما يتبادر إلى الذهن ولا يحتاج إلى تفكير ونظر.) أَنّي كُنْتُ أُوثِرُ مَكاناً آخَرَ، وَلكِنِّي كُنْتُ مُقَيَّداً بِالكِتابِ.
*198*
فَلَمَّا انْتَهَيْنا، لَمْ أَنْزِلْ، وَصِحْتُ بِهِ، نَقْلاً عَنْ مُرْشِدي: "كَمْ تُريدُ لَك؟" وَكانَ يَنْبَغي أَنْ يَقولَ، وَفْقاً لِلْكِتابِ: "واحَد شِلِنْ(خمسة غروش مصريّة.)"، ولكِنَّهُ طَلَبَ نِصفَ ريالٍ (خمس الليرة المصرية.)، فَدَهِشْتُ وَبَحثْتُ في غِلافِ الكِتابِ عَنْ تاريخِ طَبْعِهِ، فَأَلْفَيْتُهُ 1926، فَقُلْتُ لِنَفْسي: "لَعَلَّ الأُجورَ ارْتَفَعَتْ في هذا البَلَدِ بَعْدَ صُدورِ الكِتابِ"، وَكانَ عَلَيَّ أَنْ أُناقِشَهُ (استقصى في محادثته.) كما يَحْتِمُ (حتم عليه الأمر: أوجبه عليه؛) الكِتابُ. فَقُلْتُ: "لا، هذَا كَثير." وكانَ يَنْبَغِي، عَلى ما رَسَمَ الكِتابُ، أَنْ يَكونَ رَدُّهُ عَلى مُلاحَظَتي: "كَما في التَّعْرِفَةِ"، غَيْرَ أَنَّهُ، بَدَلاً مِنْ أَنْ يَفْعَلَ ذلِكَ، مَضى يَشْتِمُني وَيَسُبُّني ويَلْعَنُ لي آبائي وَجُدودي، وَهُوَ آمِنٌ، مُطْمَئِنٌّ (اطمأّنَّ الى كذا: سكن إليه ووثق به.) إِلى جَهْلي لُغَتَهُ البَذيئَةَ عَلى الأَقَلِّ، فَلَمْ أَرَ مَناصاً مِنْ أَنْ أَرُدَّ لَعَناتِهِ مُرادِفَةً لِلرَّدِّ الواجِبِ، وَنَقَلْتُ لَهُ مِنَ الكِتابِ: "سِتَّة كروش بس".
فَحَصَبَني (حصبه: رماه بالحصى. وهنا "حصبني بملء صحراء من اللعنات "أي رشقني بلعنات كثيرة جدًّا، تعادل ملءَ صحراء من الحصى.) بَمَلْء صَحْراءَ منَ اللَّعَناتِ والشَّتائِمِ، ثُمَّ قالَ: "هاتْ بَقى !" فَفَهمْتُ "هات" لأَنَّها في الكتاب، وتجاوَزْتُ عَنْ "بقى" عَلى اعتِبار أَنَّها على الأرجح كلمةُ شُكْرٍ أَوْ دُعاءٍ، وناوَلْتُهُ القُروش السِّتَّةَ.
وإِذا بِه يثب إلى الأرْض ويجذبني منْ جَيْب ثَوْبي، وَيَصُبُّ عَلَيَّ منَ السِّباب ما يكفي شعْبا بأسره جيلا كاملا.
المصدر: كتاب صندوق الدنيا للمازني
*199*
صفحة فارغة
*200*
*200*
جحا
هو نصر الدين الرومي الملقب بجحا.
ولد في قرية تقع في الاناضول بتركيا، وقد عاش في القرن الثاني عشر الميلادي وبعض الرواة يذكر انه عاش في القرن الثالث عشر الميلادي أو الرابع عشر.
البعض يقول عنه انه شخص مثقف عاش في أيام هارون الرشيد، وبعض المؤرخين يقول إنه شخصية وهمية نُسِبَ إليها الكثير من النوادر والفكاهات التي نسجت حول أبي الغصن بن ثابت الملقب بجحا. وقد عاش هذا الشخص في قبيلة فزارة في القرن العاشر الميلادي، ثم وصلت هذه النوادر إلى الأتراك عن طريق الرواية. ثم نسبت في القرن الخامس عشر أو السادس عشر إلى الحوجة نصر الدين الرومي.
جاء رجل إلى جحا وقال له:
- أرجو أن تكتب لي خطاباً لأحد أصدقائي في "بغداد".
فقال له جحا:
- بالله دعني؛ فليس عندي وقت للسفر إلى بغداد.
فتعجب الرجل وقال:
- إني أريد أن تكتب لي خطاباً إلى بغداد، ولم أطلب منك السفر إليها !
فقال جحا:
- إن خطي لا يستطيع أن يقرأه غيري.. فإذا كتبت لصديقك الذي في بغداد فلا بد أن أسافر إليها، لأقرأه له.
ودق سائل باب جحا.. وكان على سطح منزله.. فقال له:
*201*
- ما حاجتك؟
فقال السائل: انزل.
فنزل جحا إليه.
وفتح الباب له.
فقال الرجل: أنا سائل محتاج، فأعطني شيئاً لله !
فقال جحا للسائل: تعال معي.
فذهب السائل وراءه حتى صعد إلى السطح.
وهناك قال له جحا: الله يعطيك.
فقال له السائل: لماذا لم تقل لي هذا الكلام وأنا واقف أمام الباب؟!
فأجابه جحا:
- وأنت لماذا لم تطلب الإحسان وأنا مطل عليك من فوق السطح؟!
المصدر: كتاب اخبار جحا لعبد الستار فراج
*202*
*202*
ابراهيم عبد القادر المازني
دَخَلَ خَصْمي مَزهُوًّا (معجباً بنفسه.) مُنْتَفِخاً، وَدَخَلْتُ وَرَاءَهُ مُطَأْطَأَ الرَّأْس مِنْ فَرْطِ الاسْتحْياءِ؛ وَقَابَلَنَا الْجُمْهُورُ مُقابَلَةً حَارَّةً.
ثُمَّ نَهَضْنَا وَتَصَافَحْنَا؛ وَلكِنَّ خَصْمِي زَادَ عَلَى ذلِكَ أَنْ لَمَسَ ذَقَنِي بقُفَّازه (القفاز: لباس اليد.) وَابْتَسَمَ؛ فَعَلاَ الضَّحِكُ، فَأَحْسَسْتُ أَنَّ دَمِي يَغْلِي في عُرُوقِي مِنَ الْغَضَب؛ وَهَلْ ممَّا يُحْتَمَلُ أَنْ يَجْعَلَنِي هذَا الْجِلْفُ (الجلف: الإنسان الغليظ.) أُضْحُوكَةً وَعُرْضَةَ اسْتهْزَاء؟... اغْتَنَمْتُ فُرْصَةً سَنَحَتْ لِي، فَلَكَمْتُهُ بِقُوَّةٍ عَلَى أَنْفِهِ؛ وَلَمْ يَكُنْ هذا ذَنْبي؛ فَقَدْ كَان أَنْفُهُ كَبِيراً يُغْرِي بِاللَّكْمِ (يُغري باللكم: أي يشجع على اللكم.)، وَأَحْسَبُ أَنَّ اللَّكْمَةَ كَانَتْ عنيفة، فقد دَارَ وَتَطَرَّحَ (تطرّح: سقط بشدّة.). ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ كَالْوَحْشِ الْمُفْتَرِسِ. فَتَذَكَّرْتُ ثَنَاءَ مُمُرّني على سُرْعَتي وَخفَّةِ حَرَكَتِي.
وَذَهَبْتُ أُحاوِرُ خَصْمِي، وَأُدَاوِرُهُ بِخِفَّةٍ وَسُرْعَة لَمْ أَعْهَدْهُما في نَفْسِي مِنْ قَبْلُ. وَقَدْ نَفَعَنِي ذلِكَ؛ فَانْتَهَى الشَّوْطُ الأَوَّلُ منْ غَيْر أَنْ يُصيبَني أَذًى. وَكُنْتُ أَنْتَظِرُ أَنْ أَلْقَى مِنَ الْمُتَفَرِّجِينَ تَشْجِيعاً.
وَلكِنَّ الشَّوْطَ الثَّانِيَ بَدَأَ وَالْكُلُّ صَامِتٌ وَكَانَ خَصْمِي مَغِيظاً مُحَنَّقاً (محنقاً: شديد الغضب.) لاَ أَدْرِي لمَاذَا فَانْهَالَ عَلَيَّ كُالصَّخْرَةِ (أنهال عليَّ: انقضّ عليّ وهجم بقوّة.). وَلكِنْ كُنْتُ أَسْرَعَ مِمَّا قَدَّر. فَلَمْ يَبْلُغْ منّي شَيْئاً؛ وَيَظْهَرُ أَنَّ هذَا قَدْ زَادَهُ سُخْطاً وَغَيْظاً.
فَقَدْ صَاحَ بِي بِأَعْلَى صوْتِ: "أَلاَ يُمْكِنُ أَنْ تَقِفَ فِي مَكَانٍ؟ إِنَّ الْمَرْءَ يَحْتَاجُ إِلَى دَرَّاجَةٍ نَارِيَّةٍ
*203*
ليَلْحَقَ بكَ!" فَانْفَجَرَ الْمُتَفَرّجُونَ ضَاحِكِينَ، فَلَمْ يَبْقَ لِيَ عَقْلٌ فَقَدْ كان ضَحكُهُمْ عَلَيَّ وَلاَ شَكَّ. وَوَقَفْتُ وَثَبَتُّ لَهُ؛ فَأَقْبَلَ يُريدُ أَنْ يَلْكُمَني فَانْحَرِفْتُ قَليلاً لأَتَّقيَ الضَّرْبَةَ، فَرَاحَتْ في الْهَوَاء.
وَفي هذه اللَّحْظَة الَّتي انْحَرَفْتُ فيهَا سَمِعْتُ صَوْتاً يَصيحُ: "عَلَيْه! عَلَيْه !"
وَلاَ أَدْري أَكَانَ يَحُضُّني أَنَا أَمْ كَانَ يَحُضُّ خَصْمي عَلَى الإِلْوَاء بي (القضاء عليَّ.)، وَلكنَّ الَّذي أَدْريه أَنَّ الْبَقيَّةَ البَاقيَةَ منْ عَقْلِي طَارَتْ وَذَهَبَتْ مَعَ الرِّياح الأَرْبَع؛ وَدُرْتُ واسْتَقْبَلْتُ خَصْمي الَّذِي دَارَ مِثْلي بَعْدَ أَنْ تَطَرَّحَ لما أَخْطَأَتْني ضَرْبَتُهُ؛ وَلَكَمْتُهُ تَحْتَ ذَقَنِه، فَارْتَمَى عَلَى الأَرْضِ وَانْحَنَى الْحَكَمُ عَلَيْه وَهُوَ يَعُدُّ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ يُهَنِّئُنِي بِالْفَوْزِ العَاجِلِ.
وَانْطَلَقَتْ صَيْحَةٌ عَظِيمَةٌ منَ الْجُمْهُورِ... وَوَقَفَ الْكُلُّ وَرَاحُوا يُصَفِّقُون بلاَ تَرَفُّق.
المصدر: كتاب المشوّق في القراءة العربية ج 5 لحنا الفاخوري
*204*
*204*
أبو القاسم الطنبوري
عاشَ في بغدادَ رجلٌ من الأغنياءِ، يُعرَفُ بأَبي القاسمِ الطُّنبوريِّ. وكانَ لهُ حذاءٌ مَضَى عليه سَبْعُ سنينَ وهو يلبسُهُ، وكلَّما ظهرَ فيهِ خَرْقٌ رقعَهُ، أو بَلَى فيه مَوضعٌ بادر إلى تَرْميمِهِ. وكانَتْ رجلاهُ. تَنُوءانِ بحَمْلهِ لأنهُ يشبهُ القاربَ في شكله.
وحدث يوماً أنْ دخلَ أبو القاسم حمَّاماً ليَغْتَسلَ، فقالَ له بعضُ أصدقائه: "يا أبا القاسم، إنّي أَشْتهي أَنْ تغَيِّرَ حذاءَكَ هذا لأنَّه في غايةِ الشَّناعة، وأنت والحمدُ لله واسِعُ النعمةِ، كثيرُ الرّبْحِ". فقالَ أبو القاسم: "الحقُّ معك، وإن شاءَ اللهُ أفعل". ولمَّا لبس ثيابَهُ وخرجَ منَ الحمَّامِ رأى بِجانِبِ حذائِهِ حذاءً جَديداً، فَظَنَّ أَنْ صديقهُ قد اشتراهُ لهُ ! فلبسَهُ وتركَ حذاءَهُ وذهبَ إلى بيتِهِ فَرِحاً. وكانَ ذلك الحذاءُ للمُفْتي (قاضي الأحكام الشرعية.)، خلعَهُ ودخلَ الحمَّام. فلما خرجَ بحثَ عنهُ فلم يجِدْهُ. فقالَ للحاضرين: "انظروا لعل الذي لبسَ حذائي ترك شيئاً بَدَلَهُ". فنظروا فلَمْ يجدوا سوَى حذاءِ أَبي القاسم، فعرفُوهُ لأنِّه كانَ يُضْرَبُ به المثلُ.
فأرسلَ المفتي خدمَهُ، فدخلوا بيتَهُ، فوجدوا الحذاءَ عِندَهُ، وأحضروهُ.
فأخذه المفتي منهُ وضربَهُ تأديباً له، وحَبَسَهُ مدةً، وغرّمهُ (غرمه: أخذ منه غرامة وجزاء.) بعضَ المالِ وأطْلَقَهُ.
*205*
خرجَ أبو القاسم من السجنِ وهو غضبانُ على الحذاءِ، فانطلق بهِ إلى نهر دِجلةَ فألقاهُ فيهِ، فغاصَ في الماءِ لِثِقَلِهِ.
وأتى بعضُ الصيَّادينَ ورمَى شبكَةً للصَّيْد فطلع فيها الحذاءُ، فلما رآه الصيادُ قالَ: "هذا حذاءُ أبي القاسم، والظاهرُ أنَّهُ وقعَ منهُ في النهرِ". فأتى به بيتَهُ فلم يجدْهُ، فنظرَ فرأَى نافذةً مَفْتُوحةً، فقذفَهُ منها فسقط على رَفٍّ عليهِ زجاجاتٌ مذهَّبةٌ مملوءةٌ ماءَ ورد، كانَ أبو القاسم قدِ اشتراها بمائةٍ وعشرينَ ديناراً، يرجو من ورائها ربحاً كبيراً. فتكسَّرَتِ الزجاجاتُ وانسكَبَ ماءُ الورْدِ. ولما جاءَ أبو القاسم وعلمَ الأمرَ الأمرَ ضربَ وجهَهُ وصاحَ: "وافَقْراه، ويلٌ لِهدا الحذاءِ الملعون".
ولما جنَّ الليلُ، قامَ أبو القاسم وأخذَ يحفِرُ حفرةً بجانبِ المنزلِ ليدفنَ الحذاءَ فيها ويستريحَ منهُ. فسمع الجيرانُ صوتَ الحَفْرِ، فظَنُّوا أن لصًّا ينقُبُ الحائطَ ليسرِقَهُمْ. فبلَّغوا الشُّرطةَ، فإذا هُمْ بأبي القاسم، فأحضروهُ إلى الحاكم. فسألَهُ الحاكم: "كيف تستحلُّ (تستحل: تجده حلالا.) أن نتقبَ على جيرانِكَ الجدارَ؟" فأخذ يشرحُ قصَّتَهُ فلم يلتفتْ إلى كلامِهِ، وحبَسَهُ وغرَّمَهُ بعضَ المال.
وبعدَ أيامِ من السَّجنِ مضَى وهو حانقٌ على الحذاءِ، فحملَهُ إلى مرْحاض فندقٍ كانَ بجوارِ بَيْتِهِ فألقاهُ فيهِ، فسدَّ مجراهُ ففاضَ وتأذَّى الناسُ من رائِحَتِهِ الكريهةِ. ولما كسَروا المجرى ليبحثوا عن سببِ اختِلالِهِ وجدُوا فيه حذاءً كبيراً، فتأمَّلوهُ فإذا هو حذاءُ أبي القاسم. فمضَوا إلى الوالي
*206*
وأخبروهُ بالخَبَرِ، فأمرَ باحضاره ووبَّخَهُ وقالَ لهُ: "يلزمُكَ ترميمُ المرحاض (بيت الخلاء،مُستَراح.)وأن تعوّض صاحبَ الفندق مائةَ دينار عمَّا لحِقَهُ، ثم خلّى سبيلَه (خَلَّى سبيله: أطلقه.).
وخرج أبو القاسم والحذاءُ معهُ وقالَ وهو يتميَّزُ (يتميّز: يتقطع من شدة الغضب.) غَيْظاً: "واللهِ لن أفارقَ هذا الحذاءَ ما دُمتُ حيًّا". ثم غسَلَهُ وجعلَهُ على سطحِ منزلِهِ حتى يجف. فرآهُ كلبٌ فأخذهُ بين أسنانِهِ ووثبَ بهِ على سطْحِ منزلٍ آخرَ، فسقطَ منهُ على رأس رجل فجَرَحَهُ. فاجتمع الناسُ وعرفوا الحذاءَ، فرفعوا الأمرَ إلى أمير المؤمنينَ، فحكم عليه بالعِوَض والقيامِ بلوازِم الجريحِ مدَّةَ مرضه.
وكانت هذه الحوادثُ والتعويضاتُ التي غُرِّمَها قد أَنفدَتْ كُلَّ أموالِهِ التي جمعها. فأخذَ الحذاءَ ومضَى به إلى القاضي وقالَ لهُ: "أطلبُ إلى مولانا القاضي أن يكتبَ بيني وبينَ هذا الحذاءِ مبارأَةً شرعيَّةً على أنه ليس منى ولستُ منهُ، وأنَّ كُلاًّ منَّا بَريءٌ من الآخرِ". وأخبَرَهُ بجميعِ ما جرى له بسببه. فضحك القاضي وصَرَفَهُ ثم قَالَ لجُلَسَائِه: "إن البخيل ليَستَعْجِلُ الفقر الذي منهُ هربَ، ويفوتُهُ الغنَى الذي إيَّاهُ طلبَ، فيعيشُ في الدنيا عيش الفقراء ويُحاسَبُ في الآخرة حسابَ الأَغْنياءِ".
المصدر: كتاب قصص العرب ج 3 لمحمد أحمد جاد المولى
*207*
*207*
أحمد أمين
ما أَحْوَجَني إِلى ضِحْكَةٍ تَخْرُجُ مِنْ أَعْماقِ صَدْري فَيُدَوّي بِها جَوّي! صِحْكَةِ حَيَّةِ صافيةِ عاليةِ، لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ التَبَسُّمِ، ولا مِنْ قبيلِ السُّخْرِيةِ وَالاسْتهْزاء؛ ولا هي ضحْكَةٌ صَفْراءُ لا تُعَبِّرُ عمَّا في القَلْبِ؛ وَإنَّما أُرِيدُها ضحْكَةً أُمْسكُ منْها صَدْري، وَأَفْحَصُ مِنْها الأَرْضَ بِرِجْلي (فحص الأرض برجله: هزّها وارتكض.)، ضِحْكَةً تَمْلأُ شِدْقَيَّ وَتُبْدي ناجذَيَّ (الناجذ: واحد النواجذ وهي أقصى الأضراس؛ ضحك حتى بانت نواجذه أي بالغ في الضحك. )، وَتُفَرِّجُ كَرْبي، وَتَكْشِفُ هَمّي.
وَلَسْتُ أَدْري: لماذا تُجيبُني الدمعةُ، وَتَسْتَعْصي عليَّ الضِّحْكَةُ، وَيُسْرعُ إِلَيَّ الْحُزْنُ، وَيُبْطِئُ عَنّيَ السُّرورُ، حَتَّى لَئِنْ كانَ تِسْعَةٌ وَتِسْعون سَبَباً تَدْعو إِلى الضِّحْكَة وَسَبَبٌ وَاحِدٌ يَدْعو إِلى الدمعةِ، غَلَبَ الدمْعُ وَانْهَزَمَ الضَّحكُ، وأَطاعَ القَلْبُ داعِيَ الحُزْنِ ولَمْ يُطِعْ دَواعِيَ السُّرور!
وَلكنْ لمَ خَصَّت الطبيعَةُ الإِنْسانَ بِالضَّحِكِ؟
السَّبَبُ بَسيطٌ جدًّا. فَالطَّبيعَةُ لَمْ تُحَمِّلْ حَيَواناً آخَرَ مِنَ الهُمومِ ما حَمَّلَتْهُ الْإنْسانَ، فَهَمُّ الحمار والكلبِ والقِردِ وسائِرِ أنواعِ الحَيَوانِ، أَكْلَةٌ يأكُلُهَا في سَذاجَة وَبَساطة... أما الإنسانُ فَإِنَّهُ يَحْسُبُ حِسابَ غَدِهِ كَما يَحْسُبُ حسابَ يَوْمه، وكما يَحْسُبُ حسابَ أمْسِهِ؛ وَيَخْلُقُ من هُمومِ الحياةِ ما لا طاقَةَ لَهُ بهِ.
أقولُ إِنَّ الطَّبيعَةَ عَوَّدَتْنَا أنْ تَجْعَلَ لِكُلِّ بابٍ مِفْتاحاً، وَلكُلِّ كَرْبٍ خَلاصاً،
*208*
ولكُلِّ عُقْدَةِ حلاًّ، وَلكُلِّ شِدَّةِ فَرَجاً: فَلَمَّا رَأَتِ اإِنْسانَ يُكْثِرُ مِنَ الهُمومِ ويَخْلُقُ لنَفْسه المُشْكلات وَالمَتاعِبَ التي لا حَدَّ لَها، أَوْجَدَتْ لَكُلِّ ذلكَ عِلاجاً فَكانَ الضحكَ.
والطَّبيعَةَ لَيْسَتْ مُسْرفَةً في المَنْحِ، فَلَمّا لَمْ تَجِدْ لِلْحَيَواناتِ كُلِّها هُموماً لَمْ تُضْحكْها، وَلمّا وَجَدَتِ الإِنسانَ وَحْدَهُ هو المَهْمومُ المَغمومُ، جعلَتْهُ وَحْدَهُ هو الحيوانَ الضَّاحِكَ.
لو أَنْصَفَ الناسُ لاَسْتَغْنَوْا عَنْ ثلاثَةِ أرباعِ ما في "الصَّيدَلِيّاتِ"، بالضَّحك، فضحْكَةً واحدَةً خَيْرٌ أَلْفَ مَرَّةٍ مِنْ "بُرْشامَةِ أَسْبرينَ" وَحَبَّةِ "كينينَ" وَما شئْتَ منْ أَسْمَاءٍ أَعْجَمِيَّةٍ وَعَرَبِيَّةٍ، ذلكَ لأَنَّ الضِّحْكَةَ عِلاجُ الطَّبيعَة، والأَسبيرينَ وما إليْه علاجُ الإِنسانِ، وَالطَّبيعَةُ أَمْهَرُ عِلاجاً وأصدقُ نَظَراً وأكثَرُ حُنْكَةً (النصر بالأمور). ألاَ تَرَى كَيفَ تُعالِجُ الطبيعةُ جِسْمَ الإِنسان بِما تُمِدُّهُ منْ حرارة وَبُرودَة، وَكُرات حُمْرٍ وَبِيضٍ (الكرات الحمر نتقل الأُكسيجين إلى الأنسجة والبيض تحاربُ جراثيم الامراض.)، وَآلافٍ مِنَ الأَشْياءِ يُعالِجُ بِهَا الجسمُ نَفْسَهُ ليَتَغَلَّبَ عَلَى المَرَضِ وَيَعودَ إِلى الصِّحَةِ. وَلا يُقاسُ بذلكَ شَيْءٌ منَ العلاج المُصْطَنَعِ.
فَانْفِجارُ الإنْسانِ بِضِحْكَةٍ يُجْرِي في عُروقِهِ الدَّمَ، وَلِذلِكَ يَحْمَرُّ وَجْهُهُ، وَتَنْتَفخُ عُروقُهُ، وَفَوْقَ هذا كُلِّهِ فَلِلضِّحْكَةِ فِعْلٌ سِحْرِيٌّ في شِفاءِ النَفْسِ وَكَشْف الغَمِّ وَإعادَةِ الحَياةِ والنشاطِ لِلرُّوحِ والبَدَنِ، وإعْدادِ الإِنسانِ لِأَنْ يَسْتَقْبلَ الحَياةَ وَمَتاعِبَها بِالْبِشْرِ والتَّرْحابِ.
وَلَوْ أَنْصَفْنَا - أَيْضاً - لَعَدَدْنا مُؤَلِّفِي الرواياتِ المُضْحِكَةِ وَالنُّكَتِ
*209*
وَالنوادر البارعَةِ التي تَسْتَخْرجُ مِنْكَ الضَّحِكَ، وَتُثيرُ فِيكَ الاعْجابَ والطَّرَبَ، وهؤلاء الذينَ يُضْحِكُونَ بأَشْكالِهِمْ وَأَلاعِيبِهِمْ وَحَرَكاتِهِمْ - أقولُ أنصفْنا لَعدَدْنا كُلَّ هؤلاء أَطبَّاءَ يُداوونَ النُّفوسَ، وَيُعالِجونَ الأَرْواحَ، ويُزيحون عَنَّا آلاماً أَكْثر ممّا يَفْعَلُ أَطبَّاءُ الأَجْسامِ، وَلَعَدَدْنا مَنْ يَسْتَكْشِفُ الضحكات فى عداد مَنْ يَسْتَكْشفُ دَواءً للسُّلِّ أو لِلسَّرَطانِ أو نَحْوِ ذلكَ مِنَ الأَدْواء المُسْتَعْصية، فَكلاهُما مُنْقذٌ لِلْإِنْسانِيَّةِ مِنْ آلامٍ، مُصْلِحٌ لِما يَنْتابُها (ينتابها: يصيبها.) منْ أَمْراض.
والضَحكُ بلْسمُ (بلسم: دواء سائل عطري أو مادّة صمغية تُضَمَّدُ بها الجراح.) الْهُموم وَمَرْهَمُ الأَحْزانِ، وَلَهُ طَرِيقَةٌ عَجيبَةٌ يَسْتَطيعُ بها أنْ يَحْملَ عنك الأَثْقالَ،وَيَحُطَّ عنكَ الصِّعابَ، وَيَفُكَّ منْكَ الأَغْلالَ (الأغلال: القيود.) - وَلَوْ إلى حين - حَتَّى يَقْوَى ظَهْرُكَ على النهوضِ بها، وَتَشْتَدَّ سَواعِدُكَ لحمْلها.
قَرَأْتُ مَرَّةً قصَّةً لَطيفَةً أَنَّ بئْراً رُكِّبَ عَلَيْها دَلْوانِ، يَنْزِلُ أَحَدُهُما فَارِغاً، ويَطْلُعُ الآخَرُ مَلآنَ، فَلَمَّا تَقابَلا في مُنْتَصفِ البِئْرِ سَأَلَ الفارِغُ المَلْآنَ: مِمَّ تَبْكي؟ فَقالَ: وَما لي لا أَبْكي؟ أَخَذَ الرجُلُ مائي وَسَيَأْخُذُهُ وَسَيُعِيدُني إِلى قاع البئر المُظْلم ! وَأَنْتَ مِمَّ تَضْحَكُ وَتَرْقُصُ؟ فَقالَ الفارِغُ: وَما لي لا أَضْحَكُ؟ سَأَنْزِلُ البئرَ وَأَمْتَلئ ! ماءً صافياً وَأَطْلُعُ بَعْدُ إِلى النُّورِ والضِّياءِ.
فَكُنِ الفَيْلَسوفَ الضاحِكَ، ولا تَكُنِ الْفَيْلَسوفَ الباكِيَ.
وَكُنِ الدَّلْوَ الراقِصَ، ولا تَكُنِ الدَّلْوَ الدامِعَ.
وَجَرِّبْ أَنْ تَلْقَى الحَياةَ باسِماً أَحْياناً،
*210*
ضاحكاً أَحْياناً، وَلْأُجَرِّبْ مَعَكَ!
المصدر: فيض الخاطر ج 1 لأحمد أمين
إنهاء الكتاب