المنتخب

من الادب العربي ونصوصه

للصفين العاشر والحادي عشر

اسم المؤلف: سلمان فراج

دار النهضة للطباعة

والنشر - 1996

صفحات بخط عادي 1-357

الناسخة: سجود سعدي

المكتبة المركزية للمكفوفين

وذوي عسر القرائي

نتانيا  اسرائيل  2017م

نسخ أو نقل النسخة الملائمة معارضة لأوامر قانون تنسيق الاعمال، تنفيذ وبث للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة 2014 تشكل خرقًا لحقوق المنتجين.

فهرس الكتاب

العصر الجاهلي شعر صفحة 1

1. من معلقة امرؤ القيس صفحة 3

2. من معلقة عمرو بن كلثوم صفحة 6

3. من معلقة طرفة بن العبد صفحة 7

4. لامية العرب الشنفري صفحة 9

5. مواقف عروة بن الورد صفحة 10

6. تأبط شرًا يتفاخر بحزمه صفحة 11

7. فروسية عنترة العبسي صفحة 13

8. حكم زهير بن أبي سلمى صفحة 14

9. حكم قيس بن الخطيم صفحة 15

10. تأملات عدي بن زيد صفحة 16

11. عدوان بعدوان الفند الزماني صفحة 17

12. إن كنتِ عاذلتي المنخل اليشكري صفحة 18

13. ودّع هريرة الأعشى صفحة 20

14. الحية وصاحبها النابغة الذبياني صفحة 21

15. نثر خطبة قس بن ساعدة الأيادي صفحة 23

16. خطبة أكثف بن صيفي صفحة 24

17 وصية ذو الاصبع العدواني صفحة 25

18 أمثال جاهلية صفحة 26

أ. جزاء سنمار صفحة 26

ب. قطعت جهيزة قول خطيب صفحة 26

ج. أحشفًا وسوءَ كيلة 27

د. رجع يخفي حنين صفحة 27

ه. كأنَ على رُؤوسهم الطير صفحة 27

و. الحديث ذو شجون صفحة 28

ز. وافق سْنٌّ طبقة صفحة 29

ح. إن غدًا لناظره قريب صفحة 30

19. العصر الإسلامي شعر عدمنا خلينا حسان بن ثابت صفحة 35

20. إعتذار للرسول كعب بن زهير صفحة 36

21. إستعطاف عمر الحطيئة صفحة 37

22. هجاء بخيل الحطيئة صفحة 37

23. رثاء صخر الخنساء صفحة 38

24. آيات جارية مجرى الأمثال صفحة 40

25. من سورة النساء صفحة 41

26. من سورة الأعراف صفحة 41

27. أحاديث نبوية صفحة 42

28. خطبة الوداع للرسول (ص) صفحة 45

29. خطبة أبو بكر يوم السيفة صفحة 46

30. كتاب إلى الولاة عمر بن الخطاب صفحة 47

49. العصر الأموي شعر

31. من النقائض صفحة 51

أ. هجاء الفرزدق لجرير صفحة 51

ب. رد جرير على الفرزدق صفحة 52

32. مدح بني أمية الأخطل صفحة 52

33. مدح علي بن الحسين الفرزدق صفحة 54

34. مدح بني هاشم صفحة 55

35. أقول لها قطري بن الفجاءة صفحة 56

36. الداليّة عمر بن أبي ربيعة صفحة 57

37. يقولون مسحور بها جميل بن معمر صفحة 58

38. غزل كثير عزة صفحة 59

39. غزل عذري أبو صخر الهذلي صفحة 60

40. رثاء روحة حرير صفحة 61

41. قرى الضيف الحطيئة صفحة 62

42. من خطبة زياد بن أبيه صفحة 64

43. من خطبة الحجاج صفحة 64

نثر حديث مقالة صفحة 69

44. لوحتي أجمل اللوحات ناديا نويهض صفحة 71

45. الإبتسامة رأس المال مارون جود صفحة 75

46. الإنحطاط الخلقي ابن شرعي للانحطاط العقلي خالد محمد خالد صفحة 79

47. رمية من غير رامي سليمان صفحة 78

48. المحامي الأهلي محمد المويلحي صفحة 92

49. الشيخ قفة المازني صفحة 95

50. الشهيدتان المنفلوطي صفحة 100

51. في إنتظار القطار محمود تيمور صفحة 104

52. نداء الأرض خليل تقي الدين صفحة 110

53. معلم القرية يوسف نوهض صفحة 118

54. هدية أمي جميلة الفقيه صفحة 125

55. الشيخ سليم سلمان فلاح صفحة 130

56. القهوة الباردة مثير نقي الدين صفحة 134

57. الحكيم والسمكة ميخائيل نعيمة صفحة 139

العصر العباسي شعر صفحة 147

58. شعر مشرقي وصف مغنية بشار بن برد صفحة 149

59. دع عنك لوني أبو نواس صفحة 150

60. وصف الصيد ابن الورمي صفحة 151

61. وصف الربيع البحتري صفحة 152

62. إيوان كسرى البحتري صفحة 153

63. وصف الحمى المتنبي صفحة 154

64. وصف وقعة عمورية أبو تمام صفحة 156

65. عتاب سيف الدولة المتنبي صفحة 158

66. نمن خداع الأماني أبو العتاهية صفحة 160

67. رثاء قفيه أبو العلاء المعري صفحة 161

68. من لزوميات المعري أبو علاء المعري صفحة 162

69. شعر أندلس بين الشاعر والجبل ابن خفاجة صفحة 164

70. أضحى الثنائي ابن زيدون صفحة 165

71. موشح مدلك الغيث ابن الخطيب صفحة 167

شعر فاطمي صفحة 170

72. وصف الإمام الأمير تميم صفحة 170

73. دفاع عن الفاطميين عمارة اليمني صفحة 171

74. ذات الدوحة الإسكندراني صفحة 173

75. باح الفؤاد الأمير سيف الدين التنوخي صفحة 174

76. مختارات من حكم الأمير سيف الدين صفحة 175

77. أهل المودة الشيخ الفاضل صفحة 176

78. القصيدة المخمسة الشيخ الكفر قومي صفحة 177

نثر

79. الحمامة المطوقة ابن المقفع صفحة 178

80. صعوبة عيش الأعراب ابن قتيبة صفحة 181

81. أقدار المعاني الجاحظ صفحة 182

82. معاذة العنبرية الجاحظ صفحة 184

83. المقامة الدينارية الحريري صفحة 186

84. رسالة التوابع والزوابع ابن شهيد صفحة 189

85. يوم الحشر من رسالة الغفران المعري صفحة 192

86. الاجتماع الانساني ابن خلدون صفحة 201

87. دخول الشام، ابن بطوطة صفحة 203

88. ذكر قيس بن الخطيم الأصفهاني صفحة 206

89. حكاية الصياد والمارد من قصص ألف ليلة وليلة صفحة 209

90. إيقاع عنترة بالعدو سيرة عنترة صفحة 214

91. توقيع جوهر الصقلي صفحة217

نثر حديث قصة قصيرة صفحة 219

92. نظرة يوسف إدريس صفحة 220

93. مارش الغروب يوسف إدريس صفحة 222

94. القهوة الخالية نجيب محفوظ صفحة 226

95. كل شيء على ما يرام محمد عبد الحليم عبد الله صفحة 234

96. الثأر يوسف الشاروني صفحة 240

97. عام سعيد للسيدة إبراهيم أصلان صفحة 242

98. البنت الصغيرة التي كانت تجمع السمك إبراهيم عبد المجيد صفحة 247


*3*

شعر

من معلقة أمرئ القيس


*3*

الوقوف على الأطلال:

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حَبيبٍ وَمَنْزِلِ بِسَقْطِ اللِّوَى بَيّنّ الدَّخولِ فَحَوْمَلِ 1

فَتُوضِحَ فالمِقْراةِ لم يَعفُ رسمُهاَ لِما نَسَجَتْها مِنْ جَنُوبٍ وشَمْألِ 2

تَرَى بَعَرَ الأرْآمِ في عَرَصاتِها وَقِيعانِها كَأّنَّهُ حَبَّ فُلْفُلِ 3

كأَنّي غَداة َ البَينِ يوْمَ تَحَمَلَّوا لَدَى سَمُراتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنْظَلِ 4

وُقوفاً بها صَحبي عَلَيَّ مَطِيَّهُم يَقولونَ لا تَهْلِكْ أسى ً وَتَجَمَّلْ 5

غزل قصصي:

ألا رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِحٍ وَلاَ سِيَّمَا يَوْمٍ بِدَارَةِ جُلْجُلِ 6

ويَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَي مَطِيَّتِي فَيَا عَجَباً مِنْ كُوْرِهَا المُتَحَمَّلِ 7

فَظَلَّ دَخَلْتُ الْخِدْرَ عُنَيْزَةٍ فقالتْ: لَكَ الْوَيْلاتُ إِنَّكَ مُرْجِلي 8

ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عنزة فَقَالَتْ لَكَ الوَيْلاَتُ إنَّكَ مُرْجِلِي 9

تقولُ وَقَدْ مالَ الغَبِيطُ بِنا مَعاً عَقَرْتَ بَعيري، يا امُرَأ القَيْسِ، فَانْزِلِ 10

فَقُلْتُ لَها سِيري وَأَرْخِي زِمَامَهُ ولا تُبْعِديني مِنْ جَنَاكِ المُمَلَّلِ 11


*4*

وصف الليل:

ولَيْلٍ كموجِ البحر أرخى سُدوُلَهُ عليَّ بأنواع الهموم لِيَبْتَلي 12

فقلتُ له لما تَمَطّى بجَوزِهِ وَأردَفَ أعجازاً وناءَ بِكَلْكَلِ 13

ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا أنْجَلِ بصبح وما الإصْبَاحُ مِنكَ بِأَمْثَلِ 14

فيا لَكَ من ليل كأن نُجُومَهُ بكل مُغَارِ الفَتلِ شدت بِيَذْبُلِ

كأن الثريا عُلِّقَتْ في مَصامِهَا بِأَمْراسِ كتَّانٍ إِلى صمِّ جَنْدَلِ 15

وصف الفرس:

وقد أغْتَدِى والطيرُ في وُكُناتِهَا بِمُنجَرِدٍ قَيْدِ الأوابدِ هَيْكَل 16

مِكرٍّ مِفَرٍّ مقبلٍ مدبرٍ مَعاً كجلمودِ صخر حطَّهُ السّيْلُ من عَل17

كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عن حَالِ مَتْنِهِ كما زَلّتِ الصفْواءُ بالمُتنَزِّلِ 18

له أيطَلا ظَبي وساقا نعامة وإرخاءُ سرحانٍ وتقريبُ تَتْفُلِ 19

الشرح

(1) إختلف في قوله:" قفا"، فذهب بعضهم الى انه لخاطبة الواحد على التثنيه، وقال بعضهم إنما هو مثنى حقيقي. (الدخول فحومل): موضعان. (السقط): الرمل المنقطع. (اللوى):

الرمل الذي يلتوي ويعوج (2) (توضح والمقراة): اسما مكانين. (3) (الآرام): جمع الرثم، أي الطيي الأبيض الخالص. (العرصات): الساحات. (القيعان): جمع القاع. (4) (البين): الفراق. (سمرات): جمع السمرة، وهي من شجر الطلح. (الحي): القبيلة. (ناقف): من نقف ينقف: شق يشق. (5) (وروي): "وتحمّل"، بدل "وتحمّل"، واللفظان تعنيان النصر والاحتمال. (6) وروي الصدر أيضًا: "الا ربّ يوم صالح لك منهما"، كما روي


*5*

أيضا: " الا ربّ يوم كان منهن صالح"، (دارة جلجل): اسم غدير. (7) وروي العجز: "فيا عجبا من رحلها المحتمّل"، الكبير. (8) (الهدّاب): ما استرسل من ثوب أو من شعر أو نحو ذلك. الدمقس: الأبرسيم الأبيض، ويلفظ أيضًا" المدقس" (9) (الخدر): الهودج. (مُرجلي): أي سوف يجعلني أسير على رجلي لأنك ستعقر البعير من شدة الثقل. (10) (الغبيط: نوع من الرحال أو الهوادج. (11) (الجني): الثمر. (المعلّل): المكرّر. (12) (سدوله): ستور. (يبتلي): يختبر. (103) (تمطى): تمدد. أردف): اتبع. (أعجاز) مآخير. (كلكل): صدر. (14) (أمثل). أفضل. (15) (أمراس): حبال. (صم جندل) صخور صلبة. (106) (وكناتها): مواقعها، أعشاشها - المنجرد الماضي في السير أو القليل الشعر. (الأوابد): الوحوش. (هيكل): فرس عظيم الجرم. (17) (مكر مفر): هاجم، ناكص. (جلمود): حجر صلب. (حطّه): ألقاه. (من عل): من فوق. (18) (الصفراء): الحجر الصلب. (المتنزل): الذي ينزل عن الشيء المالس.

(19) (الدرير): قد يكون من الدّر أو من الدار، وقد يكون بمعنى الأبرار أي جمل الشيء دارا. (الخذروف): حصاة مثقوبة يجعل الصبيان فيها خيطًا، فيديرونها عنى رؤوسهم، وهي قريبة الشبه تمامًا. مما تسميه العامة "البلبل"، وهو من لعب الصغار. (أمرّه): أحكم فتله. (20) (أيطل): خاصرة. (أرخاء): نوع من العدو يشبه الخبب. (سرحان): ذئب. (تقريب) وضع الرحلين موضع اليدين أثناء العدو. (تتفل): ولد الثعلب. (21) (ضليع): عظيم الأضلاع. (أستدبرته): نظرت الى مؤخره. (الفرج): الفضاء بين اليدين والرجلين.

(ضاف): سابغ، تام وهذه صفة الذئب.


*6*

من معلقة عمرو بن كلثوم


*6*

فخره على عمرو بن هند ملك الحيرة

أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِيْنَا وَلاَ تُبْقِي خُمُوْرَ الأَنْدَرِيْنَا 1

مُشَعْشَعَةً كَأَنَّ الحُصَّ فِيْهَا إِذَا مَا المَاءَ خَالَطَهَا سَخِيْنَا 2

أَبَا هِنْدٍ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْنَا وَأَنْظِرْنَا نُخَبِّرْكَ اليَقِيْنَا

بِأَنَّا نُوْرِدُ الرَّايَاتِ بِيْضاً وَنُصْدِرُهُنَّ حُمْراً قَدْ رُوِيْنَا 3

أَلاَ لاَ يَجْهَلَنَّ أَحَدٌ عَلَيْنَا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَ

بِاَيِّ مَشِيْئَةٍ عَمْرُو بْنَ هِنْدٍ نَكُوْنُ لِقَيْلِكُمْ فِيْهَا قَطِيْنَا؟ 4

بِأَيِّ مَشِيْئَةٍ عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ تُطِيْعُ بِنَا الوُشَاةَ وَتَزْدَرِيْنَا؟ 5

تَهَدَّدُنَا وَتُوْعِدُنَا رُوَيْداً مَتَى كُنَّا لأُمِّكَ مَقْتَوِيْنَا؟ 6

فَإِنَّ قَنَاتَنَا يَا عَمْرُو أَعْيَتْ عَلى الأَعْدَاءِ قَبَلَكَ أَنْ تَلِيْنَا 7

وَقَدْ عَلِمَ القَبَائِلُ مِنْ مَعَدٍّ إِذَا قُبَبٌ بِأَبطَحِهَا بُنِيْنَا 8

بِأَنَّا المُطْعِمُوْنَ إِذَا قَدَرْنَا وَأَنَّا المُهْلِكُوْنَ إِذَا ابْتُلِيْنَا

وَأنَّا الماِنعون لِمَا أرَدَّنا وأنَّا النَّازلونَ بِحيثُ شِيئا

وَأَنَّا التَارِكُوْنَ إِذَا سَخِطْنَا وَأَنَّا الآخِذُوْنَ إِذَا رَضِيْنَا

وَأَنَّا العَاصِمُوْنَ إِذَا أُطِعْنَا وَأَنَّا العَازِمُوْنَ إِذَا عُصِيْنَا

وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْواً وَيَشْرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وَطِيْنَا

إِذَا مَا المَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفاً أَبَيْنَا أَنْ نُقِرَّ الذُّلَّ فِيْنَا 9

مَلأْنَا البَرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّا وَظَهرَ البَحْرِ نَمْلَؤُهُ سَفِيْنَا


*7*

إذا بَلَغَ الفِطامَ لَنا صَبيٌّ تَخِرُّ لَهُ الجَبابِرُ ساجِدينا

شرح المعلقات السبع للزوزني

الشرح:

(1): (هبَّ) من نومه: استيقظ. (الصحن): القَدَحُ العظيم، والجمع الصحون. (أَصْبَحَ): سَقْي الصَّبُوح. (الأندرون): قرى بالشام (2) (شعشعت الشراب): مزجته بالماء.

(الحص): الورس نبت له نوار أحمر يشبه الزعفران. (سخينا): صفة ومعناه من سخن سخونة. (3) (الراية): العَلَم، والجمع الرايات. (نصدرهن): برزهنّ (4) (القطين):

الخدم. (القَيْل) الملك دون الملك الأعظم. (5) إزدراه وإزدرى به: قصر به واحتقره.

(6) (القَتْو): خدمة الملوك، والفعل قتا ينتو. (7) العرب تستعير اسم القناة. فَيُقَالُ: (لأنت قناته): ضعُفَ. يقول: فان قناتنا أبت أن تلين لأعدائنا قبلك، يريد أن عزهم أعيى أن يزول. بمحاربه أعدائهم ومخاصمتهم ومكايدهم، يريد عزّهم منيع لا يُرام. (8) يقول: وقد علمت قبائل مَعَدّ اذا بُنيت قبابها. بمكان أبطح، القبب والقباب جَمْعَا قبة (9) (الخَسف والخُسف) بفتح الخاء وضمها: الذل. (السَّوْمُ): أن تجشم إنسانا مشقة وشرا، يقال: سامه خسفا، أي كلفه ما فيه ذله.

من معلقة طرفه بن العبد


*7*

أراء فلسفية في الحياة

ألا أيُّهذا لزاجري أَحْضُرَ الوَغَى

وَأنْ أشْهَدَ اللَّذّاتِ هَلْ أنْتَ مُخْلِدي 1

فَإنْ كُنْتَ لا تَسْطيعُ دَفْعَ مَنِيَّتِي

فَدَعْني أُبادِرْها بِما مَلَكَتْ يَدي 2

وَلَوْلا ثَلاثٌ هُنَّ مِنْ لَذَّةِ الْفَتى

وَجَدِّكَ لَمْ أحْفِلْ مَتَى قامَ عُوَّدي 3

فَمِنْهُنَّ سَبْقي الْعاذِلاتِ بِشُرْبَةٍ

كَمَيْتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِ 4

وكَرّي إذا نادَى الْمُضافُ مُحَنَّبًا

كَسِيدِ الْغَضا، نَبَّهْتَهُ، الْمُتَوَرِّدِ 5


*8*

وَتَقْصرُ يَوْمِ الدَّجْنِ والدَّجْنُ مُعْجِبٌ

بِيَهْكَنَةٍ تَحْتَ الْخِباءِ المُعَمَّدِ 6

أرَى قَبْرَ نَحّامٍ بَخِيلٍ بمالِهِ

كَقَبْرِ غَوْيٌّ في البَطالَةِ مَفْسِدِ 7

أرَى المَوْتَ يَعْتامُ الكِرامَ وَيَصْطَفي

عَقيلةَ مالِ الْفاحِشِ المُتَشَدِدِ 8

أرَى العَيْشَ كَنْزًا ناقِصًا كُلَّ لَيْلَةِ

وَما تَنْقُصِ الأيَّامُ والدَّهْرُ يَنْفَذِ 9

وَظُلْمُ ذَوي الْقُرْبى أشَدُّ مَضاضَةٌ

عَلَى الْمَرْءِ مِنْ وَقْعِ الْحُسامِ الْمُهَنَّدِ 10

لَعَمْرُكَ ما الأيّامُ إلا مُعارَةٌ

فَما أسْطَعْتَ مِنْ مَعْروفِها فَتَزَوِّدِ 11

عَنِ الْمَرْءِ لا تَسْألُ وَأبْصِرْ قَرينَهُ

فَإنَّ الْقَرينَ بِالْمُقارَنِ يَقْتَدي 12

سَتُبْدي لَكَ الأيّامُ ما كُنْتَ جاهِلاً

وَيَأتِيكَ بِالأخْبارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ

المعلقات العشر. فوزي عطوى / بيروت 1969

الشرح:

(1) (الوغى): في الأصل، تعني صوت الأبطال في الحرب، ثم استُعيرت للحرب ذاتها. (2) (تستطيع): تخفيف تستطيع. (منيتيّ): موتي (3) (وحدك): الواو واو القسم والحدّ:

الحظ. (العُوَّد): جمع العائد وهو الذي يزور المريض لدى اشتداد المرض عليه.

(4) (العاذلات): اللائمات. (شربة كميت): شربة خمر كميت اللون (5) (كرى):

عطفي. (المضاف): الخائف. (محنّبا) في يده إنحناء. (سيدٌ): ذئب. (الغضا): إسم نوع من الشجر. (6) (يوم الدجن): يوم تتلّبد السماء بالغيوم. (البهكنة): المرأة الجميلة السمينة.

(الخباء المعمّد): الخباء القائم على أعمدة. (7) (نحّام): حريص. (غوي): ضال.

(8) (يعتام): يختار.( عقيلة مال الفاحش): أكَرَمُ مالِ البخيل. (9) (رُوِيَ): أرى الدهر "، وأيضًا: "أرى العمر". (10) (أشد مضاضة): أشد إيلامًا وتأثيرًا (11) هذا البيت والذي

يليه لم يردا الا في رواية الخطيب، ويُقال إنهما لعدي بن زيد. (12) (ويُروى صدر البيت):

"عن المرء لا تسأل وَسَلُ عن قرينه".


*9*

لامية العرب


*9*

أقيموا بَني أمِّي صُدورَ مَطِيِّكُمْ فَأنَّي إلَى قَوْم سِواِكُمْ لأَمْيَلُ 1

فَقَدْ حَمَّتِ الْحاجاتُ وَاللّيْلُ مُقْمِرٌ وَشُدَّتْ لِطَّياتٍ مَطايا وَأرْحُلُ 2

وَفي؛ لأرْضِ مَنْأى لِلْكَريمِ عَنِ الأذَى وَفِيها لِمَنْ خَافَ القِلَى مُعَتَزَّلُ 3

لَعَمْرُك مَا في الأرْضِ ضِيقٌ عَلَى أمْرِىءٍ سَرَى راغِبًا أوْ رَاهِبًا وَهْوَ يَعْقِلُ 4

وَلي دُونَكُمْ أَهْلونَ: سِيْدٌ عَمَلسٌ وَأَرْقَطُ زُهْلولٌ وَعَرْفاءُ جَيْالُ 5

هُمُ الرَّهْطُ لا مُسْتَوْدَعُ السِّرِّ ذَائِعٌ لَدَيْهِمْ وَلا الْجاني بِمَا جَرَّ يُخْذَلُ 6

وكُلٌّ أبِيٌّ باسِلٌ غَيْرَ أنَّني إذا عَرَضَت أُولَى الطَّرائِدِ أبْسَلُ 7

وَإنْ مُدَّتِ الأيْدي إلى الزَادِ لَمْ أكُنْ بِأعْجَلِهِمْ إذْ أجْشَعُ القَوْمِ أعْجَلُ 8

وَمَا ذاكَ إلا بَسْطَةٌ عَنْ تَفَضُّلٍ عَلَيْهِمْ وَكانَ الأفْضلَ الْمُتَفَضِّلُ 9

وَإنِّي كَفَاني فَقَدَ مَنْ لَيْسَ جَازِيًا بِحُسْنَى وَلا في قُرْبِهِ مُتَعَللُ 10

ثَلاثَةُ أصْحابٍ: فُؤادُ مُشَبَّعٌ وَأبْيَضُ إصْلِيتٌ وَصَفْراءُ عَيْطَلُ 11

محمد بديع شريف، لامية العرب. بيروت 1964

الشرح:

(1) (أقيموا): أمر وماضيه أقام ويقال: أقامَ صدر مطيه. إِذا. سار. (مطيكم): جمع مطيه وهي الناقة. (2) (حُمَّت): أصله حمم ومعناه تهيأ الشيء وحضِر. (شُدت): شد الشيء أوقفه وشدت هنا. كمعنى قويت. (الطية): الحاجة وتعني أيضًا المكان المنوي المقصود. (وتقول مضى لطيته أي لنيته التي انتواها. (أرحُل): جمع رَحْل وهو ما يوضع على ظهر الْبعٍير. (3) (النأَى والمنتأى): الموضع البعيد. (القلى): بالألف المقصورة: اليغض. (متعزَّل): الموضع الذي يعتزل فيه. (4) (لَعَمرُك): قَسَمٌ أي وحياتك. (راغبًا): رغب في الشيء أحبه. ورغب عنه زهد فيه. (راهبًا): الرهبة والخوف. (5): عنى به هنا الذئب. العَمَلس): الخفيف


*10*

السريع. (أرقط): الراقطة كل لونين مختلفين ويُراد به النمر. (الزهلول): الأملس. (العرفاء): الضبع الطويل العرف وهي هنا نعت ولكن ضرورة الشعر إقتضت تقديم النعت على المنعوت. (6) (الرهط): يُستعمل للمفرد والجمع. (ذائع): قاشٍ وفي رواية أخرى شائع. (حرّ): يقال جرّ جريرة أي جنى جناية. (7) (أبيٌ): الذي لا يقر على الضيم. (باسل): الكرية الوجه وهو البطل الشجاع. (الطرائد): جمع طريدة من صيد وغيره، والمراد بها الفرسان التي تهاجم. (8) (الجشع): الحرص. (9) (البسطة): السَّعَةُ. (التفضل): الإحسان. (الأفضل) الذي يفضل غيره. (المتفضل): الذي يدعيّ الفضل على اقرانه. (10) (التعلل): التلهي.(الجازي بالحسنى): الذي يعمل الخير (11) (ثلاثة): فاعل للفعل كفاني. (مشيع): المشيع: المقدام المجتمع القلب كأَنه في شيعة آي في صحابة، أو هو الشجاع. (الأصليت): السيف الصقيل المجرد من غمده. (الصفراء): قوس (العيطل): القوية والطويلة العنق من النوق والخيل ويقال إمرأة عيطل إذا كانت تامة. وعنق عيطل إذا كانت كذلك طويلة.

مواقف لعروة بن الورد


*10*

قال يخاطب زوجته:

دعيني أُطَوِّفُّ في البلادِ لعلِّني

أُفيدُ غِنىً فيه لِذِي الحقَّ مَحْمِلُ 1

أليسَ عظيمًا أنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ

وليس عَلَينا في الحُقوقِ مُعوَّلُ 2

فإِن نحن لَمْ دفاعًا بحادثِ

تُلمُّ به الأيامُ فالموتُ أجملُ

وقال:

سلي الطارقَ المُغْتَرَّ يا أمَّ مالكِ

إذا ما أتاني بَيْنَ قِدري وَمَجْزِرِي 3

أَيُسْفِرُ وجهي إنَّهُ أَّوَّلُ القِرى

وأَبذِلُ معروفي له دونَ مُنْكَرِي


*11*

وقال:

إني امرؤ عافي إنائيَ شِركةُ

وأنتَ امرؤ عافي إنائِكَ واحدٌ 4

اتهزأ مِنّي أنْ سَمِنْتَ وأنْ تَرى

بوجهي شُحوبَ الحقِّ، والحقُّ جاهدُ 5

أُقَسّمُ جِسْمي في جُسومٍ كثيرةٍ

وأحسو قَراحَ الماءِ والماءُ باردُ

الشرح:

(1) (افيد): أستفيد، (ذو الحق): المحتاج، (2) (ملمة): نازلة - مصيبة.

(2) (المغتر) الفقير المتعرض ولا يسأل. (المَحزر): موضع حزار الأبل، (أسفر وجهه): تهلل. (4) (العافي): المعدم. (5) (جاهد): متعب.

تأبط شرا يتفاخر بحزمه


*11*

إذا الْمَرْءُ لَمْ يَحْتلْ وَقَدْ جَدَّ جِدُّهُ ضَاعَ وَقَاسَى أمْرَهُ وَهْوَ مُدْبِرُ 1

ولكِنْ أخُو الْحَزْمِ الّذي لَيْسَ نازِلاً بِهِ الخَطْبُ إلاَّ وَهْوَ لِلْقَصْدِ مُبْصِرُ 2

فَذاكَ قَرِيعُ الدَّهْرِ ما عَاشَ حَوَّلٌ إذْا سُدَّ مِنْهُ مَنْخِرٌ جَاشَ مَنْخِرُ 3

أَقُولُ لِلْحَيْانٍ وَقَدْ صَفِرَتْ لَهُمْ وِطَابِي وَيَوْمِي ضَيِّقُ الجُحْرِ مَعْوِرُ 4

هُما خُطَّتا إمَّا إسارٌ ومنَّة ٌ وإما دمَّ والقتلُ بالحرِّ أجدرٌ 5

وَأخْرَى أصادِي النَّفسَ عنها وإنَّها لَمَوْرِدُ حَزْمٍ إنْ فَعَلْتُ وَمَصْدَرُ 6

فرَشْتُ لَهَا صَدْرِي فَزَلَّ عَنِ الصَّفَا به جؤجؤ عبلٌ ومتنٌ مخصّرُ 7

فَخَالَطَ سَهْلَ الأرْضِ لَمْ يَكْدَح الصَّفَا به كدحة ً والموتُ خَزيانُ ينظرُ 8


*12*

فأبتُ إلى فَهْمٍ وَما كِدْتُ آئباً

وَكَمْ مِثْلِهَا فَارَقْتُهَا وَهْيَ تَصْفِرُ 9

الشرح:

اسمه ثابت وكنيته أبو زهير وهو من بني فهم وكان أحد الخدّامين ولُقب بهذا اللقب لانه تأبط سكينًا ذات يومٍ وخرج فسُئلت عنه أمه فقالت لا أدري، إنه تأبط شَراً وخرج وقيل غير

ذلك. وكان بنو لحيان من هذيل أخذوا عليه طريق جبل وجدوه فيه يجني عسلا ولم يكن له طريق غيره وأقبلوا عليه وقالوا استأسر أو نقتلك، فكَرِة أن يستأسر وصب ما معه من العسل على الصخر ووضع نفسه عليه حتى انتهى الى الأرض من غير طريقهم فصار بينه وبينهم ثلاثة أيام ونجا منهم فحكى الحكاية في هذه الأبيات.

(1) (الحيلة): الحذق في تدبير الأمور. (والحَد): الحظ والمعنى: وقد اصاب حظاً واستحد له حظ - يريد أن الإنسان إذا نزل به ما يكره ولم يحتل في خلاصه منه عند إقبال حظه أضاع أمره وقاسى منه ما يقاسي والحَظُ مولٍّ مدبر. (2) (الخطب): الأمر الصعب، والقصد الشّدّةَ - يقول أن صاحب الحزم هو الذي يستعد للأمر قبل نزوله كما قيل قبل الرماء تُملأُ الكنائن. (3) (قريع الدهر): المحرب للأمور. (والحوّل): البصير بتحويل الأمور.

(4) (لحيان): بطن من هذيل. (وصفرت): خلت. (والوطاب): جمع وطب وهو سقاء اللبن. وقوله ضيق الجحر مثل لضيق المنفذ. (والمعور): المنكشف العورة. (5) المعنى ليس لي واحد من أمرين على زعمكم إما إسارً والتزام منتكم أن أردتم العفو وإما قتل وهو بالحر أحدر أي أحق مما يكسبه الذل (6) (المصاداة): إدارة الرأي في تدبير الشيء. ويقول: وههنا خطة اخرى أدير رأيي فيها. (7) (فرشت): أي بسطت. ويين بهذا كيفية مداولته لنفسه، والجرحر: العبل الصدر الضخم وأراد. بمتن مخصرّ: ظهر دقيق - والمعنى أنه فرش لإجل هذه صدره على ، ذلك حين صب وطابه. (8) (الخلط): أصله تداخل أجزاء الشيء بعضها ببعض. وأراد به هنا الوصول. (ولم يكدح): أي لم يؤثر. (وخزيان): من الخِزي وهي الاستحياء - يقول أسهلت ولم يؤثّر الصفا في صدري لا أثراً ولا خدشاً والموت كان قد طمع في فلما رآني تخليت بقي مستحياً ينظر ويتحير. (9) (فأبْتُ): رجعت. (فهم): إسم قبيلة.


*13*

فروسية عنترة العبسي


*13*

(1)

يَدْعُونَ عنترَ وَالرِّماحُ كَأَنَّهَا أَشْطانُ بِئرٍ في لَبانِ الأَدْهَمِ 1

مَا زِلْتُ أَرْمِيهُمْ بِثُغْرَةِ نَحرِهِ وَلَبَانِهِ حَتَّى تَسَرْبَلَ بِالدَّمِ

فَازْوَرَّ مِنْ وَقْعِ القَنَا بِلَبَانِهِ وَشَكَا إِلَيَّ بِعَبْرَةٍ وَتَحَمْحُمِ 2

لَوْ كَانَ يَدْرِي مَا المُحَاوَرَةُ اشْتَكَى وَلَكانَ لَوْ عَلِمْ الكَلامَ مُكَلِّمِي

وَلَقَدْ شَفَى نَفْسِي وَأَبْرَأَ سُقْمَهَا قِيْلُ الفَوارِسِ وَيْكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ

(2)

أحبُّكِ، يا ظَلومُ، فأنتِ عندي مكتنَ الرُّوحِ من جَسَدِ الْجَبَانِ

ولو أنّي أقولُ: مكانَ روحي، خَشيتُ عليكِ بادرةَ الطِّعان...

الشرح:

(1) (الأشطتن): الحِبَال. (اللبان): الصدر.

(2) (ازوَرَ): مال.


*14*

من معلقة زهير بن أبي سُلمى


*14*

وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ 1

مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً وَتَضرَ إِذا ضَرَّتُموها فَتَضرَمِ 2

فَتَعرُككُّمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها وَتَلقَح كِشافاً بثُمَّ تَحمِل فَتُتئِمِ 3

سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ 4

وَأَعلَمُ ما في اليَومِ وَالأَمسِ قَبلَهُ وَلَكِنَّني عَن عِلمِ ما في غَدٍ عَم

رَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِب تُمِتهُ وَمَن تُخطِئ يُعَمَّر فَيَهرَمِ 5

وَمَن لا يُصانِع في أُمورٍ كَثيرَةٍ يُضَرَّس بِأَنيابٍ وَيوطَأ بِمَنسِمِ 6

وَمَن يَكُ ذا فَضلٍ فَيَبخَل بِفَضلِهِ عَلى قَومِهِ يُستَغنَ عَنهُ وَيُذمَمِ

وَمَن هابَ أَسبابَ المَنِيَّةِ يَنلنهُ وَإن يرق أَسبابَ السَماءِ بِسُلَّمِ 7

ومَنْ يَجْعَلِ المَعْروفَ في غَيْرِ أهْلِهِ يَكُنْ حَمْدُهُ ذَمّاً عَلَيْهِ وَيَنْدَمِ

وَمَنْ لَمْ يَزُدْ عَنْ حَوْضِهِ بسِلاحِهِ يُهَدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمِ النّاسَ يُظلَمِ 8

لِسانُ الْفَتَى نِصْفٌ فُؤادُهُ فَلَمْ يَبْقَ إلا صُورَةُ اللّحْمِ والدَّمِ

وإنَّ سَفاهَ الشَّيْخِ لا حِلْمَ بَعْدَهُ وإنَّ الْفَتَى بَعْدَ السَّفاهَةِ يَحْلُمِ

الشرح:

(1) (الذوق): التجربة. (الحديث الْمُرَجّم): الذي يرحم فيه الظنون أي يحكم فيه بالظّن.

(2) (الضرى): شدة الحرب وإستعار نارها، وكذلك الضراوة، والفعل ضري يضرى، والاضراء والتضرية الحمل على الضراوة ضرمت النار تضرم ضرما واضطرمت: التهبت، وأضرمتها وضرمتها: ألهبتها.


*15*

(3) (ثقال الرحى): خرقة أو جلدة تُبسط تحتها ليقع الطحين عليها. والباء في قوله بثقالها بمعنى مع. (اللقح واللقاح): حمل الولد، يقال: لقحت الناقة. (الكشاف): آن تلقح النعجة في السنة مرتين. ونتجت الناقة تنتج نتاجًا. (تتئم): تلد توأماً.

(4) (سئمت الشيء): مللته. (التكاليف): المشاق والشدائد. (لا أبا لك): كلمة حافة لا يُراد لها الجفاء وإنما يُراد بها التنبيه والإعلام.

(5) (الخبط): الضرب باليد. (العشواء): تأنيث الأعشى، والعشواء: الناقة التي لا تبصر ليلاً، قوله: ومن تخطئ، أي ومن تخطئه، فحذف المفعول، وحذفه سائغ كثيراً في الكلام والشعر. (التعمير): تطويل العمر.

(6) (الضرس): العض على الشيء بالضرس، التضريس مبالغة. (المنسم للبعير): بمنزله السنبك للفرس، والجمع المناسم. (7) (رقي يرقى رقيا): صعد (8) (الذود):

الكف والردع.

حكم لقيس بن الخطيم 15*

ومَا بَعْضُ الإِقَامةِ في دِيارٍ يُهانُ بِها الفَتَى إلا بَلاءُ 2

وبَعْضُ خَلائِقِ الأَقْوامِ داءٌ كَداءِ البَطْنِ لَيْسَ لَهُ دَواءُ 3

يُريدُ الْمَرْءُ أنْ يُعْطَى مُناهُ وَيأبَى الله إلا ما يَشاءُ 4

وكُلُّ شَدِيدَةٍ نَزَلَتْ بقَوْمٍ سَيَأْتِي بَعْدَ شِدَّتِها رَخاءُ

ولا يُعْطَى الحَرِيصُ غِنىً بِحرْصٍ وقَدْ يَنْمِي على الجُودِ الثَّراءُ 5

وَلَيْسَ بنافِعٍ ذا البُخْلِ مالٌ ولا مُزْرٍ بصاحِبِهِ السَّخاءُ

وبُعْضُ الدَّاءِ مُلْتَمَسٌ شِفاهُ ودَاءُ النُّوكِ لَيْسَ له شِفاءُ 6


*16*

الشرح:

قيس بن الخطيم:

شاعر جاهلي من الأوس، شهد له شعراء عصره بجودة الشعر أتى الرسول فدعاه للإسلام وتلا عليه شيئاً من القرآن فقالَ: إني لأسمع كلاماً عجيباً، فدعني أنظر في أمري هذه السنة ثم أعود إليكَ... ولكنه مات في وقعة بُعات قبل مرور الحول.

قال أبو رياش هذه الأبيات للربيع بن أبي الحقيق اليهودي والربيع بن أبي الحقيق احد شعراء اليهود من بني قريظة وكان أحد الرؤساء يوم بعاث وكان حليفاً للخزرج هو وقومه وأدرك النابغة الذبياني وتقاولا الشعر وشهد له النابغة. والقصيدة من الأبيات العامرة بالمعاني الجزلة. (2) المعنى أن الإقامة في موضع الإهانة بلاء وامتحان، يحضّه على التحول من الإقامة على الهوان. (3) يقول أن بعض ما يتخلق به الناس تتعذر مفارقته والإقلاع عنه ويتعذر مداواته وإزالته فهو بمنزلة داء البطن الذي لا داء له، والعرب تقول إذا لم تهتد الى وجه الشيء: "هو كداء البطن".

(4) (المنى): جمع مُنية. (5) (الثراء): كثرة المال. (ويَنْمَى): يزيد - والمعنى أن نيل الغنى غير موقوف على الحرص بل ربما تكون زيادة الحرص تقليلاً للرزق فالغنى ينقص بالحرص كما يزداد بالجود (6) والمعنى بعض الداء يعرف شفاؤه فتطلب إزالته وداء الحمق لا دواء له.

من شعر عدي بن زيد


*16*

أَيُّها الشامِتُ المُعَيِّرُ بِالدَهر! أَنتَ المُبَرَّأُ المَوفور؟

أَم لَدَيكَ العَهدُ الوَثيقُ مِنَ الأيْامِ؟ بَل أَنتَ جاهِلٌ مَغرورُ

مَن رَأَيتَ المَنونَ خَلَّدنَ أَم مَن ذا عَلَيهِ مِن أَن يُضامَ خَفيرُ؟

أَينَ كِسرى كِسرى المُلوكِ أَنوشِروانُ؟ أَم قَبلَهُ سابورُ؟

وَبَنو الأَصفَرِ الكِرامُ مُلوكُ الروم لَم يَبقَ مِنهُمُ مَذكورُ


*17*

ثُمَّ بَعْدَ الْفَلاحِ وَالّنعمَةِ وارَتْهُمُ هُناكَ الْقُبُورُ

ثُمَّ صاروا كَأنَّهُمْ وَرَقٌ جَفَّ فألْوَتْ بِهِ الصَّبا والدبورُ

- عدي بن زيد من عرب الحيرة النصارى وقومه العباد يقوا على نصرانيتهم الى زمن العباسيين. ويُعتقد أنهم أول من كتب الخط العربي.

وعدي من أشعر شعرائهم وكان أبوه شاعراً وعمل في بلاط الحيرة أما هو فنال ثقافةُ فارسية وعاش في بلاط كسرع ولكنه مات في سجن الحيرة إثر وشاية عليه. أكثر شعره في الخمر، كما أنَّ له شعراً في الزهد والتأمل. إلا أنه لم يصلنا أكثره.

عُدوانُ بعُدوان


*17*

صَفحْنا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ وَقُلْنا الْقَوْمُ إخْوَانُ

وعَسَى الأَيَّامُ أنْ يَرْجعْن قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا

فلَمَّا صَرَّحَ الشَّر فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيانُ 1

ولَمْ يَبَقَ سِوَى العُدْوَانِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا 2

مَشَيْنا مِشْيَةَ اللَّيْثِ غَدَا واللَّيْثُ غَضْبَانُ

بِضَرْبٍ فِيهِ تَوْهِينٌ وَتَخْضِيعُ وإقْرَانُ

وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ غَذَا وَالزِّقُّ مَلاْنُ


*18*

وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ

وَفِي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لاَ يُنْجِيكَ إِحْسَانُ

الشرح:

(1) صرح الشر: بأن وظهر واضحاً

(2) دِناهم: جازيناهم.

إن كنت عاذلتي


*18*

المنخل بن حارث البشكري 1

إِنْ كُنْتِ عَاذِلَتِي فَسِيرِي

نَحْوَ الْعِرَاقِ وَلاَ تَحُورِي 2

لاَ تَسْأَلِي عَنْ جُلِّ مَا

لِي وَانْظُرِي حَسَبِي وَخِيرِي 3

وَفَوَارِسٍ كَأُوَارِ حَرِ

النَّارِ أَحْلاَسِ الذُّكُورِ 4

شَدُّوا دَوَابِرَ بَيْضِهِمْ

فِي كُلِّ مُحْكَمَةِ الْقَتِيرِ 5

وَاسْتَلْأَمُوا وَتَلَبَّبُوا

إِنَّ التَّلَبُّبَ لِلْمُغِيرِ 6

وَعَلَى الْجِيَادِ المُضْمَراتِ

فَوَارِسٌ مِثْلُ الصُّقُورِ 7

يَخْرُجْنَ مِنْ خَلَلِ الْغُبَارِ

يَجِفْنَ بِالنَّعَمِ الْكَثِيرِ 8

أَقْرَرْتُ عَيْنِي مِنْ أُولَئِكَ

وَالفَوَائِحِ بِالعَبِيرِ 9

وَلَقَدْ دَخَلْتُ عَلَى الفَتَاةِ

الخِدْرَ فِي الْيَوْمِ الْمَطِيرِ 10

الْكَاعِبِ الْحَسْنَاءِ تَرْفُلُ

فِي الدِّمَقْسِ وَفِي الْحَرِيرِ 10


*19*

وَأُحِبُّهَا وَتُحِبُّنِي

وَيُحِبُّ نَاقَتَها بَعِيرِي

فَإِذَا انْتَشَيْتُ فَإِنَّنِي

رَبُّ الْخَوَرْنَقِ وَالسَّدِيرِ

وَإِذَا صَحَوْتُ فَإِنَّنِي

رَبُّ الشُّوَيْهَةِ وَالبَعِيرِ

يَا هِنْدُ مَنْ لِمُتَيَّمٍ

يَا هِنْدُ لِلْعَانِي الأَسِيرِ

الشرح:

(1) هو المنخل بن مسعود بن عامر بن ربيعة أحد بني يشكر شاعر جاهليّ كان ينادم النعمان بن المنذر وهو الذي سعى بالنابغة الذبياني الى النعمان في أمر المتجردة فالحقَ النابغة بآلِ جفنة الغسانيين خوفا من النعمان. (2) (إن كنتِ عاذلتي إلخ): معناه إن كنت تعذلينني فاذهبي نحو العراق ولا تحوري أي لا ترجعي فهناكَ تعرفين حقيقة منزلتي. (3) (حل الشيء): معظمة.

(والخير): الكرم - معناه: إياك والسؤال عن معظم ما عندي من المال بل سائلي عن كرمي ومحاسن أخلاقي يعني أنه ليس بكثير المال ولكنه كريم. (4) (وفوارس): أي ورب فوارس.

(والأوار): التوهج. (وأحلاس الذكور): فرسان الخيل الملازمون ظهورها. (5) (الدوابر):

الأواخر. (والبيض): الحديد الذي يلبس في الرأس. (والقتير): مسامير الدروع - ومعناه أنهم ربطوا أواخر بيضات الحديد من جانب الخلف بالدروع خوفاً من سقوطها عند جري الخيل.

(6) (وأستلأموا): أي لبسوا الَّلاْمَات وهي الدروع. (وتلببوا): أي تحزّموا للإغارة على العدو لأن التلبب من شأن المغير وكنى بذلك عن استعدادهم للإعارة. (7) (الجياد): جمع

جواد. (والمضمرات): التي ضمرت بالرياضة وكلاهما نعت للخيل - يريد ان فوقها فوارس كالصقور في الخفة والسرعة عند تخطفهم الأقران. (8) (يجفن): أي يسرعن - والمعنى أن هذه الخيل يخرجن من وسط الغبار فيسرعن. بما أغارت عليه فرسانها من النعم الكثير. (9) (من اولئك): أي من الفوارس. (والفوائح بالعبير): أي النساء - والمعنى سرني أولئك الفوارس بظفرهم وطاب خاطري برؤية النساء اللواتي نشرن أريج العبير. (10) (ولقد دخلت إلخ): معناه وافق دخولي على الفتاة في خِدرها اليوم الماطر وخص اليوم الماطر لأنه يوم المؤانسة وفراغ البال ولا يصلح للصيد واللهو فهو أطيب لخلو البال فيه. (11) (ترفل): تختال.


*20*

(والدمقس): الحرير الأبيض - والمغني دخلب على الفتاه الجامعة للمحاسن وهي تختال في لباس الحرير الأبيض وغير الأبيض.(12) ويحب ناقتها بعيري جملة يريد بها توكيد المحبة.

(13) (المدامة): ما عتق من الخمر. وقوله، (بالصغير وبالكبير): كناية الإكثار من الشرب منها.

(14) (الخورنق): قصر النعمان بن المنذر. (والسيدير): نهر بناحية الحيرة – والمعنى فاذا أخذتي النشوة من السكر رأيت نفسي كالملك النعمان الذيْ بنى الخورنق. (15) (وإذا صحوت): أي إذا ذهب عني السكر فأنا عائد الى جالتي التي كنت عليها قبل السكر لا أملك الا الشاة والبعير. (16) (هند): هذه بنت النعمان بن المنذر بن ماء السماء. (والمتيم): من استعبده الحب. (والعاني): المقيد - يقول يا هند من لذلك المتيم بحبك فينقذه مما هو فيه.

ودع هريرة


*20*

ودّعْ هريرة َ إنْ الركبَ مرتحلُ

وهلْ تطيقُ وداعاً أيها الرّجلُ؟ 1

غَرّاءُ فَرْعَاءُ مَصْقُولٌ عَوَارِضُها

تَمشِي الهُوَينا كما يَمشِي الوَجي الوَحِلُ 2

كَأنّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جارَتِهَا

مرّ السّحابة ِ، لا ريثٌ ولا عجلُ 3

ليستْ كمنْ يكره الجيرانُ طلعتها

ولا تراها لسرّ الجارِ تختتلُ 4

يَكادُ يَصرَعُها، لَوْلا تَشَدّدُهَا

إذا تَقُومُ إلى جَارَاتِهَا الكَسَلُ 5

إذا تَقُومُ يَضُوعُ المِسْكُ أصْوِرَة ً

والزنبقُ الوردُ من أردانها شمل 6

ما رَوْضَة ٌ مِنْ رِياضِ الحَزْنِ مُعشبة ٌ

خَضرَاءُ جادَ عَلَيها مُسْبِلٌ هَطِلُ 7

يضاحكُ الشمسَ منها كوكبٌ شرقٌ

مُؤزَّرٌ بِعَمِيمِ النّبْتِ مُكْتَهِلُ 8

يَوْماً بِأطْيَبَ مِنْهَا نَشْرَ رَائِحَة ٍ

ولا بأحسنَ منها إذْ دنا الأصلُ 9

قالتْ هريرة ُ لمّا جئتُ زائرها

وَيْلي عَلَيكَ، وَوَيْلي منكَ يا رَجُلُ


*21*

الشرح:

(١) (هريرة): إسم إمرأة. (الركب): الإبل في السغر ولا يُقال لمن يسافر على غير الإبل ركب. (2) (غراء): بيضاء حسنة. (فرعاء): طويلة الفرع وهو الشّعَر السنام. (العوارض): جمع عارض، وهو صفحة العنق، وحائب الوجه. (تمشي السهوينا): تمشي على مهل. (الوحي)؛ الذي رق قدمه من المشي بلا نعلين، فهو بطيء المشية. (الوحل): الذي وقع في الوحل، أو توحلت رحلاه في الطين. (3) (لا ريث)؛ لا بطء. (4) (تختتل): تتسمع، يقال؛ إختتل الرحل، أي تسقع لسر القوم. (5) (يصرعها): يطرحها ويسقطها. (الكسل): أراد به الفتور. (6) (يضوع المسك) يفوح. (الأصوِرَةُ): جمع صوار وهر وعازه. (الأردان): أطراف الأكمام. ومفرده ردن. (شمل): شامل. (7) (الحزن): ما غاطَ من الأرض. ورياض الحزن أحسن الرياض. (جاد عليها): أمطرها. (مبل)؛ مطر مسهل سائل. (هطل): هاطل يروّي أرضها. (8) (الكوكب): هو ما طال من البات. (شرق)؛ زاه زاهر،. (مؤزر بعميم النبت): قد اتخذ ما يحيط به من النبات ازارا له وَلَبوساً. (مكتهل): قد تم طوله وظهرت أزهاره، فهو قد انّتهَى في التمام. (9) (النشر): الرائحة الطيبة. (دنا): قرب. (الأمثل)؛ وهو الوقت بعد العصر الى الغرب.

الحية وصاحبها الغبي السابعة الذبياني


*21*

عرف العرب الخرافات الشعبية في أحاديثهم وقصصهم وضمنوها أشعارهم منذ العصر الجاهلي. وكثير من هذه الخرافات وصلتهم من أصول يهوديه ومسيحية. وغيرها، وهنا استعمل النابغة خرافة الحية المعروفة في الأدب اليوناني القديم (خرافات أيوب) يمثل لحاله مع قومه.

وَإِني لِأَلْقَى من ذوي الضَّغنِ منهمُ وما أصْبَحَتْ تشكو مِنَ الوجدِ ساهره 1

كما لَقِيَتُ ذاتُ الصَّفَا مِنْ حليفها، وما أنْكتِ الأمثالُ في الناسِ سائرء 2


*22*

فقالتْ له أدعوكَ للعقلِ وافياً ولا تَغْشَيَنيُ مِنَكَ بالظلمِ بادرة 3

فَوائَقَهَا باللهِ حينَ تَراضَيَا فكانتْ تَدِبهِ المالَ غِبّاً وظاهره 4

فلما توفى العقلَ إلى أقَلًه وجالاتْ بِهِ نفسُ عنِ الخيرِ جائره 5

تَذَكْرَ أنْى يجعلُ اللهُ جنةً فيصبحُ ذا مال ويقتلُ واتِرَه 6

فلما رأى أَنْ ثَمَّرَ اللهُ مالَه وَأَثلَ مَوْجُوداً وسَدّ مَفَاقِرَه 7

أكَبْ على فأسٍ يَحِدُّ غُرَابَها مُذَكّرَةً من المعاوِل بَاتره 8

فَقَام لها من فوقِ جُحْرٍ مُشَيَّدِ لَيَقْتُلَهَا أو تُخْطِئُ الكَفُّ بادره

فلما وَقَاها اللهُ ضربةَ فأُسِهِ وَلِلْبِرِّ عَيْنٌ لا تُغَمِّضُ نَاظِرَه

تَنَدَّمَ لما فَاتَهُ الذَحْلُ عِنْدَها وكانت له إذ خَاسَ بالعَهْدِ قَاهِره 9

(ديوان النابغة الذبياني ص 131-132)

الشرح:

(1) ( ذرو الضغن ): الكارهون. (الساهر): العين الجارية الدمع. (2) (ذات الصفا): الحيه. (3) (البادرة): رأس السهم - أي هيا نتعاهد أن لا تصيبني بسوء. (4) (تَدِيه الما): تقرب المال إليه. (غباً): تعطيه يوما وتقطع عنه يوماً. (غباً وظاهرةً): تقرب له المال عند الظهر مرةً وتقطع عنه أخرى. (5) (توفى): استكمل. (جارت): مالت. (6) (واتره): معطيه بلا اْقطاع. (7) (اثل ماله): أصَّلَهُ وَعظّمَهُ. (8) (غُرابُ الفأس) حَدُّها. فأس مُذَكّرَةً: مخيفة وشديدة. (9) (الذَّحل): النَّار.


*23*

نثر


*23*

خطبة قس بن ساعدة الايادي


*23*

أيها الناس! اسمعوا وعُوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكلُّ ما هو آتٍ آتْ، ليلٌ داج، ونهارٌ ساج، وسماءٌ ذاتُ أبراج، ونجومٌ تزهر، وبحارٌ تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة.

إن في السماءِ لَخَبَرا وإنَ في الأرضِ لَعِبرا، ما بالُ الناسِ يذهبون ولا يرجعون؟ أرَضُوا فأقاموا؟ أم تُرِكوا فناموا؟

يا معشرَ أَياد! أَينَ الآباءُ لأجداد؟ وأين الفراعنةُ الاِشّداد؟ ألم يكونوا أكثرَ منكم مالاً، وأطولَ أجالا؟ طحنهم الدهرُ بكَلِكَله ومزّقهم بتطاوله.

في الذاهبينَ الأوّلين منَ القرونِ لنا بصائرْ

لما رأيْتُ مواردًا للموتِ ليس لها مصادر

ورأيْتُ قومي نحوَها يسعى الأكابرُ والتصاغر

لا برجعُ الماضي اليَّ ولا منَ الباقين غابر

أيقنتُ أني لا مَحَالةَ حيثُ صار القومُ صائِرْ

هو رجل دين مسيحي (كما يدل على ذلك لقبه - قس -) وهو من اليمن كان يقضي أكثر وقته في التعبّد. وكان يأتي الى مكة في موسم الحج (قبل ظهور الإسلام). وتدلنا هذه الخطبة أنه كان يدعو الناس الى التأمل في الدنيا ويذكرهم بالموت، توفي سنة 600م.


*24*

خطبة أكثم بن صيفي


*24*

"إن أفْضَلَ الأشياء أعاليها، وأعلَى الرجال مُلوكُها، وأفْضَلَ الملوكِ أعَمُّها نفعًا وخير الأزمنةِ اخصبُها وأفضلَ الخُطَباءِ أصدقُها.

الصّدقُ مَنْجاةٌ، والكَذِبُ مَهْواةٌ؛ والشَّرُ لَجاجَةٌ والحَزْمُ مَرْكَبٌ صعب والعجزُ مركبٌ وطيءٌ.

آفةُ الرأي الهَوَى

والعَجْزُ مِفْتاحُ الفَقْرِ.

وَخَيْرُ الأمورِ الصَبرُ.

حُسْنُ الظنّ وَرْطَةٌ. وسوءِ الظنِ عِصْمَةٌ.

إصلاحُ فَسادِ الرَّعِيَّةِ خيرٌ مِنْ إصلاحِ فسادِ الرّاعي.

مَنْ فَسَدَتْ بِطانَتُهُ كانَ كالغاصِّ بالماءِ.

شَرُّ البِلادِ بِلادٌ لا أميرَ لها. شَرُّ الملوكِ مَنْ خافَهُ البَريءُ.

المرءُ يَعْجَزُ لا مَحَالَةَ.

أفضلُ الأولادِ البَرَرَةُ.

خيرُ الأعُوانِ مَنْ لَمْ يُراءِ بالنّصيحةِ.

حَسْبُكَ مِنْ شَرٍ سَماعُهُ.

الصَّمتُ حِلمٌ وقَليلٌ فاعِلُه.

البلاغَةُ الإيجازُ.

مَنْ شَدّد نَفرَ وَمَنْ تَراخَى تألّفُ.

احمد صفوت، جمهرة خطب العرب في العصور العربية الزاهرة، ج ا، مصر،1923.


*25*

وصية ذو الأصبع العدواني


*25*

أوصى ذو الإصبع العدوانيُّ إبنه حينما دنت منيّتهُ:

"يا بُنَّي إن أباكَ قد فَنِيَ وهو حَيٌّ، وعاش حتى سَئمَ العيشَ، وإني موصيكَ بما إنْ حفظَتَهُ بلغتَ في قومِكَ ما بَلَغتُهُ، فاحفَظْ عني: ألِنْ جانبَكَ لقومِكَ يُحِبّوكَ، وتواضَعْ لهم يرفعوكَ|، وابسُطْ لهم وَجْهَكَ يُطيعوك، ولا تستأثرْ عليهم بشيءٍ يُسَوِّدوكَ، وأكرِمْ. صغارَهم كما تُكرِمُ كبارَهم يُكْرِمْكَ كبارَهم وَيَكْبَرْ على مودّتِك صغارُهم، وأسمحْ؛ بِمالِكَ، وَاحْمِ حريمَكَ، وَأعْزِزْ جارَكَ وأعِنْ مِنَ استعانَ بكَ، وأكرِمْ ضَيْفَكَ، وأسرِع النهضةَ في الصريخِ، فإنَّ لَكَ أَجَلاً لا يَعْدوك...، وصُنْ وجهَكَ عن مسألةِ أحَدٍ شيئًا فبذلك يتمُّ سُؤْدُدُكَ".

أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، ج 3، بيروت، 1955


*26*

أمثال جاهلية.


*26*

جزاء سنمّار


*26*

أيْ جزائي جزاءُ سِنِمّار، وهو رجلٌ روميٌّ بنى الخَوَرْنَقَ الذي بظهرِ الكوفةِ للنعمانِ بنِ امرىء القيسِ، فلما فرغَ منه القاه من أعلاه ُفخرَّ ميتًا. وأنما فعلَ ذلك لئلا يبنيَ مثلَهُ لغرِهِ؛ فضَربَتِ العربُ بِه المثلَ لمن يَجزي بالإحسانِ الإساءةَ، قال الشاعرُ:

جَزَتْنا بَنو سِعْدٍ بِحُسْنِ فَعالِنا

جَزاءَ سِنِمّارٍ وَما كانَ ذا ذَنْبِ

ويُقالُ هو الذي بنى أُطُمَ؛ أُحيحةَ بنِ الجلاحِ فلما فرغَ منه قال له أحيحةُ: لقد أحْكَمْتَهُ، قال: إني لأعرفُ فيه حجرًا لو نُزِغَ لتقوَّضَ من عندِ آخرِهِ، فسأله عنِ الحجرِ فأراه موضعَهُ، فدفعَهُ أحيحةُ من الأُطمِ فخرَّ ميتًا.

قطعت جهيزةُ قولَ كلِّ خطيب


*26*

أصلُهُ أنّ قومًا اجتمعُوا يخطُبونَ في صُلحٍ بينَ حييَّنِ قَتَلَ أحدُهما منَ الآخرِ قتيلاً، ويسألونَ أن يرضَوْا بالدِّيةِ، فبينا هم في ذلك إذ جاءت أمَةٌ يقال لها جهيزةُ فقالت: إن القاتلَ قد ظفر به بعضُ أولياء المقتولِ فقتله. فقالوا عند ذلك: قطعت جهيزةُ قولَ كلِّ خطيبٍ. أي استُغنَي عن الخُطَبِ. يُضربُ لمن يقطعُ على الناسِ ما هم فيه بحماقةٍ يأتي بها.


*27*

أَحَشَفًا وسوءَ كِيلةٍ


*27*

الكِيلةُ فِعْلَةٌ من الكَيْل، وهي تدلُّ على الهيئةِ والحالةِ، نحوَ الرِكبة والجلسة. والحشفُ، أردأُ التمرِ، أيْ أتَجمعُ حَشَفًا وسوءَ كَيْلٍ؟ يُضربُ لمن يجمعُ بينَ خصلتينِ مكروهتينِ.

رجع يخّفي حنين


*27*

قال أبو عبيد: أصله أن حُنَيْنًا كان إسكافًا من أهلِ الحيرةِ فساومَهَ أعرابيٌ بخفيّن فاحتلفا حتى أَغْضَبَهُ، فأراد غيظَ الأعرابيّ. فلما ارتحلَ الأعرابيُّ أتخَذَ حُنينَ أحدَ خُفّيْه وطرَحَهَ في الطريق ثم أَلقى الآخرَ في موضوعٍ آخرَ. فلما مرَّ الأعرابيُّ بأحدِهِما قال: ما أشبةَ هذا الخفَّ بخفِّ حنين، ولو كان معه الآخرُ لأَخَذتُه. ومضى، فلما انتهى الى الآخر ندم على تركهِ الأول، وقد كمَنَ له حنيَنَ، فلما مضى الأعرابيُّ في طلبِ الأولِي عمِدَ حُنين الى راحلته وما عليها فذهب بها. وأقبل الأعرابيُّ وليس معه إلا الخفّان فقال له قومه: ماذا جئتَ به من سفرِك؟ فقال جئتكُمْ بخفَّي حنين، مثلاً يضرب عن اليأس من الحاجةِ والرجوعِ بالخيبةِ

كأنَ على رُؤوسهم الطير


*27*

يضرب للساكن الوادع. وفي صفة مجلس رسول الله (صلعم): إذا تكلم أطرقَ جُلَساؤه كأنما رُؤوسهم الطيرُ. يريد أنهم يسكنون ولا يتكلمون، والطير لا تسقط إلا على ساكن.


*28*

الحديث ذو شجون


*28*

أي ذو طُرُقٍ، الواحدُ شَجْنٌ بسكون الجيم، والشواجنُ أوديةٌ كثيرةُ الشجرِ، الواحدةُ شاجنةٌ؛ وأصلُ هذه الكلمةِ الاتّصال والالتفافُ، ومنه الشجنةُ، والشجنةُ الشجرةُ الملتفّةُ الأغصانِ. يُضربُ هذا المثلُ في الحديثِ يُتذكّرُ بهِ غيرُهُ وقد نظمَ؛ الشيخُ ابو بكرٍ عليُ بنُ الحسينِ؛ الفهستانيُّ هذا المثلَ ومثلاً آخرَ في بيتٍ واحدٍ وأحسنُ ما شاءَ وهو:

تَذكَّرَ نَجْداً والحَدِيْثُ شُجونُ

نَجُنَّ أشْتِياقاً والجُنُون فُنونُ

وأول من قال هذا المثلَ ضبّةُ أدً بنِ طابخةَ بنِ إلياسَ بنِ مَضَرَ وكان له ابنانِ يقال لأحدِهما سعدٌ وللآخرِ سعيدٌ، فنفرت إبلٌ لضبّةَ تحتَ الليلِ فوجَّه آبنيهِ في طلبِها فتفّرقا، فوجدها سعدٌ فردّها، ومضى سعيدٌ في إليها فلقيهُ الحارثُ بنُ كسبهٍ وكان على الغلامِ بُردان فسأله الحارثُ إياهما فأبى عليه؛ فقتلَهُ وأخذَ بُرديْهِ. فكان ضبّةُ إذا أمسى فرأى تحتَ الليلِ سواداً قال أسعدٌ أم سعيدٌ؟ فذهبَ قولُهُ مثلاً يُضربُ في النجاحِ والخيبةِ، فمكثَ ضبّةُ بذلك ما شاءَ ا الله أن يمكثَ، ثمَّ إنه حجَّ فوافى عُكاظَ فلقيَ فيها الحارثَ بنَ كعبٍ ورأى عليه بُردي ابنهِ سعيدٍ فعرفَهما، فقال له: هل أنتَ مُخبري ما هذانِ البُردانِ اللذانِ عليكَ؟ قال بلَى، لَقيتُ غلاما وهما عليه فسألتهُ إيّاهما فأبى عليَّ فقتلتُه وأخذتُ بُردينِ هذينِ، فقال ضبّةُ: بسيفِك هذا، قال نعمْ، فقال فأعْطِنِيهِ أنظُرْ إليهِ فإني أظنُّه صارماً، فأعطاهُ الحارثُ سيفَهُ فلما أخذهُ من يدهِ هَّزهُ وقال: الحديثُ، ذو شجون ثم ضربَه به حتى قتلَه، فقيلَ له: يا ضبّةُ أفي الشهر الحرامِ؟ فقال: سبقَ السيفُ العَذْلَ وفيه قال الفرزدقُ:

لا تَأمنَنَّ الحَرْبَ إنَّ اسْتِعارَها

كَضَبَّةَ إذْ قالَ الحَديثُ شُجُونُ


*29*

وافق شنٌّ طبقة


*29*

قال الشرقيُّ بنُ القُطامي: كانَ رجلٌ من دهاةِ العربِ وعقلائِهم يقالُ له (شن) فقال: واللهِ لأُطَوِّفَنَّ حتى أجدَ امرأةٌ مثلي أتزوَّجُها: فبينَما هو في بعضِ مسيرِهِ؛ إذْ وافَقَه رجلٌ في الطريقِ فسألَهُ شنٌّ: أينَ تريدُ؟ فقال: موضعَ كذا. يريدُ القريةَ التي يقصِدُها شنًّ فوافقَهُ حتى أخذا في مسِيرِهَمِا. قال له شنٌ: أتَحمِلُني أم أحمِلُكَ؟ فقال له الرجل: يا جاهلُ أَنا، واكبٌ وأنتَ راكبٌ فكيفَ أحمِلُكَ او تحملُني؟ فسكَت عنهُ شنٌ، وسارا حتى إذا قرُبا من القريةِ إذا بزرعٍ قد استحصدَ فقال شنٌ: أَتَرى هذا الزرعَ أُكِلَ أم لا؟ فقال له الرجلُ: يا جاهلُ تَرى نبيتًا مستحصِدًا فتقولُ أُكِلَ أَم لا؟ فسكتَ عنه شنٌ حتى إذا دخلا القريةَ لَقِيتْهُمَا جنازةً فقال شنً: أترى صاحبَ هذا النعشِي حيًا أو ميتًا؟ فقال له الرجل: ما رأيتُ أَجهلَ منكَ، تَرى جنازةً تسألُ عنها أميتٌ صاحبُها أم حيٌ، فَسكتَ عنهُ شنٌ فأرادّ مفارقَتَه فأبى الرجلُ أن يتركَه حتى يصيرَ به الى منزلِهِ فمضى معهُ، فكانَ للرجلِ بنتٌ يقالُ لها طبقة، فلما دخلَ عليها أبوها سألتْ عن ضَيفه فأخبرها بمرافقته إياه وشكا جهله وحدثها بحدَّيثه فقالتْ: يا أَبَتِ ما هو بجاهل، أمّا قولُهُ تحملني أم أحملُكَ فّأرادَ أتحّدِثَني أَم أُحدّثُكَ حتى مقطعَ طريقَنا، وأمّا قوله أتَرَ هذا الزَّرعَ أُكِلَ أَم لا، فأَرادَ باعَه أهلُه فأكلوا ثمنَهُ أم لا، وأمَّا قولُهُ في الجنازةِ فأَرادَ هل تَرَكَ عَقِبًا يحيى بِهِ ذِكْرُه أَمْ لا، فَخَرجَ الرجلُ فَقَعَد مع شن فحادَثَ ساعتًا ثم قال: أَتُحِبُّ أن أُفسِّرَ لك ما سألْتَني عنه؟ قالَ: نعمْ، ففسَّرهَ، قال شن: ما هذا كَلَامُكَ فأَخبرْني عن صاحِبِي قالَ: أبْنَةٌ لي. فخطبَها إليهِ فزوَّجَه إليها فحَمَلها إلى أهلِهِ فلما رأَوْها قالو "وافق شنٌ طبقة"، فذهبتْ مَثلَاً يُضْرَبُ للمترافقَيْنِ.


*30*

إن غدا لناظره قريب


*30*

أي، لمنظره. يقالُ: نظرتُه أي نْظرتُه. وأقولُ من قال ذلك قُرَادُ بنُ أَجْدَعَ، وذلك أن النعمانَ بنَ المنذرِ خرجَ يتصّيدُ على فرسِهِ اليحمومِ 1 فأَجراه على إِثر عَيْرٍ 2 فَذَهَبْ بهِ الفرسُ في الأرضِ ولم يقدرْ عليه، وْانْفَرَدَ عن أصحابِهِ، وأخذَتْه السماءُ 3، فطلبَ فلجأَ يلجأُ إليهِ، فدّفع الى بناءٍ، فإذا فيه رجلٌ من طيءٍ يقالُ له حنظلةُ ومعه امرأَةٌ لهُ، فقال لهما: هل منِ مأوئً، فقال حنظلةُ: نعمْ. فخرجَ إليهِ فأَنزلَه. ولم يكنْ للطائيِّ غيرُ شاةٍ، وهوَ لا يعرفُ النعمانَ، فقال لامرأتِهِ: أَرى رجُلاً ذا هيثةٍ 4 وما أَخْلَقَهُ أَن يكونَ شريفًا خطيرًا، فما الحيلةُ؟ فأخرجت المرأةُ الدقيقَ فخبزتْ منه مَلّةُ، وقامَ الطائَيُّ الى شاتِهِ فاحْلَبَها ثمَّ ذَبَحَها فاتخَذَ من لَحْمِها مرقةً مَضيرةً. وأَطعَمَهُ من لَحْمِها، وسقاهُ من لَبَنِها، وحْتالَ له شربًا فتاهُ، وَجَعَل، بحدِّثُه بقيةَ ليلِهِ، فلما أصبحَ النعمانُ ليسَ ثيابَه وركبَ فرسَه ثم قال: يا أخا طيءٍ أُطلبْ ثوابَكَ، أَنا الملكُ النعمانُ، قالَ أفَعلُ إن شاءَ اللهُ ثم لحقَ الخيلَ فَمضى نحوَ الحيرةِ.

ومكثَ الطائيُّ بعد زمنًا حتى أصابتْهُ نكبةٌ وَجهِدَ وساءتْ حالُه، فقالتْ له إمرأتُه: لو أتيتَ الملكَ لأحسن إليكَ. فأَقبل حتى إنْتهى إلى الحيرةِ فوافقَ يومَ بؤسِ النعمانِ، فإذا هو واقفٌ في خِلِهِ في السلاحِ، فلما نظرَ إليهِ النعمانُ عَرَفَه وساءَه مكانُه، فوقَفَ الطائيُّ الْمَنْزُلُ بِهِ بينَ يديِ النعمانِ، فقالَ له: أنتَ الطائيُّ المنزلُ به؟ قال: نعمْ، قال: غير هذا اليومِ؟ قال أبيتَ اللعنَ 5، وما كانَ عِلْمي بهذا اليوم. قال: واللهِ لو سنحَ لي في هذا اليومِ قابوسُ أبي لم أجدْ بدأً من قتلِهِ، فَطالبْ حاجَتَكَ من الدنيا، وَتَوَسَّلْ ما بدا لك فإنكَ مقتولٌ. قال: أبيتَ اللعنَ، وما أصنعُ بالدنيا بعدَ نفسي؟ قال النعمانُ: إِنهُ لا سبيلَ إليها. قال: فإِنْ كانَ لا بدَّ فامْهِلْي حتى أُلِيمَّ بأَهلي فأُوصني إليهمْ وأُهيَّءْ حالَهم، ثم أَنصرفُ إليكَ. قال النعمان: فَأُقِيمْ لي دليلاً


*31*

بموافاتِك، فَالتَفَتَ الطائيُّ الى شريكِ بنِ عمرِو بنِ قيسٍ من بني شيبانَ، وَهْوَ واقفٌ بجانبِ النعمانِ؛ فقال له:

يا شَريكًا يا ابنَ عمروٍ هل من الموتِ مَحاله

يا أخا كلِّ. مُضافٍ 6 يا أخا مَنْ لا أخًا له

يا أخا النعمان فكّ اليومَ ضيفًا فد أتى له

فَأَبى شريكٌ أن يتكفَّلَ به، فوثَبَ إليهِ رجلٌ من كلبٍ يقال له قُرادُ بنُ أجدعَ فقال للنعمانِ: أبيتَ اللعنَ، هو عليَّ 7 قال النعمان: أَفعلتَ؟ قال: نعم. وجعل الأجلَ حَوْلا، من يومِهِ ذلكَ اليومِ من قابل 8.

فلما حال 9 عليه الحولُ وبقي من الأجلِ يومٌ قال النعمانُ لقراد: ما أراكَ إلا هالكًا غدًا فقال قراد:

فَإنْ يَكُ صدرُ هذا اليوم وَلّى

فَإنَّ غَدًا لِناظِرِهِ قَريبُ

فلما أصبحَ النعمانُ، ركبَ في خيلهِ ورِجلهِ متسلحًا كما كانَ يفعلُ حتى أتى الغَرِيَّيْنِ، فوقف بينهما وأخرجَ معهُ قرادًا وأمرَ يقتلهِ، فقال له وزراؤهُ: ليس لكَ أن تقتُلَه حتى يستوفَي يومَه، فَتَرَكَهُ، وكان النعمانَ يشتهي أن يَقْتُلَ قُرادًا لِيُفْلِتَ الطائيُّ من القتلِ، فلما كادتِ الشمسُ تحتجبَ وقرادُ قائمٌ مجرّدٌ في إزارٍ على النَّطعِ، والسَّيافُ إلى جَنْبِهِ، أقبلتِ امرأتهُ وهي تقول:

أيا عَيْنُ بَكيَّ لي قُرادَ بْنَ أجدَعا

رَهينًا لِقَتْلٍ لا رَهينًا مَودَّعا

أتَتْهُ المَنايا بَغْتَةً دُونَ قَوْمِهِ

فَأمسى أسيرًا حاضِرَ البَيْتِ أضْرَعَا 10

فبينا هم كذلك إذْ دُفِعَ لهمْ شخصٌ من بعيدٍ، وقد أمرَ النعمانُ بقتلِ قراد، فقيلَ له: ليس لك أن تقتُلَه حتى يَأْتِيَكَ الشخصُ فتعلمَ من هُوَ، فكفَّ حتى انتهى إليهمِ الرجلُ


*32*

فإذا هو الطائيُّ، فلما نَظَرَ إليهِ النعمانُ شقَّ عليهِ مجيئُه فقال له: ما حَمَلَكَ على الرجوعِ بعد إفلاتِك من القتلِ؟ قال: الوفاءُ. قال: وما دعاك الى الوفاءِ قال: ديني. قال النعمانُ وما دينُك؟ قال النصرانيةُ. قال النعمانُ فاعرِضْها عليَّ، فعرضها عليه فتنصّر النعمانُ، وكانَ قبل ذلك على دين العربِ، فَتَركَ القتلَ منذُ ذلك اليوم، وأبطل تلك السُّنَّةَ وأمر بهدْمِ الغريّينِ وعُفِيَ عن قُراد والطائيِّ وقال: والله ما أدري أيُّهما أَوفى وأكرمُ أهذا الذي نَجا من القتلِ فعاد أَم ْهذا الذي ضَمِنَه، والله ِلا أكونُ الأمَ الثلاثة.

مجمع الأمثال - بيروت 1961

الشرح:

(1) (اليحموم): الأسود، هو إسم فرس النعمان. (2) (عير)؛ حمار الوحش.

(3) (أخذته السماء): فاجأه المطر الغزير. (4) (ذو هيئه): هيئته تدل على علو رتبته.

(5) ( أبيت اللعن ): جملة تقال للشخص. بمعنى أراك لا ترض بدنيء الأعمال.

(6) ( المضاف ): الخائف الملاحَقُ.(7) (هو عليَّ): أي إِنّي أكفلُهُ.(8) ( قابِل): نفس

اليوم من العام القادم. (9) (حال عليه الحول): مر عليه العام - مرت سنة. (10) (أضرعُ):

ذليلٌ مُهانٌ.


*33*

العصر الإسلامي


*33*


*34*

صفحة فارغة


*35*

شعر عدمنا خيلنا * 35

حسان بن ثابت

عَدِمنا خَيْلَنا إنْ لم تَرَوْها

تُثيرُ النْقعَ مَوْعدُها كَدَاءُ 1

تَظَلُّ جِيادُنا مُتمطّراتٍ،

تُلَطِّمُهُنَّ بالخُمُرِ النّساءُ 2

فَإمّآ تُعرِضوا عنا اعتمَرْنا،

وكانَ الفَتْحُ، وانكشَفَ الغِطاءُ 3

وإلاّ فاصبِروا لِجلادِ يومِ

يُعزُّ اللُه فيهِ منْ يَشاءُ

لَنا في كُلّ يَوْمٍ من مَعَدِّ،

سِبابٌ، أو قتالٌ، أو هجاءٌ 4

فَنُحكِمُ بالقَوافي مَنْ هجانا

ونَضربُ، حينَ تَخْتَلِطُ الدِّماءُ 6

ألا أبْلغْ أبا سُفيانَ عَنّي،

مُغَلغَلَةً، فقد بَرِحَ الخَفاءُ 5

بأنّ سيُوفَنا تَركَتْكَ عَبْدًا

وَعَبْدَ الدَّارِ، سادتُها الإماءُ 6

هَجَوْتَ مُحَمّدًا، فأجبْتُ عَنْهُ

وعندَ اللهِ، في ذَاكَ الجَزاءُ

هَجَوْتُ مُباركًا بَرّاً حَنيفًا،

أمينَ اللهِ، شيمتُه الوَفاءُ

فَمَنْ يَهْجُو رسولَ اللهِ مِنكم

ويمدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ، سَواءُ

ديوان حسان بن ثابت


*36*

الشرح:

ولد في يثرب. من الشعراء المخضرمين. اتصل أول مرة بالغساسنة فمدحهم ولقي في بلاطهم النابغة ثم أصبح من الأنصار. وهجا القرشيين وكان أول من نظم الشعر الديني في الإسلام لقب "بشاعر النبي".

(1) (النقع): الغبار. (كداء): الثنية العليا. بمكة مما يلي المقابر. (2) (متمطرات):

مسرعات يسبق بعضها بعضًا. (لطمه): ضرب خده. (الخُمُر): جمع خُمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها. قيل وكان حسان أوحى إليه بهذا فقد رووا أن نساء مكة يوم فتحها ظللن يضربن وجوه الخيل ليرددنها. (3) (اعتمرنا): زرنا البيت الحرام، والفرق بين الأعتمار والحج أن العمرة تكون للسنة كلها والحج في وفت واحد في السنة. يقول إن اعرضتم عنا وتركتمونا نزور البيت، فيتم الفتح وينكشف الغطاء عما وعد الله به النبي من فتح مكة، تنتهي الحرب بيننا وبينكم. (4) (لنا): أي الأنصار. (من معد): يريد قريشًا لأنهم من معد عدنان. (5) (المغلغلة):

الرسالة المحمولة من بلد الى بلد. (برح الخَفَاءُ): أي وضع الأمر. (6) (عبدا): أي ذليلاً.

(وعبد الدار): أي وتركت عبد الدار وهم بطن من قريش لهم السقاية والحجابة في البيت

الحرام. (الأماء): الجواري.

اعتذار للرسول (ص)


*36*

كعب بن زهير

بانت سُعادُ فَقَلْبي! ليَوْمَ مَتبولُ

مُتَيَّمٌ إثْرَها لَمْ يُجْزَ مَكْبولُ 1

وَمَا سُعادُ غَداةَ البَيْنِ إذْ رَحَلوا

إلا أغَنُّ غَضيضُ الطَّرفِ مكحل 2

وَفالَ كُلُّ خَليلٍ كنتُ آمُلُهُ

لا ألفِيَنَّكَ إنّي عَنْك مَشْغولُ 3

فَقُلتُ خَلُّوا طَريقي لا أبا لَكُمُ

فَكَلُّ ما قَدَّرَ الرَّحمنُ مَفعولُ

كَلُّ ابْنِ أنثى وإنّ طالت سَلامَتُهُ

يَومًا على آلةٍ حَدباء مَحْمولُ

أنبِئت أنّ رَسولَ الله أوْعَدَني

وَالعَفْوُ عِنْدَ رَسولِ الله مَأمولُ

فَقَد أتيْتُ رَسولَ الله مُعتَذِرًا

وَالعُذْرُ عِنْدَ رَسولَ اللهِ مَقبولُ


*37*

مَهلاً هَداكَ الذي أعطاكَ نافِلة الْ

قُرآن فيها مَواعيظٌ وتفْصيلُ

لا تأخُذَنّي بأقْوال الوُشاة وَلَمْ

أُذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ عَنّي الأقاويلُ

إنَّ الرسولَ لَنُورٌ يُستَضاءُ بِهِ

مُهَنَّدٌ مِنْ سُيوفِ الله مَسْلولُ

شرح ديوان كعب بن زهير، رواية أبي معيد السكري / بيروت 1968

الشرح:

(1) (بانت): فارقت. (متبول): سقيم من الحب. (ومتيم): مضلل وهو التذلل، ذ لْلَهُ الحب. (مكبول): محتبس عندها. (والكبل): القيد. (2) (الأغن): الذي في صوته غتة. (غضيض

الطرف): فاتر الطرف. (3) (لا ألفينك): أي لا أكون معك في شيء لا أنفعك.

من شعر الحطيئة

استعطاف عمر:


*37*

(سجنه عمر بن الخطاب لكثرة هجائه للناس واعتدائه على أعراضهم فأرسل له يستعطفه)

مَاذا تَقُولُ لأَفْراخٍ بذِي مَرَخٍ

زُغبِ الحواصِلِ لا ماءٌ ولا شَجَرُ

ألقَيْتَ كاسبَهم في قَعْرِ مُظْلِمةِ

فَاغفِرْ عليكَ سلامُ الله يا عُمَرُ

أنتَ الأمينُ الذي من بَعْدِ صاحبِه

القَى اليكَ مَقاليدَ النهَى البَشَرُ

لم يُؤثِرروكَ 1 بها إذْ قدَّموكَ لها

لكنْ لأنفسِهِم كانَتْ بك الخِيَرُ

فامنُنْ على صِبيةٍ بالرَّمْلِ مَسكنهُم

بينَ الأباطح تَغْشاهُم بها القِرِرُ 2

وهجا بخيلاً فقال فيه:

تَشاغَلَ لَمّا جئتُ في وَجْهِ حاجَتي

وأطْرَقَ حتّى قُلتُ قد ماتَ او عَسى 3

وأجمعْتُ أنْ أنعاهُ حينَ رأيتُه

يفوقُ فُواقَ المَوْتِ حتّى تنفَّسا 4


*38*

الشرح:

(1) (آثَرَ فلانًا): فضله على نفسه ومنها (الايثار)، وعكسها (أَثَرَ واستأْثَر) أي فضل نفسه على غيره (والأثَرة) تفضيل النفس. (2) (القرر) جمع قِرة وهي البرد. (3) (عسى): بمعنى كاد. (4) (أجمعت): عزمت. (فاق فواقًا): تتابع نفسه متقطعًا.

رثاء صخر


*38*

الخنساء

قَذى بِعَيْنِكِ أم بالعيْنِ عَوّارُ

أم ذَرَّفَتْ إذْ خَلَتْ من أهلِها الدارُ 1

كَأنَّ عَيْنَي لِذِكْراهُ إذا خَطَرَتْ

فَيْضٌ يَسبِلُ على الخَدّينِ مِدْرارُ 2

تَبْكي لِصَخرٍ هِيَ العَبْرى وَقّدْ وَلِهَتْ

ودُونْهُ مِنْ جَديدِ التُّرْبِ أسْتَارُ 3

تَبْكي خُناسٌ فَما تَنْفَكُّ ما عَمَرَتْ

لَها عليْهِ رَنينٌ وَهيَ مِقْتارُ 4

تَبْكي خُناسٌ على صَخْرٍ وَحَقَّ لَها

إذ رابَها الدَّهْرُ، إنّ الدَّهرَ ضَرّار

وَما عَجُولٌ على بَوٍّ تُطيفُ بِهِ

لها حَنينانِ: إعْلانٌ وإسْرارٌ 5

يَوْمًا بِأوْجَدَ مِنّي يَومَ فارَقَني

صَخْرٌ ولِلْدَّهرِ إحلاءٌ وإمرارُ 6

وإنّ صخرًا لَوالينا وسَيِّدُنا

وإنَّ صَخْرًا إذا نَشْتو لَنَحّارُ 7

وإنّ صَخْرًا لَمِقدامٌ إذا ركِبوا

وَإنَّ صَخْرًا إذا جاعوا لَعَقّارُ 8

وإنّ صَخْرًا لَتَأتَمُّ الهُداةُ بِهِ

كَأنّهُ عَلَمٌ في رأسِهِ نارُ 9

جَلْدٌ جَميلُ المُحَيا كامِلٌ وَرِعٌ

وَلِلْحُروبِ غَداةَ الرَّوْعِ مِسْعارُ 10

حَمَّالُ ألوِيَةٍ هَبَّاطُ أودِيَةٍ

شَهَّادُ أندِيَةٍ لِلجيشِ جَرّارُ 11

ديوان الخنساء

دار صادر - بيروت 1963


*39*

الشرح:

(1) (الخوار والعاثر): وجع في العين وهو مثل الرَّمَد. (ذرفت): قطرت قطرًا متتابعًا لا يبلغ أن يكون سيلا. (2) (اذا خطرت): أي إذا خطرت ذِكراه في بالها. (3) (العبرى): الدامعه. (واله): ما يصيب الرجل والمرأة من شدة الجزع على الولد. (وجديد الترب): ما أثير من باطن الأرض. (4) (ما عمرت): عاشت. (المقتار): تريد أنها ما بكت على صخر فهي مقصرة عن إيفائه حقه. (5) (العجول): هنا أي الناقة التي فقدت ولدها. (البو): أن ينحر ولد الناقة فيؤخذ جلده ويُحشى ويدنى من أمه. (6) (بأوجد): بأشد وجدا وحزنًا. (أحلاء وأمرار): أي أن الدهر يأتي بالحلو المحبوب والمر المكروه. (7) (تصفه بالجود): اي ينحر للضيوف إذا نزل بالناس ضيق الشتاء. (8) (عقار): كثير العقر، أي الذبح ليطعم الجائعين. (9) (تأتم به): تهتدي به. الهداة: واحدها هاد: المرشد، المتقدم. كأنه علم في رأسه نار مثل ضربته في شهرة أخيها. (والعلم): الجبل. (10) مسعار الحرب: موقدها. (11) (حمال وهباط وشهاد) - صفات للمبالغة.

40

آيات جارية مجرى الأمثال


*40*

لَنْ تَنالَوا البِرَّ حتّى تُنْفقوا مما تُحِبُّونَ 1 ألَئِنْ حَصْحَص الْحَقُّ 2. قُضِيَ الأمرُ الذي فيهِ تَسْتَفْتِيَانِ 3 .لِكُلِّ نَبإ. مُسْتَقرٌّ 4. ولا يَحيقُ الْمَكْرُ السيِّء إلاَ بأهْلِهْ وَعَسى أنْ تَكْرَهوا شَيْئًا وهُوَ خَيْرٌ لكم 6. كَلُّ نَفْسٍ بما كَسَبتْ رَهِينةٌ 7. ما عَلى الرسُولِ إلا الْبَلاغ 8. هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إلاَّ الإحْسانُ 9. كم من فئةٍ قليلةٍ غَلَبتْ فئةً كثيرةً بإذْنِ اللهِ 10. كَلُّ حِزْبٍ بما لدَيْهِمْ فَرحُونَ 11. لا يُكلِّفُ الله نَفْسًا إلاَ وُسْعَها 12. لا يَستْوي الْخَبِيثُ والطَّيِّبُ 13.

الشرح:

(1) تستعمل في الحث على بذل النفيس المحبوب. (2) (حصحص): بان وظهر. تستعمل لظهور الأمر بعد خفائه أو الشك فيه. (3) تستعمل في اليأس من الرجوع في الحكم أو العمل. (4) للنص على أن لكل شيء غاية. (5) مدبر الشر يقع فيه. (٦6) في ظهور الخير من غير مظانّه. (7) تستعمل في تحمل الإنسان نتيجة عمله. (8) في الرحل يقوم بواجبه لا يعنيه المهمِل. (9) (في الخير): جزاؤه الخير. (10) (الضعيف): يفوز بالقوي: (11) تعصب الإنسان لما عنده. (12) الاكتفاء بغاية الجهد. (13) للفرق بين المتباينات.


*41*

(4) سُورَة النسّاء مَدنيّة وآياتَها 76 نزلتْ بَعْدَ الممتحنَة


*41*

"(30) إِن تَجْتَنٌبواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرُ عَنكُمْ سَيِّاتِكُم وَنُدْخِلْكُم مُدْخَلاً كَرِيماً (31) وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضِ لِلرِجَالِ نَصِيبٌ مِّمّا اٌكْتَسَبُواْ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اٌكْتَسَبْنَ وَسْئَلُواْ الله مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيما (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَولَى مِمَّا تَرَكَ الوَلِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ والَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَنُكُمْ فَأْتوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهيداً

(87) فَمَا لَكُمْ في الْمُنَفِقِينَ فَئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبَوْا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضْلِلِ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً"

سورة الأعراف


*41*

"وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ (صلى) قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَٰلِكُمْ خَيْر ٌلَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانضُرُوا


*42*

كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)

أحاديث نبوية


*42*

1. من كتاب شرم الأربعين النووية

الحديث الثالث عشر

عَنْ أبي أنَسِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ الله تَعَالَى عنهُ خادِمِ رسولِ الله صِلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ عن النَّبِيِّ صلّى عليهِ والِهِ وَسَلَّمِّ قالَ: لا يُؤمنُ أحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. رَواهُ البخارِيُّ وَمُسْلِمٌ.


*43*

الحديث الخامس عشر

عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ تعَالى عنهُ أَنَّ رَسولَ اللهِ صلّى عليه وآله وَسَلَّمَ

قالَ: مَنْ كان يُؤمِنُ بِاللهِ واليوم الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أوْ لِيَصْمتْ وَمَنْ كانَ يُؤمِنُ بِاللهِ واليوم الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جارَهْ، وَمَنْ كانَ يُؤمنُ بالله واليوم الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهِ. رَواهُ البُخاريُّ وَمُسْلِمٌ.

كتاب شرح الأربعين النووية ط 11 القاهرة د. ت

2. من كتاب صحيح البخاري

علامة المنافق

حدثنا سليمان أبو الرَبيع قال حدّثنا إسمعيل بن جعفر قال حدّثنا نافع بن مالك إبن أبي عامر أبو سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن الني صلّى الله عليه وسلم آية المنافق ثلاث: اذا حدّث كذب، واذا وعد أخلف، واذا اؤتمن خان. حدثنا قبيصة بن عقبة قال: حدّثنا سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبدا لله بن عمرو أنّ النّبي صلّى ا لله عليه وسلم قال: أربع مَنْ كنّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها: اذا أؤتمن خان وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر.


*44*

أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً

حدّثنا معتمر بن حميد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً قال: تأخذ فوق يديه.

كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيّته

حدّثنا يشر بن محّمد السّختياني أخبرنا عبدا لله أخبرنا يونس عن الزّهريّ قال: أخبرني سالم عن إبن عمر رضي ا لله عنهما قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيّته، الإمامُ راعٍ ومسؤول عن رعيّته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيّته، والمرأة في بيت زوجها راعيةً؛ ومسؤولةً عن رَعيّتها، والخادم في مال سيّده راعٍ ومسؤول عن رعيّته.

عن إزالة الأذى عن طرقات الناس

حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعلّي بن محّمد، قالا: حدثنا وكيع عن أبان بن صمعه، عن أبي الوازع الرّاسبي بن أبي برزة الأسلمي، قال: قلت: يا رسول ا لله دلّني على عمل أنتفع به. قال: اعزل الأذى عن طريق المسلمين.

صحيح البخاري مطابع

الشعب 1378. ه. القاهرة


*45*

من خطبة الوداع للرسول صلى الله عليه وسلم


*45*

الحمدُ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ اليه، ونعوذُ بالله من شرورِ أَنفِسنا ومن سيئاتِ اعمالِنا.

أوصيكُمُ عبادَ اللهِ، بتقوى اللهِ وَأَحثُّكمْ على طاعتِهِ وأستفتِحُ بالذي هو خيرُ، أما بعدُ أيها الناسُ، اسمعوا مني أُبيِّنْ لكمْ، فإني لا أدري لعلّي لا القاكُمُ بعدَ عامي هذا في موقِفِي هذا.

اللهمَّ اشهدْ، فَمْنْ كانتْ عندَه أَمانةٌ فَلْيُؤَدِّها الى الذي ائْتَمَنَهُ عليها، وان ربا الجاهليةِ موضوعٌ (موضوع: ساقط ومحرم) وان دماءَ الجاهليةِ موضوعةٌ. وان مآثرَ الجاهليةِ موضوعةٌ غيرَ السدانة (السدانة: حذمة الكعبة) والسقاية (السقاية: سقاية الحجاج)

أَيها الناسُ: ان الشيطانَ قد يئِسَ أنْ يُعبَد في أرضِكمْ هذِهِ ولكنَّهُ قد رضيَ أنْ يُطاعَ فيما سِوى ذلكَ مما تَحْقِرونَ من أَعمالِكُمْ.

أَيُهَا الناسُ إنَّ لِنسائِكُمْ عليكمُ حقاً ولكم عَليْهِنَّ حقٌ فاتَّقُوا اللهَ في النساءِ واستوصوا بهنَّ خيراً، أَلاَ هل بلَّغْتُ اللهمَّ اشهدْ.

أيها الناسُ: إِنما المؤمنونَ إخوةٌ، لا يحِلُّ لامرىءٍ مسلمٍ مالُ أَخيه إِلاَّ عن طيبِ نفسٍ منه. أَلاَ هل بَلَّغْتُ؟ اللهمَّ اشهدْ.

فلا ترجِعُنَّ بعدي كفّاراً يَضرِبُ بعضُكُمِ رقابَ بعض، فإِني قد تركتُ فيكم ما إِنْ أخذتُمْ به لن تَضِلُّوا بعدَه، كتابَ اللهِ، ألا هل بلغت؟ اللهمَّ اشهدْ.


*46*

أَيها الناس: ان رَبَّكُمْ واحدٌ وأباكمْ واحدٌ، كلكم لآدم وآدمُ من تراب. أكرمكُم عندَ اللهِ أتقاكمْ، ان اللهَ عليمٌ خبيرٌ، ليسَ لعربيِّ على أَعجميِّ فضلٌ إلا بالتقوى. ألا هل بلغتُ؟ اللهمَّ اشهدْ.

شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي،

العصر الإسلامي ص 117

خطبة أبي بكر يوم السقيفة


*46*

"أيها الناس نحن المهاجرون أولُ الناس إسلاما وأكرمهُم أحساباً وأوسطُهم داراً وأحسنُهم وجوهاً وأكثرُ الناسِ وِلادّةً في العربِ وأمسُّهم رَحِمَّا برسولِ الله صلى الله عليه وسلم. أسْلَمْنا قَبْلكم وَقُدِّمْنا في القرانِ عليكم. فقال تَبارَكَ وتعالى: "والسابقونَ الأولونَ من المهاجرين والأنصارِ الذين اتَّبَعوهم بإِحسانٍ" (أية من سورة التوبه)


*47*

آوَيْتُمْ وَواسيْتُمْ فَجَزاكُمُ الله خَيْراً. فنحن الأمراءُ وأنتم الوزراءُ. لا تَدِينُ العربُ إلا لهذا الحَيِّ من قريشٍ. فلا تَنْفَسوا على إخوانِكم المهاجِرينَ ما مَنَحَهُمُ اللهُ من فَضْلِه.

من كتاب عمر الى الولاه


*47*

"بسم الله الرحمن الرحيم: من عبدِ الله عُمَرَ بنِ الخطابِ أميرِ المؤمنينَ الى عبد الله بنِ قيسٍ:

سلامٌ عليكَ.

أمّا بعدُ: فإنَّ القَضاء فَريضةٌ مُحْكَمَةٌ، مَتَّبَعَةٌ، فافْهَمْ إذا أدْلِي (أدلى بحجته: إحتج بها) اليك، وأنفذْ إذا تبيَّنَ لَكَ، فإنه لا ينفعُ تكلمٌ بحقٍ لا نَفاذَ له، آسِ (سوِّ بينهم، وتقديره: إجعل بعضهم أسوة بعض) بينَ الناسِ في وَجْهِكَ وعدلِكَ ومجلِسِكَ حتى لا يَطْمَعَ شريفٌ في حَيْفِكَ (أي في ميلك معه لشرفه)، ولا يَيأسَ ضَعيفٌ مِنْ عدلِكَ (وفي البيان والتبين والعقد الفريد: "ولا يخاف ضعيف من جوركَ" وفي صبح الأعشى: "ولا ييأس ضعيف من عونك").

البَّينَةُ على مَنِ ادَّعى واليمين على من أنكَرَ، والصلحُ جائزٌ بينَ المسلمينَ، إلاّ صُلْحاً أحلَّ حَراماً أو حَرَّمَ حَلالاً، ولا يَمْنَعَنَّكِ قَضاءٌ قَضَيْتَهُ اليومَ فراجَعْتَ فيهِ عَقْلَكَ، وَهُدِيْتَ فيه لِرُشْدِكَ، أن تَرْجعَ إلَى الحَقَّ، فإنَّ الحَقَّ قَديمٌ، وَمُراجَعَةُ شيءٍ من الحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التمادِي في الباطلِ.

الفَهْمَ الفَهْمَ فيما تلجْلجَ (تلجلج: تردد، وأصل ذلك المضغة والأكلة يرددها الرجل في فمه، فلا تزال تتردد الى أن يسيغها أو يقذفها، والكلمة يرددها الرجل الى أن يصلها بأخرى، ويقال للعييّ لجلاج: ومن أمثال العرب: الحق أبلج والباطل لجلج "أي يتردد فيه صاحبه فلا يصيب مخرجا.) في صَدْرِكم مِمّا ليسَ في كتابِ الله أو سُنَّةِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلمَ، ثُمَّ اعرِفِ الأشْباهَ والأمْثالَ، فَقِسِ الأمورَ عندَ ذلكَ بنظائِرها، واعْمَدْ الى أقْرَبِها إلى الله، وأشبَهِها بالحقِّ، واجَعَل لِمَنِ


*48*

ادَّعى حَقّاً غائباً أو بَيِّنَةً، أمداً يَنَتَهي إليهِ، فإنْ أحْضَرَ بَيِّنَتَهُ أخَذْت لَهُ بِحَقِّهِ، وَإلاَ استَحْلَلْتَ عليهِ القضية، فإنَّ ذلكَ أنفَى لِلشَّكِّ، وَأجْلى لِلْعَمَى، وَأبْلغَ في العُذْرِ.

الشرح:


*49*

العصر الأموي


*49*


*51*

شعر من النقائض


*51*

1. هجاء الفرزدق لجرير


*51*

(1) إنَّ الَّذي سَمَكَ السَّمَاء بَنَى لَنا

بَيْتاً دَعائِمُهُ أعَزُّ وأطْوَلُ

(2) بَيْتاً بَنَاهُ لَنا المَلِيكُ وَما بَنَى

حَكَمُ السَّمَاءِ فَإِنَّهُ لا يُنْقَلُ

(3) حُلَلُ المُلُوكِ لِباسُنا في أهْلِنا

والسَّابِغاتِ الى الوَغَى نَتَسَرْبَلُ

أحْلامُنا تَزِنُ الجِبالَ رَزانَةً

وتَخالُنا جِنّاً إذا ما نَجْهَلُ

(4) فَادفَعْ بِكَفِّكَ إنْ أرَدْتَ بِناءَنا

ثَهْلانَ ذا الهَضَباتِ هَلْ يَتَحَلحَلُ؟

(5) وَأنا ابْنُ حَنْظَلَةَ الأغَرَّ وإنَّني

في آلِ ضَبَّةَ لَلْمُعَمُّ المَخْوَلُ

(6) يَا ابْنَ المَراغَةِ أينَ خالُكَ إنَّني

خالي حُبيشٌ ذو الفَعالِ الأفضَلُ

(7) إنَّا لَنَضرِبُ رَأسَ كُلِ قَبيلَةٍ

وأبوكَ خَلَفَ أتانِهِ يَتَقَمَّلُ

وَشُغِلْتَ عَنْ حَسَبِ الكِرامِ وما بَنَوا

إنَّ اللَّئيمَ عَنِ المَكارِم يُشغَلُ

الشرح:

(1) (سمك السماء): رفعها. (2) (المَليكُ): ملك السماء، ويُرْوَى رب السماء. (3) (الحلة): إزار ورداء. (نتسربل): نتقمص. (4) (ثهلان): جبل. (يتحلحل): يتحرك ويزول. (5) (المعم، المخول): الكريم الأعمام والأخوال. (6) خاله حبيش بن دلف بن عسير بن ذكوان.


*52*

2. رد على الفرزدق


*52*

(1) أخْزى الذِي سَمَكَ السَّماءَ مُجاشِعاً

وبنى بِناءَكَ في الحَضيضِ الأسْفَلِ

(2) بَيْتاً يُحَمِّمُ قَيْنُكُمْ بِفنائِهِ

دَنِساً مَقاعِدُهُ خَبيثَ المَدْخَلِ

(3) إنّي الى جَبَلَيْ تَمِيمٍ معْقِلِي

ومَحَلُّ بَيْتِي في اليَفاعِ الأطْوَلِ

أحْلامُنا تَزِنُ الجِبالَ رَزَانَةٌ

وَيفوقُ جَاهِلُنَا فِعَالَ الْجُهَّلِ

(4) كان الفرزدَقُ إذ يعوذُ بِخالِهِ

مِثْلَ الذَّلِيلِ يَعُوذُ تَحْتَ القَرْمَلِ

وافْخَرْ بِضبَّةَ إنَّ أمُّكَ مِنْهُمُ

لَيْسَ ابْنُ ضَبَّةَ بِالمُعَمِّ المُخْوَلِ

إنَّ الذِي سَمَكَ السَّماءَ بَنَى لَنا

بَيْتاً عَلاك فَما لَهُ مِنْ مَنْقَلِ

شرح ديوان ج 1

الصاوي / بيروت د. ت.

الشرح:

(1) (الحضيض): أسفل الجبل، وأعلاه عرعرته. (2) ويروي المأكل: (يحمّم): أي يدخّن فيه فيسوّده. (3) (يتفاخر): بعلوّ منزلته. (4) (القرمل): شحر ضعيف لا شوك له. وفي مثل:

"كقرملة الضب الذي يتذل".

مدح بني أمية


*52*

الأخطل

(1) حُشْدٌ على الحقِّ، عَيّافو الخَنا أنُفٌ وإنْ ألّمت بهمْ مكروهةٌ صَبَروا

(2) وَإن تَدَجَّتْ على الآفاقِ مُظْلِمةٌ كان لهمْ مَخْرَجٌ منها وَمُعتصَرُ

(3) أعطاهُمُ اللهُ جَداً يُنْصَرونَ به لا جَدَّ إلا صغيرٌ بعدُ محتَقَرُ


*53*

(4) لمْ يأشَرُوا فيه؛ إذ كانوا مَوَاليه وَلَوْ يكونُ لقومٍ غيرِهِمْ أشِروا

(5) شُمْسُ العَداوةِ حتى يُسْتَقَادَ لَهمْ وأعظَمُ الناسِ أحلاماً إذا قَدَروا

(6) هُم الذين يُبارُون الرياحَ إذا قلَّ الطعامُ على العافِينَ أو قَتَروا

(7) بني أمّيَةَ نُعْماكم مُجَلِّلةٌ تّمتْ، فلا مِنَّةٌ فيها ولا كَدَر

(8) بَني أمَيَّةَ إنِّي ناصِحٌ لَكُمُ فَلا يَبيتَنَّ فِيكُمْ آمِناً زُفَرُ

(9) وَاتَّخِذوهُ عَدُواً؛ إنَّ شَاهِدَهُ وَمَا تغَيَّبَ مِنْ أخْلاقِهِ دَعَرُ

(10) إنَّ الضَّغِينَةَ تَلْقاهَا، وَإنْ قدُمَتْ كالعِرَّ يَكْمُنُ حِيناً ثمَّ يَنْتَشِرُ

(11) بَني أمَيَّةَ قَدْ نَاضَلْتُ دُونَكُمُ أبْناءَ قَوْمٍ هُمُ آوَوْا، وَهُمْ نَصَرُوا

شعر الأخطل، بيروت 1977، ص 192

المنتخب من الأدب العربي، وشرحه طه حسين وأخرون، ص 3

الشرح:

(1) (حشد): مجتمعون. (الخنا): الفحش. (الّمت): نزلت. (مكروهة): نازلة. (2) (تدجّت): أظلمت. (معتصر): ملجأ، أي يستطيعون الخلاص من الأزمات. (3) (الجَد): الحظ. (4) (يأشروا): يبطروا ويطغوا. (مواليه): أولياءه. (5) (شمس العداوة): أي هم شديدون على العدو. (يستقاد لهم): يخضع العدو لهم ويذل. (الأحلام): جمع حِلم وهو الصبر والأناة. (قدروا): تمكنوا من العدو، والمعنى أنهم يعفون إذا انتصروا. (6) (يبارون الرياح): يسابقونها في الأسراع ال الكرم. (العافون): الذين يطلبون القوت، (قتروا): إفتقروا، يقول أنهم يسرعون الى الكرم وقت الأمحال. (7) (نعماكم): عطياكم للناس. (مجللة): عامة.

(المنة على الناس): ذكر المعروف الذي أسدى إليهم. (8) (زفر): بن الحارث بن كلاب الكلابي، وكان زعيم قيس: أعداء بني أمية. (9) (شاهدة): ظاهرهُ. (دعر): فساد. أي لا تغتروا بصلحه. (10) (العر): الجرب. يقول إن الجرب وإن كَمَن في الجسم لا بد أن يظهر، فكذلك العداوة، وإن بعد عهدها. (11) (ناضلت دونكم): دافعت عنكم الأنصار الذين آووا


*54*

الرسول بعد الهجرة ونصروه. والأخطل هو الذي هجا الأنصار لما دعاه الى ذلك يزيد بن معاوية. وإليه ينسب البيت المشهور:

ذهبت قريشٌ بالمكارم والعلا

واللؤم تحت عمائم الأنصار

علي بن الحسين

الفرزدق


*54*

(1) هذا الذّي تعرِفُ البَطْحاءُ وطأتَهُ وَالبَيْتُ يَعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ

(2) هذا ابْنُ خَيْرِ عِبادِ اللهِ كُلِّهِمُ هَذا التَّقِيُّ النَّقيُّ الطَّاهِرُ العَلَمُ

(3) وَلَيْسَ قَوْلَكَ: مَنْ هذا؟ بِضائِرِهِ، العُرْبُ تَعرِفُ مَنْ أنكَرْتَ والعَجَم

(4) سَهْلُ الخَليقَةِ، لا تُخْشَى بَوادِرُهُ، يَزِينُهُ اثنانِ: حَسنُ الخَلْقِ وَالشِّيَمُ

(5) ما قالَ: "لا" قَطُّ، إلاّ تَشَهُّدِهِ لَوْلا التَّشَهُدُ كانَتْ لاءَهُ نَعَمُ

(6) عَمَّ البَرِيّةَ بِالإحْسانِ، فَانْقَشَعَتْ عَنْها الغياهِبُ والإمْلاقُ وَالعَدَمُ

إذا رَأتْهُ قُرَيْشٌ قالَ قائِلُها: الى مكَارِمِ هذا يَنْتَهِي الكَرَمُ

(7) يُغْضِي حَياءً، وَيُغضَى مِنْ مَهابَتِه فَمَا يُكَلَّمُ الا حِينَ يَبْتَسِمُ

(8) يَكادُ يُمْسِكُهُ عِرْفانَ رَاحَتِهِ رُكْنُ الحَطِيم إذا ما جَاء يَستَلِمُ

ديوان الفرزدق، دار صادر بيروت 1960

الشرح:

(1) (البطحاء): أرض منبطحة في وسط مكة. (البيت): الكعبة، ويقال لها: البيت العتيق والبت الحرام. (الحرام): ما لا يحل انتهاكه، ويقصد هنا "مكة" وما أحاط بها من الأرض.

(الحل): ما جاوز الحرم من الأرض. (2) (العلم): سيد القوم. (3) (ضائره): مُضرٌّ بِهِ.

(4) (الخليقة): الطبيعة. (بوادره): الواحدة بادرة، الحدّة. (5) (التشهد): أن يتلو المسلم شهادته فيقول: "أشهد ان لا إله إلا الله". يقول: أن زين العابدين لا يعرف أن يقول لا، إلا


*55*

حينما يتلو شهادته. (6) (البرية): الخليقة. (انقشعت): انكشفت. (الغياهب):

الظلمات، الواحد غيهب. (7) (يُغضي): يخفض بصره من الحياء، وهو مع ذلك عظيم الهيبة، لا يقدم الناس على محادثته إلا إذا ابتسم لهم تنشيطا وإيناساً. (8)، (الراحة): الكف. (الركن):

الجانب. (الحطيم): حجر الكعبة أو جداره. (يستلم الحجر): إما بالتقبيل أو باليد يقول: أن حجر الكعبة يحب كف زين العابدين فيكاد يحبسه عنده شغفاً بِه. عرفان: مفعول أجله.

مدح بني هاشم

كميت بن زيد


*55*

(1) طَرِبتُ وما شوقاً الى البِيض أطربُ ولا لَعِباً مني، وذو الشّيْب يلعبُ؟

(2) ولم يلهني دارٌ ولا رسمُ منزلٍ ولم يَتَطَرَّبْني بنانٌ مُخَضَّبُ

(3) ولكن الى أهل الفضائل والنُّهَى وخيرِ بني حواءَ، والخيرُ يُطلب

(4) الى النَّفَرِ البِيضِ الذين بحبِّهم الى اللهِ فيما نابني أتقرّبُ

(5) بني هاشم، رهطِ النبيِّ، فإنني بهم ولهم أرضى مراراً وأغضبُ

(6) يُشيرون بالأيدي اليَّ وقولُهم: ألا خاب هذا، والمشيرون أخيَبُ

(7) وقالوا: تُرابيٌ هواه ورأيُهُ بذلِك أدعى فيهم وألقَّبُ

(8) وأحملُ أحقادَ الأقارب فيكُمُ ويُنصبُ لي في الأبعَدَينِ فأنصَبُ

(9) وقالوا: ورثناها أبانا وأمَّنا، وما ورّثتهم ذاك أمٌّ ولا أبُ

المناسبة:

قال الكميت هذه القصيدة انتصاراً لبني هاشم، وهي طويلة تبلغ رهاء أربعين ومائة من الأبيات، وتعتبر أشهر هاشمياته، حتى قالوا إن من لم يروها فليس بشيعي.

الغرض والأفكار العامة:

موضوع هذه الأبيات مدح بني هاشم وتأييد حقهم في الخلافة، والطعن في حق بني امية في الحكم. وقد استهل الأبيات ببيان شوقه الى بني هاشم وتشيعه لهم، ثم صور موقف الناس منه وما


*56*

جرته عليه مناصرة بني هاشم من خصومة وأذى، وانتقل بعدئذٍ الى دحض دعوى بني أمية الذين زعموا أن الخلافة حق لهم، وأخيراً عاد الى تصوير حالته وخوفه الدائم وإعراض الناس عنه لوقوفه في صف بني هاشم.

الشرح:

(1) البض: كناية عن النساء. وذو الشيب يلعب: أصلها أو ذو الشيب يلعب؟ فحذفت همزة الاستفهام. (2) لهاهُ؛ شغله يتطربني: يحملني على الطرب. البنان: الأصابع. مخضب: مصبوغ بالخضاب، وكنى بالبنان المخضب عن المرأة. (3) الى أهل الفضائل: متعلقة بطربت في البيت الأول. النهى: ج نهيه: العقل. (4) البيض كناية عن اشراف. فيما نابني: فيما أصابني من الأذى والبلاء. (5) رهط الرحل: قومه وقبيلته. (6) يشيرون: الضمير عائد على الناس الذين يأخذون عليه تقربه من بني هاشم. والمشيرون أخيب: الواو هنا حالية، أخيب: أكثر خيبة. (7) ترابي: نسبة الى علي بن أبي طالب الذي كناه الرسول بأبي تراب. (8) نصب له: عاداه وقاومه. أنصب: أتعب. (9) ورثناها: أي الخلافة. أبانا وأمنا: نصبها على نزع الخافض، أي عن أبينا أمنا. وهذه اشارة للأمويين.

أقول لها قطريّ بن الفَجاءة


*56*

(1) أقُولُ لَها وقَدْ طارَتْ شَعاعاً

مِنَ الأبْطالِ وَيْحَكِ لنْ تُراعِي

فَإنَّكِ لَوْ سَألْتِ بَقاءَ يَومٍ

على الأجَلِ الذِي لَكِ لنْ تُطاعي

فَصَبْراً في مَجالِ المَوْتِ صَبْراً

فَما نَيْلُ الخَلودِ بِمُستَطاعِ

سَبيلُ الموْتِ غايَةُ كُلِّ حَيِّ

فَداعِيهِ لأهْلِ الأرضِ داعِي

(2) ومن لا يُعْتَبَطْ يَسْأمْ وَيَهْرَمْ

وَتُسْلِمُهُ المنونُ الى انقطاعِ

(3) وما للمرءِ خيرُ في حياةٍ

إذا ما عُدَّ من سَقَطِ المتاعِ

شرح الحماسة للتبريزي

مصر - 1913


*57*

الشرح:

(1) (اقول لها): اقول للنفس. (الشعاع): المتفرق وهذا مثل معناه المبالغة في الفزع. وقوله (لن تراعي): من الروع وهو الفزع. (2) (الاعتباط): أن يموت من غير علة. (والهرم):

بلوغ الشيخوخة. (3) (سقط المناع): الشيء الذي لا فرق بين وجوده وعدمه.

الدالية


*57*

عمر بن أبي ربيعة

(1) لَيْتَ هِنْداً أنجَزتْنا ما تَعِدْ

وَشَفَت أنْفُسَنا مِمَّا تَجِدْ

وَاستَبَدَّتْ مَرَّةٌ واحِدَةً

إنّما العاجِزُ مَنْ لا يَسْتَبِد

(2) وَلَقَدْ قالَتْ لِجاراتٍ لَها

وَتَعرَّتْ ذات يوْمٍ تَبْتَرِدْ

(3) أكَما يَنْعَتُني تُبْصِرنَني

عَمْرِكُنَّ الله أمْ لا يَقْتَصِدْ

(4) فَتَضاحَكْنَ وَقَدْ قُلنَ لَها:

حَسَنٌ في كُلِّ عَيْنٍ مَنْ تَوَدْ

حَسَدٌ حُمِّلْنَهُ مِنْ أجْلِها

وَقَديماً كانَ في النَّاسِ الحَسَدْ

(5) غادَةٌ تَفْتَرُّ عَنْ أشْنَبِها

حينَ تَجْلوهُ أقاحٍ وَبَرَدْ

(6) وَلَها عَيْنانِ في طَرْفَيْهِما

حورٌ مِنها وفي الجِيدِ غَيَدْ

وَلَقد أذْكُرُ إذْ قُلْتُ لها

وَدُموعي فَوقَ خَدِّي تَطّرِدْ

(7) قُلْتُ من أنْتِ فَقالت أنا مَن

شَفَّهُ الوجْدُ وَأبْلاهُ الكَمَدْ

(8) نَحْنُ أهْلُ الخَيْفِ مِنْ أهْلِ مِنىً

ما لِمَقْتولٍ قَتَلْناهُ قَوَدْ

قُلتُ أهلاً أنتُمُ بُغْيَتُنا

فَتَسَمَّيْنَ فَقالَت أنا هِنْدْ

إنَّما أهْلُكِ جيرانٌ لَنا

إنَّما نَحْنُ وَهُمْ شَيءٌ أحَدْ

(9) حدّثونا أنَّها لي نَفَثَتْ

عُقداً، يا حَبَّذا تِلِك العُقَدْ


*58*

كُلما قُلْتُ: مَتى ميعادُنا

ضَحِكَتْ هِنْدٌ وَقالتْ: بعدَ غدْ

د. شكري فيصل، تطور الغزل ص 423-426

الشرح:

(1) (وَجَدَ به): يَجُد وَجْداً: أحبه حباً شديداً. (ووجِد عليه يوْجَد وَجْداً): حزن. (ووَجد المطلوب): أصابه. (2) (تَبْتَرِدْ): تطلب البرد. (3) يكثر هذا التعبير عند عمر، ويختلفون هل يحمل التعبير "عمرك الله" معنى القسم فيحتاج الى جواب، وجوابه هنا كيف يلتقيان، أم يحمل معنى الدعاء كما يرى الجوهري، سألت الله أن يطيل عمرك، إذا لم يرد القسم بذلك؟ والنصب بتقدير فعل محذوف، سألت الله أن يعمرك فكأنه قال: عمرت الله إياك في حالة السؤال، أو بتقدير فعل ونزع الخافض أقسمت عليك 'بتعميرك الله أي بإقرارك له بالبقاء، في حالة القسم. (4) ويُروي فتهانفن: التهانف، التضاحك في فتور كضحك المستهزئ. (5) (الغادة): الناعمة. (تفتر): تبتسم. (الأشنب): الفم ذو الشَنَب، والشنب، تحزيز الأسنان، وقيل صفاؤها ونقاؤها، وقيل طيب نكهتها، وقيل برد الفم والأسنان. (الأقاحي): جمع أقحوانه، نبت ذو زهر أبيض تشبّه به الأسنان. (البرد): حب الغمام، تشبّه به الأسنان في صغرها وصفائها. (6) (الجيد): العنق. (الغّيَد): المَيْل. (7) (الوجد): الحزن، الحب. (الكمد): الحزن. (8) (القَوَد): القصاص. (9) (نفث العقد): كناية عن السحر، وأصله أن الساحرة تأخذ خيطاً ثم تتلو عليه شيئاً، ثم تتفل بريقها ثم تعقده وهكذا وقد جاء في القرآن الكريم: (ومن شر النفاثات في العقد).

يقولون مسحور

من شعر جميل بثينة (بن معمر)

يقولون مسحور يجنُّ بذكرها


*58*

وأقسم ما بي من جنون ولا سحر

لقد شُغِفت نفسي بُثينُ بذكركم

كما شُغفَ المخمورُ يا بَثْنُ بالخمرِ

ذكرتُ مقامي ليلةَ البانِ قابضاً

على كف حوراء المدامعِ كالبدرِ

فكدتُ، ولم أملك اليها صبابة

أهيمُ، وفاض الدمع منّي على النحر

فيا ليت شعري هل أبيتَن ليلةً

كليلتنا حتى نرى ساطع الفجر؟


*59*

تجود علينا بالحديث وتارة

تجود علينا بالرضاب من الثغر

فيا ليت ربي قد قضى ذاك مرة

فيعلم ربي عند ذلك ما شكري

ولو سألت مني حياتي بذلُتها

وجُدْتُ بها، إِن كان ذلك من أمري

مضى لي زمان لو أخيّر بينه

وبين حياتي خالداً آخر الدهر

لقلت: ذروني ساعةً وبثينةً

على غفلة الواشين، ثم اقطعوا عمري

مفلّحة الانياب لو أنَّ ريقها

يُداوَى به الموتى، لقاموا من القبر

إذا ما نظمتُ الشعر في غير ذكرها

أبى، وأبيها، أن يطاوعني شعري

فلا أنعمت بعدي ولا عشت بعدها

ودامت لنا الدنيا الى ملتقى الحشر

موسى سليمان - الحب العذري

من غزل كثير عزة


*59*

(1)

قضى كلُّ ذي دَيْنِ فَوَفّى غريمَهُ

وَعَزَّهُ مَمْطولٌ مَعنّىً غريمُها،

إذا سُمْتُ نفسي هَجَرها واجتنابَها

رأتْ غَمَراتِ الموتِ فيها أسُومُها

(2)

وَمَا ذَكَرَتْكِ النَّفْسُ إلا تَفَرّقت

فَريقين منها - عاذر لي ولائِمُ

فَريقٌ أبَى أن يَقبلَ الضَّيمَ عُنوةً

وَآخَرُ منها قابلُ الضَّيمِ رَاغِمُ

(3)

وأدْنَيْتَنِي، حتى إذا ما مَلكْتِني

بِقَوْلٍ يُحلِ العُصْمَ سَهْلَ الأباطحِ

تَناهَيْتِ عَنّي، حين لالِيَ حِيلةٌ

وغادرْتِ ما غادرتِ بين الجوانحِ


*60*

(4)

ألا ليتَنا يا عَزُّ، مِن غير رِيبةٍ

بَعيرانِ نَرعى في الخَلاءِ ونَعْزُبُ

كِلانا بِهِ عُرٌ، فَمنْ يَرَنا يَقُلْ

على حسنِها، جَرْباءُ تعْدي وأجْرَبُ

إذا ما وَرَدَنا مَنْهلاً صاحَ أهلُهُ

علينا، فما نَنْفَكّ نُرمَى ونُضْرَبُ

(أدونيس - ديوان الشعر العرب)

من الغزل العذري


*60*

أبو صخر الهذلي

(1) أما والذي أبْكَى وَأضْحَكَ وَالّذِي

أمَاتَ وَأحْيا وّالذِي أمْرُهُ الأمْرُ

لَقَد تَرَكَتْنِي أحْسُدُ الوَحْشَ أنْ أرَى

ألِيفَيْنِ مِنْها لا يرُوعُهمَا الذُّعْرُ

فَيَا حُبَّها زدْنِي جَوّى بَيْنِي وَبَيْنَها

فَلَما انْقَضَى مَا بَيْنَنا سَكَنَ الدَّهْرُ

ومَا هُوَ إلا أنْ أراهَا فُجَاءةً

فَأبْهَتَ لا عُرْفٌ لَدَيَّ ولا نُكْرُ

ديوان الحماسة / التبريزي

ط 2 مصر 1913

الشرح:

(1) تكرار القسم للتفخيم ولذلك كان الجواب واحدا.


*71*

مقالة

لوحتي أجمل اللوحات


*71*

ناديا نويهض

اليومَ عيدُ ميلادها، لقد أعددْتُ لها كل شيءٍ رائع وجميل؛ زهور، شموع، أنغام، وعلى المنضدةِ الأنيقة الملأى بالمأكولات الشهية، كعكة كبيرة، غرستُ فيها سبع عَشْرَةَ شمعة، في نورها جمالٌ وبراءةٌ، وفي نارِها خطرٌ ومغامرةٌ. إنني أسمع ضجيجَهن وضحِكاتهن وهن يرقصن على أنغام الموسيقى كالفراشات الملوّنة، يتمعن بدفء الربيع وجماله.

رحت أتأملها بزُهُوٍ واعتزاز وهي بين صديقاتها. لقد أصبحت عروساً، في قلبها أمنيات وأحلام حلوة، وفي عينيها بريق يدلّ على ما يموج فيهما من الفتوَّة والأمل.

وإذْ بي أصحو على حلُم، طالما دغدغ فكري، وتَمَنَّتْةُ روحي، حلم حرصتُ عليه حرصي على الحياة ذاتها، فنما وترعرع في كياني. حلُمي حلُمُ فنان يبذل الْجُهد ويصهر القُوَى لخلق روائع اللوحات. من أجل كل لوحة، أعددتَ أجملُ الألوان الزاهية المختلفة، أعرض جانباً منها لكل أم. سأعود بك، الى يوم أَتَمَّتْ فيه ابنتي الثالثةَ عَشْرَةَ ٠ يوم لم تعد تلعب بدميتها وحصانها الخشبي، أو تعبث بأوراق كتابها الملون. لقد ودّعت في هذا اليوم دنيا كاملة من "الولدنة" المليئة بنور الملائكة وبراءتها، ودخلت دنيا الشباب المتفتح على جمال الصبا وحرارته وخطورته. لقد وُلدتْ في داخلها مشاعرُ وأحاسيس، تنبثقُ من أعمق أعماق نفسها، تلك التي وُجِدَتْ منذ وجود المرأة على وجه الأرض.


*72*

وهنا، اٌختلجتْ مشاعرُ أمومتي بسؤال: كيف يمكنني أن أجد القالب الملائم، لأصبَّ فيه تلك الميول والأحاسيس، وأضمن لها سلامة الطريق؟

وفي يوم من أيام عطلتها المدرسية، طلبتُ منها أن تساعدَني في بعض الأعمال المنزلية، فتذرعت بشتى الأسباب وبقيتْ وحدَها في غرفتها مع كتبها واسطواناتها الجديدة الحلوة.

إنها تتصوَّرُ الحياة لهواً ومرحاً، وتتذمَّرُ من المسؤولية التي أَلقيها على كاهلها، ويتبادر الى ذهنها أَنها مظلومة وأن أمها لا تفهمها ولا تريدها أن تتذوق الحياة بملعقة من ذهب. وهنا يأتي دوري أنا، أن أسرع بأقلامي واوراقي أُهذب اللوحةَ، وأعتني بها بلَمَساتي الناعمة لأزيل تلك الأوهامَ، فأتغْلب شيئاً فشيئاً على تلك الأزمات العابرةِ.

إني حقا أواجه مهمةً صعبةً تتطلب حكمةٌ وحذراً. وتوجهت الى الشرفة لأروَّح عن نفسي وأبلورَ أفكاري. وفجأة لاحت مني التفاتةٌ فرأيت ابنتي أمام مرآتها، تتلاعب بخصلات شعرها كي تفوز بتسريحة تعجبها ثم بدأت تزيّن وجهها ولم تنس الكحل. وأخيراً، اٌبتدأت تجّرب أثوابي واحدا تلو الآخر حتى اختارت ثوباً ضيقاً يبرز مفاتن جسمها وأنوثتها، واٌنتعلت حذائي ثم وقفتْ أَمام مرآتها تسألها هل أنا حقا رائعةٌ وكبيرة؟ وعلت ثغرها اٌبتسامة الرَّضى، وشعرت حينئذ أنها تتمنى أن يكون لها جناحان لتطير الى عالم أرحبَ ودنيا جديدةً. ثم تناولت مجلة، واٌستلقت على سريرها تتصفحها. كل هذا وأنا أراقبها فتألمت من تصرفاتها وشعرت بدوار. لكن في هذه البرهة بالذات لاحت في خيالي صورٌ من الماضي، وعادت بيَ الذكرى الى يومَ كنت فيه بمثل سنها، وكيف كنت أرسم في مخيلتي فتى أحلامي ودنيا مستقبلي، فضحكت من نفسي وقدَّرت شعور ابنتي وقررت أن أنقذها من أوهامها ومن دوامتها الصبيانية.

ولم تكن لديّ حاجة الى ذكاء كبير. بل كنت بحاجة الى مزيد من التضحية لأربح المعركة. وبخطىً بطيئةٍ دخلت غرفتها، وأوصدت الباب، ثم جلست بقربها، فدارت


*73*

تخبئ وجهها خجلاً مني. وبلمسة حنان، مَرَرْت بيدي على شعرها الذهبي، وبعبارات أرقِّ من الدموع قلت:

"اسمعي يا اٌبنتي، أنت اليوم على عَتبة مستقبل مشرقٍ أريد صفحاتِه معطرةً مشرقةً. انت حقاً رائعةٌ وكبيرة. ولكنَّ تصرفاتِك تؤكد لي وللناس أنك ما زلت طفلةً لا شابةً ناضجة.

والآن لديّ مفاجأة لك: سأنتقي لك أثواباً جميلة، وتسريحات تناسب مع سنك، وسأشتري لك كتبا ومجلاتٍ توسّع مداركك، وتهذب نفسَّيتَك. وإنني مستعدة أن أنفّذ جميع طلباتك المعقولةَ والتي تتناسب مع سنك وظروفك.

واٌعلمي يا اٌبنتي أنَّ ما من أحد يخِلص لك أكثرَ مني، فإني أريدك فتاة مثالية بكل معنى الكلمة".

أخذت اٌبنتي بين ذراعي وقبّلتها قائلة: إن جمال الروح يا حبيبتي وسِعَةَ الأفق (الوعي) هما أقوى من جمال الوجه. وإنني أريدك فتاة ناضحة تفكر جيداً قبل أن تتكلم وقبل أن تعمل. إن الحياة يا اٌبنتي تحتاج الى نظرة جدية جديدة، الى روح جديدة، روح المشاركة في المسؤولية.

فالحياة حرمان وعطاء، والنفس إذا اعطِيَتْ على هواها جمحت وضعف تفكيرها.

والنفس يجب أن تنبعَ من ذاتها طاقاتٌ دفاعية تساعدها على اٌحتمال الصعوبات والشدائد. فإذا أردتِ أن تنعمي بجمال الحياة وورودها، عليك أن تتغلبي على العقبات ينفس راضية مطمئنة. عندها يا ابنتي تحصلين على نفس نقيةٍ صافية كصفاء الجوهر.

هكذا أفهمت اٌبنتي حقائقَ الأمور، وعرّفتها بالوجه الصحيح للحياة، لا. بما تلتقطه أذناها من أخبار وَوَشوشات ومعلومات خاطئة تهمس بها رفيقاتها.

إن حبي لاٌبنتي وحرصي على مستقبلها دفعاني الى أن أتحرى كل تصرفاتها، ولكنَّ تدخلي كان مشبعاً بالرفق، وكانت محاولاتي لِبَقَةً حلوة، فلم تشعر إلا كأنني صديقة، لها ذات شعورها وميولها، فلم تقف متي موقف العناد والجفاء، بل كانت 3


*74*

تستقبل نصائحي بنفس راضية مطمئنة. فزرعت اٌحترامي في نفسها، وخصصت لها جانباً كبيراً من وقتي أشاركها في عالمها (عالم الفتيات) بما فيه من فوضى ومرح ومغامرات، فشاركتني في عالمي. بما فيه من وعي واٌتزان ومسؤولية.

شاركتها في دروسها وهواياتها ومطالعاتها، فشاركتنْي في كل عمل من أعمالي بإتقان وَرَوِيَّة. وعندما أردتها أن تتذوق الحياة بمعلقة من خشب، معلقة الحرمان، صحبتها الى الجمعيات الخيرية فوقفت على أحوال المرضى والفقراء والْمعْوَزين فتفجّر في قلبها شعور الرحمة وحبّ المساعدة. علمتها أن تحب وتحترم جميع الناس فكسبتْ ودهم ومحبتهم. كنت أسمح لها أن تتبادل الزيارات مع صديقاتها ورفيقاتها، لكنني كنت على ثقة كاملة محسن تربيتهن جميعا كبناتي، وكنت أَستقبلهنَّ في بيتي، فأعِدّ لهن كل ما يفرِح قلوبَهن الصغيرة كنت أرافقهن أحياناً لحضور أفلام سنيمائية تتناسب ومستواهن. وبذلك، نمت رابطة متينة تشدهن الي كلما احتجن الى مطلب أو هدف خاص.

ان مهمتي، كمهمة كل أم، صعبة. طريقي لم تكن سهلة واضحة، فقد تخَّلَلْتها وعورةٌ وحيرة؛ لكنني بفضل الله وحكمتي المتواضعة اٌجتزتها جميعا بتفاؤل وسهولة، لأن لمساتي كانت تنبع من قلبي ويغذّيها دمي ويصقلها عقلي.

واليومَ صحوت من حلمي وفرحتي فرحةِ فنان اٌكتملت لوحته، وبجانبي عروس بجمال الورد تضاهي بأخلاقها أجمل لَوْحةٍ لأعظم فنان، لأنه مهما تسامى واٌفتنّ يبقى صغيراً؛ قزماً أمام أمومتي الحق.

نادية نويهض - قناديل، ص 24-30


*75*

الابتسامة رأس مال


*75*

مارون عبود

قال لي واحد من أصحابي: لماذا لا تتفلسف؟ فقلت له ومن قال لك إنني لا اتفلسف كل ساعة!؟ غيري يتفلسف عابساً، وأنا أتفلسف ضاحكاً من الفلسفة وأصحابِها رأيي أن الطبيعة لم تَهَبنا أجَلَّ من خاصة الضحِك، فهل رأيتَ أحداً غيرنَا من المخلوقات يضحك أو يبتسم؟

ولا يغيظني أَحَدٌ أكثرَ ممن يسمّي الدنيا وادي البكاء والدموع، وإذا كنت ترى ما يراه فأنا أقول لك: ابكِ حتى تنشق فما تضني إلا نفسَك. أما أنا وقد وهبت خاصة لأنِفّس بها فإني ألجأ إليها في أشد الساعات. فبحياتك جرّب، اتبع فلسفتي. وإذا كنت غير مطبوع مثلي على الضحك، فجرّب على الأقل أن تبتسم. لا تخّيط بوزَك حين تقابل الناس فهم لن يهابوك. إذا بكيت فإنما تبكي وحدَك، أما إذا اٌبتسمت وضحكت فالدنيا كلها تشاركك. في حياتك اضحك حتى في المصيبة إذا أردت أن تتغلب عليها. أتظن انك ترد ما فات إذا لبست وجهك بالمقلوب؟

اسمع ما يقول الناس في العابسين: فلان كشرته تقطع الرزق، وفلان دخل علينا كأنه قابرٌ أمه، وفلان لا يضحك للرغيف السخن. أما الضحك فيعبَّر به عن كل شيء جميل، وإذا دخل علينا رجل وسألته كيف الطقس أجابك بكل بساطة: الدنيا تضحك اليوم.

قالت العرب: بشاشة المعطِي خير من العطية. فإذا اٌستقبلت ضيوفاً فاٌستعن بالبشاشة، فخير طعام تقدمه لضيوفك هو اٌبتسامة طبيعيةٌ. قلت طبيعيةٌ ذات عبير فواح.

وإذا تركت بيتك لتخالطَ الناسَ فحاول أولاً ان تزيل الأكواعَ من وجهك فتأمنَ الاصطدام. إن الزوايا الحادة عدوة الجمال من محياك. دع همومك في بيتك وأغلق


*76*

الباب عليها، أقفْلة جيداً كيلا تلحقَك الى ميادين العمل. فالشفتان المصرورتان لا يأتيك منهما رزقٌ، فافتّر عن أسنانهما على الأقل إذا كنت غير بسام.

لأهل الصين حكمة رائعة يجب أن تعرفها وتتذكرها كلما غادرت بيتك الى محلك إذا كنت تاجراً أو غير تاجر. قالوا الرجل الذي لا يعرف كيف يبتسم لا يصلح أن يكون تاجراً.

ليس للكلب يُحيِّينا بها، ولا فم يسعفه على الضحك ... فابتسامته تكشيرة ومع ذلك لم يحرم وسيلة يكتسب بها الأصدقاء. إنه يعبر بذنَبه عن تودده إلينا، فيحيينا به أصدق تحية. إنه يفهم الابتسامة وإن لم يقدر على اصطناعها فإذا عبسنا أو لم نعِرْهُ اهتماماً لفَّ ذنبه وراح يفتش عن غيرنا. أما إذا لاطفناه فتشترك في تحيتنا جميع جوارحه حتى يكاد يخرج من جلدِهِ أفترضى أن نقصرِّ عنه ولنا لسان وثغر وأيدٍ نعبر بها؛ لا تدعْ صاحب الذَّنب المعقوف أبلغ منك في التعبير وادهى منك في خوض ميادين العيش.

كلنا نعلم أن بيوتنا ملأى شؤوناً وشجوناً، فيحب علينا أن نتناساها الى حين إذا كنا لا نقدر أن ننساها. وإذا سألك صديق كيف حال صحتك، فلا يعني ذلك أن تخبره أنك الليلة البارحة كنت ممغوصاً وأن الإمساك يضايقك أو أنك أكلت ما لار يواتيك، فانبشمت. وإن كان صديقك، مهذبًا وتركك، تمشي على الهينة في حديثك فلا تذهب الى أبعد من ذلك وتخبره عن أخر فحص طبي عام عملته، فتفسدَ عليه نهاره.

أنت يا أخي بين أمرين: إما أن تَقلع وجهك المقطب وتلبس وجهاً غير مغضَّن أو أن تظل في بيتك وتعيش وحدَك. وإذا قبعت في بيتك فهل تظن أن زوجتك وأولادك يحتملون تعبيستك؟ إنهم يداجوك، حتى إذا ما خلوا الى نفوسهم ضاقوا ك ذرعاً.

قرأت في كتاب ألفه ديل كارنجي، مؤسس معهد العلاقات الإنسانية بنيويورك، قطعة عنوانها: ابتسامة عيد الميلاد، جاء فيها


*77*

"إنها لا تكلف شيئاً ولكنها تعود بالخير الكثير."

إنها تُغني أولئك الدي يأخذون، ولا تفقر الدين يمنحون.

إنها لا تستغرق أكثر من لمح البصر، لكن ذكراها تبقى الى آخر العمر.

لن تجد أحدً من الغنى بحيث. يستغني عنها، ولا من الفقر في شيء وهو يملك ناصيتها.

إنها تشبع السعادة في البيت، وطيب الذكر في العمل، وهي التوقيع على ميثاق المحبة بين الأصدقاء.

إنها راحة للمتعب، وشعاع الأمل لليائس، وأجمل العزاء للمحزون، وأفضل ما في حقيبة الطبيعة من حلول للمشكلات.

وبرغم ذلك فهي لا تشترى ولا تُسْتًجْدًى ولا تقترض ولا تسرق. إنها شيء ما يكاد يؤتي ثمرته المباركة حتى يتطاير شعاعاً.

فإذا أتاك رجالنا ليبيعوك ما نحتاج إليه في عيد الميلاد، ووجدتهم من التعب والإرهاق بحيث عز عليهم الابتسام فكن أخا كرم وامنحهم ابتسامة من عندك. فوا الله إنَّ أحوج الناس الى الابتسام هو الذي لم يبق له شيء من الابتسام ليهبه." أجل، إن كيفية اختلاطنا بالناس قد يتوقف عليها رفاهنا وسعادتنا في الحياة. فهناك أشياء غير الابتسامة تتركنا مغبوطين وهي لا تكلفنا شيئاً. فسبقتنا الى التحية يجعلنا محبوبين ومرغوبًا فينا. وردٌّ التحية من الكبير تنعش قلب من هم دونه.

لما ارتقى أكليمنصوس الرابع عشر الى السُّدَّة البابوية انحنى له السفراء مهنئين فانحنى هو لهم، فقال له رئيس التشريفات: كان عليك أن لا تردّ تحيتهم. فأجابه البابا: لم يمض علي بعد الزمن الذي ينسيني واجبات اللياقة.

لا تعبس ولا تتعال حين تحاطب أيًا كان من الناس، وخصوصاً إذا كنت تطلب منه خدمة بالمجان ولا تنس الحكمة الفارسية القائلة: السائل ذليل ولو أين السبيل.


*78*

واستعمل كل رقةٍ حين تخاطب غيرك، فلا تكلم نبراً حين تردُ على من يخاطبك في التلفون. صغ عبارة جميلة لهذا المقام واحفظها غيباً فهي تعبّر عن لطفك وتهذيبك.

احترم قانون السير كيلا تسمع ما لا يرضيك، ولا تأخذ الناس بدربك فتهان.

إن من لا يكرم نفسه لا يكرم، وإكرامك اطلبه من نفسك لا من الناس، فأنت تجلبه لها بسلوكك الرقيق ومحافظتك على كرامة الآخرين. وإذا لم تجد في طريقك من تحترم فاحترم العتال.

كان نابليون يسير في سانت هلين مع سيدة في زقاق ضيق فمَّر بهما عامل بحمل حملاً ثقيلاً فتنحّى له نابليون، أما السيدة فلم تبالي به، فصاح بها نابليون. سيدتي، احترس الحِمل.

أرأيت يا صاحبي كيف أتفلسف انا،؟. فقبل أن نعدّ الناس للدنيا الثانية ونفلسفهم بنظريات باطلة علينا أن تعلم ونعلّم الآخرين كيف يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا ليعيشوا مطمئنين متفائلين. إن لِما وراء هذا الكون فلسفة ينظر إليها في حينها، وإذا كان للشيطان، نعوذ بالله منه، يد في مصيرنا هناك، فأنا أظن أننا إذا لاطفناه وابتسمنا له نطفئ من حدة ناره التي لا تنطفئ.

أعرف موظفاً دخل عليه المفتش فأساء آداب السوك ولم يكترث له وظل بحاكيه قاعداً، فأضمرها له، ولما حان الحين أحاله على التقاعد، وهو لو كان أرقَّ سلوكاً لما نزلت به تلك النكبة.

أجل، لقد نسينا مسألة القيام للقادم فهي تبيض الوجه، وقد عبّر عنها أحد الأساتذة النحويين ببيتين من الشعر قالهما في تلميذ لم يقف له:

إذا شاركت قوماً في وقوفٍ لقادم مجلسٍ نلت الوقارا

وإلا كنتً مستثني بإلا كقالم القوم إلا ذا الحمارا

واخيراً كانوا فيما مضى يقولون لنا: ضحك بلا عجب من قلة الأدب، وصاروا يقولون اليوم: اضحك يضحك لك العالم. أما أنا فَعَمِلْتُ بآراء الأقدمين صغيراً


*79*

وأراني أعمل اليوم بآراء المحدثين، وإذا لم يضحك لي العالم أضحك وحدي، ولا يهنأ لي عيش حتى أضحك جليسي وأستولي على البادرة. فإذا كانت الإبتسامة تفتح في وجهنا الباب، فالضحكة تحلّنا في صدر البيت على الرحب والسعة.

سبيل ومناهج، بيروت 26-33

(من مقال)

الإنحلال الخلقي ابن شرعي للانحلال العقلي خالد محمد خالد


*79*

أتعرفون العبارة الجليلة التي استهلت بها الأمم المتحدة للتربية والثقافة د ستورها؟

ربما يكون من المفيد أن نبدأ بها هذا الجزء عن الحديث.

- تصرح حكومات الدول المشتركة في الدستور بالنيابة عن شعوبها، أنه ما دامت الحرب تبدأ في عقول الرجال؛ فإنه ينبغي أن توطد دعائم الدفاع عن السلم في عقول الرجال أيضاً".

انظر ما دامت الحرب تبدأ في عقول الرجال؛ فدعائم السلام بجب أن توطَّد في نفس العقول أيضاً. وهذا حق؛ ومثله في الصدق أن نقول:

- ما دامت الرذيلة. تبدأ في عقول الرجال؛ فإن دعائم الفضيلة يجب أن توطد في عقول الرجال أيضاً."

وهنا يلقانا سؤال

- هل تبدأ الرذيلة في عقول الناس..؟


*80*

وقبل الإجابة عل سؤالنا هذا، يطيب لي أن أتخيل مفارقة طريفة في ملكوت الله الرحيب.

أتخيل علماء الأرض وعيونهم على النظار الشاخص الى الرحاب القصَّية في الفضاء متطلعةً الى المريخ في تمعن وفحص. ثم أسمعهم يقولون:

"ليس في قدرة الأحياء أن يعيشوا على سطح المريخ لأن رطوبته كفيلة يقتلهم. ولذا نرجح نحن علماء الأرض أنه كوكب غير مسكون!

وأتخيل علماء المريخ، في نفس المشهد تشخص أبصارهم الى كوكبنا، ويقولون: ليس في قدرة الأحياء أن يعيشوا على سطح لأرض لأن حرّها كفيل بأن يقتلهم، ولذا رجح نحن علماء المريخ - أن الأرض كوكب غير مسكون.!

إن مثل هذه التخمينات يتبادلها الأخيار والأشرار. يتبادلها سكان كوكب، الفضيلة؛ ومحكان كوكب الرذيلة...

فالأولون يستبعدون أن يكون أصحاب الرذيلة أحياء، لأن حرها كفيل بقتل أرواحهم!

والآخرون يستبعدون أن يكون أصحاب الفضيلة أحياء لأن رطوبتها كفيلة بأن تهرأ وجودهم!

وكلا الفريقين مقبلٌ على هوايته. شغوف بها، فمن الذي يفعل بالحق، ويقضي باليقين؟ ومن الذي يدلنا على الفضيلة الصحيحة، والرذيلة الصحيحة؟

الحق إننا نحن سكان هذا الشرق العربي أحوج ما نكون الى إدراك صحيح وجديد للأخلاق. في حاجة الى تحديد واضح لمفاهيم الفضيلة والرذيلة. والخير والشر. فليس هنا شيء التبس فيه الحق بالباطل، وكثر حوله اللغط وقل الفهم الصحيح كما حدث للأخلاق واللوك...

عندما أفرغ "المحضر عثمان خموده رصاصاته الست في حياة ضحيته فأرداها. استدعى من فوره إحدى قريباته، ليستودعها بعض متاعه وآخر كلماته ووصاياه.


*81*

أتدرون ماذا قال لها؟ كلكم يا من طالعتم قصته في الصحف وقعت أعينكم على وصيته ولكني أحسب أن قلةً نادرةً منكم هي التي وقفت أمام هذه الوصِية في تأمل واعتبار.

لقد قال، وهو يعلم أنه ذاهب الى القصاص، تاركا الحياة والأحياء وراء ظهره المدبر. قال وهو يعيش في الساعة التي تقرع له أبواب النهاية. قال العبارة التي يقولها المدلفون الى الكفن، فيلَخِّصون بها حياتهم وثقافتهم وكيانهم جميعاً فماذا كانت العبارة التي لخصت حياة "عثمان" وثقافته وكيانه؟

إنها أصدقُ صمت - في رأيي - للمجتمع الذي نعيش فيه. المجتمع الأبله، المنافق، السطحي قال القاتل وقريبته تسأله: هل تريد أن أقول لأهلك شيئاً؟

- "نعم، سلمي على خالتي وأختي، وقولي لهم أوعوا تبصوا من الشباك"!! إحذري يا أخته أن تنظري من النافذة!

هذه هي الوصية الخلقية الفاضلة التي يزجيها وهو ذاهب الى ربه شاب أنْهَكَ الرذيلة وأضناها. فهو باعترافه، قارف خيانة بشعة لرجل في مكانة خاله. قارف خيانته مع الأم أمام بنتها، ثم مع البنت الطفلة أمام أمها. ثم سفك الدم، وأزهق الروح، وقتل النفس التي حرم الله قتلها ثم أطلق خوار الفضيحة في غير حياء أو أناة. ثم ماذا - لا تنظري من النافذة يا أخته فتلك هي الرذيلة، تلك هي الموبقة، تلك هي الخطيئة التي لا تطهرها مياه البحار!

مجتمع عفن يفكر تفكيراً عفناً، ويعيش داخل تقاليد عفنة. ولماذا هو كذلك؟

الطغيان. فالطغاة الذين تواكبوا على حياته من قديم الزمان، وتعاقبوا على أرضه لم يتيحوا لعقله فرصة التبصُّر والتألُّق. بل شحنوه شحناً معتماً بخرافاتهم وخداعهم.


*82*

أن "عثمان حموده" هذا حفيد للرجل الطيب الذي عاصر "السلطان سليمان" وكلنا مثله حفدة أولئك الآباء الذين أصدر فيهم "سليمان المذكور" مرسوماً من مادتين.

الأولى، تجعل جميع الأرض المزروعة ملكاً له، وأصحابُها أُجَرَاءَ عاديين وملتزمين لا مالكين.

والثانية، تحرم على المرأة أن تخرج في الطريق العام غير متنقبه. فمن تفعل وتخرج سافرة. تُزَفُّ في شوارع المدينة ممتطية حماراً بالمقلوب!!

أي أنه يسرق شعباً، ويغتال أمةً.. هذه فضيلة (!)

أما الرذيلة، فهي أن تسير المرأة وليس على وجهها حجاب. (!)

تماما كما فعل "المحضر القاتل عثمان" فهو يمرح ويرعى في أعراض الناس؛ ويقتل في استخفاف، ثم يتجشأ وصية كمرسوم السلطان سليمان، فَيَنْهَى أخته عن النظر من "الشباك"!

ألم أقل لكم إننا أبناء الذين لفتهم تقاليد الطغاة في مثل الضباب ؟! العقل وحده هو الذي يستطيع أن يعطي مفاهيم صادقةً واعيةً لما هو فاضل، ولما هو مرذول.

وحيث يوجد التفكير الحر المتألق. تستطيع أن تبصر موكب الفضيلة يحتشد ويتجمع ليبدأ في هذا المكان رحلةَ الإكمالِ الصاعد والسلوك القويم. وأما الانحطاط العقلي فهو الأب الشرعي للانحطاط الْخُلُقِيِّ هو أبوه وأمه وحاضنته وحامي حماه

فَلْنَرَ الآنَ كيفَ هو كذلك، ثم لِنَرَ أثَرَ الطغيانِ في انحطاطِ العقلِ وعرقلة نُمُوِّه وَمَسْعَاه.

في الكتابِ المقدَّسِ نلتقي بيسوعَ يقول:

- "وأنا أطلب من الأب؛ فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم الى الأبد. روح الحق"


*83*

ما هو روح الحق الذي سيمكث معنا الى الأبد؟.

إنه العقل، وليس هناك شيء سواه يستطيع أن يملأ رحاب هذه الآية المقدسة. وفي القرآن الكريم. تبهرنا الأيات الهاتفةُ بالاستقامة والسعي والتفوق، إذ نراها مختومة غالباً بقول الله سبحانه "لعلكم تعقلون"، "لعلهم يفقهون"، لعلهم يعلمون".

ويصور الرسول قيمة العقل في حديث طريف فيقول:

- "عندما خلق الله العقل. قال له: أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر؛ فأدبر؛ ثم دعاه وقال له اذهب؛ فأنت لعبادي سلطان وعليهم شهيد. إياك أسأل، وإياك أعطي، وبك أحاسب"..

ثم بين في وضوح أكبر، الارتباط الوثيق بين العقل والسلوك؛ فيرفع المسئولية عن الناس في الحالات التي يتوقف العقل فيها عن أداء وظيفته سواء كان ذلك طارئاً كألأغماء، أم مقيماً كالجنون. ولقد كان "توما الأكويني" يقول:

- "إنه لما كان كل من العقل والإِيمانِ هبةً من هبات الله. فهما بالضرورة متوافقان. "ومثل هذا نقول: "إنه كان كل من العقل والفضيلة ضرورة لسعادة الإنسان؛ فهما بالضرورة متوافقان."

الآن إذن نعلم الأجابة عن السؤال الذي طرحناه آنفا إذ قلنا: أصحيح أن الرذيلة تبدأ في عقول الرجال..؟

أجل إنه صحيح. وعندها يذهب عقلك في إجازة (!) يرفع الله عنك جميع المسؤوليات.. وما دام العقل مناط المسئولية الأخلاقية؛ فلنبدأ منه المنهج الفاصل لمسألة السلوك والأخلاق.

فمنذ بدأ الإنسان والأوامر كذلك، والعقل هو الذي كان يعين لنا فضائلنا ورذائلنا.. فيوم لم يكن مع البشرية وحي ودين، لم تكن بغير أخلاق. بل كان لها فضائلها وأخلاقها التي تهب المجتمع ثباته وأَمْنَهُ.


*84*

فمثلاً كان القتل جريمة ورذيلة؟ فمن الذي جعله كذلك..

العقل. الذي أنبأهم أن التسامح مع هذا العمل سيفني القبيلة، ويسبب من المشاق والعطب ما يوقف النمو ويعطل الحياة. وهنالك صار القتل جريمة مرذولة. ثم التشريعات التي تؤكد ذلك وتنظم له العقوبة والقصاص. ففي شريعة حمورابي التي لم يكن فيها حظ من وحي ولا نصيب من دين. نقرأ هذا النص الرائع الذي سبق اليهودية والمسيحية والإسلام. "العين بالعين، والنفس بالنفس، والسن بالسن. وفي الأطراف دية"..!!

والعقل هو الذي اكتشف أخيراً، ولا يزال يكتشف المنابع الحقة للرذيلة. ويضع الوسائل المجدية الفعالة في العلاج الخلقي. فصلته بالسلوك، لتعليته وترقيته لا يُنْكَرَان أبداً.. وكيفما يكن عقلك، يكن سلوكك أيضاً.

وقد يسألنا سائل: أنت ذكرت في - هذا.. أو الطوفان - أن الوصف الحق لخطايانا أنها أمراض.. فهي تبدأ أخطاء في سلوكنا.؛ فإذا رَسُخَتْ صفةُ الإدمان تحولت الى مرض خُلُقي.. وما دام ذلك كذلك. أي دامت رذائلنا وخطايانا مجرد أمراض؛ فما صلة العقل إذن بقضيية السلوك والأخلاق؟!

ونجيبُ بأَن المرضُ الخلقيَّ يجتاز أدواراً عدة قبل أن يصير مرضا. ويستطيع العقل الصارم البصير أن يحتجزه عند أولى هذه المراحل أو خلالها.. فهو يبدأ رغبة. ثم يصير سلوكاً.، ثم يكون عادة. ، ثم يغلب عليه الإدمان الضاغط. فيصير خلقيا مقيماً..

وهكذا يواجه العقل فرصاً كثيرةً يستطيع بها أن ينقذ الضحية من سوء المصير. ثم إننا نتحدث هنا بصفة أكثر عن عقل الجماعة.. فالمجتمع ما لم يشع فيه نور العقل لا يمكن أن يكون فاضلاً بل ولا يحق له أن يطمع في إحراز الفضيلة.

وعقل المجتمع يعطيك فكرة كاملة عن شخصيته، وعن سلوكه..

فعندما كان العقل - غابياً - أعني عقل غابة، كان هناك سلوك الغابة..

وعندما كان العقل - إقطاعياً - كان ثمت سلوك الإقطاع بفضائله ورذائله..


*85*

واليوم والعقل صناعي، نجد سلوك الآلة وأخلاق الآلة..

وعندما يكون العقل - مسيحياً - نجد أخلاقاً مسيحية وحضارة مسيحية..

وعندما يكون - إسلامياً - نجد أخلاقاً إسلامية..

ولسنا نعني بالعقل هنا أن تكون فيلسوفاً، أو أديباً كبيراً. إنما العقل المتزن، والذهن الثابت، نعني سكينة النفس وسكينة التفكير. .نعني العقل الذي عناه ذلك الفيلسوف الصادق الذي دعا ربه قائلاً: - "يا رب اجعل نِعَمَ الحياة الدنيا جميعَها تحت أقدام الحمقى، وأعطني عقلاً غير مضطرب".. وسكينة العقل وسكينة التفكير لا توجدان قط حيث يفرخ طاغية ويبيض. سواء كان هذا الطاغية في الدولة، أو في المدرسة، أو في البيت.

وسنرى في الفصل الثاني، كيف فقدنا المقدرة على حيازة فضائل النفس، لأننا فقدنا سكينة العقل والنفس.. وكيف فقدنا هذه الأخيرة؟.. بسبب القهر والعَسفِ اللذين نلقاهما منذ نعومة أظافرنا في المنزل وفي المدرسة وفي المجتمع. واللذين يشيعان في عقولنا الاضطراب وفي قلوبنا السكينةَ، وفي أخلاقنا التسويه.

إن العلم يقرر اليوم أنه حيث ينحط الذكاء، ويتقامأُ العقل، يوجد حِسٌّ أخلاقي ناقص، كما هو الحال بين الجماعات المتوحشة.. وهناك فارق كبير بين سلوك أوروبا المتبربرة.. وأوروبا المتحضرة، بل بين المجتمع الإنساني القديم، والآخر الحديث. وهكذا كلما تقدم العقل وثبتت أقدامه. تقدم معه السلوك القويم وَرَسُخَتْ دعائمه.

فكيف نتيح للجماعة نموَّ العقل واتزانه وسيادته، لتتمكن بالتالي من تطوير سلوكها!؟


*86*

إننا بهذا السؤال نبلغ المرحلة التي نجيب فيها عن سؤال ألقيناه آنفا. هو: ما مدى تأثير الطغيان على الحركة العقلية في الجماعة. وهل يتأنى لعقل الأمة وعقول الأفراد أن تنمو وتترعرع في ضباب حكم الطاغية - أي طاغية..؟

ونجيب بأن ألد أعداء العقل هو الْحَجْرُ، والوصاية، لا سيما حين تكون الوصاية لسفيهٍ، والطاغيةُ دائماً سفيه..!!

فالطاغية يَقُومُ سلطانُهُ واستكبارُهُ على بغضاء معصوبة العينين لكل من يقول له في جد وحزم، لم..؟ ولا..

وإذا كان العقل يبدأ رحلةَ نمائه بتحوله الى أداة استفهام دائبة، فلا يفتأ يسأل، لم، وكيف؟ ولماذا؟ فأنه يرتطم ارتطاما مباشراً، وصعباً بمشيئة الطاغية. سواء كان هذا الطاغية، حاكما، أو نَصَّاً، أو تقليداً من التقاليد..

من كتاب حتى لا تحرثوا في البحر

خالد محمد خالد ص 42-51


*87*

قصة

رمية من غير رام


*87*

إن الخواجه إبراهيم قطّب وجهه إذ رأى بجانب صحنه على المائدة رزمةَ قوائم وضعتها هناك زوجته مريم التي كانت من الفطنة وحسن التدبير على جانب عظيم. ولما تناول تلك القوائم ووقَعَ نظرُه على مجموعها تنهّد ودفع الصحن بغضب، ثم التفت الى زوجته وقال بصوت مرتجف: لا بد من وجود غلط في هذه القوائم يا مريم، لأنه كيف يمكن أن نكون قد صرفنا كلَّ هذه الأشياءِ في شهر واحدٍ.

فأجابت مريم برفق: إن القوائم صحيحة يا إبراهيم، وأنا قد راجعتها بنفسي. قال: إذاً قد حصل إسراف في المصروفِ أو سُرِق شيء من الُمؤنه، إن خادمتنا حنه لها أقارب في هذه البلدة، وليس عندي شك أنها تعولهم بما تسرقه من البيت.

فأخذتْ عند ذلك مريمَ الحدَّةُ، ولاح على خديها نقطتان مستديرتان قرمزيتان، وضربت الأرض برجلها بحميَّة، وقالت: إني لست من ذوات الإسراف والتبذير يا إبراهيم، وليس عندي أدنى شك بأن حنة أمينةٌ للغاية، وحريصة على البيت، فلا يجوز أن تتهمها بكونها سارقة.

قال: هو واضح أنه يوجد نافذة في مكان ما يا مريم، وأنت كزوجةٍ يجب عليكِ أن تَرَي أين هي وتسدّيها، لأن مصاريفنا باهظة جداً، وإذا دام الحال على هذا المنوال مدة يَخْربُ البيت، وأصير أنا في زمرة المفلسين.


*88*

فأثّر كلام إبراهيمَ هذا في زوجته تأثيراً قوياً، إلا أنها كانت تجتهد في أن تَضبط نفسها، وتحبسَ حاسياتِ الغضب التي ملأت فؤادها. ثم عندما سكَنَ روعها قالت لزوجها: يجب أن تشتريَ لنا فحماً لأن ما بقي عندنا من ذلك لا يكفي يوماً واحداً. قال زوجها بتهكّم: وهل تحتاجين يا عروسُ الى شيء آخر؟

فقالت: نعم فإني أنا والأولاد قد صرنا عراة، وما لنا من الكُسْوة هو غير كافٍ ولا لائق بنا، بل نحن بحاجة كلُّنا الى ملبوسات جديدة.

قال: ثم ماذا يا سيدتي، فإني إِذْ كنت ذا ثروة لا تحصى، لي أمل أنك إذا كنت تحتاجين الى شيء آخر لا تتأخرين عن ذكره؟ فقالت الزوجة بحاسَّيةٍ كان يتجاذبها الهدوء والحدة: كلا ليس قصدي أن أَغْفَلَ عن شيء من الاحتياجات، وأنت ترى أَنَّ البيت يحتاج الى أثاث جديد، لأن أثاثنا قد صار عتيقاً رثّاً، إني أخجل به إذا زارنا زائر مُعْتَبَرٌ. وكذلك الأبوابُ والطاقات والدرج قد تعطلت وذَهَبَ لونها، فلا بد من إصلاحها جميعاً ودَهنها ثانية. قال: أحسنتِ يا مريم، وأظن أن ذلك لا يمكن أن يكون كلُّ ما نحتاج إليه، فهل أنت واثقة أنه لا يوجد شيء آخر؟

فقالت: إنه الآن لا يخطر ببالي شيء آخر إلا إِذا كنت تشاء أن تعطيَني شيئاً من الدراهم نظيرَ مصروفِ جيبٍ لأني ألتذ بذلك، لأنه يكون أمراً جديداً عندي. ولا أني سأصرفه في أبواب غير لازمة.

وإن إبراهيم أخذه العجب مما رآه من زوجته التي مع أنها كان من طبعها الهدوء والصبر كانت تتكلم بالحدة والعزم. فقال: إذ قد فرغتِ يا أم خليل من الكلام، فأْذَني لي أن أقول كلمة واحدة. وإذ وضع رزمة تحاويل على المائدة قال: هذا كل ما يمكنني أن أُعطَيكِ إياه هذا الشهرَ فتصرفي فيه حسب حكمتِكِ. ثم مشى نحو الباب وهو يقول: إني مسافر هذا النهار مع القَفل، وستكون غيبتي مدةَ أسبوع. ثم أغلق الباب بعنف وسار في طريقه.


*89*

وإنَّ أم خليل اغتمّت جداً مما رأته من زوجها أن عقله كان قد امتلأ من حُبِّ الربح والطمع والرغبة المفرطة في جمع المال. ومع أنه كان في السابق من الشفقة واللطف على جانب عظيم كانت تلك الحاسيات تنمو فيه يوماً فيوماً، حتى صار يضيّق على عائلته ويبخل عليهم في النفقة اللازمة.

وهي كانت تعلم أن مداخيله من أشغاله كانت كثيرةً، وأنه كان كلَّ سنة من حين تزوجت به يوفّر كثيراً منها. ومع أنها كانت تصرف كل همّها في التوفير كانت كّما قدَّمتْ له حساب المصاريف في آخر الشهر يُظْهِرُ نفس الحاسيات المكَدرة. وكانت تلك الحاسيات تقوى فيه شهراً فشهراً، حتى صار يبخل على زوجته وأولاده وعلى نفسه أيضاً بالملبوسات الموافقة لحالته ومركزه. وكانت ملابسه دنية وَرَثّةٌ جداً، إنها تستحي به وتناجي نفسها مراراً قائلة: هل يمكن أن يكون هو نفس ذلك الشخص الذي مالت بحساسيتها نحوه وملك قلبها حتى ارتضت أن تتزوج به؟

ثم إنها بعد انصراف زوجها وتشاغُل عقلها بتلك الأمور عمدت الى رزمة التحاويل التي ألقاها زوجها على المائدة، وتناولتها بأنَّةٍ شديدة، مؤمّلة أن تجدها كافية فقط لإيفاء ما كان عليها من الديون، إلا أَنها لما فتحت تلك الرزمة ورأت قيمة تلك التحاويل كانت خمسة وعشرين ألف قرش أخذها العجب، واستفزّها الطرب وقالت: الآن يجب أن يكون للعائلةِ جميع الاحتياجات وإن لم يحصلوا على ذلك إلا هذه المرة، فوفت أوّلا جميع ما كان عليها من الديون، وبذلك رفعت عن قلبها ثقلا عظيماً. ثم اشترت ما يلزم البيت من الحطب والفحم وَالْمُؤْنةِ، ثم جدّدت أثاث البيت، وأصلحت ما كان قد تعطل منه ودهنته جَيّداً. ثم ذهبت بالأولاد الى السوق واشترت لكل منهم بدلة كاملة من الطربوش الى الحذاء، واشترت لنفسها ثلاث غنابيز ونقاباً، وإزاراً، ولستيكا لميعاً، وكفوفاً وعدة محارم كتان. وأخذت للأولاد الصغار لعبات وكُلُلاً، لأنها كانت تقول إن الأولاد يجب أن يكونوا محظوظين في


*90*

صغرهم لكي يكون لهم ما يتذكرونه باللذة متى كبُروا، وهي لم تنس زوجها أبا خليل بل عملت له بدلة جديدة فصّلتها على بدلة رثّة كانت له في البيت، وكانت في اليوم الذي كانت تنتظر رجوعه فيه من السفر مشتغلة جداً في ترتيب البيت وفرشه بالأثاث الجديد. وبعد أن ألبست أولَادَها ملابِسَهم الجديدةَ الظريفةَ وأمرتهم أن يقفوا مصطفين في الرواق مقابل الطريق ينتظرون قدوم والدهم نزلتْ الى المطبخ، لكي تساعد حنّة في إعداد شيء من الأطعمة زيادة على العادة للعشاء.

ولم يمض إلا قليل حتى أقبل أبو خليل راكباً على حمار مُسن بِجَلٍّ عتيق. ولما قرب من البيت رأى أن منظرَه مختلفٌ جداً عما كان لما فارقه، فكان ينظر إليه متعجباً. ولولا الاسم الذي كان محفوراً عليه من أيام المرحوم والدِه لما دخل إليه. ولكنه لما دخل البيت ازداد عجباً، وكان يقول في نفسه: عجباً هل أنا في بيتي أو في بيت رجل آخر. وإذ كان يلتفت ذات اليمين وذات الشمال كان يقول: هل أنا في يقظة أو في نوم. فنظرت إليه زوجته وهو في هذه الحال، وقالت مبتسمة: إن هذا هو الأثاث الجديد الذي اشتريته وأنت غائب يا أبا خليل. فعسى أن يكون قد أعجبك.

فقال لها: هل أوقعتني تحت الدين يا أُمَّ خليل فقالت: يا أبا خليل إنَّ كل ذلك قد اشتريته بما أعطيتني إياه عند سفرك.

وإن أبا خليل عندما سمع ذلك أدخل يده في جيبه بسرعة مضطرباً، ثم صرخ قائلاً: أواه! إنني قد أعطيتك من جيبي هذا بالغلط. وذلك لأنه كان له جيبان وكان قصده أن يعطيها مبلغاً زهيداً كان قد وضعه في الجيب الآخر فغلط وأعطاها المبلغ المذكور.

وأمّا أم خليل فلم يظهر عليها شيءٌ من العجب أو الانزعاج عندما أخبرها بذلك، بل كانت تلوح على وجهها لوائح السرور والسكينة. فقال لها: لا تعني يا أم خليل أنك قد صرفت المبلغ كله.


*91*

فقالت: كيف لا وأنت قد قلتَ أن أتصرَّ ف فيه حسب حكمتي، وأنا أظن أني قد صرفْتُهُ بالحكمةِ حسب امرك. فَأَنَّ أبو خليل أنَّةً شَديدةً، وقال وي، وي، وي، قد خَرِبتُ. فقالت له أم خليل ببشاشة: كلا كلا يا زوجي العزيز إنا لا نخرب، ولو أعطيتني ضعف ذلك المبلغ. وها إني قد وفرت منه مصروف ثلاثة أشهر على الأقل. ولكن الأولى بك أن تعطَني مصروف كذلك في المستقبل فتوفّرَ علىَّ وعلى نفسك كثيرًا من التعب والكدر.

ثم إن الأولاد كانوا يحسبون أن ما اشترته لهم والدتهم هو هدية من والدهم كانوا مجتمعين الآن حوله بابتهاج. وإذ كان أبو خليل يحب أولاده، وكان شفوقًا ورقيق القلب، كان يعصب عليه أن بحول وجهه من تبسْماتهم غير مبال بما كانوا يظهرونه له من الانعطاف وعلامات الشكر. ثم أتته زوجته بالبدلة الجديدة التي عملتها له، وطلبت منه أن يأذن لها أن تُلبسه إياها بيدها. فلمّا ألبسته إياها، وأكدت له أنه صار شابًا وظريفًا في الغاية تنازل الى تأدية الشكر لها على ذلك وسكن روعه.

ثم بعد قليل أُتِيَ بالعشاء، فاجتمعت العائلة حول المائدة، وقد كسا وجوهَهُمُ الفرحُ والحبور، فكان أبو خليل ينظر مرة الى الأولاد الفرحين بملابسهم الجديدة وملاقاة والدهم، وأخرى الى زوجته المبتسمة التي كُسْوَتُها الظريفةُ تجعلها كأنها شابة. فحكم بأن منظر تلك الحالة السعيدة كاف لأن يعَوّض عن زيادة في المصروف تكسب عيلته هذا المقدار من الحظ والراحة.

هذا، وإننا لا نقول إن أبا خليل قد شُفي بالتمام من علته، لأن البخل متى استولى على الإنسان، ووصل به الى هذه الدرجة لا يمكن استِئْصَالُه منه بسهولة وسرعة كهذه، غير أنه عندما كانت تزوره رذيلة البخل القديمة فيبديء بالتذمر والتضييق على عيلته كانت زوجته تقول له ضاحكة: إنك يا أبا خليل قد أعطيتني من جيبك الآخر بالغلط.


*92*

فكان لهذه الكلمات تأثير عجيب على قلبه، وكانت نظير طلسم يفتح به كيسه. وكانت تقول له بلطف: دعنا يا عزيزي نحصلْ على أسباب راحتنا، ولا نحرمُ أولادَنَا اللذات المحللة التي هي طبيعة للأغر، لكي ندّخر لهم ثروة ربما تكون لعنة عليهم في المستقبل لا بركة.

جريدة الجنان، ج 1، 1870، ص 19

المحامي الأهلي محمد المويلحي


*95*

قال عيسى بنُ هشام: فسئمتُ من هذا الكلام الفارغ والحديثِ المقتَضَب وانتهزتُ دخول الحاجب، فخرجت من مَكْمَني واستدرت الى الباشا صاحبي فوجدت بجانبه أحد سماسرة الحامين قد التصق به وهو يحاور، فوقفت عن بُعدٍ أسمع ما يدور بيتهما.

السمسار: اعلمْ أن المحاميَ يُدير القضاء في يده بما يريد، فيعاقب من يشاء ويبرَّئ من يشاء، وما أعضاء النيابة وقُضاة الجلسات إلا طوعُ إشارته ورهنُ كلمته وكالخاتم في إصبعه فلا حكمَ إلا بقوله ولا قضاء إلا بأمره، وأنت، على ما أراك، رجل غريب حقيق بالرحمة والشفقة ولا يليق بالمُروءةِ أن أدعك طُعمة في أيدي بعض المحامين من أهل الطبقة السفلى الذين اعتادوا سلب أموال الناس بطرق الغش والاحتيال وكاذب الوعود والآمال، ولي صاحبٌ معروف بين طائفة المحامين بالصدق والأمانة وله مقام سامٍ بين القضاة والحكام، فهو صديق الناظر وجليس المستشار ونديم القاضي وخدين النائب ووكيل "البرِنس" ولو شاهدتَهُ يا سيدي مرة واحدة

93*

في اجتماعه معهم في السهر والسمر وَرَفْعِ الكلفة بينه وبينهم في ساعات الأنس وأوقات السرور يشاربهم ويؤاكلهم ويمازحهم ويفاكههم ويناظرهم ويقامرهم لأيقنت في الحال أن كل طلب له يُجاب وليس لأمره من رادّ، فالمجرمُ بريء والبريءُ جانٍ على حسب المراد. فقل لي حينئذ عن مقدار ما تستطيع دفعه من "مُقدَّم الأتعاب" في تبرئتك من تهمتك والانتقام لك من عدوّك.

الباشا: أنا لا أعرف المُقَدَم ولا المُؤَخر ولم يخبرني صاحبي عن هذا الحاكم القادر

الذي تصفه لي فإذا استفهمتُ عنه ....

السمسار مقاطعُا: لا لزوم للاستفهام من أحد فها هو ذا حضرة المحامي قد أقبل لمقابلة "النائب العمومي" فأنا استوقفه لحظة للنظر في شأنك. (ويسرع السمسار الى مكالمة المحامي بعد أن يوسع له في الطريق ويسلم عليه بسلام الأمراء حتى يصل به جانب الباشا).

(المحامي) بصوت عالٍ أنا لا أستطيع قبول التوكيل عن أحد في هذه الأيام لتراكم الأعمال وتزاحم القضايا، فلم يبق عندي وقت للطعام وللشراب فكيف تكلفني أن أقبل التوكيل عن صاحبك في هذه القضية الصغيرة وقد رَفَضْتُ في صباحيَ هذا خمس قضايا لها شأن عظيم؟.

السمسار: سألتك بحق الإنسانيّة وحرمة المروءة وبما جُبِلتَ عليه من الْحُنُوِّ والشفقة على الضعفاء أن تأذن لأحد عمال مكتبك بمباشرة هذه القضية إن لم تتنازل لمباشرتها بنفسك فإن المقصود هو تأثير اسمك وَصِيْتُكَ في الحكمة.

المحامي: لا أرى في ذلك بأسًا للعناية بك والشفقة على صاحبك. (وينصرف المحامي بعد مصافحته للباشا).

السمسار للباشا: هلّم ادفع عشرين جنيهًا.

الباشا: ليس عندي الآن شيء من دراهم.

السمسار: أعطني تحويلاً.


*94*

الباشا: أنا لا أفهم لك كلامًا فاذهب عني فقد ضقت بك ذرعًا.

السمسار: كيف أذهب عنك وقد تمّ لك الاتّفاق مع حضرة المحامي أمامي.

الباشا: أنا لم أتّفق مع أحد فاتركي وانصرف.

السمسار: كيف تنكر اتّفاقك مع المحامي بعد أن وضعت يدك في يده.

الباشا: عفوك اللهم ولطفكَ! ومَن يصبر على هذه الحال؟ أشرت بيدي في حديثي مع صاحبي فوقعت في حادثة المكاري. وصافحت المحامي فصرت مدينًا بعشرين جنيهًا. ففي أيّ العوالم أنا وبين أيّ المخلوقات. قال

عيسى ين هشام: ولما رأيت لوائح الغضب بدت على وجه الباشا خشيت أن يقع مع السمسار في حادثة أخرى، فأدركته ووبّخت الرجل على احتياله وتوعّدته بالشرور ويرفْعِ الأمر الى النائب العمومي إن لم ينتهِ عنا. فخلّفنا وانصرف. ونادى الحاجبُ، أربابَ القضايا فدخلنا فوجدْنا النائب لا يزال لاهيًا في حديثه مع زائريه وأشار لنا بالتقدم الى الكاتب، فتقدمت مع صاحبي وشرعت في بسط القضية وبيان ما قاسيناه من سوء معاملة البوليس وقُبْحِ افْترائه فالتفت النائب الى الكاتب وقال له: لا تقبل كلامًا في البوليس ولا تسمع فيه طعنًا بل خذ بأقواله واستمسكْ بتحقيقه. ثم نظر في الساعة فوجد الميعادَ قد حلّ فأخذ عصاه ولبِسَ طربوشه وخرج يهرول مع صاحبيه فقلت لصاحبي: الآن وجب أن أذهب للبحث عن أحد المحامين الصادقين من أصحابي للمدافعة عنك.

الباشا: قل لي بالله ما هو المحامي عندكم.

عيسى بن هشام: هو وكيل الحكم والمخاصمة يتكلم مكانك مما تعجز عنه ويدافع عنك بما لم تعلمه ويشهد لك بما لم يخطر ببالك، وصناعته هذه صناعةٌ شريفة يمارسها كثير من الفُضَلاءِ اليومَ بيننا ولو قد دخل في الصناعة جماعة ليسوا من اهليها فاتخذوا الخداع والآحتيال بضاعة للتكسب مثل ها المحامي وسمساره. وهؤلاء يعنيهم علاء الدين الكنديّ بقوله:


*95*

ما وكلاءُ الحكم إن خاصموا

إلا شياطينُ أولُو باسِ

قومٌ غدا شرُّهم فاضلاً

عنهُمْ فباعوهُ على الناسِ

محمد المويلحي، حديث عيسى بن هشام القاهرة، ص 33-36

الشيخ قفة إبراهيم عبد القادر المازني


*95*

لم يكن شيخًا ولا كان فيه من القفف مشابه. ولكنّ اسْمَهُ كان - فيما نعرف ويعرف أهل الحي - الشيخ قفة. ولم نكن ندعوه بذلك على سبيل التهكُّم أو الزارية أو المزاح. ولا كنا نشعر حين نناديه أو نخاطبه أو نذكره فيما بيننا أنَّ في اسمه غرابةً أو شذوذًا عن المألوف. ولا أحسب أحدًا من أصدقائه عُنِيَ بأن يعرف كيف صار هذا الاسم يطلق عليه، أو ماذا كان اسمه قبل أن يشتهر به، حتى البوليسُ كان يسلِّم بالواقع من الأمر، ولا يخطر له أن يسأل عن الاسم الذي أطلقه عليه أبوه. وكان عطّارًا وبقّالًا في آنٍ معًا. وفي دكانه - على ضيقه - كلُّ ما يحتاج إليه أهل الحي ويطلبونه ولا يجدونه عند سواه. وكان هذا الدكان أشبهَ بنادٍ يلتقي فيه خليط عجيب من خلق الله.

وكان الرجل يعرف القراءة والكتابة ولكنه لا بحسنهما. وكان يحفظ القرآن ويجيد الكلام بالتركية وبواحدة أو اثنتين من لغات الهند. وأحسُبه تعلم التركية من الأَغَوَاتِ الذين كانوا من سكان ذلك الحي. أما الهنديةُ فقد تعلمها من الجنود الهنود الذين كان معسكرُهم في أيام الحرب الكبرى - على مقربة من دكانه. وكانوا - أعنِي الهنودَ - يختلفون إليه ويستبضعون منه ما يحتاجون. ولقد


*96*

أثمرت محبتهم له اتهامه في وقت من الأوقات بأنه يبث فيهم روح الفتنة والتمرد. فألقت السلطة العسكرية عليه القبضَ وحبسته أيامًا بلا سؤال أو تحقيق. ثم دعاه أحد الضباط وشرع يسأله بواسطة مترجم، فتباله الشيخ قفة وتظاهر بالسذاجة.

سأله الضابط: هل تعرف الشيخ شاويش؟

فقال الشيخ قفة: أين دكانه؟

فكرر الضابط سؤاله: هل تعرف الشيخ شاويش؟ قل لا أو نعم؟

قال الشيخ قفة: إن لي ثلاثين سنةً وأنا أتجر العِطارة وأعرف تجارها جميعًا، ولكني لم أسمع بهذا التاجر. فأين دكانه؟ خيروني لعلي أذكره إن كنت ناسيًا. فتململ الضابط قليلاً، ورأى أن ينتقل الى سؤال آخر فقال:

وهل تعرف فريد بك؟

فصاح الشيخ قفة وهو يدق كفًا بكف: أما إنَّ هذا غريب! متى ظهر هؤلاء التجار؟ لقد قلت لكم إني عطار منذ ثلاثين سنة وليس مِنْ تاجر كبير أو صغير إلا وأنا أعرفه وهو يعرفني. فأين دكاكين هؤلاء؟ قولوا أين؟.. وإذا كانوا يبيعون بأرخص مما أبيع فأنا مستعد أن أقضي منهم حاجاتي. وهكذا حتى يئس المحقق، وأيقن أن الرجل أبلهٌ فأطلق سراحه.

ولا أذكر أني رأيت الشيخ قفة يلبس من الثياب غير جلابية. وكانت جلابيبُهُ جميعًا متقاربة الألوان حتى لَيُعْذَرُ من توهم إنها واحدة لا تتغير، وإن لم تبد قط في العين إلا نظيفة. ولم يكن يحتذي إلا القبقاب. أما رأسه فعارٍ أبدًا صيفًا وشتاءً. وكان له حمار صغير معروف يستخدمه في طحن البن. وكان الشيخ قفة في أوقات فراغه يتسلى بتعليم الحمار النهيق! أيْ والله. كان صاحبنا الحمار - يطيعه ويروح يمد عنقه، ويثنى أذنيه الى الوراء، ويرفع عقيرته بالنهيق كلما دعاه الشيخ قفة الى ذلك وأمره به. ولكن صاحبنا موسيقيٌّ حساسُ الأذن. ولم يكن على ما يظهر يرضيه نهيق الحمار فكان يضربه ويصيح به:


*97*

ويطلقها نهقة ثم يقول: هكذا ينبغي أن تكون والآن فَلْنَبْدَأ من جديد، نعم! فيعود

الحمار الى النهيق، ويعود الشيخ قفة الى الاعتراض والنقد مؤكدًا لحماره أن أنغامه

كلّها نشاز، ويتفق أن نكون مقبلين عليه من بعيد فنسمع الحمار ينهق، فنحسبه الشيخَ قفة يقلده أو يعلمه، أو نسمع الشيخ قفة فنتوهمه حماره. ولم نكن نستطيع التمييز بين الأصل والحكاية. فقد كان صاحبنا بارعًا في تقليد أصوات الحيوان والطير. حدثني صديق لي قال: دُعينا مرة أنا والشيخ قفة الى عرس فقلنا نكتفي بالسماع، وننتظر حتى ينقضي وقت العشاء، ثم نذهب. وكان البيت في حي لا نعرفهُ، فضللنا واحتجنا الى سؤال الناس. فلقينا في بعض الطريق رجلاً واقفًا تحت مصباح، مسندًا ظهره الى عموده. فأقبلنا عليه نسأله:

هل تعرف من فضلك أين البيت الذي فيه عرس فلان؟ وكان الرجل لسوء الحظ سكران. فخيل اليه السكر أننا طفيليان، نطلب طعام العرس، ونتلهف عليه، ولا نهتدي الى مكانه. فجعل يتضاحك بنا ويُرْبِكُنَا بالمزاح الخشن الثقيل. فهممت بزجره، ولكن الشيخ قفة ردني عن ذلك بإيماءة. وطل صابرًا على نكاته السمجة محتملاً عربدته. وإنه لفي ضحكاته، وإذا بالشيخ قفة يفاجئه بمثل نباح الكلب. فذعر المسكين، وطار السكر من رأسه وأفاق جدًا. وذهب يعدو وكأنَّ وراءه ألفُ شيطان.

وكان للشيخ قفة ابن في الثانيةَ عَشْرةَ من عمره. وكان هو الذي بقي له من أكثر من عشرة أبناء، جاء بهم الى الدنيا واختطفهم الموت منه واحدًا بعد واحد. وشاءت المقادير أن يلحق هذا الفتى إخواته، ويذهب في سبيلهم. وسمعنا بما أصابه فقلنا نذهب لتعزيه. وفي عصر اليوم الذي دفن فيه الغلام قصدنا إليه وفي ظننا أن نجد سرادقًا أو نحو ذلك لاستقبال المعزين ولكنا وجدنا الشيخ قفة واقفًا في دكانه عاريَ الرأس على عادته، وليس على وجهه ما يدل على أنه احتسب ابنه العاشر أو الحاديَ عَشَر في صبيحة ذلك اليوم. فدهشنا، ولكنا عدنا فقلنا: أحسن والله


*98*

الرجل فإن إقامة المأتم عادة لا جدوى منها ولا طائلَ تحتها، وأقبلنا عليه نصافحه ونعزيه. فقدّم لنا الكراسي وصنع لنا القهوة. ثم جلس قبالتنا على دِكة، وفي يمناه فنجانه يرتشف منه القهوة وهو يقول بلهجة الجِدِّ: هل تعرفون رجال حاتا باتا؟ فنظر بعضنا ال بعض ولم يفهم أحد منا ماذا يعني برجال الحاتا باتا. وانعقدت ألسنتنا في حلوقنا، فلم نجب، وشعرنا بشيء من الحرج. ولم ينتظر هو جوابنا فضحك ضحكة مكتومة ارتّجت لها أنحاؤها - وكان بدينًا - وسالت قطرات من الفنجان، فمد ذراعيه إليها ليقصيها عن ثيابه، وقال: خرجنا بالولد وأمامه هؤلاء الفقهاء الذين لا يستطيع المرء أن يتبين ما يقولون ومن أجل هذا أسميهم "رجال حاتا باتا" لأن هذا هو الصوت الذي يخلص الى أذني مما يرفعون به عقائرهم في الجنائز. ألم تركبوا القطار قط؟ إنه يخرج من المحطة على مَهَلٍ حتى إذا خَلَّفَهَا وراءه زاد سرعته شيئًا فشيئًا ثم ينطلق على وجهه. كذلك كان يفعل رجال الحاتا باتا اليوم. بدأوا يمشون أولاً على مهل ويطلقون هذا الصوت في تُؤُدَّةٍ وأناة. فلما جاوزوا الطرق العامرة أسرعت أرجلُهُم ولاحَقَتْها حناجرهم.

وكان وهو يقص علينا ذلك، ويصف لنا منظره، يقلد هذه الجماعة في الإنشاد ويحرك ذراعيه على تحو ما تتحرك ذراع القاطرة. فَحَزِنًا كيف يصنع؟ إن منظر الرجل يُغري بالضحك وحركاتهِ وأصواتَه تُخرج المرءَ عن وقاره واحتشامه. ولكنَّ المقام فيما كنا نحس لا يأذن لنا. بمجاراته. وليس هو بالبليد الاحساس الغليظ النَّفسِ. وإنا لنعرفه ولا يَخْفَى علينا أنه يتكلف ويتصبر ويتشدد، أم نتلقى فكاهته بالجمود؟ فهذا خليق أن يصدمه ويكرهه على سكون الحزن الذي يحاول بالمزاح أن يتجنبه.

وأخيرًا لم نجد مفرًا من مجاراته فآثرنا له ما آثر لنفسه. ولم يكن لنا فضل في هذهِ؛ المجاراة فإنه هو الذي حَمَلَنَا عليها، ولم يدع لنا سبيلاً إلا إليها بما لَجَّ فيه من التفكُّهِ. ثم انْصَرَفْنَا ولبثنا طول الطريق واجمين ولنا العذر، فما كان لنا عهد بمثل هذا التجلد. ولقد كان هذا درسًا لي حذقته، ولم أَزَلْ بعد ذلك اروض نفسي عليه. وكلما


*99*

أحسست أن نفسي تهمّ بأن تخور ذكرت الشيخ قفة، وتصورت وصفه لجنازة ابْنِهِ فيذهب عنى الضَّعف.

والشيخ قفة لا يقرأ الكتب ولا يُعنى بالمطالعة والتحصيل، ولكنَّ له روحَ الأديب وحنينَه، الى صِنْوِهِ. ومن أجْل هذا كان مجلسه يحفل أيضًا بالأدباء والمتأدبين. ولم يكن الحديث يدور على أدب أو فلسفة أو تحو ذلك، ولكن شخصية الرجل كانت تجذب إليه الأدباء وتحببه إليهم وكان ربما زجل، وكان الى هذا يحسن غناء ما يسمى المواويل المربعة والمدورة والحمراء خرج مرة مع لفيف ممن يأنسون إليه وقصدوا جميعًا الى حدائق القبة. وكان بينهم واحد ضعيف البصر، غليظ الجسم، عريض الدعوى. فلما صاروا الى الحديقة رَجوا منه أن يحاضرهم في قناة السويس فوقف يخطبهم، وراحوا هم يتراجعون خطوة فخطوة، وهو يهضب بالكلام الفارغ ولا يرى، حتى صار وحده. فلم ينتبه إلا على ضحك المارة. فغضب وأراد الرجوع ولكن الشيخ قفة لم يزل يحاوره ويداوره حتى فاء به الرضى، وأقنعه باستئناف المحاضرة. وعاد يخطب وعاد إخوانه يتقهقرون. وخالج صاحبَنَا الشكُّ فتقدم خطوات فإذا المكان قواء. فإشتد غضبه وحميتْ نِقمته على إخوانه، ولم تنفع فيه رقى الشيخ قفة. وركبوا في أوبتهم التروللي. وجلس الشيخ قفة الى جانبه في مركبة واحدة، وبقية الإخوان على مركبات أخرى. فلما دفعها العامل الموكّلُ بذلك، وانطلقت تعدو، رفع الشيخ قفة صوته بأغنية مرتجلة مطلعها حَلَّفُوني ياما حلفوني على وزن عصفري ياما عصفوري.

حلوفوني ياما حلوفوني

عمال يجعجع ويبعبع

عامل محاضرة في يوم أربع

حلوفوني ياما حلوفوني

وهكذا.....


*100*

وصاحبنا يكاد صدره يمزق من الغيظ. فلو استطاع لوثب عن التروللي. فلما بلغوا أخر المرحلة نزلوا، وانطلق صاحبنا المُحْنَقُ يُقرِّع الشيخَ قفة. فصبر عليه حتى أفرغ ما في جوفه، وأراح صدره من الغيظ الكتوم ثم التفت إليه، وقال:

لماذا توبخني وتُقرعني؟ هل تتوهم أنك خير مني؟ أتُراك أسمنَ مني أو أضخمَ جثة؟

أتظن أنْكَ أحَّدُّ مني بصرًا أو أني أنا أشد منك عمى....

ولم يزل يعرض عليه وجوه المقارنة العجيبة هذه حتى اضطر صاحبنا الى الضحك وعاودت وجهَهُ البشاشة.

ذكرت الشيخ قفة منذ أيام، فمضيت الى حيث كان دكانه. فلم أجده ولم أعشر له على أثر. فعدت آسفًا لا أدري أحي يرزق أم أسرع به رجال حاتا باتا. ولكني أدري أنه لا يبالي أو كيف يكون.

إبراهيم عبد القادر المازني خيوط العنكبوت، القاهرة 174.1935وما بعده

الشهيدتان


*100*

مصطفى لطفي المنفلوطي

لم تُغمِض عيناي ليلة أمس لأني بتّ أسمع في الدار الملاصقة لبيتي أنين امرأة متوجعة تعالج همًا ثقيلاً وتشكو مرضًا أليمًا. ويُخيَّل إليَّ أني لا أسمع بجانبها مُعَلّلا يعلّلها ولا جليسًا يتوجع لها. فلما أصبح الصباح ذهبتُ إليها فإذا قاعة صغيرة مظلمة لا تشتمل على أكثر من سرير بالٍ يتراءى فوقه شبح ماثل من أشباح الموْتّى. فتوقفت في مِشيتي حتى دنوت منها، وكأَنَّها شعرت بمكاني فحركت شفتيها تطلب جرعة ماء. فأسعفتها بها فاستفاقت قليلا. فوقفتُ بجانبها أسألها عن حَطْبِها. فأنشأت


*101*

تقصُّ علىَّ قصتها بصوت خافت متقطع كنت كأني أنتزعه من بين مَاضِغَيْهَا انتزاعاً وتقول:

زوّجني أبي منذ سنوات من رجل مِزواجٍ مطلاق لا يكاد يصبر على امرأة واحدة عاماً واحداً. ولو كان للفتاة رأي في نفسها من دون رأي أوليائها لعرفت كيف أحسن الاختيارَ لنفسي، بل لو لم يكن في الأمر إلا أن أتبتّل كما تتبتل الراهبات، أو أتزوج زواجاً ينتهي بي الى هذا المصير، لكان لي في الرهبانية رأيٌ غيرُ ما يراه الناس جميعاً. ولكنني عجزت فأذعنت، وحُملت إليه فاستقبلني بأحسن ما يستقبلُ به الزوج الكريم أحظى نسائه لديه وأكرمَهُنَّ عليه، فكان يُريني من ذلك ما يُريبُ الفريسةَ من ابتسامة الأسد، وكنت أنتظر يوم الفراق كما ينتظر المجرم يوم القصاص، فما أفقت من صرعة النفاسِ حتى علمت أنه خطب فتزوج فبنى، وإنني أصبحت في المنزل منقطعة لا مؤنسَ لي إلا طفلتي الصغيرة، فجزعت عند الصدمة الأولى، ثم نزَلت على حكم القضاء الذي لا أملك ردَّهُ ولا أعرف وجه الحياة فيه، واحتملت طفلَتي إلى بيت أبي فوجدته مريضاً مشرفاً، فبكى رحمة بي واستغفر لي من ذنبه اليَّ فغفرتُ له، وما هي إلاّ أيامٌ قلائلُ حتى مضى الى سبيله مفجوعاً بِرُزْئِي الذي نزل بي، فعلمت أن الدهر قد سجل عليَ في جريدة الشقاء أياماً طوالا لا أعلم متى يكون انقضاءها ولا أدري ما الله صانع فيها.

فظللت أستكتب؛ الناس الكتب إلى ذلك الرجل أَسْأَلُهُ القوتَ لأَستعين به على تربية طفلته، أو التسريح عسى أن يُبَدِّلَنِي اللهُ خيراً منه زكاةً وأقرب رحمةً. فضن بالأولى واستعظم الأخرى. فلم أر سبيلا غير سبيل العمل. فلبثتُ بضعَ سنين ساهرةً الليلَ قائمةَ النهار، أستقطر الرزق فلا أبلغ منه الكفاف حتى نالَ مني الْجَهْدُ، فذهب. بمُعضِلة من الأدواء خرجتُ لها عن كل ما أملك من حيلة وذخيرة وكُسوة وآنية، وأصبحت لا أملك درهماً أبتاع به قارورة الدواء، ولا أجد مزقة أمسك بها قوائم هذا السرير المتداعي. ولم يقع الدهر مني بذلك حتى رماني بالداهية الدهياء التي


*102*

يصغر بجانبها كل عظيم من خطوبه ونكباته. فقد كتبت الى ذلك الرجل منذ شهر أصف له حالتي وأفضى إليه بذات نفسي، وأسأله أن يمدني أنا وابنتي بقليل من القوت نمسك به تلك الصبابة التي أبقتها خطوب الأيام وأرزاؤها من أعظمنا وجلودنا. ولبثت أرقب رجع الكتب كما يتوقع الغريق سواد السفينة. فإني لجالسة منذ أيام على هذا المقعد أعد من الدهر ذنوبه اليّ وسيئاته عندي، فلا أفرغ من عقد إلا الى عقد، وأنتهى الى حيث ابتدئ. وقد أجلست طفلتي بين يديّ لأتطلع الى وجهها الساطع في ظلمات تلك الخطوبِ، كما يَتَطَلَّعُ الملاَّحُ في ظُلُمَاتِ بحرِهِ الى نَجْمَةِ القطبِ، إِذْ هَجَمَ عَليَّ ذلك الظالمُ الجبار فاختطف ابنتي من بين يديَّ من حيث لا أملك دفعاً لما نابني، ولا أجد ما أذودُ به عن نفسي، إلا زفراتٍ لا يسمعها سامع وعبراتٍ لا يرحمها راحم. فشعرت كأن سهم الدهر الذي كان يروغ قبل اليوم ها هنا قد أصاب في هذه المرة المقتلَ. فبت ليلتي تلك كما يجب أن تبيت امرأة بائسة معدمة، قد فجعها الدهر بكل ما تملك يدُهَا وبكل ما تتعلق به آمالها فَأَصْبَحَتْ لا تجد أمامَها يداً تنبسط إليها ولا عيناً تبكي عليها. وقد مر بي على ذلك نَيِّفُ وعشرون ليلة، لا يَرْقأُ لي دمع ولا يهدأ بي مضجع، حتى إذا اختلست من يد الظلام نعسة تراءت لي تلك الفتاة في نومي كأنها صارخة باكية تهتف باسمي، وكأن أباها يوسعها ضرباً وتعذيباً، وكأنني أحاول استنقاذها مما هي فيه فلا أجد إليها سبيلاً. وها أنذا أشعر أن سحابة الموت تغشى على بصري وأنني مفارقة هذا العالم قبل أن ألقي على ابنتي نظرة أتزود بها منها قبل أن أفارق هذه الدار.

وما إن وصلتْ من حديثها الى هذا الحد حتى جَرَضَتْ بِرِيقِها، وتتابعت أنفاسها، وشخص بصرها. فجثوت عند سريرها أدعو الله أن يعينها على أمرِها ويمدَّها برحمته واحسانه. فإني لكذلك، وقد استغرقت في هذا المشهد الذي بين يديّ استغراق العابد في هيكله، إذ رأيت من خلال الدموع التي كانت تتزاحم في عيني شبحاً منتصباً عند باب الغرفة، فتأملته فإذا رجل يمسك بيده فتاة صغيرة.


*103*

فتقدمت نحوه فرأيته خاشعاً مسكيناً ينظر الى الفتاة نظرات الوجد والرحمة والفتاة كأنها خرقة بالية لا يتحرك لها عضو ولا ينبض بها عرق. فقلت: من أنت وماذا تريد؟ قال: أنا زوج هذه المرأة ووالد هذه الفتاة. قلت: لعلّك تستغفرها من ذنبك إليها في التفريق بينها وبين ابنتها. قال: يا سيدي ما زالت الفتاة منذ فارقت أُمَّها تبكي عليها بكاء مريراً وتهتف، باسمها في يقظتها ونومها حتى سقطت مريضة لا ينفعها طب، ولا ينجح فيها دواء. فلما رأيت أن الأمر قد وصل بها الى هذا الحد جئتُ بها الى أمها أرجو أن تجد بين ذراعيها شفاء دائها. قلت: ذلك موكول الى القضاء، ولا يعلم الغيب إلا الله. ثم تقدمت نحو الفتاة حتى وضعتها بين ذراعي أمها. فما هي إلا أن هتفت بأمها والأم بفتاتها حتى فاضت نفساهما معاً كأنما كانتا من الردى على ميعاد.

والآن وقد عدت من دفن تينك الشهيدتين، وجلست لكتابة هذه السطور، أشعر أن نفسي تسيل من بين جنبيّ حزناً على تلك المرأة المسكينة، لا بل حزناً على جميع النساء اللواتي يقتلهن الرجال كل يوم صبراً بسيف الطلاق الماضي، من حيث لا يجدن راحماً يرحمهن ولا ثائراً يثأر لهن

مصطفى لطفي المنفلوطي، النظرات، الطبعة السابعة، القاهرة 1936، الجزء الثاني، ص 244 ما بعدها


*104*

في انتظار القطار 104

محمود تيمور

صباحٌ ناصع الجبين يُجلِي عن القلب الحزين ظلماته، ويردّ للشيخ شبابه، ونسيم عليل ينعش الأفئدة ويُسَرّي عن النفس همومَها، وفي الحديقة تتمايل الأشجار يَمْنة ويسرة وكأنها ترقص لقدوم الصباح، والناس تسير في الطريق وقد دبّت في نفوسهم حرارة العمل، وأنا مكتئبُ النفس أنظر من النافذة لجمال الطبيعة، وأسأل نفسي عن سر اكتئابها فلا أهتدي لشيء.

تناولت ديوان "موسيه" وحَاولتُ القراءة فلم أُفلح، فألقيت به على الخِوان، وجلست على مقعد، واستسلمت للتفكير كأني فريسة بين مخالب الدهر.

مكثت حيناً أفكر، نم نهضت واقفاً، وتناولت عصاي وغادرت منزلي، وسرت وأنا لا أعلم الى أي مكان تقودني قدماي، الى أن وصلت الى محطة باب الحديد، وهناك وقفت مفكراً، ثم اهتديت للسفر ترويحاً للنفس - وابتعت تذكرة درجة ثانية - وركبت القطار للضيعة لأقضيَ فيها نهاري بأكمله.

جلست في إحدى غرف عربات القطار بجوار النافذة، ولم يكن بها أحد سواي، وما لبثت في مكاني قليلاً حتى سمعتُ صوت بائع الجرائد يطن في أذني (وادي النيل، الأهرام، المقطم)، فابتعت إحداها وهممت بالقراءة، وإذا بباب الغرفة قد انفتح ودخل شيخ من المعمّمين، أسمرُ اللون، طويلُ القامة، نحيف القوام، كثُّ اللحية، له عينان أقفل أجفانهما الكسل، فكأنه لم يستيقظ من نومه بعد. وجلس الأستاذ غير بعيد عني وخلع مركوبه الأحمرَ قبل أن يتربع على المقعد، ثم بصق على الأرض، ماسحاً شفتيه بمنديل أحمر يصلح أن يكون غطاء لطفل صغير، ثم أخرج من جيبه مسبحة ذاتَ مِائه حبة وحبةٍ، وجعل يردّد اسم الله والنبي والصحابة والأَولياءِ


*105*

والصالحين، فحوّلت نظري عنه فإذا بي أرى في الغرفة شاباً لا أدري من أين دخل علينا، ولعل اشتغالي برؤية الأستاذ منعني مِنْ أن أرى الشاب ساعةَ دخوله.

نظرت الى الفتى وتبادر لذهني أنه طالبٌ ريفي انتهى من تأدية امتحانه، وهو يعود الى ضيعته ليقضي إجازته بين أهله وقومه. نظر الي الشاب كما نظرت إليه، ثم أخرج من محفظته رواية من روايات مسامرات الشعب، وهمَّ بالقراءة بعد أن حوّل نظره عني وعن الأستاذ. ونظرت للساعة راجياً أن يحرك القطار قبل أن يوافينا مسافر رابع، فإذا بأفندي وضَّاحِ الطلعةِ حسنِ الهِندامِ، دخل غرفتنا وهو يتبخّتر في مِشيته، ويردد أنشودة طالما سمعتها من باعة الفجل والترمس. جلس الأفندي وهو يبتسم واضعاً رجلاً على رجل بعد أن قَرَأَنا السلام، فرددناه رد الغريب على الغريب.

وساد الكون في الغرفة، والتلميذ يقرأ روايته، والأستاذ يُسَبِّحُ وهو غائب عن الوجود، والأفندي ينظر لملابسه طوراَ وللمسافرين تارة أخرى، وأنا أقرأ وادي النيل منتظراً أن يتحرك القطار قبل أن يوافِيَنَا مسافر خامس.

مكثنا هنيهة لا نتكلم ننتظر قدوم أحد، فانفتح باب الغرفة ودخل شيخ يبلغ الستين، أحمرُ الوجه، برَّاق، العينين، يدلّ لون بشرته على أنه شركسيُّ الأصل، وكان ممسكاً مِظلةً أكل الدهر عليها وشرب، وأمّا حافَّةُ طربوشه فكانت تصل الى أطراف أذنيه، وجلس أمامي وهو يتفرس في وجوه رفقائه المسافرين كأن يسألهم من أين هم قادمون والى أين هم ذاهبون. ثم سمعنا صفير القاطرة تُنْبئ الناسَ بالمسير، وتحرك القطار بعد قَليلٍ يُقلّ مَنْ فيه الى حيثُ هم قاصدون.

سافر القطار ونحن جلوس لا ننبسُ ببنت شفة، كأنما على رؤوسنا الطير، حتى اقترب من محطة شُبْرا فإذا بالشركسي يحملق فيّ ثم قال موجهاً كلامه إليَّ: هل من أخبار جديدة يا أفندي؟ فقلت له وأنا ممسكٌ الجريدة بيدي:


*106*

ليس في الأَخبار ما يستلفت النظر اللهم إلا خبر اهتمام وزارة المعارف بتعميم التعليم ومحاربة الأمية.

ولم يمهلني الرجل من أن أُتِمَّ كلامي؛ لأنه اختطف الجريدة من يدي دون أن يستأذنني، وابتدأ بقراءة ما يقع تحت عينيه، ولم يدهشني ما فعل لأني أعلم الناس بحدة الشراكسة. وبعد قليل وصل القطار محطةَ شُبْرا، وصعد منها لغرفتنا أحد عمد القليوبيّة، وهو رجل ضخم الجثة، كبير الشارب، أفطس الأنف، له وجه به آثار الْجَدَرِي، تظهر عليه مظاهر القوة والجهل، جلس العمدةُ بجواري بعد أن قرأ سورة الفاتحة وصلى على النبي، ثم سار القطار قاصداً قليوب.

مكث الشركسي قليلاً يقرأ الجريدة، ثم طواها وألقى بها على الأرض وقال:

- يريدون تعميم التعليم ومحاربة الأمّيّة حتى يرتقيَ الفلاح الى مصافّ أسيادِهِ، وقد جهلوا أنهم يَجْنُونَ جِنايةً كبرى!!

فالتقطت الجريدة من الأرض وقلت:

- وأي جناية؟

- إنك ما زلت شاباً لا تعرف العلاج الناجع لتربية الفلاح.

- وأي علاج تقصد؟ وهل من علاج أنجع من التعليم؟ فقطب الشركسي حاجبيه وقال بلهجة الغاضب:

- هناك علاج آخر.

- ما هو؟

فصاح. بملء فيه صيحةً أفاق لها الأستاذ من نومه وقال:

- السوط: إن السوط لا يكلّف، الحكومةَ شيئاً، أما التعليمُ فيتطلب أموالاً طائلة، ولا تنس أن الفلاح لا يذعن إلا للضرب لأنه اعتاده من المهد إلى اللحد.

وأردت أن أجيب الشركسي، ولكن العمدة حفظه الله كفاني مؤونة الرد فقال للشركسي وهو يبتسم ابتسامة صفراء:


*107*

- صدقت يا بيه صدقت. ولو كنتَ تسكن الضياع مثلنا لقلت أكثر من ذلك. إننا نعاني مع الفلاح ما نعاني لنكبح جماحه، ونمنعه من ارتكاب الجرائم.

فنظر اليه الشركسي نظرة ارتياب وقال:

- حضرتكم تسكنون الأرياف؟

أنا مولود بها يا "بيه".

- ما شاء الله!!

جرى هذا الحديث والأستاذ يغط في نومه والأفندي ذو الهندام الحسن ينظر لملابسه، ثم ينظر لنا ويضحك، أمّا التلميذ فكانت تظهر على وجهه سيماء الاشمئزاز، ولقد هم بالكلام مراراً فلم يمنعه إلا حياؤه وصِغرُ سنّه. ولم أطق سكوتاً على ما فاه به الشركسي، فقلت له:

- إن. الفلاح يا بيه إنسان مثلنا وحرام ألا يحسن الإنسان معاملة أخيه الإنسان.

فالتفت إلي العمدة كأني وجهت إليه الكلام وقال:

- أنا أعلم الناس بالفلاح ولي الشرف أن أكون عمدة في بلد به ألف رجل، وإن شئت أن تقف على شئون الفلاح أجيبك: أن الفلاح يا حضرة الأفندي لا يفلح معه إلا الضرب، ولقد صدق "البك" فيما قال. وأشار بيده الى الشركسي.

- ولا ينبئك مثل خبير.

فاستشاط التلميذ غضباً ولم يطق السكوت، فقال وهو يرتجف:

- الفلاح يا حضرة العمدة.

فقاطعه العمدة قائلاً:

- قل "يا سعادة البك" لأني حزت الرتبة الثانية منذ عشرين سنة.

فقال التلميذ:

- الفلاح يا حضرة العمدة لا يذعن لأوامركم إلا بالضرب لأنكم لم تُعَوِّدوه غير ذلك، فلو كنتم أحسنتم صنيعكم معه لكنتم وجدتم فيه أخاً يتكاتف، معكم


*108*

ويعاونكم، ولكنكم مع الأسف أسأتم إليه فعمد إلى الأضرار بكم تخلصاً من إساءتكم، وإنه ليدهشني أن تكون فلاحاً وتنحي باللائمة على إخوانك الفلاحين.

فهز العمدة رأسه ونظر للشركسي وقال:

- هذه هي نتائج التعليم.

فقال الشركسي:

- "نام وقام فوجد نفسه قائم مقام" !!

أما الأفندي ذو الهندام الحسن فإنه قهقه ضاحكاً وصفق بيديه وقال للتلميذ.

- "برافو يا افندي برافو برافو".

فنظر إليه الشركسي وقد انتفخت، أوداجه وتعسر عليه التنفس وقال:

- ومن تكون أنت؟

- إبن الحظ والأنس يا أنس!

وضحك عدة ضحكات متواليات.

فلم يبق في قوس الشركسي مَنْزَعٌ، فصاح وهو يبصق على الأرض طوراً وعلى حذاء العمدة تارة:

- "أدبسيس بس فلاح".

ثم سكت الحاضرون، وأوشكت أن تهدأ العاصفة لولا أن التفت العمدة للأستاذ وقال:

- أنت خير الحاكمين يا سيدنا فاحكم لنا في هذه القضية.

فهز الأستاذ رأسه ثم تنحنح وبصق على الأرض وقال:

- وما هي القضية لأحكم فيها بإذن الله جل وعلا؟

- هل التعليم أفيد للفلاح أم الضرب؟

فقال الأستاذ:


*109*

- بسم الله الرحمن الرحيم إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً، قال النبي عليه الصلاة والسلام "لا تعلموا أولاد السفلة العلم".

وعاد الأستاذ الى خموله، وأطبق أَجفانَه مستسلماً للذهول. فضحك التلميذ وهو يقول:

- حرام عليك يا أستاذ. إن بين الغني والفقيرِ من هو على خلق عظيم، كما أن بينهم من هو في الدرك الأسفل.

فأفاق الأستاذ من غِشيته وقال:

- واحسرتا! إنكم من يوم ما تعلمتم الرطان فسدت عليكم أخلاقكم، ونسيتم أوامر دينكم، ومنكم من تبجح وبغَى واستكبر وأنكر وجود الخالق.

فصاح الشركسي والعمدة:

- لك الله يا أستاذ!

وقال الشركسي:

- كان الولد يخاف أن يأكل مع أبيه واليوم يشتمه ويهمّ بصفعه.

وقال العمدة:

كان الولد لا يرى وجه عمته والآن يجالس امرأة أخيه.

ووقف القطار في قليوب، فقرأت الجميع السلام، وغادرتهم، وسرت في طريقي الى الضيعة وأنا أكاد لا أسمع دويّ القطار وصفيره، وهو يعدو بين المروج الخضراء؛ لكثرة ما يَصيَح في أذنيَّ من صدى الحديث (7 يونيو 1917).

ما تراه العين، القاهرة 1964 ص: 5-11


*110*

نداء الأرض


*110*

خليل تقي الدين

تحسسَّ الناطور سعيدٌ جنباتِ الفراش الذي كان مستلقياً عليه في عرزاله العالي القاتم فوق هضبة تشرف على وادي الصفا، والمبني من ورق الملول في قلب سنديانة هرمة. كان الوقت ظهراً، وشمس آب اللاهبة قد انصبّتْ على الأرض انصباباً، ونفذت أشعتها الى قلب العرزال خيوطاً بيضاءَ وَهَّاجة تتراقص عليها ذرات الغبار.

وتململ الناطر في فراشه كان قوة خفية سيطرت عليه في تلك اللحظة فانتشلته من قيلولته. وما هو أن فتح عينيه حتى بَصر بحيّة رقطاء تسعى على غصن السنديانة وهو أحد عمد العرزال، وجسمها الأملس يتلوى، وكلما وقع عليه خيط من خيوط الشمس شعّ كقطعة من زجاج مُلقَاةٍ في التراب، وقد مدت لساناً دقيقاً كالإبرة، وأدارت في ما حولها عينين كعيني الديك رُكِّبَتَا في رأس صغير مثلث.

فأحس سعيدٌ لمنظرها قشعريرة باردة لم يبعثها الخوف، بل بعثها اشمئزازُه من رؤية هذا الجسم الطويل المبرقش ينساب على الغصن انسياباً كأنه حبل مسحوب. كيف يخاف سعيد وهو رفيق الضواري في يقظتها ومنامها، وربيب البراري منذ الصغر، وابن الطبيعة البكر؟

وخطر له أن يقذف بالأفعى الى الأرض ثم يلحق بها قبل أن تتوارى فيبادرها بضربة من عصاه. وكانت الأفعى في تلك اللحظة قد انحدرت عن الغصن وبلغت الغطاء فوق قدمي سعيد، فنفض رجله اليمنى نفضة قوية، ولكن الأفعى لم تسقط، بل ارتدت عليه تَفُحُّ في وجهه فحيحاً أجش، ونشبت بينه وبينها معركة هائلة كان سلاحه فيها يدين جبارتين كأن أصابعهما كلابات حديدية، وسلاحها رأساً دقيقاً هائجاً يفتش عن موضع اللسعة من جسد الرجل، وجسماً يبحث عن مكان يلتف عليه ليعصره عصراً، وذَنَباً حاداً يضرب ضربات قوية. وفجأة خيِّل للناطور أنه قبض على عنقها وأن أصابعه ستُخْرِجُ روحَها من هذا الشدق المشقوق كفم الضفدع،


*111*

ولكن لسان الأفعى كان أسرع من يدي سعيد، ونابها أسبق الى النهش، فأحسّ وخزة حادة في بطن يده، ورأى رأس الحية يرتد عن يده بعد أن أعمل فيها السم. ولكنه، بحركة يائسة، قبض على عنق الثعبان بكلتا يديه وألصقه بأرض العُرزال، وهي لوح خشبي متين، وأهوى على الرأس بحذائه الضخم، وحذاؤه "مداس" مُصَفّحٌ بالمسامير كأحذية الفلاحين، وسَحَقَ رأس الأفعى، فتراخى جسمها الطويل. ثم رفعها على عصاهُ وقذف بها من أعلى العرزال الى الأرض، وعاد الى يده الملسوعة، فتناول من سقف العرزال خيطًا من خيوط المصيص التي يربط بها جراب زاده وَلَفَّهُ حول معصمه لفًا شديدًا محكمًا حتى ازرقت يدُه ونفرت من راحته نقطة عن الدم، ثم نزع من وسطه خِنْجَرَهُ الجزيني الْمُطَعَّمَ وجرح موضع اللسعة جرحين متعارضين، وانحنى على يده يمتص الدم النافر ويبصق لعابه المختلط بدمه وبلعاب الأفعى قبل أن يجري السم في جسده، حتى إذا انتهى من ذلك انحدر على سلم العرزال الى كرم العنب وقطف من إحدى الدوالي بِضْعَ وريقات خضراء رَخِصَةً ضمَّدَ بها جروحه وأخذ عصاه وسار في طريق ببت عمه وهو أقرب بيوت القرية الى العرزال.

كان من عادة سعيد إذا قصد الى بيت عمه أن يعرّج في طريقه على الكروم. وهي مباحة للناطور يقطف منها ما يشاء، فينتقي أصفى عناقيد العنب الْمُمَسَّك، ثم ينزل على تينة كبيرة ملتفّة الأغصان فيملأ منديله من تينها الأحمر المشقوق كما انشق الرمان، ويقبل بذلك كلِّه على ابنة عمه خيزبان، وهي منذ الصغر هَوَى نفسه ومنتهى آماله. فإذا سمعت الفتاة وقع عصاه على الصخور خرجت إليه مرحبة وتناولت من يديه هديته التي لا تتغير طوال الصيف، ثم جاءته بابريق الفخار فبَّردَ بالماء عطشه، ومسح فمه بطرف كمه، وجلس على مصطبة البيت يستريح ويسأل الفتاة عما فعلت وعمن رأت وعن أخبار القرية، حتى إذا خفّت حرارةُ الشمس عادَ الى دنياه: الى هذه البرية الواسعة التي ورث حراستها عن أبيه، والتي لم


*112*

يعرف غيرها، وقد بلغ الخامسة والعشرين، ملهىً ومرتعًا؛ الى هذه الأرض التي التصق بها دون أن يشعر، فغذته سماؤها وتريها، وألبسته شمسها، وأشجارها وحجارتها، وينابيعها، وضواريها وطيورها، ثوبًا من الخشونة العذبة لا يلبسه إلا القرويون.

كانت خيزبان تُصْغُر ابن عمها بعشر سنوات. نشأت بين أم شديدة المراس وأب يقضي حياته في الحقول من الصباح الى المساء. ولم تكن أعمالُ الزرع والحصاد ورعيُ المواشي وسوقُها الى العين غريبة عنها، فقد قَبَعَتْ هي أيضًا أيام طفولتها وصباها الأول في البرية، ولكنها لما نَهَدَتْ قَبَعَتْ في المنزل لا تخرجُ منه إلا لماما وبمحبة أمها، أصبحت تُغْنَى بهذه الأعمال المنزلية التي تحسنها الفتيات بالفطرة كثغل الإبرة، ورفو الثياب، حتى إذا بلغت الخامسة عشر اكتملت، أنوثتها وخلعت عليها الطبيعة ثوبًا رائعًا من الجمال القروي الساذج. وكان أكثرُ ما يُحبُ فيها بشرةً سمراء طاربَة الى الشحوب وعينين سوداوين واسعتين من هذه العيون التي تمتاز بها بنات الغجر، ونهدين عاليين تململت فيهما ثورة الصبا. فلفت جمالها أنظار الأمهات، ولكنهن أحجمن عن طلب يدها لأبنائهن لأنها " على حساب " ابن عمها منذ أن خُلقت، وابن عمها يليق بها، فهو مضرب المثل في الشجاعة والفتوة، وهو زعيم شباب القرية غير منازع، يتصدر حلقاتهم في الأعراس، وتُغنىَّ في مدحه أبيات العتابا، وتفتتح باسمة حفلات الزجل، ويتبارى قوّالو المعنّى والقرادي في تعداد شمائله.

ولم تكن خيزبان تعرف معنى الحب، ولكنها كانت، إذا تأخر سعيد في البرية، قلقت عليه فخرجت ترى أين بلغ خط الظل من صحن الدار فإذا رَأَتْهُ قد تعدّى جذع الياسمينة علمت أن الظُّهْرَ قد مرّ منذ أكثرَ من ساعة، وأن موعد زيارة سعيد قد فات، فتعود الى البيت حزينة. لم تدرك يومًا أنها تحب ابن عمها، ولكنها كانت تحس في نفسها ميلا غريبًا للتحديق إليه، وإطالة النظر الى هذا الوجه الذي ينُّم عن


*113*

قوة خارقة، وهاتين اليدين العريضتين، وهذا الصدر الواسع وقد ضاقت به الثياب فكادت تتمزق عنه. وكانت تشعر في قربه بطمأنينة وراحة، وتحسب أن ليس في الأرض قوة تستطيع أن تصيبها بسوء ما دام سعيد الى جانبها، أما إذا غاب عنها فأَقلُّ شيء يهددها ويخيفها. ولم يكن يجذب سعيدًا الى القرية غير خيزبان، فحياته كانت موزّعة بينها وبين الأرض. ولقد أصبح يشبه سكان البرية لفرط إقامته فيها، فكانت تقابل خشونة هيئته خشونة في أخلاقه، فهو يغضب لأَبسط أمر، ويلجأ الى سلاحه في كل مناسبة، ولكنه كان إذا فكر في خيزبان عاد بَشَرًا سويًا، وراح ينشد فيما بينه وبين نفسه أبياتًا من العتابا، ومقاطع من الأغاني القروية حفظتها أذناه.

وكثيرًا ما حنَّ في بريته الواسعة الى ابنة عمه، وهو متكئ على عصاه في قمة عالية تشرف من جهة على وادي الصفا، ومن جهة على خمائل الباروك. فما هو أن يجول خيالها في خاطره حتى يهبِطَ إليها بين الصخور، مسافة ساعتين، فإذا بلغ البيت كان كلُّ همه أن يطمئن الى أنها فيه، وأن يراها. وأما أحاديث، الهوى التي يتقنها الشباب المتعلمون فلا يعرفها سعيد، ولا يدرك كيف، يجوز أن يحدّث رجلٌ فتاةً حديث حب، ولو كانت الفتاة ابنَةَ عمه، ولكنه يعرف أن خيزبان تستطيع أن تطلب منه المستحيل، فهو يمضي في طلبه دون أن يفكر في عمله، ودون أن يتردد لحظة واحدة، فليس للتفكير كبير الشأن في حياته، بل هو مجموعة أعصاب تعمل بالفطرة، وهو أقرب الى أن يكون آلة منه الى أن يكون رجلاً يعقل ويفكر.

وَصَلَ سعيدٌ الى بيت عمه بعد أن قتل الأفعى ووجهه شاحب قليلاً، ويداه خاليتان من الهدية، فتلقته خيزبان ملهوفةً وقد أقلقها هذا الشعورُ بالخطر الداهم الذي تمتاز به النساء، ولا سيما المحباتُ منهن. ولما وقعت عينها على يده المعصوبة راحت تلقي عليه السؤال تلو الآخر، فقال سعيد:

- لقد زلت بي القدم وأنا منحدر عن صخرة عالية، فتلقيت الأرض بيسراي وأصبت بخدش بسيط.


*114*

ولكن خيزبان لم تصدقه، وظلت تحاوره حتى حدّثها حديثَ الأفعى، وكيف أنه واجه خطرًا كبيرًا في المعركة العنيفة التي نشبت بينه وبينها. ثم عطف على ذلك بقوله: ولكن المعركة انتهت كما تنتهي جميع المعارك التي تقع بيني وبين من يهاجمني من يشر أو حيوان، فقد سحقتُ رأس الأفعى بكعب حذائي، وأَرَحْتُ الأرض منها ومن شرها.

وكانت الفتاة، وهي تسمع حديثه، ترتجف خوفًا. وكثيرًا ما ناشدته الله أن يقلع عن تلك الحياة التي يحياها ويعود إلى البيت الذي ورثه عن أبيه، فأرزاقه تكفيه. ولم يكن يدفع الفتاة الى هذا الإلحاح خوفُها وحدّه على ابن عمها، بل كانت تكره هذه البرية لشدة تعلق سعيد بها، وتغار منها لأنها تصرفه عن كل شيء. وكانت تنظر الى الغد نظرة سوداء حين تفكر في أنها ستصبح زوجة رجل يؤثر سكنى العرزال على سكنى البيوت، فانفجرت باكية وقد راعها أن يصاب سعيد بلسعة ربما كانت قاتلة، وقد تتبعها لسعات الأفاعي تملأ البرية والصيف يجعلها شديدة الخطر. وتوسلت إليه أن يلقى عصا "النواطرة" ويعيش كسواه من الفتيان. فكاد يجن جنونه إذ رأى ابنة عمه تبكي، وهو لم يرَ دموعها تنهمر على خديها من قبل. وكأن حالة الفتاة المؤثرة بعثت في نفسه عاطفة جديدة، فشعر أن خيزبان تحبه حبًا قد يفوق حبه لها، وأنه في سبيل هذا الحب يجب أن يضحي بكل شيء، ويقلع عن حياته الحرّة في برية الله الواسعة، أفلم تطلب ذلك عيناها؟ وهل يقوى سعيد على التردد في القبول؟ وفي يوم مشرق من أيام الربيع خرج شابان من بيت سعيد، وقد لبس كلٌ منهما سروالاً حريريًا أبيض تحت سترةٍ كحلية من الجوخ، ووضع وراء أذنه خصلة من الحبق العطري، وفتل شاربيه فتلاً محكمًا تاركًا لهما عقفتين تلامسان طرفي الأنف، وألقى على كتفه كوفية حريرية كلما مشى تحوَّلت أطرافها المحبوكة ضاربة برفق أعلى السراويل، وتمنطق بزنار أحمر عريض شك في وسطه، تحت السترة، خنجرًا طويلاً شكًا يخفيه ويظهره في آن واحد، ولبس حذاء أصفر لماعًا صنع خصوصًا لمثل


*115*

هذه المناسبة. وهما كلما بلغا منزلا صفق أحدهما بكفيه وتنحنح ونادى: "وين رحتو؟" فيطل عليهما من في البيت من الرجال. فإذا كان الرجال غائبين أطلت امرأة من فتحة الباب. فيردد الشابان معًا العبارةَ المأثورة التي لا تتغير: "كل أيامكم فرح، الليلة عرس سعيد عامر على ابنة عمه خيزبان". ويظلان في طوافهما حتى يأتيا على بيوت القرية جميعًا لا ينسيان واحدًا منها. إلا أن يكون أهل العريس قد أبلغوهما وجوب مقاطعة أحد البيوت، لأن صاحبه خصم سياسي، أو لأنه لم يدع أهل العريس الى عرس ابنه يوم زوّجه منذ عشرين سنة، أو لم يرسل إليهم نعي من ماتوا من أهله.

ولما اجتمعت القرية في دار العريس، عقد الشبان حلقة حول ثلاثة أجران حجرية مختلفة الحجم والثقل وضعت في باحة الدار. فأما الأول فهو أخفها وأسهلها حملاً يرفعه أضعف الشبان فوق رأسه؛ وأما الثاني فأثقل من الأوَّل، يجرّب فريق من الفتيان رفعه، فينجح بعضهم ويخفق الكثيرون؛ واما الثالث فجرن ثقيل، لا بجسر على التعرّض له من شباب القرية إلا اثنان: العريس ومعروف بركات. فلما انتظمت حلقة الشبان بدأوا يتبارون في رفع هذه الأثقال، فلعبوا بالجرنين الخفيفين لَعِبًا حتى إذا انتهوا الى الثالث وقفوا مترددين، ثم فسحوا المجال لمعروف بركات، فتقدم بخطوات هادئة متزنة وعلى ثغره ابتسامة الزهو والفخر، وخلع سترته ورمى بها الى شقيقه الصغير، ولكنه عاد عن عزمه فقال: "والله لا أتقدم العريس، يا الله يا سعيد، اليوم يومك!" فضج الفتيان فرحين، وصفقوا مرحبين بزين شباب القرية. وسعيد لا يدنو من الجرن، بل يدعو بدوره معروفًا الى "القيمة" مفيضاً عليه عبارات الإطراء: " وأنت له يا معروف، أنت شيخنا جميعًا، فكيف أتقدم عليك؟ ولم يرَ معروف بدًا من الأقدام، مخافة أن يُرْمَي بالخوف، فأقبل على الجرن، ثم أخذ بيديه حفنة من التراب مسحهما بها، وانحنى على الجرن قائلاً:" يا عون الله!" ثم نتقه بيُمناهُ نتقة قوية، ورفعه فوق رأسه ويده ترتجف قويَّة جبَّارة، وقد برزت عضلات


*116*

ساعده مفتولة جميلة. وظلّ الجرن هنيهة يرتعش فوق رأسه والشبان يصفقون، حتى إذا ألقاه الى الأرض حفر فيها حفرة أثارت الغبار من حوله. فمسح معروف العرقَ المتصبِّبَ من جبينه. وكان أول من هنأه العريس إذ تقدم منه وقبّله على شاربه، فقبّله معروف في كتفه، وأشارَ الى الجرن بقوله:" هو في انتظارك يا سعيد".

وكان سعيد لشهور خلت، قبل أن يهجر البرية والعرزال، يلهو بهذا الجرن لهوًا، ويكاد لا يحس عناء في رفعه مرة ومرتين وثلاثًا، حتى أنه وضع للشباب معجزة حين رَفَعَهُ مرة بيسراه. فتقدم سعيد من الجرن وأعاده الى وضع صالح، ثم بصق في يده اليمنى، وفركها باليسرى، وأثبت يمناه على قبضة الجرن، وهي عود متين أنزل في فتحة. وكانت عيون الشبان تتبعه، وهم صامتون ينظرون الى البطل وقد تحداه في الخفاء خصم عنيد. وما هي إلا لحظة حتى أخذت يد سعيد الجرن بقوة وعنف ولكنه لم يبلغ به أعلى زناره حتى وقفت اليد مرتجفة وقد خانتها العضلات. وعبثًا حاول الفتى رفعه فوق رأسه، فإن قوته تمردت عليه، فكأن الجرن تآمر مع معروف على اهانته في يوم عرسه، فعادت يد سعيد به الى الأرض. وتحفز الشبابُّ هنيهة وانحنى عليه ثانية وقد لمعت في عينيه شرارات العزيمة والحقد، واحمرّتْ جَبْهَتُهُ، ورفع الجرن رفعة أرادها جبارة حاسمة، فكانت فاشلة كالمحاولة الأولى. فأرخى الجرن من يده وقد ثارت نفه ثورةً عنيفةً، وود لو تبتلعه الأرض في تلك اللحظة وتريحه من نظرات الفتيان المحدقين به.

لم يُصدم سعيد في حياته مثل هذه الصدمة في يوم عرسه، فقد تهدمت زعامته على شباب القرية، هذه الزعامة التي بناها على مئات المعارك في ميادين الفتوة والبطولة، والتي شهدتها البرية كما شهدَتْها القرية، وردد أخبارها الفتيان من أقاصي الشوفين الى مصب الباروك، وآخرُها صراعه مع الأفعى.

فأحس احساسًا غامضًا أنَّ تَبِعَةَ هذه الصدمة تقع على رأس خيزبان وحدَها، فهي التي أرادته على حياة القرية الذليلة، وهي التي انتزعته انتزاعًا من دنياه القوية


*117*

الجبارة. تلك اللحظة الرهيبة التي وقف فيها سعيد بين ماضيه المجيد وحاضره المذلّ أثارت في نفسه عواطف مكبوتة. لقد انتهى الى إخفاقٍ مخيف بين هزء معروف وسخرية الفتيان الصامتة... لقد هجر البريةُ مكرهًا، ومرّت عليه شهور وخيالها لا يبرح خاطره. وها هو ينحط في نظر أترابه لأنه خفر عهد الأرض. تُرَى أَيُخَبِّئُ له الغد مفاجآت أشدَّ حزنًا في نفسه؟ وهل قضي عليه أن يصبح مُضغة في أفواه الناس بعد أن كان ذكر اسمه يثير الإعجاب في نفوس الشبان، وفي نفس معروف قبلهم جميعًا؟

مضت سنة على زواج سعيد، ونفسه عرضةٌ لعذاب خفيِّ وَخيزبانُ في عزلةٍ عنه. وانقضى الشتاء، فعادت الحياة الى الأرض، ولبست الهضاب من زهر الخزام رداء أزرق فواحًا، وأقبل الربيع في موكب من الأزهار كأن يدًا سحريةً جاءت به بين ليلة وضحاها، ورقّ الهواء وأصبحت الشمس تُرسل أشعتها المنعشةَ من الصباح الى المساء لا تحجبها غيمةٌ، فخرج القرويون الى الحقول يسوقون مواشِيَهُم ويتركونها ترعى "الربيع" ، وكان سعيد في جملة الخارجين.

هل كان سعيد يقصد الى مكانٍ معين من البرية حين ترك المنزل في الصباح؟ لو سألت سعيدًا نفسه لما استطاع الجواب، ولكنه خرج فقادته رجلاه الى السنديانة التي كان يقوم فيها عرزاله، فوقف مبهوتًا حائرًا أمام "أطلال" العرزال. ما أقوى هذا الشتاء الذي مرّ عليه! لقد عَبِثَ الشتاء بجدران العرزال، وكسرت الريحُ أحد أغصان السنديانة، وهو الغصن الذي كان يخشى عليه سعيد لأنه ضعيف. لقد بدا هذا العرزال كهيكلٍ عظميِّ بعد أن جرّدته العواصف من أوراقه، ولكن الفتى لم يتردد، ولم يتوانَ، بل أخذ من وسطه فأسَهُ، وراح يقطع ويبني، حتى إذا مالت الشمس الى المغيب كان كل شيء في مكانه إلا الفراش. ولكن ما لسعيد وللفراش، فالألواحُ الخشبية لا تزال على حالها، وقد امتصت شمس أذار الرطوبة التي كانت عالقة بها. وهذه الألواح تفضل في نظره كل فراش حُشي بالقطن أو بالصوف.


*118*

هذا هو الليل! ليل هادئ عميق لا يسمع فيه من حين الى حين إلا عواء بنات آوى، أو هدير سيارة مسرعة في طريق الدير، وقد جثم سعيد على باب عرزاله وهو ينظر الى الليل يلف الكائنات لفًا بردائه الأزرق، متماهلا في السفوح حتى يبلغ الهضاب فيمتصها امتصاصًا، ولا يبقى في نظر سعيد من الجبال إلا أرزة عالية ضخمة، في جبل الباروك، توكأت على السماء بأغصانها السوداء. ثم ها هي القرى والمزارع المنتشرة هنا وهناك تغرق، بدورها، في العتمة. ويظل الليل يتسلق الجبال حتى يصل الى القمة فيتنفس. ثم تصفع وجه سعيد هبَّة باردة من نسيم الجبل فينتبه، ويرى نفسه جالسًا على باب العرزال، والظلمة محدقة به، فيقوم، دون أن يفكر، ويدخل العرزال كأنه مسيّر بقوة خفية، ويحس لأول مرة منذ شهور، أَنه يأوي الى بيته!

خليل تقي الدين عشر قصص من صميم الحياة، بيروت 1969، ص 13-27

معلم القرية يوسف نويهض


*118*

فتحت صندوقًا خشبيًا مُطَّعمًا من صنع الشام، لأبي بعد أن توفاه الله، كان مَوْدِعًا للأوراق والأمانات والوصايا، وأخذت أنقّب فيه عن "حجة" ضائعة، فتصفحت، جميع الصكوك والسندات، فوجدت أن العتيقَ منها، وهو يُرْبي على الثلاثين، مسطورٌ بخط واحد وممهور بتوقيع واحد، خط وتوقيع كاتبة، المعروفَ بإسم الشيخ "علي تقي". وقد انتقل الى رحمة الله، منذ أكثر من مئة وعشرين عاما، فتعجبت من ذلك وأقفلت الصندوق، دون أن ألقَى فيه ضالتي المنشودة.


*119*

وفيما أنا مشغول بالتأمل والتفكير، قُرِعَ الباب، فدخل عليَّ أحد جيراننا وهو طاعن في السن، متوكيء على عصاه، القوية، حاني الظهر، إذ جاوز التسعين، فأطلعته على ما رأيت وعمّا يجول في ذهني، وأخبرته عن الأوراق التي كادت تتأكَّلُها السنون، فتهلل وجهه وعلته الابتسامة المعونة، وهز رأسه المعمم بعمة بيضاء ناصعة تشبه عمائم براهمة الهند، واضطربت لحيته الممشطة، التي تضفي عليه وقارًا وهيبةً، وقال: "اسمع. لا تعجبْ يا بني مما رأيت. ففي هاتيك الأيام لم يكن أحدٌ من أهالي قريتنا يعرف القراءة والكتابة، إلا الشيخُ "عليٍ" الذي ذكرتَه لي، وأنا أعرفه شيخًا وقورًا ذا بدلة نظيفة "يشك" في زنّاره العريض دواة صفراء طويلة مزوّدةً بالحبر الأسود وأقلام الغزار (1)، كان مشهورًا، عند جميع الناس من أبناء القرية ومن جميع القرى المجاورة يقصدونه ليكتب لهم "حجة" بيع أو شراءِ أرضٍ أو يقرأَ رسالة آتية من مُهاجِر، أو يكتب جوابًا لعزيز عليهم، وعندما كنت ما أزال فتىً، ألعب مع رفاقي من أبناء الضيعة، في الأزَّقة، عرفت من أبي أن شيوخ القرية وعُقَّالَها التأَمُوا ذات مساء وأخذوا يتداولون فيما بينهم في مشكلة الأميّةِ السائدة والجهل المُطْبِقِ بين الجميع ويفكرون في مستقبل أبنائهم، فِلَذِ أكبادِهم، وَقَرَّ رأيُهُمْ على أن يُفتشوا عن معلم يعلمهم " فك الاسم " وبحملُ عنهم بعض العبءِ المُلْقَى على عواتقهم في تربية هؤلاء الصغار الذين يغادرون بيت أهلهم في الصباح و "يدشرون" طوال النهار، فلا يؤوبون إليها إلا عندما يَعُضُّهم نابُ الجوعِ أو تضغطُ عليهم جيوشُ العتمة.

تجمّعوا في غد اليوم التالي، في الساحة، وذهبوا الى بيت وَجيهٍ في قريتهم يسمى "جهحاه" وأخذوا يَكيلون له أكيال المديح ويسُّمونه بالخُلْقِ العالي والعلم الوفير وأَطلعوه على سبب زيارتهم الْمُبَكِّرةِ وتوسلوا إليه أن يتخلى عن شغل الحقل المتعبِ ويرضى أن يعمل معلمًا لأولاد الضيعة، الذكور طبعا، فيوفر لنفه أسباب العيش الْمُريح. فالتفت إليهم، بعد أن رحَّب بهم ونقَّلهم زبيبًا وتينًا مبعوجًا وناشفًا و


*120*

"قضامة"، وقد انتفخت أوداجه وعلت وجنتيه حمرة التأثر والانفعال بهذه الثقة الغالية التي وضعها فيه وجهاء القرية وكبارها، وأخذ يرمقهم بنظرات تَنُمُّ عن كِبَرٍ في عين نفسه وأيقن بأنه شخصيةٌ بارزة، لم يكن الأهالي يقدّرونها حقّ قدرها من قبل، وبعد أن حكّ فودَيْه وتروى في الأمر قال للوفد بصوت جهوري: إني لن أخيّب أملكم فِيَّ ولن أُسفِّهَ طلبكم الغالي، لقد وافقت على أن أكون معلمًا لصبيان القرية.

غادروا بيته المتواضع مغتبطين بذلك الانتصار الباهر، وانتشر الخبر بسرعة البرق وابيضّت وجوهُ الأمهات وفرحن فرحًا شديدًا لأنهن سوف يتخلصن من أبنائهن في أثناء النهار، ويوفّرن على أنفسهن بعض العناء في غسل ثياب صبيانهن الذين، كثيرًا ما يتمرغون (2) بها في وحول الزواريب وتراب الحقول، أمّا الأولاد فاختلف وضعهم إذ أن الخبر وقع في نفوسهم وأخذوا يخوّفون بعضُهم بعضًا ويصوّرون الكُتّاب كأنه سجن، سوف يحرمهم لذة المتعة واللَّعِبِ في البراري وركوب حمير القرية وتسلُّق الأشجار المثمرة، لسرقة فاكهتها، ومطاردة العصافير واصطيادها "بالنقّيفة" أو التقاطها بقضبان الدبق.

وفي المساء، عندما عُدْتُ الى البيت بعد نهارٍ حافلٍ باللعب والشقاوةِ، أوقفني أَبي على لْلخَبَرِ وشجَّعَني على الذَّهاب الى مدرسةِ المعلم "جهجاه"، بعد ثلاثةِ أيام. أما أنا فتقطَّب جبيني وتقوَّس حاجباي واكفهرَّ لونُ وجهي، كما حصل تمامًا لأكثرِ الشياطين رفاقي، وأخذتُ أتمتم وأتأفَّفُ، فرأتْ أمي علامات الحزن مرتسمةً في عيني فزجرتني ووبختني وتوعدتني، وكادت تنهال علّى بالضرب وتشبعُني صفعا بكفيها الخشنتين، فخفتُ سوء العاقبة وسكتُّ وذهبت الى الفراش، وأنا حزين متألم كثيب النفس سيءُ الحال، فوضعت رأسي على وسادتي وتغطيت باللحاف وأخذت أجهش بالبكاء، بحيث لا يسمعني أبي أو أمي.

وفي اليوم المعيّن لدخول "الكُتّاب"، أيقظتني أمي باكرًا وعلقت في رقبتي "حَمَّالا" كانت قد صنعته لي خِصّيصا، من قماش الخام الملون، فيه لوح خشبيِّ


*121*

مأخوذٍ من شجر الصنوبر ومدهون باللون الأسود. وكان أبي، بعصاه الطويلة وقامته ولحيته البيضاء المدورة، ينتظرني في الدار أمام الباب، فمشى بخطىً كبيرةً وجريت وراءه، أهرول، فرآني بعضُ رفاقي فاخذوا يتغامزون ويهزأون بي كالشامتين، وكأنهم ناجون مما أنا واقع فيه، فلم أجرؤ على التطلع إليهم وخفضت رأسي، خوفاً من أبي، ولم أبال بما فاهوا به من قول مبهم، ووصلنا الى مدرسة معلمنا "جهجاه"، حيث أمسكني أبي بيدي وأدخلني الصفَّ، ويا للصفَّ وكان قد سبقني إليه بعض الحبيان، بمتولي على فالهلع وكاد قلبي ينخلع من مكانه، عندما شاهدت المعلم متر بما في أرض الغرفة الوحيدة المؤلف منها الغاب، على جلد من جلود الخراف، يمد ظهره الى عمود في وطو إناءه الأولاد جالسون متربعين مثله على حصيرة بقاعية خشنة (3).

نهض المعلم احتراماً لأبي وأجلسني بجانب الأولاد، فقال له أبي مؤانساً: رجائي منك أن تعلّم ابني وتربية تربية حسنةً، وأنا لن أعارضك في الأسلوب الذي تراه ملائماً لذلك. إن ابني صعب المراس شقيَّ، وإياك أن تتهاون معه "فلحمة لك وعظمهُ لي "ثم ودَّعه وانصرف، وبقيت أنا ورفاقي صامتين خاشعين لا نجرؤ حتى على الحركة، أو إدارة الرؤوس، منتظرين مجئ أولاد آخرين حتى يكتمل العدد المتوقع أن يكون بين العشرة والدزينة، وعندما بلغ الظل حدا معروفاً من "برطاش" الباب، أي عند الظهر، انصرفنا، كلٌ الى بيت أهله دون أن نتعلم شيئاً، وعدنا بعد الظهر، فأخذ معلمنا، ذو القلنسوة المعصَّبةِ بقماشة قاتمة، يعلّمنا الحروف الأبجديَّة بصوت عالٍ مُنغَّمٍ، يلفظه ونحن نردَّده بعده، كأننا جوقة موسيقية، وإني لم أزل أحفظ ما علق بذاكرتي من تلك الأبجديّة:

أبجد: ألف همزة قطعة نصبية أبزمب جنصب ج، أدز مد أبجد.

هون: هنصب ه أوزمو أزمز، هون.

حطي: حرفع ح أطش خفضطي أبزمي حطي.


*122*

كلمن: كنصب ك لنصب ل مرفع م أتز من كلمن.

سعفص: سنصب س عنصب ع فنصب ف أصص مص، سعفص. قرشت ت قرفع ق أرش مر أشش مش أتزمت، قرشت.

ثخذ: ثنصب ث خنصب خ أذذ مذ ثخذ.

ضظغ: ضنصب ض، طنصب ظ أغز مع ضظغ.

غير أني كنت أحفظ ما ألقنه، أنا ورفاقي، كالببغاوات لا نفقه منه شيئاً، ويقينا على هذه الوتيرة نتعلم أكثر من شهرين، بدأنا في النهاية نرسم الحروف على الألواح السود، بأقلام الغزار والمقصوصة من غياض (4) القرية، وبالجبر المأخوذ من محلول الدلغان "الصلصال"، ذي اللون الأصفر الغامق. وما كدنا نتقن قراءة الحروف وكتابتها و "فك الاسم"، حتى فاجأنا العلم "جهحاه" بأسلوب جديد في تكميل علمنا، إذ أخذ يحفظنا عن ظهر قلب، قصيدة ابن الفارض المستهلة بهذا البيت:

سائق الأظعان يطوي البيد طيْ

مُنْعَماً، عَرَّجْ على كُثبان طيْ

فكنا في تعليمه الجديد كالطرشان في زفّة العروس، نتعلّم الغازاً، فاستولى علينا القنوط، وكنا قد ألفنا المعلم وقلت هيبته في نفوسنا، فأخذنا في المزاح معه والتلهيّ بأن "يلكز" واحذنا الآخر، فصار يتأفف منا وشكا سوء سلوكنا واستاء منه، وكانت تستولي عليه أحيانا نوبات عصبية يضيع فيها إرادته، فيمطرنا بوابل من الشتائم والألفاظ النابية، من جراء غيظه، فيزيدنا ازدراء به وتهكماً عليه وعصيانا له واستهتاراً، حتى أن أبجديه باتت لا تسمع لكثرة اللغط والضجيج والهمس والوشوشة، وخيل لمن يدخل الغرفة "الكتاب"، أنها قفير زنابير، لا قفير نحل، فعيل صبر مربينا ومدرسينا، وبين عشية وضحاها انقلبت خطة المشوبة ببعض الرحمة والرفق، الى خطةٍ كلها قوة وإرهاق، انتقاما لنفسه من ساديتنا الخبيثة، فانتقى من بيننا عدداً، ممن يكبروننا سناً، وتواطأ وإياهم على تأديبنا بوسائل العنف والإرهاب.


*123*

في ذات نهار وصلنا الى الكتّاب وتربعنا على الجلود والحصيرة، فحانت منا التفاته الى حزمة من قضبان الرُّمان والسنديان والدفلى المتينة والمتفاوتة في الطول والثخن، قد جمعها له رفاقنا الضالعون 5 معه في التآمر علينا، فإذا ما نبس 6 أحدنا ببنتِ شفةٍ ضربه بالقضيب الملائم ضرباً مبرّحاً، فالجالس في المكان البعيد يتناوله بالعصا اللينة الطويلة، والقاعد بالقرب منه، يؤدبه بالقضيب القصير، فتملَّكَنا الفزع وارتعدتْ من هذا النهج فرائصنا 7.. ونفرنا من مربّينا وتضاعفت روح ثورتنا عليه وكراهيَّتُنَا له وفكرنا في الأنتقام منه، فلجأ الى أُسلوب جديد آخر مرعب، إذ أتانا بالفلق، والعياذ بالله من الفلق ومن شر ما خل * وما أدراك ما الفلق * عصا ثخينة مقوّسة، من السنديان أو الملول ربط سيته 8 حبل جيدّ الفتل مكين. فإذا عصا أحد الصبيان أمره وارتكب عملاً ما قام إليه يساعده الرفاق الخائنون، في نظرنا، فيوثق يديه ويطرحه على ظهره أرضاً ويدخل رجليه في "الفلق" ويشد الحبل أو بالأحرى يفتله بالعصا فتلا أفقياً محكماً، حتى لا يستطع الحراك، وعندئذٍ يقبض صَبِيَّان على طرفيِ الفلق ويُمسك المعلم "جهجاه" بقضيبه المتين أو. بمقرعته 9 ويأخذ في جَلْدِ باطن رجلَيه، بكل قوته، حتى يوشك الدم أن ينفجر من أخمصيه، وتكاد روحه تُزهق وتنهدَّ قواه، حينذاك يفك الفلق ويبقى الصبي على الأرض يصيح ويئن ويسود الكِّتابُ صمت رهيب وتخمد أنفاسُ الصبيان الناظرين شزرا الى مؤدبهم ومعلمهم!

هكذا تمكن المعلم "جهحاه" من إسكاتنا وإعادتنا الى الطاعة والخضوع، لكنَّ أكثر الصبيان نفروا من "الكتاب" وصاروا يهربون منه إلى البراري ويتوارَوْنَ في الأدغال والكهوف المجاورة للقرية، خوفاً من آبائهم وتخلصاً من ذلك الذي بدا لهم كغول فاتح فاه ليأكلهم، ومن الفلق• وفي أحد الأيام سأل المعلم عن الصبي "سليم" فقيل له إنه هرب الى الحقل وهو مختبئ في إحدى المغاور، فجاء المعلم على رأس شرذمة من. لصبيان وطاردوا الفارَّ الشقي وآبْوا به مكبَّلَ اليدين الى المدرسة "الزنزان"، وكان جزاؤه، حصاتين خشنتين، وضعهما على شحمة أذنه اليمنى ثم على أذنه


*124*

اليسرى، وأخذ يضغط عليهما، بين إبهامه وسبّابته القويتين، والولد يصيح صياحَ الثكلى، حتى يكاد أن يغمى عليه، ثم يأمره بطلب المسامحة فيفعل ويُجلسه في مكانه مع المرددين: سائق الأظعان! أو ألف همزة قطعة نصبية!

كانت غرفة الكتّاب الوحيدةَ في الطابق الثاني، وكان تحتها متبن للمواشي سقفُه مؤلف من الخشب والتراب، فعزمنا على الْانتقام، لذلك فتحنا فوهة او كوة في مكان جلوس المؤدِّب "جهجاه" وسقفناها بالغزار الرفيع ووضعنا فقوقها الجلد الوسيع الذي يجلس عليه المعلم متربعاً. كان ذلك في المساء بعد الإنصراف من المدرسة. وفي اليوم التالي بكرنا في المجئ وتربعنا في أماكننا، وعندما دخل المعلم سُرَّ من سكوننا غير المعتاد وشكر الفلق المعلق على الحائط لأنه كان مؤدبنا الأكبر، واقترب من مقعدة، وكلنا عيون شاخصة الى وَجهِهِ المجعَّد وعمامته الداكنة وسرواله المنتفخ الذي يكنس به التراب، وكانت قلوبنا تَجِفُ إنما مملوءةٌ بأمل الظفر القريب والنجاة من "الكتّاب" وصاحب "الفلق". وما داست قدماه مقعدَةُ الوطئَ، حتى هبط سريعة سمعنا صداها واختفى عن انظارنا وعلا من الكوة غبار ملأ سماء الغرفةَ، وسادتْ الهرجة وارتفعت الضجة وصياح الصبيان الموالين للمعلم صياح النجدة والغوث، واما مدبرو المؤامرة فهرولوا نحو الباب وأسلموا سيقانهم للريح وولوا هاربين وانتشروا في حقول القرية وبقوا فيها الى حين هجوم الظلام، ففتش عنهم أهلوهم وأعادوهم الى بيوتهم واجمين متألمين، تتقاذفهم تيارات الشفقة والعطف الأبوي، من جهة، والقسوة والعقاب اللازم من جهة أخرى، حائرين لا يدرون، تماما، ما يمكن أن يصنعوه بفلذات أكبادهم.

وسمع الجيران طرحَ الصوت فهبوا وهرعوا لنجدة المعلم "جهحاه" المتمرغ 10 في المتبن المعتم. ولما لم يجدوا مفتاح "المراح" خلعوا الباب فخرج المؤدِّب يجر أذيال الإخفاق في المهمة الشريفة الموكولة إليه، والتبن والغبار مالئان أذنيه وريشَ عينيه وحاجبيه وجيوبه فهنأه ناجدوه على النحاة، فلم يردّ عليهم ولم يفه بأية كلمة، إنما


*125*

ذهب الى بيته واتخذ قراراً بلّغه أهالي القرية، بإقفال "الكتاب" الى أجل غير مسمى،

فطارت قلوب الصبيان فرحاً، وعدنا الى سيرتنا الماضية بعد أن ودعنا مدرسة المعلم "جهحاه"، ولم نقتبس منها سوى أبجد هوز حطي كلمن وسائق الأظعان. وظلت القرية مدة طويلة بعد إقفال هذا "الكتَّاب" لا نجد فيها من يفك الاسم ويحسن قراءة الحروف إلا المعلم "جهجاه" وقبله الشيخ "علي"، صاحب الدواة النحاسية.

(الضحى - بيروت - شباط 1973 ص 41-45

الشرح:

(1) (الغزّار): نبات من دقاق القصب كانوا يصنعون منه أقلاما للكتابة وسياحات للبساتين.

(2) (تمرغ في الوحل): تقلب فيه (3) (بقاعة): من صنع أهل البقاع. (4) (غياض): بساتين. (5) (الضالعون): المغروثون. (الضالع): الجائر. (6) (نبس): تكلم، تحركت شفتاه بشيء. (7) (فرائص): جمع فريصة، هي لحمة بين الثديين ترتعد عند الخوف.

(8)(سيته): طرف القوس المنحني، ويقال للسية العليا يد القوس وللفلى رجلها. (9) (المقرعه): السوط. (10) (المتمرغ): الملطخ.

هدية أميّ


*125*

كنت أُسَرِّحُ شعري، وأدندن بأغنية لطيفة، عندما قرع حرس الباب وأسرعت الخادمة تقول لي: القادم جارتنا "أمُّ سامر". لقد أدخلتها"الصالون".

ولم أكمل تسريح شعري. فليس بيننا وبين جارتنا أم سامر "كُلفة". إني أحبّ هذه السيدة كثيراً. أراها امرأة فاضلة على درجة كبيرة من الْق والاتزان. ودخلت الصالون، ووجهي يَهِل بِشْراً، وأنا أرحب بها أشد ترحيب. وفجأة زممت شفتي، ونظرت إليها بدهشة، عندما لمحت دموعاً تترقرق في مقلتيها، وكآبة يائسة ترتسم على جبينها....


*126*

قلت باستغراب: عمه أمّ سامر!، ما بك؟!. أراك تبكين؟!. ردّت بأسى: أجل يا ابنتي.إ ني أبكي .. أين والدتك يا "سلوى"؟.

- لقد ذهبت هذا الصباح مع والدي الى "الريف"، في زيارة "لبيت جدي"، تستغرق أسبوعا.

- أوه! ..هكذا إذن؟! .. وتراخت على المقعد في إعياء". قلت: كانت تود إخبارك بأمر غيابها ووالدي عن المنزل، لتوصيَك بي، لأنني وحدي هنا مع الخادمة، ولكنها طرقت بابك كثيرًا، ولم تسمع جوابًا.

- حقًا .. حقًا. هو كذلك .. لقد تركت وأولادي المنزل في منتصف ليل أمس الى المستشفى.

- المستشفى؟؟!!. خيرًا يا " عمّه "، ماذا حدث؟؟!!.

- اوه!. إني أكاد أختنق. لم أشعر في يوم سابق بالأسى واليأس ولألم كما أشعره الآن. ابني "سامر".

- سامر؟!. ماذا به سامر؟ ماذا حدث له؟!.

- لقد أصابته "نوبة" في الليل، نقلناه على إِثْرِها الى المستشفى، ولم يحكم الأطباء

عليها بعد، إن كان سببها علة في القلب أم غير ذلك، ولكن يلزمني الآن مبلغ "ألف ليرة" بدل فحوصات وعلاج وما الى ذلك، والمبلغُ المتأخر لا أعلم كم متكون قيمته. أود استدانة هذا المبلغ من والدتك. من أين أستدين الآن؟!. لم أطرق من قبل باب أحد . "وهزت رأسها بعنف وهي تقول": أكاد أضيع!. إني أقاسي المرَّ هذه الفترةَ. مصنع زوجي كاد يشرق على الإفلاس. ابني سامر وهو الوحيد من أولادي الذي ينتج، والذي كان ينوي الزواج هذا العام، قَدَّم كلَّ المبلغ الذي ادخره لوالده. وأنا يعت كل ممتلكاتي ومجوهراتي، وتعاوَّنا جميعًا من أجل حفظ المصنع من الإفلاسِ. والآن وفي هذا الوقت بالذات، لا نمتلك ولو جزءًا صغيرًا من المبلغ


*127*

المطلوب مُقدَّمًا من أجل علاج سامر في المستشفى. يا رب ما العمل؟!. لو أن والده هنا، على الأقل، كان تدبر معي الأمر!.

- العمّ" أبو سامر" ليس هنا؟!..

- لا.. لقد سافر صباح البارحة في شغل خارج المدينة .

وجلستُ واجمة لبضع لحظات أفكر.. هناك إنسان محلق بين الموت والحياه.

أين الرحمة في القلوب. هل من المفروض الدفع مقدما لإنقاذ حياة إنسان؟!. ولماذا كل هذا الغلاء في المعالجة، والطب مهنة إنسانية؟!. لماذا بات البعض من الأطباء يسيرون بها نحو اللاإنسانية والمادية؟!. الأطباء، وصانعو الدواء ملائكة الرحمة، لماذا بات بعضهم ملوكَ الجشع؟! ..

وقضمت أصابعي، وأنا أنظر الى السيدة المسكينة التي تحترق أمامي ألمًا. أنا لا أملك المبلغ المطلوب. كيف بإمكاني مساعدة هذه المرأة؟!.

وخطت أم سامر نحو الباب، وهي تتنهد قائلة: وداعًا يا ابنتي سلوى. يؤسفني أني لن أتمكن من أن أكون قُربَك في غيبة والديك، لأني سأظل في المستشفى بالقرب من سامر، ولكنك صبية ناضجة ولا خوف عليك.. وداعًا.. لا أدري الى من سأذهب، وأستدين منه المبلغ؟.

أمسكت بيدها وأنا أقول: الى أين يا "عمّه" ؟! .. أنا سأعطيك المبلغ.. قالت بدهشة: أنت؟!.. من أين لك هذا المبلغُ الكبير؟!..

- لا عليك!.. إنيّ أجمعه منذ زمن، ولكنه ليس معي الآن.. أعطني عنوان المستشفى.. سآتيك به الى هناك حالًا إن شاء الله...

وضحكتُ ساخرةً في سرّي.. أنا لم أجمع في يوم ما مالاً، ولا أمتلك غير مصروفي في غيبة والديّ.. ولكنَّ فكرةً كانت قد طرأت رأسي في اللحظة الأخيرة .. لدي "عقد" ذهبي.. إنه هدية غاليةٌ من والدتي الحبيبة، ولا أفرط بها مهما كان الثمن.. ولكن هناك إنسان سيموت إن لم يعالَج فورًا، ووالدتُهُ حائرة، تبحث عمن


*128*

تستدين منه المال، ومنظرُها الحزينُ يفتتُ الصخور.. سأبيع هذا "العقد" مهما كان غاليًا على قلبي.. قيمته هذه الأيامُ قد تبلغ "الخمسةَ آلاف ليرة". سأبيعه حالاً، وأرجو المعذرةَ منكِ يا أمي .. قد يصفونني بالتهوّر.. ولكن، ما قيمة المال إن لم نُسْعِدْ به الآخرين؟!.. هدية أمي لآن، أصبحت أثمن وأغلى، وستظل ذكراها الى الأبد، لأني استطعت بها إنقاذ حياة إنسان.. وإن لم يستفد من العلاج، على الأقل سيظل ضميري مرتاحًا، لأني لم أبخل عليه بقدرتي واستطاعتي.. وفي ظهيرة يوم، كنت وبعض زميلاتي في أحد "المطاعم" المرموقة بدعوة من زميلة، عندما جلست الى مائدة قبالتي وبالقرب منى، فتاة تبدو في العشرين. فيها مسحة لا بأس بها من الجمال، تدير عينيها هنا وهناك في وجوه الزبائن، وكأنها فتاة لعوب، وفجأة وقع بصري على عنقها!.. أوه!.. إنه مزين بعقد.. عقد أعرفه جيدًا.. والله أعرفه!.. إنه عقدي الذي بعته الى "الصائغ" الذي قال لي، لسر في كل السوق عِقْدٌ شبيهٌ بهذا العقد.. إنه قطعة فريدة.. ووجدتُ عينيَّ تتعلقان بِعُنُقِ الفتاة التي لاحظت نظراتي المعلقة بعنقها، فقالت لي فيما يشبه الهمس: أراك تنظرين إلي!..

قلت في شبه همس أيضًا: أجل .. أنظر الى عقدك.. إنه جميل.. من أين اشتريته؟!..

- إنه هدية..

- أريد شراء عقد يشبههُ، أتعرفين اسم المحل الذي باعه؟!..

- أجل.. من محل مشهور اسمه "الشمس"..

وقلت في نفسي أوه!.. إنه نفس المحل الذي بعته العقد...

ولا أدري.. لماذا أخذني الفضول، رغم أني لست فضولية، وعدت أسألها: ترى، هل هي والدتك التي أهدتك هذا العقد؟!..

ضحكت ساخرة وقالت: والدتي؟!.. إنه من صديقي..


*129*

- صديقك يستطيع شراء هذا العقد؟!.. يبدو أنَّ والده من الأثرياء!!..

ونظرت نحو باب المطعم قائلة: انظري.. إنه قادم.. هذا هو صديقي..

ونظرت.. وليتني لم أنظر.. إنه جارنا أبو سامر، زوج السيدة أم سامر!!.. التي ما زال ابنها في طور النَّقَاهة، ولم يشف من مرضِهِ بعد!.

وكدت أطلق صرخةَ دهشة، ولكنى لممت بعضي وأنا أقول لها: بالفعل. معك

حق.. صديقك هذا يستطيع شراء محل هذا العقد..

وغيَّرت مكاني بسرعة، وأدرت ظهري الى مائدة الفتاة، بحيث إن رآني جارنا أبو سامر يعتقد أني لم أره.. ولم تلبث إحدى زميلاتي أن قالت لي: هل تعلمين أن الفتاة التي كنت تتحدثين إليها، هي إحدى الغواني اللعوبات؟!.. لقد رأيتها مرة بصحبة هذا الرجل الخمسيني هنا في هذا المطعم بالذات، عندما كنت أتغدى مع أخي، وقال لي: إِنَّها غانية معروفة لكثير من الرجال.." وتابعت زميلتي تقول: انظري!..

يبدو أن الجو لم يعجب الرجل.. إنه يضع يده على كتفها وينسحبان من المطعم!.. وتألمت في سري المًا كبيرًا.. لقد عرفت كيف يُضَيِّعُ هذا الرجل أمواله، ويترك أسرته للشقاء!!..

جميله الفقيه مجموعة قصص، بيروت 1985


*130*

الشيخ سليم سلمان سود فلاح


*130*

قبل خمسين عاما نشبتْ أولى الحروب العالمية، وفيها اشتركت معظم شعوب الأرض، والشيخ سليم ما زال يذكر تلك الأيام وما جرى فيها جيدا.

وإذا سألته يحدثُك عن ابتدائها ومجراها حتى يوصلك الى اليوم الذي ابتدأ فيه حياته الجديدة.

ودون أن تسأله يتابع، وتجد نفسك ملزمًا بأن تستمع إليه... وحتى لو أنك لم تود الاستماع ولا تجد في حكاياه لذة، فلا تجرؤ على مقاطعته ولا تقبل لنفسك أن تُسكته وأنت تشعر أنه يعيش تلك الأيام التي يحدثك عنها: وأن كل ما فيه يتجاوب مع اللحظات التي يتحدث عنها. فعيناه تُبرقان وشفتاه تتحركان ويداه تؤشران ورأسه يتمايل ونبضُه يزداد سرعة، وتنظر إليه فإذا به يكاد لا يراك وهو يتحدث فكأنه يخاطب نفسه سواء لديه استمعت أم لم تسمع فهذه ذكريات يستعيدها ولحظات يحياها اليوم كما عاشها قبل خمسين عاما.

والشيخ سليم اليوم أميركي. أميركي بكل ما لهذا التعبير من معني. بيته أميركي وامرأته أميركية، وأولادُهُ أميركيون. وشيء واحد ما زال يميزه عن الأميركيين وهو اللقب الذي يسبق اسمه، فالكل يعرفونه باسم - شيخ سليم - وكأنَّه لفظة الشيخ أصبحت جزءًا لا يتجزأ من اسمه، وهو يدعى بهذا اللقب بحق وحقيق، فآله آل مشايخ وبيته القديم هت مشايخ. وقبل خمسين عامًا أتى الى هذه الديار، لا لأنه طلب الرزق والمال والجاه. فهذه كلها متوفرة لديه ولم يعتقد أن باستطاعته الحصول على أكثر مما ورثه عن آبائه من الحرب. فهو إنسان نشأ في العز والجاه وفي جو عائلي سليم.. ولا يستطع أن بتصور نفسه حاملاً السلاح، محاولاً قتل النفس التي خلقها الله.


*131*

ولما أتى الجنود الأتراك في طلبه وأصروا على تجنيده حاول والدُه الشيخ نايف إعفاهء ودفع ما يطلبه الأتراك من المال ولما فشلت جميع هذه محاولات قرر سليم أن يختبئ ريثما يعود الجنود الى مقرهم. وفي اليوم التالي وجد نفسه في الميناء على باخرة فرنسية تنقله الى العالم الجديد، الى أميركا.

كان هذا في بداية الحرب العالمية الأولى وما زال سليم يذكر أيدي المودعين تلوح له من بعيد. وما زال وجه أمه الحنون يرتسم أمام ناظريه كلما تذكر تلك اللحظة، وتنظر إليه والدمع ينحبس في مقلتيه.. وذكرى تلك اللحظة الأليمة لا تفارقه؛ وتصغي الى حديثه فتعرف أنه أتى لهذه البلاد، لا ليبقى بل ليعود.. أتى إليها لا طلبا للرزق بل هرباً من الحرب.. أتى ليقضي سنوات الحرب ثم يعود بعدها سالماً الى حضن أمه وبيت أبيه.. وقد انتظراه طويلاً، وهو الذي كانت مشيخة عائلته تنتظره.. ولكن القدر أراد ما لم يرده سليم.. فبعد بضعة أشهر من وصوله الى الولايات المتحدة تعرف على فتاة أميركية فأخرجته من غزلته وقضت على وحدته فعاش معها بضعة أسابيع معيدة أنسته حرج أمه الحنون وأيدي مودعيه الملوحة، وأنسته عباءة المشيخة التي تنتظره.

ثم لم يلبث أن وجد نفسه يتأبط ذراع هذه الفتاة أينما ذهب. وبعد أشهر تزوجا.. وكانت زوجته. آن فتاة جميلة رشيقة أديبة ومهذبه.. وقبل الزواج كان سليم يتفجر حيوية وشباباً وبعد الزواج لم تعرف الكثير عنه سوى أنه درزي وأنه من يبت مشايخ، وأنه هرب من الحرب، وأن عائلته تعلق عليه الآمال الجسام.

ولكن ما لآن، ولمعرفة كل هذه الأمور، درزي ومشايخ وحرب وعائلة وآمال هذا لا تفهمه ولا يجد صدى في نفسها. وما يهمها من كل هذا، ما زال زوجها يرضيها ويمال إعجابها؟


*132*

أما الشيخ سليم فبعد أن قضى بضع سنوات، ذاق فيها طعم الحب والجمال، أصبحت حياته اعتيادية وبدأ الروتين يعتريها، ورغم أنه بقي גجب آن حباً عجيباً، إلا أنه راح يفكر في مصيره ومستقبله.. وبدأ يستعد ذكرى أيام طفولته وشبابه، وذكرى عيشه في كنف عائلته، وبدأ بحس بالحنين يدفعه الى العودة الى بيته وبلده ووطنه.. وكاد يقرر العودة.. ولكنه سرعان ما تذكر أنه متزوج من امرأة غير درزية.. وليس هذا فحسب، بل أن له ابنة عمرها خمس سنوات.

واستفاق من تفكره على صوت - نلي - تناديه دادي، التفت إليها والإبتسامة على محياه، فهى تناديه، دادي، ولا تعرف لفظة، بابا، حتى اسمه يصعب عليها لفظه. وتعلمت من أمها أن تلفظه، سام، على سبيل التخفيف والتحبب والتأمرك.. إذن ابنته هذه لا تتكلم العربية، وبالطبع لا يمكن أن تعيش في محيطه وقريته وبلاده.

منذ ذلك الحين أخذت الأفكار تتشابك في رأس سليم، وأصبح يؤكد أنه شيخ وأصبح يعتز بأنه درزي، وأصبح يحرق قلبه الشوق والحنين وكل ما كان يشغله من تفكير هو كيف يعود الى بلده وكيف يرى تلك الوجوه التي ودعته على أمل استقباله بعد انتهاء الحرب.

ولكن الحرب انتهت ومضت سنوات على انتهائها، والرسائل ترده بالعشرات والكل يدعوه الى العودة ويؤكد له أن أمه تتحرق شوقاً.. وأن أباه يكاد يفقد قواه، وأن العباءة تنتظره. ولكن أنَّى له أن يعود، فهو متزوج، ولو عرف أهله أنه متزوج لانقطعوا عن مراسلته ولفقدوا الثقة في أغلى ما عندهم..

وهو يخشى أن يجرهم بالأمر وأن يسد في وجوههم باب الأمل. فهم يأملون ويأملون، ولعل في الأمل بعض العزاء لنفوسهم. وبقي هو يفكر في ما جرى له، وبقي أهله يأملون، وهو يطمئنهم، الى أن أتاه الخبر الذي كاد يفقده صوابه.


*133*

والداه توفيا.. توفيا دون أن يراهما ودون أن يرياه.. توفيا ونيران الشوق تتأجج في صدريهما.. توفيا أسفا على المصير المشؤوم والقدر الذي اختطف ابنهما، مهجة نفسيهما وأعز ما لديهما... توفيا وهو هنا لا يستطع أن يراهما وأن يسافر إليهما.. وكانت لحظة مشؤومة تللك التي سمع فيها الخبر، لحظة كاد نزاعه الداخلي فيها، يفقده صوابه.

أيبقى مع زوجته وابتته ويترك والديه، أم يترك زوجته وابنته ليذهب الى بلده؟

وفي تلك اللحظة كادت تغمره مشاعر الحنين وتعلو وتغطي على مشاعر الحب لزوجته وابنته.. ولأول مرة بدت له هاتان النفسان البريئتان، وكأنهما تحولان دون تحقيق رغبته، ودون العودة الى أهله ووطنه.

استغفر الله، أيبغضهما؟ وما ذنبهما وهما لا تعرفان شيئاً عن كل ذلك.... ما ذنبهما، وهما لا تمنعانه من عمل أي شيء، حتى ولا من العودة الى وطنه.

وهو، هو المسؤول، فهو كان يعرف أنه لا يمكن أن يعود ومعه آن ونلي، ولا يستطع أن يتركهما وهو يحبهما بكل جوارحه.

وهدأ الشيخ سليم وفكر بدراية.. ما الفائدة الأن، فوالداه قد توفيا، ولن يراهما بعد وليس ثمة ما يدفعه الى العودة.

كل شيء انتهى ومصيره تقرر، فهو سيبقى هنا كما قدر الله فهو له. وسيبقى أيامه الباقية في أميركا بعيداً عن وطنه، بعيدا عن أهله، وبعيدا، عن أغلى ما لديه.

وبقي وشعور الحنو والغيرة نحو بلده لا يفارقه.. ورغم أنه يبرع بسخاء لكل مشروع يعود بالنفع على بني قومه ووطنه، ألا أنه يحمل نفسه دائماً مسؤولية فقد والديه.

ورغم سعادته وحبه لزوجته وابنته، إلا أن كثيراً ما يعكر هذا الشعور صفو الجو الذي يعيش فيه، وكثيرا ما تغطى عليه موجة الحنين والشوق، فينكمش على نفسه ويفر من أحب المخلوقات إليه.


*134*

ورغم هذا فهو بحب آن ومحب نلي، وهو مخلص لهما في حبه ولن يتركهما وقد بقي معهما طيلة هذه الأيام.

واليوم، والشيخ سليم يقارب السبعين يستعيد هذه الذكريات، كلها.. ويسعد لبعضها، وبحزن لبعضها الآخر: اللهم ذكرى واحدة تكاد تفقده صوابه كلما تذكرها، ذكرى فقدان أمه وأبيه دون أن يراهما.. وكلما استفاق من تفكيره في هذه الذكرى ينتعش ويعاوده التفكير في الأيام التي عاشها قبل أن يأتي في أيام شبابه، في ماضيه الأول الذي فيه يعيش...

(لقاء، عدد 3 أيار 1986 - صفحات 100-106)

القهوة الباردة


*139*

وقف سليم في عشية أحد الأيام مأخوذً بالأنوار الساطعة من محله الجديد، يكاد لا يصدق أن هذا الذي تقرأه عيناه على "الآرمة" العريضة المعلقة فوق العتبة، هو اسم الشيخ سليم".

وبأقل من لمح بصر، عادت مخيلتُهُ الى أيام طفولته، وقفز به خياله الى المآسي التي مرت به وبعائلته، وقف كالعملاق يستعرض ماضيه، وقد أسكره النصر ومنظر اسمه مشعشعاً بأنوار "النيون" الساطعة.

وقصة سليم.. هي قصة الطموح القروي الساذج، قصة العصامية التي وصلت الى تحقيق أهدافها بصمت وثبات. إنها مثل رائع لقوة النفس المقهورة التي أبت أن ترضخ لتقاليد مجتمع، فثارت بنبل، وحققت ما هو جدير بمستواها، ولم تختصر


*135*

دروب النجاح فتعتمد الأساليب الملتوية بل طرقت جنة الحياة ودخلتها محن أبوابها الطبيعية الواسعة.

كان ذلك في قرية صغيرة عن لبنان العالقة بين الأرض والسماء المستريحة على صخر يحيط بها شجر الزيتون والشربين، فيزيدها سحراً وجمالاً.

نشأ يم وترعرع في بيت من بيوتها الفقيرة، فأبوه "أجير" حكومي صغير يكاد معاشه لا يقيه ذلّ السؤال، إلا أنه كان كمعظم الفقراء ذا نفس كبيرة وخلق كريم، يخضع لواقعه يصبر ووداعة، ولا يلتفت الى الغد إلا بأمل باسم وقلب كبير... وكان يحسن الكتابة والقراءة... ومن يحسن الكتابة والقراءة يصبح "بوسطجي"، يحرر الرسائل لأبناء؛ القرية، ويقرأ تلك التي تردهم من أقربائهم في المهجر.

وكانت عائلة سليم تعود الى أمل متواضع في دنيا الأنساب، وفي القرى اللبنانية لا يزال بعض الذين تجنزرت عقولهم يصفون الناس، طبقات، عليا، ووسطى، ودنيا (عامة) فالإنسان بنظرهم له "رقم خاص"، ورتبة دائمة ثابتة لا تؤثر فيها محنة التغير. و "الشيخ" و "البيك" يقدمان القوم ويفسح لهما المجال لاحتلال مركزهما المرموق في التشريفات بصورة أوتوماتيكية.

وكان يحز في نفس سليم، وهو الفتى الموهوب، أن لا يقام لأبيه وزن بين العائلات التي تسمى بالعريقة.

كان يثور بصمت مستنكراً أن أهله يغرقون في البؤس أذلاء... وأن يكون هو بالنسمة لجنس طبقة المشايخ "الآريين" مصنفاً بين الطبقة الدنيا.

وعبثاً كان يحاول أن يجد سبباً معقولاً لتلك التفرقة "الطبقية" في ضيعته.. متسائلاً أوليس يرجع سكانها الى أصل واحد والى شجرة عائلية واحدة؟

وبعد، فمن هو الذي صنف الناس طبقات، وفي أي كتاب من كتب الدين أو العلم، ذكرت أوصاف مميزة لطبقة معينة من الناس؟


*136*

ألا يمكن أن تكون تلك التفرقة "الطبقية" من نوع السموم التي بخها الأجانب في مجتمعنا ليزيدوا في ضعفنا؟

وهل إن لغة المشايخ وسحنهم تختلف عن لغة أبناء العامة وسحنهم؟.

وسليم ابن الشعب الذي ينتمي الى الطبقة الدنيا، وابن الذي محسن القراءة والكتابة، هل قدر له أن يبقى "موشوما" بالرقم "٣" في حياة مجتمعه؟

وكم مرةً انتفض سليم لرؤية أبيه يشرب القهوة باردة "مصقعة" في المجتمعات لا لسبب إلا لأن ترتيبه في دنيا المقامات كان يأتي دائما في آخر السلسلة، فلا يصل لتناول فنجان القهوة إلا بعد أن تدور الصينية على جميع الحاضرين، فيضطر الى احتسائها باردة وهو المتقدم بالسن، والمتفوق بالذكاء والعلم.

يا لها من أنانية في التفكير كادت تقتل سليم.

وكان سليم وهو التلميذ المجتهد والمتفرق أن تختلف معاملة المعلم له عن معاملة أبناء المشايخ الذين كانوا دوماً يتمتعون بعناية خاصة، يراعي خاطرهم ولا يعنفون إذا ما أخطأوا، بينما هو لا يقال إلا بالتكسير "وزم" الشفاه.

ولشدّ ما كان يتحسر في ساحة المدرسة وفي وقت العصرونية عندما يرى بعض زملائه المحظوظين يفتحون "حمالاتهم" ويخرجون منها أطيب الحلوى وأشهى الطعام، يحملها إليهم الخيالة، في حين "جربنديته" تشكو الفراغ التام.

وفي المساء عندما يتصرف التلاميذ الى بيوتهم كان يرى أبناء الوجهاء يركبون حماراً او حصاناً، ويتبعهم "الخولي". أمّا هو فكان يضطر أن يقطع المسافة الطويلة الى بيته ممتطياً "ساقيه". لا يملك قرشا يشتري به مغلفاً من القضامي يسلّيه في وحشته.

ولا يصل الى منزله الحقير إلا بالعرق بينما يصل أبناء المشايخ الى منازلهم لا أثر للتعب عليهم، كخيل الإنكليز بعد المعركة.


*137*

ولا ينسى سليم عندما يمر في حارة المشايخ والأمراء أن يقدح بيوتها ينظره، ويهمس في سره: سأصل، سأصبح قريباً شيخاً. لكن بعرق جبيني.

وقد كان سليم في أول أمره لا يحفل بما يلقى من معاملة شاذة في ضيعته، لكن حادثة فريدة مؤلمة زادت نفسه حقدا، عندما صرف أبوه من الخدمة وعين مكانهررجل أمي من الحارة المحظوظة تحقيقا لرغبات متزعم طامع وتدعيما لنفوذه.

لقد أكدت هذه الحادثة لسليم أن قيمة الإنسان هي مقدار ما يمكن أن يُستفادَ من ماله أو وجاهته، "لقد منح سليم العقل ولكنه حرم الغنى والوجاهة واللقب".

فهل هذا عذر كاف ليغمط حقه في المجتمع؟

منذ تلك اللحظة صمم بإرادةٍ قوية وعزم شديد على الكفاح من أجل حياة أفضل، ليحتل مركزا أسمى يصبح بعده "شيخا "عن جدارة لا عن وراثة.

وفي تلك الليلة، دخل سليم بيته المتواضع، وقد هيأ أمراً وعزم عليه، فأخذته طمأنينة لا يعرفها أو يحس بها إلا ذوو النفوس الكبيرة، واستفاق في صباح اليوم التالي ليركب "البوسطة" الى العاصمة الفسيحة حيث يلقى بنفه في خضمها المجهول.

وبدأ سليم يعمل من أول السلم. فانضم الى أحد المطاعم الناجحة حيث أصبح "كرسونا يؤمن حياته بعرق جبينه.

ومضت أيام وشهور كان خلالها حركة دائمة لا تهدأ، يفكر بالمستقبل، باللقب العريض الذي لا بد أن يمتلكه.

سليم هات قهوة. سليم هات بوظة.

طيب!. اليوم سليم، ولكن غدا الشيخ سليم.

وكان نجم سليم قد بدأ يتألق، وأصبح قبلة أنظار الزبائن، وعمّت شهرته وغدا "قطب" المحل يتنقل بين طاولات رواد المطعم يوزع لطفه وابتساماته بعدل، حتى صار الكثيرون وخصوصاً الكثيرات، يقصدون المطعم من أجل سليم.


*138*

تحسنت حال سليم وازداد المال المدَّخر في كيسه. ولكن "عطشه " الروحيَّ لم يكن ليروية المال.

فذكريات نشأته التعيسة لم تفارق مخيلته.

إنه لن يقنع في وهاد الحياة، سوف "يتعشق" الى قمم الحياة ويحتل أرفعها.

وهكذا ترك عمله فجأة، وأسَّس مطعماً اشتد الإقبال عليه وأصبح رب عمل يعد أن كان مستخدما.

وأول شيء قام به أن وضع آرمة كتب عليها بحروف "بارزة" اسم الشيخ سليم هذا اللقب الذي يشهد على عصاميّته المستحقه.

وفي كل ليل يشعشع اسم "الشيخ سليم" في واجهة المطعم الجديد، يردّ التحدي لبعض القناديل التي ترسل نورها الباهت في حارة من حارات قرية سليم.

وفي كل مساء يدخل الشيخ سليم مطعمه الأنيق الكبير ويحتسي قهوته "حارة" فيحس معها أنَّ بؤس أيام طويلة، وأثقال أجيال قد انزاحت عن صدره. وإنه وهو يتأمل الاسم المعلّق على باب محله قد استعاد حقوق أبيه، وأجداده، ونفسهِ أيضاً.

من كتاب مقامات لبنانية منشورات المكتب التجاري - بيروت 1963 ص 188


*139*

الحكيم والسمكة


*139*

ميخائيل نعمة

يروى عن نشوان - تسو، الحكيم الصيني الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، أنه خرج يوما لصيد السمك في نهر من أنهار ولاية تشو. وإذ هو لاهٍ بالصيد اقبل عليه كبيران من كبراء الدولة، وباحتشام كلي أطلعاه على رغبة أمير البلاد. في إسناد منصب سام إليه، لأن البلاد في حاجة الى حكمته. فمضى الحكيم في صيده ومن غير أن يلتفت الى الرسولين أجاب:

"سمعت أن في قصر الأمير، على المذبح المكرس لتكريم الأسلاف، سلحفاة، مقدسة مضى على موتها ثلاثة آلاف سنة، وأن الأمير يُغالي في تقديسها فيحفظها محنطه في صندوقه من الذهب الأبريز. فما قولكم في تلك السلحفاة لو أنها خيرت اليوم ما بين أن تكون ميتة ومحطة في صندوقه من الذهب أو أن تكون حية تجرجر ذيلها في الأوحال، فأي الأمرين تختار؟

فأجابه الرسولان؛ إنها، من غير شك، تختار أن تكون حية تجرجر ذيلها في الأوحال. عندئذ صاح بهما تشوان تسو:

- اغربها عني، فأنا كذلك أختار أن أجرجر أذيالي في الأوحال".

هذه حكاية صغيرة ترويها الكتب عن حكيم كبير من بلاد أنجبت قافلة طويلة من أنبل الحكماء أمثال كونفوشيوس ولاوتسو ومنشيوس وكثير سواهم. والحكاية، كما ترون مبطنة عن مغاز كثيرة، أبرزها وأقربها الى التناول هو أن الحكمة تأبى القيود، وإن تكن من ذهب، وتؤثر عليها الحرية وإنْ تكنْ حرية السلحفاةِ في الأوحال. فالسياسة وما يلابسها من مداهنة ومواربة وزلفى، والسلطان وما يرافقه من غطرسة وتهويل، كل ذلك يتنافى مع ما تفرضه الحكمة من عزة النفش والاستقامة والصدق والدَّعَةِ والعطف على الضعيف قبل القوي.


*140*

ذاك أهم ما تؤديه الحكاية الى ذهن قارئها، وذاك ما رمى إليه الحكيم الصيني بجوابه الجاف الحاسم. ولكن خيالي أبى عليَّ الوقوف عند ذاك الحد. فقد شاقه أن يتخيل تشوان تسو من بعد أن انصرف عنه الرسولان يعالج سمكة علقت بصنارته وقد سحبها بلباقة من الماء الى اليابسة ثم هرول إليها وأنباضه تتعالى وتتسارع، وانحنى فوقها انحناءة الغالب فوق المغلوب، وأخذها بكلتا يديه، وهي تتلوى بينهما وتتعصر، وهو يخشى أن تلفت منه وتعود الى الماء.

ليست السمكة من عمالقة الأسماك ولا من أقزامها، ولكنها في معدة حكيم من درجة تشوان - تسو قد تسد جوع ليلة. والغريب في أمرها أنها، والصنارة قد نشبت في فكها الأعلى فنفذت من عينها اليمنى، ما تزال تحاول الهرب. والأغرب من ذلك أنها من بعد أن انقطع أملها بالنجاة راحت تخاطب صائدها كما لو كانت هي كذلك من الحكماء.

واليكم ما دار بين السمكة والحكيم:

السمكة; منذ دقائق سمعت ما قاله لك الرسولان مثلما سمعت جوابك لهما.

أفتسمح لي أيها الحكيم أن أطرح عليك سؤالا؟

الحكيم: تفضلي. فالحكماء يأخذون الحكمة عن جميع المخلوقات، حتى عن الأسماك

السمكة: فهمت مما قاله الرسولان أنك حكيم. ولكن ما الحكمة في جوابك القاسي لهما؟

الحكيم: اعلمي أن الحكيم لا يعرف للحياة غير معنى واحد، وذلك المعنى هو الحرية. فحيث لا حرية لا حياة. وكل ما يحد من حرية الحكيم هو موت له.

السمكة: وما هي الحرية؟

الحكيم: هي أن أفكر ما أشاء وأشتهي ما أشاء وأعمل ما أشاء ساعة أشاء.

السمكة: وأين أنت من الحرية؟


*141*

الحكيم: في الصميم. لذاك أبيت على أمير البلاد أن يقيدني بمنصب مهما يكن رفيعا. وأثرت البقاء حراً أصطاد السمك ساعة أشاء.

السمكة: أتراني أعظم من أمير البلاد؟

الحكيم: كيف ذلك ولا وجه شبه بينك وبينه؟

السمكة: لقد فعلت ما لم يستطِعْهُ أميرك. إذ قيدتك بيديك ورجليك وقلبك وفكرك.

الحكيم: لا أفهم.

السمكة: وحريّ بك أن تفهم وأنت الحكيم.

الحكيم: ولكن حكمتي غير حكمة الأسماك. أفصحي.

السمكة: أما ترى أنك منذ الصباح الباكر وأنت تطرح صنارتك في هذا النهر؟

ولقد رأيت أكثر من واحدة من رفيقاتي يأكلن طعمك ويمضين في سبيلهن - وكم سمعتك تتحرقٌ وتتبرم وتتوعد. وأنا أكلت طعمك مرتين. أما الثالثة فكانت وبالا علىّ وعليك.

الحكيم: عليك - نعم. أما عليّ فلا، ولكن ما دخل ذلك في حريتي؟

السمكة: لقد كنت عبدي منذ الصباح الباكر حتى الآن. وها هو النهار قد انتصف. فكأنك رهنت لي نصف نهار من حياتك وحريتك.

الحكيم: نصف نهار ليس بالشيء الكثير أرهنه لحاجاتي الجسدية.

السمكة: وكم رهنت من حياتك وحريتك لصالح صنارتك، وصانع القصبة والخيط، وصانع حذائك والكساء الذي على بدنك وباني كوخك، وخابز خبزك، والذين يمونونك بالزيت والصابون والشاي والحطب وسواها مما نحتا م إليه في كل يوم؟

الحكيم: ما أفهم القصد من كل هذا الهرف.


*142*

السمكة: وحري بك أن تفهم وأنت الحكيم. أين حريتك، وجسدُك رهينٌ كلِّ من في أيديهم قضاء حاجاته فهو رهين كل ما على الأرض وفي السماء؟

الحكيم: إن يكن جسدي رهين المخلوقات ففكري طليق. وتشوان - تسو بفكره لا بجسده.

السمكة: وها أنت قد رهنت لي من فكرك قسطاً غير يسير. وأنا سمكة حقيرة.

وكيف بغيري من المخلوقات وهي لا تحصى؟ ومن أين أفكاري إلا منها وممن سبقك وعاصرك من الناس وغير الناس؟

الحكيم؛ ذاك صحيح. لكن ما أخذته من الناس وغم الناس قد جعلني مستقلاً عن الناس وغير الناس.

السمكة: - بمثل هذه الترهات يتعزى الحكماء. وقلبك أيها الحكيم، أليس هو كذلك رهين ما على الأرض وفي السماء؟ بل هو رهيني حتى الآن حتى أصبح في جوفك.

الحكيم: كلا ثم كالا. فأنا لا أشتهي ما يشتهيه الناس ولا أسلم قلبي لأهوائهم.

فقياد قلبي في يدي

السمكة: وها أنت اشتهيتني كما يشتهيني باقي الناس فسلمتني قيد قلبك، لأن القلب رهين ما يشتهيه الناس.

الحكيم: لو اتخذنا قول قي ميزاناً للحرية أيها السمكة الرعناء لما كان في الأرض ولا إنسان حر.

السمكة: ومن قال لك إن على سطح الأرض إنساناً حراً؟ الناس رهائن ما يجهلون. ولن ينعتقوا من أي مجهول حتى يعرفوا كل مجهول. وها أنت تجهل أنك عندما تتلف حياتي وحريتي إنما تتلف جانباً من حياتك وحريتك. فمثلما تؤذي تؤذى ومثلما تأكل تؤكل. ولكن أني لك، وأنت الحكيم، أن تفقه ذلك؟

الحكيم: لو صدقتك لوجدتني لا أملك من حياتي وحريتي قيد شعرة.


*143*

السمكة: أما كنت تؤثر أن تصطاد سمكة أكبر مني بكثير؟

الحكيم: بلى.

السمكة: إذن أنت إذ حصلت علي حصلت على غير ما تشاء. فأين حريتك؟

وهل تكون الحرية بدون مشيئة؟

الحكيم: لا. لا تكون الحرية بغير إرادة حرة.

السمكة: وهل أنت حر في كل ما تريده أيها الحكيم؟ إذا مر النعاس والجوع والعطش والتعب والمرض والموت أن تأتيك ساعة تشاء وأن تنصرف ساعة تشاء.

ثم مر أحلامك في الليل وأفكارك في النهار أن تجري حسب هواك. وإن أنت لم تستطع كل ذلك فأين حريتك أيها الحكيم؟

الحكيم: ما أفهم الى ما ترمين. بمثل هذا الكلام. أتريدين أن تقولي أن تشوان – تسو، وهو الحكيم المكرم والمبجل، ليس حراً؟ وها هو على مسمع منك قد ازدرى بأعلى منصب في البلاد ليبقى حرا من كل قيد

السمكة: لا تفهم؟ وحري بك أن تفهم وأنت الحكيم. أما الذي أريد قوله فهو أن تشوان - تسو واهمٌ كباقي الناس. يتغنى بالحرية ولكن بلسان عبد وقلب عبد. وحري به أن يفهم، وهو الحكيم أن الناس ما زالوا من لحم ودم، فهم رهناء الناس وغير الناس وعبثاً يتلفظون باسم الحرية. فهم صيادو سمك لا غير.

الحكيم: صيادو سمك لا غير؟ وماذا تعنين بذلك؟ وأي علاقة لصيد السمك بالحرية؟

السمكة: كم مرة طرحت صنارتك في هذا النهر منذ جئت في الصباح؟ الحكيم لست أذكر. قد تكون عشرين مرة. وقد يكون مائة. وأية علاقة لذلك بالحرية؟

السمكة: أكنت تريد في كل مرة أن تصطاد سمكة بعينها؟ الحكيم: كلا. وكيف لي ذلك وأنا لا أبصر ما في الماء؟


*144*

السمكة: اما كنت تريد أن تصطاد في كل مرة سمكة كبيرة؟

الحكيم: بلى

السمكة: وكم سمكة أصطدت؟

الحكيم: ما اصطدت من سوء حظي إلا سمكة صغيرة ثرثارة.

السمكة: أكنت تقصدها بعينها حين طرحت صنارتك في الماء؟

الحكيم: لو كنت أعرف أن صنارتي ستأتيني بمثلها لحطمتها.

السكمة: إذن أنت لم تخترني بذاتي، ولا أردتني وحدي من بين كل ما في النهر من أسماك.

الحكيم: ذاك أكيد.

السمكة: وهكذا الناس يا تشوان - تسو، لكل صنارته يطرحها في هذا النهر أو ذاك البحر من أنهار الحياة وبحارها. وصنارته إرادته. فحينا تعلق بها سمكة. وحينا تعلق بها طحالب وحشائش وأقذار. وحينا لا تعلق بها إلا الخيبة.

وما من صياد يقصد سمكة بعينها إذ يطرح شبكته في الماء. فهو أعمى يصطاد في الظلمة ولا يدري بماذا تمن عليه الظلمة.

الحكيم: ومن ذا الذي يقضي لصنارتي أن تعلق بها سمكة ثرثارة مثلك، ولصنارة غيري أن تعلق بها لؤلؤة، ولصنارة الثالث أن تعود بالخيبة؟

السمكة: لعله النهر يا تشوان – تسو ولعله تشوان - تسو والنهر معا. فأنت متى أتيت النهر راضيا بما سيقسمه لك فقد جعلت إرادته إرادتك. وكنت إذ ذاك حكيماً حقا. فسلكت أول الطريق الى الحرية.

الحكيم: إن طريق الحرية موحش وشائك.

السمكة: بل بساط من الريح لمن يريد ما يعرف ويعرف ما يريد. والآن عد أدراجك يا تشوان - تسو واستغفر الحرية ألف مرة ومرة. فإن هي غفرت لك ننوه إليها غفرت ك ذنبك إلي. انطلق بسلام.


*145*

وكان أن تشوان - تسو ذهل عن السمكة بحديثها. فما أتمت كلامها حتى قفزت من يده الى الماء. فانتفض كمن أفاق من كابوس. ثم راح يتأمل الماء يجري وئيدا في النهر وعلى وجه الماء قد طفت القصبة التي كانت في يده.

وما درى تشوان ء تسو كيف أفلتت السمكة من يده ومعها القصبة، ولا كيف أدركه الظلام. ولكنه تنفس الصعداء وقفل راجعا مجن حيث جاء. وكان يمشي شاعراً كأنه محمول على بساط من الريح.


*147*

العصر العباسي


*147*


*148*

صفحة فارغة


*149*

شعر مشرقي

وصف مغنية بشار بن بزل


*149*

حضر بشّارٌ مجلسَ جَعْفَرِ بْنِ عليّ، وكانت تُغّنيهِ جاريةٌ بارعة في الغناء. فشرِبَ جعفرٌ حتى سكر ونام، فطلبت الجارية من بشّار نظم قصيدة في يومهم هذا ولا يذكر اسمها ولا اُسْمَ سيدها. فأنصرف وبعث إليها بهذه الأبيات مضمنا ما كانت الجارية تغنت به:

وَذَاتِ دَلٍّ كأنَّ البَدْرَ صُورتُها بَاتَتْ تُغِّني عَميدَ القَلْبِ سَكْراناً (1)

أنَّ العُيُونَ التي فر طَرَفِها خَوَرٌ قَتَلَتنا ثُمَ لمْ يُحيينَ قَتْلانا (2)

فقُلتُ أحسنْتِ يا ٍسُؤلي ويا أملِ فأسْمِعيني جَزَاكِ الله إحْسَانَا:

"يا حَبَّذا جَبَلُ الرَّيَّانِ من جَبَلٍ وَحَبَّذا سّاكنُ الرَّيانِ مَن كَانا" (3)

قالَت: فَهَلَّ فَدَتْكَ النَّفْسُ أحْسَنُ مِنْ هذا لِمَنْ كَانَ صَبَّ الْقَلْبِ حَيْرانَا

"يَا قَوْمُ، أُنِي لِبَعْضِ الحَيَّ عَاشِقَةٌ وَالأذْنُ تَعشقُ قَبلَ العَيْنِ أحْيانا" (4)

فَقُلتُ أحْسَنْتِ أنْتِ الشَّمسُ طَالِع أضْرَمْتِ في القَلْبِ وَالأحْشاء نِيرانا


*150*

فأسْمِعينَي صَوْتاً مُطْرباً هَزَجاً يَزيدُ صَبّاً مُحِيّاً فِيكِ أشْجانا (5)

فَحرَّكَتْ عُودَها ثُمَّ انْثَنَتْ طَرباً تَشْدُو بِه ثُمَّ لا تُخْفيهِ كِتمانا

أصبْحْتُ أطْوَعَ خَلْقِ اللهِ كُلهِمُ لأكثر الخَلْقِ لِي في الخُبِّ عِصْيانَا

الشرح:

(1) (عميد القلب): مريضه

(2) (الحَوَر): إشتداد بياض العين وسراد سوداها مثل الظباء والبقر؛ ولا يكون في بني آدم؛ وإنما قيل للنساء حَوَر العيون لهن بالظباء البيت لجرير

(3) البيت لجرير

(4) دع البيت لبشار

(5) (الهرج): ضرب من الأغاني فيه ترنم.

دع عنك لومي


*150*

دّعْ عَنْكَ لَوْمي فَإنَّ اللومَ إغراءُ وَداوني بالّتي كانت هِيَ الداءُ 1

صَفراءُ لا تَنْزِلُ الأحزانُ سَاحَتَها لَوْ مَسّها حجُ مَيَّتهُ سَرَّاءُ 2

قَامَتْ بِإبريقها والّليْلُ معتكِرٌ فَلاحَ من وَجهِها في البَيْتِ لألاءُ 2

فَأرْسَلَتْ مِنْ فمِ الإبريقِ صَافَيَةً كأنما أخْذُها بالْعَينِ إغْفاءُ

رَقْتْ عَنِ الماءِ حتّى ما تُلائِمه لَطافَةً وَجَفا عَنْ شَكْلِها المَاءُ

فَلَوْ مَزَجْتَ بها نوراً لَمازَجَها حَتَّى تَوَلَّدُ أنْوارٌ وأضْواءُ

دَارَتْ على فِتْيَةٍ دَانَ الزَّمانُ لَهُمْ فَما يَصيبُهُمُ إلا بِما شَاءُوا 4

لِتِلْكَ أبكى ولا أبكى لمنزلةٍ كانَتْ تَحُلٌ بها هِنْدٌ وأسْماءُ 5

حاشا لدُرَّة أن تُبْنَى الخِيامُ لَها وأنْ تَرُوحَ عَلَيْها الإبْلُ وَالشَّاءُ


*151*

فَقُلْ لِمَنْ يَدَّعي في العِلْمِ فَلْسَفَةً حَفِظْتَ شَيْئاً وَغَابَتْ عَنْكَ أشْياءُ

لا تَحْظُرِ العَفْو إنْ كُنْتَ امْرءَاً، حَرِجاً فإنَّ حَظْركَهُ

الشرح:

(1) ( الداء): المرض.. ويقصد الخمرة. (2) (لا تنزل الأحزان ساحتها): لا يكون الحزن حيث تكون الخمرة. (3) (الإبريق): تحمله الساقية لتصب منه الخمرة للشاربين. (4) (فتنة):

كرام يخضع الدهر لهم (5)، (هند وأسماء): أسماء بدويان، والمقصود أنه يبكي على الخمرة ولا يبكي على الأطلال كما إعتاد الشعراء.

وصف الصيد


*151*

ابن الرومي

وَقَد أغتَدِي لِلطَّيرِ والطَّيرُ هُجَّعٌ ولَو أوجَستْ مَغدايَ ما بِتْنَ هُجَّعا

بِخِلَّيْنِ تَمَّا بِي ثَلاثَةَ إخوةٍ جُسُومُهُم شَتَّى وَأرواحُهُم مَعَا

مُطيعينَ أهواءً تَوافَت عَلَى هَوىً فَلَو أُرسِلَت كَالنَّبلِ لَم تَعْدُ مَوقعا

إذا ما دَعا مِنّا خَلِيلٌ خَليلَهُ (بِأفدِيكَ) لَبّاهُ، مُجيباً فَأسرَعا

كَأنّ لَهُ في كّلُّ عُضوٍ وَمَفصِلٍ وَجارِحةٍ قَلباً مِنَ الجَمرِ أصمَعا 1

وَفاضَتْ أحاديثُ الفُكاهَةِ بَينَنا كَأحسَنِ ما فاضَ الحَديثُ وَأمتَعا

فَثاروا الى آلاتِهِم فَتَقَّلّدُوا خرائِطَ حُمْراً تَحمِلُ السُّمَّ مُنقَعا

مُنُمَّقَةً ما استَودَعَ القَومُ مِثلَها وَدائِعَهُم إلا ِلكَي لا تُضَيَّعا

هُنالِكَ تَغدُو الطَّيْرُ تَرتادُ مَصرَعاً وحُسبانُها المَكذُوبُ يَرتادُ مَرتَعا 2

وَقَد وَقَفوا لِلحائنات وَشَمَّروا لَهُنَّ الى الأنصافِ سُوقاً وَأذرُعا 3


*152*

وجَدَّتْ قِسِيُّ القَومِ في الطَّيرِ جِدَّها فَظَلَّتْ سُجُوداً لِلرُّماةِ وَرُكَّعا

فَظَلَّ صِحابِي ناعِمِينَ بِبُؤسِها وَظَلَّت عَلى حَوضِ الَمنيَّةِ شُرَّعا

طَرائحَ مِن سُودٍ وَبيضٍ نَواصِعٍ تَخالُ أديمَ الأرضِ مِنهُنَّ أبقَعا

نُؤلّفُ مِنها بَينَ شَتَّى وَإنَّما نُشَتِّتُ مِن أُلاّفِّها ما تَجَمَّعا

فَكَم ظاعِنٍ مِنهُنَّ مُرتادِ رِحلَةٍ قَصَرْنا نَواهُ دُونَ ما كان أزمَعا

وَكَم قادِمٍ مِنهُنَّ مُرتادِ مَنزِلٍ أناخَ بِهِ مِنَّ مُنيخٌ فَجَعجَعا 4

ديوان إبن الرومي، دار المعرفة / بيروت، د. ت

الشرح:

(1) مَفْصِل: اسم مكان على وزن مَفْعِل لأنه صحيح الاخر مكسور العين في المضارع.

(2) مَصْرَع، مَرْتَع: اسما مكان على وزن مَفْعَل لأنهما صحيحا الاخر مفتوحا العين في المضارع.

(3) الحائنات: يقصد الطيور القادمات الي موتها وهلاكها، الحَين: الهلاك. (4) أَناخَ: أناخ الرجل بعيره: أبركهُ، أَناخ به البلاءُ: نزل به البلاء.

وصف الربيع


*152*

البحتريّ

أتاكَ الرَّبيعُ الطَّلقُ يَختالُ ضاحِكاً

مِنَ الحُسنِ حَتَّى كادَ أن يَتَكَلَّما

وَقَد نَبَّهَ النّوروزُ في غَلَسِ الدُّجَى

أوائلَ وَرْدٍ كُنَّ بِالأمسِ نُوَّما 1

يُفَتِّقُها بردُ النَّدى فَكَأنهُ

يَبُثُّ حَديثاً كانَ قَبلُ مُكَتَّما 2

فَمِن شَجَرٍ رَدَّ الرَّبيعُ لِباسَهُ

عَلَيهِ، كَما نَشَّرتَ وَشياً مُنَمْنَما 3

وَرَقَّ نَسيمُ الرِّيحِ، حتَّى حَسِبتُهُ

يَجيءُ بِأنفاسِ الأحِبَّةِ، نُعَّما

ديوان البحتري، دار صادر / بيروت 1962


*153*

الشرح:

(1) ( النوروز): ويقال له النيروز، عيد فارسي الأصل يقع في أوّل آذار فيوافق ظهور نَور الربيع، ومعناه بالفارسية يوم جديد. (2) (يبُثُّ الحديث): يبوح به ويفشيه. (3) (المنمنم):

المزخرف، المنقوش.

إيوان كسرى


*153*

البحتريّ

صُنْتُ نَفسي عَمّا يُدنِّسُ نَفْسي وَتَرَفَّعتُ عَن جَدَا كُلّ جِبْسِ 1

وَتَماسَكْتُ حِينَ زَعْزَعَني الدَّهرُ الْتِماساً مِنهُ لِتَعسِي وَنَكَسِي 2

حَضَرَتْ رَحْليَ الهُمومُ فَوَجَّ هتُ أبيَضِ الَمدائِنِ عَنْسِي 3

أتَسَلَّى عَنِ الحُظُوظِ، وآسَى لِمَحَلٍّ مِن آلِ ساسانَ دَرْسِ 4

ذكَّرَتِنيهِمُ الخُطُوبُ التَّوالِي وَلَقَد تُذْكِرُ الخُطُوبُ وَتُنسي

لَو تَراهُ عَلِمتَ أنَّ اللَّيالِي جَعَلت فيهِ مَأتَماً بَعدَ عُرسِ

فإذا ما رَأيْتَ صُورَةَ أنطا كِيَّةَ ارتَعْتَ بَينَ رُومٍ وَفُرسِ

وَالمَنَايا مَواثِلٌ، وأنو شِروانُ يُزجِيا لصُفوفَ تحتَ الدِّرَفس 5

في اخضرارٍ مِنَ اللِّباسِ عَلَى أص فَرَ يَختَالُ في صَبِيغَةِ وَرس 6

وَعِراكُ الرِّجالِ بَينَ يَدَيهِ في خُفوتٍ مِنهُمْ وإغماضِ جَرْسِ 7

مِن مُشِيخٍ يُهوِي بِعامِلِ رُمحٍ وَمُليحٍ، مِنَ لسِّنانِ، بِتُرسِ 8

تَصِفُ العَينُ أنَّهمُ جِدُّ أحياءٍ لَهُم بَيْنَهُم إشارَةُ خُرسِ

يَغتَلِي فِيهِمُ ارتِيابيَ حَتَّى تَتَقَرَّاهُمُ يَدايَ بِلَمْسِ 9


*154*

وَكَانَّ الإيوانَ مِن عَجَبِ الصَّنعَةِ جَوبٌ فِي جَنبِ أرعَنَ جِلسِ 10

لَم يَعِبهُ أن بُزَّ مِن بُسُطِ الدِّيباج وَاستُلَّ مِن سُتُورِ الدِّمقسِ

لَيسَ يُدرَى أصُنْعُ إنسٍ لِجِنٍّ سَكَنُوهُ أم صُنعُ جِنٍّ لإنسِ

وَكَأنَ الوُفُودَ ضاحينَ حَسرَى مِن وُقوفٍ خَلفَ الزِّحامِ وَخُنسِ 11

وَكَأنَ القِيانَ وَسْطَ المَقاصيرِ يُرجِّعنَ بَينَ حُوٍّ وَلُعسِ 12

عُمِرَت لِلسُرُور دَهراً فَصارَت لِلتَّعزّي رِباعُهُم وَالتَأسِّي

ديوان البحتري، دار صادر / بيروت 1962

ودار المعارف بمصر، الطبعة الثالثة

الشرح:

(1) (الجَدا): العَطاء. (الجبس): اللئيم، الجبان. (2) (نُكسي): إذلالي. (3) (حضرته): نولت وطرأتْ. (أبيَض المَدائن): القصر الأبيض لكسرى. (عَنسي): نياقي.

(4) (آل ساسان): ملوك الفرس من نسل اردشير حفيد ساسان مؤسّس السلالة الساسانية.

(درس): بالٍ. (5) (يُزجي): يسوق (الدِّرَفس): راية الفرس المقدّسة، وهي رمز تحرير بلادهم على يد بطلِهم الأسطوري أفريدون. ومعناها راية الحِداد. وكانت محلاّة بالجواهر الكريمة. (6). (الورس): نبات أصفر. والشاعر يصفه هنا الفرس الذي يمتطيه أنو تروان.

(7) (الخُفوت): السكوت. (الجَرس): الصوت الخَفِيّ. (8) (المُشيخ): المُقبل اليكَ والمانع لِما وراءَ ظهره (المُليح): المُحاذر خَوفاً (9) (يغتلي): يتعاظم. (تتقرّاهم): تَتَبَّعهم. أي أنّه يلمسهنّ ليرى أصُور مرسومة أم أشخاص أحياء يتحاربون (10) (الجَوب): التُّرس أو النقر في الصخر (أرعَن): جبل ذو رُعنٍ وهو أنف يتقدم الجبل (جِلس): جبل عالٍ (11) (ضاحين): بارزين للشمس. (حَسرَى): متلهفين (الخُنسِ): المتأخِرون. (12) (يرجِّعن): يُغنّينَ. (الحُوّ): سُمرة في الشفة. (اللُعس): اللّعَس وهو سَواد يُستَحسَن في الشَّفة.


*155*

وصف الحمى والتعريض بالرحيل عن مصر المتنبي


*155*

وَلَستُ بِقانِعٍ مِن كُلّ فَضْلٍ بِأن أُعزَى إلى جَدٍّ هُمَامِ 1

عَجِبتُ لِمَنْ لَهُ قَدُّ وَحَدُّ وَيَنبو نَبوَةَ القَضِمِ الكَهامِ 2

ولَم أرَ في عُيُوبِ النّاسِ شَيئاً كَنَقصِ القادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ

أقَمْتُ بِأرضِ مِصرَ فَلا وَرائِي تَخُبُّ بِيَ الرّكابُ وَلا أمامي 3

وَمَلَّلَّنِيَ الفِراشُ وَكانَ جَنبِي يَمَلُّ لِقاءَهُ في كُلِّ عامِ

قَليلٌ عائِدي سَقِمٌ فُؤادي كَثيرٌ حاسِدي صَعْبٌ مَرَامِي

عَليلٌ الجِسمِ مَمتَنِعُ القِيامِ شَديدُ السُكرِ مِن غَيرِ المُدامِ

وَزائِرتِي كَأنَّ بِها حَياءً فَلَيسَ تَزُورُ إلاّ في الظَّلامِ 4

بَذّلتُ لَها المَطارِفَ وَالحَشايا فَعافَتها وَباتَت في عِظامِي 5

يضيقُ الجِلْدُ عَن نَفَسي وَعَنها فَتُوسِعُهُ بِأنواعِ السَّقامِ

كَأنَّ الصُّبحَ يَطرُدُها فَتَجري مَدامِعُها بِأربَعَةٍ سِجامِ 6

أراقِبُ وَقتَها مِن غَيرِ شَوقٍ مُراقَبَةَ المَشُوقِ المَستَهامِ 6

وَيَصدُقُ وَعدُها وَالصِّدقُ شَرٌّ إذا ألقاكَ في الكُرَبِ العِظامِ

أبِنْتَ الدَّهرِ عندِي كُلُّ بِنتٍ فَكَيفَ وَصَلتِ أنتِ مِنَ الزِّحامِ 7

جَرَحتِ مُجرَّحاً لَم يَبقَ فيهِ مَكانٌ لِلسُيوفِ ولا السِّهامِ

يَقولُ لِيَ الطَّبيبُ أكَلتَ شَيئاً وَدواؤُكَ في شَرابِكَ والطعامِ 8

وما في طبِّهِ أَني جَوادُ أَضَرَّ بجسمِهِ طولُ الجَمَامِ


*156*

تَعَوَّدَ أن يُغَبِّرَ في السّرايا وَيَدخُلَ مِن قَتامٍ في قَتامِ 9

فَأُمْسِكَ لا يُطالُ لَهُ فَيَرعَى وَلا هُوَ في العَليقِ وَلا اللّجامِ 10

أمراء الشعر العربي في العصر العبّاسي ص 320-321

الشرح:

(1) أي لا أقنع أن أُنسَب الى جِدٍّ كريم بل أدرك الفضل بنفسي. (2) أي عجبت من الشابّ القويّ الذي إذا عرضَ له الأمر العظيم رجعَ عنه رجوع السيف الذي لا يقطع. سيفٌ قضيمٌ: سيف تَفَلَّلَ حدُّه. وكذلك سيفٌ كهامٌ، والرجُل الكَهَام: المسنُّ البطيءُ. (3) (تخب بي الركاب): أي تسير بي الإبل. ويريد بهذا البيت أنّه لزم الإقامة بها. (4) إشارة الى الحُمّى.

(5) (المطارف): أردية الخَزّ. (الحشايا): الفرش. (6) (سجام): سجمت العين الدمع: أَسالته، وسجمت السحابه الماء: صبته (7) (يريد ببنت الدهر الحُمى) وبنات الدهر: شدائده.

فيقول: أيّتها الحُمَّى، عندي كل نوع من أنواع الشدائد فكيف لم يمنعكِ زِحامهنَّ من الوصول اليَّ. (8) (الجَمام): الراحة. (9) تَعَوَّدَ أن يُثيرَ الغُبار بين الجيوش، ويخرج من غبرة الى غبرة أي من معركة الى أُخرى. (10) فأُمسِكَ لا يُرخَى له الحبل فَيرعَى، ولا يُقدَّم له العليق فيأكل، ولم يكن تحت اللجام في السَّفَرِ. وقد شَبَّهَ حالته مع كافور بحالة هذا الجواد.

وصف وقعة عمورية


*156*

لأبي تمام

السيفُ أصدق إنباءً من الكتبِ في حَدِّه الحدُّ بينَ الجِدِّ واللَّعِبِ

يا يَوْمَ وَقْعَةِ عَمُّورِيَّةَ انْصَرَفَتْ عَنْكَ المُنَى حُفَّلاً مَعْسُولَةَ الحَلَبِ 1

لَقَدْ تَرَكْتَ - أمِيرَ المُؤمِنينَ - بِها لِلنارِ بَوْماً ذَلِيلَ الصَّخْرِ والخَشَبِ 2

غَادَرْتَ فِيها بَهيمَ اللَّيلِ وَهوَ ضُحىً يَشُلُّهُ وَسْطَهَا صُبْحٌ مِنَ الّلَهَبِ 3

حَتَى كَأنَّ جَلابِيبَ الدُّجَى رَغِبَتْ عَنْ لَوْنِها أو كَأنّ الشَّمْس لَمْ تَغِبِ


*157*

ضوءٌ مِنَ النّارِ والظَّلماءُ عاكِفَةٌ وَظُلمَةٌ مِنْ دُخانٍ في ضُحىً شَحِبِ

تَدْبِيرُ مُعتصِمٍ بِاللهِ مُنْتَقِم لِلَه مَرْتَقَبٍ في اللهِ مُرتَهِبِ

لَمْ يَغْزُ قوماً ولَمْ يَنْهَضْ الى بَلَدٍ إلا تَقدَّمَهُ جَيشٌ مِنَ الرُّعُبِ

لَوْ لَم يَقُدْ جَحْفَلاً يَوْمَ الوَغَى لَغدا مِن نَفْسِهِ وحدها في جحفَلٍ لَجبِ 4

رَمَى بَكَ اللهُ بُرجَيْها فهدَّمَها وَلَو رَمَى بِكَ غَيْرُ اللهِ لَمْ تُصِبِ

مِنْ بَعْدِ مَا أشَّبُوهَا واثقينَ بها وَاللهُ مِفْتاحُ بَابِ المَعْقِلِ الأشِبِ 5

تِسعونَ ألْفاً كَآسادِ الشَرَى نَضَجَتْ جلودُهُم قَبْلَ نَضْجِ التِّينِ والعِنَبِ 6

خَليفَةَ اللهِ جازَى اللهُ سَعْيَكَ عَنْ جُرْثُومَةِ الدِّينِ والإسلامِ والحَسَب 7

بَصُرتْ بالرَّاحةِ الكُبرى فَلَمْ تَرَها تُنالُ إلا عَلَى جَسْرٍ مِنَ التَّعَبِ

إنْ كان بَيْنَ صُروفِ الدَّهْرِ مِنْ رَحِمٍ مَوْصُولَةٍ، أو ذِمامٍ غَيْرِ مُنْقَضِبِ 8

فَبَيْنَ أيَّامِكَ اللاتي نُصِرْتَ بها وبَيْنَ أيامِ بَدْرٍ أقرَبُ النَّسَبِ 9

الشرح:

(1) (المُنَى): جمع منيَة. وهي ما يتمناه ويَرغب فيهِ الإنسان. (الحُفَّل): جمع حافل مأخوذةٌ من قولهم ناقةٌ حافل: أي مجتمعة اللبن. (المعسولة): الحلوة. (الحَلَب): ما يُحلَب أي اللبن المحلوب. الشرح: ان ما كنا نتمنى في هذا لبيوم من الإنتصار قد تَم وعادت الأماني كأنها نياقٌ مجتمعةُ اللبن مُزجَ لبنها بالعسل. (2) (أمير المؤمنين): منادى منصوب. نصب(يوما) على أنه مفعول به ولا يحتمل أن يكون ظرف زمان. الشرح: يا أمير المؤمنين لقد تركت، يوما ذليلاً صخره وخشبه أي أن عمورية إحترقت قذل صخرها وخشبها للنار. (3) (بهيم الليل): ليلٌ لا ضَوْءَ فيه. (يشلُّهُ): يطردُه. (وسطَها): أي وسط عمورية. الشرح: بإحراق عمورية جعْلتَ ليلها الحالك كأنّهُ ضُحَى النهار، واللهيب في وسط المدية كَأنّه فجر محمر الأفق. (4) (جحفل لجب): جيش عظيم. (5) (أشبوها): حصنوها. (6) (الشَّرَى): طريق في جبل سلمى


*158*

كثيرة الاسود. (7) (الجُرْثُوم) والجرثوممه: أصل الشيء. (8) (رحم موصولة): قرابه، (ذمام): حقٌ وحُرمه (له عليه ذمام: أي له عليه حق). (9) يشبه معركة عموريه.بمعركة بدر.

عتاب سيف الدولة


*158*

المتنبي

واحَرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ وَمَن بِجِسمي وَحالِي عِندَهُ سَقَمُ 1

مَا لِي أكَتِّمُ حُبّاً قَد بَرَى جَسَدي وَتَدَّعِي حُبَّ سَيفِ الدَّولَةِ الأُمَمُ 2

إن كان يَجمَعُنا حُبٌ لِغُرَّتِهِ فَلَيتَ أنا بِقَدرِ الحَبِّ نَقتَسِمُ 3

قَد زُرتُهُ وَسُيوفُ الهِندِ مَغمَدَةٌ وَقَد نَظَرتُ إلَيهِ وَالسُيوفُ دَمُ

فَكَانَ أحسَنَ خَلقِ اللهِ كُلِّهِمِ وَكانَ أحسَنَ ما فِي الأحسَنِ الشِّيَمُ

فَوتُ العَدُوِّ الذي يَمَّمَتَهُ ظَفَرٌ في طَيِّهِ أسَفٌ في طَيِّهِ نِعمُ 4

ألزَمتَ نَفسَكَ شيئاً لَيس يَلزَمُها أن لا يُوارِيَهِمُ أرضٌ وَلا عَلَمُ 5

أكُلّما رُمتَ جيشاً فإنَثَنَى هَرباً تَصَرَّفَت بكَ في آثارِهِ الهِمَمُ

عَلَيكَ هَزمُهُمُ في كُلِّ مُعتَرَكٍ وَما عَلَيكَ بِهِم عارٌ إذا انهَزَمُوا

أمَا تَرَى ظَفَراً حُلواً سوَى ظَفَرٍ تَصافَحَت فيهِ بِيضُ الهِندِ وَاللِّمَمُ

يَا أعدَلَ الناسِ إلا في مُعامَلَتي فيكَ الخِصامُ وأنتَ الخَصْمُ والحَكَمُ

أعيذُها نَظَراتٍ مِنكَ صادِقَةً أن تَحسَبَ الشَّحمَ فِيمَنْ شَحمُهُ وَرَمُ 6

وَما انتِفاعُ أخِي الدُّنيا بِناظِرِهِ إذا استَوَت عِندَهُ الأنوارُ والظُّلَمُ

سَيَعلَمُ الجَمعُ مِمَّن ضَمَّ مَجلِسُنا بِأنَني خَيرُ مَن تَسعَى بِهِ قَدَمُ

أنا الذي نَظَرَ الأعمَى الى أدَبي وَأسمَعَت كَلماتِي مَن بِه صَمَمُ


*159*

أنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها

ويَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ

وَجاهِلٍ مَدَّهُ في جَهلِهِ ضَحِكي

حَتّى أتَتهُ يَدٌ فَرّاسَةٌ وَفَمُ

إذا رَأيتَ نُيوبَ اللَّيثِ بارِزَةً

فَلا تَظُنّنَ أنَّ اللَّيثَ يَبتَسِمُ

الخَيْلُ واللَّيْلُ والبَيداءُ تَعرِفُني

وَالسَيْفُ وَالرُّمْحُ وَالقِرطاسُ وَالقَلَمُ

يَا مَن يَعِزُّ عَلَينا أن نُفارِقَهُم

وِجدانُنا كُلِّ شَيءٍ بَعدَكُم عَدَمُ

إن كانَ سَرَّكُمُ ما قالَ حاسِدُنا

فَما لِجُرحٍ إذا أرضاكُمُ ألمُ

كم تطلُبُونَ لَنا عَيباً فَيُعجِزُكُم

وَيَكرَهُ اللهُ ما تَأتُونَ وَالكرَمُ 7

ما أبعَدَ العَيبَ والنُقْصانَ مِنْ شَرَفي

أنا الثُرَيَّا وَذانِ الشَّيبُ وَالهَرَمُ

إذا تَرَحَّلَتَ عَن قَومٍ وَقَد قَدَرَوا

أن لا تُفارِقَهُم فَالرّاحِلونَ هُمُ

شَرُّ البِلادِ مَكانٌ لا صَديقَ بِهِ

وَشَرُّ ما يَكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ 8

وَشَرُّ ما قَنَصَتْهُ راحَتِي قَنَصٌ

شُهبُ البُزاةِ سَواءٌ فيهِ وَالرَّخَمُ 9

بِأيِّ لفظٍ تَقُولُ الشِّعرَ زِعنِفَةٌ

تَجوزُ عِندَكَ ل ا عُربٌ وَلا عَجَمُ 10

هذا عِتابُكَ إلاّ أنّهُ مِقةٌ

قَدْ ضُمِّنَ الدُّرّ إلا أنَّهُ كَلِمُ 11

ديوان المتنبي، دار صادر / بيروت 1964

الشرح:

) (1)واحرّ قلباه): الألف للندبة، والهاء للسكت. (الشبم): البارد. (2) يقول: ما لي أخفي حبّي الذي أنحَلَ جسدي والناس يدّعون جبّه وهم على خلاف ما يُظهرون. (3) (غرّته): طَلعته، وأن وصِلَتُها سَدَّت مسدَّ معمولَي ليتَ. (4) يعني أنّ فرار العدو الذي قصدته يعدّ ظفراً لك، وضمن هذا الظفر أسَفَ أنكَ لم تدركه. وفي هذا الأسَف نِعمَ لرجالك


*160*

لَحقن دمائهم. (5) يقول: ألزمتَ نفسك أن تتبعهم أينما توارَوا، وهذا أمر لا يلزمك.

(6) (نظرات): تمييز. (الشحم والورم): مَثَل لِما يتشابه ظاهره وتختلف حقيقته. (7) أي وكرمكم يكره ذلك. (8) (يَصِم): يَعِيب. (9) (الشُّهب): جمع أشهب، وهو ما فيه بَياض يصدعه سواد. (الرخَم): طائر ضعيف. يشير الى تسوية سيف الولة بينه وبين غيره من خساس الشعراء. (10) (الزعنفة): الجماعة من الأوباش. والجملة نعت. "وعرب" نعت آخر. ورَوى بعضهم تخور عندك من خُوار البقرة. (11) (المِقة): المحبّة، والضمير من أنه مِقة للعتاب ومن أنّه كَلِم للدّر.

خداع الأماني أبو العتاهية


*160*

الدَّهْرُ ذو دُوَلٍ وَالمَوْتُ ذو عِلَلٍ

والمَرءُ ذو أمَلٍ وَالنّاسُ أشباهُ

وَلَم تَزَل عِبَرٌ فِيهنَّ مُعتَبَرٌ

يَجرِي بِها قَدَرٌ واللهُ أجراهُ

والمُبتَلَى فَهُوَ المَهجُورُ جانِبُهُ

وَالنّاسُ حَيثُ يَكونُ المالُ وَالجاهُ

يَبْكي وَيَضْحَكُ ذو نَفسٍ مُصَرَّفَةٍ

وَاللهُ أضحَكَهُ وَاللهُ أبكاهُ

يا بائِعَ الدِّينِ بالدُّنيا وَباطِلِها

تَرضَى بِدِينِكَ شَيئاً لَيْسَ يَسواهُ

حتّى مَتَى أنتَ في لَهوٍ وَفي لَعبٍ

وَالمَوتُ نَحوَكَ يَهوِي فاغراً فاهُ

ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدرِكُهُ

رُبَّ امرىءٍ حَتفُهُ في ما تَمَناهُ

يا رُبَّ يَومٍ أتَت بَشراهُ مُقبِلَةً

ثُمَّ استَحالَت بصَوتِ النَّعْيِ بُشراهُ

نَلهُو وَلِلمَوتِ مُمْسَانا وَمُصبَحُنا

مَنْ لَم يُصَبِّحهُ وَجهُ المَوتِ مَسّاهُ 1

ما أقرَبَ المَوتَ في الدُّنيا وَأبعَدَهُ

وما أمّرَّ جَنَى الدُّنيا وَأحلاهُ

وكُلُّ ذي أجَلٍ يَوماً سَيَبلُغُهُ

وكُلُّ ذي عَمَلٍ يَوماً سَيَلقاهُ

أمراء الشعر العربي في العصر العباسي

أنيس المقدس


*161*

الشرح:

(1) ممسانا ومصبحنا: مصدران ميميان من الفعلين مَسَوَ وصَبَحَ .. يقال (الحمدُ لله مُمْسانا وَمُصْبَحُنَا).

رثاء فقيه أبو العلاء المعّري


*161*

غَيرُ مُجْدٍ في مِلَّتي وَاعتقادي

نَوحُ باكِ وَلا تَرَنُّمُ شادِ

وَشَبيهٌ صَوتُ النَّعِيِّ إذا قِيسَ بِصَوتِ البَشيرِ في كل نادِ 1

أَبَكَتْ تِلكُمُ الحَمَامةُ أم غَنَّتْ عَلَى فَرعِ غُصنِها المَيّادِ

صاحِ؛ هذي قُبورُنا تَملأُ الرُّحبَ فَأينَ القُبورُ مِن عَهدِ عادِ؟

خَفّفِ الوَطءَ ما أظُنُّ أديمَ الأرضِ إلاّ مِن هذهِ الأجسادِ 2

وَقَبيحٌ بنا، وَإن قَدُمَ العَهدُ، هَوانُ الآباءِ؛ والأجدادِ

سِرْ إن اسْطَتعتَ في الهواءِ؛ رُوَيدًا

لا اختِيالاً عَلَى رُفاتِ العِبادِ

رُبَّ لَحدٍ قد صارَ لَحدًا مِرارًا

ضاحِكٍ مِن تَزاحُمِ الأضدادِ

وَدَفينٍ عَلى بَقايَا دَفينٍ

في طَويلِ الأزمانِ وَالآبادِ

تَعَبٌ كُلُّها الحَياةُ فَما أعجبَ إلاّ مِن راغِبٍ في إزديدِ

إنَّ حُزنًا في ساعةِ المَوتِ أضعا

فُ سُرورٍ في ساعَةِ الملادِ

خُلِقَ النّاسُ لِلبَقاءِ فَضَلَّت

أمّةٌ يَحسَبونَهُم لِلنَّفادِ

إنَّما يُنقَلونَ مِن دار إعما

لٍ إلى دارِ شَقْوَةٍ أو رَشادِ 4


*162*

ضَجعَةُ الموتِ رَقدةٌ يَستَريحُ الجِسمُ فيها، وَالعَيشُ مِثلُ السُّهادِ

وَالذي حارَتِ البَرِيَّةُ فيه حَيَوانٌ مُتَحدَثٌ مِن جَمادِ

وَاللّبيبُ مَن لَيسَ يَغتَرُّ بِكَونٍ مَصيرُهُ لِلفَسادِ

ديوان سقط الزند – شرح وتعليق د.ت رضا بيروت 1965

الشرح:

(1) (النعي): عكس البشر

(2) (أديم الأرض): وجهها.

(3) (الآباد ): العصور.

(4) ض الدنيار إلى الآخرة.

أمثلة من لزوميات، المعري


*162*

وفيها تظهر دعوته الى التشاؤم من أعمال الإنسان والزمان.

أولُو الفَضلِ في أوطانِهِم غُرَباءُ

تَشدُّ وتَنأى عَنهُمُ القُرَباءُ

وَحَسْبُ الفَتَى مِن ذِلَّةِ العَيشِ أنَّهُ

يرُوحُ بِأدنَى القُوتِ وَهوَ حِباءُ 1

وَما بَعدَ مَرَّ الخَمسَ عَشَرَةَ مِن صِبا

وَلا بَعدَ مَرَّ الأربَعِينَ صَباءُ 2

تَواصَلَ حَبلُ النَّسلِ ما بَينَ آدِمٍ

وَبينِي وَلَم يُوصَل بِلامِيَ باءُ

تَثاءَبَ عَمروٌ إذ تَثاءَبَ خالِدٌ

بِعَدوى فَما أَعْدَتْنَي الثُؤبَاءُ 3

وَزَهَّدَنِي في الخَلقِ مَعِرِفَتي بِهِم

وَعِلمِي بِأنَّ العالِمينَ هَباءُ

إذا نَزَلَ المقدارُ لَم يَكُ لَلقَطا

نُهُوضُ وَلا لَلمُخْدِراتِ إباءُ 4


*163*

(2)

إذا كانَ عِلمُ النّاسِ لَيْسَ بِنافِعٍ

وَلا دافِعٍ فَالخُسرُ لِلعُلَماءِ

أفِيقُوا أفِيقُوا يا غُواةُ فَأنَّما

دِياناتُكُم مَكرٌ مِنَ القُدَماءِ 5

أرادُوا بِها جَمعَ الحُطامِ فَأدركُوا

وَبادُروا وَماتَت سُنَّةُ اللُّؤماءِ 6

يَقولونَ إنَّ الدَّهرَ قَد حانَ موتُهُ

وَلَم يَبقَ في الأيَّامِ غُبرُ ذَماءِ 7

وَقد كَذَبوا ما يَعرِفونَ انقِضاءَهُ

فلا تَسمَعوا مِن كاذِبِ الزُّعَماءِ

(3)

كَذّبّ الظّنُّ لا إمامَ سِوِىَ العَقل مُشيرًا في صُبحِهِ وَالمَساءِ

فَإذا ما أطعتَهُ جَلَبَ الرَّحمَةَ عِندَ المَسِيرِ وَالإرساءِ

يَرتَجي النّاسُ أن يَقومَ إمامٌ

ناطِقٌ في الكَتيبَةِ الخَرساءِ 8

إنَّما هذِهِ المَذاهِبُ أسبابٌ لِجذبِ الدُّنيا الَى الرُّؤساءِ

فَانفَرَدْ ما استَطَعْتَ فَالقائل الصّادِقٌ يُضحِي ثِقلاً عَلَى الجَلَساءِ

الشرح:

(1) (حَباء): عِطاء بلا مَنِّ ولا جزاء. (2) (صباء): صِغَرٌ. (3) يريد بهذا البيت والبيت السابق أن حبل النسل إنقطع فيه (أي أنه لم بتزوج) وأن التزوّج كالثوباء عدوى تصيب الناس بعضهم من بعض، أما هو فيبقى سليما منها. (4) (المُخدرات): الأسود في آجامها. (5) لا يقصد بالديانة هنا الإيمان الحقيقي بل النُّظم والظواهر والطقوس الخارجية التي هي من وضع الإنسان. (6) (الحطام): حطام الدنيا... (7) (ذَماء): بقيَة الروح في الجسد. (8) إشارة إلى القول بظهور المهدي.


*164*

وقال المعري أيضًا في الاديان:

في اللاَّذقية ضجَّةٌ

ما بينَ أحمدَ والمسيح

هذا نبا قوسِ يَدُق

وذالَ بمئذنَةٍ يصيح

كلٌّ يعظٌّمُ دينَه

يا ليت شِعْرِي ما الصَّحيح

شعر أندلسي

بين الشاعر والجبل إبن خفاجة


*164*

وَأرعَنَ طَمّاحِ الذُؤابةِ، باذِخٍ يُطاوِلُ أعنانَ السَّماءِ بِغارِبِ 1

يَسُدُّ مَهَبًّ الرِّيحِ عَن كُلِّ وُجهةٍ وَيَزحَمُ لَيلاً، شُهْبَهُ بالمَناكِبِ

وَقُورٍ عَلَى ظَهرِ الفَلاةِ، كأنَّهُ طَوالَ اللّيالي، مُفكِرٌ في العَواقِبِ

يَلُوثُ عَلَيهِ اللَّيلُ سُودَ عَمائِمٍ لَها مِن وَمِيضِ البَرقِ، حُمرُ ذَوائِبِ 2

أصَختُ إليهِ، وَهوَ أخرَسُ صامِتٌ فَحَدَّثَنِي لَيلَ السُّرَى بالعَجائِب

وَقالَ: إلى كَم كُنتُ مَلجَأَ قاتِلٍ وَموطِنَ أوّاهٍ تَبَتَّلَ، تائبِ 3

وَكَم مَرَّ بِي مِن مُدلِجٍ وَمُؤَوّبٍ وقال بِظِلِّي مِن مَطِيٌ وَراكِبِ 4

وَلاطَمَ مِن نُكبِ الرِّياحِ، مَعاطِفِي وَزاحَمَ، مِن خُضرِ البِحارِ، غَوارِبي


*165*

فما كانَ إلا أن طَوَتْهُم يَدُ الرَّدى

وطَارَت بِهِم رِيحُ النَّوَى وَالنَّوائِبِ

فَما خَفْقُ أيكِي غَيرُ رَجفَةِ أضلُعٍ

وَلا نَوحُ ورُقِي غَيرُ صَرخَةِ نادِبِ

وَما غَيَّضَ السُّلوانُ دَمعِي وَإنَّما

نَزَفَتُ دُمُوعِي في فِراقِ الصَّواحِبِ

فَحَتى مَتَى أبقَى، وَيظْعَنُ صاحِبٌ

أوَدّعُ مِنهُ راحِلاً غَيرَ آيِبِ؟

وَحَتى مَتَى أرعَى الكَواكِبَ ساهِرًا

فَمِن طالِعٍ، أخرَى اللَّيالِي، وغارِبِ

فَرُحماكَ يا مَولايَ، دِعوَةَ ضارِعٍ

يَمُدُّ الى نُعماكَ راحَةَ راغِبِ

فَأسمَعَنَي مِن وَعظِهِ كُلَّ عِبرَةٍ

يُتَرجِمُها عَنهُ لِسانُ التَّجارِبِ

يَتَسَلَّى بِما أبكَى وَسَرَّى بِما شَجا

وَكَانَ عَلَى عَهدِ السُّرَى خَيرَ صاحِبِ

وَقُلتُ وَقَد نَكِّبتُ عَنهُ لِطَيَّةٍ

سَلامٌ فَإنّا مِن مُقيمِ وذاهبِ

ديوان إبن خفاجة / دار صادر بيروت

الشرح

(1) (الأرعَن): الجبل الطويل. (الغارب): أعلى الظهر، حيث يتّصل بالعنق. (2) (يلوث):

يعصب. (3) (تبتّل): تنسّك. (أوّاه): راهب. (4) (المُدلج): السائر في الليل. (المُؤوّب): الراجع. قالَ: نامَ القيلولة (أي وقت إشتداد الحرّ في الظهيرة).

أضحى التنائي

لابن زيدون

أضحى التنائي بَديلاً مِنْ تَدانِينَا

وَنَابَ عَنْ طِيبِ لُقْيَانا تَجافِينا

بِنْتُم وبِنَّا فَما ابْتَلَّتْ جَوانِحُنا

شَوْقًا إليْكُمْ، وَلا جَفَّتْ مَآقِينا 1

يَكَادُ حِينَ تُناجِيكُمْ ضَمَائِرُنا

يَقضي عَليْنا الأسى لَوْلاَ تَأسَّينَا 2


*166*

حَالِتْ لِفَقْدِكَمَ أيَّامُنا فَغَدَتْ

سُودًا وَكانَتْ بِكُمْ بِيضًا لَيالينَا 3

إذْ جَانِبُ العَيشِ طَلْقٌ مِنْ تَألُّفِنَا

وَمَوْرِدُ اللَّهْوِ صَافٍ مِنْ تَصَافِينا

وَإذْ هَصَرْنَا غُصُونَ الأُنْسِ دَانِيَةً

قُطُوفُها، فَجَنَيْنا مِنهُ مَا شٍينًا 4

لِيُسْقَ عَهْدَكُمُ، عهدُ السُّرورِ فما

كُنْتُمْ لأرواحِنَا إلا رَيَاحِينَا

إنَّ الزَّمانَ الذي مَا زَالَ يُضْحِكُنا

أُنْسًا بِقُرْبِكُمُ قَدْ عَادَ يُبْكينَا

مَا حَقُّنَا أنْ تُقِرُّوا عَيْنَ ذِي حَسَدٍ

بِنَا، وَلا أنْ تَسُرُّوا كاشِحًا فِينَا 5

غِيظَ العِدَى مِنْ تَساقِينَا الهَوى فَدَعَوا

بِأنْ نغَصَّ فقالَ الدَّهْرُ آمِينَا! 6

فَانحَلَّ مَا كَانَ مَعِقُودًا بِأنْفُسِنَا

وانْبَتَّ مَا كانَ مَوْصُولاً بِأيْدينَا 7

وقَدْ نكونُ وَما يُخْشَى تَفرُّقُنا

فاليومَ نَحْنُ ومَا يُرْجَى تَلاقِينَا

لا تَحْسَبُوا نَأيَكُمُ عَنَّا يُغيِّرُنا

إذ طَالَما غَيَّر النَّايُ المحبّينا 8

يا ساريَ البَرقِ غَادِ القَصْرَ فَاسْقِ بِهِ

مَن كانَ صِرْفَ الهَوى والوُدِّ يَسقينَا 9

ويَا نَسيمَ الصَّبا بَلِّغْ تَحِيَّيّنا

مَن لَوْ عَلَى البُعْدِ حَيّا كانَ يُحيينَا

يَا روضةً طالَما أجنَتْ لَواحِظِنا

ورْدًا جَلاَهُ الصِّبَا غَضًّا ونِسْرينا 10

ويَا حَياةً تَملَّيْنَا بِزَهوتِها

مُنىً ضُروبًا ولذَّاتٍ أفانِينَا 11

وَيا نَعيمًا خَطَرْنَا مِنْ غَصَارَتِهِ

في وَشْيِ نُعْمى سَحَبْنَا ذَيْلَها حِينَا 12

لَسْنَا نُسَمّيكَ إجْلالاً وَتَكْرُمَةً

وَقَدْرُكَ المُعتَلي عَنْ ذَاكَ يُغْنينا

يَا جَنَّةَ الخُلْدِ أبدِلْنا بِسَلْسَلِها

والكَوثَرِ العذْبِ زَقُّومًا وَغسْلينا 13

إنْ كانَ قَدْ عَزَّ في الدُنيا اللِّقاءُ ففي

مَواقِف الحَشْرِ نَلقاكُمْ وَيَكْفينا

إنَّا قَرأنَا الأسَى يَومَ النَّوى سُوَرًا

مَكتُوبَةً وَأخذَنَا الصَّبْرَ تَلقِينا

عَلَيْكِ مِنِّي سَلامُ الله مَا بَقِيَتْ

صَبابَةٌ منكِ تَخْفينَا 14


*167*

الشرح:

(1) ( بنتم ): بعدتم. (الجوانح): الضلوع والمراد ما بداخلها من القلب والحشا. (ولا جفّت مآقينا): ما جفت عيوننا من الدمع والبكاء عليكم. (2) (التأسي): التصبر والتجلد. (3) (حالت): استحالت من بيض الى سود. (4) (هصرنا): أملنا الينا، وقد شبه الوصل بشجرة. (القطوف): الثمار التي تجنى وتقطف. (شينا): مخففة من شئنا. (5) (الكاشح): العدو. (إن تقررا عين ذي حسدٍ): تسروا الحاسد. (6) (غص بالماء): شرق به. (7) (انْبَتَّ): انقطع. (موصول): متصل. (8) (النأي): البعد. (9) (غاد القصر واسق): أسق القصر باكرًا. (10) (النسرين): نوع من الورد أبيض الزهر عطر الرائحة. (أجنت): جعلته تجني أي تقطف. (11) (تملينا): تمتعنا. (أفانين): أنواع مفردها أفنون. (لذات أفانين): لذات مختلفة الأشكال. (12) (خطرنا): مشينا عجبًا وتيهًا. (غضارة): النضرة. (وخفض العيش) هنيئًا. (الوشي): نوع من الثياب الحريرية المنقوشة. (13) (السلسل): الماء العذب البارد. (الكوثر): نهر في الجنة. (الزقوم والغسلين): طعامان من أطعمة أهل النار. (14) (تخفيها): نسترها.

جادك الغيث لسان الدين بن الخطيب


*167*

جَادَكَ الغَيْثُ إذا هَمَى يا زَمانَ الوَصْلِ بالأندَلُسِ

لَم يَكُن وَصلُكَ إلاّ حُلُما في الكَرَى، أو خُلسَةَ المُخْتَلِسِ

إذ يَقُودُ الدَّهرُ أشتاتُ المُنَى

يَنْقُلُ الخَطوَ عَلَى ما يَرسُمُ

زُمَرًا بَينَ فُرادَى وَثُنَى

مِثلَ ما يَدعُو الوُفُودَ المَوسِمِ

وَالحَيَا قَد جَلَّلَ الرَّوضَ سَنَا


*168*

فَثُغُورُ الزَّهرِ فيهِ تَبْسِمُ

وَرَوَى النُّعمانُ عَن ماءِ السَّما

كَيفَ يَروي مالِكٌ عَن أنَسِ 1

فَكَساهُ الحُسنُ ثَوبًا مُعلما

يَزدَهِي منهُ بِأبهَى مَلبَسِ

بِالدُّجَى لَولا شُموسُ الغُرَرِ 2

مالَ نَجمُ الكَاسِ فِيها وَهَوى

مُستَقيمَ السَّيرِ سَعدَ الأثَرِ 3

وَطَرٌ مَرَّ كَلَمحِ البَصَر

حِينَ لَذَّ الأنسُ شَيئًا أو كَمَا

هَجَمَ الصُبحُ هُجُومَ الحَرَسِ

غارَت الشُهبُ بِنا أو رُبَّما

أثَّرَت فينا عُيُون النَّرجِسِ

أيُّ شَيءٍ لامرِئٍ قَد خَلَصَا

فَيَكُونُ الرَّوضُ قَد مُكِّنَ فِيه

تَنهَبُ الأزهارُ فيهِ الفُرَصَا

أمِنت مِن مَكرِهِ ما تَتَّقِيه

فاذا الماءُ تناجى والحصى

وَخَلا كُلُ خَليلٍ بأخِيه

تُبصِرُ الوَردَ غَيورًا بَرِمَا

يَكتَسي مِن غَيظِه ما يَكتَسي

وَتَرَى الآسَ لَبِيبًا فَهِمَا

يَسرِقُ السَّمعَ بِأذنَيْ فَرَسِ

يا أهَيلَ الحَيَّ من وادي الغَضَا

رَبِقَلبِي سَكَنٌ أنتُم بِهِ


*169*

ضَاقَ عَن وَجدِي بكُم رَحبُ الفَضَا

لا أبالي شَرقَهُ مِن غرِبِهِ

فَأعيدُوا عَهدَ أنسٍ قَد مَضَى

تُعتِقُوا عانِيَكُم مِن كَربِهِ

وَأتْقُوا الله وَأحيُوا مُغرَمَا

يَتَلاشَى نَفَسًا فِي نَفَسِ

حَبَسَ القلبَ عَليكُم كَرَمَا

أفَتَرضَونَ عَفَاءَ الحُبُسِ؟

ديوان الشعر العربي / أدونيس بيروت

الشرح:

(1) (النُعْمان): لقب ملوك الحيرة، وأيضًا زهر البرقوق الأحمر يدعى شقائق النعمان. (وماء السماء): ام أحد ملوك الحيرة. وهر أيضًا المطر. (ومالك): هو أحد جامعي الحديث النبو الشريف، (وأنَس) والده المعنى الظاهر: النعمان روى عن أمه ماء السماء مثلما رَوى مالك عن والده أنس. المعنى الباطن: ان زهر البرقوق أخذ الماء من المطر هنيئًا مثلما أخذ الحديث الشريف عن والده أنس.

(2) أي ان سرّ الهوى لم ينكتم بسبب شُموس الغُرَر. وشموس الغرر تلميح لأفاضل الوجوه. ولعله يقصد الجواري.

(3) (مال نجم الكأس. الخ). اشاره عن السعادة التي بمثلها القماع الكاس في أَيديهما التي ترفعه وتنزله. والمعنى الظاهر يوحي بعكس ذلك. لان الاصطلاح (مال نجمه) معنا.. تحول من السعادة الى البؤس.


*170*

شعر فاطمي وصف الإمام


*170*

مدح العزيز للأمير تميم بن المعزّ لدين الله

جِئتَ الخِلافَةَ لَمّا أن دَعَتكَ كَما

وافى لِميقاتِهِ موسى عَلَى قَدَرِ

كَالأرضِ جادَ عَلَيها الغَيثُ مَنهَمِلاً

فَزانَها بِضُرُوبِ الرَّوضِ وَالزَّهرِ

ما أنتَ دُونَ مُلُوكِ العالَمِينَ سوَى

رُوحٍ مِنَ القُدْسِ في جسْمٍ مِنَ البَشَرِ

نورٌ لَطيفٌ تَناهَى مِنكَ جَوهَرُهُ

تَناهِيًا جازَ حَدَّ الشَّمسِ وَالقَمَرِ

معنى من العِلّةِ الأولَى التي سَبَقَت

خَلقَ الهَيُولَى وَبسْطَ الأرضِ وَالمدَرِ

فَأنتَ بِاللهِ دُونَ الخَلقِ مُتَّصِلٌ

وَأنتَ لِلهِ فيهِم خَيرُ مُؤتَمر 1

وَأنتَ آيَتُهُ مِن نَسلِ مُرْسَلِهِ

وَأنتَ خِيرتُهُ الغَرَّاءُ مِن مُضَرِ

لَو شِئتَ لَم تَرضَ بِالدُّنيا وَساكِنِها

مَثوىً وَكُنتَ مَلِيكَ الأنجُمِ الزُّهُرِ

وَلَو تَفاطَنَتِ الألبابُ فِيكَ دَرَت

بأنّها عَنكَ في عَجزٍ وَفي حَصَرِ

أدب مصر الفاطميَة – 177

الشرح:

(1) الإمام ليس كبقيّة الملوك، اللطيفة هي روح قدسيّة حلّت في جِسم كثيف تُرابِييّ. وهي تناسب العقل العلّة الأولى - وبما أنَّ العقل الأوّل هو أقرب مبدعات الله إليه سبحانه، كذلك الإمام فهو أقرب المخلوقات لِله، متّصل بالله كالعقل.


*171*

دفاع عن الفاطميين عمارة اليمني (1)


*171*

بعد القضاء على الدولة الفاطميّة وموت العاضد، اتَّفق ان اجتمع الشاعر يحيى أبو سالم بن الأَحدَب بن أبي حصينة والشاعر عمارة اليمني في قصر اللؤلؤة فأنشَدَ أبو سالم في نجم الدين أيوب:

يا مالِكَ الأرضِ لا أرضَى لَهُ طَرَفاً

مِنها، وما كانَ منها لم يكنْ طرفا

قَد عَجَّلَ اللهُ هذي الدَّارَ تَسكُنُها

وَقَد أعَدَّ لَكَ الجَنّاتِ وَالغُرَفَا

تشرّفَتْ بِكَ عَمَّن كانَ يَسكُنُها

فَالْبَسْ بِها العَزَّ، وَلَتَلْبَسْ بِكَ الشّرفَا

كانوا بِها صَدَفاً والدَّارُ لَتؤلَؤةً

وَأنتَ لُؤلؤةٌ صارَت لها صَدَفا

فأجابه عمارة:

أثِمتَ يا مَن هَجا الساداتِ وَالخُلَفا

وَقُلتَ ما قُلتَهُ في ثَلبِهِم سُخُفا

جَعَلَتهُم صَدَفاً حَلُّوا بِلُؤلُؤَةٍ

وَالعُرفُ ما زالً سُكنَى اللُّؤلُؤ الصَّدَفا

وَإنَّما هِيَ دارٌ حَلَّ جَوهَرُهُم

فيها، وَشَفَّ فَأسناها الذي وصَفا

فَقالَ لُؤلُؤةٌ عُجْباً بِبَهجَتِها

وَكَونِها حَوَتِ الأشرافَ والشَّرَفا

فَهُم بِسُكناهُمُ الآياتُ إذ سَكَنوا

فيها، وَمن قَبلِها قَد أسكِنوا الصُّحُفا

والجَوهَرُ الفردُ نورٌ لَيسَ يَعرفُهُ

مِنَ البَرِّيَةِ إلاّ كُلُّ مَن عَرَفا

لَولا تَجَسُّمُهُم فيهِ لَكانَ عَلَى

ضَعفِ البَصائِرِ لِلأبصارِ مُختَطِفا


*172*

(1) واحد من العديد من شعراء السنّة الذين وفدوا الى مصر الفاطميّة ومدحوا أئمتها. وعمارة سُنّيّ شافعي، ولكن شعره متاثّر الى حد بعيد بالمعاني الفاطمية.

فأنظر الى قول عمارة: أن جوهرهم هو الذي حلّ بهذه الدار، وَإن الآيات سكنتها وكانت تسكن الصحف، وحديثه عن الجوهر الفرد الذي هو نور تجسَّمَ في الأئمَةَ.

كان شعراء الفاطميين يُلِمون بالعقائد الفاطميّة، وكانوا يشيدون بهذه العقائد ليتقربوا إليهم وينالوا عطاياهم. ومنهم من أسرَفَ في ذلك، ومنهم مَن اعتدل. وعلى كل حال فقد كان شعر الدولة الفاطمية شعر مذهَب وشعر دعوة بِغَضِّ النظر عن الدوافع لذلك.


*173*

ذات الدوحة للإسكندراني


*173*

1 كسى الشرقَ والغربَ الإمامُ غرائبا

من الجودِ والإقبالِ فالدهرُ مشرقُ

2 كسى الدينَ من لا دينَ إلا بحبّهِ

عُلُوّاً فسيفُ الحقِّ بالحقِّ مُطلقُ

3 كسى الدينَ والدنيا العزيزُ جلابباً

بأيامِهِ اللاتي بها الصخرُ يورقُ

4 كسى الدينَ والدنيا نزارٌ هدايةً

يبيتُ بها قلبُ المعاني يَخفقُ

5 كسى الدينَ والدنيا نزارٌ جلابباً

ترى النورَ من أغصانِها يتألَّقُ

6 كسى الدينَ والدنيا نزارٌ جلابباً

من اليمنِ تُردى للطغاةِ وتوبقُ

7 كسى الدينَ والدنيا نزارٌ جلابباً

من اليمنِ والإيمانِ فالأمرُ موفقُ

8 كسى الدينَ والدّنيا نزارٌ جلابباً

من اليمن والإيمان لا يَتَمزَّقُ

7 كسى الدينَ والدنيا نزارٌ جلاببا

من اليمنِ والإيمان فالشكُّ مغلقُ

6 كسى الدينَ والدنيا نزارٌ جلابباً

من اليمنِ والإقبالِ فالدهرُ مطرقُ

5 كسى الدِينَ والدنيا نزارٌ جلابيباً

مُجَدِّدَةً في نعمةٍ ليسَ تَخْلُقُ

4 كسى الدينَ والدنيا نزارٌ سلامةً

تَزيدُ على طولِ الزمانِ وتَسبقُ

3 كسى الدينَ والدنيا حدائقَ نعمةٍ

فَرَوض ثرى الإيمانِ بالزّهرِ مُوثِقُ

2 كسى الدينَ بالمعروفِ والجودِ جنّةً

تُحَصِّن ُهُ مِّمن يَحيدُ ويمرُقُ

1 كسى عدلُّهُ الأيامَ نوراً وبهجةً

فها السُنُ الأيامِ بالشّكرِ تَنطِقُ


*174*

باح الفؤاد


*174*

(1) باحَ الفُؤادُ بِسِرٍّ غَيرِ مُنكَتِمِ

فَنَمَّ دَمعِي بِما عِندي مِنَ الألَمِ

وَرُحتُ أشكو لِمَن أهوَى فَعارَضَنِي

وَقالَ: إنّكِ في الدَّعوَى لَمُتَّهِمِي

(2) فَقُلتُ: لو أنَّنِي قَد كُنتُ مُدَّعياً

ما فاضت العَينُ في يومٍ النَّوَى بِدِمِ

وَلا تَمايَلتُ مِن ذِكراكُمُ طَرَباً

كَما تَمِيلُ غُصُونُ البانِ بِالنَّسَمٍ

(3) وَلا تَنَفَّستُ بِالصَّعْداءِ مِن كَبدٍ

حَرَّى، ولا زَالَ مِنّي الجِسمُ بِالسَّقَمِ

(4) ولا قَضَيتُ الليالي فيكَ مُفتَكِراً

بِمُقلَةٍ كُحِّلَت بِالدَّمعِ لَم تَنَمِ

(5) وَلا نَزَعتُ رِداءَ الصَّبرِ عَن جَسَدٍ

صَيَّرْتَهُ بِالجَفا لَحماً عَلَى وَضَم

(6) إن كانَ سَفكُ دَمِي أقصَى مُرادِكُمُ

فَما غَلَت نَظرَةٌ مَنكُم بِسَفكِ دَمِي

(7) وَلَستُ سَالِيَ وُدٍّ بِالجَفا أبَداً

كَلاّ، وَلا ناقَضاً لِلعَهدِ وَالذِّمَمِ

(8) وَلا انثَنَى عَنكَ لِي قَصْدٌ الى أحَدٍ

بَينَ البَرّيَةِ مِن عُربٍ وَمِن عَجَمِ

وَلو تُقاسُ بِأهلِ الأرضِ قاطِبَةً

لَكُنتَ عِندي بِوَزنِ النَاس كُلّهِمِ

لأنَّ حُبَكَ سَهمٌ قَد رُميتُ بِهِ

وَلا يُخَال رُجوعُ السَّهمِ حينَ رُمِي

(9) إن لَم تَكُن نُصبَ عَينَي كانَ شَخصُكَ في

قَلبِي وَذِكرُكَ يُحلِي خاطِري وَفَمِي

ثلاثة علماء من شيوخ بني معروف ص 18-20

الشرح:

(1) (نَمَّ دمعي): أظهَرَ ما بي. (2) (النوى): البُعد. (3) (الصَّعداء): المَشَقَّة. (الحَرَّى): الشديدة العطش، وهي مؤنَث حَرّان. (4) (المقلة): للعين. وحرف الجرّ متعلق بفعل قضيت.


*175*

(5) (الوَضم): خشبة الجَزَّار يقطع عليها اللحم ويقال: (هو لحم على. وَضَم): أي ذليل ضائع. (6) (غَلا): يغلوا، جاوَزَ الحدْ والمَدَى. (7) (سالي الوُدّ): ناسي المحبّة.

(8) (إنثنى): إنعَطَفَ وارتَدَّ. (البَرِيَّة): الخليقة. (9) (يُحليه): يجعله حُلواً.

مختارات من حكم الأمير سيف الدين التنوخي


*175*

الأمير سيف التنوخي

قال:

وأيّْ سلامةٍ للشّاةِ تُرجَى

وأيّْ هناءَةٍ والذئبُ راعِ

وما يومٌ مضى في الدّهرِ إلاّ

ومَرَّ بفُرقَةٍ أو باجتماعِ

وقال أيضاً:

لا حيلةٌ في قَضاءٍ ساقَهُ قَدَرُ

ففي المقاديرِ يَعمى القلبُ والبصَرُ

والمرءُ ما دامتِ الأيامُ مُدْبِرَةً

عنهُ تَساوى لَديْهِ النّفْعُ والضَّرَرُ

إنَّ القضَاءَ إذا لاحتْ بوادرُهُ

لم يُنجِ من خَطْبِهِ خَوْفٌ ولا حَذَرُ

يَسعى إليهِ الفتى طَوْعاً وَتَتْبَعُهُ

أوامرُ النفسِ والمقْضِيُّ مستَتِرُ

والنفسُ أمارةٌ بالسّوءِ إن طَلَبَتْ

أمراً يَهونُ عَليها المسْلَكُ الوَعِرُ

عدوُّ كلِّ لَبيبٍ نَفْسُهُ، فَإذا

ما استحكمَتْ منهُ لا تُبقي ولا تَذَرُ

تأتي معَ القَدرِ المحتومِ طاعَتُها

ولا يُطيقُ الفتى أن يُمنَعَ القَدَرُ

قَسْراً يقودُ هَواها عَقْلَ صاحِبِها

حتّى يجيءَ عليهِ الحادثُ الخَطِرُ

ما تنتهي بوَعيدٍ في شَبيبَتِها

إلاّ إذا ما نهاها الشَّيْبُ والكِبَرُ

إنَّ ارتكابَ الهَوى عارٌ وفاحشةٌ

لا عاذرٌ لكَ فيه حينَ تَعْتذرُ

أمَا تَرى أهلَهُ في حَيْرةٍ أبداً

كأنَّما بِهِمُ سُكْرٌ وما سَكِروا


*176*

مُمْسينَ غادِينَ في أبصارِهمْ كَلَلٌ

عنِ التَّهدّي وفي آذانِهِمْ وَقَرٌ

ثلاثة علماء من شيوخ بني معروف - ص 23-29

أهل المودة الشيخ الفاضل


*176*

أهلُ المَوَدَّةِ ما نالُوا الذي طَلَبُوا

حَتَّى لِرَبِّهِمُ في الخَلوَةِ انفَرَدوا

تَراهُمُ الدَّهرَ لا يَمْضُونَ مِن بَلَدٍ

إلاّ وَيَبكِي عَلَيهِم ذلِكَ البَلَدُ

لا يَعطِفونَ عَلَى أهلٍ وَلا ولَدٍ

وَلا يَنامونَ إذ كانَ الوَرَى رَقَدوا

فَالذِّكرُ مَطعَمُهُم وَالشُّكرُ مَشرَبُهُم

وَالوَجدُ مَركَبُهُم مِن أجلِ ذا سَعِدوا

لا يَبرَحونَ عَلَى أبوابِ سَيّدِهِمِ

وَلا يُريدونَ إلاّ مَن لَهُ عَبَدُوا

فالشَّوقُ يُضرِمُ ناراً في قُلُوبِهِمُ

وَنارُهُم في دُجَى الظُّلْماتِ تَتَّقِدُ

مَساجِدُ اللهِ مَأواهُم ومَسكَنُهُمْ

وَعَيشُهُم طَيَّبٌ في قُربِهِ رَغَدُ

ناجَوهُ في القُربِ بِالتَّعظيمِ مُنْفَرِداً

غابوا عَنِ الكَونِ فيهِ عِندما شَهِدوا

مَتُّوا إليهِ بِأسبابٍ مُوَسّلَةٍ

فَخَصَّهُم بِالوِصالِ الواحِدُ الصَّمَدُ 1

الشَّوقُ أقلَقَهُم والخَوفُ أحرقَهُم

طوبى لِقومٍ إلَى الفِردَوسِ قَد وَرَدوا

وَالصَّبرُ قَد تَخِذوا مِنهُ مَطِيَّتَهُم

نالوا الذي طَلَبوا، يا فَوزَهُم، سَعِدوا

الشرح:

(1) (مَتّوا اليه بأسباب): تَوَسَّلوا بِذرائِع وَصِلات. (موسّلة): مُقرّبة. (الصمد): السيد المطاع وهنا معناها الله تعالى.


*177*

مختارات من القصيدة المخمسة الشيخ الكفر قومي


*177*

ما لِي بِحَرِّ اللَّظَى صَبْرٌ وَلا جَلَدُ

وَلَيسَ لِي غَيرُ ظَنّي فيكَ مُعَتَمَدُ

فازَ الذي بِكَ يا مَولايَ مُستَنِدُ

وَالحَمدُ لِلّهِ رَبٌّ واحِدٌ أحَدُ

مُنَزَّهُ الذاتِ عَن كُفْءٍ وَعَن ثانِ

مُقدَّسٌ عَن إشاراتٍ وَعَن عَدَدٍ

وَعَن شَبيهٍ وَعَن مِثلٍ وَعَن جَسَدِ

وعن نظيرٍ وَعن نِدًّ وَمُلتَحِدِ

وَعَن قَرِينٍ وعَن أهلٍ وَعَن وَلَدِ

وَعَن شَريكٍ وَأشباهٍ وَأعوانِ

حاشاهُ مِن وَصفِ تَكييفٍ وَمِن جِهَةٍ

وَكُلِّ أينٍ وَتَحديدٍ بِمَعرِفَةِ

وَجَلَّ عَن وَصفِ ألفاظٍ وَعَن لُغَةِ

مُقَدَّسُ الذَاتِ عَن اسمٍ وعَن صِفَةِ

وَعَن إحاطَةِ أفكارٍ وَأزمانِ

رَضيتُ عَدلَكَ في حُكمٍ وَفَصْلِ قَضا

في كُلِّ حالٍ عَلَى ما يُرتَجَى وَمَضَى

وَإن صُلِيْتُ بِما يُرضيكَ جَمرَ غَضا

بَعِزِّ عِزّكَ يا ذا العِزّ جُدْ بِرِضا

لِذُلِّ ذُلِّي فَما لِي عَنكَ مِن ثانِ

كتاب ثلاثة علماء من شيوخ بني معروف – ص 78


*178*

الحمامة المطوقة (عن كتاب كليلة ودمنه) عبد الله بن المقفع


*178*

قالَ دَبشَليمُ المَلِكُ لِبَيدَبا الفَيلَسوفِ:

حَدِّثني، إن رأيْتَ، عَن إخْوانِ الصَّفا كَيفَ يَبْتَدِىءُ تَواصُلُهُم، وَيَستَمْتِعُ بَعْضُهُم بِبَعْضٍ.

قالَ الفَيلَسوفُ: إنَّ العاقِلَ لا يَعْدِلُ بِالإخْوانِ شَيئاً. فالإخْوانُ هُمُ الأعْوانُ على الخَيْرِ كُلِّهِ، وَالمَؤاسُونَ عِنْدَما يَنُوبُ مِنَ المَكروهِ وَمِن أمثالِ ذلكَ مَثَلُ الحَمامَةِ المَطَوَّقَةِ وَالجُرَذِ.

قالَ المَلِكُ: وَكَيفَ كانَ ذلكَ؟

قالَ بَيدَبا: زَعَموا أنَّهُ كانَ بِأرضِ سكاوندجين، عِندَ مَدِينَةِ داهِرَ، مَكانٌ كثيرُ الصَّيْدِ يَنْتَابُهُ الصَّيَّادونً. كانَ في ذلكَ المَكانِ شَجَرَةٌ كَثيرَةُ الأغصانِ مُلْتَفَّةُ الوَرَقِ، فيها وَكْرُ غُرابٍ. فَبَينَما هَوَ ذاتَ يَومٍ ساقِطٌ في وَكْرِهِ، إذ بَصُرَ بِصَيَّادٍ قَبيحِ المَنظَرِ سَيِّىء الخَلْقِ، وَقُبحُ مَنظَرِهِ يَدُلُّ على سُوءِ مَخبرِهِ. عَلَى عاتِقِهِ شَبَكَةٌ، وَفي يَدِهِ عَصاً، مٌقْبِلاً نَحوَ الشَّجَرَةِ. فَذُعِرَ مِنهُ الغرابُ وَقالَ: لَقَد ساقَ هذا الرَّجُلُ إلى هذا المَكانِ إمّا حَيِني، وَإمَّا حَيْنُ غَيْري، فَلأُثبتَنَّ مَكاني حَتَّى أنظُرَ ماذا يَصْنَعُ. ثُمَّ إنَّ الصَّيَّادَ نَصَبَ شَبَكَتَهُ، وَنَثَرَ عليهَا الحَبَّ، وَكَمَنَ قَريباً مِنْها. فَلَمْ يَلْبَثْ إلا قَليلاً حَتَّى مَرَّت بِهِ حَمامَةٌ يُقالُ لَها المُطَوَّقَةُ، وَكانَت سَيِّدَةَ الحَمامِ، وَمَعَها حَمامٌ كَثيرٌ. فَعَمِيَت هِيَ وَصاحِباتُها عَنِ


*179*

الشَّرَكِ. فَوَقَعْنَ عَلَى الحَبِّ يَلْتَقِطْنَهُ، فَعَلِقنَ في الشَّبَكَةِ كُلُّهُنِّ وَأقْبَلَ الصَّيَّادُ فَرِحاً مَسرُوراً. فَجَعَلَت كُلُّ حَمامَةٍ تَتَلَجلَجُ في حَبائِلِها، وَتَلْتَمِسُ الخَلاصَ لِنَفْسِها. قالَتِ المُطَوَّقَةُ: لا تَتَخاذَلنَ في الْمُعالَجَةِ، وَلا تَكُنْ نَفْسُ إحْداكُنَّ أهَمَّ إلَيْها مِن نَفْسِ صاحِبَتِها. وَلكِن نَتَعاوَنُ جَميعُنا وَنَطيرُ كَطائِرٍ وَاحِدٍ فَيَنْجُو بَعْضُنا بِبَعْضٍ. فَجَمَعْنَ أنْفُسَهُنَّ وَوَثَبْنَ وَثْبَةً واحِدَةً. فَقَلَعْنَ الشَّبَكَةَ جَميِعُهُنَّ، وَعَلَوْنَ بِها في الجَوِّ. وَلَم يَقْطَعِ الصَّيَّادُ رَجاءَهُ مِنْهُنَّ. وَظَنَّ أنَّهُنَّ لا يُجاوِزْنَ إلا قَرِيباً حَتَّى يَقَعْنَ. فَقالَ الغُرابُ لأَتْبَعُهُنَّ وَأَنْظُرُ ما يَكونُ مِنْهُنَّ. فَالْتَفَتَتِ المُطَوَّقَةُ فَرَأتِ الصَّيَّادُ يَتْبَعُهُنَّ، فَقالتْ لِلْحَمامِ: هذا الصَّيَّادُ جادٌّ في طَلَبِكُنَّ، فَإنْ نَحْنُ أخَذْنا فِي الفَضَاءِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ أمرُنا، َلَم يَزَل يَتبَعُنا. وَإن نَحْنُ تَوَجَّهنا الى العُمرانِ خَفِيَ عَلَيْهِ أمرُنا وَانصَرَفَ. وَبِمَكانِ كَذا جُرَذٌ هُوَ لي أخٌ، فَلوِ انْتَهَيْنا إلَيْهِ قَطَعَ عَنَّا هذا الشَّرَكَ. فَفَعَلْنَ ذلكَ. وَيَئِسَ الصَّيَّادُ مِنْهُنَّ وانصَرَفَ. وَتَبِعَهُنَّ الغُرابُ لِيَنْظُرَ إليهِنَّ لَعَلَّهُ يَتَعَلَّمُ مِنْهُنَّ حيلَةً تَكونُ لَهُ عُدَّةً عِندَ الحاجَةِ. فَلَمَّا انْتَهَتِ الحَمامَةُ المُطَوَّقَةُ إلى الجُرَذِ أمَرَتِ الحَمامَ أن يَقَعنَ فَوَقَعْنَ. وَكَانَ لِلْجُرَذِ مِئَةُ جُحرٍ أعَدَّها لِلمَخاوِفِ. فَنادَتهُ المُطَوَّقَةُ بِاسمِهِ، وَكَانَ اسمُهُ أيزَكَ، فَأجابَها الجُرَذُ مِنْ جُحْرِهِ: مَنْ أنتِ؟ فَقالتْ: خَلِيلَتُكَ المَطَوَّقَةُ. فَأقبَلَ إلَيها الجُرَذُ يَسعَى، فَقالَ لَها: ما أوْقَعَكِ في هذِهِ الوَرطَةِ؟ قالَت لهُ: ألَمْ تَعلَم أنَّهُ لَيسَ مِنَ الخَيْرِ وَالشَّرِّ شَيءٌ إلا وَهوَ مُقَدَّرٌ عَلَى مَن تُصيبُهُ المَقادِيرُ، وهيَ التي أوْقَعَتْنِي في هذِهِ الوَرْطَةِ. فَقَد لا يَمْتَنِعُ مِنَ القّدَرِ مَن هوَ أقوَى وأعْظَمُ أمراً. وَقَد تَنكَسِفُ الشَّمْسُ وَيَنْخَسِفُ القَمَرُ، إذا قُضِيَ ذلكَ عَلَيْهِما. ثُمَّ إنَّ الجُرَذَ أخَذَ في قَرْضِ العَقْدِ الذي فيهِ المُطَوَّقَةٌ. فقالَتْ لَهُ المُطَوَّقَةُ: ابْدأ بَقَطْعِ عَقدِ سائِرِ الْحَمامِ، وَبَعدَ ذلكَ أقْبِلْ عَلَى عَقدي. فَأعادَت عَلَيهِ ذلكَ مِراراً وهوَ لا يَلتَفِتُ إلى قَولِها. فَلمَّا أكثَرَت عَلَيهِ القَوْلَ وَكَرَّرَت، قالَ لَها: لَقَد كَرَّرَتِ القَوْلَ عَلَيَّ، لكأَنَّكِ لِيسَ لَكِ في نَفسِكِ حاجَةٌ وَلا لِكِ عَلَيها شَفَقَةٌ وَلا تَرعَينَ حَقَّاً. فقالَت: إنّي أخافُ إن أنتَ بَدأتَ بِقَطْعِ عَقْدي، أنْ تَمَلَّ وَتَكْسَل عَنْ قَطْعِ ما بَقِيَ. وَعَرفتُ أنَّكَ، إن بَدأتَ بِهِنَّ قَبلي وَكُنتُ أنا


*180*

الأخيرَةَ، لَم تَرْضَ، وَإن أدْرَكَكَ الفُتورُ، أن أبقَى في الشَّرَكِ قالَ الجُرَذُ: هذا مِمّا يَزيدُ الرَّغبَةَ فيكِ وَالمَوَدَّةَ لَكِ، ثُمَّ إنَّ الجُرَذَ أخَذَ في قَرْضِ الشَّبَكَةِ حَتَّى فَرَغَ مَنها. فَانطَلَقَتِ المُطّوَّقَةُ وَحَمامُها مَعَها.

فَلَمَّا رأى الغُرابُ صُنعَ الجُرَذِ في مُصادَقَتِهِ، فَجاءَ وَناداهُ بِاسمِهِ، فَأخْرَجَ الجُرَذُ رَأسَهُ فَقَالَ لَهُ: (ما حاجَتُكَ؟). قَالَ: (إنِّي أريدُ مُصادَقَتَكَ) قالَ الجُرَذُ: (لَيْسَ بَيْني وَبَيْنَكَ تَواصُلٌ، وَإنَّما العاقِلُ يَنبَغي لَهُ أن يَلْتَمِسَ ما يَجِدُ إليهِ سَبيلا، ويَتْرُكَ التِماسَ ما لَيسَ إليهِ سَبيلٌ. كَمَن أرادَ أن يُجرِيَ السَّفُنَ في البَرِّ وَالعَجَلَ في البَحْرِ، فَإن أنتَ إلا آكِلٌ وَأنا طَعامٌ لَكَ). قالَ الغُرابُ: (إنَّ أكلي إيَّاكَ، وَإن كُنتَ لي طَعاماً، مَمّا لا يُغْني عَنّى شَيْئاً. إنْ موَدَّتَكَ آنَسُ لي مِمّا ذكَرتَ، وَلَستَ بِحَقيقٍ، إذ جِئتُ أطلُبُ مَوَدَّتَكَ، أَنْ تَرُدَّني خائِباً، فَإنَّهُ قَد ظَهَرَ لي مِنْكَ مِن حُسنِ الْخُلُقِ ما رَغَّبَني فيكَ، وَإنْ لَم تَكُنْ تَلتَمِسُ إظْهارَ ذلكَ. فَإنَّ العاقِلَ لا يخفَى فَضلُهُ وَإن هُوَ أخفاهُ، كَالمِسكِ الذي يُكتَمُ ثُمَّ لا يَمنَعُهُ ذلكَ مِنَ النَّشرِ وَالطِّيبِ وَالأرَجِ الفائِحِ). قالَ الجٌرَذُ: (قَدْ قَبِلْتُ إخاءَكَ فَإنِّي لَم أردُدْ أحَداً عِن حاجَةٍ قَطُّ وإنَّما بَلَوْتُكَ بِما بَلَوْتُكَ بِما بَلَوْتُكَ بِهِ إرادَةَ التَّوَثُّقِ بنَفْسِي. فَإن أنتَ غَدَرْتَ بي لَم تَقُل إنِّي وَجَدْتُ الجُرْذَ ضعيفَ الرَّأيِ سَريع الانْخِداعِ) ثُمَّ خَرَجَ مِن جُحْرِهِ فَوَقَفَ عنْدَ البابِ فقالَ لَهُ الغُرابُ: (ما يمنَعُكَ مِنَ الخُروجِ إلَيَّ والاستِئناسِ بي، أوَ في نَفسِكَ بَعْدُ مِنَّي رَيْبَةٌ؟؟). قالَ الجُرَذُ: (إِنَّي واثِقٌ مِنكَ بِذاتِ نَفْسِكَ، وَمَنَحْتُكَ مِن نَفسِي مِثلَ ذلكَ. وَلَيسَ يَمنَعُني مِنَ الخُروجِ إلَيْكَ سُوءُ ظَنٍّ بِكَ. وَلكِن قَد عَرَفتُ أنَّ لَكَ أصْحاباً جَوْهَرُهُم كَجَوْهَرِكَ، وَلَيسَ رَأيُهُم فِيَّ كَرَأيِكَ). قالَ الغُرابُ: (إنَّ مِن عَلامَةِ الصَّديقِ أن يَكونَ لِصديقِ صَديقِهِ صَديقاً وَلِعَدُوِّ صَديقِهِ عَدُوَاً. وَلَيسَ لي بَصاحِبٍ ولا صَديقٍ مَن لا يًكونُ لَكَ مُحِباً). ثُمَّ إنَّ الجُرذَ خَرَجَ إلى الغُرابِ فَتَصافَحا وتَصافَيا، وَأنِسَ كُلُّ واحِدٍ منهُما بِصاحِبِهِ.

فَإذا كانَ هذا الخَلقُ مَعَ صِغَرِهِ وضَعْفِهِ قَد قَدَرَ عَلَى التَّخَلُّصِ مِن مَرابِطِ الهَلَكَةِ مَرَّةً بَعدَ أخرَى، بِمَوَدَّتِهِ وَخُلوصها، وَثَباتِ قَلبِهِ عَلَيها، وَاستِمتاعِ بَعضِهِ بِبَعضٍ، فَالإنسانُ


*181*

الذي قَد أعطِيَ العَقلَ وَالفَهمَ، وَأُلْهِمَ الخَيرَ وَالشَّرَّ، وَمُنِحَ التَّمييزَ وَالمَعرِفِةَ أوْلَى وَأحرَى بَالتَّواصُلِ والتَّعاضُدِ.

(فَهذا مَثَلُ إخوانِ الصَّفاءِ وائْتِلافِهِمْ فِي الصُّحْبَةِ).

صعوبة عيش الأعراب ابن قُتيبه


*181*

عن قتادةَ قال: قال زيادُ لغيلانَ بنِ خَرْشةَ: أُحب أن تُحدَّثَني عن العرب وَجهْدِها وَضَنكِ عَيْشِها، لنحمدِ الله على النعمةِ التي أصبحنا بها، فقالَ غيلانُ: حدَّثَني عّمي قال: توالت على العربِ سنونَ تسعُ في الجاهليةِ حطَّمت كلَّ شيء، فخرجتُ علَى بَكْرٍ 1 لي في العربِ. فمكثتُ سبعاُ لا أطْعَم شيئًا إلا ما يَنَال منهُ بعيري أو حَشَرات الأرضِ، حتى دَفَعْتُ 2 في اليوم السابع إلى حواء 3، فإذا بيتٌ جَحَشَ 4 عن الحيّ، فملتُ إليهِ فخرجت الى امرأة طُوَالة حُسَّانة فقالت: من؟. قلت: طارقُ ليل يلتمسُ القِرى، فقالت: لو كان عندنا شيء لآثرناك به، والدال على الخير كفاعلة، حِسَّ 6 هذه اليوت ثم انظر الى أَعظمها، فإن يك في شيء منها خير ففيه. ففعلت حتى دفعتُ إليه، فرحبَ بي صاحبُه وقال: من...؟ قلتُ: طارقُ ليلٍ يلتمس القِرى، فقال: يا فُلان، فأجابَه، قال: هل عندك طعامٌ.. فقال لا، فوا للهِ ما وقر 7 في أذني شيء أشدَّ منهُ. قال: فهل عندكَ شراب. قال: لا، ثم تأوه فقال: بلى قد بَقَّيْنَا في ضرع الْفُلاَنةِ شيئًا لطارق أن طرقك قال: فأتِ به، فأتى العطن 8 فابتَعثَها 9. فحدثني عمي أنه شهد فتح أصبهان وتُسْتَر ومَهرجان وكُوَرِ الأهواز وفارسَ وجاهَهُ عند السلطان وكثرةَ ماله وَوُلده، قال: فما سمعت شيئًا قط كان أشدَّ من شَخْبِ 10 تيك الناقة في تلك العلبة، حتى إذا ملأها وفاضت من جوانِبِها وَارتَفعت عليها شمكرةٌ 11 كجُمَّة الشيخ 12، أقبل بها يُهوى، فَعَثَر بعودٍ أو حجرٍ، فسقطت العُلبَةُ من يدهِ فَحَدّثَني أَنه


*182*

أُصيبَ بأَبيه وأمه وَوُلْدِه وأهلِ بيتِه فما أُصيب. بمصيبةٍ أعظمَ من ذهابِ العلبةِ. فلما رأى ذلكَ ربُّ البيتِ خَرجَ شاهرًا سيفَه فَبَعَث الإبِلَ ثم نَظَرَ الى أَعظَمِها سنامًا وَدَفَع إليهِ مُديةً وقال: يا عبد اللهِ اصطلِ واحتمل. قال: فجعلت أهوي بالبضعة الى النار فإذا بلغْت أَناها أكلتها، ثم مسحتُ ما في يدي من إهالتها على جلدي وقد كان قَحَلَ عليَّ حتى شنُّ، ثم شربتُ شُربة ماء وخررت مغشيًا عليَّ فما أَفَقْت الى السّحَرِ. وقطع زيادٌ الحديث وقال: لا عليك ألا تخبرنا بأكثر من هذا، فمن المنزولُ به. قلت: أبو عليّ عامر بن الطفيل.

إبن قتيبه - عيون الأخبار

الشرح:

(1) (البَكرُ): الفتّي من الجمال. (2) (دفعتُ): قدِمْتُ. (3) (حواء): جماعة بيوت قريبة من بعضها. (4) (جحشَ): عن القوم - ابتعد عنهم. (5) (طُوالة حُسُّانة): شديدة الطول وشديدة الحسن. (6) (حِسَّ): فعلِ أمر بمعنى استوضح. (7) (وَقَرَ): وقر الكلام في أذنه: أي أثبتَ. (8) (العطن): مبرك الإبل. (9) (ابتعث الإبل): أيقظها. (10) (شخب): نزول الحليب من الضرع الى الإناء. (11) (شمكرة): "قوشة الحليب". (12) (جمة): مجمع شعر الرأس إذا أطال. وجمة الشيخ لونها أبيض كشمكرة الحليب.

أقدار المعاني وأقدار المستمعين الجاحظ


*182*

(وقال: ويَنبَغي للمتكلّمِ أن يَعرِفَ أقدارَ المَعاني، وَيُوازِنَ بَينَهما وَبينَ أقدارَ المُستَمِعينَ، وَبَينَ أقدارِ الحالاتِ. فَيَجعَلَ لِكُلِّ طَبَقَةٍ مِن ذلِكَ كَلامًا، وَلِكُلِّ حالَةٍ مِن ذلكَ مَقامًا، حَتّى يُقَسِّمَ أقدارِ الكَلامِ على أقدارِ المَعاني، وَيُقسِّمَ أقدارَ المعاني عَلى أقدارِ المَقاماتِ، وَأقْدارَ المُستمِعينَ على اقدارِ تلكَ الحالاتِ. فإنْ كانَ الخَطيبُ


*183*

مُتَكَلِّمًا تَجَنَّبَ الفاظَ المُتَكَلِّمِينَ، كَما أنَّهُ إن عَبَّرَ عَنِ شَيءٍ مِن صِناعَةَ الكَلامِ، وَاصِفًا أو مُجيبًا سائِلاً، كانَ أولَى الألْفاظَ بِهِ الْفاظَ المُتَكَلِّمِينَ؛ إذ كانوا لِتِلكَ العِباراتِ أفْهَمَ، وَإلى تِلكَ الألْفاظِ أمْيَلَ، وَإلَيْها أحَنَّ، وَبِها أشْعَفَ، وَلأنَّ كِبارَ المُتَكَلِّمِينَ وَرُؤَساءَ النَّظّارينَ كانوا فَوقَ أكثَرِ الخُطَباءِ، وَأبلَغَ مِن كَثيرٍ مِن البُلَغاءِ. وَهم تَخَيَّروا تِلكَ الألْفاظَ لِتِلكَ المَعاني، وَهُمُ اشْتَقُّوا لَها من كلامِ العربِ اسمٌ، فَصاروا فِي ذلكَ سَلَفًا لَكَلِّ خَلَفٍ، وَقُدوَةً لَكُلِّ تابِعٍ. ولِذلكَ قالوا: العَرَضُ، وَالجَوهَرُ، وايْسَ، وَلَيْسَ وَفَرَّقوا بَينَ البُطلانِ والتَّلاشي، وَذكَروا الهَذِيَّةَ، والهَوِيَّةَ، وَالماهِيَّةَ 1. وأشباهَ ذلِكَ. وكما وضَعَ الخَليلُ بنُ أحْمَدَ لأوزانِ القَصِيدِ، الأرْجازِ القابًا لَم تَكُنَ الْعَرَبُ تتعارَفُ تِلكَ الأعارِيضَ بِتِلكَ الألْقابِ، وَتِلكَ الأوْزانَ بِتِلكَ الأسماءِ، وكَما ذكَرَ الطَّوِيلَ، وَالبَسيطَ، وَالمَدِيدَ، والوافِرَ، والكامِلَ، وَأشْباهَ ذلكَ، وكَما الأوْتادَ، وَالأسْبابَ، وَالخَرمَ والزِّخافَ. وقَد قالَت العربُ في القَصيدِ والرَّجزِ والسَّجَعِ والخُطَبِ. وَذكَروا حروفَ الرَّويِّ والقَوافِي، قالوا: هذا بيتٌ وهذا مِصراعٌ.

وَكَما سَمَّى النَّحَوِيُّونَ، فَذكَروا الحالَ والظَّرفَ، وَما أشبَهَ ذلكَ، لأنَّهُم لَو لَم يَضَعُوا هذهِ العَلاماتِ، لم يسَتَطِيعوا تَعريفَ القَرَوِيّينَ وأبناءِ البَلَدِ بَيْنَ عِلمِ العرُوضِ والنَّحوِ. وَكذلكَ أصحابُ الحِسابِ قد اجتَلَبُوا أسماءً وَجَعَلُوها عَلاماتٍ للتَّفاهُمِ.

البيان والتبين

تحقيق حسن السندومي القاهرة (دون تاريخ)

(1) (يريد قولهم): هذا، هو، وما هو، كما هو معروف لدَى العلماء.


*184*

معاذة العنبرية


*184*

الجاحظ ثُمَّ اندَفَعَ شَيْخٌ مِنْهُم فَقَالَ: لَم أرَ في وَضْعِ الأمورِ مَواضِعَها، وَفي تَوفِيَتِها غايَةَ حَقوقِها، كَمُعاذَةَ العَنْبَرِيَّةِ. قالوا: وَما شَأنُ مُعاذَةَ هذِهِ؟ قالَ: أهْدَى إلَيها العامَ ابنُ عَمٍ لَها أضْحِيَةً 1، فَرأَيْتُها كَئيبَةً حَزينةً، مُفَكِّرَةً مُطرِقَةً. فَقُلتُ لَها: ما لَكِ يا مُعاذَةُ؟ قالَتك أنا امرأةٌ أرْمَلَةً، وَلَيسَ لي قَيِّمٌ 2، وَلا لي بِتَدبيرِ لَحْمِ الأضاحِيِّ 3. وَقَد ذَهَبَ الذينَ كانوا يُدَبِّرونَهُ وَيَقومونَ بِحَقِّهِ 4. وَقَد خِفْتُ أن يَضيعَ بَعضُ هذِهِ الشّاةِ. وَلَستُ أعْرِفُ وَضْعَ جَميعِ أجزائِها في أماكِنِها. وَقَد عَلِمتُ أنَّ الله لَم يَخلُقَ فيها وَلا في غَيرِها شَيئًا لا مَنْفَعَةَ فيهِ. وَلكِنَّ المَرءَ يَعجِزُ لا مُحالَةَ. وَلَستُ أخافُ مِن تَضييعِ القَليلِ، إلا أنَّهُ 6 يَجُرُّ تَضييعَ الكَثيرِ.

أمّا القَرْنُ فَالوَجهُ فيهش مَعروفٌ، وَهوَ يُجعَلَ كَالخُطافِ 7، وَيُسَمَّرَ في جِذعٍ من جُذوعِ السَّقْفِ، فَيُعَلَّقُ عَلَيْهِ الزُّبُلُ 8 وَالكِيرانُ 9، وكُلُّ ما خِيفَ عَلَيهِ منَ الفَأرِ وَالنَّملِ وَالسَّنانيرِ، وَبناتِ وَرْدانَ 10 وَالْحَيَّاتِ، وَغَيرِ ذلكَ. وَأمّا المُصرانُ فَأنَّه لأَوتارِ المِندَفَةِ، 11 وَبِنا الى ذلِكَ أعظَمُ الحاجَةِ. وَأمّا قِحفُ 12 الرَأسِ وَاللّحيانِ 13 وَسائِرُ العِظامِ، فَسَبيلُهُ أن يُكَسَّرَ بَعدَ أن يُعرَق 14، ثُمَّ يُطبَخَ. فَما ارتَفَعَ مِنَ الدَّسَمِ كانَ لِلمِصباحِ وَلِلأدامِ وَلِلعَصيدَةِ وَلِغيرِ ذلكَ. ثُمَّ تُؤخَذُ تِلكَ العِظامُ فَيوقَدُ بِها. فَلَم يَرَ النّاسُ وَقودًا قَطُّ أصفَى وَلا أحسَنَ لَهَبًا مِنها. وَإذا كانَت كّذلِكَ فَهِي أسرَعُ في القِدرِ، لِقِللِّةِ ما يُخالِطُها مِنَ الدُّخانِ. وَأمَا الاهابُ فَالجِلدُ نَفسُهُ جِرابٌ. وَلِلصَّوفِ وَجوهٌ لا تُدفَعُ. وأمّا الفَرثُ وَالبَعَر فَحَطَبُ إذا جُفِّفَ عَجيبٌ.

ثُمَّ قَالَت: بَقِيَ الأنَ عَلَينا الانتِفاعُ بِالدَّمِ المَسفوحِ إلا أكلَهُ وَشُربَهُ، وَأنَّ لَهُ مَواضِعَ يَجوزُ فيها وَلا يُمنَعُ مِنها. وَأن أنا لَم أقَع عَلَى عِلمِ ذلِكَ، حَتّى يُوضَعَ الانتِفاعِ بِهِ، صارَ كَيَّةً في قَلبي، وَقَذًى في عَينِي، وَهَمًا لا يَزالُ يُعاوِدُني.


*185*

فَلَم ألْبَتْ أن رَأيتُها تَطَلَّقَت وَتَبَسَّمَتْ، فَقُلْتُ: يَنْبَغي أن يَكُونَ قَدِ انْفَتَحَ لَكِ بابُ الرَّايِ في الدِّمِ. قالَت: أجَل، ذكَرْتُ أنَّ عِندي قُدورًا شَامِيَّةً جُدُدًا. وَقَد زَعَموا أنَّهُ لَيسَ شَيءٌ أدْبَغَ وَلا أزيدَ في قُوَّتِها، مِنَ التَّلطِيخ بِالدِّمِ الحارِّ الدَّسِمِ. وَقَد استَرَحتُ الآنَ، إذ وَقَعَ كُلُّ شَيءٍ مَوقِعَهُ.

قالَ: ثُمَّ لَقِيتُها بَعدَ سِتَّةِ أشهُرٍ، فَقُلتُ لَها: كَيفَ كانَ قَديدُ 15 تِلكَ الشَّاةِ؟ قالَت: بِأبي أنتَ 16. لَم يَجِئْ وَقتُ القَديدِ بَعْدُ. لَنا في الشَّحْمِ وَالألْيَةِ وَالجُنُوبِ والعَظمِ المَعروقِ وغبرِ مَعاشٌ. وِلِكُلِّ شَيءٍ إبّانٌ.

من كتاب البخلاء المطبعة الأميرية بالقاهرة د.ت.

الشرح:

(1) (الأضحية): الشاة التي تُذْبح ضحوةٌ. جميعها أضاحيّ (بتشديد الياء). ثُمَّ جُعِلت الكلمة للشاه التي تُذْبح يوم الأضحى، تُسمى أيضًا ضحية، والجمع ضحايا. (2) (قَيِّم): من يقوم بأمري ويتعهَّد شؤوني. (3) (بتدبير) الخ: تريد بتدبير لحمها، استعمال كلّ جزء منه الاستعمال اللائق به. (4) (وقد ذهب) الخ: أي مات الذين كانوا يعرفون هذا الفنّ من أهلي. (5) (ولكن) الخ: هذا مثل، أي لا تضيقُ الحيّل ومخارج الأمور إلا على العاجز. (المحاولة): الحيلة... (6) (إلا أنّه): إلا لأنّه. (7) (الخطّاف): حديدة معطوفة أي ملويّة. (8) (الزُّبُل): جمع زَبيل (بفتح فكسر)، وهو القفّة أو الجراب أو الوعاء. (9) (الكِيران هُنا): جمع كُور (بضم الكاف)، وهو الرَّحل): كل شيء يُعدُّ للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير وغير ذلك، وجمعة أرحُل ورِحال. (10) (بنات وردان) الصراصير. (11) (المِندفة): آلة الندف، وهي ما يُضرب به القُطن ليُطرقَّ. والفعل من باب ضَرَبَ. (12) القحِف): بِكسر القاف: أعلى الدماغ من العظم. والجمع أقحاف. (13) (اللّحيان): تثنية (لَحي) بفتح فسكون: وهو عظم الحنك الذي عليه الأَسنَانُ. وهو من الأنسان حيث ينبت الشعر وهو أعلى وأسفل. (14) (عَرَقَ العَظمَةَ) (من باب نصر): أكل ما عليها من اللحم. (15) (القَديد): الاحم المملوح المجفّف في الشمس، فَعيل بمعنى مَفعول. (16) (بأبي أنت): أي أنت مَفديِّ بابي. وهي جملة تُقال غالبا مقدمّة للكلام يأتي بعدها. وهي هُنا للتعجُّب.


*186*

المقامة الدينارية الحريري


*186*

رَوى الحارِثُ بنُ همّامٍ: قالَ: نَظَمَني 1 وأخداناً لي نادٍ، لم يَخِبْ فيهِ مُناد، ولا كَبا قَدْحُ 2 زِنادِ، وَلا ذَكَت نارُ عِنادِ. فَبَيْنا نحنُ نتَجاذَبُ أطرافَ الأناشيدِ، وَنتوارَدُ طُرَفَ الأسانيدِ، إذْ وَقفَ بِنا شخصٌ عليه سَمَلٌ 3، وفي مِشيَتِهِ قَزَلٌ 4، فقالَ: يا أخايِرْ الذَّخائِرِ، وَبَشائِرِ العَشائِرِ، وعِمُوا صَباحاً، وُانظُروا الى مَن كانَ ذا نَدِيّ 6 وَنَدَىً، وَجِدَةٍ 7 وَحداً 8، وعَقارٍ وَقُرىً، وَمَقار 9 وقِرىً، فما زالَ بِهِ قُطوبُ الخُطوبِ، وحُروبُ الكُروبِ، وَشَرَرُ شَرّ الحَّسودِ، وانتِيابُ 10 النُّوَبِ السودِ، حتّى صَفِرَتِ الرّاحَةُ 11، وَقّرِعَتِ السّاحَةُ 12، وَغارَ المَنْبِعُ، وأقوَى المَجْمَعُ، وَأقضَّ المَضْجَعُ، وأقضَّ المَضْجَعُ، واسْتَحالَتِ الحالُ، وَاعولَ العِيالُ، وَخَلَتِ المَرابِطُ، وَرَحِمَ الغابِطُ 13، وَاودى النّاطِقُ والصَّامِتُ 14، ورَثى لَنا الحاسِدُ والشّامِتُ، وآلَ بنا الدّهرُ المُوقِعُ المُوقِعُ 15، والفَقْوُ المُدْقِعُ 16، الى أن احتَذَينا الوَجَى 17، واغْتَذَينا الشّجا 18، واسْتَبْطَنّا الجَوَى 19، وطويْنا الأحشاءَ على الطّوى، واكتَحَلنا السُّهادَ، واستوطَنَّا الوِهادَ، واستَوْطَأْنا القَتادّ، وتناسَينا الأقتادَ 20، واستطَبْنا الحيَنَ المُجتاحَ 21، واستَبطأنا اليَومَ المُتاحَ 22، فهَلْمِنْ حُرّ آسٍ، أو سَمْحٍ مُؤاسٍ، فهو الّذي استَخرَجني مِنْ قَيْلَةٍ 23، لَقَد أمسيتُ أخا عَيْلَةٍ 24،لا أملِكُ بَيْتَ لَيْلَةٍ 25. قالَ الحارِثُ ابنُ هَمّامٍ: فَأويْتُ لِمَفاقِرِهِ 26، وَلَويْتُ إلى استِنباطِ فَقْرِهِ، فَأبرَزْتُ دِيناراً وقُلتُ لهُ اختِباراً: إنْ مَدَحتَهُ نَظْماً، فهوَ لَكَ حَتماً. فانبَرى يُنشِدُ في الحالِ، مِن غَيرِ انتِحالِ:

أكرِم بِهِ أصفَرَ راقَتْ صُفرَتُهْ جَوَّابَ آفاقٍ تَرامَتْ سَفْرَتُهْ27

مَأثورَةٌ سُمعَتُهُ وَشُهرَتُهْ قَد أُودِعَت سِرَّ الغِنى أسِرَّتُهْ28

وَقارَنَتْ نُجحَ المَساعي خَطرَتُهْ وَحُبِّبَتْ إلى الأَنامِ غُرَّتُهْ

كَأنّما مِنَ القُلوبِ نُقرَتُ29 بِهِ يَصولُ مَنْ حَرَتهُ صُرَّتُهْ 30


*187*

وَإنْ تَفانَت أو تَرانَتْ عِترَتُهْ31

يَا حَبَّذا نَضارُهُ وَنَضْرَتُهْ

وَحَبَّذا مَغناتُهُ وَنُصرَتُهْ

كَم آمِرٍ بِهِ اسْتَتَبَّتْ إمْرَتُهْ

وَمُتَرفٍ لَة لاهُ دامَتْ حَسْرَتُهْ

وَجَيْشِ هَمٍّ هَزَمتْهُ كَرَّتُهْ

وَبَدْرِ تِمَّ أنزَلَتهُ بَدرَتُهْ 32

وَمُستَشيطٍ تَتَلَظّى33 جَمرَتُهْ

أسَرَّ نَجواهُ فَلانَتْ شِرَّتُهْ 34

وكَم أسيرٍ أسْلَمَتهُ أُسْرَتُةْ 35

أَنقَذَهُ حتى ًصَفَتْ مَسَرَّتُهْ

وحقِّ مولى ابدتْهُ فِطْرَتُه

لَوْلا التُّقى لَقُلتُ جَلَّتْ قُدْرَتُهْ

ثم بسط يدَه بعدما أنشده وقال: أنجَزَ حُرٌّ ما وَعَد، وَسَحّ خالٌ إذ رَعَدَ 36، فَنَبَذتُ الدينارَ إليهِ، وقُلتُ: خذهُ غيرَ مأسفٍ عليهِ، فوَضعَهُ في فيهِ، وقالَ بارِكَ اللّهُمَّ فيهِ، ثمَّ شَّمرَ للانثِناءِ، بعدَ تَوفِيَهِ الثّناءِ، فنشأتْ لي من فكاهَتِهِ نَشْوَةُ غَرامِ سَهَّلَت عَلَيَّ ائتِنافَ اغتِرامٍ 37، فَجَرَّدتُ ديناراً آخَرَ وقلتُ لهُ: هل لكَ في أن تَذُمَّهُ: ثمّ تَضُمّهُ، فأنشدَ مُرتَجِلاً وشَدا مُعتَجِلا:

تَباً لَهُ مِنْ خادعٍ مُماذِقٍ

أصْفَرَ ذي وَجهَيْنِ كالمُنافِقِ

يَبدو بِوَصفينِ لِعينِ الرّامِقِ

زينةِ معشوقٍ وَلونِ عاشِقِ 38

وَحُبُّهُ عندَ ذَوي الحقائِقِ

يدعو إلى ارتِكابِ سُخطِ الخالِقِ

لَولاهُ لَمْ تُقطَع يَمينُ سارِقِ

ولا بَدَتْ مَظْلَمَةٌ مِنْ فاسِقِ39

وَلا اشمَأزَّ باخِلٌ مِن طارِقِ40

ولا شَكا المَمطولُ مَطْلَ العائِقِ

وَلا استُعيذَ مِن حسودٍ راشِقِ

وَشَرُّ ما فيهِ مِنَ الخَلائِقِ

أنْ لَيسَ يُغني عَنكَ في المَضايِقِ

إلا إذا فرَّ فِرارَ الآبِقِ

واهاً لِمن يَقذِفَهَ مِن حالِقِ

وَمَن إذا ناجاهُ نَجوى الوامقِ

قالَ لَهُ قَوْلَ الْمُحِقِ الصادِق

لا رَأْيَ في وصْلِكَ لي ففارق


*188*

قُلتُ لَهُ: ما أعزَرَ وَبْلَكَ! فقالَ: والشَرطُ أملَك 41. فَنَضَحتُهُ بِالدينارِ الثاني، وقلتُ له عوِّذهُما بِالمثاني 42 فألقاهُ في فمِهِ، وقَرنَهُ بِتوأمِهِ، وانكفَأ يَحمَدُ مَغداهُ 43، ويمدَحُ النادي ونَداهُ. قالَ الحارِثُ بنُ همّام فناجاني قلبي بانه زيد وأن تعارُجَه لكَيْد. فاستَعدتُهُ 44 وقلتُ له: قد عُرِفت بِوشِيكَ. قالَ إن كنتَ ابنَ همّامٍ فَحُيّيتَ بإكرامٍ وَحَييتَ بين كِرامٍ. فقلتُ: أنا الحارثُ، فكيفَ حالُكَ والحوادِثُ؟ فقالَ: أتَقَلَّبُ في الحاليْنِ بُؤسٍ وَرَخاءٍ، وأنقَلِبُ مع الرّيحَيْنِ زَعْزَعٍ ورُخاء، فقُلتَ: كيف ادّعيْتَ القَزَلَ، وما مِثلُكَ مَن هَزَلَ؟ فاستَسَرَّ بِشرُهُ الذي كان تَجَلّى 46، ثم أنشدَ حين ولّى:

تَعارَجْتُ لا رَغْبَةً في العَرَجْ

وَلكنْ لأقرَعَ بابَ الفَرَجْ

وَأُلقِيَ حَبلي عَلى غاِرِبي 47

وَأسلُكَ مَسلَكَ من مَرَجْ 48

فَأن لامَني القومُ قُلتُ اعْذِروا

فَلَيْسَ على أعْرَجٍ مِن حَرَجْ

الشرح:

(1) أي جمعني وضمنَي. (2) (كبا الزند): لم يورِ نارا إذا قُدح به، فضربَ مثلا: أي لا يرجع قاصِدهم بحاجته. (3) ثوب خلق، والجمع أسمال. (4) نوع من العرج. (5) بمعنى أخيار. (6) مجلس. (7) غِنَى. (8) عطيه. (9) (مَقار): جمع مِقراة وهي الحَفْنَةُ العظيمة. (10) تناوُبٌ. (11) خلت اليد. (12) تجرّدت من الخير، أي ذهب ما كان فيها. (13) الذي يتمنى أن يكون له مثل ما لمغبوطه، وفي الحديث "المؤمن يغبط ولا يحسد". (14) (الناطق): الماشية، (الصامت): الذهب والفضة. (15) المهلك. (16) المذل، كأنه رمى صاحبه بالدقاء وهي الأرض. (17) (انتعلنا الوجى): رقّة القدم من كثرة المشي. (18) (الشجا): عظم يعترض في الحلقِ. (19) جعلنا شدة الوجد في بطننا، أي تحمَّلناهَ. (20) (الاقتاد): خشب الرحال، يريد أنهم نسوا ركوب المطايا. (21) رأينا الهلاك المتأصل طيّبًا. (22) هو اليوم المقدّر بالموت أي رأيناه بطيئًا. (23) هي بنت الأرقم الغسانية وهي أمّ الأوس والخروج معا. (24) فقر. (25) قوت ليلة. (26) جمع مفقرة، بمعنى الفقر. وأويت أشفقت. (27) بعدت


*189*

سفرته. (28) (الأسرَّة)، خطوط الجبهة، وعنى النقوش التي في الدينار. (29) (النقرة): ما سُبك من الذهب والفضة، أراد أنّ الدينار لفرط محبة الناس إياه مأنه مسبوك في قلوبهم. (30) كناية عن تملّكه. (31) الأقارب أو العشيرة. (32) عشرة آلاف دينار، المعنى: إن الكثير من الدنانير يُنال به كل مستصعب. (33) (مستشيط): محتدّ، محترق من كثرة الغضب. (تتتلظى): تتوقّد. (34) أخفى مناجاته فخفّ غضبه. (35) (أبدعته): اخترعته. (36) أمطر السحاب. (37) (إئتناف): إستئناف. (اغترام): غرم الرجل واغترم إذا لزمه المغرم. (38) (زينة المعشوق): ملاحته، وهو نقش الدينار. (ولون العاشق): صفرته. (39) (المَظَلَمة): الظلم. (40) (الباخل): البخيل. (الطارق): هو الذي يأتي ليلا ضيفًا كان أو غيره. (41) هذا مثلٌ يُضرب في حفظ الشرط. (42) انقلب وانعطف يحمد غدوه. (44) طلبت عودته. (45) أي بنا اديت من مستحسن كلامك الشَّبِيْهُ بالوشي وهو النقش. (46) اختفى السرور الذي كان قد ظهر. (47) (ألقى حبله على غاربه): مثل يُضرب في تخيلة الشيء يذهب في هواه كيف شاء وأصله في البعير إذا أرادوا إرسالَه للرعي. (48) (مَرَجَ): خلط ولم يَسْتَمِرَّ على حاله واحدة.

من رسالة التوابع والزوابع ابن الشهيد


*189*

ثمَّ قالَ زهَيرٌ مَن تريدُ بَعْدُ.

قُلتُ: صاحِبَ أبي نُواس.

قالَ هو بِدَيرِ حَنَّةَ مُنذُ أشهُرٍ، قَد غَلَبَت عَلَيهِ الخَمرُ، وَدَيرُ حنَّةَ في ذلكَ الجَبَلِ، وَعَرَضَهُ عَلَيَّ فَإذا بَينَنا وَبينَهُ فَراسِخُ. فَركَضنا ساعَةً. حَتَّى انتَهينا الى أصلِ جَبَلِ دَيرِ حَنَّة، فَشَقَّ سَمعي قَرعُ النَّوافيس فَصِحتُ مِن منازل ابي نُواس وَرَبِّ الكَعبَةِ العُليا. وسِرْنا نَجتابُ أديارًا وكَنائسَ وَحاناتٍ، حتى انتَهَينا الى دَيرٍ عَظيمٍ تَعَبقُ رَوائِحُهُ وَتَصُوكُ 1 نَوافِحُهُ، فَوَقَفَ زُهَيرٌ بِبابِهِ وَصاحَ، سَلامٌ عَلَى أهلِ دَيرِ حَنَّةَ.


*190*

فَقلتُ لِزُهيرٍ: صِرنا بِذاتِ الأُكَيْراحِ 2؟

قالَ: نَعَم.

وَأقبَلَت نَحوَها الرَّهابينُ مُشَدَّدَةً بِالزَّنانيرِ، قَد قَبَضَت عَلَى العَكاكيزِ، بِيضَ الحَواجِبِ وَاللِّحَى، إذا نَظَروا الى المَرءِ استَحيا، مُكثرينَ لَلتَّسْبيحِ، عليهم هُدَى المَسيحِ، فقالوا: أهلاً بِكَ يا زُهيرُ مِن زائِرٍ، وَبِصاحِبِكَ أبي عامِرٍ، ما بُغيَتُكَ؟

قالَ: حُسَيْنُ الدَّنّانُ.

قالوا: وعلى ذلك.

وَنَزَلْنا وَجاءوا بِنا بَيتٍ اصظَفَّت دِنانُهُ، وَعَكَفَت غِزْلانُهُ، وَفي فُرْجَتِهِ شَيخٌ طَويلُ الوَجْهِ وَالَّسَّبَلَةِ 3، قَدِ افتَرَشَ أضْغاثَ زَهْرٍ، وَاتَّكَأ على زِقِّ خَمرٍ، وَبِيَدِهِ طِرجَهارَةُ 4، فصاحَ بِهِ زُهَيْرٌ: حَيّاكَ اللهُ أبا الإحْسانِ. فَجاوَبَ بِجَوابٍ لا يُعْقَلُ لِغَلَبَةِ الخَمْرِ عَلَيْهِ. فقالَ لي زُهَيْرٌ: اقرَع أذُنَ نَشْوَتِهِ بِإحْدى خَمرِيَّاتِكَ، فَإنَّهُ رُبَّما تَنَبَّهَ لِبَعْضِ ذلكَ، فَصِحتُ أنشِدُ مِن قِطعَةٍ لي طِويلَةٍ:

وَلَرُّبَ حانٍ قَد أدَرْتُ بِدَيرِهِ

خَمْرَ الصِّبا، مُزِجَت بِصَفْوِ خُمورِهِ

في فِتيَةٍ جَعَلوا الزِّقاقَ تِكاءِهُم

مُتَضَاغِرِينَ تَخَشُّعًا لِكَبِيرِهِ

وَتَرَنَّمَ النّاقوسُ عِندَ صَلاتِهِمْ

فَفَتَحْتُ مِن عَيْنِي لِرَجَعِ هَدِيرِهِ

يُهدي إلينا الرّاحَ كُلُّ مَعَصفَر

كَالخِشْفِ خَفَّرَهُ التماحُ خَفِيرِهِ 5

فَصاحَ مِن حَبائِلِ نَشْوَتِهِ: أَأَشْجَعِيُّ؟

قُلتُ: أنا ذاكَ.

فَاستَدعَى ماءً قَراحًا فَشَرِبَ مِنهُ وَغَسَلَ وَجهَهُ، فَأفاقَ وَاعتَذَرَ إلَيَّ مِن حالِهِ، فأدْركَتْني مَهابَتُهُ، وَأخَذتُ في إجلالِهِ، لِمَكانِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالشِّعرِ، فَقالَ لي أنْشِدْ، أو حَتَّى أنْشِدَكَ؟


*191*

فَقُلتُ إنَّ ذلكَ لأشَدُّ لِتَأنِيسي. على أنَّهُ ما بَعدَكَ لِمُحسِنٍ إِحسانٌ. فَأنْشَدَ:

يا دَيْرَ حَنَّةَ منْ ذاتِ الأكَبْراحِ فَكِدتُ وَاللهِ أخْرُجُ مِن جِلدي طَرَباً.

ثمَّ قالَ: أنشِدني قِطعَةً مِن مُجونِكَ، فَقَد بَعُدَ عَهدي بِمِثِلِكِ. فَأنْشَدْتُهُ:

وَناظِرَةٍ تَحتَ طَيِّ القِناعِ

دَعاها إلى اللهِ وَالخَيْرِ داعٍ

(6) سَعَت بِابْنِها تَبْتَغِي مَنزِلاً

لِوَصلِ التَّبَتُّلِ وَالانْقِطاعِ

(7) فَجاءت تَهادَى كَمِثلِ الرَّؤومِ

تُراعي غزالاً بأَعلى يَفاعِ

أَتَتْنا تَبَخْتَرُ في مَشْيِهَا

فَحَلَّتْ بوادٍ كثيرِ السِّباعِ

(8) فَوَلَّت وَلِلمِسكِ في ذَيْلِها

عَلَى الأرْضِ خَطُّ كَظَهْرِ الشُّجاعِ

فَلَمّا سَمعَ هذا البيتَ قامَ يرقُصُ به ويُردِّدُهُ، ثمَّ أفاقَ، ثُمَّ قالَ:

هذا وَاللهِ شَيءٌ لَم نُلْهَمْهُ نَحْنُ. ثُمَّ استَدناني فَدَنَوْتُ منهُ فَقَبَّلَ بينَ عَينَيَّ وَقالَ:

اذْهَب فانصَرَفْنا عَنْهُ وانْحَدَرْنا مِنَ الجَبَلِ، فقالَ لي زُهَيْرٌ: وَمَن تُريدُ بَعدُ؟

قُلتُ لهُ: خاتِمَةَ القَوْمِ صاحِبَ أبي الطَّيِبِ. فَقالَ: اشْدُدْ لَهُ حَيازِيمَكَ (9)، وَعَطِّرْ لَهُ نَسيمَكَ، وَانْثُرْ عَلَيْهِ نُجومَكَ.

رسالة التوابع والزوابع

دار صادر - بيروت 1967

الشرح:

(1) (تَصوكُ): من صاكَ الطيبُ والمسكُ: لَصَقَا. (النوافح): واحدتها نافحة، من نفح الطيب: أي انتشرت رائحته. (2) (ذات الأكيراح): مكان في العراق كانت فيه بيوت صغيرة تسكنها الرهبان الذين لا قلالي لهم. والأكيراح: تصغير أكراح، واحدها كِرح: وهو بيت الراهِب. واللفظة سريانية. (3) (السَّبَلة): الشارب. (4) (الطِّهر جارة): الفنجانة. (5) (الخشف): الظبي، خفَّرَهُ جَعَلَهُ يَستَحي. (الالتماح): النظَر. (الخفير): الحارس. (6) (التَّبتّل):


*192*

الانقطاع عن الدنيا الى الله. (7) (تهادى): تتهادى، تتمايل. (الرؤوم): العَطوف، الحنون.

(اليَفاع): المكان المرتفع. (8) (الشُّجاع): الحَيّة. (9) (الحيازيم): واحدها حيزوم: الصدر. وشَدَّ الحيازيم: كناية عن الصبر.

يوم الحشر


*192*

(من رسالة الغفران) أبو العلاء المعريّ

حكاية إبن القارحِ

فيقول 1: (أنا أقصّ عليك قصّتي):

لّما نهضتُ أنتفضُ منَ الرَّيمِ (2)، وحضرتُ حَرَصاتِ (3) القيامة، ذكرتُ الآية:(تعرجُ الملائكةُ والروحُ إليه في يومٍ كانَ مقدارُهُ خمسيمنَ ألفَ سَنَةٍ، فَاصبِر صَبراً جميلاً)، فَطالَ عليَّ الأمَد، واشتَدَّ الظمأ، وأنا رجل مِهياف (4) فافتكرتُ فرأيتُ أمراً لا قِوامَ لمثلي به، وَلقيَني الملك الحفيظ بما زّين (5) لي من فعل الخير، فوجدت حسناتي قليلةً كَالنُّفَإ في العامِ الأَرْمَلِ (6) إلا أنَّ التوبة في آخرها كأنَّها مصباحُ أبيلٍ (7) رُفِعَ لِسالك السبيل.

فلمّا أقمتُ في الْمَوْقِفِ زُهاءَ شهر أو شهرَين، وخِفت من الغرق، في العرق، زيّنَت لي النفس الكاذبة أن أنظم أبياتاً في رِضوانَ، خازِنِ الجِنانِ، عملتها في وزن: (قِفا نبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وعِرفانِ) ووسمتها برضوان، ثمّ ضانَكتُ (8) الناس حتّى وقفتُ منه بحيث يسمع ويرى، فما حَفَلَ بي، وَلا أظنّهُ أبِهَ لما أقول، فغبرتُ (9) برهة نحو عشرة أيام من أيّام الفانية، ثمَّ عملت أبياتاً في وزن:

(10) بانَ الخليطُ وَلَو طُووِعتُ ما بانا

وَقَطَّعوا مِن حِبالِ الوَصلِ أقرانا


*193*

ووسمتها برضوان، ثمَّ دنوتُ منه، ففعلتُ كَفِعلي الأوّل، فكأنّي أحرِّكُ ثَبيراً (11)، وَألتَمِسُ منَ الغِضْرِمِ (12) عَبيراً، فلم أزَل أتَتَبَّعُ الأوزان التي يمكن أن يوسَمَ بها رضوان حتّى أفنيتُها، وأنا لا أجد عندهُ مغوثَةً، ولا ظَنَنته فَهِمَ ما أقول، فلمّا استقصيت الغرض فما أنجحت، دعوت بأعلى صوتي: (يا رضوان يا أمينَ الملك الجبّار الأعظم على الفراديس ألم تسمع نِدائي بِكَ واستِغاثتي إليكَ؟)، فقال: (لقد سمِعتكَ تذكر رضوان وما علمت مقصَدك، فما الذي تطلبه أيُّها المسكين؟ )، فأقول: (أنا رجل لا صبر لي على اللُّوابِ (13)، وقد استطلتُ مدةً الحساب، ومعي صَكُّ (14) بالتوبة، وهي للذنوب كلّها ماحية، وقد مدحتكَ بأشعار كثيرة ووسمتها باسمِكَ)، فقال: (وما الأشعار؟)، فقلت: (الأشعار جمع شِعر، والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط إن زادَ أو نقصَ أبانَهُ الحِسُّ، وكان أهل العاجلة يتقرَّبون به الى الملوك والسادات، فجِئتُ بشيء منه إليكَ، لعلَّكَ تأذن لي بالدخول في هذا البا، فقد استَطَلت ما النَّاس فيه، وأنا ضعيفٌ منينٌ (15) ولا ريبَ أنّي مِمّن يرجو المغفرة، وتَصِحُّ له بمشيئة الله تعالَى)، فقال: (إنّكَ لَغبينُ الرَأيِ، أتَأمُلُ أن آذَنَ لكَ بغيرِ إذنٍ ربِّ العِزَّة؟ هيهات هيهات وأنَّي لهم التَّناوُشُ (16) من مكان بعيد).

حديثه مع زُفَرَ

فتركته وانصرفت بأملي الى خازنٍ آخر يُقال له زُفَرُ، فعملتُ كلمةً ووسمتها باسمِهِ في وزن قول لبيد:

تَمنَّى ابنَتايَ أن يعيشَ أبوهُما

وَهَل أنا إلا مِن رَبيعَة أو مُضَر

وقَرُبتُ منه، فأنشدتها، فكأنّي إنّما أخاطِبُ رَكوداً صَمّاءَ، لأستَنزِلَ أبوداً عَصماءَ (17) ولم أترك وزناً مقيداً أو مطلقاً يجوز أنْ يُوسَمَ بِزُفَرَ إلا وَسَمته به، فما نَجَحَ ولا غيَّرَ، فقلت: (رحِمكَ اللهُ كُنّا في الدّار الذاهبة نتقرّب الى الرئيس


*194*

والملك بالبيتين والثلاثة فنجد عنده ما نحبّ، وقد نظمت فيك ما لو جُمِعَ لكان ديواناً وكأنَّكَ ما سَمِعتَ لي كلمةً) فقال: (لا أشعر بالذي حَمَمتَ (18)، وأحسب هذا الذي تجيئني به قرآنَ إبليسَ المارد، ولا يَنْفُقُ (19) على الملائكة، إنّما هو للجانِّ، وعَلّموهُ ولدَ آدمَ. فَما بُغيَتُكَ؟)، فذكرتُ له ما أريد، فقال: (واللهِ ما أقدر لكَ على نَفع، ولا أملِكُ لِخَلقٍ مِن شفع، فمِن أيِّ الأمَمِ أنتَ؟)، فقلت: (من أمّةِ محمّد بن عبد الله بن عبد المطِّب)، فقال: (صدقت. ذلك نبيُّ العرب، من تلك الجهة أتيتَني بالقريض، لأنَّ إبليسَ اللعِينَ نفثَهُ في إقليمِ العرب فتعلّمه نساء ورجال، وقد وجَبَ عليَّ نُصحُكَ، فعليكَ بِصاحِبِكَ؛ لعلَّهُ يتوصَّل الى ما ابتغيتَ). فَيَئِستُ مّما عنده.

حديثه مع حمزة بن عبد المطّلب

فجعلتُ أتخلَّلُ العالَم، فَإذا أنا برجلٍ عليه يتلألأ وحواليهِ رجالٌ تأتلقُ منهم أنوار، فقلت: (مَن هذا الرجل؟)، فقيل: (هذا حمزة بن عبد المطّلِب صريعُ وَحشِيٍّ، وهؤلاء الذين حوله مَن استُشهِدوا من المسلمين في أُحَد)، فقلت لنفسي الكَذوبِ: (الشعر عند هذا أنفَق (20) منه عند خازن الجِنان، لأنّهُ شاعر وإخوته شعراء، وكذلك أبوه وجَدّه، ولعلّهُ ليس بينه وبين معدّ بن عدنان إلا مَن نظَم شيئاً من موزون، فعملت أبياتاً على منهج أبيات كعب بن مالك التي رَثَى بها حمزة، وأوَّلها:

صَفِيَّةُ قُومي وَلا تَعجِزِي

وَبَكِّي النِّساءَ عَلَى حَمزَةِ

وَجِئتُ حتّى وَليتُ منه، فناديت: (يا سيّد الشهداء، يا عمَّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلَّمَ يا ابنَ عبد المطَّلِب)، فلمّا أقبَلَ عليَّ بوجهه، أنشدتُهُ الأبيات، فقال: وَيحَكَ أفي مثلِ هذا الموطن تجيئني بالمديح؟ أما سمعت الآيةَ (لكلِّ امرِىءٍ


*195*

مِنهُم يَومَئِذٍ شَأنٌ يُغنيهِ)؟ فقلت: بَلَى، قد سمعتُها وسمعتُ ما بعدَها (وجوهٌ يَومئِذٍ مُسفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ مُستَبْشِرَةٌ، ووجوهٌ يَومَئِذٍ عَلَيها غَبَرَةٌ، تَرهَقُها قَتَرَةٌ (21)، أولئكَ هُمُ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ).

فقال: (إنِّي لا أقدِرُ على ما تَطلُبُ، ولكِن أنفِذُ معكَ تَوْراً (22) الى ابنِ أخي عَليِّ بن أبي طالِبٍ، لِيُخاطِبَ النّبِيّ - صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ - في أمرِكَ).

فَبَعثَ مَعي رَجُلاً، فلمّا قَصَّ على أمير المُؤمنينَ قالَ: (أينَ بَيِّنَتُكَ؟ ).

مقابلة أبي عليّ الفارسيّ

وَكنتُ قد رأيتُ في المَحشَرِ شيخاً لَنا كان يُدرِّسُ النّحوَ في الدّارِ العاجِلَةِ، يُعرَفُ بِأبي عَليٍّ الفارِسيّ، وَقَدِ امتَرَسَ (23) به قَومُ يُطالِبونَهُ ويقولونَ: (تَأوَّلتَ عَلَينا وَظَلَمتَنا فلمّا رآني أشارَ إليّ بِيدِهِ، فَجِئتُهُ، فَإذا عِندَهُ طَبَقَةٌ، منها يَزيدُ بنُ الحَكَمِ الكِلابِيُّ وهوَ يقولُ، وَيْحَكَ، أنشَدتَ عَنّي هذا البيتَ بِرَفعِ الماءِ)، يعني قَولَهُ:

(24) (فَلَيتَ كَفافاً كانَ شَرُّكَ كُلُّهُ

وَخيرُكَ عَنّي ما ارتَوَى الماءُ مُرتوي)

وَلَم أقُل إلا الماءَ، وَكذلِكَ زَعَمتَ أنّي فَتَحتُ الميمَ في قَولي:

(25) (تَبدَّلْ خَليلاً بِي، كَشَكلِكِ شَكلُهُ فَإنّي خَليلاً صالِحاً بِكَ مَقتَوي)

وَإنّما قُلتُ: (مُقتَوي) بِضَمّ الميم)

وَإذا بِجَماعَةٍ مِن هذا الجِنسِ كُلُّهم يَلومونَهُ على تَأويلِهِ.

فَقُلتُ: (يا قوم إنَّ هذِهِ أمورٌ هَيِّنَةٌ فَلا تُعِنتوا (26) هذا الشَّيخَ، فَإنَّهُ ما سَفَكَ لَكُم دَماً، وَلا احتَجَنَ (27) عَنكم مالاً).

فَتَفرَّقوا عَنهُ. وَشُغِلتُ بِخِطابِهم، وَالنَّظَرِ في حَويرِهِم (28)، فَسَقَظَ مِنّي الكِتابُ الذي فيهِ ذِكرُ التّوبَةِ، فَرَجعتُ أطلُبُهُ، فَما وَجَدتُهُ.


*196*

حديثه مع عليّ بن أبي طالب

فَأظهرتُ الوَلَةَ وَالجَزَعَ، فقالَ أميرُ المُؤمِنين: (لا عَلَيكَ (29) ألَكَ شاهِدٌ بِالتَّوبَةِ؟) فقُلتُ: (نَعَم. قاضي حَلَبَ وَعُدولُها (30)) فقالَ: (بِمَن يُعرَفُ ذلكَ الرّجُلُ؟) فَأقولُ: (بِعَبدِ المَنعِمِ بنِ عبدِ الكَريمِ، قاضي حَلَبَ - حَرسها الله - في أيّامِ شِبلِ الدّولَةِ)، فَأقامَ هُناكَ هاتِفاً يَهتِفُ في المَوقِفِ: (يا عَبدَ المَنعِمِ بنَ عَبدِ الكَريمِ قاضي حَلَبَ في زَمانِ شِبلِ الدّولةِ هَل مَعَكَ عِلمٌ مِن تَوبَةِ عليِّ بنِ منصورِ بنِ طالبٍ الحَلَبيّ الأديبِ؟) فَلَم يُجِبهُ أحَدٌ، فأخَذَني الهَلَعُ (31) والرِّعدَةُ، ثمَّ هَتَفَ الثانِيَةَ، فَلَم يُجِبهُ مُجيبٌ. فَطُرِحتُ إلى الأرضِ، ثمَّ نادى الثالِثَةَ، فَأجابَهُ قَائِلٌ يَقولُ، (نَعَم قَد شَهِدتُ تَوبَةَ عَلِيِّ بنِ مَنصورٍ، وَذلِكَ بأخِرَةٍ (32) مِن الوَقتِ، وَحَضَرتْ مَتابَهُ عِندي جَماعَةٌ مِنَ العُدولِ، وَأنا يَومَئِذٍ قاضي حَلَبَ وَأعمالِها)، فَعِندَ ذلِكَ نَهَضتُ وَقَد أخَذتُ الرَّمَقَ (33)، فَذكرتُ لأميرِ المؤمنينَ - عَلَيهِ السَّلامُ - ما ألتَمِسُ، فَأعرَضَ عَنّي، وقالَ:

(إنّكَ لَتَرومُ مُمْتَنِعاً، وَلَكَ أسوَةٌ بِوَلَدِ أبيكَ آدَم).

ورودُهُ الحوض

وَهَمَمْتُ بِالحَوضِ، فَكِدتُ لا أصِلُ إليهِ، ثمَّ نَغَبتُ منهُ نَغَباتٍ (34) لا ظَمَأ بَعدَها، وَإذا الكَفَرَةُ يَحمِلونَ أنفُسَهُم على الوُرودِ، فَتَذودُهُمُ الزَّبانِيَةُ (35) بِعِصِيِّ تَضطرِمُ ناراً فَيَرجِعُ أحَدُهُم وَقَدِ احتَرَقَ وَجهُهُ أو يَدُهُ، وَهُوَ يَدعو بِوَيلٍ وَثُبورٍ (36).


*197*

حديثه مع فاطِمة

فَطُفتُ على العِترَةِ المُنتَخَبينَ، فقُلتُ: (إنّي كُنتُ في الدّارِ الذّاهِبَةِ إذا كَتَبتُ كِتاباً وَفَرَغتُ منهُ في آخِرِهِ: "وَصَلّى اللهُ عَلى سَيِّدِنا مُحمَّدٍ خاتَمُ النّبِيّينَ، وَعَلى عِترَتِهِ الأخيارِ الطّيّبينَ" وهذِهِ حُرمَةٌ لي وَوَسيلَةٌ).

فَقالوا: (ما نَصنَعُ بِكَ؟). فقُلتُ: (إنَّ مَولاتَنا فاطِمَةَ - عَلَيها السّلامُ - قَد دَخَلَتِ الجَنَّةَ مُنذُ دَهرٍ. وَإنَّها تَخرُجُ في كُلِّ حينٍ مِقدارُهُ أربَعٌ وَعِشرونَ ساعَةً مِن ساعاتِ الدُّنيا الفانِيَة، فَتُسَلِّمُ على أبيها وهُوَ قائِمٌ لِشهادَةِ القَضاء، ثُمَّ تَعودُ الى مُستَقَرِّها في الجِنانِ، فَإذا هِيَ خَرجَت كَالعادَةِ فَاسألوها في أمري بِأجمَعِكُم، فَلَعَلَّها تَسألُ أباها فِيَّ. فَلَمّا حانَ خُروجُها، وَنادَى الهاتِفُ أن غُضُّوا أبصارِكُم يا أهلَ الموقِفِ حَتّى تَعبُرَ فاطِمَةُ بِنتُ محمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَليِهِ - اجتَمَعَ من آلِ أبي طالِبٍ خَلقٌ كَثيرٌ من ذُكورٍ وإناثٍ مِمَّن لَم يَشرب خمراً، وِلا عَرَفَ قَطُّ مُنكَراً فَلَقوها فِي بَعضِ السَّبيلِ. فَلَمّا رَأتهُم قالَت: (ما بالُ هذِهِ الزّرافَةِ (37)؟ ألَكُم حالُ تُذكَر؟) فقالوا: (نحنُ بِخيرٍ. إنّا نَلتَذُّ بِتُحَفِ أهلِ الجَنَّةِ، غَيرَ أنّا مَحبوسونَ لِلكَلِمَةِ السّابِقَةِ، وَلا نُريدُ أن نتَسرَّعَ قبلَ المِيقاتِ، إذ كُنَّا آمِنينَ ناعِمينَ، بِدَليلِ قَوْلِهِ: (إنَّ الّذينَ سَبَقَت لَهُم مِنّا الحُسنى أولئِكَ عَنها مُبعَدونَ لا يَسمَعونَ حَسيسَها (38) وَهُم فِيما اشتَهَت أنفُسُهُم خالِدونَ، لا يَحزُنُهم الفزَعُ الأكبَرُ وَتَتَلَقّاهُمُ المَلائِكَةُ هذا يَومُكُمُ الذي كَنتُم تُوعدونَ). وَكانَ فِيهِم عَليُّ بنُ الحُسَينِ، وابناهُ محمَّدٌ وَزَيدٌ، وَغَيرُهُم مِنَ الأبرارِ الصّالِحينَ، وَمعَ فاطِمَةَ عَلَيها السّلامُ امرأةٌ أخرى تجري مَجراها في الشَّرَفِ والجَلالَةِ، فقيلَ: (مَن هذِهِ؟) فقيلَ: (خديجَةُ بِنتُ خُوَيلِدِ بنِ أسَدِ بنِ عَبدِ العُزّى) وَمَعَها شبابٌ على أفراسٍ من نورٍ فقيلَ: (مَن هؤلاءِ؟) فقيلَ: (عبدُ اللهِ، والقاسِمُ، وَالطَّيِّبُ، والطّاهِرُ، وإبراهيمُ، بَنو مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسلّم).


*198*

فَقالت تِلكَ الجَماعَةُ التي سألت: (هذا وَليٌّ مِن أولِيائِنا قَد صَحَّت تَوبَتُهُ، وَلا رَيبَ أنَّهُ من أهلِ الجَنَّةِ. وَقَد تَوَسَّلَ بِنا إليكِ - صَلّى اللهُ عَليكِ - في أن يُراحَ من أهوالِ المَوقِفِ، وَيَصيرَ الى الجَنَّةِ، فَيَتَعَجَّلَ الفَوزَ).

فَقالت لأخيها إبراهيمَ - صَلّى اللهُ عليهِ -: (دونَكَ الرَّجُلَ) فقالَ لي: (تَعَلَّق بِرِكابي) وَجَعلت تلكَ الخيلُ تَخَلَّلُ الناسَ، وَتنكَشِفُ لَها الأمَمُ وَالأجيالُ (39) فَلَمّا عَظُمَ الزِّحامُ، طارَت في الهَواءِ، وَأنا مُتَعلِّقٌ ِالرِّكابِ.

حديثه مع النبيّ

فوقفَ عِندَ محمَّدٍ - صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - فقالَ: (مَن هذا الأتاوِيُّ؟ (40) )، فقالَت: (هذا رَجُلٌ سألَ فيهِ فُلانٌ وفُلانٌ) وَسمَّتِ جَماعَةً منَ الأئِمّةِ الطّاهِرينَ، (حَتّى يُنظَرَ في عَمَلِهِ). فَسألَ في عَمَلي، فَوُجِدَ في الدّيوانِ الأعظَمِ، وَقد خُتِمَ بِالتّوبَةِ، فَشَفعَ لي، فَأذِنَ لي في الدُّخولِ.

عُبورُ الصِّراطِ

فَلَمّا خَلَصتُ مِن تِلكَ الطُّموشِ (41) قيلَ لي: (هذا السِّراطُ فَاعبُر عليه، فَوجدتُهُ خالِياً لا عَريبَ (42) عِندَهُ، فَبَلوتُ نَفسي في العُبورِ، فَوَجدتُني لا أسْتَمْسِكُ، فَقالَتِ الزَّهراءُ - صَلّى اللهُ عليها - لِجارِيةٍ من جَواريها: (يا فُلانَةُ، أجيزيهِ (43) فَجَعَلَت تَمارِسُني (44) وَأنا أتَساقَطُ عن يَمينٍ وشِمالٍ.

فَقلتُ لها: (يا هذِهِ. إن أرَدتِ سلامَتي، فاستَعمِلي معي قَولَ القائِلِ في الدّارِ العاجِلَةِ: (سِتِّ إن أعياكِ أمري

فَاحمِليني زَقَفونَهْ)


*199*

فقالَت: (وَما زَقَفونَهُ؟) قُلتُ: (أن يَطرَحَ الإنسانُ يَدَيهِ عَلَى كَتِفيِ الآخَرِ، وَيُمسِكُ بِيَديهِ، وَيَحمِلُهُ وَبَطنُهُ الى ظَهرِهِ. أما سَمِعتِ قَولَ الجَحْجَلولِ مِن أهلِ كَفرِ طابَ (45):

صَلَحَت حالَتي إلَى الخَلفِ حَتّى

صِرتُ أمشي إلَى الوَرَى زَقَفونَه

فقالَت: (ما سَمِعتُ بِزَقَفونَةَ وَلا الجَحْجَلولِ وَلا كَفرِ طابَ إلا السّاعَةَ). فَتحمِلُني، وَتَجوزُ كَالبَرقِ الخاطِفِ. فَلَمّا جُزتُ، قالَتِ الزَّهراءُ - عَلَيها السلامُ -:

(قَد وَهَبنا لَكَ هذِهِ الجارِيَةَ، فَخُذها كَي تَخدُمَكَ في الجِنانِ).

حواره مع رضوان

فَلَمّا صِرتُ إلى بابِ الجَنَّةِ قالَ رِضوانُ: (هل مَعَكَ مِن جَوازٍ؟ ) فَقُلتُ: (لا) فقال: (لا سَبيلَ إلى الدُّخولِ إلا بِهِ).

فَبَعِلتُ (46) بِالأمرِ، وَعلى بابِ الجَنَّةِ - مِن داخِلٍ - شَجَرَةُ صّفصافٍ، فَقلتُ: (أعطِني وَرَقَةً مِن هذِهِ الصَّفصافَةِ، حَتّى أرجِعَ الى المَوقِفِ، فَآخُذُ عَليها جوازاً)، فَقالَ: (لا أخرِجُ شَّيئاً مِن الجَنَّةِ إلا بِإذنٍ مِنَ العَلِيِّ الأعلى - تَقَدَّسَ وَتَبارَكَ).

فَلَمّا دَجِرتُ (47) بِالنّازِلَةِ، قُلتُ: (إنّا لِلّهِ وَإنّا إلَيهِ راجِعونَ، لَو أنَّ لِلأميرِ أبي المُرَجّى خازِناً مِثلَكَ، لَما وَصَلتُ أنا وَلا غَيري إلى دِرهَمٍ مِن خَزائِنِهِ).


*200*

دخولُه الجنّة

وَالتَفتَ إبراهيمُ - صَلّى اللهُ عَليهِ - فَرَآني وَقَد تَخَلَّفتُ عَنهُ، فَرَجَعَ إلَيَّ، فَجَذَبَني جَذبَةً حَصَّلَن بِها في الجَنَّةِ. وَكانَ مُقامي (48) في المَوقِفِ مُدَّةَ سِتَّةِ أشهُرٍ مِن شُهورِ العاجِلَةِ، فَلِذلِكَ بَقِيَ عَلَيَّ حِفظي، ما نَزَفَتهُ (49) الأهوالُ وَلا نَهَكَهُ تَدقيقُ الحِسابِ.

رسالة الغفران، شرح كامل كيلاني

القاهرة، دون تاريخ

الشرح:

(1) أي إبن القارح. (2) القَبر. (3) ساحات. (4) (الرجُلُ المِهياف): السريع العطش، كما شرحها المعرّي نفسه، (وزاد غيره): أو شديدُهُ. (ومثله): المِهتاف. (5) كُتِبَ؟ (6) (النُّفأ): الرياض، (والعام الأرمل): قليل المطر. (7) (أبيل): كأمير - كلمة معرّبة، ومعناها رئيس النصارى، أو الراهب. (8) (ضانكتُ): زاحمت. (9) مَكَثت. (10) (الخَليط): الركب، (والأقران): جمع قرن ومعناه في الأصل الحبل يُجمع به البعيران. والمُراد في هذا البيت أنَهم قطعوا ما كان يجمع بينه وبين حبيبه من أسباب اللقاء. (11) إسم جبل. (12) (الغِضرِم): تراب يشبه الجِصّ. (13) (اللُّواب): العطش قالوا: (إذ أو وثيقة. (15) (المَنين): الضعيف. (16) (التَّنَاوُش): التناوُل أو الاختلاط. (17) المُراد (بالرَّكود الصَّمّاء): الأرض الغليظة أو الجبل. والمُراد (بالأبود العصماء): البهيمة المتوحشة المستعصية بالجبل. (18) (حَممت): قصدت. (19) يروج. (20) (أَنْفَقُ): أروج، أجدى. (21) (غَبَرَة): صُفْرَة دلالة الخوف. (22) (التَّور): الرسول. (23) (امتَرَسَ به القوم): تعرّضوا له ولَجّوا معه. (24) (ما إرتوى الماء مرتوي): أي دائماً أبداً. ومعنى البيت: ليت خيرك يعادل شرَّكَ فيكفُّ هذا عني ذاك، وأصبح آمناً منك أبداً، (ما ارتوى - ما زمنيه بمعنى طالما). (25) (مُقتوٍ): متبدّل به. (26) (لا تُعْنتوه) لا ترهقوه، وترفقوا به. (27) ضمّ الى نفسه. (28) محاورتهم. (29) لا ضيرَ عليك. (30) جمع عدِل، وهو العادل الذي تُرضى شهادته. (31) شدّة الجزع. (32) (جاء أخرَةً، أو بِأخَرَةٍ): آخِر كل شيء. (33) بقيّة الروح.


*201*

(34) جرعات. (35) تطردهم وتدفعهم. (36) هلاك ( .(37الجماعة (38) صوتها الخفيّ. (39) (الأجيال): أجناس الناس؛ كالتُّرك، والرّوم، والزَّنج (40) الغريب. (41) جمع طمش، وهو الناس، (42) لا أَحَدَ. (43)) إجعليه يجوِز، أي يعبُر. (44) تعْالجني(45) (كفر طاب): قرية من قرى الشام. (46) وَصلت حيرتي وخوفي وسأمي الى حدّ لمْ أدرِ معه ما أصنع. (47) حِرت. (48) اقامتي (49) ما أَذْهَبَتْهُ.

الاجتماع الإنساني

ابن خلدون


*201*

إن الاجتماعَ الإنسانيَّ ضروريّ، ويعبّر الحكماء عن هذا بقولهم.

الإنسانُ مدنيَّ بالطبعِ، أي لا بُدَّ من الاجتماعِ الّذي هو المدنيَّةُ، في اصطلاحِهم، وهو معنى العمران. وبَيانُه أَنَّ الله سبحانَه، خلقَ الإنسانَ، وركَّبَهُ على صورةٍ لا يصحّ حياتُها وبقاؤُها إلا بالغِذاء، وهداه الى التماسِه بِفِطرتهِ، وبِما رُكَّب فيه من القدرةِ على تحصيلهِ، إلا أنّ قدرة الواحِد، من البَشرِ، قاصرةٌ عن تحصيل حاجتِه من الغِذاءِ، غيرُ موفيةِ له بمادّةِ حياتِهِ منه، ولَو فرضنَا منه.أقلَّ ما يمكن فرضُه، وهو قوتُ يومٍ من الحِنطةِ، مِثالاً، فلا يحصَل إلا بعلاجٍ من الطحنِ وَالعجنِ والطبخِ، وكلُّ واحدٍ من هذه الأعمالِ الثلاثةِ، يحتاجُ الى مواعينَ وآلاتٍ لا تتمّ إلا بصناعاتٍ. متعدّدةٍ من حَدّاد ونجّارٍ وفاخوريّ. هَبْ أنّه يأكله حبّاً من غير علاجٍ، فهو أيضًا يحتاجُ، في تحصيلِهِ حَبّاً الى أعمالٍ أخرى أكثرَ من هذه: الزراعة والحصاد والدِّ راس، الذي يُخرجُ الحبَّ من غلافِ السنبلِ، ويحتاجُ كلُّ واحدٍ من هذه الى آلات متعدِّدَة، وصنائعَ أكثر من الاولى بكثيرِ ويِسْتَحيلُ أن تُوَفَي بذلكَ كلّهِ، أو بعضِه، قدرةُ الواحِد فلا بدَّ من اجتماعِ القُدَرِ الكثيرَةِ من أبناءِ جنسهِ، لِيُحَصِّل القوتَ له ولهم، فيحصُل بالتعاونَ، قَدرُ الكِفايةِ من الحاجةِ، لأكثرَ منهم بأضعاف.


*202*

وكذلك يحتاجُ كلّ منهم أيضاَ، في الدفاعِ عن نفسِهِ، إلى الاستعانةِ بِأبناءِ جنسِهِ، لأنَّ الله سبحانَه، لّما ركَّب الطباعَ في الحيوانات كلِّها، وقسّم القُدَر بينها، جَعلَ حظوظَ كثيرٍ من الحيوانات العُجْمِ، من القُدرةِ، أكمَلَ من حظِّ الإنسانِ، وكذا قدرةُ الحمارِ والثورِ، وقدرةُ الأسدِ والفيلِ، أضعافٌ من قدرته.

ولّما كانَ العدوانُ طبيعيّاً في الحيوانِ جعلَ لكلِّ واحدٍ منها، عُضوًا يختصُّ.بمدافعةِ ما يصلُ إليه من عاديَةِ غيرِهِ. وجعلَ لِلإنسانِ، عِوَضًا عن ذلك كلَّه الفكرَ واليدَ، مهيأةٌ للصنائع، بخدمةِ الفكر، والصنائعُ تحصِّل له الآلاتِ، التي تنوبُ له عن الجوارحِ المعَدَّةِ في سائر الحيواناتِ للدّفاعِ، مثلَ الرماحِ التي تنوبُ عن القرونِ الناطحةِ، والسيوفَ النائِبَةَ عن المخالبِ الجارحةِ، والتراسَ النائبةَ عن البَشرات الجاسية، الى غير ذلك مِمّا ذكره جالينوسُ في كتابِ منافعِ الأعضاء. فالواحدُ من البشَر لا تقاوِمُ قدرتُه قدرةَ واحدٍ من الحيوانات العُجم، ولا سيَّما المفترسةِ، فهوَ عاجزٌ عن مدافعِتها وحدَة بالجملة، ولا تفَي قدرتُه أيضًا باستعمال الآلاتِ المُعدَّة للمدافعةِ لكثرتِها، وكثرةِ الصنائع والمواعين المعدّةِ لها، فلا بدَّ، في ذلك كلِّه، من التعاون عليه بأبناءِ جنسِه، ما لم يكنْ هذا التعاونُ، فلا يحصلُ له قوتٌ ولا غِذاءٌ، ولا تتمُّ حياتُهُ لِما ركَّبه الله تعالى فيه من الحاجةِ الى الغِذاءِ في حياتِه، ولا يحصلُ له أيضًا دفاعٌ عن نفسه لفقدان السلاحِ، فيكونُ فريسةٌ للحيواناتِ ويعالجهُ الهلاكُ عن مدى حياته ويبطلُ نوع البشَر. وإذا كانَ التعاونُ حصّلَ له القوتَ للغذاءِ؛ والسلاحَ للمدافعةِ، وتَّمت حكمةُ الله في بقائِهِ وحفظِ نوعِهِ، فإذا هذا الاجتماع ضروريٌّ للنوعِ الإنسانيِّ وإلا لم يَكْمَل وجودهم، وما أرادَه الله من اعتمارِ العالَم بهم واستحلافِهِ إيّاهُم: وهذا هو معنى العُمران.

مقدّمة إبن خلدون إصدار: دار التراث العربي بيروت، دون تاريخ


*203*

دخول الشام ووصف مدنه

ابن بطوطة:


*203*

ثُمّ سِرنا حتّى وَصَلنا مدينةِ غّزَّة وَهي أَوَّلُ بِلادِ الشامِ مِمّا يَلي مِصْرَ، مَتَّسعَةُ الأقطارِ، كثيرَة العمارَةِ، حَسَنَة الأسواقِ، بِها المَساجِدُ الكَثيرَةُ، والأسْوارُ عَليها، وَكانَ بِها مسجِدٌ جامِعٌ حسن. والمَسجِدُ الّذي تُقامُ بِهِ الآنَ الجُمعَةُ فيها، بَناهُ الأميرُ المُعَظَّمُ الجاوِلّي، وَهو أنيقُ البِناءِ، مُحْكَمُ الصّنْعَةِ، وَمِنْبَرُهُ من الرُّخامِ الأبيَضِ وَقاضي غَزَّةَ بدْرُ الدينِ السَّلْخِتِيِّ الحورانِيّ، وَمُدَرِّسُها عَلَمُ الدّين بنُ سالِم وَبَنو سالِم كُبَراء هذِه المَدينةِ. وَمِنْهُمْ شَمسُ الدِّينِ قاضي القُدْسِ. ثُمَّ سافَرْتُ مِن غَزَّةَ إلى مَدينَةِ الخَليلِ (صَلَّى الله على نَبِيِنّا وعليه وسلَّمَ تسليمًا)، وهي مدينَةٌ صَغيرَةٌ السَّاحَةِ، كَبيرَةُ المِقْدارِ، مُشرِقَةُ الأنوارِ، حَسَنَةُ المَنْظَر، عَجيبَةُ المخْبر، في بَطْنِ وادٍ، وَمسجِدُها أنيقُ الصَّنْعَةِ، مُحكَمُ العَمَلِ، بَديعُ الحُسنِ، سامي الارْتِفاعِ، مَبنِيُّ بِالصَّخْرِ الَمْنحوتِ، في أحدِ أرْكانِهِ صَخْرَةٌ، أحدُ أقْطارِها سَبْعَةٌ وَثلاثونَ شِبرًا ويُقالُ إنَّ سُليمانَ (عليه السلامُ) أمَرَ الجِنَّ بِبِنائِهِ. وَفي داخِلِ المَسجِدِ الغارُ المُكرَّمُ المُقَدَّسُ، فيهِ قبرُ إبراهيمَ وإسحقَ ويَعقوبَ، (صلواتُ اللهِ على نَبيّنا وعليهم) ويُقابِلُها قبورٌ ثلاثةٌ، هِي قبورُ أزواجِهِم. وعن يمينِ المِنبَرِ بِلِصْقِ جِدارِ القِبلَةِ مَوْضِعٌ يُهبَطُ مِنهُ على دَرجِ رُخامٍ محكَمَةِ العَمَل، إلى مسلَكٍ ضيَّقٍ، يُفضي إلى ساحةٍ مفروشَةٍ بالرُّخامِ، فيها صُوَرُ القُبورِ الثّلاثة، ويُقالُ إنَّها مُحاذِيَة لها وكانَ هُنالك مَسْلكٌ الى الغارِ المُبارَكِ وهوَ الآنَ مَسدودٌ. وَقَد نَزَلتُ بِهذا المَوضِعِ مراتٍ. وَمِمّا ذكَرَهُ أهلُ العِلْمِ دَليلاً على صِحَّةِ كون القُبورِ الثّلاثةِ الشّريفَةِ هنالك، ما نَقَلْتُهُ مِن كِتابِ عليّ بنِ جَعَفَرَ الرّازِيّ، الّذي سَمّاهُ (المسفر للقلوب، عن صحّة قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب)، أسندَ فيهِ إلى هُريرَة. قال: قال رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وَسَلّم): لّما أسْرِيَ بي إلى بيتِ المقدِسِ، مَرَّ بي جِبريلُ على قَبرِ إبراهيمَ، فقال: انزل فَصَلِّ ركعتين، فإنّ هنا


*204*

قبرَ أبيكَ إبراهيم، ثُمَّ مرّ بي على بيتَ لحم وقال: انزل فصلِّ ركعتينِ، فإنّ هنا وُلِدَ أخوكَ عيسى (عيه السلام)، ثُمَّ أتى بي إلى الصّخرَةِ (وذكرَ بقيَّةَ الحديثِ). ولَما لَقَيتُ بِهذِهِ المَدينَةِ المدّرِسَ الصّالِحَ المُعَمَّرَ الإمامَ الخَطيبَ برهانَ الدِّينِ الجَعْبَريّ، أحدَ الصُّلَحاءِ المَرضِييّن، وَالأئِمّةِ المشهورينِ، سَألتُهُ عن صِحَّةِ كَونِ قَبرِ الخَليلِ (عليهِ السلامُ) هنالك، فقالَ لي: كُلُّ مَن لقيتَهُ من أهْلِ العِلْمِ يُصَحّحون أنَّ هذهِ القُبورَ قُبورُ إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عَلى نبيّنا وَعليهم السّلامُ)، وقبورُ زوجاتِهم. ولا يطعن في ذلك إلاَّ أَهلُ البِدَع وهو نَقْلُ الخَلَفِ عنِ السّلَفِ، لا يُشَكُّ فيهِ. ويُذكَر أنّ بعضَ الأئِمَّةِ دَخَلَ إلى هذا الغارِ ووقَفَ عِندَ قِبرِ سارَة، فدخَلَ شيخٌ فَقالَ لهُ: أيُّ هذِهِ القُبورِ هوَ قَبرُ إبراهيم؟ فأشارَ لَهُ الى قَبرِهِ المعْروفِ، ثُمَّ دخلَ شابٌ فسألَهُ كذلك، فأشارَ لَهُ إليهِ، ثُمَّ دَخَلَ صَبِيُّ فَسَألهُ أيضًا، فأشارَ لَهُ إليهِ، فقالَ الفقيهُ. أشهدُ أنَّ هذا قبرُ إبراهيم (عليهِ السّلام) لا شَكَّ، ثُمَّ دَخَلَ الى المسجِدِ فَصَلّى له، وارتَحَلَ من الغَد. وَبِداخِلِ هذا المسجِد أيضًا قَبرُ يوسف (عليه السّلام). وبشرقيّ حَرم الخليلِ تُربَةُ لوط (عليهِ السّلام)، وهيَ على تَلّ مُرتَفِعٍ يُشرِفُ مِنهُ على غَورِ الشّامِ، وعلى قبرِهِ أبنِيَةٌ حَسَنَةٌ، وهوَ في بيتٍ مِنها حسنِ البناءِ مُبيضٍ ولا سُتورَ علَيهِ. وهُنالِكَ بُحيرَةُ لوط وهي أجاجٌ، ويُقالُ إنَّها موضعُ دِيارِ قوْمِ لوط. وَبِمقرُبَةٍ مِن تُرْبةِ لوط مَسْجِدُ اليَقينِ وهوَ على تَلٍّ مُرتَفعٍ، لهُ نورٌ وإشراقٌ ليسَ لِسِواهُ، ولا يُجاوِرُهُ إلا دارٌ واحِدَةٌ، يَسكُنُها قَيِّمُهُ. وفي المَسجِدِ بِمَقرُبَةٍ من بابِهِ، مَوضِعٌ مُنخَفِضٌ، في حجَرٍ صَلْدٍ، وَقَد هُيِّئّ فيهِ صورَةُ مِحرابٍ، لا يَسَعُ إلا مُصلِّيًا واحدًا. وَيُقالُ إنَّ إبراهيم سجَدَ في ذلكَ المَوضِعِ شُكرًا للهِ تعالى عندَ هَلاكِ قَومِ لوط. وَبالقُربِ من هذا المَسجِدِ مَغارَةٌ فيها قَبرُ فاطِمَةَ بِنتِ الحُسَينِ بنِ علىّ (علهِما السّلام). وَبِأعلى القَبرِ وأسفَلِهِ لَوحانِ منَ الرُّخام، في أحدِهِما مَكتوبٌ مَنقوشٌ بِخَطِّ بَديعٍ: "بسم اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ لِلهِ العِزَةُ والبَقاءُ، وَلَهُ ما ذَرَا وَبَرَا، وَعلى خَلْقِهِ كُتِبً الفَناءُ، وَفي رَسولِ اللهِ أسوَةٌ. هذا قبرُ أمِّ سَلَمَةَ فاطِمَة بنت الحسينِ (رضيَ الله عنهُ)". وفي


*205*

اللّوحِ الآخرَ منقوشٌ:" صَنَعَهُ محمّد ين أبي سهل النقّاش؛ بِمصرَ"، وتحت ذلِكَ هذهِ الأبياتُ:

أسْكَنْتُ مَن كنَ في الأحْشاءِ مَسكَنُهُ بالرَّغْمِ مِنِّي بَينَ التُّرْبِ وَالحَجَرِ

يَا قَبْرَ فَاطِمَةٍ، بِنتِ إبنِ فاطِمَةٍ بِنْتِ الأئِمَّةِ، بِنْتِ الأنْجُمِ الزُّهُرِ

يا قَبْرُ، ما فيكَ مِن دينٍ وَمن وَرَعٍ وَمِن عَفافٍ وَمِن صَونٍ وَمِن خَفَرِ

ثُمَّ سافَرتُ مِن هذِهِ المَدينَةِ الى القُدْسِ، فَزُرتُ في طريقي إلَيهِ تُرْبَةَ يُونسَ (عليه السّلام)، وَعليها بُنْيَةٌ كَبيرةٌ وَمَسْجِدٌ. وَزُرْتُ أيضًا بيتَ لَحْم، مَوضِعَ مِيلادِ عيسَى (عليه السّلام)، وَبِهِ أَثَرُ جِذْعِ النّخلَةِ، وَعليهِ عَمارَةٌ كَثيرَةٌ، وَالنّصارى يُعظِّمونَهُ أشّدَّ التّعظيم، ويضَيِّفونَ مَن نَزَلَ بِهِ.

ثُمَّ وَصلنا الى بيتِ المَقدِسِ (شَرَّفَهُ الله)، ثالِثِ المَسجدينِ الشّريفَينِ. في رُتَبهِ الفَضْلِ، ومَصعَدِ رَسولِ اللهِ (صلى الله عَليهِ وَسَلّمَ تسليمًا) ومعرِجِهِ الى السَّماء.

وَالبَلْدَةُ كَبيرةٌ مُنيفَةٌ، مَبْنِيَّةٌ بِالصَّخْر المَنْحوتِ. وكانَ المَلِكُ الصّالِحُ الفاضِلُ صَلاحُ الدِّينِ بنُ أَيوب (جزاهُ اللهُ عنِ الإسلامِ خَيرًا) لَمّا فَتَح هذهِ المَدينَةِ، هَدَمَ بَعْضَ سورِها، ثُمَّ أتَمَّ المَلِكُ الظّاهِرُ هَدْمَهُ، خَوفًا أنْ يَقصِدَها الرّومُ فَيَتَمَنْعَّوا بِها وَلم يكُن في هذهِ المَدينَةِ نَهْرُ فيما تَقَدَّمَ. وَجَلَبَ الماءَ لَها في هذا العَصْرِ الأميرُ سيفُ الدِّينِ تنكيز أمير دِمَشق.

كتاب مهذّب رحلة إبن بطوطة تحقيق أحمد العوامري، القاهرة 1934


*206*

ذكر قيس بن الخطيم

أبو الفرج الأصفهاني


*206*

كانَ مِن حديثِ قَيْس بن الخَطيم أنَّ جَدَّهُ عِدِيُّ بن عمرو قَتَلَهُ رَجُلٌ من بَني عمرو بن عَمرو بن رَبيعة بن عامر بن صَعْصَعَة يُقالُ لَهُ مالك، وَقَتَلَ أباهُ الخَطيمَ بنَ عّدِيّ رَجُلٌ من عبدِ القيس مِمَّن يسكُنُ هَجَرَ، وكان قَيسُ يومَ قُتِلَ أبوهُ صَبِيّاً صَغيرًا، وَقُتِلَ الخَطيمُ قَبلَ أن، يَثأرَ بِأبيهِ عديّ، فَخَشِيَت أمُّ قَيس على ابنِها أن يَخرُجَ. فَيَطلُبَ بِثأرِ أبيهِ وَجَدِّهِ فَيَهْلَكَ، فَعَمَدَت الى كَومَةٍ من تُرابٍ عِندَ بابِ دارِهِم، فَوَضَعَت عَليها أحجارًا وَجَعَلَت تَقول لَقيس: هذا قَبرُ أبيكَ وَجَدِّكَ، فكانَ قيسُ لا يَشُكُّ أنَّ ذلك على ذلك. وَنَشَأ أَيْدًا 1 شَديدَ السّاعِدينِ. فَنازَعَ يَومًا فَتىً من فِتيان بَني ظَفَرَ، فَقالَ له ذلكَ الفتى واللهِ لَو جَعَلْتَ شِدَّةَ ساعِديْكَ على قاتِلِ أبيكَ وَجَدِّكَ لَكانَ خيرًا لَكَ من أن تُخرِجها عليَّ، فَقالَ: وَمَنْ قاتِلُ أبي وَجَدِّي؟ قال: سَلْ أمّكَ تُخْبِرْكَ فَأخَذَ السيف ووضَعَ قائِمَةُ على الأرْضِ ذُبابَهُ 2 بَينَ ثدْيَيْهِ وَقالِ لأمهِ: أخبِريني مَن قَتَل أبي وَجَدّي؟ فقالت: ماتا كَما يَموتُ النّاسُ، وهذان قَبراهُما بالفِناء، فقالَ: وَاللهِ لَتُخبِرينَني 3 مَن قَتَلَهُما أو لأَتحامَلَنَّ على هذا السّيفِ حتّى يخرجَ مِن ظهري، فقالت: أمّا جَدُّكَ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِن بَني عمرو بن عامر بن ربيعَة يُقالُ لهُ مالك، وَأمّا أبوك فَقَتَلَهُ رَجُلٌ من بني القيسِ مِمّن يسكنُ هَجَرَ. فقالَ: وَاللهِ لا أنْتَهي حتَّى أقتُلَ قاتِلَ أبي وَجَدِّي. فَقَالت: يا بُنَيَّ؛ أنَّ مالِكًا قاتِلَ جَدِّكَ مِن قَوْمِ خَداش بن زُهَيْر، وَلأبيكَ عندَ خداش نِعْمَةٌ هُوَ لَها شاكِرٌ. فَأتِهِ فَاستَشِرْهُ في أمرِكَ وَاستَعِنْهُ يُعِنْكَ، فخَرَجَ قيس من ساعَتِهِ حتّى أتى ناضِجَهُ 4 وهوَ يسْقي نَخْلَهُ، فَضَرَبَ الجَريرَ 5 بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهُ فَسَقَطَ الدَّلوُ في البِئرِ، وَأخذَ بِرأسِ الجَمَلِ فحَمَلَ عَليْهِ غِررارَتَيْنِ مِن تَمرٍ، وقالَ: مَن يَكفيني أمرَ هذِهِ العَجوز؟ (يَعني أمّهُ) فَإن متُّ أنفقَ عَلَيها مِن هذا الحائِط 6 حَتَّى تموتَ ثُمَّ هُوَ لهُ، وَإن عِشْتُ فَمالي عائِدٌ إلَيَّ وَلَهُ منهُ ما شاءَ أن يَأكُلِ مِن تمرِهِ، فقالَ رَجُلٌ مِن قَومِهِ: أنا لَهُ، فأعطاهُ الحائِطَ ثُمَّ خَرَجَ يَسْألُ عَن خَداشِ بنِ


*207*

زُهَير حتَّى دُلَّ عليْهِ بِمَرِّ الظهران 7، فَصارَ إلى خِبائِهِ فَلَم يَجِدْهُ، فَنَزَلَ تَحتَ شَجَرَةٍ يَكونُ تَحتَها أَضيافُهُ ثم نادى امرأَةَ خَداش: هل من طعامٍ؟. فأَطلعتْ اليه فأعجبها جماله، وكان مِن أحسَنِ النّاسِ وَجهًا، فقالَت: وَاللهِ ما عِندَنا من نَزُلٍ 8 نَرضاهُ لَكَ إلا تَمْرًا، فقال: لا أبالي، فأخرِجي ما كانَ عِندِك، فأرسلَتُ إلَيهِ بِقُباعٍ 9 فيهِ تَمرٌ، فأخَذَ مِنهُ تَمرَةً فأكَلَ شِقَّها وردَّ شِقَّهَا الباقي في القُباعِ فأدْخِلَ على امرَأةِ خَداش بن زهير، ثُمَّ ذَهَبَ لِبعضِ حاجاتِهِ، وَرَجَعَ خَداشُ فأخبَرَتْهُ امرأنُهُ خَبَرَ قَيْس، فقالَ: هذا رَجُل مُحترمٌ 10. وَأقبَلَ قيسُ راجعًا وَهُوَ يأكُلُ رُطُبًا، فَلَمّا راى خداش رَجُلَهُ وهوَ علَى بَعيرِهِ قالَ لامرأتِهِ: هذا ضَيْفُكِ؟ قالت: نَعم. قالَ: كَأنَّ قَدَمَهُ قَدَمُ الخَطِمِ صديقي اليَثْرُبِيّ، فَلَمّا دَنا مِنهُ قَرَعَ طُنُبَ البيتِ بِسِنانِ رُمْحِهِ واستَأذَنَ، فَأذِنَ لَهُ خداش، فَدَخَل إليهِ، فَنَسَبَه 11. فَانْتَسَبَ وَأخْبَرَهُ بِالّذي جاءَ لَهُ، وَسَألَهُ أن يُعينَهُ وَأن يُشيرَ عَلَيهِ في أمرِهِ، فَرَحَّبَ بِهِ خَداش وَذَكَرَ نِعمَةَ أبيهِ عِندَهُ، وَقالَ: إنَّ هذا الأمرَ ما زِلتُ أتَوَقَّعُهُ مَنذُ حينٍ. فَأمّا قاتلُ جَدِّكَ فهوَ ابنُ عمٍّ لي وَأنا أعينُكَ عَلَيهِ، فَإذا اجتَمَعنا في نادِينا جَلَسْتُ الى جَنبِهِ وَتَحدَّثتُ مَعَهُ، فَإذا ضَرَبتُ فَخذَهُ فَثِبَّ إلَيْهِ فاقْتُلْهُ. فَقالَ قَيس: فأقْبَلتُ مَعَهُ نَحوَهُ حتّى قُمتُ على رَأسِهِ لّما جالَسَهُ خَداش، فَحينَ ضَرَبَ فَخْذَهُ ضَرَبْتُ رَأسَهُ بِسَيْفٍ يُقالُ لهُ: ذو الخُرَصَينِ. فَثَارَ إلَيَّ القَومُ لِيَقْتُلوني، فَحالَ خَداشُ بينَهُم وَبَيني وَقالَ: دَعوهُ فَأنَّهُ ما قاتِلَ جَدِّهِ. ثُمَّ دعا خَداش بِجَمَلٍ مِن إبِلِهِ فَرَكِبَهُ، وَانْطَلَقَ مَعَ قَيس إلى العَبدِيِّ الّذي قَتَلَ أباهُ، حتّى إذا كانَ قَريبًا مِن هَجَرَ أشارَ عَليهِ خداش إن يَنطَلِقَ حتّى يَسألَ عَن قاتلِ أبيهِ، فَإذا دُلَّ عَليهِ قالَ لَهُ: أنَّ لِصًا من لُصوصِ قَومِكَ عارَضَني فَأخَذَ متاعًا لي، فَسألتُ مَن سَيِّدُ قَوْمِهِ فَدُلِلْتُ عَلَيكَ، فانطَلِق معي حتّى تَأخُذَ متاعي مِنهُ، فَإنَ اتَّبَعَكَ وحدَهُ فَسَتنالُ ما تريدُ منهُ، وَإن أخرَجَ مَعَهُ غَيْرَهُ فاضْحَك، فَإن سَأَلَكَ مِمَّ تَضحكُ فقلْ: إنَّ الشريفَ عِندنا لا يَصنَعُ كما صَنعتَ إذا دُعِيَ الى اللّصِّ مِن قَومِهِ، إنّما يَخرُجُ وَحدَهُ بِسوْطِهِ دونَ سَيْفِهِ، فَإذا رآهُ اللِّصُّ أعطى كلَّ شَيءَ أخَذَ هَيبَةً لهُ، فَإن أمَرَ


*208*

أصحابَهُ بالرُّجوعِ فَسَبيلُ ذلكَ، وَإن أبى إلا أن يَمضوا مَعَهُ فَأتِني بِهِ، فإنّي أرجو أن تَقتُلَهُ وَتَقُلَ أصحابَهُ. وَنَزَلَ خَداشُ تَحتَ ظِلِّ شَجَرةٍ وَخرجَ قَيسُ حتّى أتي العَبدِيّ فقالَ لَهُ ما أمَرَهُ خَداشُ فَأحْفَظَهُ فأمَرَهُ، أصحابَهُ فرجَعوا وَمَضَى مَعَ قيس، فَلمّا طَلَعَ على خَداش، قالَ لَهُ اخْتَر يا قيسُ إمّا أن أعينَكَ وَأمّا أن أكفيَكَ، قالَ: لا أريدُ واحِدَةً مِنهُما. وَلكنْ إن قَتَلني فَلا يُفْلِتَنَّكَ. ثُمَّ ثارَ إليهِ فَطَعَنَهُ قيسُ بالحَرْبَةِ في خاصِرَتِهِ فَأنفَذَها مِن الجانِبِ الآخَرِ فَماتَ مَكانَهُ، فَلَمّا فَرَغَ مِنهُ قالَ لَهُ خَداشُ: لإنّا إن فَرَرْنا الآنَ طَلَبَنا قَوْمُهُ، وَلكِن ادْخُل بِنا مَكانًا قِريبًا مِن مَقْتَلِهِ، فَإنَّ قَومَهُ لا يَظُنّونَ أنّكَ قَتَلْتَهُ وَأقَمْتَ قَريبًا مِنهُ، وَلكِنّهُم إذا افْتَقَدوهُ اقتَفَوا أثَرَهُ، فَإذا وَجَدوهُ قَتيلاً خَرَجوا في طَلَبِنا في كُلِّ وَجه. فَإذا يَئسوا رَجَعوا. قالَ: فَدَخلا في داراتٍ مِن رِمالٍ هَناك، وَفَقَدَ العَبدِيَّ قَوْمُهُ فَأقْتَفوا أثَرَهُ فَوَجَدوهُ قَتيلاً، فَخَرَجوا يَطلُبونَهُما في كُلِّ وَجْهٍ ثُمَّ رَجَعوا، فَكانَ مِن أمرِهِم ما قالَ خَداش. وَأقاما مَكانَهُما أيّامًا ثُمَّ خَرَجا، فَلَمْ يَتَكَلَّما حَتَّى أتَيا مَنزِلَ خَداش، فَفارَقَهُ عِندَهُ قَيسُ بنُ الخَطيم ورَجَعَ إلى أهْلِهِ.

أبو فرج الأصفهاني كتاب الأغاني دار الثقافة -بيروت 1955

الشرح:

(1) (أيدًا): قويًا (2) (ذُبابُ السيف): طرفه الذي يُضرَب به) (3) (كذا في الأصل): من غير توكيد. وهذا الوجه يجيزه الكوفيون. والبصريون يوجِبون توكيد الفعل في مثل هذا الموضوع بالنون (4) (الناضِج): البعير يستقي عليه الماء(5) (الجرير):

الحَبل (6) (الحائط): البُستان (7) (الظهران): وادٍ قرب مكّة عنده قرية يُقال لها (مَرّ) تُضاف اليه فَيقال (مَرّ الظهران) (8) (النُّزُل): ما يُهَيَّأ للضيف من قِرِى (9) (القباع): المكيال الضخم (10) (محترمّ): له عندنا حُرمة وذِمّة (11) (نَسَبَهُ): طلب إليه أن ينتسب.


*209*

من ألف ليلة وليلة:

حكاية الصياد والمارد


*209*

(بتصرف)

قالت شهرزاد: بلغَنِي أيُّها الملكُ السعيدُ أنَّ صَيّادًا فقيرًا طاعنًا في السِّنّ، كان له زوجة وثلاثة أولاد، وكان من عادته أن يرميَ شبكته أربعَ مرّاتٍ كُلَّ يوم.

فَخرجَ يومًا من الأيّامِ فأَلقى شبكتَه في البحرِ ينتظرُ الى أن استقرّت في الماء وجمعَ خيطانَها فوجدَها ثقيلةً، فجَذَبَها فلم يقْدِر على ذلك. فأَسرعَ الى الشاطئِ ودقَّ وَتِدًا وَرَبَطها بهِ وغَطَس في الماءِ حَوْلَ الشبكَةِ، وما زالَ يعالِجُها حتّى أخرجَها بعد عناءٍ شديد ولكن.

ولم يَطُل فَرح الصياد، لأنه ما كادَ يَخرج بشبكته ويفتّش عن. صيده حتّى وجدَ فيها حمارًا ميّتًا وقد خرَّق الشبكة. فحزنَ لذلكَ حُزْنًا شديدًا وأنشدَ يقول:

سُبحانَ رَبّيَ يُعطيُ ذا وَيَحرِمُ ذا هذا يَصيدُ وهذا يأكُلُ السّمكّة

ثُمَّ أنَّ الصّيادَ خلَّص الحمار من شبكتِه وعصَّرها ونشَرَها ثمّ رماها في البحر ثانيةً وهو يقول: باسمِ اللهِ. وصبرَ عليها حتّى استقرّت فثقُلَتْ أكثر من المرَّة الأولى فظَنَّ أنَّه سمكُ، فربط الشبكةَ وأخذ يعالجُها الى أن خلَّصها الى البَرِّ فوجَد فيها زِيرًا كبيرًا وهو ملآن رملاً وطينًا، فتأسَّفَ أشَدَّ الأسف وأنشَدَ يقول:

يا حُرقَةَ الدَّهرِ كُفّي إن لَم تَكُفّي فَعِفّي

خَرجتُ أطلُبُ رِزقي وَجَدتُ رِزقي تُوُفّي

كَم جاهلٍ في الثُّرَيّا وَعالِمٍ مُتَخَفّي


*210*

ثُمَّ إنَّهُ رَمى الزيرَ وعصرَ شبكتَهُ ونظّفها واستغفَر الله تعالى وغاد الى البحر للمرّةِ الثالثة ورمى الشَّبَكَةَ وصبر عليها حتّى استَقرّت وجَذبها فوجد فيها شُقَفًا وقوارِيرَ وعِظامًا. فاغتاظَ. جدًا وبكى وأنشد يقول:

هُوَ الِرِّزقُ لا حَلٌّ لَدَيكَ وَلا رَبْطُ وَلا أدَبٌ يُعطيكَ رِزقًا وَلا خَطُّ

وَلا الحّظُّ وَالأرزاقُ إلا مُقَسَّمٌ فَأرضٌ بِها خِصبٌ وأرضٌ بِها قَحطُ

فَلا عَجبًا إن كُنتَ عَايَنْتَ فاضِلاً فقيرًا، وذا نَقصٍ بِدَولتِهِ يَسطو

فَطَيرٌ يَطوفُ الأرضَ شَرقًا ومَغرِبًا وَآخَرُ يُعطَى الطَّيِّباتِ وَلا يَخطو

ثمَّ أنّه رفع رأسه الى السماء وقال: اللهمَّ ارزقني هذه المرَّة برزقي، ورمَى الشبكة بعد أن سمَّى الله، وصبرَ الى أن استقرّت وجذبها فإذا بها ثقيلة جدًا، فعالجها حتّى أخرجها الى البّر وفتحها، فإذا فيها قُمقُم من نحاس أصفرَ وفمه مختوم برصاص علية خاتم النبيّ سليمان بن داود.

ففرح الصيّاد بهذا القمقم وقال: أبيعه في سوق النحاس بعشرة دنانير ذهبًا ثمَّ إنّهُ حرَكه فوجده ثقيلاً وهو مسدود فقال في نفسه: يا تُرى أيُّ شيءٍ في هذا القمقم؟ لعلَّ فيه كنزًا ثمينًا. فَلأفتَحَنَّهُ. وأخرج سكيًنا وعالج الرصاص ففكّهُ من القمقم وحطّهُ الى جانب الأرض، فعجب إذ رأى دُخانًا يتصاعد من القمقم الى عَنان السماء ويزحف على الأرض ويتحوّل الى عِفريتٍ رأسه في السحاب، ورِجلاه في التراب، وله أيدٍ كالمَذاري، ورِجلان كالسواري، وفم كالمغارة، وأسنان كالحجارة، ومناخير كالإبريق، وعينان كالسَّراجَينِ، أعبَسَ، أنحَسَ.

فارتَعدَت فرائص الصياد من رؤية هذا العفريت، وجف ريقه وَعُمِيَ عن طريقه. فلمّا رآه العِفريت: قال لا إله إلا الله، سليمان نبيّ الله.


*211*

ثمّ تضرع العِفريت وقال: يا نبيَّ الله لا تقتلني فإني لن أخالِفَ لكَ قولاً، ولن أَعْصى لكَ امرًا

فقالَ الصيّاد:

- أيّها المارد. تقول سليمان نبيّ الله، وسليمان مات منذ ألف وثمانمائة سنة. فما قِصَّتك، وما سبب دخولكَ في هذا القمقم؟

فلمّا سمع المارد كلام الصيّاد قال:

- لا أله الله... أبشِر أيُّها الصيّاد.

- وبماذا تبشّرني أيّها المارد؟

- بقتلك في هذه الساعة شرَّ قتلةٍ...

- يُعدِمك العافية، ما هذا الكلام؟ لأيّ شيْ تقتلني وقد خلّصتك من القمقم ونجّيتك من قرار البحر؟

- تَمَنَّ لأيَّ مِيتَةٍ تريد أن تموتَها. هذا كلّ ما أمنحك إيّاه...

فقال الصياد: ولكنْ ألا تحدّثْني عن ذَنبي حتّى يكونَ هذا جزائي منكَ؟

قال العفريتُ: اسمع حكايتي أيّها الصيّاد.

اعلم أنّي كنت من الجِنّ المارقين، وعَصِيْتُ النبيَّ سليمانَ أنا وصخر الجِنّي، فأرسل وزيرَه اصف بن برخيا فأتى بي كُرهًا وقادَني ذليلاً حتّى أوقَفني بين يديه فلمّا رآني سليمان استعاذ منّي وعرضَ عليَّ الإيمان والدخول تحت طاعتِهِ فأبيتُ، فدعا بهذا القمقم وحبسني فيه وختَم عليَّ بالرّصاصِ وطَبَعَهُ بِالاسمِ الأعظم وأمرَ الجِنَّ فَحملوني وألقَوْني في وَسطِ البحر... فأقمتُ مِئَةَ عامٍ، فقلت: كلّ من خَلَّصني أغنيته الى الأبد. فمرَّت مِائةُ عام أخرى فقلت: كلّ من خلَّصني فتحتُ له كنوزَ الأرض، فلم يخلّصني أحدٌ. فمرّت بي أربعمائة سنة أخرى فقلت: كلّ مَن يخلّصني قضيتُ له ثلاث حاجات، فلم يخلّصني أحد. فغضِبتُ غضبًا شديدًا وقلتُ في نفسي:


*212*

كلّ من خلّصني قتلته بلا شفقة، ومنَّيتُهُ كيف يموت. وها أنتَ قد خلّصتَني ومَنَّيتُكَ كيف تموت. فاختَرِ المِيتَة التي تشاء.

فأجابَهُ. الصيّاد:

- أعفُ عني أيها المارد، يعفو الله عن قتلك ولا تهلكني لَئِلا يسلّطِ الله عليكَ مَن يُهلكُك. فقال المارد: لا بُدَّ من قتلِك، فَتَمَنَّ عليَّ أيَّ مِيتَةٍ تموتُها.

- ألا تعفو عنّي جَزّاءَ إنقاذي إيّاكَ؟

- ولكِنّي سأقتلك لأنّكَ أنقذتَني.

فقال له الصيّاد: يا شيخَ العفاريت، هل أصنع معكَ مليحًا فتعاملني بالقبيح؟ لم يكذب المثل حيثُ قال:

فَعَلنا جَميلاً قابَلونا بِضِدِّهِ وهذا لَعمري، مِن فِعالِ الفَواجِرِ

وَمَن يَفعَلِ المَعرفَ مَع غَير أهلِهِ يُجازَ كَما جُوزي مُجيرُ أمِّ عامِرِ

- لا تُطِل؛ فلا بُدَّ من موتك.

فقال الصيّاد في ذات نفسه: هذا جنّيّ، وأنا إنسيّ. وقد أعطاني الله عقلاَ كاملاً... فهل أدَعه يقتلني؟ ثمَّ قال للعفريت:

- هَل صمّمتَ على قتلي؟

- نعم.

فقال الصيّاد: بِالاسمِ المنقوش على خاتم سليمان بن داود أسألك عن شيء فأرجو أن تَصدُقَني فيهِ.

فاضطربَ العِفريت لِسَماع الاسم الأعظم، وقال له: سَل وأوجِز.

فقالَ له: أنت كنت في هذا القمقم، لا يسَع يَدَك ولا رِجلَك... فكَيْفَ يسُعكَ كلَّك؟

فقال له العِفريت:


*213*

أنت لا تصدِق أنّني كنت فيه؟

فقال الصيّاد:

لا أُصَدِقُكَ أبدًا حتّى أَنْظُرَكَ بعيني...

حينَئِذٍ انتفضَ العفريتُ وصارَ دخانًا، واجتمعَ، ودخَلَ القمقمَ قليلاً، قليلاً. فأسرعَ

الصيّادُ الى قطعة الرّصاص المختومةِ وطَبَعها على فم القمقم ونادَى العِفريتَ قائلاً:

تَمَنَّ عَلَيَّ الآنَ بِدَورِكَ أيَّةَ مِيتَةٍ تُريدُ أن تَموتَها؟

لأرمِيَنَّكَ في هذا البحر، وَلأبنِيَنَّ هُنا بيتًا، وكُلُّ مَن أتَى الى هذا الشاطئ منعتُه مَن الاصطيادِ قائلاً له: ها هُنا عِفريتٌ، مَن أخرَجَهُ قتَلهُ.

فَلمّا رأى المارِدُ نفسَهُ محبوسًا أرادَ الخروج فمنعه خاتَمُ سليمان. وعلم أنَّهُ وقع في حيلةِ الصيّادِ. فقال له:

أنا كنت أمزحُ معك.

فقالَ الصيّاد:

إنَّك تكذبُ يا أَحقرَ العفاريتِ وأقذرِها وأصغرِها. ثمّ خرج بالقمقم الى البحر - فقال المارد: وماذا تريد أن تصنعَ بي؟

فقال: سَألقيكَ في البحر؛ فإن كنتَ قد أقمتَ فيه ألفَا وثمانمائةِ سنة، فأنا أجعلُكَ تُمكُثُ فيه الى أن تقُومَ الساعةُ أَما قلت لك أبقني يُبْقِكً الله ولا تقتلني لا يقتلك الله، فأبيتَ الا أن تَغْدِرَ بي فرماكَ الله في يدي، فغدرتُ بك.

قال العِفريت: لَئِن أنقذتَني هذِهِ المرّة فإنّي سأحسِنُ إليكَ أعظَمَ الإحسانِ.

قال العِفريت: كَذَبتَ يا، ملعون، بل سيكون مَثَلي وَمَثَلُكَ كمَثَلِ وَزيرِ الملك يونانَ والحكيم دوبانَ.

قالَ العفريت: وَمَن هو وزيرُ الملك يونانَ وَالحَكيم دوبانَ، وما قِصَّتُها

قال الصيّاد: إنّها لَقِصَّةٌ عجيبةٌ.

عن: الجديد في الأدب العربي. حنا الفاخوري

ج 5، بيروت 1975


*214*

من سيرة عنترة:


*214*

إيقاع عنترة بالعدو

قال نَجدُ بنُ هِشامٍ: ثُمَّ إنَّ شَيبوبًا بعد هذا الكلام، تركهم وسار، وجَدَّ في قطع القفارِ، وبانَتْ بنو عبسٍ على مقالي النار، وقد أيقَنَتْ بالهلاكِ والوَبار، ونَدِمَت على مجيئِها الى تلك الديار. قال الراوي: لّما أصبح الصباح، تبارت الفرسان الى الحرب والكفاح، وهزَّت في أيديها عواملَ الرماح، وعلا من الفريقين الصياح، وقال الشجاع: ألا ما أبركَه من صباح .فلمّا عايَنَ الملكُ قيسٌ كثرةَ الأبطال، خاف من الهلاكِ والوَبال، وحَمَلَ بِمَن معه من الرجال، ورموا أنفسهم على تلك الألوف المتألّفَةِ، وقلوبهم خائفةٌ مرتجفة، وانطبقَت القبائل، ودارَت بهم الجحافلُ، وكثرَت عليهم الألوف، وبرزت إليهم الصفوف وأشتدَّ الكفاحُ والخصامُ، وكثُر الزِّحامَ، وحامَ على أجسادِ القتلَى طيرُ الحِمام، فيا لَها من ساعةٍ ما أشدّ نَكالَها... وأعظَمَ بلاها وأهوالَها قُطعت فيها الرؤوس، وخُطِفت النفوس، وعظم الويلُ والبوس. وقاتلت بنو عبس القِتالِ الشديد، الذي ما عليه من مزيد، وأظهَرَت الصبرَ والجلدَ، وأخفَت الكَمَد، ورضَيتْ لنفسها الهلاكَ والوَبار، واستخارتَه على الهَرَبِ والفِرار، وما زال السيفُ يُعْمل، والدمُ يُبذَل، والرجالُ تُقتَل، حتى صارَت الشمسُ في قبَّة الفَلك، فَقُتِلَ من قُتِل وهلَكَ من هَلَك. وكانت بنو عبس قد ملّت ضربَ الصِّفاح، وطعنَ الرماح، وتحسَّرت على ديارها وأوطانها، وذلّت صناديد أبطالها وفرسانِها، وانحطَّت منازلُها من علوّ الشان ورِفعة المكان، وأبصرتْ من الضرب والطعان الذلَّ والهوان، وقاتل الملكُ قيسٌ حتّى كلّتْ يداه، وأشرفَ على هلاكِه وفناه، وكان الأميرُ طلائعُ بنُ الصباح، يقول لمن حولَه من فرسان الكفاح: أينَ هو الآنَ الملك حسّان؟ حتّى يرى عِداه الذين قَتلوا أباه وهُم صرعى في جوانِبِ الفلاه، وما كنت


*215*

أريد أيُّها السادة الأخيار، إلا أن يصل الى هذه الديار، قبلَ ذهاب النهار، حتّى يَشفي فؤادَه بأخذ الثأر. ثُمَّ إنّه بعدَ هذا المقال، صاحَ بكلّ فمه، وقال: أين أنت يا حَسَّانُ بنُ مسعود، يا صاحب العساكر والجنود، فترى ما يُسِرُّ الخاطِرَ ويُقِرُّ العَينَ والناظِرَ؟.

قالَ نجدُ بن هِشامٍ: فما انتهى من هذا الكلام، حتّى ظهر الغبار، وعَلا وثار، وبعد ساعة من النهار، انجلى لِلأبصار، وانكشف عن مياه عَراعِرَ، وبأنَ عن ثلاثة فوارس كأنهم الأسود الكواسِر ، يتقدّهم فارسٌ أسْوَد، غاطسٌ بالحديد والزَّرّ ، كأنَّهُ قُلّةٌ من القُلّل، أو قِطعةٌ من جبل، وأمامَهُ رجل انقضَّ انقضَّاضَ العُقبان، وارْتَفَعَ فوقهُ الغبار الى العَنان، وفي يدِه رمحُ طويل عالي السِّنان، وعليه رأس كأنّهُ رأس سَعدان، فلمّا أبصرهم طلائعُ بنُ الصَّباح، طابَ قلبه من كثرة السرور والأفراح، ونادى على مَن حولَه مِنَ العظماء والأعيان:

يا لَقحطان... يا لَقحطان... قد وصل، وذِمَّةِ العربِ، الملكُ حسّان، بالأبطال والفرسان، وهذه بوادر خيله قد طلعت، وأسِنَّهُ رماحها قد لمعت، غيرَ أنّي قد أنكرت هذا الفارس الأسودَ، والبطلَ الأوحدَ، ولا سِيّما ذلك الرجل الذي كأنَه مارد من مَرَدَةِ الجان، وهولُ منظره يُرعب الأبدان، وفي يده ذلك الرمحُ العالي السّنان، وعليه رأس ذلك الإنسان. وما أقول أيُّها السادات والفرسان، إلا أنّه رأس بعض أعدائنا من بني عدنان.

قالَ نجدُ بنُ هِشامٍ: فلمّا سمعَت سادات القوم من طَلائِعَ هذا الكلام، دخلَت عليهم الشكوك والأوهام، فقال له بعض الرجال، وكان يُقال له فاتكُ بنُ المِر قال: الى كَم تعلّلُ نفسَكَ يا طلائِعُ بالمُحال؟ وتتحدّث بحديث الجُهّال؟ فأنا قد صحّ عندي وتأكّد أنَّ هذه الفوارسَ الواصلةَ إلينا، والمشرفةَ علينا، ليسَت من خيل اليَمن، ولا من فرسان تلك المعاهد والدِّمَنِ. وإنَّما هذه الفرسان طارقةٌ من طوارقِ الزمان، وسوف ترى صدق هذا الكلام، لأنّي أراهم قد تقسّموا الى أقسام، وهُم مقبلون


*216*

كَلُيوث الآجام، طالبون الرايات والأعلام، وكُلّ ليثٍ منهم غَشَمْشَم مالَ الى عَلَمٍ، واستخفَّ بالأبطالِ، وازدرى بالرجال. وبعد ساعةِ رأينا الأعلام قد مالت، والجماجم قد زالت، لأني عرفت ذلك الفارس الأدهم. فما هو فارس إلا الجِلاد، وحيَّةُ بطن الواد، الذي اشتهرَ وشادَ، عنترُ بنُ شَدّاد. فلمّا سمع طَلائِعُ ذلك الكلام تبسَّم، واستَخَفَّ بذلكَ الشيخ الذي تكلّم.

قالَ نجدُ بنُ هشامٍ: فبينما هو معه في الحديث والكلام، وإذا بذلك الفارس المذكور والبطل المشهور، وصل إليهم وهجمَ عليهم، وصاحَ فيهم وزَمجَرَ، والتقاهُم بالأسمر والأبتَر وهو يقول: يا أوغاد غير أمجاد، أبشروا بالويل وخراب البلاد، فقد أتاكم الفارس الجَواد، الرفيع العماد، الذي أذَلَّ بسيفه فُرسان العَرَبِ، وأهل البغيِ والعِناد، الأمير عنترُ بنُ شدّاد. وإن كنتم لا تصدِّقون هذا الحديثَ والإيراد، فهذا رأس ملككم حسّان ين مسعود بن مصاد. ثمَّ إنَّه طعَنَ جبّارٍ أخرَجَ الرمحَ من ظهره عشرة أشبار فلمّا رأت الأبطالُ تلكَ الطعنة، وأيقنَت بالهلاك والمِحنة، تفرَّقت بين يديه شِبهِ الغَنَمِ، وَطَلَبَت البراري والأكَمَ. وَأبصر طلائِعُ ذلك الحال، فخاف، على نفسه من الوَبال، وأطلقَ عِنان جواده، وولّى هاربًا، ولِلنّجاةِ طالبًا وهو يقول: وَحَقِّ رَبِّ الأرباب، لقد أخطأ اليومَ ظّني وما أصاب.

عن: الجديد في الأدب العربي. حنا الفاخوري ج 5 بيروت 1976


*217*

توقيعُ جوهر الصّقلّيّ


*217*

(هو قائد المعزّ، وعلى يديه فُتِحت مصر. وقد كان كاتبًا للمعِزّ قبل تولّيه قيادة الجيوش بالمغرب. وتعتّبر هذه القطعة أوّل ما وصلنا من النثر الفاطميّ في مصر، كتبها جوهر بيده أمانًا قَطَعَهُ على نفسه وعلى أمامه للمصريين.وهي نموذج لأسلوب النثر الفاطمي لما فيه من جمل قصيرة ومسجوعة، ومن معانٍ متناسقة ومتقابلة.)

ومن مُستحسَن توقيعاتِهِ في رقعة رُفعت إليه بمصر:

(سوء الاجترامِ، أوقعَ بكم حُلولَ الانتقامِ، وكفرُ الانعامِ، أخرجَكُم من حِفْظِ الذِّمامِ، فالواجبُ فيكم تَرْكُ الايجابِ، واللازمُ لكم ملازَمَةُ الاحتسابِ، لأنّكم بدأْتم فأسأتُم، وَعُدْتم فتعَدّيْتم، فابتِداؤُكم مَلُومٌ، وعَوْدُكم مذمومٌ، ولَيسَ بينهما فرجةٌ إلا تقتضي الذمَّ لكم، والاعتراضَ عنكم، ليرى أميرُ المؤمنينَ صلواتُ الله عليهِ رأيَهُ فيكم).

أدب مصر الفاطميّة -ص 324


*218*

صفحة فارغة


*219*

صفحة فارغة


*220*

قصة قصيرة

نظرة يوسف ادريس


*220*

كان غريبا أن تسأل طفلةٌ مثلها إنسانا كبيرا مثلي لا تعرفه في بساطة وبرأءَة أن يعدّل من وَضْعِ ما تحمله، وكان ما تحمله معقّداً حقاً. ففوق رأسها تستقرُّ (صينيّة بطاطس بالفرن)، وفوق هذه الصنينيّة الصغيرة يستوي حوضٌ واسع من الساج مفروش بالفطائر المخبوزة، وكان الحوض قد أنزلق رغم قبضتها الدقيقة التي استماتَت عليه حتى أصبح ما تحمله كلُّه مهددًا بالسُّقوطِ.

ولم تَطُل دهشتي وأنا أحدّقِ في الطفلة الصغيرة الحَيْرى، وأسرعتُ لإنقاذ الحِمْل، وتلمّستُ سُبلا كثيرة وأنا أسَوّي الصينيةَ فيميل الحوض، وأُعدِّل من وضع الصاج فتميل الصينيّة، ثم أضبطهما معاً فيميل رأسها هي. ولكنِّي نجحت، أخيراً في تثبيت، الحمل، وزيادةً في الاطمئنان، نصحتها أن تعودَ الى الفرن. وكان قريباً، حيث تترك الصاج وتعود فتأخذه.

ولستُ أدري ما دار في رأسها فما كُنتُ أرى لها رأسًا وقد حَجَبه الحمل. كلّ ما حدث أنها انتظرت قليلاً لتتأكّد من قبضتها، ثم مضت وهي تغمغم بكلام كثير لم تلتقط أذُن منه إلا كلمة (سِتي).

ولم أحوِلّ عينيّ عنها وهي تخترقُ الشارعَ العريض المزدحم بالسيارات، ولا عن ثوبِها القديم الواسع المهلهل الذي يشبه قطعةَ القُماش التي يُنّطف بها الفرنُ، أو حتى عن رجليها اللتين كانتا تجلمان من ذيله كمسمارين رفيعين.


*221*

وراقبتها في عَجَبٍ تُنشِب قدميها العاريتين كمخالب الكّتكوت في الأرض، وهي تتحرّك ثم تنظر هنا وهناك بالفُتحاتِ الصغيرة الداكنة في وجهها، وتخطو خُطىً ثابتةً قليلة، وقد تتمايل بعضَ الشيء، ولكنها سُرعان ما تَستأنفُ المُضيّء.

راقْبتُها طويلا حتّى امتَصَّتْنِي كل دقيقة من حركاتِها، فقد كنتُ أتوقّع في كلِّ ثانية أن تحدث الكارثة.

وأخيراً استطاعت الخادمة الطفلة أن تخترقَ الشارع المزدحم في بُطءٍ كحكمه الكبار. واستأنفَت سيرها على الجانب الأخر. وقبلَ أن تختفي شاهدتُها تتوقّفُ ولا تتحرّك.

وكادت عربة تَدْهَمني وأنا أُسرع لإنقاذِها وحين وصلتُ كان كلّ شيء على ما يُرام، والحوض والصينيّة في أتمّ اعتدالٍ، أمّا هي فكانت واقفةً في ثبات تتفرَّج، وجهُها المنكمشُ الأسمر يُتابع كُرَة المطّاط يتقاذفها أطفال في مثل حجمها، وأكبرُ منها، وهم يهللّون ويصرخون ويضحكون.

ولم تلحظْني، ولم تتوقّف كثيراً، فمن جديد راحت مخالبُها الدقيقةُ تمضي بها وقبلَ أن تنحرِف، استدرت على مهل واستدار الْحِمل معها، وألقت على الكرة والأطفال نظرةٌ طويلة.

ثمّ ابتلعَها الحارَة

يوسف إدريس

من مجموعته: (أرخص الليالي)

دار العودة - بيروت؛ 1970


*222*

مارش الغروب


*222*

كانت دقّات الصاجة تخرج صاخبةً زاعقةً وعلى دفعات كهَدير الديك الرومي. وكنتَ تستطيع أن تسمعها من بعيد، حتّى إذا وصلتَ إلى كوبري شُبرا البلد عثرتَ على مصدرِها، على بائع العِرقسوس.

كان رجلاً كمعظم بائعي العرقسوس، ويرتدي زِيَّهُم التقليدي. فوطةٌ حمراءُ قديمة نظيفة لفَّها حول وسطه، وفانيلَّه. بمبة بأكمام ولا شيء غير هذا يستر الجسد خلا السروالَ الطويل الذي يترك الساقين عاريتين.

وكان للبائع ذقَن طويلة، ولكنَّه سنيّاً، كان واضحاً أنّه يطلق لحيته كنوع من عياقة الكبار، أو لإحاطَة نفسه برهَبة مصطَنَعة، أو على أقلّ تقدير ليوفّر ثمن حلاقتها كل يوم.

كان واقفاً في وسط الكوبري تماماً. وهو إبريقه يكادان يسدّان الطريق، فلإبريق كان ضخماً قديماً، وكأنه هو الآخر عجوز مُقعَد كٌتبَ على البائع أن يحمله فوق صدره مدى الحياة، وكانت له بوز رفيعة ممتّدَّة ومُلْتوٍيةٌ عند أخِرها وكأنها يد العجوز التي عوجها الشلل حين تمتدّ لتستجدي.

وكانت يدا الرجل متدلّيَتان خلفه، ويده اليمنى لا تكف عن دقّ الصاجات. ويخرج صوتُها له ضجّة وصراخ. وكان يدقّ على دفعات، كلّ دفعه دقّتين متتاليتين.

ثمّ يصمت برهة، ويعود إلى الدقّ ويقول (يا منعنش) وكان ينطق منعنش بلهجة لا نعنشة فيها ولا حماس، فالدنيا كانت شتاءً، والشمس غابت من هنيهة، والكون يعبق بذلك الجوّ المريض الذي يتبع مغرب الشمس ويَسْبِقُ حلول الظلام، وكان الناس يمضون فوق الكوبري صامتين، مسرعين، في إسراعهم كآبة يوم الموت، وبرودةُ الشتاء، كان الناس يمضون ولا أحد يلتفت إلى البائع أو تسترعيه دقّاته،


*223*

فالدنيا شتاء. ومَن يشرب عرقسوسًا في الشتاء؟. ومن يفكّر حتى في فتح فمه أو التْلَكٌؤ لأخذ شفطه؟. ورغم هذا استمرت الصاجات تعمل وتهدر بزعقيها المتوالي.

وكلَّما حدَّق البائع في الكَون ورأى الناس يختفون من حوله ويتسرّبون وكأنَّما تبتلعهم مخابئ سريّة، وكلّما رأى الجرح الدمّم الذي احدثته الشمس الغائبة في السماء حين اخترَقتها إلى عالَم الظلام، كلّما رأى هذا قصُرت المسافة بين الدقّات، وأصبح صوتها أعلى وأثر حِدَّةّ، وانطلقت حنجرته تعضد الدقّات وتقول: يا منعنش، تقولها حنجرة متلّصة، مثنيّة على نفسها وكأنَّما انحنت تستخلص (منعنش) وهي عاصية في قاع حنجَرته لا تريد أن تخرج، فالإبريق كان لا يزال راقداً فوق صدرِهِ كالمصيبة الثقيلة، ولا يزال ممتلِئاً، وكلّ ما باعه منذُ الصباح لا يتعدّى بضعة قراريط لا توقِد مصباحاً ولا تغمس لقمةً.

والدّقائق تمضي بسُرعة، والوقت يتسرَّبُ تَسَرُّبَ الناس، كأنما أصابه البرد هوَ الآخر. وتدقٌّ الصاجات، عالية صاخبة هستيريّة، تريد أن تتحدّى وتستوقف الأسماع، والظلام يتكاثر، وتصبح له دنيا كبيرة، وبردُ السماءِ يُطْبِقُ على الأرض، والناس يصفرون ويصفرون، وكلّ شيء تصبغه رماديّة زرقاء، ويبرد، ويصبح لا حياة فيه. وتزأر الحنجرة يا منعنش، وتخرج حادَّةً تكمل صَخَب الدقّات، وبين كلّ آن وآن يقول يا كريم سترك. ويمدّ الكاف وكأنّه يصنع منها حبلاً رفيعاً، يمدُّه فوق الكوبري ليوقِفَ الناس، ويتبعها بسترك، مُقتَضَبةً خارجة من الصدر وكأنّما يسترضي الناس بعد هديره ويصالحهم بها.

والناس رائحة غادية، ميتانة، سقعانة، ناشفة، وجوههم شاحبة فيها غضون، وعيونهم ذابلة فيها شتاء، ولا يريد أحد - رغم وجودهم في وسط الكوبري- أن يلقي عليه نظرة.

وأطلق الرجل يا منعنش، وأتبعها بيا كريم سترك، أطلقَهُما عالِيتين صاخبتين مدوِيَتَيْن كاستِغاثاتٍ لسفينة تغرق.


*224*

وأيضاً لم يلتفت أحد


*224*

والوقت يمضي، والمارّة يقلّون، والسماء تزداد إطباقاً على الأرض، وعلَم الظلام يكبر ويكبر، والجرح الذي في الظلام يلتئم وتذهب حُمرته وشَفَقَه، والناس يتحوّلون من كائنات إلى أشباح.

وبدأت دقّات الصاجات تنخفض، ولم يعد الرجل يقول يا منعنش، كان فقط يردّد يا كريم سترك، وكان يقول تضرّعاً، يقولها لكل شيء حوله: للأرض والسماء وعربات النقل والكارو، وحتى لصاحب الغرزة الجالس هو الآخر يرتعش ويستعدّ للرحيل.

وكان ما في صوتِه من ضراعة ينتقل الى نحاس الصاجات فتخرجُ الدقّات متتابعة في نغم، وعلى دفعات ولكن فيها بحّة، وكأنّه يريد أن يرجوَ الناس فقط أن ينظروا إليه، فقط ينظروا إليه ولا يشترون، لماذا يَزْوَرّون عنه ويُشيحون بوجوههم ويتهرّبون وكأنَّهم يَفِرُّون من واجب ثقيل، ماذا عليهم لو فقط يلتفون؟

ولم تُفلح الدقّات ولا أفلَحَ النّداء في جلب نظرة.

وهنا كَسَت وجهَ العجوز تكشيرة طيّبة فيها يأس، وتهدّل حاجباه فوق عينيه في عتاب صامت، وكانت يداه لا تزالان متدلّيَتين خلفَهُ، ولكنَّ الدّقّات همدّت حِدّتُها وتباعدَت وأصبحت كدّقات قلب المشرف على الموت، تسكت طويلاً ثمّ تبرق فجأةً وكأنَّها تقاوم الفناء. وبين الحين والحين يُلقي الرجل نطرةً على القراريط التي باعها وآلاف القراريط التي لم يَبِعها ثمّ يتمتِم من بين شفتيْن ترتجِفان بالبرد: يا كريم سترك.

وظلّ الرجل واقفاً هكذا وكأنما ينتظر شيئاً ما، معجِزَة تحدث وتُفرغُ الإبريق وتملأ جيبَه ثمّ خفَّ القدم وحلا الكوبري، ووقف على جانب يُحدِّق في الأرض والسماء والأضواء البعيدة والقريبة ولا شيء يحدث ولا معجزة تهبِط.


*225*

وهبطَ عليه يأس كامل، فارتفع حاجاه المتهدِّلان، ومضت التكشيرة إلى غير رجعة، وانبسطت ملامحُه، وبدأت الدقّات المتباعدة تتقارب وتتألف، ولكنها اتخذت طابعاً غربياً، فلم يكن لها ضجّة الهدير المتتالي الذي يشبه صُراخَ الإوَزّ المذعور تألفت الدقّات وصنعت نغمةً أخرى. نغمة خافتة تخرج حزينة. ظلّ الرجل يدقّ بيديه بدون وعي، وتخرج النغمة دون وعيٍ أيضاً هامسة تتستْرُ بالظلام، ولا أحد يسمعها، حتّى فطن الرجل إلى ما تُحدثه أصابعه فأنصَتَ بُرهةً وابتسمَ، ورفع حاجبيه وكأنّما أعجبَتهُ النغمة إلى الدرجة التي راح يهزّ رأسه هزّاتٍ خفيفة على وقعها، ثمّ ما لبت الاهتزاز أن وصل الى شُعيرات ذقنه فأخذت تتأوّد وتتراقص.

وقف طويلاً، يَرمق الناسَ والدّنيا بِلا مبالاة تامّة ويده اليمنى تهمس بالنحاس الى النحاس، والطرب قد وصل الى الإبريق وبوزه فأخذ يرتعش هو الاخر ويتمايل، ولا أحد يسمع سِواه.

وهو مُنتَشٍ لأنّ أحداً لا يسمع سواه، ولا أحد يلتفت إليه.

والنغم يخرج حنونا دامعاً حلواً في سكون المساء.

ظلّ واقفاً الى أن تَحوَّلَ الظلام المتكاثر الى شبح من الأشباح.

ثمّ بدأ الرجل يتحرك مروّحا في اتّجاه شُبرا البلد.

تحرّك بطيئاً، يائساً، مثنِياً الى الوراء، ويداه خلفه، والصاجات تدقُ وهو يتحرّك على وَقع نغمتها الهامسة، كلّ خطوة بهمسة، همسة موجَعة ثَكلى، وكلّ خطوة بدقّة، دقّة ناعمة فيها شحَن.

ويذوب شبحُه في الليل حتى يختفي تماماً، ولا تعود الأذن تسمع همس النحاس الى النحاس وهو ينخفض ويشفّ وينخفض.

والدنا كبيرة كبيرة، والظلام كثير كثير.

من مجموعة (دنيا يوسف إدريس)

دار النشر العربي - تل أبيب 1976


*226*

القهوة الخالية

قال محمد الرشيدي بنَبرة أرعشها الحزن والْانفعال:

ـ إلى رحمة الله الرحيم، إلى جِوار ربّك الكريم يا زاهية، يا رفيقة عمري، إلى رحمة الله.

وانتَحَبَ باكياً وهو ينحني فوق الجثّة المسجّاة على الفراش، معتمداً بيُمناه على الوِسادة من شدّة الإعياء، حتّى رحِمَتهُ الخادمُ العجوزُ فربّتَتْ على يده برِقّة ثم أخذته منها الى حجرة الجلوس فأسلم نفسه الى مِقعد كبير وهو يتنهّد بصوت مسموع.

ومدّ ساقيه وهو يتأوّه ثم غمغم:

ـ أنا الآن وحدي، بلا رفيق، لِمَ تركْتِني يا زاهية؟ وبعدَ عِشرة أربعين عاماً... لِمَ سَبقْتِني يا زاهية؟

وعَزَّتهُ الخادم بعبارات محفوظة. غير أن منظرَ شيخ في التسعين وهو يبكي محزنٌ حقّاَ، وقد التمعت أخاديد خدّيِهِ وحُفَرُ أنفِهِ بالدموع، فغادَرَت الخادم الحجرة وهي تجهش في البكاء. وأغمض عينيهِ اللتين لم يبقَ في أشفارِها إلا آحاد من الرّموش، وراح يقول:

ـ منذ أربعين عاماَ تزوجتُكِ وأنتِ في العشرين، ربّيتُكِ على يدي، وكنّا سُعداءَ جِدّاً رغمَ فارق العمر، وكنتِ خيرَ رفيق، يا طيّبة، يا إنسانة... فإلى رحمة الله.

وكان ذا صحّة جيّدة إذا قيسَ بعمره، طويلاً نحيلاً، واختفى أديمُ وجهِهِ تماماً تحت التجاعيد والأخاديد، وبرزت عظامه وتحدّدت كأنّها جمجمة، في عينيه غارَت نظرة تحت غِشاوة باهتة لا تنعكس عليها مرئّياتُ هذا العالم. وأَمَّ الجنازةَ خلْقٌ كثيرون لم يمكن فيهم واحد من أصحابه أو معارفه. جاءوا يعزّون ابنه، أو إكراماً لزوج ابنته الموظّف بإحدى السفارات في الخارج، أما هو فلم يبق من أصحابه على


*227*

فهد الحياة أحد. وجعل يستقبل الوجوه التي لا يعرفها ويتساءل أين رعيل المرّبين الأول، أين الساسة الحقيقيّون على عهد مصطفى وفريد؟

وعندما أنفضّ المأتم حوالي مُنتصف الليل سأله ابنه صابر:

- ماذا نويتَ أن تفعل يا أبي؟

وقالتْ له زوجة ابنه:

- لا يجوز أن تبقى هنا وحدك.

أدرك الشَّيْخُ ما يقصدان فَتَشَكّى قائلاً:

- كانت زاهية كلَّ شيء لي. كانت عقلي ويدي.

فقال صابر:

- بيتي هو بيتُك، وستحلُّ بحلولك بنا البَركة، وستجىء خادمتكَ مباركة لخدمتك.

أجل لا يمكن أن يقيم في هذا المسكن وحدَه. رغم ما يُبدي ابنه وزوجته من شعور طيّب فهو يؤمن بأنه - بانتقاله - سيفقد الكثير من حرّيته وسيادته، ولكنْ ما الحيلة؟ وكان في شبابه ورجولته وكهولته شخصاً صلباً، وما زال يحتفظ بوقاره ومِهابتِه، كم خرّج من أجيال من المُرَبِّين والشخصيّات الفَذّة ولكن ما الحيلة؟ وبطرف واجمٍ شهد الرجل تصفية مسكنه. رأى أركانه وهي تتقوَّض كما رأى احتِضارَ زَوجتِهِ من قبلُ، فلم يُبقوا إلا على ملابسه وفراشه وصوان كتبه التي لم يعد يمدّ لها يداً وبعضِ التُّحف وصُوَرِ لأعضاء الأسرة ولبعض الرجال كمصطفى كامل ومحمد فريد والمويلحي وحافظ إبراهيم وعبد الحيّ حلمي. غادرَ بيتَه إلى مصر الجديدةِ في سّيارة ابنه، هنالك أُعِدّت حُجرة لنومه، وتأهَبت مباركة العجوز لخدمته.

وقال له ابنه:

- نحن جميعنا رهن إشارتك.

وابتسمت منيرة زوجة صابر ابتسامةَ ترحاب، روحٌ طيّبة حقاً ولكنه لا بيتَ له، ذلك كان الشعور الذي احتاجَهُ. وجلس على مِقعده الكبير يبادلها النظرات فيما


*228*

يُشبه الحياء. قال لنفسه لعلّه لو كانت سميرة ابْنَتُهُ في مصر لَوَجَدَ في بيتِها أُنساً ألصَقَ بالقلب. وطهر توتو عند عتبة الباب. ردّد عينيه بين أبويه ثم جرى حتّى ليد بين ساقي والدِهِ. ونظر الى جدّه يتأمل فابتسم الشيخ قائلاً:

- أهلاً توتو. تعال.

ونادراً ما كان توتو يزور جدَّه مع والده. وأَحَبَّهُ الشيخ كثيراً ولم يقتصد في مداعبِته كُلّما وسعه ذلك، ولكنّ توتو كان حادًّا في مداعباته، فهو يحب الوثبَ على من يُداعبه ويهدّد عينيه وأنفَه بأظافره فسرعان ما تجنّبه الشيخ بِلُطف مؤْثِراً أن يحبه من بعيد لبعيد. وأشار توتو الى طربوش جدّه الطويل وقال - رأسك.

يعني أن يخلع طربوشه ليرى صلعتَه البرتقاليّة المستطيلة المنحدرة التي اجتذبت اهتمامه وتساؤله من أوّل نظرة ولمّا لم تتحقّق رغبته راح يشير الى أخاديد الوجه وحُفر الأنف، وتتابعت أسئلة رغم محاولات والده لإسكاته. وقال الشيخ لنفسه أنَّ الطفل العزيز لن يعتقه من المتاعب وأنّه سيحتاج الى حماية. ولكن أين زاهية؟ وساعته وَمِنَشَّتُهُ وسجائره كيف يحفظها من عَبَثِه؟ وحاول خدامتَه فحملته الى الخارج وهو يصرخ محتجّاً. وقال صابر:

- إني أفرغ من عملي مَسَاءً ثمَّ أذهب الى النادي أنا ومنيرة، فهل تأتي معنا؟

فقال الشيخ:

- لا تُشْغِلْ نفسَك بي. ودع الأمورَ تجري على طبيعتها.

وذهب صابر ومنيرة فرحّب بالوَحدة ليستجّم. ولكنَّ الوحدة ثقلت عليه بأسرع مما تتصوّر والتقى نظرة غير مكترثة على الحجارة ثمّ طوّقته الوَحشة. متى يعتاد المكان الجديد ومتى يعتاد الحياة بلا زاهية؟ أربعون عاماً لم تخلُ يوماً من زاهية. منذ زُفّت إليه في الحلميّة ورقصت أمامها الصرّافية. والبيت بِفَضْلِ يدها يَنْعَمُ بنظافة وعبير بخور


*229*

زكيّ. وما قيمة رمضان والأعياد بدونها؟ وخلت الجنازة من أجيال وأجيال من تلاميذه فهل لم يعد يذكره أحد؟

ولم يكن كذلك حال الأصدقاء الذين ذهبوا. ولكنّهم ذهبوا وكأنها تراهم فرداً فرداً كيوم احتشدت بهم جنازة مصطفى كامل. ورغم أنه لم يعرف الأمراض الخطيرة قطٌّ فقد إمتُحِنت المسكينة بالدنج والتيفود والأنفلونزا، وأخيراً ماتت بالقلب، وتركته متعلّقاً بالحياة كما كان دائما. وقام الى النافذةِ فرأى منها بستاناً كبيراً يتوّسط مربّعا من العمارات مكان الجامع الكبير الذي يطالعه من النّافذةِ حجرته بالمنيرة. ولفحته نسمة هواء جافّة دافئة. وعجب للصّمت المريح ولكنّه أكّد له وَحدْتَهَ. ويوم احتلَّ الإنكليز القاهرة ظفر بِجواد ضالّ، ولكنّ والده خشي العاقبة فضربه، ومضى بالجواد ليلاً إلى الخليج، ثمّ أطلقَه. وكانت المدينة ترتجف من الخوف والحزن. ورجع الى مجلسه، فرأى عندَ أسفل المقعد قطّة صغيرة بيضاء ناصعة البياض غزيرة الشعر وفي جبينها خصلة سوداء، فآنس في نظرة عينيها الرماديّتين استعداداً للتفاهم. وزاهية طالَما عطَفَ على القِطط. وارتاح الى نظرتها، ثمّ تابعها وهي تدور حول رِحل المقعد، ورّبت على ظهرها فتمسّحت بقدمه وعند ذاك ابتسم. ومسح الى ظهرها فاستجابت لراحته وخفَقَ ظهرها صعوداً وهبوطاً فبشّر ذلك بموّدة. وابتسم مرّة أخرى عن أنياب بانت أصولها الطّحلبيّة، وشملت القطّة حركة متموّجة من المَرح. وتزحزحَ قليلاً إلى اليسار ليوسع لها مكاناً، ولكن صوت توتو المتهدّج بالجري ارتفع وهو يقتحم الحُجرة صائحاً:

- قِطّتي.

فقال الشيخ مسلِّماً:

- ها هي قِطَّتُك.

وسأله متودّداً عن اسمها فقال بِحدّةٍ:

- نرجس.


*230*

وقبض بشدّة على قفاها ثمّ جرى بها خارجاً والْشَّيْخُ يهتف به مستعطفاً:

- حاسب. حاسب.

وإذا به قد ذهل. عَجَبٌ ماذا حصل؟ وتّبيّن أن شيئًا ما أصاب جبينَه. وقطّب مستاءً فارتفعت ضحكة توتو عند الباب وهو يلتقط الكرة الصغيرة المرتدّة. وتحسس الشيخ النظّارة ليطمئن عليها، ثم نادى مباركة فجاءت بِسرعة وحملت الطفل مبتعدةً به قبل أن يعيد رمي الكرة. وقال الشيخ:

- هذا الطّفل العزيز مزعج وقاسٍ، مَنْ للقطّة المسكينة؟

منذ خمس سنوات فقدت سميرة ابنته طفلاً في سن توتو فعزّاها باكياً وهو يقول:

- كان الاجدر أن أموت أنا.

وخُيّل إليه وهو في المأتم أن الأعيُن ترمق شيخوخته بدهشة مستحضرة التناقض الصارخ بين بقائه هو وذَهاب حفيده في الثالثة. وليلتها قال لزاهية ممتعضاً:

- طول العمر لعنه.

ولكن ما أرقّها إذ قالت له: (كلّنا فداك. أنت الخير والبركة).

وعند الأصيل عاد صابر من عمله فقال لأبيه:

- ما دمتَ لا تريد أن تذهب معنا الى النادي فاختر مقهىً في مصر الجديدة، مقاهي مدينتنا جميلة وقريبة من البيت.

قد يكون هذا هو المعقول ولكنّه يحب قهوة ماتاتيا. إنها مجلسه المُختار طيلة دهر طويل. ومضى الى محطّة الأوتوبيس. وهو يسير، إذا سار، وئيداً ولكن بقامة مرتفعة، ويستعمل العصا ولكنّه لا يتوكأ عليها، وكثيرون هم الذين يتطّلعون إليه في دهشتة مقرونة بإعجاب. واتّخذ مَجِلسَهُ بالقهوة تحت البواكي وهو يقول لنفسه فيما يشبه المداعبة: (ما بال القهوة خالية؟). ولم تكن القهوة خالية. ولا كان بها من الترابيزات الخالية إلا عدد محدود. ولكنّها خلت من الأصحاب والمعارف. ومن عادتِه أن يرنوَ الى الكراسي التي حملت قديماً الأعِزّاء الراحلين، فيتخيّل وجدوَهم


*231*

وحركاتهم. والمناقشات حول أخبار المقطّم، ومباريات النرد الحامية، والسياسة.

قضى الله أن يشيّعهم واحدًا بعدَ آخر، وأن يبكّيهم جميعًا. وجاء زمن لم يجد فيه مِنْ رفيق سوى واحد هو علي باشا مهران. وهذا الكرسي كان مجلسه. يجلس عليه قصيرًا نحيلاً مكوّمًا فوق عصاه وحافةُ طربوشه تماسّ حاجّبيه الأشيّبْين النافرين، ويرمقه بنظرة هشّةٍ شبه دامعة من نظّارة كحيلة ثم يتَساءل:

- من مِنّا يا تُرى سيسبق صاحبه؟

ثمّ يغرق في الضحك. وكانت قد استوطنتهُما رعشة الكبر رغم أنّه كان يصغره بعامين. ولّما مات في الخامسة والثمانين حزن عليه طويلاً، ومن بعده خلَت الدنيا وخَلت القهوة. وها هي العتَبة الخضراء تدور كعادتها أمام عينَيه الكليلتين ولكّنها ميدان جديد. وماتاتيا نفسها لم يبق من أصلها إلا الموضع، ولكن أين صاحُبها الروميّ الوَدود؟ وأين النادل ذو الشَّوَاربِ البلقانّية؟ والكراسي المتينةُ البنيان والترابيزاتُ الرخاميّة الناصعة والمَرايا المصقولة والبوفيه العامر بالمشروبات والنراجيل. أين؟ وفي ليلةِ شَمِّ الّنسيم من عام 1930 أحيلَ الى المعاش. وسهر ليلَتَها في مسرح الأزبكيّة هو ومجموعة من الأصدقاء حيث جلجل صوت الطّرَب. أمّا النهار فقد قضَوْهُ في القناطر الخيريّة محتفلين بوداعِهِ، وألقى الشَّيْخُ إبراهيم زناتي قصيدة. وليلتها شرب من الكونياك حتّى ثُمِلَ وهو يطرب الى الصوت المنشد (يا عشرة الماضي الجميل)، ولّما نام آخر الليل حلم بأنّه يلعب في الجنّة. ودعا له إبراهيم زناتي مفتش اللغة العربية بمائة عام من العمر المديد في قصيدته. والدعوة يبدو أنها ستُستَجَاب، ولكنّ القهوة خالية. والشيخ زناتي نفسه رحل وهو ما يزال في الخِدمة. واقترب النادلِ منه ليأخذ الصينيّة ولكّنه تراجع كالمعتذر فذكّره بفنجانِ القهوة المنسيّ الذي لم يمسّه.

وعندما رجع الى البيت وجده راقدًا في السكون، وصاحبه لم يَعُد من النادي. ووجد أنّ عشاءة من الزبادي على خوان. وغيّر ملابِسَهُ في بطءٍ وجهد دون معاونة


*232*

أحد وجلس لتناول العشاء فتذكّر نرجِس. لَو تشاركه القِطَة الصغيرة عشاءه؟ ما ألطف أن يُوثّق علاقته بها؛ فهي ستكون أنِيسَةُ الحقيقيّ في هذا البيت المشغول بنفسه. لعلّها في موضع ما بالصالة. ومال نحو الباب قليلاً وهتف: (بسّ.. بسّ..). وقام فمضى الى الخارج وصاح: (نرجس، بِسّ.. بِسّ) فجاءه المتواهُ من وراء الباب التالي لُحجرته حيث ينام توتو وخادمته. وتفكّر قليلا ثم اقترب من الباب ففتحه برفق فَمَرَقت منه نرجس رافعةً ذيلّها الدّسم كالعَلَم.

ارتاح الشَّيخُ فعادَ نحوَ حجرته وهي تتبعه، ولكنّ صرخة توتو دوّت غاضبةَ. وقال الشَّيخُ لنفسه باسمًا إن الصغير لم يكن استغرق في النوم. وجاء توتو جَريًا فانقضّ على القِطَة ثمّ قبض على قفاها بِشدّة. وربّتَ جدّه على رأسه قائلاً برِقّه:

- خفّيف يدك يا توتو..

ولكنّ الآخر ضغطَهُ حتّى خيَّل الى الشيخِ أن نرجسَ ستختنِق فقال برجاء:

- سأُطعِمُهُا ثمّ أعيدها إليك..

توتو اندفع غاضبًا ثمّ دفع جدّة في ركبتيه. ترنّح الشيخ، ثم تراجع خطوةُ مضطرّةُ، ثم تهاوى فكاد يسقط على الأرض لَولا أن تلاقاه الجِدار، والقِطَة لم تَزَل فوقَ ساعِدِهِ. ولبثَ في هذا الوضع المائل، لم يستطع أن يُقيم نفسه، ودارَ رأسُه قليلاً، وضغط على الأرض بقدمه وعلى الجدار بكتفه لينهض، ولكّنه عجز، وزحفت القطّةُ فوق ساعده حتّى استقرّت على كتفه المرتفع، ورغم دُوار رأسه الخفيف أدرك مدى الخطر الذي يتهدّد عظامَه بالكَسر. وصاح بما تبقّى لديه من قوّة: (يا مباركة). وكان توتو يصرُخ وينذر توثبه بهجمة جديدة. وبئس الشَّيخُ من إنقاذ نفسه. ازداد خواراً ولم يستطع تكرير النداء. وتحفّزَ توتو للوثوب الى مَلاذ القطّة فاندفع بكلّ قوّته ولكنّ يد خادمته أحاطت بوسطة وقد اندفعت من الحُجرة بعينين ذاهِلَتين من أثر النوم. ثمّ جاءت مباركة أخيرا بعد أن أيقظها الزِّياط فجرت نحو سيّدها مستعيذة يا الله. واحتضنته من خلف وإقامته بِرِفق وهو يتأوّه حتّى وقف


*233*

كالّتمثال دون حراك على حين وثبت نرجِس الى الأرض وفسّرت الى حجرته.

وبصعوبة شديدة رجع الشَّيْخُ الى مقعدة الكبير معتمداً على ذراع مباركة. ومضت فترة وَهو صامت والمرأة لا تكفّ عن السؤال عن صِحّتِه. وأشار لها بيده ليُطَمئِنَها، ثمّ أسندّ رأسه الى ظهر الكرسي ومدّ محن ساقْيهِ متنهَداً، وأغمض عينيه ليستجِمّ.

وفي الحال تذكر حفلة تأبين راسخة في الروح. رجع من المنصّة بعد أن ألقى كلمة طّيبةّ ثمّ جلس الى جانب صديقه. ومال الصديق نحوه وسكب في أذنه ثْناءً جميلاً.

لكن من كان ذلك الصديق؟ آه. إنّه واثق من أنّه سيَتَذَكّرُهُ حتماً وكم أنه مُذهلً أنّه نَسبِيَةُ. قال كلمة لا يمكن أن تُنسى، كذلك سوف يتذكّره ... حتماً ودوّى التصفيق والهُتاف. وارتفع نُواء القِطط، وبكت كلُّ عين حتّى الأطفالُ ترامَى صُراخها. ومال الصديق نحوه مرّة أخرى وقال. وتأكّد من أنه سيظفُر بالذّكريات جميعاً.

وسرعان ما استغرق في النوم.


*234*

كل شيء على ما يرام

محمد عبد الحميد عبد الله

(رأيت الذين تجتذبهم الأخطار إليها وهم راغمون يحرصون كلّ الحرص على أن يجّنبوها سواهم من الأحباب ما استطاعوا الى ذلك سبيلا).

وكانت هذه قصَّتي مع أبويِّ.

قصَّتي التي جعلتُ أستعيد أحداثها حَلقةّ حَلقةً حتى قطعها عليّ انفجار أعقَبتهُ طلقات مدافع رجفت بها الأرض وقعقعت لها السماء. ثمّ تأهِّبت الإسكندرية بعدها لتقاسي ليلة من ليالي الهَول في تلك الحرب الأخيرة.

أمّا نقطة البدء في القصّة فإنها ترجع الى خمسة عشر عاماً. ليلة أرِّقني شيء لست أذكر كُنهَه. وكنتُ إذ ذاك غُلاماً في العاشرة لأبوين ريفيين يجري بهما مركب الفقر في خِضَمّ الوجود فلا تكاد شبكتهما تْخْرُجُ بما يحفظ علينا الحياة.

ووقعت عيناي اللتان أثقلتهُما النّوم على منظر جاشت له نفسي في تلك الليلة.

كان هناك على قُبَّة الفرن في الحُجرة الخاوية مصباح بلا زجاجة مخنوق الأنفاس كأنّه يحتضر. يجثم بينه وبين الحائط وعاء من النحاس مهَّبب الظاهر وكوز من الصفيح يرتمي ظِلّمها على الحائط القديم كالحاً قبيحاً بارتجافِ الذُبابة.

كانت متربعةَ في جلستها كالتي فرغت من الصلاة رافعةً وجهَها الى السماء، وكفّاها مبسوطتان، تدعو وتبتهل. وكان دعاؤها متهدّجاً غامضاً معظمه همس، لكّنه يبعث في القلب رهبةً ومخاوفَ.

وحصير مفروش. افترشه صَبِيَّان كنتُ أَحدَهما. ومن فوقنا غِطاء غليظ من صوف الغنم ذو خطوط مستطيلة تًخرّق في عدّة مَواضع. وكانت رِجل أخي النائم خارجةً من أحَد هذه الخروق. وحمّالة للثياب هي حبلٌ شُدّ الى أحد الأركان عليها


*235*

بعض خلقان قديمة. وأشياءُ أخرى لست أذكرها الآن. وشيء أخير لم أنسَه إِنهُ

أهمّ من كلّ ما رأيته ذلك هو شبح أمّي.

ولعلّ أقوى سبب لِما من دعائها أنّي تلفّتُّ فرأيت مكان أبي من الحجرة خالياً، وعرفت أنّ الليل قد تقدّم نحو الصباح من تصايحُ الدِيّكة على سطحنا وسطوح الجيران. وكان دُعاؤها ينقطع بين الحين والحين حتّى إذا ما استأنفَته بدا أنّه مخنوق بالدَّمعِ. ومِنديل رأسها متأخّر الى الوراء، حاسر متراجع، فهو على وشك السقوط لولا أن الضمائر ممسكة به. فبدت مكشوفة الرأس كأنّها جَزِعَةّ أو كأنّها موشكة على الصّراخ.

وفي دعائها عبارة تتردّد كثيراً كانت تطلب من الله الستر. قلت بيني وبين نفسي وكنت أحبّ أمّي تُرى ماذا أصابكِ أمّاه؟؟

ثُمَّ كفّت برهةً عن الهمس، ثم خرجَّت الى ساحة الدار كأنما لتفتَّش عن شيء فأتاحت لي فتحة الباب أن أسمع هواء الخريف الأرعن المتسابق وهو يعابِث أعواد الحطب على أعالي الجدران.

وعادت أمّي بعد ذلك واستأنفت ما كانت فيه، وعدتُ أنا الى التأمّل والاستغراق والتفكير في الموقف ومراقبة الظلال الداكنة على الجدار القديم وهي تتراقص يتَراقُص الذُّبالة، وأنظر الى رِجل أخي الخارجة من الغِطاء المخروق فأكتم ضُحكةَ تراودني رأيتها غير منسجمة مع كآبة الواقع.

وسمعت طرقةً على الباب الخارجي أيقنتُ معها أن الموقف في طريقه الى الوضوح وأن الغُمّة قاربت أن تنكشف. وخَرجت أمّي تتعثّر في أذيّالِها الطويلة لتفتح، وانفرج باب القاعة مرّة أخرى فتناهى الى سمعي أزير الحَطب ثمّ دخل الشبحان من باب القاعة. ثمّ أغلِقَ الباب. ثم ارتّجت الأرض من رمي شيء ثقيل كأنّه حمل. ثمّ سمعت أنفاس الرجل مضطربةً مبهورةً. و لم أستطع أن أتبيَّن كلّ ما حولي بتفاصيله


*236*

لأن المصباح أنطفأ عند دخول الزوجَين وانفتاح الباب فتحةً كاملةً سمحت لواء الليل أن يتفق نحوَ الداخل.

وكانت أمّي تفتّش عن علبة ثقاب فلم تَهتَد الى مكانها، فسمعتها تهمس لأبي قائلةً: لا داعي لهذا العَناء. ما عُدنا بحاجة الى الّنور هل سننظم عقداً؟ لا. ولا نحن سنفرز ذهباً من فضَّةٍ. ولم يردَّ عليها أبي بكلمةٍ لأنَّ أنفاسَه لم تعد سيرتها الأولى. وسعل مرّتين أو ثلاثاً قبل أن يطمئنَّ، ويخيّم علينا سكون كأنّه قطعة من الأبدي. وصاح ديك في الخارج ومدّ صّيحَتَه في تأنّقٍ وإصرار كأنّما يؤكد للناس أنّه رأى وجه النهار فسمعت عندئذٍ أبي يتنهّد ويقول:

الحمد لله. وصلنا في الوقت المناسب. قالت أمّي: وهل وجعَك ظهرك؟ فأجَاب: قليلاً بالنسبة لِثقل الغرارة. لم أكُن آمُل أن أعود بهذه السرعة لأنّ الروماتزم قسا عليَّ في الشهر الأخير. قالت أمّي: لم أفتر لحظةً واحدة منذ خروجك عن أن أطلب من الله الستر، وأحمد الله، فقد استجاب. قال أبي وهو يغالب الضَّحكَ: شيء جميل. هذا هو نفسي ما فعلته في الحقل وأنا أخلع (كيزان) الذرة من الأعواد لأضعها في الغرارة. كنت أطلب من الله الستر، أولاً. والعفو، ثانياً. غير أنّي كنت أخشَى شيئاً واحداً وأنا أطلب الستر، وذلك هو أن يكون صاحب الحقل قد طلب من الله الطلب نفسه وأن يكون الله قد استجاب فتقع الكارثة وأُضبَط متلَبَّساً بجريمة السرقة.

ثمّ شاع في جوّ الغرفة تنهُّد ومصمصة تدلّ على الأسَف والاضطرار.

واخذتِ الأمور بعد ذلك تتّضِح أمامَ بصيرَتي وأنا متسلقٍ على ظهري تحتَ الغِطاء القديم، فرجعتُ الى المسألة من أوّلها:

إنّ أبي عاجز منذ شهرين أن يحمل الفأس، لذلك فإنّ أحداً من الناس لا يَسْتَدْعيه ليعملَ في حقلِهِ بالأجر، الروماتزم المزمن مسيطر على ظهرِهِ. في موضع الحِزامِ تماماً، فأقعَدَهُ عن الكَسب. ولَما كانت البطون لا تعترف بعجز الأيدي عن


*237*

تحصيل القوت، فلا تكفّ عن الطلب، فإنّ الرجل لجأ أخرَ الأمر الى أن يسطوَ على حقل غيره في ظلمة الليل. ولم يستطع الروماتزم أن يُقعِدهُ عن حمل غرارة ثقيلة والسيرِ بها مسافة طويلة. قلتُ بيني وبين نفسي كان أبي يسرق. أجل كان يسرق. مع أنّ السرقة (عيب) بدليل أن شعبان والد زميلي مبارك سُجِنَ لأنّهُ سرق، وكُنّا أبنه به إذا ما شرس علينا أو تكبَّر أو أعتدى. ثمّ لَفّني النوم كما يلفّ بقيّة الأحياء.

وفي ضحى اليوم التالي رأيت أمّي تقشر الذرة بوجه باسر وأعصاب هائجة كانت كأنّها تجهِّز ميّتاً لا تجهّز طعاماً. وكنتُ أدنو منها وأنظر في عينيها فلا أرى فيهما إلا نقمةً وثورةً وتوقّعاً لمكروه. على أنّ ذلك كلّه لم يمنعنا عن الطحن والْخَبْزِ وأكل الحرام لأن البطون لا تعترف بعجز الأيدي كما قلت لك.

ولم أستيقظ في الليل مرّةً أخرى، ولكّنني رأيتُ في النهار ذُرةً تُقشَّرُ، فأيقَنتُ أنَّ أبي عاوَدَ السطوّ لأنّه لا يزال عاجزاً عن حمل الفأس ولم يَستَدْعِهِ أحد، فمِن أينَ تأتينا النقود؟؟ وأخي صغير وأنا لا أساعد أبي فإّنني في المدرسة ويتمنّى أبي أن أحفظ القرآن.

وتشاجرت مع مبارك بن شعبان ليلةً من الليالي فضربني لأنّه أقوى منّي ثمّ فرّ الى دارِهم حتّى لا يدركه الثأر، فدخلتُ على أبويّ صاخباً باكياً فلمّا سألاني ما خَطيي قلت لهما: إنْ ابن (الحرامي) ضربني وجَرَى. فأحسَستُ أنّ أبي يسْترضيني بالنيابة عنه كأنّما يريد أن ينهي الموضوع. لكنّ ثورتي كانت لا تزال حادةً مشبوهةً فقلت صارخاً: أليسَ أبوهُ لصّاً؟ ألم يسرق خروف علي المنواتي؟ له يوم!!

ولطمتني أمّي على خدّي فحملقتُ مستغرباً، لكّنني أفقتُ... وسُرعانَ ما ذكرت أنّ دارنا من زجاج وإن غابَ ذلك عّني. ثمّ ذكرتُ ليلة الأرق وما حدث فيها فأمسكتُ أنفاسي وكظمتُ غيظاً يخالطه خِزي حتّى سمعت أبي يقول وهو واضِعٌ كفّه على ظهرِه: لا تُعيَّر أحداً يا بُنيَّ. فرُبّما عَيَّرتَ معذوراً.


*238*

لكنّ الحوادث شاءت أن تلقي عليَّ درساً جديداً، فلقد التقيت أنا ومبارك بن شعبان في ملعب الصبيان بعد أسبوع كامل، فما وقعت عليّ عيناه حتى ابتدرني قائلاً: (أهلاً بابن أبو غرارة). وضحك الصبيان وفررت أنا أجري الى الدار.

أمّا مغزى ذلك فإنّ أبي ضُبِطَ متلَبَّساً بالسرقة، وكان منظره في تلك الليلة يثير الضحك والدموع. فلقد أبَى صاحب الحقل إلا أن يسوقَه الى المخفر وهو يحمل المسروق، فرأى الناس رجلاً متألماً خَزيانَ باكياً يمسك الغرارة بيد ويمسك موضع الألم من ظهره باليد الأخرى، ويتلقّى اللطمات والرَّكلات والشتمات بوجه صامت وقلب صابر.

وقد رأيتُهُ أَنَا وأمّي يستجوبونه. وكان الباشجاويش المحقّق يُكِبّ على المحضر برهةً ليكتب جواباً ثّم يرفع إليه وجهَهُ من جديد، فظّاً غليظاً يستوي فيه شاربان قويّان بَدَوا كأنَّهُما قطعة من وَجْهِهِ. وكان أبي يُجيب مرتجفّ الأوصال. ولست أنسى قولَه يومَئِذٍ للمحقّق: (أعمل إيه. كّنا جائعين)، ثمّ نظر خلفَه حيث كنت أنا وأمّي على مقربه منه وخُيِّلَ إليّ أن معداتنا نحن الثلاثة همَّت بأن تنطقَ شاهدةً بالصدق. وكنت أسأل نفسي بينَ لحظة وأخرى: ألم يشعر هذا الباشجاويش بالجوع مرَةً في عمره. لكن (وهو ماله؟؟).

ثمّ لقي أبي النهاية المحتومة التي يلقاها كل خارج على القوانين الموضوعة. لكنَّ إقامَتَنا في القرية أصبحت عسيرةً لأنّنا أحسسنا أنّا فقدنا شيئاً تتعذّر الحياة بدونه. ذلك هو الشَّرَف.

وأقدمتْ أمّي على عمل حاسم، فإنّها رحلت بنا الى الإسكندريّة حيث بعض أقاربها هناك. ونجح مسعاها، فاشتغلت خادما في أحد المستشفيات وودّعنا القرية في غياب أبي، حتّى إذا ما قضى مدّة الحبس لحق بنا في الإسكندريّة. وألفَيناه متعَباً مكدوداً، وبقي فترة من الزمن ثمّ زاوَلَ في المدينة عملا لا يحتاج الى تعلُّم. عملاً قريباً من حفر الأرض أو حمل الفأس وإن كان وظيفة (مدير) يدير معصرة قصب في


*239*

أحد الدكاكين ويلبس (مريلة) على (الجلباب)، ويرفعه عن الأرض قبقاب عالٍ، ويستعمل المكنسة بين أنٍ وانٍ، وينقل الأعواد قيل العصر وبعد العصر الى داخل الدكّان، ويحمل قَدَحاً من الشاي أو الحلبة المغلاة الى صاحب المحلّ من المقهى المجاور.

وجعَلَ أبوايَ بعد هذه الحادثة يلقّنانِنا أنّ الجوع خير من السرقة، وأن الشَّرَفَ أغلى من الذهبَ، وأنَّ الوقفةَ أمامَ (الحكّام) تهدّ الكِيان، وأنَّ (الشريف) يخرج من كل مكان إلا من السجن، ولو دخله وهو شريف.

وتعرَّضت حياتنا بعد ذلك لأزَمات عولِجت بالصّبر أو بالاقتراض أو بالفرار من الأزمة بتأجيل حلّها حتى تعرضت أنا لنفس التجربة فأخذت أستعيد كل ما قصصته عليك.

حتّى قطع عليَّ أفكاري انفجار أعقبته طلقات مدافع ثمَّ تأهَّبَتِ الإسكندريّة بعدها لتُقاسي ليلةً من ليالي الهول.

وكان أبي طريحَ الفِراش والأسرة في حاجة الى أشياء كثيرة. وكنتُ وحدي في المحل التجاريّ الذي أعمل فيه بعد أن تركني صاحبه أوّل الليلة لِثِقتِه، ولحاجة عرضت له، وكلّ شيء أمامي، حتّى المال.

ولَشَدَّ ما تغيَّرت بعد ذلك فكرتي عن الموضوع. أنزلتُ نصف الباب، ووقَفت فُي بقيّة الفتحة أرعى الأمانة وقد خُيِلَ إليَّ أن لصوصاً عديدين سيهاجمون المحلّ وأن من حقّ صاحِبِهِ عليَّ أن أدفع عنه أيدي الواغلين.

واستولت عليَّ الفكرة فعجبت لنفسي إذ رأيت فيها شابّاً يحرس المالّ من غيره ثمَّ لا يدفع عنه عدوان يده، فخجلتُ. وغابت عنّي كلّ الصور إلا صورة واحدة. صورة رجل يمك غرارة بيد ويمسك موضع الألم من ظهره باليد الأخرى وهو


*240*

مَسوق الى مخفر الشرطة. ثمّ صورة أسرة هاجَرت من القرية لأنّها قد فقدت شيئاً تعذّرت عليهم الحياة بدونه، فتنهّدت.

وكانت الفرقعة قد كفّت منذ مدّة وأطلِقَت صفّارة الأمان، فأضيئت الأنوار.

ودخلت الى المحلّ، وجعلتُ اتلفّتُ في كلّ صوب لأطمَئِنَّ على ما في. ومضت برهة رأيت فيها المال واقفاً على العتبة وهو يسأل مخلصاً آمناً: هل كلّ شيء على ما يُرام يا صديقي؟

فأجَبتُ باعتِزاز الشرفا

أجَل. أجَل. كلّ شيء على ما يرام.

محمد عبد الحليم عبد الله من مجموعة: (النافذة الغربيّة)

مكتبة مصر – القاهرة 1970

الثأر

يوسف الشاروني


*240*

في الصبح أدرك أن ناقته في حالة هياج، عودّها أن تشترك معه في تدخين سجائره، لابد وأن الأمر بدأ مجرد صدفة غير مقصودة، ربما وقف ذات يوم يدخن إحدى سجائره بجوارها، تصاعدت رائحة لفائف الدخان، عبق الجو بها، تسللت الى خياشيم شرارة، لم ينتبه حمدان إلى مشاركة ناقته له في دخان سجائره إلا حين رآها تقترب متهادية منه كلما أشعل سيجارة، تقف بجواره في هدوء وهي التي تغلب عليها الشراسة تمد رَقبتها نحوه، تكاد تلتصق في استماع بوجهه المعفر برائحة دخانه، إذا ابتعد عنها خطوات اقتربت منه خطوات.


*241*

منذ شهر شعر باختناق في صدره، بعدها بأيام، تحت إلحاح ابنه الأكبر "هديب" الذي يتعلم في المدرسة، اصطحبه إلى طبيب الوحدة الصحية، اعطاه عددا من الأدوية وكثيرا من النصائح اشدها قَسْوَةٌ أن يمتنع عن التدخين. لم يمتنع عن التدخين.

منذ يومين اشتد الألم، عاتبه ابنه، جرؤ أن يخفى عنه سجائره، انتابه كما انتاب "شرارة" الضيق. ظهر زبدها، قل رغاؤها وطعامها، تطالب بما حُرم وحُرمت منه. أجبرها أن تبرك، ركبها أملا في أنه يركض بها فتنهد قواها وينفثىء غضبها، حاولت إسقاطه من فوقها لولا مهارتُه في الإمساك بخُطَّافها، مجنونة هي. قفز مخاطراً. في ثورة غضبه وعصبيته لاعتدال مزاجه. ضربها في عنف بعصاه ضربتين على رقبتها. لمح بريق الغضب في عينها. حاول أن يصالحها: أسرع يقدم لها تمراً، عسلا، لبنا. كل هذا لم يكن ليرضيَها. عليه إذن أن يتخذ الحيطة من غدرها، خبير بطبائع الجمال. لا سيما مع "شرارة" أطلق عليها هذا الاسم لشراستها على غير عادة النوق، طباعها أقرب الى طباع الفحول.

في الليل لم ينم في خيمته، كّوم مكان وقادة خُرْجا كان مُلْقىً في ركن الخيمة ومنسولة "أو غطاءه"، وبعض زرابيله جوارِبِهِ المصنوعة من صوف الغنم، لحماية قدميه من وقدة الرمل وعقاربه وثعابينه، حتى بدا كأنما هو ممدد فوق فراشه، قرر أن يبيت في خيام أبناء عمومته. في صباح اليوم التالي قصد إلى خَيْمَتِهِ متسلحا ببندقيته، وجد "شرارة" - كما توقع قد بركت بكل ثقلها على خيمته، سوتها بما حولها من رمال. برقبتها المشرئبة، وعينيها المدهوشتين لمحته مقبلا في عنفوان حيويته. تأهب لأية مفاجأة، أشرع مزلاج بندقيته. ما لبث أن أرخاها. رقبتها تسترخي عيناها تنطفئان، جيدها يفترش الخيمة، الخيمة تفترش الرمال، تزداد التصاقاً بها.

في حذر اقترب أكثر وأكثر اقترب. لا حراك، أصبحت جثة، ما تزال دافئة.

يوسف الشاروني

مجلة ابداع، كانون أول 1991 مصر


*242*

عام سعيد للسيدة إبراهيم أصلان


*242*

كان الهواء يهب بارداً من النافذة المفتوحة على أرضيَّةِ الحوش الكبير الخالي، وكان العم جرجس يراقب سَخّان الشاي الكهربائيَّ في الجانب الآخر من حجرة التوزيع، أما العم بيومي الذي كان يقضي معنا ليلته الأخيرة قبل أن يذهب غدا الى المعاش، فقد كان يهز رأسه صامتًا، كلما تناهت إلينا أصوات المحتفلين هناك بالعام الجديد. وحين بدأ العم جريس يصب الشاي، وصلتنا أسطوانه جديدة بها مجموعة أخرى من البرقيات.

اشعل العم بيومي سيجارته الّتوسكا نيللى السوداء، وبدأ يفض البرقيات وهو يعتمد بمرفقيه على الطاولة الخشبية بسطحها القائم المصقول، يفحصها، ويضعها واحدة تِلْوَ الأخرى في الخانة الخاصة بوردية الصباح، ثم استبقى واحدة بين يديه وهو يلوك طرف السيجارة بين شفتيه الممتلئتين، ويقول بصوته الخفيض اللاهث:

"فكرنى يا جرجس، أسلمك الدرج، قبل ما أمشي".

اقترب العم جرجس وهو يجفف يديه بمنديله:

تمتم العم بيومي وهو يدقق في البرقيه المفرودة:

"ميرا بودوفتش"

"ميرا؟"

"بودوفتش"

وصمت قليلاً:

"فاكرها يا جرجس؟"

"مش واخد بالي".

"الست الحلوة بتاعة شارع زكي"


*243*

"طيب ما هو شارع زكي كله ستات حلوين"

"يا أخي مْرات الخواجة بودوفتش"

"يا أخي مْرات الخواجة بودوفتش"

"في كام زكي؟"

"ثلاثة"

"عرفته. دي ألست بتاعة تاني دور"

"أول دور. ساكنين فوق المكتبة بتاعتهم"

"شارع زكي كله مافيهوش مكتبات"

"إزاي الكلام ده؟"

وبدأ يقلب الشاي في الأكواب.

رفع العم بيومي وجهة الحليق، وتطلع إليَّ بعينيه المجهدتين لم أكن واثقاً. وقال العم جرجس.

"وبعدين دي ست كبيرة"

كبيرة إزاي؟"

"عجوزة يعني. ومش متجوزة"

"جوزها مات. أنا كلمتك عنه"

قال العم جرجس:

"يمكن".

والتفت إليَّ باسمًا، ووضع الملعقة الصغيرة على حافة الطاولة، وجلس.

كانت الأعمال قليلة بسبب أعياد الميلاد. خرجنا مرة واحدة أول الليل، وزعنا فيها برقية لإحدى وكالات الأنباء الأجنبية، وعدنا، وكاد الليل أن ينتصف ونحن نشرب الشاي، وراح العم بيومي يُعيدُ قراءة البرقية بصوته الخفيف المسموع: "ميرا بودوفتش. ثْرِي زكي ستريت كايرو. هابي نيوبيير" والتفت إليَّ وأخبرني أن ميرا بودوفتش سيدة يوغوسلافيةٍ جميلةِ جداً، وأن زوجها الخواجة بودوفتش كان رجلاً


*244*

رائعاً وابتسَمَ، وكان من عادته أن يدفع عن كل برقية يتسلمها نصف فرنك من الفضة. ظل يفعل ذلك حتى مات، وقال: "أنا عارفهم. عارفهم كويس".

وقال العم جرجس:

"الكلام ده إمتى ياريس؟"

"زمان يا جرجس. زمان"

"أيام الفضة يعني؟"

"أيوه يا سيدي. ايام الفضة.

وطوى البرقية داخلَ المظروف الصغير بإيصاله الخارجي الملصق، ومدّ العم جرجس يده كي يتناولَها. ولكنَّ العم بيومي وضعها في جيبه، وقال:

"خليك أنت يا جرجس"

"حتوزع ياريّس؟"

"وماله".

ونزع الورقة الأخيرة من نتيجة الحائط.

وسمعت صرير خشب الأرضية تحت ثقل قامته الكبيرة الهرمة.

وأغلقت الكتاب، ورافقته إلى الخارج.

كان يسير في خطوات بطيئة متناقلة، وسألني:

"الدنيا برد؟"

قلت:

"شوية".

ومضت فترة:

"الإشارة معاك؟"

أخبرته أنه وضعها في جيب سترته، تحسس جيبه من الخارج، وعاج يخبرني أن عبْد الناصر كان يحبس الخواجه بودوفتش كلما جاء تينو إلى مصر، ولا يتركه إلا عندما


*245*

تنتهي الزيارة، وأنَّ ميرا كانت تحضر لهم الطعام سجاير: "في الأول سجاير عادية، وبعدين سجاير عاديَّة وسجاير وسجاير توسكانيللي أَفتكِر هو ده البيت".

ووقف حائرًا أمام المبنى القديم العالي.

كان الطابق الأرضي كله، ما عدا المدخل، مغطى بلافتة تعلن عن بيع لوازم السيارات.

ودخلنا

صعدنا الدراجات العريضة حتى وقفنا بين مدخلين في الطابق الأول، ومضت فترة قبل أن يخرج البرقية والفلم ويتجه إلى أَحَدِهِمِا، ويضغط على الزر الدقيق الفاتح.

وسمعنا صوت الكناري، وفتح الباب.

كانت سيدة طويلة بيضاء، لها شعر رمادي ملموم.

"جود إيفننع مدام"

تناولتهما وهي تنقل عينيها بيتنا.

"تلجرام مدام هابي نيويير

"أوه تلجرام"

وتوقفت عيناها عند وجهة لفترة، وتراجعت.

رأيتُ الجِدار المقابلَ مُغطى بأرفف الكتب الداكنة المصفوفة، ولوحة زيتية تمثل وجهها مضيئاً لسيدة شاب وجميلة وجميلة، وفي الركن البعيد مِنضَدةُ عليها جرامافون من الخشب الأبنوسي اللامع، يعلوه بوق كبير.

وعادت بالمظروف وقد طوته الإيصال والقلم، وانحنى العم بيومي بقامته الكبيرة:

"هابي نيويير مدام"

واعتدل:


*246*

"أنا بيومي"

ابتسمت السيدة ابتسامة خفيفة وقالت:

"سنة سعيدة بيومي"

"سنة سعيدة مدام"

ونزلنا.

كنت أتبعه وهو يستند بيده الخالية على السياج وقول:

"أول دور مش تاني دور"

وتوقف أعلى الدرجات الأخيرة المواجهة للمدخل المفتوح. كاد يعيد الإيصال إلى النحيل الصافي في صمت الليل، بينما هي تقع من درجة إلى أخرى وقد التقطت شيئًا من نور الطريق، وانحنيتُ، ورأيتها على السطح الرخامي المائل إلى الزرقة، تجري، وترف قليلاً، وتستقر.

إبراهيم أصلان

مجلة إبداع’ تشرين أول 1988، القاهرة


*247*

البنت الصغيرة التي كانت تجمع السمك الصغير إبراهيم عبد المجيد


*247*

الجو صاف بديع، والشمس تسكب فوق الكون خيوطاً من الفضة، والأسماك المعروضة في الصناديق المرفوعة على الحوامل الخشبية تبرق قشورها بالبياض الفضي الذي ينطق بالطزاجة، وفي الخلف الفلائكُ المركونة فوق الرمال والشَّباكُ المعلقَةُ على الأسلاكِ تُضفي على المكانِ حيويةً دافقةً ويبدوا المشهدُ كلُّه آسراً يجذبَ المصطافين، هامساً أنّ هنا توجد أعظم أسماك الدنيا.

محمود يعرف ذلك جيداً، ويبيع اليوم كثيراً، والسيارات تقف متواترة وتمضي حاملة ما تشاء، والنقود تزدحم في الصندوق الصغير المكشوف أمامه، ولا يفكر محمود أن يَحصيَها إلا آخرَ النهار حتى لا يقطع على نفسه رزقاً، لكنه اليومَ شاردٌ بذهنه للحظات، وعلى غير إرادة، من البسمة العجيبة للبنت الصغيرة التي كانت تأتي مع الأطفال في الصباح الباكر والشمسُ بعدُ لم تترك خط الأفق، والنسمة تنعش الأبدان، لتجمع مع الأطفال الأسماك الصغيرة التي يُهملها الصيادون في الصناديق أو جوانب الفلائكِ أو يلقون بها مع الأعشاب. هذه "البساريا" التي يأكلها الفقراء.

لم يكن محمود صغيراً، ولا كان كبيراً، كان في الخامسةَ عَشْرةَ لكنه يعرف أن الدنيا لا تكتمل للرجل إلا بامرأة. كان يتابعها وهي تقفز فوق الصناديق الفارغة بمهارة، حافيةً في يدها صفيحة صغيرةٌ، منحنية تمد أصابعها الشمعية تلتفظ الأسماك مثل قطعة مدربة، وفي قفزاتها وانحناءاتها يرتفع جلبابها القصيرُ الْهَشُّ قليلاً عن ركبتها من الخلف فيلمح أول فخذيها وامضين بجنو دافئ، ويتخيلها تكبر قليلا فيزداد امتلاء الساقين، ويزداد انبهاره فتسري رعشة فيه ويتقدم نحوها يفكر في شيء يقوله أو يفعله. أن ينهرها مثلاً دون البنات والأولاد، أو يعطيها سمكاً حقيقياً. لكنه ما أن


*248*

يقترب حتى ترفع إليه عينيها العسليتين وتبتسمُ تلك البسمة العجيبة المشرقَة البهيَّة فيتراجع ويعود يتابعها وهي تقفز ويتطلع إلى شعرها الأسود الغزير المنسكب بِفَوْضى على ظهرها الذي يكاد يشف عن تقسيمِهِ الجلبابُ الخفيفُ.

لقد فكر محمود وبجد أنه بعد خمس سنوات سيكون في العشرين، وستكون هي في نحو الثانية أو الثالثة عشرة ويستطيع أن يخطبها، لكنَّ البنت أختفت مع الشتاء، ولم تظهر في الصيف التالي، ولم تظهر لخمس سنوات بعد ذلك. ونَسِيَها محمود ولم يذكرها بعد خروجه ولا يومَ زواجه ولا يوم أنجب ولدا سيحضر إليه بالطعام بعد قليل؛ وفجأة تذكرها اليومَ فأخذ نفساً عميقاً ونفثه بارتياح وابتسم واستقبل شابًا في مثل عمره تقريباً نزل من سيارة بيجو فباع له أسماكاً كثيرة حملها بنفسه إلى السِّيّارة وما كاد يلتفت ليعود حتى صوب إليه طفل من النافذة الخلفية للسيارة مسدسًا يقذف بالماء فابتسم له محمود وعاد إلى أسماكه وتجمد واقفاً ثم التفت ليجد السَّيَّارة قد تجاوزت المكان. كانت المرأة الشابة التي تجلس بالمقعد الأمامي ناحيته قد ابتسمت ابتسامة عجيبة رأها معلقة لم تزلفي الفضاء أمامه، بل اتسعت اتساع الفضاء كرائحة منعشة، وأحس ببرودة لذيذة لها مذاق منعش كرائحة يوم وكانت السيارة تسرع في الاخفاء فالطريق جديد ممهد، وينحني أكثر من مرة مرة، وكانت هناك عمارات كثيرة جديدة حول الطريق قامت محل البيوت القديمة التي تهدمت. رأى محمود زحام العمارات وتاقت نفسه للأبنية القديمة ولعن رطوبة البحر التي أسقطت كل تلك البيوت التي تاقت نفسه إليها.

إبراهيم عبد المجيد (مجلة أبداع - القاهرة، نيسان1989)


*249*

غربة فنان


*249*

ضوء أحمر، بُخور هنديّ وموسيقى كلاسيكية. جوهّ لا يتغيّر. أغلق بابه وركَل بصرامة الجنديّ الأشوريّ عاداتِ وتقاليدَهم، وتلاشى في ضوئه وبخُّوره وموسيقاه. كثيرة هي العلامات الفارقة في سجلِّه، فإن لقيه الصغار صاحوا هذا هو. وإن رآه الكبار نظروا إليه وتهامسوا فيما بينهم. إنّهم يعرفون غرابة اطواره وفلسفته في الحياة، وإلا لماذا يعيش وحيداً بين ضوء وبخور هنديّ وموسيقى كلاسيكيّة؟

كان يضحك من نفسِهِ ومن الناس إن جمعته الصدفة وجالس بعضَهم في بيوت أصدقائه الثلاثة.

ألم يتخاصم مرّة مع سَيَدٍ في بيت صديقه الأديب وقد اعترته نوبة من الضحك عندما كان يتكلم. وصديقُهُ الناقدُ كم توسَّل إليه أن يُخفّف من ثورته على رجل (كريه) على حدّ تعبيره، جلس قِبالَتَه على الطاولة في إحدى السهرات.

الأطفال أحبّ شيء الى نفسه. فكم شاركهم لَعِبَهُم ولهوَهم وتوسّد أسِرّتهم ذات الحواجز، وشاهد معهم ثياب العيد في بيت صديقه الشاعر. هُمْ دُنياه. كان إذا شاهدهم في الطريق اندسّ بينهم ولاطَفهُم واشترى لهم الألعاب والحلوى. (هؤلاء الصغار يزّينون الحياة، إنّهم خامةٌ بيضاءُ لم يلوّنْها زيفُ الناس بعدُ. عيونهم بريئة لا تتغيّر مع كل رفّة جفن.)

ما قصد مرّة إلى المدينة، وكان يعيش في إحدى الضواحي، إلا وتخاصم مع سَوَّاقي السرفيس أو تُجّار الحوانيت التي يشتري منها قوتَه، فيرجع إلى صَوْمَعَتِه والقرفُ يشيع في نفسه. "أناس كريهون، لا يمكن البقاء بينهم" ويتقوقع فوق ألوانه يصبّ فيها النقمة ويشوّه بها الوجوه. كان لا يفقه رجولته، فترك بيته الوالديّ


*250*

وتشرّد ولّما يزل في الثالثة عشرة من عمره. لم يستطع يوماً أن يحبّ أمّه لنصحها الدائم له ولسعيها كي تقرّبه من إصطلاحات البشر. "هؤلاء البشرَ يدأبون نهاراً وليلاً لجمع القروش، فالحياة عندهم سَواء في الشِّتاء والصيف والخريف والربيع. يسبحون في البحر، يعومون على سطحِهِ، يبتردون في مائه، دون أن يغوصوا مرّة واحدة في أعماقه. يديرون أسطوانات الموسيقى فيرقصون ويهزجون دون مبالاة لتفهّم التجربة التي عاناها الفّنان، يشمّون الأزهار ثمّ يدوسونها كأنها لم تزيّن مرّة صدورهم أو تعطّر بيوتَهم. مساكين. حياتهم فارغة، رأسهم فارغ، جيوبهم ملأى وعيونهم جائعة.

يسكنون القصور مُحاطين بالخدم ومشيِّعين بالحُرّاس، يمتطون أفخم السيّارات. يَؤمّون فنادق الدرجة الأولى؛ يعيشون للبذخ والتَرف والملذّات. وفي الليالي الحالكة عندها تطبق أجفانهم الإغفاءة الطويلة لا يبقى منهم دليل على وجودهم، أعصابه تتمرّغ بالنقمة ويحسّ الالتهاب بصدره، فتجمد يده على القماشة وتتراقص أمام عينيه ألف صورة، تارةً حمراء وتارةً صفراء. آه هم يلاحقونني إلى البيت. هؤلاء البشرُ الكريهون، أنا لست منكم. إني أبصق عليكم".

ويأخذ سكّيناً للرسم أمامه يطعن بها الصور المتلاحقةَ بضراوة وَيُغمص عينيه بكلتا يديه. إنّ منظر الدّم يرعبه، نفسه لا تتحمّل رؤية القتلى. ويترك إلى حيث يرتفع صوت الموسيقى في الغرفة الثانية فيزيد ارتفاع الصوت. وَكَشَبَحٍ لولبيّ صاعد من حريق كبير أخذ يرقص ويتعالَى، ورفع يديه قافزاً في الهواء هابطاً إلى الأرض حتى خارت قُواه وتَيَّبست حُنْجَرَتَهُ فانبطح على الأرض وأخذ يزحف إلى الباب يفتحه ليرى من يتجرأ على إزعاجه وهو في غمرة من النّشوة. طوابير الصوّر التي مزّقها اصطفّت جميعها على سفرة الدرج. "مجنون. لا تُقيم للناس وزناً ولا تحسب للتقاليد حساباً". الحيّ كلّه استجار زاحفاً إليه. الأرامل الثلاث اللواتي يسكنّ في الطابق الأسفل خرجنَ يشتُمنَه ويدمغنه بالنعوت القاسية. أرادوا جرّه إلى السّجن.


*251*

ولكن. "لا فالسجن ليس بأرهب من صومعته". لم ينبِس بحرف. شفتاه مخدّرتان ملتصقتان، وقلبه ينبِضُ بشِدّة. وأغلق بابه وغرق في نشيجه ودموعه. لقد اخترقت، طعناته أحبَّ لوحاته الى نفسه. وأفاق وفي جَوّه الذي لا يتغيّر أبدًا ضوء أحمر - بخور هندي وموسيقى كلاسيكيّة.

وكالبركان الذي قذف بكلّ حِممه، بل كالمدينة المهدّمة بعد غارة مدمِّرة، استفاق في الصباح. كان هدوء أكثر من العادة. لقد تلاشت من نفسه كراهية البشّر. إنّه يتمتّع بصفاء غريب. "إنّي سعيد اليوم... أشعر براحة عجيبة ..."

خرج الى الشّرفة وكان الفجر لا يزال متسربلا بغِلالة رماديّة شفّافة، "ما أجمل الطبيعة والهواء منعش بارد. الأغصان تهزج فتحدث خشيشًا لطيفًا. وأسراب العصافير راحت تترك مضاجعها لتعتلي منابرها على رؤوس الأشجار وتبدأ بالزقزقة. هو ذا بائع الحليب يقود شرذمة من قطيعه متجوّلا بين البيوت ليوزّع الحليب الطازَج. وذلك الرجل الذي أحضر فَرشًا من الكعك الأسمر الساخن وقفَ في ساحة القرية يبيع للصغار الدوائر المعطّرة بالزعتر، ليتَني أملك هذا الفرش فأوزّع الكعك على هؤلاء الأطفال بلا ثمن. يكفيني أن أرى بريقَ عيونهم والفرحةَ المتسلّلةَ الى قلوبهم. آه... ليتني تزوّجت لكُنتُ اليومَ أبًا لعدّة أطفال. هؤلاء الباعةُ التّجارّ ما أكرَهَهم. لم يفكروا مرّة أن يمنحوا هدّية لطفل. كم من مرّة خدعوه فقبضوا منه الثمن مُضاعفًا، أو حرموه من الكعك الساخن لأن دراهمه لا تكفي فأعادوها إليه وحملوا بِضاعتَهم وانطلقوا".

ساحة القرية امتلأت بالناس كلُّ حيث يعمل. ووصل العمّال الذين يشتغلون في بناء ناطحة سحاب بالقرب من بيته، تجمّعوا وكلّ منهم يتأبّط صُرَّةً بيضاء..." كانت تحوي أكثر من طعام - أكثر من زاد. إنها سرّ الأيادي الناعمة والقلوب المحِبّة ترافقهم الى عملهم وتخفّف عَناءَهم كما تُسعد جوّهم عندما يعودون الى بيوتهم. أنا. أنا الوحيد الشريد الذي لم أَنْعَمْ بجَوّ العائلة، لم تمسح جبهتي يد ناعمة. لم


*252*

أتحسّس يوما دِفءَ العطفة وعذوبتَها المترقرقة. تَبًا له من شخص كريه والد خطيبتي. أين أنتِ الآن يا فتاتي - يا أوّل حب في قلبي... أبوك التاجر لا يعرف سوى عدّ الدنانير، ديناره تركيّ لا يتبدّل، أبوك لم يفهمني؛ لم يعرّف خفايا شخصي - أرادني كالناس تاجرًا متلاعبًا أربح الألوف وأُضَيِّعُ نفسي - أبني بيتي على أنقاض إنسانيّتي وأطليه برماد عبقريّتي... لم يرضَ بزواجي منكِ لقد أخافوه منّي. اِتّهمني بالضِّياع والجنون عندما عرف بالضوء الأحمر والبخور الهندي والموسيقى الكلاسيكية"

"وأنتِ يا ابْنَةَ قريتي الوادعة التي يموجُ في عينيكِ صفاؤُها، هلا نسيتِ حُبَّنا ولقاءاتِنا فأذعنْتِ لَمشيئةِ أبيكِ. عيّروك بالخاتَمِ الذي قدّمتُهُ لكِ أنّهُ لم يكن من اللؤلؤ الحقيقي فآمنتِ بهم وكفرتِ بحُبّي. لم تأبَهي بالعقيق المُهرَق على الخامات فنبَذْتِني وتنكَرتِ لي. وذلك الدفتر كيف نستِهِ وحروفُهُ تلهث بنبضات قلبكِ وقلبي.

كفرتُ بالمرأة، كفرتُ بالحبّ والقيم. لقد تساوَت شرور الإنسانّية في نفسي. كلّ شيء فاسد كريه. أنا لستُ من الناس في شيء سأمحو اسمي من دفتر السّجِلات وأمزِّق هُوِيَّتي وأضرِب في بِقاع الأرض على ظهر إحدى البواخر، نَكِرَة أطوف الصحاري والأدغال وأهيُمٍ وحيدًا شريدًا لا أنتمي الى إخوة ولا يَحزن لفراقي أهل. أنا نفسي لا أفهم نفسي. لا أدرك مدى هذا القلق والتّزعزُع، لماذا أستفيق في الصباح سعيدًا مزهُوًّا وأتوسَّدُ فِراشي والحقدُ يشيع في نفسي والكراهية تطفو على فمي. وَحدَتي هي سبب شقائي. زواجي مستحيل. ما من أحد يسهل عليه أن يحيا معي حتى الفتاة التي أحببت. إن جوّي مشحون بالتوتّر والقلق ونفسي يخنقها الضجر. منذ زمن لم أرّ أهلي - خطيبتي قبَعَت في بيتها وتجاهَلَت حتى اسمي - أصدقائي القليلون بدأوا يتخلّون عنّي.".

وأحسّ بالتّخاذُل أمام هذا الضّياع. لقد هدمت قواه هذه الخيبة فأثخَنَت نَفْسَهُ بأعمق الجراح. نسي وجوده فتناثر كنُتَف من الغيم وراء أفق رماديّ توشّحه خطوط


*253*

حمراء. واستفاق هذه المرّة من غيبوبته بنُواحِ خافت. تلهب نفسَه بالندم ويهدهدها بالحنان والشفقة. أحسّ بالسَّعَادةِ تتغلغل في أعماقِه بعد تلاشيه وذوبانه. وانبثقت فيه طاقات جديدة أعادت إليه الرغبة بالحياة وغمرته بالتفاؤل. الشمس تسطع والعصافير تزقزق، والهدوء يخيّم؛ حول بيتِه. كم هو سعيد بهذه الوَحدة. ومسحَ عن خدّيه دموع الغبطة وانحنى فوق قُماشته يؤنسه الضوء الأحمر والبخور الهندي والموسيقى الكلاسيكية.

أديل الخشن الأديب - بيروت، عدد 8، 1969 ص (16-17)

الله أعطى والله أخذ


*253*

محمد نفاع

- أتركي الولد، يكفي تهلهلا. من قال لك أنه بحاجة الى النوم، وأنت مثل الربابة

المنحوسة. الولد خايف من صوتك، أنا أَدرى منكِ وأشفق منك، أنت أمه وانا جدته وما أغلى من الولد إلا ولد الولد.

وحملقت وديه في حماتها وأنهت الغناء بِحَرَج وطل الطفل يصرخ وهي تثرثر

بصمت، ولكن الحماة قالت متهمة:

- أي نعم يحق لك زغرودة، تحكي على نسوان قبل؟ لا يا شيخ!!

- آنا ما تكلمت يا حماتي!

- يعني أنا كذابة؟ وما لهن نسوان زمان، عريسك ما هو عاجبك كتفه عرض لوح الدراس ومش مكفيك يا ستار!!


*254*

وحمرق وجه ودية خجلا، ومع هذا فقد استمرت حماتها في الهجوم:

- قال نسوان زمان. قبل ما ولدته بيوم حملت على رأسي ثلاث جرار مي من "عين النوم" وبعد عشرة أيام رحنا نحصد، لا حكيمات ولا دكتورات; ثديي محزق دائما وحلمته طويلة وحضرتك قرطوم أسم الله وبلا حليب، حيصي. حيصي مثل الزيتون المليصي بلا زيت!

- طيب كفاية. الله يرضى عليك يا عمتي - ولكن العجوز تابعت أكثر:

- ولدك مثل القشقوشة عظم بلا لحم لأن نسوان اليوم تقرف من أكل الثوم والمغلي.

- معك حق يا حماتي طيب والولد إيش دواه؟

نظرت العجوز بارتياح واعتزاز وصار كلامها ألطف بعد الانتصار.

- الوصفات يا بنيّتي كلها مضبوطة وفيها الشِّفاء، والرقو من كلام الله، عندي للولد وصفة تخليه يصير زي الدغص.

واستسلمت ودية كليا.. كانت تخاف على مصير ولدها النحيف.

- الدكتور يا بنيتي ما عنده عمر جديد والشافي الله وإن تعود الولد من صغره على الدواء والحبوب والمرهم يبقى كل حياته يتعلوس، أتركيه على الطبيعة وأعشابها، "اللهبون" و "شرش الجناح" وَعُرْفِ الدِّيك أهم من كل الأدوية وما ظهر من أعشاب الأرض.

كان النهار خريفا عابسا وورقُ الشجر والغبار يتطايران، والغيوم المرتفعة العكرة تغطي صفحة السماء، والعصافير تطير بكسل وضيق تعيقها الرياح فتعلو وتهبط بجهد، والماعز تقضم ورق السنديان الشائك بلا شهية، ففي يوم كهذا حيث تحس بجفاف في بشرتك وتكثر النزلة الصدرية، و لم يبق من الفواكه إلا توالي التين الشتوي الجاف المشقق، والناس يقضون معظم الوقت بعد العمل في البيوت....؛ حملت الجدة فاطمة الولد الهزيل بينما صارت ودية وراءها بتثاقل.


*255*

- ودية اسمعي!! تذكري اسم سبع "فاطمات" على اسم سيدتنا فاطمة رضي ا لله عنها.

وبهتت ودية لهذا الطلب وفغرت فاها ولكنها بدأت تحصي كل فاطمات البلد.

- الولد لازم له رقوة من سبع فاطمات قالت الحماة بلهجة متزمتة لا مجال للمساومة فيها.

- من سب فاطمات يا حماتي قالت ودية شاهقة.

- طبقي على الباقي يا جاحده كلام الخير ما ينشبع منه. أيوه سبعة!

- على بركة الله يا حماتي.

- أيوه هذا الأصول كل يوم رقوة من واحدة.

كانت أول فاطمة عجوز لها ذقن مكورة محشوَة الى أمام نبتت عليها شعيرات بيض طوال وَفَمٌ خلا من الأسنان وقد تقوس ظهرها فاستعانت بعكاز من الزعرور تظهر فيه العقد، أخذت الولد من جدته وقبلته قبلة لها صوت مقرف كالبصق ولفظت اسم الله وهذا كل ما فهم ثم بدأت تهمهم بكلام غير مفهوم تتثائب وعيناها تدمعان وذقنها تندلع الى أمام وودية تنظر إليها باستغراب الى أن قالت الجدة:

- أخفضي نظرك على ذكر إسم الله يا قاسية القلب. فخفضت ودية نظرها وتنهدت.

مضت سبعة أيام وقالت آخر فاطمة ما عندها من كلام الخير وانهال الزبيب والتين المجفف و "راحة الحلقوم" على الحماة وكنتها وعلى الفاطمات السبع بوزن الولد كما أوصت أخر فاطمة.

- الولد حاله أحسن من الأول. كيف قلت يا ودية؟؟

قالت العجوز وهي تقضم قطعة من التين وتمضغها يتلمظ.

ولكن ودية لم تميز هذه الحال فلم تجب مليحا ولا قبيحًا.

اِحكي يا جاحدة!!


*256*

- أيوه صحيح حاله تحسنت قليلا.

- قليل!! ويعني فكرك لازم يخط شاربه بين يوم وليله أو يركب على قضيب القصب؟؟

مرت عدة أيام، وأُتِيَ على آخر قطعة من الحلويات فقالت الجدة:

- الولد يا غُلبي ضعيف وما بقي غير وصفة واحدة، تعالي معي على قبر الولي.

- كفى أ الله الشر على قبر الولي ليه. قالت ودية بأسى.

- لا يا شيخ خلي عنك ... أي نعم على قبر الولي، وليه عينك زاغت مثل عين البدوق، بياضها أكثر من سوادها.

كان الشيخ عابد جد الطفل يجلس كالصنم يسمع الحديث، دون تعليق وظهر أن شاربه المعنتر وشملته البيضاء العريضة أهم ما فيه ولكن على ذكر الله وأوليائه خشع وسعل لِيُذَكِّرَ بوجوده، ولم يتكلم ولم يقبل زوجته هذا الموقف الحايد منه فخاطبته بلهجة شرسة:

- إقنعها للست ودية أن تقبل كلام الخير، صار كلام أ الله بحاجة لواسطة أف.

أيام سودا العوذ بالله من آخر الوقت!!

- كلام الخير على المرتد وعرقال بعْدَ تفكير وهو ينظر الى زوجته مستعطفًا ومطالبًا الاعتراف بمقدرته على هذا القول البليغ.

- ميعاد ابنكم يرجع من غيبته، إتفقوا أنتم وإياه، قالت ودية.

- يعني ترفضي كلام عمك وكلامي يعني لا سمح الله نحن نريد ضرر الطفل؟؟

الحرمة بتاعة آخر وصفة نصحتنا وفي نفسها الخير.

كان قبر الولي خارج البيوت وهو عبارة عن مغارة صغير؛ صُفّتْ فوقها بعض الحجارة وتحيط بالمكان بعضُ أشجار الخروب الْهَرِمَةِ ونبات الفيجن الفَوَّاح.

وفي ظلام المغرب بَدَا المكانُ موحشا ومنفصلا عن العالم، فالطريق الجبلي الجانبي الذي يصل إليه طويلٌ متعرِّجٌ. وأشْعَلَتِ الجدة قطعة قماش مقلمة مُبْتَلَّةٍ بزيتِ الزيتون


*257*

وملفوفةٍ على عَصًا قصيرةٍ وفتحتِ؛ البابَ الخشبيَّ المصفح بالتنك. كانت أرض المغارة

ترابيةٌ رَطْبَةً، ومن تحت أشجار الخروب أحضرت العجوز بعض الورق اليابس والتراب، بينما الجد يحرس المكان ويسعل يتصنع ليبعد الوحشة بعض الشيء عن زوجته وأهل بيته، وبدأت الجدة تهيل التراب والعفن على الطفل حتى وصل عنقه، وودية ترتجف من الخوف ولم يمنعها من الكلام سوى رهبةِ هذا المكان وإصرارِ حماتها وخوفِها على مصير طفلها المريض. كل ذلك جعلها تكتم صوتها وخوفها.

- على بركة الله وبركة هذا المولى قالت العجوز مُنهية العمل.

- فلنبتعد الآن عن الطفل حتى نفسح المكان لروح هذا القديس أن تقوم بعملها.

قال الجد بصوت واثق.

وخرج الثلاثة وأغلقوا الباب ودخلو حُجْرَةً مجاورة بُنِيَتْ خصيصًا لمثل هذه المناسبات. ظل صراخ للطفل يُسمع بعض الوقت ثم خمد الصوت.

- الرقوة بدأت تفعل مفعولها، قال الجد متثائبا. ولكن الجدة أومأت له بالصمت وأن يقرأ في سره بجا يعرف رغم قلة ما يعرفه.

- وأنت يا ولية افتحي باب الخير فبين الله ودعاء الأم لا يوجد حجاب. قال الرجل مشيرا الى انتهاء. الكلام.

وعبثا حاولت ودية أن تغمض عينيها فظلت ساهرة تُنْصِتُ الى أي صوت في الخارج، كان الصمت مُطبقا، ولم تكدْ تغمضُ عينيها قبيل الفجر وتوشكُ أن تروحَ في إغفاءةِ قصيرة حتى أيقظها صوت حماتها التي بدأت تقص ما رأت في المنام وكيف أن نخلة صغيرة يانعة نبتت في التراب والعفن حيث وَضِعَ الطفلُ وكيف أنها رأت جذور النخلة تمتد في التراب.... وتحلل بصوت ناعس أن الطفل يكون له نَسلٌ كثير يملأ الدار والدوار وبيت الجار....

ورفع الشيخ رأسه من تحت الغطاء ونظر الى زوجته بِتَوَدُّدٍ ككلب الماعز الذي يترنم على صوت ناي الراعي الطيب الشفوق بعد وجبة الطعام.


*258*

كانت ودية تستعجل الخروج لترى حال الطفل ولكن الحماة هَدَّاَتْهَا ومشت أمامَها ببطء وترقّب وهي تقول شيئًا، وصر باب القبر بهدوء.

كان الطفل مُفتح العينين مدلى الرأس الى أمام جافا يابسا مصفرا... وبكت ودية بحرقة ولامت نفسها على هذا التهاون.

- الله أعطى والله أخذ!! قال الجد واعظا مُشَتّتَ الذهن، وعجبت الحماة كيف خيب الوالي ظنها به ولكنها لم تستسلم.

- نياله على هالموته، في قبر الوالي الولد ... في نفسه الخير... الله يميتنا على طريقه، هنئي نفسك يا ودية!!

- سبع فاطمات يقتلن الزير سالم وأبو زيد الهلالي!!

قال الأب بعد أيام...

محمد نفاع، الأصلية عكا مجموعة قصص - ( ص، 74-78)


*259*

أخي رفيق سعيد حورانيّة


*259*

كنت في العاشرة من عمري، حينما جاءتني أمّي بثوب جديد رماديّ فيه بُقع سوداء. ولم يعجبني الثوب لأن جيبَهُ كانت صغيرة لا تتّسع لبذر المشمش الذي ألعب فيه مع رفاقي ب "الحرام والحلال" و "الزوج والفرد" - وكنتُ واقفًا أمام الدرج أبكي بحرقة حينما جاء أخي رفيق يُواسيني، وكانَ شابّاً في الخامسة عَشْرةَ تعجبني أناقَتهُ وبريقُ شعرِهِ. وكنتُ أقف ساعات أمام المِرآة أحاول أن أقلّدَهُ... قالَ لي بصوت حنون:

- هل تُريدُ أن تذهب معي يا سعيد؟

- فقلت بعناد:

- لا.

- طَيّب، اِذْهب والبس حذاءكَ فإنّي سأذهب وأبن عمك عدنان وصيّاح الى البرّيّة.

ثمّ التفت حوله بحذر:

- لا تقل لأخيك خيري؛ فإننا نريد أن نسبح. وأحسستُ أصابعه تغرق في شعري وتشدُّهُ

برِفق.

- سأحملك على يدي اليمنى وأسبح بك... هل أنت شجاع؟ اِرْفَعْ رأسك دائما وأنا أحملك وسترى كم السباحةُ هيّنة.

وأسرعت ألبس الصندل العتيق الذي تقطّعت أوصاله؛ فإن رجلي - كما تقول أمي تَهري الحديد. وفجأةً سمعت صوت أمي:

- أينَ أنتَ ذاهب؟

- مع أخي رفيق.


*260*

- لا. لن تذهب، إن أم تحسين الشيخة ستجيء اليوم. وهي تريد أن تراك.

- لا أريد أن أراها، إني أكرهها.

فقطّبت أمي جبينها وقالت بغضب: اخرس. إنها عملت لك حجابًا لِتَقيَك من نزيف الدم الذي يُلحُّ عليك. إنها مبروكة، فبصقتُ بشدّة، فصفعتني أمّي وهي تتعوَّذ بالله من هذا الجيل الذي هو أفجَع على حدّ تعبيرها. وعند ذاك قعَدتُ على الأرض الوسخة بثوبي الجديد وأنا أبكي وأفحص البلاط بقدمي.

ونظر إليَّ أخي نظرةَ عطفٍ وهو يحمل بيده المؤونة، ثم قال بهمس؛

- أسكت. سأحمل لك معي كثيرًا من القَرْعون. ثم خرج وأمّي تراقبني حتّى لا ألحقه. وجاءت أم تحسين الشيخة، وكانت كامدةً صفراءَ تبدو كالشيطان.

فربّتت على كتفي بِرِفق، وشعرتُ بالاشمئزاز عندما مرّت على خدّي بيهدها الخشنة التي تشبه لِيْفَ الحمَّام، ثم رفعتني الى حِجرها وهي تُتمتِم ببضع كلمات غامضة، فاستولت عليَّ الرهبة. أخذت أتابع حركة يدها وهي تمرُّ بها على أعضاء جسدي وأنا أرتجف. وانتهَت "التكبيسة" بسلام فهبطتُ وأنا أتنهّد، ثم أخْرَجَتْ من صدرها خِرقةٌ صغيرةً مكوَّمة وقد رُبط على جانبيها خيطٌ أبيض ثخين، فَعَلَّقَتْهُ على صدري وهي تُدمدم وتقول لأمّي:

- مبروك الحجاب يا أم رفيق.

- الله يبارك فيكِ يا أمَّ تحسين القهوة يا بنت.

فنظرت أم تحسين الى الحجاب بطرف عينها ثم قالت بصوت مبحوح:

- والله كلّفني كثيرا هذا الحجاب، لقد أتْعَبَني كثيرا الْمَلَكُ الأحمر حتّى استطعتُ

تخليصه منه.

- كل ما تريدينه حاضر يا أم تحسين. ولو. كم أم تحسين عندنا


*261*

وفي الليلة التالية عدوتُ نحو الباب ثم غِبتُ في زِحام السوق.

واجتمعت برفاق لي في الطريق وأخذنا طريقنا الى البَّريّة الى بستانٍ يُدعى (البحصة) وتسلَّقنا "الدُّكَّ" ثم قفزنا واحداً مجتازين النهر الصغير الذي ينساب وراء "الدُّكَّ" وانزلقت رجلي وأنا أقفز فَسَقَطْتُ فيه وتلطّخ ثوبي الجديد بالوحل، وتصوّرتُ الضرب المبِّرح الذي سيستقبلني به أبي، ولكن نظرات رفاقي الخبيثة جعلَتني أرفع رأسي بكبرياء.

وامتلأت جيوبنا بالقَرَعون، عندها سمعت صوتاً هائلاً يصيح بنا فركضنا مذعورين وتركتُ الصندل على الأرض، ثمّ تسلّقتُ "الدُّكَّ" بسرعة فعلق طرف ثوبي بحَجَر ناتىءٍ فتمزّقَ، ولكنني لم أبالِ به بل ركضتُ نحو البيتِ وأنا أتلفّت، وعندما لم أجد أحداً تنفّستُ بارتياحٍ ونظرت الى ثوبي ورِجليَّ الحافيتين فَدَقَّ قلبي بِعُنف. وفجأة سمعت صوتاً لصديق لي:

- سعيد. سعيد

- نعم.

- لقد ماتَ أخوكَ. رفيق فاندفعت بغضب:

- إخرس بدون عَلْك. أما مزحة باردة. منذ ساعة كان معي.

- والله مات. اِختَنَقَ في بركة العرقسوس. ألا تصدّق؟

- من قالَ لك؟

- كل الدنيا عرفت. اِمتلأت البركة بأمّة الله وقد أخرجَتْهُ الإطفائيّة.

تركتُهُ وسرتُ بسرعة وكانت نظراتُ الناس لي قد أيّدت الخير، وشعرتُ بشيء غامض مجهول يقبض على قلبي مات أخي. ما معنى مات. وكانَ الناس جميعهم ينظرون إليَّ بعطف ورثاء مِمّا أثارَ مِمّا فيَّ الارتباك المَشوُب بالزهو؛ وكنتُ أهمّ إذا ما رأيتُ رجلا يَحْفِلُ بي. أمسكه من تلابيبه وأقول له:

- أخي مات اختنق. في بركة العرقسوس. والله مات أخرجته الإطفائية.


*262*

وعندما اقتربتُ من البيت سمعت العويل، فدقّ قلبي واصفرّ وجهي ورَجَفَت رُكبتاي، ورأيت جمعاً كبيراً من الأطفال فدفعتهم عنّي بعنف متكبِرّ، ثم دخلتُ المناحة.

كانتُ الدارُ غاصّة بالنساء، ورأيت أمّي منفوشة الشعر وأنفها يلمع في وجهها الملئ وهي تلطم وجهها وتُعوِل، بينما كانت أختي الكبرى تمسك منديلها الأبيض الصغير وتمسح به دموعها وصرخاتٌ غربية تتردّدُ لم أفهم منها سوَى أنّها صرخات لوعة صادقة.

- يا ضيعة شبابك يا حبيبي.

- بَلْ لَيتَني متُّ قبلك يا ابني.

- لِتَنطفِئ عيوني ولا أراكَ هكذا.

وحيثما أَلْتَفِتُ لا أرى حولي سوى وجوهٍ حُمرٍ دامعة وأكفّ تلطِم الخدود فوقفت كأنني غريب، وحِرتُ فيما أفعل. وفي اللحظة التالية لَمَحَتني أمّي ممزّق المَلابس، غارقا في الوحل، حافيَ الاقدامِ، فأحسستُ بالذُّعر. ولكنّها لمّا اقتربت مني اشتدّ بُكاؤُها وهزّتني بِعنف ثم ضمّتني وهي تقول والدُّموعُ تقطّع أهاتها:

- لقد ماتَ أخوكَ يا حبيبي، مات وذهب إلى الأبد.

وازدادت ضمّتها عنفا وشراسةً، فرأيتُ الدموع تنساب مي عينيَّ بهدوء وشعرتُ بدوار لذيذ، وتمنيتُ أن أبقى على صدرها هكذا الى الأبد.

وشعرَتْ أمّي ببكائي فقالت بحنان:

- لا تبكِ يا ولدي. لا تبكِ يا حبيبي. ثمّ تركتني ودخلَتْ الى الصالون الكبير. وغرقت في الجو حَوْلي فبكيتُ طويلا دون أن أُحِسَّ بشيءٍ من الحزن. بكيتُ لأن أمي تبكي ولأن الجوّ حولي كلّه صراخ وبكاء وعويل، وكنتُ أذهبُ الى باب البيت الكبير فأرى الأولاد مجتمعين فيرمقونني بنظرةِ عطف وإكبار وتَهُّيب، وهم


*263*

يرون عيوني المحمرّة ودموعي المنسابة ولكني لا أعبأ لهم بل أقطّب جبيني ثم أَصْفُقُ الباب في وجوههم.

وانتابني عطش شديد فذهبت الى "الفَيْجَةِ" فرأيتُ منظراً عجيباً؛ رأيت إحدى قريباتي قد أمسكت بفنجان فيه ماء وأخذت تصبّ قطرات في عينيها حتّى تظهرَ وكأنّها تبكي حقّاً. ولما رأتني نظرت إليَّ بذعر ثم هربَت، فنظرتُ حولي بحذرٍ ثم

وسألتُ عن أمي فقالوا في الصالون.

وفي الصالون كانت تَستْلُبِني رائحة نفّاذة، ورأيتُ في الصدر كومة بيضاء على السرير وقد انتفخ وَسطُها. ونظرت الى أبي الصامت وأمّمي الباكية وإخوتي المطرقين ثم اقتربتُ بهدوء فرفعتُ اللحاف الناصع عن رأس الكومة فبدا لي وجههُ أخي المرعب... كانت عيناه مُغْلَقَتَيْنِ ووجهه أصفرُ وقد تلبّدَ شعره الجميل ولكنه كان لا يزال يبرق، وبرزت العروق من وراء بشرته الرقيقة، وفوق حاجبه الأيسر ضربةٌ قد تجمّد الدم فوقها، فأرجعتُ الغطاء وجلستُ وأنا مطرق.

قال أخي عادل:

- لو أنه نزل الى البركة من الناحية الثانية. لم يَنْتَقِ إلا أعمق الأمكنة.

فقال أبي بصوت متهدّج وهو يرفع يديه كمن يستسلم للقَدَر:

- مَنِيّتُهُ يا ابني. منيّته. لا تقل من هذه الناحية أو تلك الناحية. عِزرائيل قادة ولعب بعقله حتّى أوقعه. لقد كان ينتظره.

وتابع أخي عادل:

- لقد أصيبَ بالصخرة فارتبك، وكان قاع البركة مليئاً بالوحل فعلقت رِجله ولم يستطع التخلّص. لقد شدَّه أحد الفلاحين من شعره بدون جدوى.

فقال أخي خيري وهو يلثغ ويفرك يديه:


*264*

- عندما أخرجه الإطفائيُّ قلب رأسه للأرض. وأُقسم بالله، خرج من بطنه ماءً قَدْرَ قِربة.

قال أبي مرة ثانية بصوت متهدّج:

- حُكْم الله ولا رادّ لقضائه (قُل لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا، هو مولانا وعلى الله فَلْيَتَوكْل المؤمنون).

فقالت أمّي مندفعةً:

- الله لا يأخذ إلا الطيبين الممتازين.

فقال أبي غاضباً:

يا أم توفيق استغفِري ربَّكِ، اللهمَّ لا اعتراضَ على حُكمك.

فتابعت أمّي كأنها لم تسمع:

- "نَهْلَكُ بالولد "ونتعب به ونضع له دم قلوبنا ونفرِش له ريف عيوننا فإذا كبر وصار. قصف الله عمره. هذا ظلم. هذا.

فقال أبي كمن يتضَعضَع:

- صلّي بالنبي يا أم توفيق. هذا حال الدنيا. إن الله مع الصابرين.

قالت أمي وهي تُعول وتنظر ناحية الفراش:

- يا ليتني أموت الآن وألحقك واتخلص من الدنيا الملعونة هذه.

قال أخي الكبير:

- الآن هو في الجنّة وروحه ترفرف علينا. أليس كذلك يا أبي؟

- بلى. بلى. هنيئا له على هذه الميتة يوم الجمعة ومات والتذكير يملأ الفضاء وبمثل هذه السّنّ هو الآن عصفور بالجنّة. اللهَّم احشرنا في زُمرة المؤمنين.

ووقع نظري على برميل (البريل كريم) وفكّرت حالا أنه بقي لي الآن، لا ينازعني فيه منازع، وكذلك كل أدوات الزينة التي كانت لأخي أصبحت لي الآن، وبذلته الفخمة سأصغّرها وأفصّلها جميعاً لي. وشعرت بِشيءٍ من الارتياح. لقد


*265*

أدانني البارحة ليرة كاملة استأجرت بها دراجة وذهبت بها بكداش، فأكلت كأسا من البوظة، وقد ذهبت هذه الليرة ولن يأخذها مني بعد الآن. وفكرت في المدرسة؛ لا شك أنني لن أذهب إليها إلا بعد اسبوع؛ وسأتخلَّصُ مؤقتًا من الشيخ طالب وفَلَقتِه وعَبْدُه أفندي ومسطرتِه، وسأقضي هذه العطلة في البّريَّة؛ فأذهب كل يوم لأنهبَ القَرَعون. ولن تنتبه إليَّ أمّي وهي مشغولة الآن بموت أخي.

وقطع عليّ تصوراتي صوت أمي وهي تسأل:

- هل نَزَعْتَ منه الخاتْم والساعة يا عادل؟

- نعم يا أمي.

- وبذلته التي كان يلبسها أين وضعتها؟

- في غرفته.

- سأضع كل أمتعته في خزانةٍ خاصة لأشم ريحَته كل يوم.

قالت ذلك وهي تضرب كفًّا بكفِّ وتنهد.

فقال أبي كمن يهرب من حلم:

- توفيق.

- نعم يا أبي.

- هل أُعِدّت مُعَدّات الجنازة؟

- كل شيء جاهز.

- إذن فَلْنَقُم.

فتعالى صوتُ أمّي بالبكاء، وشاركها إخوتي. ولكن أبي زجرهم بِرفق، ودموعه تخذُل جَلَدَهُ المُتَكَلِّف. فخرج من الغرفة هارباً وصوت البكاء يملأ فضاء البيت كعويل الشياطين في أرض شاسعة خالية.

كان المساء قائماً مزعجاً، والتعب قد هدّ كياني، فانْسَلَتُ من "الصَّيْحَة" لأنام، كانت غرفتي ثانيةَ غرفتين، الأولى لأخي رفيق، والثانية لي ولأخي الكبير،


*266*

وشعرت بالخوف وأنا أمرّ أمام غرفته. وكان كلّ شيء بالغرفة مُجَلّلاً بالسَّواد، وكان نتوء يرعبني فيَخيَّل لي أنّهُ إنسان. لا شكَّ أنني سأصرخ وسألقي نفسي من النافذة. وتذكرتُ قصصا كثيرة. أموات يقومون. وتذكرتُ سَحْنَتَهُ والجرح في حاجبَيْه فكاد يصيبني الدّوار فهربت الى غرفتي واسترعى نظري فوراً البذلة البُنيَّة التي كان يلبسها أخي رفيق اليوم. لقد وضعها أخي عادل هنا حتّى تضمها أمي الى الخِزانة.

لاحظت الانتفاخ في جيبيها الأيمن فمددتُ يدي في تهيُّب فغرقَت في القَرَعون. إذن لقد تذكَّرني أخي قبل أن يموت، وها هو القَرَعون الذي وعدني به، وشعرت لأوّل مرة بحزن مبهَم. ورفعت رأسي وأنا أتصوره وقد كبر حتّى ملأ الغرفة. هل مات حقّاً؟ هل ذهب الى الأبد؟ ما هو الموت. هل هو عصفور في الجنّة الآن كما قال أخي الكبير؟

في مثل هذا الوقت من كل مساء كان يأتي الى غرفتي فيدخّن سيجارة وهو يتحدّث مع أخي عادل في السياسة والأدب والسينما والممثلات، وأنا أجلس مبهوراً أنظر إليه وإلى شعره اللامع وقَسَماته النبيلة وأعبده بصمت. وكان ينظر إِليَّ فأحسّ بعينيهِ الجميلتينِ تُغرقان وجهي في دغدغة ناعمة كشعر حسناء. وكان يسألني عن دروسي ويساعدني في حلّ مسائل الحساب وإعراب بيت القواعد الذي يعيده علينا استاذُنا في كل مناسبة:

أنا الذي نظر الأعمى الى أدَبِي وأسمعَت كلِماتي مَن به صَمَمُ

ونظرت الى الباب علّي أرى وجهه الجميل وقامتَه المهيبة وبشَرته الرقيقة التي تَظْهَرُ عروقٌه من ورائها. وشعرتُ بهوّة تُحفَرُ بين رِجلَيَّ، وبدوارٍ غامض يُهوي على رأسي بمطارق قويّة ولكنها ناعمة. لقد مات حقّاً. أخي العزيز الحبيب ولن أراه الى الأبد. لن يساعدني في حل مسائل الحساب. وسأنظر دائما الى أخي عادل


*267*

وسينظر اليّ وسنُطرِق معا وننظر الى مكانه ويدُ عادل ترتجف بسيجارته، ونصمت، ثم ينتهي كل شيء. لأول مرة شَعَرْتُ فجأةً بحزن شديدٍ، ففهمت بكاءَ أمّي وإخوتي. ولأول مرّة أيضاً طمرتُ رأسي باللحاف وأخذت أبكي بصدقٍ وعنفٍ حتّى انطفأت النجوم.

سعيد حورانيه

من مجموعته القصصية: (وفي الناس المسرّة)

قاطع الطريق مارون عبّود


*267*

عاد أبو خطّار الى بيته أشعثَ اغبَرَ، فعلّق بندقيّتِه (بالسكيكة) ووضعَ الطَبَنْجَةِ في (الطاقة) الى جانبها، وجعل ما في عُبّه وجيوبه وطيّات زنّاره، على رفٍّ مصنوع من الحواري، ثم تربّعَ مقعده عن يمين الموقدة. وجاءت امرأته برسيطا بالإبريق والطّشت فشرع يغسل رأسه ويحكي.

كان يتوقّف عن العمل ليطرح عليها الأسئلة. وكثيرا ما يفعل ذلك والصابونُ يرغي على وجهه. فإذا لذعَ عينيه أطبقهما وفتحهما وحكى. وطال حديثه، فصبت برسيطا الماء بلا وعي، فانتفض وسبّ الدين. وسُرعان ما أدرك أنه ارتكب خطيئة مُميتة، فطفِق يستغفر ربّه، وينشّف وجهه ويحكي. كان يتمشط ويسأل ولا ينتظر جواباً، حتى إذا جاء دور قتل الشاربين وإقعادهما على طِراز ذياب بن غانم كان صمت عميق.

وبعد دقائقَ معدودةٍ التفتِ الأُسرةُ حول طاولتها المستديرة (الطّبليّة) حيث يأمرون بقتل الطعام، على فخذ كلِّ منهم رغيف كالمُلاءة المُدَنّرة. شوكاتهم أيديهم،


*268*

وملاعقُهم من خبزهم. كان بوخطّار لا يأذن بالكلام على الطعام، فمن يُسأل يجيب، وإلا فلينشغل بصحنه لتلقى الأيدي في وقت واحد حول قَطعة التين أول الدّبس، مشاع الأسرة.

وبعد حمدهِ تعالى ما أعطى من الخبز، ينثر بو خطّار عليهم نُصحه وإرشاده. يصلح أخطاء النهار للزوجة اولاً، وللعَجايا ثانياً. وأخيراً يعود الى أركان حربه، إلى ولديه خطّار وشلهوب، فيرسم لهما خُطط المهنة، مندّداً بما ارتكبا من هفوات في بحر النهار؛ فيقول لخطّار: "جِئتَهُ من خلف وكان يجب أن تجيئه من قدّام. قلت له اشلح وانتظرت وكان الأوفق أن تبغته، تضربه، أو تصيح به على الأقل صيحة تهتزّ لها اللعين، مؤكد أن المال كان معه. لا بأس، راحت، خيرها بغيرها. إنتبه ثاني مرّة. اليوم ما توفّقنا يا أم خطّار، "السيدة غضبانة علينا..."

فابتسمت أم خطّار ابتسامة مقهورة، ثم مرّ أبو خطّار بشؤون أخرى مرّ الكرام، وتأوّه وقال: اِركعوا حتى نصلّي.

وانتصب كأنه عمودٌ ذهبَ ثلثه. ورأى أن ركوع أحد بنيه غير وافٍ بالمطلوب، فزجره، وقامت الصلاة، الأب وولي عهده جوقةٌ، والأم ولفيف الأسرة جوقةٌ ثانية. وبعد طلبة السيدة زاد أبو خطّار على (الفرض) يضع مرات الأبانا والسلام، صلاها بحرارة، راجيا من العذراء التوفيق في الغد.

وزحف توّاً الى فرشه فاستلقى على قفاه، ثم قال وهو يلتحف:

- حضِّري الزوّادة يا برسيطا. لا تنسيَ أنها لنهار الجمعة، اسلقي البطاطا.

وبعد هنيهة رفع رَأسَهُ عن المخدّة وقال لها:

- الشروال مخزوق، دبّريه. والكُبران مفتوق.

ثم همهم:

- إن وقعت عليه عيني لأخطَفَنَّ روحه.


*269*

وبعد أن قبع تحت لحافه عاد فكتشف عن صلعته المجعّدة وقال لابنه: سنَّ السكاكين ونظف القرابينة، حِّمص البارود لئلا يصيبنا ما أصابنا اليوم.

فأشارت أم خطّار بيدها تستفهم، فاستمهلها ابنها حتّى غفا أبوه، فقال لها:

- وقعنا اليوم على اثنين: واحد قشّطناه، والثاني هرب. الثاني شَبْ أخو أخته.

ثم أخرج خاتما فضيا مكتوبا عليه (يزول)، فامتعضت برسيطا إذ رأته وقالت:

- هذا هدية لمحبوبته، حرام عليكم.

فأوما خطّار نحو أبيه وقال:

- قولي له، لا تقولي لي أنا. إن قلت له مرّة حرام، يجنّ جنونه ويقول: ولد نذل، دائما تقول: هذا كذا، وهذاك كذا، قشّطهم والعن جدّ جدّهم.

وبعد قليل هدأ البيت إلا من شخرات بوخطّار الطالعة النازلة. وكان يتكلم بلا وعي؛ فيتهدّد هذا، ويأمر ذاك بالتسليم، ثم يصيح بولده: نبِّشْهُ يا خطّار.

وأفاق كعادته عند الفجر الكاذب فصلَّب مرّات، ثم قعد يصلّي للعذراء، في فراشه وتطول النجوى أحياناً فيتعذر بو خطّار إليها عن تقصيره نحوها، ثم ينذر لها ربع ما توفّق الى سلبه، كأن يقدّم لكنيستها ثُريّا وشمعدانًا أو بخوراً، أو شمعا، وإن كان التوفيق عظيما يعِدها بحرس من شُغل بيت نفّاع.

وبعد صلاة تقريباً يكونون في طريقهم الي مربضهم، ووراءهم ابنه الصغير حاملاً جراب الزاد.

أمّا بو خطّار فلا يترك تسبيحَتَه، يظل يصلّي، وإن حسب أنّه سها أو غلط بحّبة أعادها. يريد حساب الصلاة مقوَّماً، خاليا من السهو او الغلط، وإلا فكيف يوفّقه مقسّم الأرزاق؟.

- اليوم ما توفّقنا يا أمّ خطّار، السّيدة عضبانة علينا...

كان يفكر بمن يسوقهم إليه القدر، فدقٌ جرس القدّاس، فصلّب يده على وجهه، واعتذر لربّه عن تركه القدّاس ووعَده أن يشترك فيه بالعقل والروح.


*270*

وبلغ مكمنه من الشمس، فدقٌ جرس (التبشير)، فحسَرَ طربوشَه المغربيّ عن بعض الشيء، وركع على البلاطة (يبشرٌ) هو وولداه. ثم ربضوا كلٌّ في مكانه ينتظرون الرزق الحلال الزلال... وقلب بو خطّار يدلٌ على أنّ العذراء راضية عنه، وستوقّفه.

سمع قادماً يغنّي فأشار الى ولديه فاستعدّا. ظلّ مطمئناً حتى رأى رجلاً في يده مسبحه يصلّي فارتعش وفشل. تعجّب من نفسه كيف يخاف من رجل يصلّي. ولكنه أظهر الجَلَدَ وحيّا باحترام عظِيم. فقطّب بو خطّار حاجبَيه كالرفراف وحدجه بعين حمراء ناتئة الجذور.

مشى الرجل وعينه على أنفٍ مثل مطفأةِ الشمع. فأومأ بو خطّار بالمسبحة أن قِفْ. ولكنه تغافل ومشى. فصاح به بو خطّار:

- قِف، لا تُجَنِّنِي. أتركني أكمل صلاتي.

فأدرك الرجل أنه وقع بين يدي بو خطّار، فقال في قلبه: مؤكَّد هذا هو.

- هات ما معك.

- ما معي شيء، يا بو خطّار.

ما معك شيء يا بو خطَار، هذا حكي. ثم قال لك أني بو خطّار؟

- شكلك يا عمي.

- معي عشر مَجيديّات تديّنتها حتى أشتري طحينا للأولاد.

- الله يجبرك، هاتها.

- بحياة العَضْرَا عِفّ عني.

فهزّ بو خطّار رأسه وأشار بيده أن هات.

وبعد أخذ وردٌ، وتوسّل وبكاء، قاسمه بو خطّار المال إكراما للعذراء مريم.

وانصرف الرجل يدمدم، راضيا بنصف المصيبة.


*271*

أما بو خطّار فصلّب بالمجيديات، ثم زجّها في عبّه وهو يقول مسترزقاً: اِستفتاح مبارك من ابن حلال...

وحدّق إلى السماء يناجي حبيبته العذراء مريم وقال: لعيون عيونك ما ظلمناه، عوّضي علينا.

وسمع حسّ ناس يسوقون دوابّ، وهم في حديث صاخب عن الأسعار، عن إقبال المواسم، وعن... وعن... فهمس: جاءت الرزقة جمهور فهيّأ خطار بارودته، وأخذ شلهوب يعرض الطبَر ويسدّده كأن الضحيّة أمامه كانوا ثلاثة يسوقون دوابّهم فصرخ بو خطّار صرخة كبّرها النهر وضخّمها:

- شباب!.. إشلحوا تربحوا

وكان بين الثلاثة شاب معتدّ بنفسه، فأجاب بفظاظة وسبّ أمهمّ. فأطلق عليه خطّار ببندقيتّه تهويلا، فأجاب هو بالمثل. أما القول الفصل فكان لطبنجة بو خطّار، فخرّ الفتى صريعاً، وسلّم رفيقاه، فسلبوهم كلّ ما معهم حتى الثياب والزّاد.

وقعد بو خطّار يحسب ما أصاب في ذلك النهار السعيد، فكان ثلاثا وخمسين ذهباً، وبضعة عشر ريالا، وكيسا (ضبوة كبيرة) من البشالك والزَّهراويات والمتاليك والنحاسات، فتأفّف بو خطّار شاكيا ثِقلَهَا.

ونظر الى الأسباب فإذا هي طَبَر نحاسيّ منقّش، وخنجر، وساطور، وبارودة (مجهرية)، فقبّل الأرض شاكراً ربّه على النعمة وصاح بولديه: بوسوا الأرض يا ناكرين الجميل. ثم صاح ضاحكاً: مال وعدّة، هذا توفيق.

وأخذ يداعب العذراء، وعينه على الغيمة:

- كثّر الله خيرك يا ستّي، الله يطوّل عمرك. اليوم فرجْتِ بو خطّار، لكِ منّي جرس يرنّ له الحادي في الوادي. ياولاد، هاتوا الزوّادة، افتحوا جراب الجماعة.


*272*

وتربعوا ثلاثتهم على بلاطة في نصف النهر، وأكلوا بقالية غريبة بعد تلك المعركة الموفّقة. فأخذ الصغير شقفة من قالب جبن كان في جراب المسلوبين فضربه بو خطّار كفّاً على وجهه وقال:

- اِعتبر يا وحش، تَتَزَفَّر يوم الجمعة؟ لولا قلّة دينهم ما وقعوا بين أيدينا.

مارون عبود

من: المجموعة الكاملة، (المجلد السابع)


*273*

قيمة الإنسان ما يحسنه محمد آل ناصر الدين


*273*

ليست قيمة الإنسان بمن يجتمعون حوله، من ذوي المصالح الخاصَّة والدَّخائل العَفِنة وروّاد النفعيّة - في مناسَبات يُهيِّئها هو أو هُم - مزمّرين، يُزْجُون إليه من آيات المديح وعبارات الشكران كلَّ ما يساعد على تنميقه بَيَانُهم وتجود به قرائحهم، وتستطيع أن تفيضَ به ألسنتُهم؛ رامين من وراء ذلك الى إدراكِ بُغيّةٍ أو بُلوع هَدَفٍ.

بل القيمةُ والتسَامي والاعتزازُ بما يُسديه المرءُ من الإحسانِ ويأتيهِ من جلائلِ الأعمال رغبةً في نفعِ الناسِ دونَ مَنٍّ ولا تَعييرٍ ولا مُباهاة. والعاقل الواسع التفكير يَشعر بألم نفسيّ مُمِضٍّ، وَوَخْزِ ضَميرً مُوجِعٍ إذا سمع الناسَ يُطرونَهُ بما ليس فيه، ويخلعون عليه من محاسن الصفات وسامي الخِلالِ ما ليسَ يتميَّزُ بواحدةٍ منها.

ذلكَ لأنهُ يدركُ قَرارَه نفسِهِ أنَّ المُثْنِين عليه لِغايَةٍ في النفوس، الرافعينَ له الأولويةَ على غير استحقاق، إمّا أن يكونوا طامعين في منفعةٍ أو طامحين الى تحقيق غرض وتنفيذ مأرب اللهمَّ إلا إذا كان من الغرور وعَمَى البصيرة بما يجعله يجهل حقيقة نفسِهِ، ويُنكِرُ ما يبدو فيه من معايبَ وَيظْهَرُ من قَبائحِ الأعمال.

وليست حال المحسن المخلص الراغب في منفعة الناس وإصلاح شؤونهم كذلك إذا ما سمع المغرضين السيَّئي النّيَة والمنتفعين يذمّونه ويقيمون عليه النكيرَ، لا لِذَنْبِ اجَتَرَحهُ أو إسَاءةٍ ارتكبها، بل لتفجير حقدٍ دفينٍ ونَفْثِ سخيمة وابتغاءَ نفْعٍ لا


*274*

يرجون أن يتحّق بسوى هذه الطريقة الشاذّة. بلَى، إنَّهُ لَيَشْعُرُ بألمٍ نفسيٍّ عميق، ولكنَّ ذلك لأنه يرى البشريّة تُبْتَلَى بمثل هذا النوعِ من الناس الذي يُعَدُّ جُرْثومةً في جسم المجتمع سوف تسُمُّهُ وتودي به. وقد تدفعه إنسانيُهُ الى التمثّل بالسَّيِّدِ المسيحِ الذي رَثَى لِمُضطَهِدِيِهِ فقالَ: رَبّي اِغفِرْ لهؤلاء القوم. ويكفي المحسنَ أنّهُ يشعر بَتَبْكِيتِ الضمير، ولا يخشى في اليوم الآخر عِقاباً، بل يكونُ مطمئِنً النفسِ مغتبطَ المُهجَةِ، فهو في هذه الفانية ليس ممَّن يَقُضُّ مضاجِعَهم تأنيبُ الضمير، وهو في الآخرة من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

أما أولئكَ الذين يطربهم المديح الكاذب، وينتفشون لدى سقوطه في آذانهم كما ينتفش ديك الحبشِ، فهم نوع من الناس ابْتُلِيَ بِداءِ الكِبَرِ والاحتِيال على ضَعفِ حِجاً وضيقِ تفكير؛ يكفيه أن يسمع بأذنيه عبارات الإطراء والتبجيل، وسَواءٌ لديهِ استُنزِلَت عليه اللعنات داخل طيّات الصدور أم استُمطِرَت البركات.

قلنا إنَّ المحسنَ لا يهمُّه أَصاغَ الناسُ له من آياتِ المديحِ والإطراءِ أسفاراً، أم ساقُوا إليه من القَدحِ والذمِّ والاتّهامِ مجلّداتٍ، بل يُطلقون ألسنتَهم بدافع من المصلحةِ الماديَّةِ أو بعامل الغاية أو الغَرَضِ الشَّخْصِيِّ بل يهمُّهُ، في الدرجة الأولى، أن يكون هو راضياً عن نفسه، في ما يأتيه من أعمال صالحة نافعة، بعيدةٍ عنِ الإِضرار، وفي مساعيه الخَيِّرةِ الراميةِ الى جَمْعِ الشَّمْلِ وتوحيدِ الصفوفِ ليُستَطاعَ الاحتفاظُ بالكيانِ عزيزاً منيعاً، والحقوقِ ممتنعةً على كل من يريدُ الاستطالة عليها. ولماذا يهتمُّ وهذه حاله، يقذِفُهُ الناس المختلفو المَرامي والأهداف، من أفواهِهم أخيْراً كان أم شراً؟؟؟

ما أسعدَ الإنسانَ الذي يستطيعُ أن يراقبَ نفسَهُ فيحملها على الإحسانِ ويُقيّدهُا عن الإساءة، لا اجتناباً للذَّمِّ واتِّقَاءٌ لما تتداولُه ألسنَةُ السّوء، بل خِدمةً للإنسانيّة، وكي يكون جديراً بأَنَّ يظهر، كما أراد اللهُ، على أحسنِ صورة.


*275*

وما أشقى من ساء معدنهُ وجَمحت به نفسه فانطَلَقَتْ على سجيّتها لا يَثنيها عِنان يَحُول دون انطلاقِها حدّ.

والناس اثنان؛ كريم لأنه يُكرم الناس لأنّه يحترم الكرامة، ومستهتر اسْتَعْبَدَتْهُ المادّة وسّيانِ لَدَيه ارتفعَ أم اتضَع.

ولله في خَلقِهِ شؤون...

محمد آل ناصر الدين

(الضحى، تموز 1966، ص 4-5) بيروت

بين الإنسان والسعادة ناديا نويهض


*275*

(علينا ألا نفطر في الأحلام وإلا أمسَت حلماً لا يتحقّق، وأمانينا رُؤى بِلا حدود)

بديهي أن يحلمَ الإنسان بالسعادة ويَنشُدَ الهناء والاستقرار. لكن ليس من الجائز أن يُفرِط في الأَحلام فتبدوا أكبَرَ من واقِعِهِ وتبعدّه عن فهم الحقيقة والمنطق.

كثيرون من تستبدّ بهم الأحلام فيرسمون بخياله الواسع صُوراً باهِرةً لِعالمهم؛ أنهم يحلمون بعالم سحري، لا تدخله الأمراض والمتاعب والمشاكل، عالَم تتحقَّق لهم فيه السعادة بِلا مجهود ولا تعب، وتنمو فيه الخضرة والأزهار بِلا عناية أو سَهَر. عالَم يزهو كما تزهو الطبيعة في ربيعها. هؤلاء نَسُوا أن الطبيعة لم تُخصِب وَتَزْهُ إلا بعد أن عانت فصولاً صعبةً قاسيةً.

هؤلاءِ قد جعلوا أحلامَهم سيّدة عليهم. لكن سُرعان ما يصطدم خيالهم بالواقع ويتحسّسون مَدى أخطائهم، ويدركون، بعد عذاب طويل، أن السعادة ليست أحلاماً أو أوهاماً، إنما هي واقع وحقيقة، بل عمل وجهاد وكفاح مُسْتمِرٌّ.


*276*

لكي نحصل على السعادة لا بدّ لنا أن نزرَعَها وننحِنَي على الأرض نقتلع الأعشاب والأشواك المُضرّة التي تقف في طريق نُموّها. بذلك نَحْصُل على السعادة التي تتوخّاها. وما دامت السعادة موجودة وممكنة، فعلينا أن نعمل المستحيل لكي نحصل عليها وننعم بها. فليس هنالك أحَدٌ يركض وراء البؤس والشَّقَاء، بل كلّنا نريد أن نعيش في هناء ومَرَح وسعادة. لكنّ الحياة ليست (خاتم لبّيك) تلبّي طلباتنا وتعطينا حسب تمنيّاتنا؛ فهي ليست نعيماً مقيماً. إنّها تقسو نسبيّة تختلف بين إنسان وآخر باختلاف المِزاج والأوضاع والأحوال.

في حياة كل إنسان منا قَدَر قاسٍ. إذ ليس هنالك إنسان اختَفَت من حياته كلّ (المنغِّصات). فالحياة السليمة ليست طريقاً مفروشاً بالورد والرياحين، بل هي أيضاً مزروعة بالأشواك والصدمات القويّة. والعاقل هو من يتخذ من عثَراته وآلامه دافعاً للنجاح وتحقيق السعادة. هو من يستمدّ من تحدّيات القَدَر شِحنة جديدة لأمل كبير.

إذاً شقاءُ وسعادتُهُ مرهونان بقوّة بقائه وإرادته. لكي يحقّق سعادته، عليه أن ينسى أو يتناسى تلك الأشياء البغيضة التي تعكّر صفاء حياته أو تحاول النيلَ منها. ومتى عرف الإنسان كيف يتغلّب على أحزانه ومصائبه وعرف حقيقة الواقع وأدراك أن الدنيا مسرح ملئ بالمتناقضات، فيه الخير وفيه الشر. فيه القسوة وفيه الرحمة. فيه النور وفيه الظلام. فيه الصحّة وفيه المرض، وما على الإنسان إلا أن يكون ممّثلا بارعاً ليؤَّديَ كل الأدوار ببطولة ونجاح، وعليه أن يتقبّل الحياة بحُلوها ومُرها فلا يسخط أو ييأَسُ أو يستسلم، إذا ما أصابه قِسْمٌ من سهامها. فالدنيا لا تعطي أي إنسانا جانباً واحداً من هذه الأشياء، وتمنع عنه الجانب الآخر كلّه؛ بل هي تعطي من هذا وذاك من خلال مقدار معيّن. وباختلاف هذه المقادير، تختلف أحوال الإنسان وفٌرض السعادة في حياته. إذاً، السعادة تبرز في حياة كلّ إنسان في


*277*

لحظات معيّنة، والعاقل هو من ينتهز هذه اللحظات ويستمتع بها ويعيشها بكل ما فيها من متعة وفرح.

أمَّا الإنسان التاعِسُ فهو الذي لا ترى عيناه سوى الجانب المظلم من الحياة. لذلك لا يستطيع أن يستشفّ ببصيرته دفقات النور التي يحملها معه الظلام. هذا الإنسان البائس لا يستطيع أن ينتزع من نفسه الأشياء التي تُنَغِّصُ حياتَهُ والتي تنالُ مِن هدوئِهِ واستقرارِهِ فهو متشائم تتطبَّعُ نَفْسُهُ بطابَع الشقاء فَيَشْقَى معه من حولَه.

أما الإنسان المتفائل السعيد فهو من عرف الحقيقة معرفة كاملة، فتراه لا يعبأ بالشدائد بل يقاومها بتفكير وثبات ويتخذ منها قِيَم الحياة التي تجعله يحلِّق فوق الشدائد بفضل قوّة إيمانه واحتماله.

الرِّضى والتسليم هما ذلك النور الذي يضيء حنايا النفس الإنسانيّة وَبَصرها وبَصيرتَها ويجعلها تُقبل على الحياة بنفس راضية مطمئنّة.

والإنسان السعيد حقاً هم من اتخذ من الألم مَحَجَّةً الى الحقيقة، فيشعر أن صبَره على المكارِه سعادة، وانشغالَه وتفكيرَه بأشياء مهمّةٍ بنّاءةٍ سعادةٌ، وخدمتَه للبائسين والضعفاء تملأ حياته بكل أسباب السعادة، وإيمانَه بالإنسان والحياةِ أسمى درجات السعادة.

نفسُ الإنسان، إذاً، مَنُوطةٌ بتفكيره وإرادته. فهي تُجدب حسب تشاؤمه وخموله ويأسه، وتُخصب وتزهو حسب تفاؤله وانطلاقه وطموحه. هو الذي يصنع شقاءه وسعادته من حيثُ الاستكانةُ والطموحُ. الاستسلام جمود، والجمود موت ونهاية، وإرادة الحياة حركة وفعاليّة وانطِلاق. وقد وهبَتنا الحياة لمعركتنا السلاح الأعظم، (العقل) الذي به نستطيع أ، نخوض معاركنا مع أنفسنا، ومع الآخرين، ومع تقلّبات الحياة التي تفاجئنا.


*278*

بالعقل يمكن أن نروّض النفس على تقبُّل الواقع وتحمُّل الصدّمات وتذليل الصِّعاب. وبالعقل نستطيع أن نشقَّ طرقاً جديدةً دون أن نيأس أو نتسلم.

فالسعادة بمعناها الشامل تعتمد عقلَ الإنسان وثقَتَه بنفسه وقدرتَه على مواجهة الصعاب، وتعتمد إيمانَه بأنه أقوى من العثّرات، فلا يدعها، مهما كانت كبيرة، أن تُحَطِّمَ آماله وتُبِط عزيمته عن مواصلة الطريق.

فالحياة جميلة طالَما نحن أقوى منها، وطالَما نرمي الى تحقيق السعادة فيها. وعلينا أن نسعى بكل إمكانيّاتنا لتبقى سعيدةً مشرقة. فباستطاعتنا أن نعيشَ سعداء إذا حكّمنا عقلّنا ونظرنا الى الحياة نظرة واقعيّة، بمعنى، أن نعيش في واقعنا الحقيقي. فبين الواقع والأحلام تناقُضٌ، يجب أن نعرفه ونَحْذَرَهَ، لأنه إذا استبدّت بنا الأحلام فَسَدَ الواقع وفقدنا حلاوة الحياة وسعادتها.

سعادتنا إذاً بين أيدينا، وبإمكاننا أن نحتفظ بها ونستمتع بكلّ لحظة منها، إذا عرفنا كيف نواجه الحياة بالوجه المناسب فالحياة، نابضةً كانت أم هامدةً، إنَّما هي صدَى انعِكاس نفسيّتنا، صورها تتلوّن بمداد قلوبنا وإحساسنا ومشاعرنا. وهي كالمرآةِ تعكس الصورة المرتسمة على وجوهنا بكل أعماقها، القريبة منها والبعيدة ولم يحدث مرّة أن وقف إنسان أَمامَ المِرآة باسِماً فبدت صورته عابسة.

وهكذا الحياة، تضحك لمن يضحك لها، وتعطي السعادّة كلَّ من يشعر بالفرح وكلَّ من يجابهُ مشاكلَ الحياة. فَسِرّ السعادة الأعظم هو في مواجهة تحدِّيات كل يوم بإيمان صادق.

ناديا نويهض

مجموعة قناديل، بيروت - دار النهار 1974


*279*

من هو المثقف؟

قدري طوقان

يخطىءُ من يظنُّ أن المثقفَ هو من يحمل شهادة من إحدى الجامعات، أو من قطع شوطاً في ميادين العلم والفنّ. ويخطئ من يظن أن المثقّف هو من حازَ على لقب علمي من إحدى الهيئات أو الجمعيّات العلمية، إذ ليس ضرورياً أن يكون المثقّف من هؤلاء. ولكنّه قد يكون منهم، كما أنه قد يكون من غيرهم الذين لا يتمتَّعون برُتَب الجامعات ولا برفيع الدرجات.

وإذا رجعنا الى قواميس اللغة وجدنا أن كلمة (ثقَّف) أو (تثَقَّفَ) تعني غير ما هو شائع أو معروف عند أكثر الناس. ففي المحيط المختار:

ثَقَفَهُ – ثَقَفاً - غَلَبَهُ في الحِذْق.

ثَقَّفَ الرّمحَ، أي قَوَّمَهُ، وثَقَّفَ الولدَ، أي علَمهُ وهذّبهُ.

وثَقِفَهُ ثَقْفاً، أي أدركه وفهمه بسرعة.

وجاء في بيت لأحد الجاهليين:

وَتَشهَدُ لي عِنْدَ الفَخارِ شَجاعَتِي وَسَيْفي وَتُرْسي والمُثَقَّفَةُ المُرنُ

والمُثَقَّةُ هنا: الرماح المقوَّمة غير المعوجّة.

ويُفهم من معاجم اللغة أن المقصود من كلمة (التثقيف) التهذيب، وأن فلاناً تثقف أي تهذَّبَ، وأن مثقَّفا تعني مهذَّباً.

وهذا هو المعنى الصحيح الدقيق لكلمة (مُثَقَّف). وقد أساء الكثيرون فهمَ هذه الكلمةِ وصاروا يُطلِقونَها على طبقة خاصة من الناس من حمَلَةَ الشهادات، وشاعَ


*280*

استعمالُها الى درجة أصبحت كلمة (مثقف) مرادفة لحامل شهادة أو لِلخِرِّيجِ كلّيّةً أو لابن جامعة.

وتدخل في كلمة مثقّف معاني التهذيب والاستقامة وعَدم الاعوِجاج والانحراف عن الصواب. وهذه كلّها صفات سامية ومزايا نبيلة مَن وُجِدَت فيه فقد اقتربَ من (الرجل المثقف)، فالمهذّب أو المستقيم هو من سَمَا بروحِهِ فجعلها تُحلّق في أجواء الفضيلة، وطهّرَ نفسه من أدران الرّذيلة فارتفع بها عن مستوى الماديّة البشعة، وإنَّ هذا السموّ وذاك الارتفاع ما يبعدُهُ عن الأنانيَة البغيضة.

والمثقَّف هو من يحاول إدراكَ الأشياء التي تحيط به والوقوفَ على ما يجري حوله، ولا يتأتىً ذلك إلا بالسعي لزيادة المعلومات وتوسيع أفُق التفكير.

والمثقف هو المستقيم السائر على طريق الصواب، ولن يعرفَ إنسانا هذا الطريق إلا إذا أدركَ بجَلاءٍ إنه لم يُخلق عَبثاً بل ليقومَ بأداءِ رسالات نحو خالِقِهِ ونفسِهِ ووطنِهِ.

والمثقَّف هو صاحب الضمير الذي لا يرضى بهوانٍ يُراد به ولا بظلم ينصبّ على بلاده.

وصاحب الضمير الفاهم لحقيقة ما يجري حوله يدرك أن كرامته من كرامة وطنه، ومجدَهُ في خدمةِ أًمَّتِه، وعزَّهُ في النهوض بها في معرج القوّة والعظَمَة.

وليست الصفات التي تجعل من الإنسان مهذّباً ومستقيماً تنحصر في طبقة من الطبقات أو فئة من الناس، كما أنها ليست وَقْفاً على جماعة، فقد تكون في من هو على جانب يسيرٍ من العلم، وقد تكون في الصانع أو العامل أو غيرهما.

فمن سعَى ليكون مهذّباً ومستقيماً فهو الرجل المثقّف حقاً. ومن لم يعمل بما توحيه معاني التهذيب والاستقامة فقد ابتعد عن (الرجل المثقّف) وأصبح عالَةً على اللّقب الذي يحمله حتى ولو كان متَضَلِعاً في العلوم واقفاً على دقائِقها.


*281*

إن المثقَّف هو المثل العالي للإنسان، وما علينا إلا أن نسعى لتكونَهُ، ونوجِد الرّغبة في الناشئةِ لتكونهَ أيضا.

وخلاصة القول: إن المثقّف هو المهذّبُ المستقيمُ الذي يجعلُ ضميرَه رائدَه وعقلَهُ قائدَهُ، ومعاملةَ الناس بالحُسنى شِعارَهُ.

قدري طوقان

ثقافة ومثقفون طه حسين


*281*

إذا مُرّنَ طبعُ الإنسان المتعلّم وعقلهُ على حُبّ المعرفة والكلَف بالاستزادة منها والسعادة حين يظفران بها والشقاء حين يجدان في ذلك عُسراً كان هذا الإنسان المتعلّم على حظّ من الثقافة، وأقول الإنسان المتعلم لأنّ الإنسان الجاهل لا يستطيع أن يحبّ المعرفة، ولا أن يجدّ في طلبها، ولا أن يسعد حين يظفرُ بها ويشقى حين لا تُتَاحُ له.

والتعلّم كلمة إضافية، كما كان يقول أرسطو طاليس، تقبل السعة الى غير حدّ وتقبل الضيق الى غير حدّ أيضاً، فالذي يتاح له التعليم الأوّليُّ ثمّ يضطر الى الوقوف عنده ولا تتيح له ظروفه أن يتجاوزه الى غيره، من درجات التعلّم لا يستطيع أن يحبّ المعرفة إلا بمقدار، ولا يستطيع أن يتقبلّها إلا بمقدار.

والناس تختلف حظوظهم من التعلّم. فمنهم من يتعلمُ الكتابة والقراءة وأوّليّاتٍ من المعرفة، ومنهم مَن يتجاوز هذا الحظّ فيتعمَّق شيئاً ما ويُضيف الى التعليم الأوّلي ما يسمّى بالتعليم الثانوي كلّه أو بعضه، ثم يقف عند ما أتيح له من ذلك. منهم مَن يتجاوّز هذا المقدار من الدرس، فيبلغ التعليم الجامعي، ويظفر منه بحظّ يؤهّله لدرجة الليسانس أو البكالوريوس، ثمّ يضطّر الى الوقوف عند ذلك. ومنهم مَن يتاح له


*282*

التعمّق في التعليم، فيتجاوز هذه الدرجة الجامعيّة أو ما يعادلها الى درجات أرقى منها ثمّ تشغله ظروف الحياة عن المُضِّي في الدرس وتعمُّق العلم، وهكذا.

فالتعليم إذَن والتعلّم كلمتان لهما حظُهما من المرونة تَتَّسعان أحياناً وتضيقان أحيانا أخرى، وليس لسَعَتهما أو ضِيقِهما حَدّ. والثقافة كذلك كلمة إضافية مَرِنة تَتَّسعِ وتضِيق، وبمقدار ما تختلف حظوظ الناس من المعرفة تختلف حظوظهم من الثقافة؛ فمنهم ذو الثقافة العميقة الواسعة، ومنهم ذو الثقافة الضيِّقة الضحلة. والرجل الذي يعمَّق لوناً من العلم حتّى يحسنه ويأخذ منه بأعظم حظّ ممكن، ويمرّن على أن يحبّ هذا العلم ويسْعَى الى التقدّم فيه ما وجد الى ذلك سبيلاً، ثم يقصر نَفْسَهُ على هذا العلم الذي أتقنه ولا يتجاوزه الى غيره من الوان المعرفة - رَجُلٌ حسن الحظّ من العلم، ولكنّه محدودُ الثقافة؛ فهو عالم بالطّب أو عالم بالهندسة أو الرياضة، أو ما شئتَ من فروع العلم - ولكنَّ ثقافته تقف عند هذا الحدّ فلا يستطيع أن يشارك في الأدب ذوقاً أو إنتاجاً أو في كليهما، ولا يستطيع أن يذوق شيئاً من الوان المعرفة غير الفرع الذي تخصّص فيه. هذا الرجل عالِم متقن لمادَّته ولكنَّ ثقافته ضيّقة لأنَّه لا يستطيع أن يتجاوز هذه المادّة؛ التي أتقنها. فالثقافة إذَن أوسَعُ من التعليم، وليس كلّ متعلّم مثقفاً بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. إنّما الرجل المثقّف هو الذي يتهيَّأ طبعه وعقله لقبول المعرفة مهما تختلف فروعها، ومهما تكُن مادتها. فالطبيب الذي ينتج في الأدب أو بحبّه ويذوقه دون أن ينتج فيه، والطبيب الذي يحسن العلم بفن من الفنون الجميلة أو يحسن الذوق لهذا الفّن، والطبيب الذي يستطيع أن يضيف الى طبّه الذي أتقنه مشاركة في الأدب والفّن أو في ذوقهما ومشاركةً في شيء ما من الفلسفة أو قدرةً على فهمها إذا يُسّرت له، والطبيب الذي لا يعرض له لون من الوان المعرفة الإنسانية إلا وجد في نفسه استعداداً لقَبوله والمشاركة فيه - طبيب مثقَّف واسع الثقافة. وقُل مِثلَ هذا في الذين


*283*

يتخصّصون في ضُروب من العِلم، ولكن ذلك لا يمنعهم من الاستعداد لقَبول المعرفة مهما يَكُن لونها.

وكذلك يوجد العلماء ذوو الثقافة الواسعة التي تختلف عمقاً باختلاف استعدادهم لِتَلَقّي ألوان المعرفة على ما بينها من التباعُد.

وقُل مِثلَ ذلك في الأدباء؛ فالأديب الذي لا يحسن إلا الأدب محدودُ الثقافة، والأديب الذي يستطيع المشاركة في غير الأدب الى حَدّ ما واسع الثقافة وعميقها، على اختلاف في ذلك. وصاحب الفنّ الجميل إذا وقف عندّ فَنَه ولم يسْتَطِعْ أن يتجاوزه الى غيره من ألوان المعرفة الإنسانية محدود الثقافة أيضاً، فإن استطاع أن يتجاوز فَنَه ويشارك في ضروب المعرفة الإنسانية اتّسعت ثقافته بمقدار من هذه المشاركة. وكان القدماء من الأدباء لا يحبّون أن يقف الأديب بأَدَبِهِ عِنْدَ الشعر والنثر والنقد، وإنما يستطيع أن يأخذ من كلّ شيء بطَرَف كما يقال في الأيام الماضية.

ومن الناس مَن يعلّمون انفسهم ويثقّفونها ويمضون في ذلك الى درجات من العلم والثقافة. هؤلاء نستطيع أن نسمّيهم علماء وأن نسمّيهم مثقّفين، وإن لم يختلفوا الى معاهد العلم والثقافة، وإن لم يظفَروا بالإجازات الجامعيّة. ومن المحقِّق أنَ أفلاطون أو أرسطو طاليس ألخ - كانوا علماء وكانوا مثقفين بالقياس الى العصور التي عاشوا فيها، ولم يظفر أحدهم بإجازة جامعية، لأن ذلك لم يكن معروفاً في أيامهم. وهم مع ذلك قد ملأوا الأرض عِلماً وثقافةً وما تزال الإنسانيّة تعيش على ما تركوا وما تركَ أمثالهم من التراث الذي نسمّيه التراث الإنسانيّ والذي كان وما يزال أساساً للحضارة الإنسانيّة والمعرفةِ الإنسانيّة والثقافة الإنسانية...

وبمقدار ما يكون للإنسان من حظّ في العلم أو حظّ في الثقافة أر حظّ في كليهما يكون حظّه من التّبَعَة بالقياس الى البيئة التي يعيش فيها.


*284*

فالإنسان لا يحسن العلم ليجعله شيئاً بينه وبين نفسه دون أن ينفع به أحداً من الذين يعيشون معه في بيئته أو في وطنه، وإنما يحسن العلم والثقافة ليكون مصباحاً يضئ لِمَن حولَه من الناس سبيلَ الحياة وسبيلَ الرُّقي وسبيلَ المعرفة أيضاً.

تَبِعَةُ العِلم والمُثقّف إذَن أمام بيئته ووطنه ثقيلة بمقدار حظّه من العِلم أو من الثقافة أو منهما جميعاً.

وإذا كان العالِم المتخَصّص في فرع بعينه من فروع العِلم مكلَّفاً أن ينفعَ الناسَ بهذا العِلم فَيَطِبَّ لأمراضهم إن كان طبيباً، وينشر فيهم الأدب إن كان أديباً، وينفعهم بما تعلّم من الطبيعة أو من الكيمياء أو من الرياضة إن كان قد تخصّصَ في شيء منها - فحظّ المثقّف الذي تَتَّسع ثقافته وتَعْمُقُ من التّبِعَة لا تقلّ عن حظّ العالّم المتخَصّصَّ، لأنهُ مكلّف أن ينشر ثقافته بين الناس، وأن يضيء للناس سُبًلَ الحياة بما أتيح له من الثقافة. ذلك أن الثقافة تجمع بين هاتين الخصلتين: فهي معرفة بجب أن تُنشَر بين الناس، وهي في الوقت نفسه تذكي عقله المثقَّف وَتُيَسِّرَ له الحياة وتُعينه على حلّ بعض المشكلات التي تعرِض للناس في حياتهم اليوميّة.

ومن العلماء المتخصصين مَن يقف بتخصّصه عند حَدّ بعينه، وهو حين يفعل ذلك يفقد صفة المتخصصّ، ويصبح صاحب فنّ من الفنون التطبيقيّة يمارس فَنَّه ويعيش منه.

فالطبيب الذي لا يتابع الطبّ بعد تخرُّجه في كليّة الطبّ، أو لا يتابع هذا النشاط متابعة متّصلة وإنَّما يكتفي بما عرف ويمارس علاج المرضى ويعيش من هذا العلاج، إنما هو طبيب تتُاح له المَهارة أحياناً في علاج المرضَى، أو تتاح له بمقدار، فيصبح الطبّ بالقياس إليه صناعة تُمَكّنُهُ من كَسب القوت، وتجعل انتفاع الناس بصناعته محدوداً. ولكنّ الطبيب الذي يتابع تقدّم الطب ولا يفوته مظهر من مظاهر هذا التقدّم، وإنما هو طالب للعلم دائماً، مستزيد منه دائماً، لا يفوته استكشاف، بل لا تفوته الأبحاث الخطيرة في عمله، هذا الطبيب عالِم حقاً - لأن العِلم بطبعه لا يقف


*285*

عند حَدّ، ولأن نشاط العقل الإنسانيّ لا يقف عند حَدّ أيضاً. وبمقدار ما يزداد تعمُّق. الطبيب بعلُّمَهُ ومتابَعَتُهُ لتقدّم هذا العلم يزداد انتفاع الناس به وتزداد مهارته في صناعة الطبّ. فهو عالِم متخصّص من جهة وماهر في صناعته من جهة أخرى، ومهارته لا تقف عند حَدّ إلا إذا وقف هو بنشاطه العِلمّي فأدركه الكسل أو السّأم، أو أدركَته الرغبة في الكَسب فاكتفى. بما بلَغَ ووقفَ عندهُ.

وقُل هذا في الثقافة في المهندس، وقُل مِثلَهُ في صاحب الطبيعة والكيمياء والرياضة وغيرها من فروع العلم.

ويقال في الثقافة ما يقال في العلم، فالمعرفة الإنسانية لا تعرف الحدود وإنَما هي متحركة أبَدا ومتحركَة دائماً لا يدركها الركود إلا حين تصيب الحضارة آفة من الآفات أو عارض من العوارض فتمنع العقل من نشاطه وتكفّ المعرفة عن المُضّي الى أمام.

فالعالِم المتخصّص حقاً يتجدد عِلمه في غير انقطاع، والمثقّف الجدير بهذه الصفة تتحدّد ثقافته في غير انقطاع، وكُلّما ازداد تخصُّص العالِم أو اتَّسعت ثقافة الرجُل عَظُمَت تَبِعَتُهُ أمامَ بيئته ووطنه، ووَجَبَ عليه أن يَنْفَعَ الناس بكُلّ ما حَصَّلَ وبكُلّ ما اكتسبَ.

وتَبِعَةُ العالِم والمثقَّف تحتاج الى كثير من الدرس والتعمّق، فهي جزء من حياته لآن يتعمق العلم ليرضَى عن نفسه فحسبُ؛ وإنّما هو يتعمّق العِلم لتزداد قدرته على نفع الناس، ويتعمَّق الثقافَة لتزداد قدرته على تثقيف الناس من جهة، وعلى دعوته. الى الخير وهِدايتهم إليه من جهة أخرى.

وقد نفهم الأثَرةَ في كثير من الأشياء. نفهمها في الغنيّ الذي يجمع المال الى المال ويضيف الثراء الى الثراء، لا يريد بذلك إلا أن يعظم حظّه من الغِنى، وأن يرضى عن نفسه وعن ثروته. ويدركه مرض البُخل فيزداد حِرصه على المال كُلّما ازداد حظّه


*286*

منه. لكنَّ الأَثَرَةَ في العلم أو الأَثَرَةَ في الثقافة شيء. إلا أن يُصبحَ العالِمُ مجنوناً يُحبُّ العلمَ لنفسهِ ويفقدُ صفة الانسانيةِ الْحَقَّةِ. فهو لا ينفع الناس بما يكتسب، لا يعلّمهم ولا يُيَسَّرُ لهم حياتهم؛ وإنما هو منكَبٌ على العِلم راضٍ به شَرِهٌ إليه، وهو بذلك أشبه بمصباح الكهرباء الذي فَقَدَ قوّةَ الإضاءة وتستطيع أن تسلط عليه ما شئت من القوّة الكهربائية دون أن يكون لذلك أثَرٌ فيه.

وقُل مِثلَ ذلك في المثقّف الذي يعكف على فروع المعرفة يصيب منها ما يستطيع دون أن ينفع الناس بشيء مِمّا أصاب.

وتَبِعَةُ المثقّف أشدُّ تنوُعاً وتعقيداً من تَبِعَةِ العالِم. فالعالِم يؤدّي واجبه حين ينفع الناس بعِلمه معلّماً أحياناً، وعاملاً في الحياة اليوميّة أحياناً، فإذا أدّى هذا الواجب في أمانة وإخلاص فَقَدَ بَلَغَ الغايَةَ، وليس لأحد أن يأخذه بقليل أو كثير. ولكنّ المثقّف محتاج الى شيء آخر، محتاج الى أن يفهم حياة الناس من حوله، ويعرف موضع حاجتهم الى الانتفاع بثقافته.

فالمثقّف الذي يعيش بين الناس ولا يفهم حياتهم ولا يتعمّق نُظُمَهم الاجتماعية والسياسيّة ولا يلاحظ نشاطهم اليوميّ عاجزٌ كلّ العجز عن أن ينفعهم حقَّ النفع، وعن أن يكون لهم معلماً وهادياً الى الخير، وإنما هو ثرثار إذا تكلّم وأثِرٌ (1) إذا سكتَ. فليس له بدّ من أن يعيش مع الناس في العصر الذي، يعيشون فيه. ويتعمّق الظروف التي تحيط بحياتهم ليضع ثقافته موضع الحاجة إليها، وليُشعر الناس بأنّه نافع لهم حقاً، يعلمهم ما لم يعلموا، ويدلّهم من سُبل الرقيّ على ما لم يهتدوا إليه.

ولكن الناس يُسرِفون على العلماء والمثقفين أحياناً، ويتعجّلونهم حين لا تنفع العجَلة، بل حين نصبح أدنى الى الضَرر منها الى المنفعة. فإذا طالبتَ العالِم بأن يأتي بالمعجزات فقد كلّفته ما لا يطيق الإنسان، كما أن العِلم بطبيعته متجدّد دائماً، فهو كذلك إنسانيّ: أي محدود الطاقة لا يستطيع أن يأتي بما ليس من طبع الإنسان أن يأتيَ به.


*287*

وإذا طلبتَ الى المثقّف أن يقول فيما يحدث من حوله من الظواهر الاجتماعية والسياسية والإقتصادية قبل أن يتمَّ نُضج هذه الظواهر وقبل أن يتاح له إحسان العلم بها والتروية فيها فقد طلبتَ إليه ما لا يُطلَب الى الإنسان.

طه حسين - مصر

(1) الأَثَرَة: الأنانيّة الإيثار: عكسها (تفضيل الغير على النفس).

الأثِر (قياساً) صفة مشبّهة من الأثَرَة.

كيف نربي أنفُسنا؟ سلامة موسى


*287*

نحن نعيش مرةً واحدةً في هذه الدنيا: فمن واجبنا أن نعيش فيها أحسَنَ عَيش مستطاع؛ نسكن أفضل المنازل، ونقرأ أفضل الكتب، ونأكل أشهى الأطعمة ونتمتّع برؤية الأقطار المختلفة، ونزداد بتقدّم العمر حكمةً وصحةً وتجارب وعِلماً.

ولكنّنا لن نستطيعَ هذه العيشة ما لم نعمد الى أنفسنا فنرّبيها ونعوّدها العادات التي تساعدنا على الرُّقي؛ فإن الجسم الإنسانيّ سريع الى الطاعة للعادة يتفاد إليها ويؤديها عن رِضّي وارتياح. وأنتَ عندما تقرأ سيرة أحّد العظماء تعجَب لوفرة أعماله وتَتَساءل: كيف تَوافَر له الوقت أو أسعَفَتْهُ صِحَّته أو كيف أخْلَصَ له أصدقاؤه حتّى أمكَنَه أن يؤدّيَ هذه الأعمال كُلّها؟

ولكنَّ الواقِعَ أنَّ الوقت والصحّة والفُرَص متوافرة لَنا جميعاً وإنَّما تضيع مِنَّا لأنَّنا قد اعتَدنا عادات سّيئة. فهذا رجل يرجع فشله في الحياة مثلاً الى أنّه يضيّع كلّ يوم


*288*

من وقته نحو الساعتين في الرُكود على القهوةَ وهو قاعد كأنّه الماء الآسِن لا حركة ولا تفكير ولا هِمّة، تحرج منه أنفاس الدُّخان في كسلٍ وتراخٍ كأنّهُ يريد أن يموت.

فهذا لا يتمتّع ولا ينتفع بالحياة ولا ينفع غيره.

وثَمَّ رجل قد اعتاد مخاصَمَةَ الناس فهو في نزاع دائم مع كلّ مَن يعرف يقضي وقته في قيل وقال وفي مشاغبات في المحاكم، وهو منغّص مشغول في غير شاغل مفيد طَوالَ حياته.

فهؤلاء وأمثالهم قد اعتادوا عادات سّيئة تُقصيهم عن التمتّع بالحياة بأرقَى معاني التمتّع. وقد يموت أحدهم في سِنّ الستّين أو السبعين وعقله في مستوى عقول الصِّبيان؛ لم يتهذّب بثقافة ولا بسياحة، لو عَدَدتَ ما قضاه من الوقت على القهوة في فارغ الشؤون لَبَلغ عَدَّة سنوات من عمره. فنحن إذن في حاجة الى أن نربّي أنفسنا ونعتاد منذ الصِّبا أو الشباب عادات تَلْزِمُنَا مدى حياتنا؛ فتزيد سعادتنا ومنفعتنا لأنفسنا ولغيرنا... وأهمّ هذه العادات تلك التي تحفظ لنا صِحَّتَنَا مدى حياتنا فَإنّه لا هَناءَ ولا تمتُّع بلا صِحَّة. وقد قيل إنَّ من الناس من يحفِر قبره بأسنانه لكثرة نَهَمِهِ. ولكنّنا نعرف الآن أنّ الصحَّة تضيعُ بأشياء أخرى أيضاً غير الطعام؛ منها قلَّة الرياضة، ومنها اعتِياد الشَّراب أو سائر المخدّرات.

ثمَّ نحن في حاجة الى اعتِياد الدَّرس بِمُوالاة القراءة. فإنَّ المِيزة الحقيقيّة التي تميّز الإنسان على الحيوانات هي أنه حيوان مثقّف؛ لأنَّ المحرومين من الثقافة هم من الانحطاط بمثابة الحيوان، وإذا نحن عشنا بلا ثقافة لا نقرأ ولا نفكّر في تاريخ هذه الدنيا ومصيرها وعلومها وآدابها فَإنَّنا نعيش عيشةً حيوانّيةً. فيجب أن نغرس في أنْفُسِنَا عادة الدرس ونعيش مدَى حياتنا طَلَبةً مُجِدِّينَ في جامعة الدنيا.

ثمّ يجب أن نعتاد الرفاهية فلا نقنع بالدُّون من أي شيء؛ لا في المسكن ولا في الطعام ولا في الشَّرَاب. والفنون الجميلة نفسها لا يبعثها في نفوسنا سِوَى نزعة


*289*

الرفاهية. فيجب أن نتأنَّقَ في الحياة ونعتبر المعيشة فّناً جميلاً نمارسه بذكاء وذَوق. والعبرة على الدوام بالنزعة، فما دمنا نتأنَّق في المسكن والمطعم والملبس فَإنَّنا نتأنَّق فيما نقرأ؛ فلا نرضى لأنفسنا قراءةَ كتاب سخيف أو صحيفة خليعة، كما لا نرضى بأن نعمل عملاً ناقصاً غير متقّن لأننا نتأنَّق في كرامتنا.

وأخيراً يجب أن نعتاد المعاشرةَ الحسنة مع الناس وخاصّة مع عائلاتنا حتى لا نعيش منغّصين حاسدين محسودين فيذهب مجهودنا العصبيّ في غير فائدة، وتزيغ أبصارنا عن طريق الخير والمنفعة.

وفي كلّ منا غرائز حيوانّية إذا استّسلمنا لها أنهَكت قوانا واختصَرت أعمارَنا وعشنا بها كالبهائم؛ فلا بدّ من أن نعوّد أنفسنا عادات الاعتدال فيها حتى تتوافر لنا من أبداننا قوّة وتقوم بتحقيق الغايات العُليا من الدرس والمنفعة والتمتّع بالْمُتَعِ الأنيقة السامية التي لا يستطيع الحيوان أن يتمَتْعَ بها لأنها من احتكارات الإنسان وبُرهانُ رُقِيَّه. يجب أن نرتّب حياتنا بحيث نستغلّها الى أقصى ما فيها. ولا يتَيسَّر ذلك لنا حتى نعتاد عوائد حسنة في ادِّخار الوقت والمال والصحّة والتوفُّر بها كلّها على الدرس والسِّياحةِ وخدمة الناس والعمل لرقي الهيئة الاجتماعية التي نعيش بين ظهرانيها بترقية العلوم والفنون.

سلامه موسى


*290*

الكيف لا الكم أحمد أمين


*290*

روى أن "ابن سينا" كان يسأل الله أن يهبه حياة عريضة وان لم تكن طويلة، لعله يعني بالحياة العريضة حياة غنية بالتفكير والانتاج، ويرى أن هذا هو المقياس الصحيح للحياة، وليس مقياسها طولها إذا كان الطول في غير انتاج، فكثير من الناس ليست حياتهم الا يوما واحداً متكرراً، برنامجهم في الحياة - أكل وشرب ونوم. أمسهم كيومهم، ويومهم كغدهم، هؤلاء ان عمروا مائة عام فأبن سينا يقدره بيوم واحد، على حين أنه قد يقدر يوما واحداً - طوله أربع وعشرون ساعة - بعشرات السنين إذا كان عريضاً في منتهى العرض، فقد يوفق المفكر في يومه الى فكرة تسعد الناس أجيالاً، أو الى عمل يسعد ألافاً، فحياة هذا - وان قصرت - تساوي أعمار آلاف قد تساوي عمر أمةً، لأن العبرة بالكيف لا بالكم.

وليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد

ولعل ساعة اجتمع فيها أقطاب الامم الأربعة فانتهوا فيها الى السلم وأنقذوا أرواح الملايين من البشر ومنعوا من الكوارث ما لا يعلم هولَهُ الاّ الله خيرُ الاف الاف من سنين صرفت في التسلح وما اليه.

وتقدير الأشياء بالكيف لا بالكم، منزلة لا يصل اليها العقل الا بعد نضوجه، أما الطفل في نشأته، والأمة في طفولتها، فأكثر ما يعجبها الكم، فالريفي خير "الخيار" عنده ما كبر حجمه وبيع بالكوم، والمدني خير "الخيار" عنده ما نحف جسمه وكان "كالقشة" وبيع بالرطل. والطفل وأشباهه يرغبون بكثرة العدد لا بجودة الصنف، فحيثما مررت في شارع أو زرت متجراً رأيت أكثر الترغيب بالكم. فأربعون ظرفا وجواباً بتعريفه و "دسته أقلام رصاص بصاغ"، وهكذا. وسبب هذا أن البيع والشراء يعتمدان على أدق قوانين علم النفس، والباعة من أعرف الناس بهذه


*291*

القوانين التي تتصل بعقلية الجمهور فهم يعلمون أنهم أكثر تقويماً للكم، وأكثر انخداعاً بالعدد، فهم يأتونهم من نواحي ضعفهم وموضع المرض منهم، وقل أن يرغبوهم في الشيء بأنه من "العال"، أو "عال العال"، لأن هذا تقدير للكيف، ويس يقدره الا الخاصة.

وكل انسان قد مر بدور الطفولة، والامم جميعها مرت كذلك بهذا الدور فعلق بأذهانهم تقدير الكم، ولم يستطيعوا أن يحرروا منه مهما أرتقوا، وأصبحوا - حتى الخاصة منهم - ينخدعون بالكم من غير شعور وبلا وعي، وصار هذا مرضاً ملازماً، انما يتحرر منه الفلاسفة والى حد. الا ترانا نرى الرجل الضخم حسن الهيئة جميل الطلعة فنمنحه الإحترام ولو لم نعرف قيمته، ونرى الرجل صغير الجسم غير مهندم الثياب فنحتقره لأول وهلة من غير أن نعرفه، وأساس معاملتنا بالإجمال احترام ذوي المظاهر الجميلة حتى يثبت العكس، واحتقار ذوي المظاهر الوضيعة حتى يبت العكس، وليس ذلك الا من خداع الكم، ولو أنصفنا لوقفنا على الحياد من الجميع حتى تتبين الكيف.

ونرى ذا العمامة الكبيرة واللحية الطويلة، فنعتقد فيه العلم والدين، مع أنه لا علاقة بين كبر العمامة وطول اللحية وبين العلم والدين، وان كانت ثمة علاقة فعلاقة الضدية، لأن الدين محله القلب، والعلم موطنه الدماغ، وإذا مليء القلب دينا والدماغ علماً احتقر المظهر وأبى أن يدل على دينه أو علمه بمظهر خارجي، بل هو إنْ امتلأ ديناً وعلماً أنكر على نفسه الدين والعلم، وأعتقد أنه أبعد ما يكون عما ينشده من دين وعلم، وكذلك الشأن في اللباس الجامعي واللباس الكهنوتي.

وقديمً أدرك العرب خداع الكم، قالوا: "ترى الفتيان كالنخل وما يُدريك ما الدخل".


*292*

تَرَى الرَجُلَ النَحيفَ فَتَزْدَرِيهِ وَفي أثوابِهِ أسَدٌ مزيرُ (المزير: الشديد القوي)

وَيُعْجِبُكَ الطَّرِيرُ فَتبْتَلِيهِ فَيخلِفُ ظَنُّكَ الرَّجُلُ الطَريرُ

وفي كل شأن من شؤون الحياة، وضرب من ضروب العلم والفن نرى خداع الكم.

فالمؤلفون يعلنون عن كتبهم أنها في أربعمائة صفحة - مثلاً - من القطع الكبير، والمتعلمون كثيراً ما باهوا بكثرة ما قرأوا، والكتاب بكثرة ما كتبوا، والصحافة كثيراً ما خدعت القراء بالكم، فكان مما اصطنعته زيادة عدد الصفحات في الجرائد والمجلات مع أنَّ الصفحات وحدها كم، ولا قيمة لها ما لم يصحبها الكيف، وكم أتمني أن أرى جريدة أو مجلة ترغب قراءها بالكيف فقط، وأن كنت أجزم بأن مصيرها الفشل، لأن أكثر الناس لم يمنحوا بعد ميزان الكيف.

وقد جرت كثرة الصفحات في الجرائد والمجلات الى تحرير الاسلوب الى ما يناسبها، فكان الاسلوب أحياناً كالعهن المنفوش، يصاغ منه في صفحة ما يصح أن يصاغ في عمود، وفي عمود ما يصح أن يصاغ في سطر - ولست أدري لم كان الناس إذا أرسلوا برقية، تخيروا أوجز الألفاظ لأغزر المعاني، ولم يفعلوا من ذلك شيئاً في كتبهم ورسائلهم ومقالاتهم؟ ولعلهم يفعلون ذلك لأن الكلمات في برقية تقدر القرش، وليس كذلك فيما عداها - إلا كان هذا هو السبب دل على تقدير القرش أكثر مما يقدر زمن القارئ والكاتب، وفي هذا منتهى الشّر، وفي هذا أقسى مثل لغفلة الناس في تقدير الكم لا الكيف.

وقديماً عرض علماء البلاغة للكيف والكم في الأدب، وسموها اسماً خاصاً هو الايجاز والأطناب، وعدوا الايجاز أشرف الكلام، والاجادة فيه بعيدة المنال لما فيه من لفظ قليل يدل على معني كثير، ومثلوا للايجاز والأطناب بالجوهرة الواحدة بالنسبة


*293*

الى الدراهم الكثيرة، فمن ينظر الى طول الألفاظ يوثر الدراهم لكثرتها، ومن ينظر الى المعاني يؤثر الجوهرة الواحدة لنفاستها، ولا يعدل عن الايجاز الى الاطناب الا لإيضاح معنى أو تأكيد رأي.

والحق أن الأدب العربي في هذا الباب من خير الأداب، فأكثر ما صدر في عصوره الأولى حبات من المطر تجمعت من سحاب منتشر، أو قطرات من العطر استخلصت من كثير من الزهر.

وبعد، فلسْتُ أحب أن تكون كتابتنا كلها برقيات، وإذن لعدمنا ما للاسلوب من جمال، وما لتوضيح الفكرة وتجليتها وتحليتها من قيمة، وانما أريد أن يكون المعنى هو القصد وهو المقياس، فان أطنبنا فللمعنى، وان أوجزنا فللمعنى.

وأريد أن يقوم الناس الكيف للكيف، وإذا قدروا الكم فللكيف.

ولعل من الطف ما كان، اني حين بلغت هذا الموضع من مقالتي اخذت اعدد صفحات ما كتبت، فوجدتها قليلة العدد، فالمني ذلك لأني لم أبلغ ما حزرت أن يكون، وفرحت بهذه الملاحظة لأنها سدت فراغاً في المقالة يكمل بعض ما فيها من قصر. ألسنا جميعاً عباد (كم)، أوليس هذا من نوع تقدير الخيار "بالكوم"؟


*294*

صفحة فارغة


*295*

ملحق


*296*

صفحة فارغة


*297*

الحياة الأدبية في الجاهلية عمر فروح


*297*

ازدهر نقد الأدب وكثُر جمع الاثار الأدبية في العصر العباسي، فلم يكن من المستغرب إذن أن يسمّي نقاد الأدب ورواته في ذلك العصر كل ما سبق أيامهم من الاثار الأدبية بأسم الأدب القديم. وعلى هذا ينقسم دور الأدب القديم الى ثلاثة أعصر: العصر الجاهلي، عصر المخضرمين والعصر الأموي.

الجاهلية اسم أطلقه القران الكريم على العصر الذي سبق الإسلام، لأن العرب في تلك الحقبة كانوا "أهل الجاهلية" يعبد بعضهم الأوثان ويتنازعون فيما بينهم ويثأر بعضهم من بعض، ويئدون أحياناً أولادهم (البنات). وكانوا يشربون الخمر ويجتمعون على الميسر (القمار) وهكذا نرى أن الجاهلية كانت من الجهل الذي هو ضد الحلم، لا من الجهل الذي هو ضد العلم. إن العرب كانو على قسط وافر من العلوم والمعارف التي كانت معروفة في عصرهم كالفلك والطب واقتفاء الأثر أما أدبهم فكان أرقى الأداب في أيامهم. ولا يزال هذا الأدب الجاهلي الى اليوم من أبرع النماذج الأدبية.

الحياة الأدبية:

الأدب العربي قديم النشأة جداً، والشعر الذي وصل إلينا من الجاهلية يمثل دورا راقيا لا يمكن أن يكون الشعر قد بلغ إليه في أقل من الفي سنة على الأقل. غير أنه لم يصل إلينا من ذلك الشعر الأول شيء.

مواسم الشعر وأسواقه:

اتسع نطاق الشعر في الجاهلية فلم يبق مقتصراً على التعبير عن الخيال والوجدان فحسب، بل شمل ذكر المفاخر ووصف المعارك وتعداد بعض الحوادث حتى سُمّي


*298*

بحق "ديوان العرب" أي سجل تاريخهم. من أجل ذلك اقتضي أن يُنشد في المجتمعات وفي الحفل الغفير، فأخذ الشعراء يؤمّون الأسواق الخاصة والأسواق العامة الكبرى لينشر كل واحد منهم محامد قومه أو يدل على براعة نفسه، مع العلم بأنَّ هذه الأسواق كانت في الأصل للتجارة، ثم جعل الناس يتّخذونها مواسم قومية او أدبية، لاجتماع الناس فيها. وربما طلب أحدهم في هذه المواسم غريماً أو عرض فيها

سيفا أو فرسا كريما للبيع، أو أمّها يبحث، عن امرأة يخطبها، أو ليشهد على عتق عبد يملكه.

أما الأسواق الصغرى فكانت كثارا، كل حيّ له سوق أسبوعية أو شهرية قاصرة على أهل الحي ومن جاورهم في الأغلب. أما الأسواق الكبرى فكانت أقل عددا وأطول أمدا، وكان الزمن الذي يفصل بين انعقادها أطول، هو في الأغلب عام واحد. أما أشهر هذه الأسواق - أو المواسم - فثلاث: ذو المجاز قرب ينبع (وينبع ثغر مدينة الرسول)، وذو المجنة (بفتح الميم أو كسرها) قرب مكة، ثم عكاظ وهو سوق في الصحراء 1 بين نخلة والطائف شرق مكة، وكانت تبدأ مع هلال ذي القعدة وتستمر عشرين يوما تجتمع قبائل العرب فيها فيتعاكظون أي يتفاخرون ويتناشدون.

الشعر: قدمه وكثرته:

الشعر العربي قديم جداً ولكن القسم الأوفر منه ضاع بعوامل مختلفة; بترك تدوينه 2، وبهلاك نفر كثيرين من رواته في الفتوح بعد الإسلام، ويتشاغل الناس عن روايته بالدين وبالفتوح. والاجتماع بين النقاد واقع على أن أول الشعر العربي الرجز 3


*299*

ثم أن الشعراء أنفسهم كثار لا يحيط بهم العدّ. ثال ابن قتيبة 4: "والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام أكثر من أن يحيط بهم محيط".

المعلقات:

ومع الأيام زاد في الحياة الأدبية وجه جديد، ذلك أن الشعراء كانوا يتبارون في سوق عكاظ أمام أحد فحول الشعر - وقد ذكروا من هؤلاء النابغة - فمن حكم له أنداده اختيرت قصيدته و "عُلّقت": (قيل عَدّوها علقا اي شيئا نفسيا، وقيل كتبوها بالذهب وعلّقوها على جدران الكعبة، وقيل علّقوها بالذهن أي حفظوها عن ظهر قلب).

وليس من المستبعد أن تكون المعلقات قد دُوّنت وعُلّقت في الكعبة تصديقاً للروايات الكثيرة المتواترة في ذلك وجريا على الجاهليين في كتابة عهودهم ومواثيقهم في الكعبة نفسها 6.

واختلف علماء الشعر في عدد المعلقات فمن مُقلّل ومن مُكثر 2، إلا أن جمهور الرواة جعلها ثماني، هي، حسب ما اختاره أبو زيد القرشي؛ لإمرئ القيس (الكندي) وزهير بن أبي سلمى (المزني) والنابغة (الذبياني) والأعشى (القيسي) ولبيد بن ربيعة (العامري) وعمرو بن كلثوم (التغلبي) وطرفة بن العبد (البكري) وعنترة (العبسي) وَمنهم من يزيد عليها معلقة الحارث بن حلّزة (البكري) وعبيد بن الأبرص (الأسدي).

مكانة الشاعر ومكانة الخطيب في |لجاهلية:

قال ابن رشيق 7: "كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر 8 كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان. لأنه (أي الشاعر) حماية لأعراضهم وذب عن


*300*

أحسابهم وإشادة بذكرهم، وكانوا لا يُهَنّأون إلا بغلام يولد أو شاعر ينخ أو فرس تُنْتَجُ ".

وقال الجاحظ: "والخطباء كثيرون، في الجاهلية، والشعراء أكثر منهم، ومن يجمع الشعر والخطابة قليل "9. ولقد "كان الشاعر أرفع قدرا من الخطيب وهم إليه أحوج لردّه مآثرهم عليهم وتذكيرهم بأيّامهم. فلما كثر الشعراء وكثر الشعر صار الخطيب أعظم قدرا من الشاعر 10".

وجاء الجاحظ أيضاً بتفصيل أوفى في هذا الموضوع فقال 11: كان الشاعر في الجاهلية يقدّم على الخطيب لفرط حاجتهم الى الشعر الذي يقيّد عليهم مآثرهم ويفخّم شأنهم ويهوّل على عدوهم ومن غزاهم، ويهيّب من فرسانهم وبخوّف من كثرة عددهم، فيهابهم شاعر غيرهم فلما كثر الشعر والشعراء، واتّخذوا الشعر مكسبة، ورحلوا به الى السوقة وتسرّعوا الى أعراض الناس صار الخطيب عندهم فوق الشاعر".

خصائص الشعر الجاهلي:

كانت البادية بيئة الشعر الجاهلي، ولذلك كان الشعر مرآة للحياة البدوية، يدور حول الجمل والطلل. ومع أنه قد نبغ في المدن شعراء، فإن فحول الشعر كلهم من أهل الوبر (سكان الخيام: البدو)، ولم يعترف الجاهليون ولا علماء الشعر المسلمون بتقدُّم شاعر قروي (مدني) على شعراء البادية.

وعلى هذا يُنظر أن نرى خصائص الشعر الجاهلي تدور حول البادية وما فيها إلا قليلا من ألوان الحضر التي عُرضت في شعر شعراء ذهبوا الى بلاطات فارس والعراق والشام كألأعشى والنابغة مثلا. فمن تلك الخصائص:


*301*

أولا - الخصائص المعنوية:

(أ) الصدق - الصدق في الشعر أن يعبّر الشاعر عما يشعر به حقيقة مما يختلج في

نفسه، ولا يتكلف في إيراده، بقطع النظر عما إذا كانت الحوادث التي يذكرها قد وقعت أو لم تقع أو كان مبالغا فيها. فليس من الضروري مثلا أن يكون قول عمرو بن كلثوم:

مَلأنَا البّرِّ حَتّى ضاقَ عنّا وَماءُ الْبَحْرِ نَمْلَؤُه سَفِينا

صحيحًا (ونحن نعلم أنه غير صحيح). لكن المهم أن عمروا كان يشعر هذا الشعور فجاء بيته هذا صادقا في التعبير عن شعوره هو

(ب) النزعة الوجدانية - والشعر الجاهلي وجداني في الدرجة الأولى، يصف نفس قائلة وشعره. حتى أن الشاعر القديم كان إذا عرض "لبحث موضوعي واقعي: كوصف الصيد والحرب أو كالحكمة والرثاء، لونّه بشعوره هو فانقلب الموضوع الواقعي في شعره موضوعًا وجدانيًا. والأدب في الحقيقة هو الإنتاج الوجداني المطبوع. ووصف ابن قتيبة الشاعر المطبوع فقال فيه 12 هو" من سمح بالشعر واقتدر على القوافي، وأراك في صدر بيته عجزه، وفي فاتحه خاتمته، وتبيّن على شعره رونق الطيع ووشي الغريزة، وإذا امتحن (بإنشاد شعره) لم يتلعثم ولم يتزحّر 13". ولذلك كره النقاد أشعار العلماء إذ ليس فيها شيء جاء عن إسماح أو سهولة كشعر الأصمعي وشعر ابن المقفّع وشعر الخليل (بن أحمد)، وسواهم 14. ولعلّهم من أجل ذلك أيضًا فضّلوا أشعار البدو على أشعار الخضر لما في أشعار البدو من الطبع في القول والعفو في النظم، ولما في أشعار الحضر لما التكلّف بعوامل من العلم والمداراة وتعقّد الحياة الاجتماعية.


*302*

(ج) البساطة - إن الحياة الفطرية والبدوية والقدم في الزمن عوامل تتضافر على جعل الشخصية الإنسانية ساذجة بسيطة، كذلك كانت البيئة الجاهلية، وكذلك كان أثرها في الشعر الجاهلي.

جرى الشاعر الجاهلي على طبعه وسجيّته فلم يتكلّف القول في ما لم يشعر به ولا تكلف الاحاطة والشمول ولا التخريج والتعليل ولا التعقيد في ما شعر به. إن الطبع والسجية والبساطة والصدق تتمثل كلها في قول عنترة يخاطب عبلة:

ولَقَد ذَكَرْتُكِ وَالرِّماحُ نَواهِلٌ مِنّي وَبِيضُ الْهِنْدِ تَقْطُرُ مِنْ دَمي،

فَوَدَدْتُ تَقْبِيلَ السُّيُوفِ لأنَّها لَمَعَتْ كَبارِقِ ثَغْرِكِ الْمُتَبَسِّمِ!

(د) القول الجامع - كانت الصفة الغالبة على الشعر الجاهلي أنه "شعر وجداني"، من أجل ذلك كان معرضا للأراء المفردة أكثر منه معالجة مستفيضة لشؤون الحياة. ولقد مال العرب عموما والجاهليون خصوصًا الى استجماع القول حتى كان البيت الواحد من الشعر يجمع معاني تامة، وصارَ الأقدمون يفتخرون بذلك. وقد أعجب النقاد بقول إمرئ القيس:

قِفا نَبْكِ ذِكْرى حَبيبٍ وَمَنْزِلِ بِسِقْطِ اللّوَى بَيْنَ الدَّخولِ فَحَوْمَلِ

وقالوا: إنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في بيت واحد!

(ه) الإطالة والإستطراد - وكان يحمد في الشعر الجاهلي أن يكون " طويل النفس" أي أن يطيل القصائد. وقد يخرج الشاعر أحيانًا عن الموضوع الأساسي الى موضوعات تتعلق به من قرب أو من بعد، وهذا يُسمّى الاستطراد.


*303*

وقد أثر عن الجاهلية مقطّعات قيل إن أكثرها كان في الأصل قصائد طوالا ثم نُسي بعضها. ومع العلم اليقين أن الشاعر الجاهلي نظم مثل هذه المقطّعات ابتداء، فإن الغالب على طبعه الجاهلي أنه كان يميل الى اطالة القصائد.

(و) الخيال - وإذا كان اتساع أفق الصحراء قد أدّى الى اتساع خيال الشاعر الجاهلي فإن هذا الشاعر الجاهلي كان فطريًا بسيطًا كبيئته.

ولعلك لا تستغرب إذا علمت أن الشعراء الذين اتصلوا بالحضر كالأعشىى وامرئ القيس والنابغة كانوا في خيالهم أوسع وأعمق وأدق كما ترى في معلقة امرئ القيس عند الكلام على البرق والمطر ولا ريب في أن الخيال في الجاهلة كان لا يزال يعتمد على التشابيه والاستعارات أكثر من اعتماده على انتزاع الصور الطبيعة.

ثانيًا - الخصائص اللفظية:

(أ) غرابة الألفاظ وجزالتها -

إذا قرأنا نحن اليوم بعض الشعر الجاهلي وقعنا في أكثره على "كلمات غريبة"، أي كلمات غير مألوفة في مخاطباتنا وكتاباتنا في عصرنا هذا. ويجب أن نشير الى أن الكلمات كانت يومذاك "فصيحة" أي مأنوسة مألوفة، ذلك لأن ممارسة الجاهلي للحياة 'بين الخيام وعلى الإبل جعلت كل كلمة تتعلق بالخيام والأبل مألوفة عنده، ولكن لما. انقطع ما بيننا وبين هذا النوع من الحياة انقطعت بيننا وبين الكلمات الدّالّة عليها وعلى أوجهها وادواتها وألاتها - على ما ترى في وصف طرفة للناقة في معلقته مثلا. على أن الكلمة الغريبة قد تكون جميلة في اللفظ نحو رئال (نعام) وقد تكون وحشية أو حوشية مستكرهة في اللفظ، نحو بعاق(مطر). والكلمة الجزلة هي الكلمة الفخمة التي تقع موقعها من الاستعمال.


*304*

(ب) متانة التركيب وبلاغة الأداء -

والتركيب في الشعر الجاهلي متين، أي صحيح يجري على قواعد اللغة العربية، والتركيب فيه تقديم لفظ في غير محله أو تأخير لفظةٍ الى غير مكانها الذي تقتضيه أساليب العرب، أو زيادة حشو لا فائدة فيه أو حذف لغوي لغير سبب نحوي.

وكذلك كانت تراكيبه بليغة، أي تؤدي المعاني المقصودة منها في الأحوال المناسبة، إما حقيقة وإما مجازًا، بتشابيه واستعارات وكنايات تفصح عن المعاني وتكسو الأفكار قوة وبروزًا، من غير تأثر بعجمة أو لحن عامّي. وقد نجد في الشعر الجاهلي بضعة ألفاظ من الجناس والطباق ولكنها غير مقصودة وإنما وقت هنالك اتّفاقًا، ولعل شاعرها لم يفطن إليها.

(ج) العناية والتنقيح -

وبما أن الجاهلي كان يجري في شعره على سجيته وطبعه فإنه لم يتكلف عادة في ما كان ينظم بل كان يلقيه الى الناس كما يخطر له ويدور في باله. ولكن هنالك نفر يأخذون شعرهم بالعناية والتنقيح، وقد سمّاهم رواة الأدب "عبيد الشعر" لأنهم يتكلفون إصلاحه (بعد نظمه) ويشغلون به حواسّهم وخواطرهم. وقدوا عدّوا من هؤلاء النابغة وزهيرا والخطيئة وطُفَيْلا الغَنَوِي. واشتهر من بينهم زهير بقصائده "الحَوْلِيات"، أي التي كان يقضي حَوْلاً (عاما) كاملا في نظم كل واحدة منها وتنقيحها وعرضها على النّقَدَة (العمدة 1: 108، 112).

وأراد الجاحظ تعليل ذلك فقال 15: "ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولا (كَريتا كاملاً) وزمنًا طويلاً، يردّد فيها نظرهُ ويجيل فيها عقله ويقلّب فيها رأيه، اتّهاما لعقله وتتّبعا على نفسه فيجعل عقله ذماما على رأيه، ورأيه عيارا على شعره اشفاقا على أدبه واحرازًا (صيانة) لما خوّله الله تعالى من نعمته.


*305*

وكانوا يسمّون تلك القصائد الحولّيات والمقلدات والمنقّحات والمحكمات ليصير قائلها فحلا خنذيذا وشاعرًا مفلقا".

أغراض الشعر وفنونه:

الأغراض هي الموضوعات التي يتناولها الشاعر عرضا في قصيدته، وهي عادة "أمور ممهدة" للفنّ (الغرض الرئيسي) الذي يرمي إليه الشاعر. ولقد كان الوصف والنسيب في القصيدة الجاهلية غرضين رئيسيين. وأغراض الشعر الجاهلي كثيرة منها:

1. وصف الأطلال: يأتي الشاعر لزيارة حبيبته فيجد أهلها قد رحلوا بها عن المكان الذي عهدهم نازلين فيه، فيقف على أطلال الخيمة (المكان الذي كانت الخيمة منصوبة فيه) فيصفه ويصف ما حوله وينسب بالحبيبة ويتشوق إليها.

2. وصف الراحلة: وكذلك يصف الشاعر الراحلة أو المطية (الناقة أو الفرس) التي يركبها للوصول الى الحبيبة أو الممدوح...

3. وصف الصيد: وتصيّد الجاهلي لسببين: إما طلبا للمعاش كما كان يفعل الصعاليك العرب، أو طلبا للهو كما كان يفعل امرؤ القيس، أو لأنه كان يخرج في حاشية الملوك الذين يذهبون الى الصيد كالنابغة.

4. وصف الطبيعة: ويصف الشاعر عادة ما يراه في أثناء رحلته من صحراء أو أودية أو مطر أو رياح أو نهر. وأشهر الوصافين في الجاهلية امرؤ القيس.

وأصاب ابن رشيق لما قال 16: الشعر، إلا أقلة، راجع الى الوصف، ولا سبيل الى حصره واستقصائه. وهو مناسب للتشبيه ومشتمل عليه وليس به، ولكنه كثيرًا ما يأتي في أضعافه 17. والفرق بين الوصف والتشبيه وان هذا (الوصف) إخبار، حقيقة، وأن ذلك (التشبيه) مجاز وتمثيل.


*306*

ومع الأيام تفرّع الوصف أبوابا في الشعر فأصبح وصف النساء غزلاً ووصف الخمر خمريات، ووصف الصيد طردا. وهكذا إذا قلنا نحن اليوم "الوصف" عنينا الوصف المطلق أو وصف الطبيعة مما فيها من حياة: نبات وحيوان أو من موات كالجبال والأنهار والنجوم والأودية والثياب والهياكل وما سوى ذلك.

والوصف في كل شيء نوعان: خيالي وحسّيّ. فالوصف الخيالي يعتمد التشبيه والاستعارة ويحاول أن يستحضر الموصوف من الذاكرة. أما الوصف الحسي فهو تصوير للموصوف. ولا ريب في أن الوصف الحسّي أبلغ وأجود وأندر وأكثر صعوبة من الوصف الخيالي، وقد ذكر أبو هلال العسكري الوصف فقال (ص 128):"أجود الوصف ما يستوعب أكثر معاني الموصوف، حتى كأنه يصور الموصوف لك فتراه نصب عينك". وأورد ابن رشيق قولا بارعًا لبعض معاصريه يقول فيه (2: 279) "أبلغ الوصف ما قلب السمع بصرا".

(5). الحماسة: وهي وصف المعارك والفخر بالنفس أو بالأسلاف. والحماسة أيضًا تتضمن المعاني التي تدل على "الصبر على الحوادث والتجلد على الأيام" وعلى عدم المبالاة. بما ينشأ عن التحول عن الإلف وترك الصديق والعشير. لأن ترك الوطن والإخلال بالعشيرة ربما أدّى الى التخاذل والتقاتل، فالصبر عليه كالصبر على القتال". كما يقول التبريزي 18

6. الأدب: ويسمى الحكمة أيضًا، هو ذكر آراء صائبة في الواقع أو توافق المنطق أو توجز نتائج الاختبار الطويل في ألفاظ يسيرة. وليس من الضروري أن ترد الحكمة على لسان العلماء والأذكياء وأصحاب الإختبار في الحياة فقط، فلقد جرت أقوال من الحكمة البالغة على ألسن نفر من الجهال وصغار السن ومن لا يكادون يُبيتون في كلامهم. والأمثال على لسان الحيوان تدخل أيضًا في باب الحكمة، وكذلك التنهيد والمواعيظ 19.


*307*

7. الغز: تعبير عن عاطفة أصلية في الإنسان أصالة الحاجة الجنسية فيه؛ يتغزل الجاهلي بالمرأة وحدها، إلا أن غزله هذا جرى مجريين: مجرى عفيفًا ومجرى صريحًا. أما الغزل العفيف فكان في البادية في الأكثر، وكان عفيف المعنى عفيف اللفظ، وقل ما صرّح الشاعر المحب باسم حبيبته في الشعر. من أجل ذلك كان الغزل العفيف نسبيًا يدور حول بث الشوق وتذكر الأيام الماضية والرغبة في لقاء الحبيبة، ويقل الغزل الصريح (وصف الأعضاء الظاهرة في المرأة) في هذا النسيب. ويحسن أن نلاحظ أن الغزل كان يُقال في المتزوجات أكثر مما يُقال في العذارى. حتى ذلك الذي كان يُقال في العذارى كان يجري في لفظ يدل على متزوجة: أم الحويرث، أم الرباب، وكان إذا تغزّل المحب بحبيبته وصرح بإسمها منعوه من الزواج بها، وربما خلعوه وأخرجوه من القبيلة أو نفوه عنهم مرة واحدة.

والبدوي الذي كان يسلك سبيل الغزل الصريح كان مغرما بالصفات الجسمانية البارزة في المرأة: كان بحب المرأة الفخمة التي يضيق الباب عن جسمها والتي تعجز عن أن تنهض من الأرض إلا بمعونة جواريها. وكان الجاهليون يحبون الحور (شدة البياض في بياض العين وشدة السواد في سوادهما). وكانوا يحبون الشعر الكثيف الوافر (الطويل)، الأسود الجعد، ويحبون الرأس البيضاوي الذي يكون فيه الخد أسيلا (طويلا) كما يكرهون اللون الأمهق (الذي لا يخالط بياضه حمرة أو صفرة). وكذلك كانوا يحبون العنق الطويل.

وكان أهل الحضر يحبون المرأة العبلة الرعبوبة التي لا تبلغ في السمن مبلغ تلك

التي يضيق الباب عنها. وذلك قول امرئ القيس في معلقته: " مهفهفة بيضاء مفاضة".


*308*

وكان الجاهليون من أهل الحضر يحبون أن يغامروا في سبيل الوصول الى المرأة فكانت المرأة المنيعة المتصوّنة المحاطة بالحراس والأسوار أحب إليهم من المرأة المبتذلة، بينما البدوي كان يفضل الوصول الى المرأة من أيسر سبيل.

والشاعر العفيف الغزل، سواء أكان بدويًا أم حضريًا، كان يغلب عليه الميل الى امرأة واحدة يجد فيها نعيمه وشقاءه، وسواء أكانت هي تبادله حبا محب أم لا تبادله، كما رأينا في شأن عنترة مثلا فقد وقف سعادته على الزواج بعبلة. ثم أن عبلة تزوّجت وظل هو يقول فيها الشعر ويتحبّب إليها.

8. الفخر: الفخر من توابع العصبية والحياة القبلية وكان الشاعر يفتخر بقومه أولاً وبنفسه ثانيًا ومقّومات الفخر في الجاهلية كانت: شرف الأصل وكثرة العدد والشجاعة والكرم وما يتفّرع منها. ويزيد الفخر بالنفس على الفخر بالقبيلة "السيادة"، وذلك أن يكون المفتخر بقومه قد أصبح سيدًا في قومه، وفي سن باكرة على الأخص. كان البدوي خاصة يفتخر بالنجدة (الاسراع الى معونة الآخرين من ذات يده لأو ذات نفسه أو بسيفه). كان أيضًا يفتخر بشرب الخمر وإسقائها (لأن الخمر كانت في الجاهلية نادرة غالية الثمن).

9. المدح: كان الجاهليون يمدحون بالمكارم التي كانوا يفتخرون بها. والمدح في الجاهلية كان فريقين: مديحًا للشكر وللإعجاب يغلب على أهل البادية كما نرى عند امرئ القيس وعند زهير بن أبي سلمى، ثم مديحًا للتكسب يغلب على الحضر وساكني الحضر والمترددين على الخضر، كما نرى عند النابغة والأعشى.

10. الرثاء: والرثاء في الحقيقة مديح لميت. ولذلك نجد الجاهليين يرثون بالخصال التي كانوا يفتخرون بها ويمدحون. ولا ريب في. أن رثاء الأقارب كان في العادة أقرب الى العاطفة. ويصل بالرثاء النواح، وهو الشعر الذي تنوح به النساء على الميت. ويبدوا أن النواح كان في الجاهلية قد قطع شوطًا بعيدًا من التقدم


*309*

حتى أصبح فنًا وصناعة وحرفة، فقيل في أمثالهم: "ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة".

11. وكذلك الهجاء: كان نزعًا لتلك الصفات الحميدة عندهم عن المهجو ووصمه بأضدادها: بضعة الأصل وقلة عدد القبيل والجبن والبخل. ولكن مما يلفت النظر أن الجاهلي كان يهجو بالعيوب النفسية الخُلقية ولم يهج بالعيوب الجسمية الخَلْقية.

والهجاء بدرره كان فريقين أيضًا: هجاء قبليّا، وهو الأشهر والأكثر، ثم هجاء شخصيًا في الأقل. إن الحياة القبلية كانت تستتبع أن يكون الهجاء أو العداوة التي تقتضي الهجاء قبليا. ولكن لم يكن ثمة مفر من أن يخاطب الشاعر القبيلة المهجوّة بالتوجّه بالكلام الى شاعرها. ألم يكن الشاعر هو الرافع لشأن القبيلة وممثلها؟

والشاعر الجاهلي يَطرق في معلقته عادة جميع هذه الأغراض ويمر بها مرا خفيفاَ.

إلا أنه يتكئ على غرض واحد منها في الأكثر أو على غرضين يجعل منهما الموضوع الأساسي المقصود من المعلقة كلها كالغزل والوصف عند امرئ القيس أو كالإعتذار عند النابغة.

فنون الجاهلية:

الفنّ "موضوع" مقصود لذاته يعالجه الشاعر بتوسع، وقد يقصر عليه القصيدة كلها أو أكثرها، وبكلمة أوضح: إن الغرض إذا تطور واتسع أصبح فنًا. فالغزل مثلاً "غرض" إذ كان في أبيات قليلة وفي مطلع القصيدة في المديح مثلاً، ولكنه فن "إذا كان مقصودًا لذاته في قصيدة تامة أو شبه تامة، وقد نسميه أيضًا بابا من أبواب الشعر.


*310*

شكل القصيدة الجاهلية:

إذا رجعنا الى القصائد الجاهلية الطوال، والمعلقات منها على الأخص، رأينا أن الشعراء يسيرون فيها على نهج مخصوص: يبدأون عادة بذكر الأطلال – (وقد بدأ عمرو بن كلثوم مثلاً بوصف الخمر) - ثم ذكر الحبيبة، ثم ينتقل أحدهم الى وصف الراحلة ثم الى الطريق التي يسلكها. بعدئذٍ يخلص الى المديح أو الخمر (إذ كان الفخر مقصودا كما عند عنترة). وقد يعود الشاعر الى الحبيبة ثم الى الخمر. وبعدئذٍ ينتهي بالحماسة (أو الفخر) أو بذكر شيء من الحكم (كما عند زهير) أو الوصف (كما عند إمرئ القيس). ويجدر بالملاحظة إن في القصيدة الجاهلية أغراضًا متعددة، واحد منها مقصود لذاته (كالغزال عند امرئ القيس، والحماسة عند عنترة، والمديح عند زهير، والاعتذار عند النابغة).

هذا في المعلقات. أما في سائر القصائد الجاهلية فالأمر يختلف أحيانًا اختلافًا ظاهرًا. هنالك مقطوعات في الأدب أو في الوصف، أو الحماسة مستقلة بنفسها وهنالك أيضًا قصائد تعالج موضوعًا واحدا كقصيدة عروة بن الورد:

اقِلّي عَلَيَّ اللَّوْمَ يا ابْنَةَ مُنْذِرِ وَنَامِي، فَإنْ لَمْ تَشْتَهي النَّومَ فاسْهري

فإنها سبعة عشر بيتًا تدور حول فكرة واحدة وموضوع واحد، هما أنَّ زوجته تلومه لأن رزقه قليل، فيبدي هو لها عذره ويقول لها إنه يود إلا يطلب الغنى إذا كان في الغنى مذلة له.

ذلك هو شكل القصيدة المألوف، ويبدو لنا أن الشعراء الذين كانوا يطمعون في الانشاد في عكاظ كي تعلق قصائدهم إذا ظفرت برضى المحكّمين كانوا ينسجون قصائدهم على هذا المنوال الرسمي المألوف، حتى أصبح ذلك النسق المألوف في


*311*

المعلقات مرغوبًا فيه وخصوصًا عند الممدوحين، فتعلّق به الشعراء المدّاحون تم احتفل به النقاد حتى غلب هذا الشكل المألوف للقصيدة على الشعر، ثم ظننا أنه لم يكن للعرب إلا ذلك النسق التقليدي.

والواقع أن شعراء الجاهلية من غير أصحاب المعلقات ومن غير المتعرضين يشعرهم للمدح كانوا يسلكون في النظم مسلكا طليقا من القواعد التي سيطرت على المعلقات والقصائد الشبيهة بالمعلّقات، حتى أن شعراء المعلقات أنفسهم كانوا يتحرّرون من تلك القواعد والقيود في معظم أشعارهم الباقية.

وكان للعرب نوع من الشعر يسمّى الرجز يصرّعون صدوره وأعجازه على

رويّ واحد، نحو:

دَعِ الْمَطايا تَنْسُمُ الْجَنوبا إنَّ لَهَا لَنَبأ عجيبا

مَا حَمَلَتْ إلا فَتىً كَئيبًا يُسرّ مِمّا أعْلَنَتْ نَصيبا.

وربما كان لكل بيت في صدره وعجزه قافية مختلفة من قوافي الأبيات الأخرى في الأرجوزة. وربّما كانت القصيدة من بحر الرجز وكان لأبياتها رويّ واحد، كما يفعل في القصائد.

والرجز وزن من أوزان الشعر العربي الأصيلة، وهو أقدم الأوزان العربية. ولقد أصاب بروكلمان 21 لّما قال إنه لا سبيل الى الزعم بأن بحر الرجز نشأ عند العرب من تأثرهم باليونان، وأن كان ثّمَّةَ شبهًا شكليًا ظاهرًا (خارجيًا) بين بحر الرجز العربي وبين الوزن اليوناني المعروف بإسم أيامبي والذي يألف المصراع فيه من أوتاد (والوتد لفظ مركّب من صوتين أحدهما قصير والآخر طويل نحو "علا": ع. لا).


*312*

صحة الشعر الجاهلي:

تطرق الشك الى صحة الشعر الجاهلي منذ أيام أئمة الشعر الأولين، قال ابن سلام 22:" فلما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم. وكان قوم قلّت وقائعهم وأشعارهم، وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار. فقالوا على ألسن شعرائهم. ثم كانت الرواة يعد، فزادوا في الأشعار. وليس يُشْكِلُ على أهل العلم زيادة ذلك، ولا ما وضع المولّدون، وإنما عضل 23 بهم أن يقول الرجل من أهل بادية - من ولد الشعراء أو من غير ولدهم - فيشكل ذلك بعض الإشكال".

ثم تناول المستشرقون هذا الشك فأفاضوا في الكلام عليه، ومن المستشرقين تناوله كتابنا المعارون لنا 24. وإذ كان الشك قد تطرق الى جميع ما يستند الى الأخيار المروية - وخصوصا ما كان قديما - والى ما كان مدوّنا في بعض الأحيان - فليس من المستغرب أن يتطرق الى الشعر الجاهلي أيضًا. فما خلاصة آراء الأئمة من علماء الشعر في هذا البحث؟

"الشعر الجاهلي" حقيقة تاريخية، ولكن بما أن العرب لم يدوّنوا هذا الشعر بل اكتفوا بأن يتناقلوه خلفا عن سلف وفي أزمنة متطاولة وفي أحوال مؤاتية أو غير مؤاتية فقد:

(1) نُسي بعضه فضاع.

(2) نسب الراوون بعض هذا الشعر، عمدا أو سهوا، الى غير قائلة.

(3) رغب بعض الأفراد بالدفاع عن أنسابهم أو باختلاف أحساب لهم ولأسلافهم

فعمدوا الى نظم أبيات أو مقطعات أو قصائد أو أنهم سألوا بعض شعرائهم المعاصرين لهم مثل ذلك ثم نسبوه الى شعراء متقدمين.


*313*

(4) كذلك أراد نفر من اللغويين أن يستروا خطأ وقعوا فيه فاختلقوا له شاهدا و "نحلوه" شاعرًا قديمًا أو دسّوه في قصيدةٍ قديمة معروفة. وربما فعل بعض رواة التاريخ والحديث، واللغة مثل ذلك. ولقد كان للنزاع بين الأحزاب السياسية على الأخص يد غير مشكورة في "نحل الشعر". وعلى هذا نشك نحن أيضًا في صحة بعض الشعر. الجاهلي، ولكن لا نشك فيه كله ولا نشك في الشعراء الجاهليين كذلك، ذلك لأن" الناحل" يستطيع أن يقلّد البيت والبيتين والقصيدة والقصيدتين، ولكنه لا يستطع أن يخلق شاعرا ولا أن يتلبس بشخصية شاعر. وإذا استطاع أن يتلبس بشخصية شاعر واحد فهل يستطيع أن يتلبس بشخصيات مشاهير الشعراء أمثال امرئ القيس وطرفة وعنترة والأعشى معا؟ أضف الى ذلك أن هنالك "اشارات متقاطعة" نراها في الدواوين المختلفة، فنرى عبيد أبن الأبرص يذكر معاصره امرأ القيس ثم نجد امرأ القيس يذكر فلانا فلانا، فكيف يتأتى لمن اختلق هذا. الشعر - سواء أكان فردا أم كانوا نفرا - أَن يلمّوا بذلك كله ويوفقوا بينه؟ ثم هنالك الاشارات المتأخرة في القرآن الكريم الى الشعر الجاهلي ثم الاشارات في دواوين الشعراء الأمويين والعباسيين الى الشعراء الجاهليين بأسمائهم وخصائصهم، كقول الفرزدق (ت - 110 ه، 728 ميلادي):

وَهَبَ القَصَائِدَ لي النّوابِغَ إذ مَضَوْا وأبو يَزيدَ وذو الْقُروحِ وَجَرْوَلُ

والْفَحْلُ عَلْقَمةُ الّذي كانَتْ لهُ حُلَلُ الْمُلوكِ كَلامُهُ لا يُنْحَلُ

وأخُو بَنِي قَيْس وَهُنَّ قَتَلْنَهُ وَمُهَلْهِلُ الشُّعَراءِ ذَاكَ الأوَّلُ

والأعْشيانِ كِلاهُما، وَمُرَقَّشٌ وَأخُو قُضاعَةَ قَوْلُهُ يُتَمَثَّلُ

وأخو بَنِي أسدٍ عَبِيدٌ إذْ مَضَى وأبو دُؤادٍ قولُهُ يُتَنَخَّلُ

وَأبنا أبي سُلمى زهيرٌ وابنُهُ وابنُ الفُريعِةِ حِينَ جَدَّ المِقوَلُ


*314*

الى آخر ما عدد. حينئذ انتصب له جرير (ت 110 ه) ونقض عليه معانية وَعَيَّره بترديد أسماء الشعراء الأقدمين:

حسِبَ الفَرَزْدَقُ أنْ تُسَبَّ مُجاشِعٌ وَيَعُدَّ شِعْرَ مُرَقَّشٍ وَمُهلْهِلِ

يعني جرير بذلك أن الفرزدق لا يستطيع أن يدفع السباب عن قبيلة مجاشع فينحرف الى الافتخار بشعر قدماء الشعراء.

إذا كانت ثمة أبيات مدسوسة على الشعراء الجاهليين، وإذا كانت هنالك قصائد قد نسب سهوا أو عمدا الى غير أصحابها أو غير زمانها، فلبس في ذلك كله ما يبرر الشك في الشعراء الجاهليين كلهم ولا في الشعر الجاهلي كله 32.

النثر:

الكلام نوعان مُرسَل ومنظوم. فالمرسل هو الذي لا يتكلف قائله في إلقائه شيئًا، وهو النثر العادي. وأما الكلام المنظوم فهو ثلاثة أجناس: الرسائل والخطب والشعر 33. فالكلام المنظوم هو الكلام الذي يخضع للعناية سواء أكان موزونا أو لم يكن. ذلك لأن الكاتب يتأنّق في الرسالة والخطيب بتأنّق في الخطبة كما يتأنّق الشاعر في القصيدة 34.

وبعض النّقّاد يفضل الكلام المنظوم (الموزون) على الكلام المنثور 35 كابن رشيق وأبي هلال العسكري. أما ابن الأثير فيروي أن المنثور أشرف من المنظوم لأن أسباب النظم أكثر وميدانه أوسع، لذلك كان عدد المجيدين من الشعراء أكبر من عدد المجيدين من الكتّاب 36.

والنثر أقدم نشأة ودورانا على الألسن من الشعر. إلا أن النثر لما كثر أصبح مبتَذَلا فلم يهتم العرب بروايته كما اهتموا برواية الشعر، حتى روى ابن رشيق قول من قال (1:8) إن "ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكّمت به من جيد الموزون، فلم يُحفظ من المنثور عُشره ولا ضاع من الموزون عُشره".


*315*

ومن خصائص النثر الجاهلي أنه كثير الفواصل والموارنة، مقتصد في السجع قليل الصناعة. ويدور النثر الجاهلي على الحكم والأمثال وعلى الخطب والوصايا.

والخطابة قديمة وعامة في جميع الأمم. ويروي الجاحظ أن الفرس أخطب الأمم كلها. والخطابة صعبة لحاجة الخطب الى البداهة والارتجال. والبدو أحسن خطبا من المولّدين ومن أهل المدن عامة، لأن البدوي بجري على الطبع والسليقة ولا يتكلّف في شيء. تكون الخطب طوالا وقصارا، إلا أن القصار أمحل لأنها أسرع علوقا بالذاكرة وأطول مُكثا فيها.

وفي أواخر العصر الجاهلي ارتفعت مكانة الخطيب وانحطّت مكانة الشعر، لأن نفرا من الشعراء كالنابغة والأعشى اتّخذوا الشعر مكسبة وتجارة.

وإذا كان الشك يتطرق الى الشعر، فإن تطرقه الى النثر أسرع وأكثر، ذلك لأن النثر غير منظوم فيسهل التلاعب به على الألسن. وبما أننا لسنا على ثقة من أن جميع النصوص النثرية قد رُويت لنا عن الجاهلية بلفظها الأول فقد أصبح لزاما على من أراد أن يتعرف الى أساليب الجاهليين في نثرهم أن يتلّمسها في القرآن الكريم، فإن حجة ذلك الأية الكريمة: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم (14:4)"، ففي القرآن الكريم جميع أساليب العرب.

ومن أوجه النثر في الجاهلية الامثال والوصايا وسجع الكهّان:

أما الأمثال فهي جمل قصيرة وجيزة تدل على صحة الرأي وصدق الاختيار. وربما

نشأ المثل من لفتة لشاعر في بيت من الشعر أو من برقة فكر لرجل أثناء حديث

فوافق ما ألفه الناس في حياتهم فأصبح قاعدة في السلوك الإنساني (خيرا أو شرًا) أو واقعا لا مفر منه. ومع أن المثل قول حكيم على كل حال، فإنه غير الحكمة. إن الحكمة قول صائب في حال مخصوصة، بينما المثل قول موافق للواقع يعمل الإنسان به. فمن أمثال الجاهلية المختلفة المراتب: " إنك لا تجني من الشوك العنب "(لا تنتظر الخير مما هو شرّ في نفسه) – "ألبس لكلّ حال لبوسها" – "قبل الرمي


*316*

يراش السهم ط (يجب أن يستعد المرء للأمر قبل أن يقدم عليه) - رب كلمة سلبت نعمة" - "كل فتاة بأبيها معجبة" – "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه".

وأما الوصايا فهي من باب الخطب، إلا أن الخطبة تُقال في الحفل بينما الوصية تُقال للفرد. أوصت إعرابية ابنةً لها تزوجت فنالت: أي بُنيةِ، إنّكِ فارقت الجو الذي منه خرجتِ، وخلّفت العشّ الذي منه درجتِ، الى بيت لم تعرفيه وقرين لم تألفيه. فاحملي عنّي عشر خصال تكن لك ذخرا: أصحبيه بالقناعة وعاشريه بحسن السمع والطاعة، إلخ...".

وأما سجع الكهّان فإنه أيضًا من باب الخطابة ولكن جمله أقصر. والسجع في فصول الكلام مطّرد لا تخلو جملة منه سجعة، ولذلك سُمِّي "سجع الكهّان".

ويقصد الكاهن الى أن يطوف على كلامه غموض شامل حتى يستنتج كل سامع من كلام الكاهن ما يريده هو وتلك خاصة عامة في كلام الكهّان عند جميع الأمم. قال عزّى سلمة: "والأرض والسماء والعُقاب والصَّقْعاء، واقعة ببقعاء"

الشرح:

(1) الصحراء (هنا): الأرض الفضاء، أي التي لا بناء فيها.

(2) طبقات الشعراء 10،4؛ راجع جمهرة أشعار العرب 11-14

(3) طبقات الشعراء 11؛ الشعر والشعراء ٣٦؛ البيان والتبيين.3:6، 4:34

(4) الشعر والشعراء 3؛ العمدة 1:7

(5) راجع المناقشة القّيمة اتلي خصها الدكتور ناصر الذين الأسد بهذا الموضوع في كتابه" مصادر الشعر الجاهلي" (ص 134 وما بعدها، وخصوصًا 169-182).

(6) قال أبو زيد القرشي (جمهرة أشعار العرب 45):" والقول عندنا ما قاله أبو عبيدة: امرؤ القيس ثم زهير والنابغة والأعشى ولبيد وعمرو (بن كلثوم) وطرفة، وقال المفضل:

هؤلاء أصحاب السبع الطوال التي تسمّيها العرب السُّمُوط، فمن قال إن السبع. لغيرهم


*317*

فقد خالف ما أجمع عليه أهل العلم والمعرفة". ويحسن آن نلاحظ أن نسخة الجمهرة المطبوعة تتضمن معلقة عنترة أيضًا. (راجع أيضًا العمدة 1:78).

أما أبو عبد الله الحسين بن أحمد الزوزني فقال في مقدمة شرح المعلقات السبع: "هذا شرح القصائد السبع أمليته على حد الإيجاز والاقتصار... "ثم نسقها كما يلي: إمرؤ

القيس - طرفة - زهير - لبيد - عمرو ابن كلثوم - عنترة - الحارث بن حلزة.

(7) العمدة 1:49.

(8) المِزْهَر: العود الذي يُعزف عليه.

(9) البيان والتبيين 4:45.

(10) البيان والتبيين 4:83.

(11) البيان والتبيين 1:241 راجع العمدة 1:66

(12) الشعر والشعراء 26، راجع العمدة 1:108 وما بعدها.

(13) أحدث صوتًا كأنما يريد أن يخرج منه شيئًا بالجهد.

(14) الشعر والشعراء 10-11.

(15) البيان والتبيين.9:2.

(16) العمدة 2:287.

(17) وفي تضاعيفه، في أثنائه.

(18) راجع المثل السائر 33-36

(19) راجع العمدة 101:1.

(20) راجع العمدة 1:85-61، تاريخ آداب اللغة العربية لزيدان 1:65-67، بروكلمان 1:56-57 الملحق 22:1 – 24، 90 – 92، دائرة المعارف الإسلامية (النسخة العربية)، تحت كلمة رجز.

(21) بروكلمان الملحق 23:1.

(22) طبقات الشعراء (ليدن) 14، راجع 3-4.

(23) معرفة الزيادة في الأشعار الصحيحة. عضل به: اشتد عليه صعب عليه.

(24) من أوفى ما كُتب في هذا الموضع وأرصنه الفصول: الثالث والرابع والخامس في كتاب" مصادر الشعر الجاهلي" للدكتور ناصر الدين الأسد، وكذلك ما جاء في تاريخ الأدب

العربي". تاليف بلاشير (69:1 وما بعدها.


*318*

(25) النابغة: لقب نفر من الشعراء، منهم النابغة الذبياني والنابغة الجعدي ونابغة بني شيبان. أبو يزيد (المخبل السعدي) وذر القروح (امرؤ القيس) وجرول (الحطيئة).

(26) والفحل علقمة (علقمة بن عبدة).

(27) أخو بني قيس (طرفة) والمهلهل (بن ربيعة).

(28) الأعشى: لقب من الشعراء يزيدون على ستة عشر عدًّا، الأعشى ميمون بن قيس، وأعشى باهلة، وأعشى ثعلبة وسواهم، وأخو قضاعة: أبو الطمحان القيني.

(29) عبيد بن الأبرص وأبو دؤاد الإيادي.

(30) وابنا أبي سلمى (بجير وكعب) وزهير (بن أبي سلمى) وابنه (عقبة بن كعب بن زهير) وابن الفريعة (حسان بن ثابت).

(31) الشك في النصوص القديمة عام في تاريخ الأدب عند جميع الأمم. راجع مثلا الشك في إلياذة هو ميروس (مقدمة الإلياذة لسليمان البستاني).

(32) الصناعتين 58، 137-139.

(33) الصناعتين 161.

(34) 7:1 راجع 8.

(35) المثل السائر 499-550.

تاريخ الأدب العربي، الجزء 1 بيروت 1961


*319*

الخطابة الإسلامية د. محمد خفاجي


*319*

كانت الخطابة في الجاهلية ضيقة قصيرة الآفاق محدودة المعالم والمظاهر أو كانت على الأقل هكذا فيما انحدر إلينا من آثار وتناهى إلينا من تراثها، وكان يشاركها الشعر في التعبير عن مناجي الفكر وخوالج النفس بل كان الشعر في أهم المواقف وأعظم الأحداث اللسان الناطق الذي يورث نار الحرب أو يشع لبنات السلم أو يلفت الناس الى فضيلة من الفضائل أو ينبههم الى أمر من الأمور.

ولأن الخطابة لم تكن مما تدون في الصحف أو تكتب في رِقاع أو يسهل على الذاكرة اختزانها لم يكن اهتمام القوم بها كاهتمامهم بالشعر. إنما يبعث عليها عندهم حدث طارئ، أو أمر مفاجئ ربما لم يكونوا قد أعّدوا له عدّته أو اتّخذوا له أهبته.

دواعي الخطابة في الإسلام: -

ثم جاء الإسلام فتهيأ للخطابة في ظله من نباهة الشأن وارتفاع الذكر وعلو المكانة ما لم يتهيأ لها من قبل.

وكانت أداة الدعوة واللسان الناطق كمحاسنها تشرح للناس أسرارها وتبين مزاياها وتوشح خفاياها وتحبب الناس فيها وتدلهم على الهدى والحق والرشد والصالح. وتجادل خصومها وتفند آراء المخالفين لها.

وإذا علمنا أن الكتابة لم تكن قد شاعت ولا فشت وأن الإسلام قد كره الشعر لما يحمل من المنافرات والمفاخرات وشدة الحمية أدركنا رسالة الخطابة في الإسلام وجسامة مهمتها وعظم شأنها وقيامها بكل أمر جلّ أو صغُر. اعتمد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من لدن قام بأمر ربه يدعو عشيرته الأقربين ثم كان يذهب الى أحياء العرب يعرض عليهم دعوته ويشرح في كل موقف عقيدته وكان


*320*

يلقى الناس في الأسواق العامة وفي مواسم الحج ويخطبهم ويقول لهم، قولوا: لا اله إلا الله تفلحوا. ثم انتقل الى يثرب يدعو الى الله على بصيرة ويقوم في مجتمعات جديدة يشرح لهم ببيانه، ويفيض عليهم من عذوبة لفظه وسماحة لسانه. وكانت تجيئه وفود العرب فيخطب في كل وفد يدعوهم الى الدين أو يبين لهم الأحكام الشرعية والأداب الدينية كما أمره رب العالين بقوله: "وأنْزَلْنا عَلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ" وكما كان يقول لهم صلى الله عليه وسلم. ألا أخبركم بأحبكم الي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقا الوطأون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون".

وكانت الخطابة لخلفائه من بعده أداة يرسمون بها سياستهم في رعاياهم ويحددون

دساتيرهم التي يلزمونها في حكم الناس ومعاملاتهم أو يحضون فيها على غزوة أو جهاد.

أسباب قوتها:

ولعل الذي مكّن للخطابة وجعلها منشورة الراية مرفوعة الذرى، يسرع إليها كل من واجهته مشكلة أو اختلجت في نفسه فكرة أو نقم من السلطان أمرا أو داخلته من الوالي ريبة في بعض تصرفاته. ولعل الذي مكّن لها ما أسبغه الإسلام على هذا المجتمع من صراحه وما غرسه فيه من حرية واسعة يستطيع بها الإنسان أن يراجع ويناقش ويجادل ويخاصم ويمدح السلطان أو يثلبه ويؤيده أو يخذله، وهذه الحرية قد اتسع مداها وامتد أفقها حتى شملت النساء، فلم تكن المرأة تسكت عما تظن أنه حق لها بل تخطب في ذلك وتتحدث وتجادل، لقد ذهبت امرأة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت يا رسول الله إني وافدة النساء إليك، ثم ذكرت ما للرجال من الجهاد والأجر ثم تساءلت: فما لنا من ذلك يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة للزوج واعترافا بحقه


*321*

يعدل ذلك وقليل منكن من يفعله - وقالت أخرى اي رسول الله غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما تحدثنا فيه، ولهم كذلك.

وكانت المرأة تعترض عمر بن الخطاب وهو يخطب فتراجعه حتى لقد يرجع عن رأيه ويقول: أصابت امرأة وأخطأ عمر، وكانت أم المؤمنين عائشة تخطب لتّرد على خصوم أبيها وتبين مآثره وتذكر مفاخرة. وكانت أم الخير بن الحريش البارقية تؤيد عليا كرم الله وجهه في سياسته وتخطب في ذلك الخطب التي تلهب النفوس وتثير الحماس وتدفع الناس دفعا الى مقابلة أعدائهم والكر عليهم بسيوفهم ورماحهم، حتى لقد وفدت الى معاوية بعد ان استقر له الأمر واستتب السلطان فسألها عن كلامها حين قتل عمار بن ياسر فقالت: لم أكن زورته من قبل ولا رويته بعد وإنما كانت كلمات نفثهن لساني حين الصدمة، فإن شئت أن احدث لك مقالا غير ذلك فعلت فقال معاوية: لا أشاء ذلك.

هذه بعض مآثر الحرية في الخطابة في ظل الإسلام.

ثم كان الجهاد في سبيل الله وما ستلزمه من تحميس الناس له وتحريضهم عليه، كذلك جعل أمور الدولة شورى بين المسلمين.

كان ذلك كله داعيا الى نهضة الخطابة وباعثا على رقبها وارتفاع شأنها. هذا الى ما في القوم من ملكه أصيلة في البيان ومطاوعة سهلة في أزمة الكلام حتى لم يكن يصعب عليهم قول أو يند عن أذهانهم خطاب.

موضوعاتها:

والدارس لأطوار الخطابة في هذه الفترة يلمس في وضوح كيف كانت تؤدي رسالتها في قوة ودأب لا يعوقها ضعف ولا يلوى بها فتور أو إعياء حتى نهضت بهذه الموضوعات:


*322*

1. دعوة الناس الى الإيمان بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، بدلا من المفاخرات والمنافرات التي كانت تهدف إليها الخطب في الجاهلية.

2. الحث على الجهاد والإستشهاد في سبيل الله وإثارة الإيمان والعقيدة في النفوس حتى تقبل على الحرب بعزيمة صادقة وهمّة متفانية، بدلا من الخطب التي كانت تدعو في الجاهلية الى السلب والنهب والأخذ بالثأر والتحريض على الغارة.

3. شرح آداب الدين وفضائله وتبيان اسراره ومزاياه ولفت الناس الى ما يصلحهم في دنياهم ويسعدهم في آخرتهم.

4. وليس أدل على شرف الخطابة من رعاية الإسلام لها حقَّ الرعاية من أنه جعلها جزءاً من العبادة في كل أسبوع وفي كل الأعياد وفي ما ينوب المسلمين من أحداث وملمّات.

5. وأخيراً لقد استعلمت الخطابة في كل ما جاشت به صدورهم، من دفاع عن رأي، أو تحمس لمبدأ، أو شرح لنهج سياسي، ونحو ذلك مما استلزمته الخلافة الإسلامية ونظامها الجديد.

مميزات الخطابة الإسلامية:

1. كانت تقوم على الاقناع والتأثير في النفوس، بالأدلة الساطعة، والبراهين الناصعة، وكثرة الاستشهاد بالقرآن الكريم، وأحياناً بالشعر ومأثور الكلام من حكمة ومثل.

2. كانت تلتزم في مبتدأها سمتا واحدا، هو حمد الله وتوحيده والثناء عليه هو وأهله، وقد ينضم الى ذلك الصلاة على رسول الله واتباعه، وكانوا يحرصون اشد الحرص على بدء الخطبة بالحمد، حتى عابوا على زياد خطبته التي خلت منه وسموها "البتراء"، وكانوا يحتمون الخطبة بمثل: "أقول قولي هذا وأستغفر الله لي


*323*

ولكم "وكان أبو بكر يختم خطبه بقوله: "اللهم اجعل خير زماني آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاك، "وكان عمر يلتزم في الآخر قوله: اللهم لا تدعني في غمرة، ولا تأخذني على غرّة، ولا تجعلني من الغافلين".

3. أما أسلوب الخطابة في هذا العصر فهو الأسلوب الفطري الذي يساوق الطبع ويوائم السليقة ولا يتعسف في لفظ أو فكرة أو خيال فهو لين هادئ أو ثائر عاصف على حسب المقتضيات ووفقا للأحوال مع وضوح اللفظ وسهولة الأسلوب والانسجام التام في بناء الكلمات وترك السجع المرذول وهجر الوحشي والبعد عن التكلف والايجاز في موضع الإيجاز والاطناب فيما يستدعي الاطناب والاكثار.

هيئة الخطيب:

أما ما بقي للخطابة من سماتها القديمة فهو القيام على نشز من الأرض، ولعل ذلك الاشراف على السامعين، ولعل ذلك أيضاً أصل سنة المنبر في المساجد وكتن الخطيب إذا قام للخطابة إعتمد على شيء في يده كسيف او قوس أو عصا وقد يجمع بين السيف أو القوس في يساره والعصا في يمينه "وكانوا يحرصون على اعتمار العمامة والأشتمال بالرداء وإصابة الاشارة وحسن الصمت وجهارة الصوت وتمام الوقار وكل يدعو الى التأثير في نفوس السامعين".

اشهر الخطباء:

وقد امتاز هذا العصر بكثرة الخطباء البلغاء كثرة رائعة وفي صدرهم الخطيب الأول الزعيم الروحي الأعظم محمد صلوات الله عليه ومن الخطباء ابو بكر وعمر وعثمان وعلي وعائشة وخالد وعبدالله بن عباس وعبدالله بن الزبير وأبو عبيدة عامر بن الجراح، ومعاوية، وسواهم من أعلام الخطباء والبلغاء، رضوان الله عليهم أجمعين.


*324*

ومن الخطباء المشهورين: عطارد بن حاجب بن زرارة وكان الخطيب عند النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول الجاحظ.

محمد خفاجي

من كتاب الحياة الأدبية في عصري الجاهلية والإسلام، القاهرة - الأزهر، بدون تاريخ

الخصائص الأدبية في العصر الأموي عمر فورخ


*324*

كانت مظاهر الأدب في العصر الأموي أربعة: الشعر والخطابة والترسّل ثم الراوية التي أدّت الى التأليف.

أما الشعر فقد عاد اشبه بالشعر الجاهلي في أسلوبه وفي كثير من أغراضه، ثم كان الجانب الأكبر منه وقفا على السياسة الحزبية العصبية، كما كان كثير من الشعر الجاهلي متعلّقا بالحياة القبلية. أما الخطابة فإن أسلوبها ظلّ الى حد كبير جاهليا، بينما أصبحت أغراضها إسلامية بحتة لصلتها الوثيقة بالدولة الإسلامية. وأمّا الترسّل فكان الفن الذي استجد في العصر الأموي.

الشعر:

على أن أبرز فنون الأدب الأموي وأوسعها نطاقاً كان الشعر. وكان هذا الشعر نفسه أنواعاً متعددة.

1. الشعر السياسي: الشعر السياسي هو الشعر الذي قاله الشعراء المناصرون لِلأحزاب السياسية المتنازعة على الخلافة في العصر الأموي. كان الشعر المستمر بين


*325*

الشعراء المتهاجين يُدعى النقائض. وبما أن النقائض انت فنا خاصا بالعصر الأموي وبارزا في الشعر جدا فإن القول فيها محتاج الى شيء من البسط.

النقائض:

"النقيضة" قصيدة يرّد بها الشاعر على قصيدة لخصم له فينقض معانيها عليه: يقلب فخر خصمه هجاء، وينسب الفخر الصحيح الى نفسه هو. وتكون النقيضة عادة من بحر قصيدة الخصم وعلى رويّها.

قال الأخطل (من البحر البسيط على رويّ "الراء المضمومة"):

خَفَّ الْقَطينُ فَراحُوا مِنكَ بَكروا وَازْعَجَتْهُمْ نَوىّ في صَرْفِها غِيَرُ

فأجابه جرير (من البحر نفسه وعلى الرويّ نفس):

قُلْ لِلدّيارِ سَقى أطلالَكِ المَطَرُ، قدّْ هِجْتِ شَوْقاً، وَماذا تَنْفَعُ الذّكَرٌ!

وقد تختلف أحياناً حركة حركة الرويّ في النقائض كقول الفرزدق (من البحر الكامل على الللام المضمونة):

إنَّ الذي سَمَكَ السَّماءَ بَنَى لنا بَيْتاً دَعائمُهُ أَعَزُّ وَأطْوَلُ،

فأجابه جرير (من البحر نفسه ولكن على اللام المكسورة):

لِمَنِ الدَّيارُ كأنَّها لَمْ تُحْلَلِ بَيْنَ الكِناسِ وَبَيْنَ طلحِ الأعزَلِ

فإذا قال أحد الخصمين قصيدة جديدة (ولو كانت استمراراً لمهاجاة قديمة) فإنه ينظمها عادة من بحر جديد وعلى رويّ جديد. إلا أن خصمه إذا ردّ على هذه القصيدة الجديدة تقيّد ببحرها ورويّها.

وربما اشترك في "المناقضة" بضعة شعراء، فمن ذلك مثلا قول الفرزدق يخاطب جريرا:

يَا ابنَ الْمُراغَةِ، وَالِهِجاءُ إذا الْتَقَتْ اْعْنَاقُهُ وَتَماحكَ الْخَصْمانِ ...

فقال جرير يردّ على الفرزدق:


*326*

لِمَنْ الدِّيارُ بِبُرْقَةِ الرِّوْحانِ إذْ لا نَبيعُ زَمانَنا. بِزَمانِ،

وقال الأخطل يردّ على جرير أيضاً:

بَكَرَ الْعَواذِلُ يَبْتَدِرْنَ مَلامَتِي والعالِمونَ، فَكُلُّهُمْ يَلحاني

والمختار في "النقائض" أن تكون طوالا، وفيها يفتخر الشاعر بنفسه وبقومه، وبفضائل نفسه كالشعر والكرم والشجاعة، ثم بأحساب قومه كالحروب التي انتصروا فيها والعهود التي وفوا لها والمحاسن التي أتوها من الكرم والدفاع عن الأعراض والقيام بشأن القبيلة وما له الى ذلك.

بعدئذ ينقّب الشاعر عن معائب خصمه فيذكرهم جميعاً بالعيّ والبخل والجبن، حقا أو باطلاً. ويذكر ايضا الحروب التي هُزموا فيها والعهود التي نقضوها والمخازي التي عرضت لهم. وإذا أعوزته المخازي أو أعوزه شيء منها لم يتأخر عن اختلافه.

وفي النقائض اقذاع شديد وفحش وبذاءة، إلا أن المتناقضين قد تعرضوا دائما للعيوب الخُلقية النفسية كالبخل والجبن والغدر والزنا، ولم يتعرضوا للعيوب الخلّقية الجسدية كالعرج والعور والاحديداب إلا نادرا (كالتعيير بالفقر وضعف الجسد عامة والعور مرة واحدة فيما أذكر، ولم يكن ذلك عند النقّاد محموداً).

وقد يمدح الشاعر خليفة أو أميرا بقصيدة يعرض فيها أيضاً لهجاء خصمه أو للرد عليه فتكون نقيضة.

وقد يرثي الشاعر إمرأته ثم يهجو خصومه كما فعل جرير:

لَوْلا الْحَياءُ لَعادَني اسْتِعبارُ وَلَزُرْتُ قَبْرَكِ، وَالْحَبيبُ يُزارُ

أفَأمَّ حَزْرَةَ، يا فَرَزْدَقُ عِبْتُمُ؟ غَضِبَ الْمَليكَ عليكُمُ يُزارُ

كَذَبَ الْفَرَزْدَقُ، فَما يُفَكُّ أسيرهُم، وَيُقتَّلُونَ فتَسْلَمُ الأوْتارُ

وقد يتغزّل الشاعر في قصيدة طويلة ثم على خصمه يهجوه كما فعل جرير أيضاً.


*327*

نشوء النقائض:

كانت النقائض تمثل جانباً من العصر الأموي، ذلك الجانب المضطرب بالتنازع على الخلافة مع ما يستتبعه ذلك التنازع من الأحوال: لقد دّلت على أن الحمية الجاهلية ظلّت ذات أثر في النفوس حتى بعد أن أنتشر الإسلام. ولكن أثر الإسلام وأثر الحياة كانا بارزين ظاهرين يزدادان مع الأيام اتساعاً ونفوذا الى النفوس، ويمكننا أن نرى لقيمة النقائض خمسة أوجه نوجز وصفها في ما يلي:

1. الوجه السياسي:

لقد صوّرت النقائض النزاع السياسي على الخلافة بين الأمويين وبين خصومهم. ومع أن الأمويين قد انتصروا في هذا النزاع انتصارا حاسما بيّناً، ومع أن الأحزاب السياسية الأخرى قد فقدت قوّتها الفعّالة، فإن تلك القوة قد تمثّلت في الشعور القبلي الذي بُعث من جديد. إن القيسيين (أنصار عبد الله إبن الزبير) قد وقفوا موقف المناوئ لليمانيين (أَنصار بني أميّة) في القلاقل المحلية التي امتلأ بها العراق والشام، ثم تعيين الولاة والعمال على الأنصار، ثم في الشعر.إلا أن شعراء النقائض لم ينسوا – في غمرة نزاعهم القبليّ المحلي – أن يشيدوا بعظمة العرب القومية وأن يشيروا الى اتساع الفتوح الإسلامية، المشرق: في فارس والهند والصين.

والشعراء الذين دخلوا في هذا النزاع لم يدخلوه وهم يحملون عقيدة أموية أو زبيرية أو علوية، وأنما دخلوه للتكسّب في الدرجة الأولى. حتى أن الشعراء الزبيريين انقلبوا بعد ذلك أمويين وكذلك لم يتورّع الفرزدق - وكان يمثّل العلويين - من أن يعرّض بآل البيت ويمدح بني أمية. وكذلك الأخطل النصراني مدح الخلفاء مدائح إسلامية الطابع تناقض عقيدته الدينية. على أن قليلين من الشعراء لم يفعلوا ذلك، فقد ظل الكميت العلوي على وفائه لآل البيت ولكنه مدح الأمويين تكسباً لما اضطر


*328*

الى التكسّب منهم. وأما عمر بن أبي ربيعة فإنه لم يمدح أحداً ولا قال في المناقضات قط.

2. الوجه الإجتماعي:

إن مجموع الشعر الأموي يدلّنا على أن البداوة ظلت غالبةً على المجتمع الأموي. أن الشعر الأموي مملوء بالمفاخر الجاهلية والبدوية كالفخر والأنساب وبأيام العرب - معاركهم الجاهلية) وبالكلام على الثأر.

وظل شعراء المناقضات حتى أواخر العصر الأمويّ يعدّون الحياة الحضرية في باب المعائب القومية، فالأخطل قد هجا الأنصار لأنهم زرّاون، وجرير ظلّ إلى آخر حياته يهجو بني مجاشع لأنهم قيون (حدّادون)، ذلك لأن القِيانة (الحدادة) وسائر الصناعات إنما كان يقوم بها العبيد.

أما ذكر جرير والفرزدق وغيرهما للصلاة والحج واقتباسات كلامهم من القرآن الكريم فظاهر. قد يكون الفرزدق وجرير قد شربا الخمر فعلا ولكنهما لم يصفاها، بل إن جريراً كان يعّير الفرزدق أحياناً بشربها.

3. الوجه اللغوي.

وللنقائض قيمة لغوية في ذلك، فشعراء المناقضات قد حفظوا اللغة العربية صافية كما كانت في الجاهلية:

أ. لقد حفظوا العدد الأوفر من الألفاظ حتى قيل: لولا الفرزدق لذهب ثلث اللغة، وقيل بل ثلثاها.

ب. وكذلك حفظوا لهذه الألفاظ جزالتها، فإن شعراء النقائض قد استعلموا هذه الألفاظ لتدل على معانيها الصحيحة التي لم تكن قد شُوهت بعد بالاختلاط بالأعاجم.


*329*

فالألفاظ التي حُفظت لنا، في النقائض، إذن كانت كثيرة، كان أكثرها غريبا متصلا بالمعاني الجاهلية القديمة. بل لعل قسما من ألفاظ النقائض كان أكثر غرابة من ألفاظ المعلقات.

وكذلك إذا نظرنا في التراكيب رأيناها تراكيب متينة تجري على الأسلوب العربي القديم. وهكذا نستطيع أن نقول: إن النقائض كانت مزيجا من معان قديمة وجديدة ولكن في لغة قديمة.

4. الوجه الأدبي:

كانت النقائض تقليداً واضحا للمعلقات خاصة: في شكل القصيدة وفي كثرة أغراضها وطول نفسها وفي كثرة خصالها الأخرى كالفخر بالأنساب والهجاء القبلي والنسيب في مطالع القصائد وكالغزل البدوي عفيفاً وصريحاً.

ومع أننا لا نعجب بالنقائض من الناحية الخلقية والإجتماعية فإننا لا ننكر أن شعراء المناقضات قد أضافوا الى الشعر العربي فنا جديدا هو فن الشعر السياسي، أو أنهم على الأصح قد وسّعوا هذا الفن – الذي ظهرت طلائعه منذ الجاهلية عند النابغة خاصة – توسيعا جعله فناً جديداً.

والنقائض قد قامت على "التكسّب"، بخلاف أكثر الشعر الجاهلي. إن شعراء النقائض عموما لم يميلوا الى حزب دون حزب بدافع المبدأ والعقيدة، بل مالوا الى كل حزب كان يفيض عليهم العطايا.

أما الخصائص الفنية في النقائض فيحسن أن تراجع في أماكنها الخاصة عند الأخطل والفرزدق وجرير.


*330*

ويحسن أن نشير إشارة خاصة الى ان الآراء الإسلامية والآيات الكريمة قد سادت المناقضات. لقد كانت النقائض قديمة بلغتها وأغراضها الممهدة، ثم كانت إسلامية بمعانيها الجديدة وفي بعض أغراضها.

2. الغزل والنسيب:

عاد الغزل والنسيب في العصر الأموي إلى الإزدهار بعد أن كانا قد أهمِلا قليلاً في صدر الإسلام الأول. لقد أنحدر الغزل الأمويّ من الغزل الجاهلي. غير أن هذا الغزل كان في الجاهلية غرضا من أغراض القصيدة يأتي في أبيات تقلّ أو تكثر وتتوالى أو تتفرّق، فلما أنحدر الى العصر الأمويّ أتيح له شعراء وقفوا جهدهم عليه كعمر بن ربيعة الذي جعل منه فنا قائما بنفسه: كان عمر يقصر القصيدة على الغزل فلا يكاد يقول فيها إلا غزلاً، ثم إنه لم يقل إلا في الغزل. ومع أن عمر بن أبي ربيعة لم يبتكر شيئاً من خصائص الغزل العامة، فإنه قد جمع معظم هذه الخصائص في شعره وأجرى الغزل في قصص وحوار حينا وفي نقاش واقناع حينا آخر. مثل ذلك فعل نفر كثيرون من الشعراء المغامرين الذين كانوا يتّبعون الجمال ويهيمون بالمرأة هياما يجرون فيه على مقتضى الطبيعة البشرية.

والنسيب أيضا فن جاهلي أصيل، غير أنه خضع في العصر الأموي لتطوّر بارز جدا: لقد تطور جانب منه فنشأ ما نسميه بالغزل العذري.

مع أن الغزل العذري أكتسب اسمه من قبيلة بني عذرة كثر فيها الشعراء الذين اختار كل واحد منهم أن يقتصر همه وشعره على امرأة واحدة يرى فيها وفي قربها سعادته وشقاءه ثم لا يلتفت الى إمرأة غيرها أيضاً، فإن مثل هذا الحب قد عُرف في قبائل أخرى كقبيلة بني عامر مثلا.

والمفروض أن يكون الغزل العذري غزلاً عفيفاً، وهو كذلك في الأكثر. غير أن الشعراء العذريين كانت تنازعهم نفوسهم الى كل ما كانت تصبوا إليه نفوس


*331*

غيرهم، ثم إذا هم وجدوا فرصة سلكوا مسلك الناس جميعاً في هذا الجانب من الحياة على أن الذي ظلّ يفصل بين الشعراء الذين نسميّهم عذريين وبين سواهم من الشعراء المّحبين أن هؤلاء العذريين لم يبالوا بامرأة غير تلك التي توهّموا حبّها. وقد تربط المرأة التي يتتّبعها المحب العذري مصيرها برجل أخر، ولكن محبّها يظل على وهمه الأول ينظم فيها الأشعار، ويضرب، في أزمات تذكّره لها، عن الطعام والشراب حتّى يهزل جسمه أو حتى يموت.

ولا ريب في أن الشعر العذريّ شعر عذب سهل محبّب الى النفس الإنسانية لأنه في الواقع يمثل النزوع الموجود في كل نفس الى الحياة الطبيعية في البشر. ولكن يجب ألا ننسى أن المحب العذريّ رجل ضعيف الشخصية أنه في الحقيقة ناقص الرجولة. إن الحنين الشعري في هؤلاء العذريين بجب أن يكون تعويضاً نفسانيًا لهم عما فقدوه من قدرة الشعراء المغامرين على التمتع بالحياة الطبيعية تمتّعاً كاملاً.

والمبالغة في الحب العذري أدت الى ظهور الشعراء المجانين، أولئك الذين ذهب عقلهم في تلك الأوهام التي كانوا يشبّحونها لأنفسهم في خيالهم. ومع أن شعر الشعراء المجانين غير ثابت على القطع لشعرائه، فإن هذه الطبقة من الشعراء كانت موجودة وكان لها شعر اختلط بعضُهُ ببعض.

3. الخمريات:

القول في الخمر غرض من أغراض القصيدة الجاهلية اتّسع عند الأعشى من غير أن يصبح فنًا مستقلاً ثم جاء الإسلام فغابت الخمر أو كادت. ومع أن نفرًا من الشعراء المسلمين، ومن المسلمين غير الشعراء أيضاً، قد شربوا النبيذ أو شربوا الخمر التي لم يكن ثّمة خلاف في تحريمها، فإن الشعراء المسلمين لم يقولوا في الخمر إلا في النادر كما رأينا عند أبي محجن الثقفي وكما سنرى عند نفر قليلين من


*332*

الشعراء الأمويين المسلمين. أما الأخطل المسيحي فقد جرى في شرب الخمر وفي القول فيها على سجيّته، كما سنرى ذلك وتعليل ذلك في ترجمته.

ولم يكن القول في الخمر متّسعًا في العصر الأموي، بالإضافة الى ما كان عليه في الجاهلية من قبل وفي العصر العباسي من بعد، ولا أصبح القول في الخمر في العصر الأموي فّنًا مستقلاً قائما بنفسه. ويحسن أن نزيد هنا أيضاً أنه لم يطرأ جديد على أوصاف الخمر في هذا العصر، وأن الخمر كانت لا تزال تنتظر أبا نواس (توفي سنة 199 ه) حتّى يوفيها حقّها وحتّى يجعل منها فنا قائما.

4. أما سائر فنون الشعر وأغراضه من الوصف والأدب (الحكمة) والمدح الخالص والهجاء الشخصي والعتاب فكانت قليلة جدا لم تبرز في العصر الأمويّ إذ غطّى عليها الهجاء القبلي والغزل.

الرجز:

الرجز نوع من أنواع الشعر، وهو في الحقيقة أسهل أنواع الشعر وأقلها تكلّفاً. والرجز في الأصل يجب أن يكون قد تطوّر من السجع، حينما أدخل نفر من الشعراء الوزن على المسجوعة والرجز بحر (وزن) من بحور الشعر تفاعلية.

مستفعلن - مستفعلن - مستفعلن - مستفعلن – مستفعلن - مستفعلن -

أما القافية في الرجز فلها مجريان أساسيان: أحدهما أن يختم في كل صدر عجز من كل بيت في المقطوعة الرجزية بقافية على رويّ واحد والثاني أن يُختم كل عجز فقط بقافية على رويّ واحد.

ويبدو أن القول في بحر الرجز كان في الجاهلية بديهة وارتجالاً في البيت والبيتين وفي القطعة بعد القطعة. أما العصر الأمويّ فقد عُني جماعة من الشعراء البدو في الأكثر، وكان منهم من لم يقل إلا رجزا. ثم أنهم تصرفّوا فيه مدحا وفخرًا وهجاء،


*333*

كما تأنقوا في أسلوبه وتكلّفوا فيه الأغراض والمعاني وحسن الصنّنعة كما كان يُفعل في سائر الشعر. كذلك كان للراجزين محاولات ومناقضات يشهدها الناس في مربد البصرة وفي غيره من الأماكن التي كان يكثر فيها اجتماع الناس عادة. ومن أشهر الرُّجّاز في العصر الأمويّ: الأغلب العجليّ وأبو النجم والعجّاج.

تاريخ الأدب العربي، الجزء الأول بيروت 1969

بعض صور اجتماعية يعكسها الأدب العباسي أنيس القدسي


*333*

(بتصرف)

1. كثرة الجواري والغِلمان:

من نتائج المال والترّف في العصر العباسي اقتناء الجواري والغِلمان وكان في بغداد

- كما كان في البصرة وسواها من الحواضر الكُبرى - سوق لبيع الرقيق من عبيد وإماء: حُكِيَ عن أبي دلامةَ الشاعر أنَّه مرّ ينخّاسٍ يبيع الرقيق فرأى عنده كلّ شيء، فانصرف مهموماً ودخل على المهدي فأنشده قصيدةً منها:

إن كُنتَ تبَغِي العَيشَ حُلوًا صافِيًا فالشّعرُ أَغرِبْهُ وَكُن نَخّاساً 1،

وذكر الأصفهاني أنّه كان للرشيد زُهاء ألفي جارية 2، وعن المسعودي: كان للمتوكّل أربعة ألاف جارية 3. ولم يقصّر الفاطميون في مصر عن العبّاسيّين في بغداد.

فقد كان في قصر أخت الحاكم بأمر الله ثمانية الاف جارية. ومِثل هؤلاء ملوك الأندلس وسواهم. على أنَّ ذلك لم ينحصر في قصور الملوك والأمراء، بل تعدّاهم الى منازل الخاصّة وأرباب اليسار من تّجار وملاكين وعلماء، ومن يليهم من طبقات


*334*

الشعب. فكانت أثمان الجواري تختلف من عشرات الدنانير الى الألوف. وقد يبلغ الشغف ببعض الأمراء أن يدفع مئات الألوف من الدراهم في سبيل إحداهُنَّ. وكانوا يتهادَونَ الجواري؛ فقد أهدى طاهر الى المتوكّل هديّةً (200) وصيفة ووصيف 4 بل كانت الامرأة أحياناً تهدي زوجها بعض الجواري كما فعَلت زبيدة مع الرشيد 5. وقد بلغ اهتمامهم بتثقيف الجواري والغِلمان وتعليمهم مبلغاً عظيماً؛ إذ ذلك يزيد أثمانهم ويعود بالرّبح على المتَّجرِين بهم.

ومع أنَّنا نجد في العصر العباسي بعضاً من النساء الراقيات علماً وثقافة، وأنَّنا نجد في كُتب التاريخ شواهد على أنَّه كان يتاح للفتاة أن تتعلَّم كالفَتى، لا نجد الأدب العبّاسي يعكس لنا من حالة المرأة ما يجعلها في مقام رفيع: خُذ الشعر مثلاً نجده من هذا القبيل نَوعَين: الهَزلي والجِّدي. فالهزلي كشعر أَبي نواس وأضرابه أَكثره مقرون بحياة الجواري اللواتي كُنَّ يُشتَرينَ ويُتَهادَى بِهنَّ. وهو يصور لنا عَبَثَ الشباب الماجِن. أما الجِّدي كشعر المعرّي فمُتَشائِم وهو ينظر الى المرأة في المنزل نظرة سوداء ولعله متأثر مما بلغته من التأخر الأخلاقي بعد أن زاحَمَتها الجارية فاعتُقِلت وحِيلَ بينها وبين الرُّقِيّ العلميّ والأدّبيّ. ويظهر ذلك في الأدب المنثور كما يظهر في الشعر. ولا يُستَثنَى من هذا الحُكم إلاّ قلائل لا يُبنَى عليهِنَّ حُكم عامّ. ومِمّا يذكَر هُنا ما بلغه بعضهم من التهتُّك والانحطاط الأخلاقي الاجتماعيّ، حتَّى صاروا يتخدمون الغِلمان كالجواري، ومن ذلك نشأَ غزَل المذكَّر كما نراه في شعر بعض من متهتّكي ذلك العصر.

2. مجالس الشراب والغناء: -

توفَّرَت في الحواضر ولا سيّما بين الخاصّة في بغداد مجالس الشراب، ولم تكُن تخلو منها قصور الحُكّام. وكان بعضهم يتذرّع الى ذلك بأنَّ الشرع حَلَّلَ نبيذ التمر. وعليه بَنى ابن خلدون دفاعه عن الرشيد إذ قال: (وإنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر على مذهَب أهل العراق، وفتاويهم فيها معروفة. وأمّا الخمر الصِّرف فلا سبيلَ


*335*

الى اتّهامهِم بها 6. على أنَّ شرب الخمر على أنواعها كان شائعاً كما يتبيَّن من دراسة الشعر العباسي، وكذلك مجالسة الندماء والمغّنين والقَينات. ولم يَكُن ذلك بِدعةً في الدولة العبّاسيّة، فقد سبقهم الى ذلك الأمويّون، وأخبار يزيد والوليد وسليمان وغيرهم كافية للدلالة على ما ذكرناه. فبعد أن كان المسلمون أيّامَ الرشدين يتحرَّجون من الخمر ويعاقبون شاريها، أصبحوا بعد ذلك يرون في بعض حلفائهم وزعمائهم مَن يسهِّل معاقرتها. وقد روى الأبشيهي أن الواثق كان يرقد في المكان الذي يشرب فيه، ويرقد معه ندَماؤه 7. وكان الشراب عادةً مقروناً بالغناء، ففي كلّ مجلس طرب عند الخاصّة يحضر أولو الفَنّ فيغنّون أو يرقصون، ويشرب الحاضرون، ويقضون وقتهم على ذلك. ومن أمثال ذلك ما نقله ابن الأثير عن الأمين أنّه أَمَرَ يوماً قَيِّمَةَ جواريه أن تهِّيئَ مائة جارية فتُصعِد إليه عَشراً بأيديهِنَّ العِيدان يغنّينَ بصوتِ واحدٍ 8. وكُتُب الأدب ملأى بأخبار المغنّين والمغنّيات، وما كان يُبذَل لهم من الأموال الطائلة.

3. نشوء حركة زهديّة مضادَّة لتَرَف العصر: لكل فعل رد فعل، وهكذا فقد رافق حياة المجون حركة زهدية واسعة اضم ايها الكثير من الناس من طبقات مختلفة.

4. التأنُّق في الفنون الحضَريّة: -

ويدخل تحتها تشييد المنازل ونسيج الثياب والمفروشات وطهو الطعام وبناء راكب وصنع الآلات الموسيقيّة، وما الى ذلك من أسباب الحضارة. قد بلغَت البلدان الإسلاميّة من ذلك في العصر العبّاسي مبلغاً عظيماً: زِد على ذلك القصور والمساجد التي كان يبنيها الملوك والأمراء في الحواضر الكبَرى، مِمّا يعكسه لنا الشعر لذلكَ العصر.


*336*

ولّما احتكَّ الصليبيّون بالشرقّيين وجدوا في رُقِيّ الشرق الصناعي والاجتماعي والزراعي ما حداهم الى اقتباس كثير من فنونه وعوائده، وقد رجعوا الى أوروبا يحملون معهم من الشرق ما كان له تأثير في نهضة أوروبا الاجتماعية في القرون الوسطى: كتربية دود الحرير وصناعة النسيج والسِّجّاد والسكَّر والزجاج والخَزَف والبارود وغيرها.

5. انتشار المدارس والعلوم:

ذكرنا قبلاً أن الأمّيّة كانت سائدة في العرَب قبل الإسلام، وأَنَّهم أخذوا بعد ذلك يخطون في سبيل الثقافة، وما عَتِموا أن أنشأوا حلقات العلوم الدينيّة واللغويّة في المساجد والكتاتيب البسيطة في القرى. ولمّا استقرّ الأمر للعبّاسيّين زادت حركة التعليم والتثقيف وتنظمَت دور العلم.

وأهَمّ مراكز التعليم في العصر العبّاسي: بغداد ودمشق ومصر والكوفة وقرطبة والقدس. ويليها حلَب وطرابلس ومدائن كثيرة من أقطار مختلفة.

ومن أسباب الرقيّ العلمي في هذا العصر تلك الحركة الكبيرة - أعني حركة النقل العلمي اليوناني والفُرس والهنود التي عرَّفَت أهل العربيّة بالعلوم الكَونيّة القديمة وأخرجَت منهم بعدَئِذٍ مشاهير في الطبّ والفلسفة والفلَك والرياضيّات والجغرافيا وسواها.

وأهم مظاهر الحركة الفكرية:

1.تنافُس الأمراء في العالم الإسلامي على بناء المدارس والكلّيّات والسخاء عليها.

2. نموّ حركة النسخ والتدوين وازدياد عدد الكُتب وانتشارها.

3. إنشاء المكتبات العامَّة والخاصّة.

4. حظوة العلماء والأدباء لَدى الملوك والأمراء.

5. الرحلات العلميّة من الأندلس الى الشرق وبالعكس.


*337*

6. المذاهب الفكريّة المختلفة ونشاط أربابها في الدفاع عنها.

7. اختمار العقليّة العربيّة بالعلوم الطبيعيّة والفلسفيّة.

كلّ ذلك أحدَثَ في العصر العبّاسي تجدُّداً ظاهر في الشعر الذي يمثّل تأثُّرَ الأمّة. بما يحيط بها من أسباب العمران.

أنيس المقدسي، أمراء الشعر العبّاسي مطبعة السروجي – عكا (بدون تاريخ)

مصادر وملاحظات:

(1) الأغاني 9-128 (في أخبار أبي دلامة).

(2) الأغاني 9-88 (في أخبار عُليّة).

(٣) مروج الذهب 7-276.

(4) المسعودي 7-281.

(5) الأغاني 16-137 (في أخبار دنانير).

(6) المقدمة 18

(7) المستطرَف لِلأبشيهي (بولاق) 2-187.

(8) إبن الأثير، 6-206 (في سيرة الأمين).


*338*

الغناء الأندلسي والموشحات والأزجال د. شوفي ضيف


*338*

(بتصرف)

لم يستطع شعراء الأندلس أن يحدثوا مذهبًا جديدا في الشعر العربي، فقد جمدوا غالبا عند التقليد والصّوغ على نماذج الشرق، وحقاً أنّ الأندلس عاشت في تَرف أحدثَ عندها اهتماما بشعر الطبيعة، كما أحدَثَ عندها نهضةً واسعةً في الغناء وما ينطوي عليه من الموشّحات والأزجال، غير أنّ صنيعهم في هذه الجوانب اقتصر على الشكل، ولم يجاوزه الى الصياغة العقليّة والشعورية؛ فكُل ما لهم في شعر الطبيعة إنّما هو الكثرة، أما أفكارهم وأمّا طرقهم في الوصف ومناهجهم فكل ذلك يتعيرونه من الشرق استعارةً وينقلونه نقلاً، حتى ما نجده عندهم أحياناً من التشخيص وبعث الشعور في الطبيعة قد تَأثروا فيه العبّاسيين من أمثال أبي تّمام وابن الرومي. ولَعلَّ الغناء وما تبعه من موشّحات وأزجال هو الجانب الطريف في دراسة الشعر الأندلسي؛ فقد سارَعت الأندلس الى العناية بالآداب الشعبية، ولكن ينبغي أيضًا أن لا نبالغ في ذلك؛ فإنَّ هذه العناية لم تُحدِث كما نقول تغييرا في صياغة التفكير الفني عند الأندلسيين، إنما كلّ ما هناك أنّهم يتخلّصون من التقيُّد بالوزن، كما يتخلّصون من التقيُّد بالقافية الواحدة؛ وهذا كل ما عندهم من جديد، وهو تجديد شكلي اضطرَّتهم إليه ظروف الغِناء، وحقاً هُم قد جدّدوا كثيراً في الأوزان، ولكنّا عرفنا في غير هذا الموضع انّهم لاسُبِقوا بذلك، سبقهم العبّاسيون إذ أوشكوا أن يغيروا صورة (الرتم الموسيقية) القديمة تغييراً تامّاً، وإذن لا يبقى للأندلسيين في موشحاتهم سوى التجديد في القافية، وهو ضرب من الحريّة في صناعة المقطوعة أوجَدته ظروف إنشاد المغنين مع الجَوقات للشعر. ونحن لا يمكن أن نعتّد بهذا الجانب كمذهب جديد في الشعر العربي إلا إذا كُنا مِمَّن يُؤمنون بالشكليات ويتَّخذونها أصولاً للمذاهب الفنيّة.


*339*

والحق أنّ شخصيّة الأندلس في الشعر العربي لم تكن قوية، ومع ذلك فإنّها استطاعت أن تحدث شيئاً جديداً في الشعر الى حدّ ما يتجاوب مع بيئتها وما كان فيها من تَرَف وَلذّة ونعيم، وهو هذه الموّشحات والأزجال التي تعبّر عن موجة واسعة من الغناء والموسيقى، وقد نَشأت هذه الموجة مع زِرياب وغيره من مغنّي المشرق 1 ومغنّياته من أمثال فضل وعلم وقلم وقمر والعجفاء 2. فشاع الغناء وشاعت الموسيقى وكثر المغّنون والمغنيات وظهرت الجوقات المختلفة، واتّصل ذلك كله بالشعب وأعياده، بل يظهر أنّه اتّصل بحياته دائماً في عيد وغير عيد، حتّى لَنجد التجيبي يقول: (كنت بمدينة مالقة من بلاد الأندلس سنة سِتّ وأربعمائة، فاعتللت بها مدة انقطعت فيها عن التصرُّف ولزمت المنزل، وكان يمرّضني حينّئذ رفيقان كانا معي، يلمّان من شعثي ويرفقان بي، وكنت إذا جَنَّ الليل اشتدَّ سهري وخفقت حولي أوتار العيدان والطنابير والمعازف عن كلّ ناحية، واختلطت الأصوات بالغناء فكان ذلك شديداً عليَّ وزائداً في قلقي وتألّمي، فكانت نفسي تعاف تلك الضروب طبعاً وتكره تلك الأصوات جَلَبَةَّ وأودَ لو أجد مسكناً لا أسمع فيه شيئاً من ذلك، ويتعذّر عليَّ وجوده لغلبة ذلك الشأن على أهل تلك الناحية وكثرته عندهم) 3، ويستمر التجيي فيصف لنا حَفلاً غِنائياً رآه في بستان لدار كبيرة، وقد اصطَفَّ شَربَ نحو من عشرين رجلاً وبين أيديهم شراب وفاكهة وجَوارٍ قيام بعيدان وطنابير وآلات لهو ومزامير وجارية جلست تضرب على عودها.

وتحت تأثير هذه الموجة العنيفة من الغناء والموسيقى والجّوقات وبتأثيرات مختلفة من البيئة المحليّة ازدهَرَت الموشّحات، (وكان المخترع لها مقدّم بن معافى القبري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المروانّي، وأخذ عنه ذلك ابن عبد ربه صاحب كتاب العِقد، ولم يظهر مع المتأخرين ذِكر، وكسدّت الموشّحات، فكان أوّل مَن برع في هذا الشأن بعدهما القزّاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرّيّة،) وذكر ابن بسّام أنّ الموشّحات القديمة كان أكثرها على الأعاريض المهمَلة غير المستعمَلة، وأنَّهم


*340*

كانوا ينونها على مركز اللفظ العامّي والعجمي. ولَعَلّ في هذا ما يشير في صراحة الى أنّ الموشّحات فنّ أندلسيّ محليّ وإن كُنّا لا نؤمن بأنّها نشأت من المزاوجة بين الشعر. العربي وضروب من الأغاني الشعبيّة الأندلسيّة، كما يذهب الى ذلك بعض الباحثين من المستشرقين، إنما نؤمن بأنها تطوَّر تَمَّ هناك للمسمَّطات والمخمَّسات التي عرفت منذ العصر العبّاسي الأول. واشتهر بالتوشيح عبادة ابن ماء السماء والتطيللي صاحب هذه الموشحة:

ضاحِكٌ عن جُمانْ سافِرٌ عَن بَدْرِ ضاقَ عنه الزمَّانْ وَحَواهُ صَدْري

آه مَما أجِدْ شفَّني ما أجِدُ قامَ بِي وَقعَدْ باطِشٌ مُتّئِدُ

كُلّما قُلتُ قَدْ قالَ لي أينَ قَد

وتَتَكرَّر هذه الصورة عادةً في الموّشحة خمسَ مَراتٍ أو سَبعاً. ومهما يكُن فقد انتشر الغناء وانتشر معه هذه الموشّحات وأجاد الشعراء فيها إجادَةً بالغةً، وما زالت الأندلس تُعنَى بهذه الموشحات حتى العصور المتأخّرة إذ نجد ابن سهل صاحب الموشّحة المشهورة

هَل دَرَى ظَبيُ الحِمَى أن قَد حَمَى قَلبَ صَبٍّ حَلّهُ عَن مَكنَسِ

فَهو في نارٍ وَخَفقٍ مِثلَما لَعِبَت ريحُ الصّبَا بِالقَيَسِ

وقد نسج على منواله لسان الدين بن الخطيب في موشّحته المعروفة:

جادَكَ الغَيثُ إذا الغَيثُ هَمَى يا زمان الوصل بالأندلس

لَم يَكُن وَصلُكَ إلا حُلماً في الكَرَى أو خُلسَةَ المُختَلِسِ

وكان يعاصره ابن زَمْرَكْ، وهو يشتهر وصفه الصباح في موشّحاته حَتّى لتكوّن عنده الصبحيّات مجموعة طريفة من الموشحات، ومن قوله في مطلع إحداهما.

كُحلُ الدُّجَى يَجرِي في مُقلَةِ الفَجرِ على الصَّباحْ


*341*

وعَّمت هذه الموشحات وانتشرّت من الغرب الى الشرق، لكنها كما قلنا لم تُحدِث مذهباً جديداً في الشعر العربي، لأنها لم تغيّر في دلالته وصياغته العقليّة والشعريّة، إنَّما وقفت عند الصياغة الموسيقية. على أنّ النقّاد لم يهتمّوا بها لخروجها عن أعاريض شعر العرب، وكان هذا الجانِب هو كلّ ما لفتهم فيها من تجديد.

ولما شاع فنّ التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلالته وتنميق كلامه وتصريع أجزائه، نسجَت العامّة من أهل الأمصار على متواله، ونظموا على طريقته بلغتهم الحضريّة من غير أن يلتزموا فيه بالغرائب، واتسَّع في البلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة. وأوّل مَن أبدَعَ في هذه الطريقة الزَجليّة أبو بكر بن قزمان، وإن كانت قيلَت قبلة الأندلس لكن لم تظهر حلاها ولا انسكَبت معانيها ولا اشتهرت رشاقتها إلا في زمانه، وكان لعهد الملّثمين (توفي عام 555 ه). قال إبن سعيد: (رأيت أزجاله مرويّة ببغداد أكثرَ مِمّا رأيتها بحواضر المغرب). ويمكن أن نقول إنّ الموشح فنّ واحد ذو شعبتين، شعبة تغلب عليها الفصاحة، وشعبة تغلب عليها العُجمة. وذكر ابن قزمان في مقدّمة ديوانه انَّ اشهَر مَن سبقوه أخطل بن نمارة وهو يبدأ مقدّمته بقولة: وكأن الزجل نشأته كان أقرب الى الموشَحة منه الى الصورة العاميّة الخالصة التي انتهى إليها وانتقل هذا الزجل - كما انتقلت الموّشحات- الى المشرق واستخدمته الأقاليم في آدابها الشعبية.

الحق أنَّ الموشّحات والأزجال جميعاَ لم تُحدِثا ثورةً واسعةً على الأوضاع القديمة في الصياغة الفنيّة للشعر الفصيح، ورُبَّما كان ذلك يرجع في بعضِ أسبابه الى أنَّ الأندلس لم تعرف التفكير العميق الدقيق، أ, على الأقل لم يعرفه شعراؤها، ولذلك استمّروا عند المحاكاة والتقليد، ولَعَلَّه من أجل ذلك كنتَ لا تجد عندهم كتاباً فَيِّماً يعرض لشاعر بتحليل فنّه وبَيان منهجه، وأنت أيضاً قلَّما وجدتَ عندهم شاعراً متفلسفاً يتّخذ له منهجاً واضحاً في عمله، إنما هم ينقلون ويلفّقون لا عن انتخاب بل كما يعلّمهم أساتذتهم من المشارقة، وقد أخذوا يصنعون بالموّشحات والأزجال ما


*342*

صنعوه بقصائدهم من الخلط فيها بين صياغات مذاهب الصنعة والتصنيع والتصنُّع، وظلّوا يستمدون في دلالاتها وصياغتها من مَعين المشرق ومذاهبه الفنيّة.

د. شوقي ضيف

من كتاب الفن ومذاهبه في الشعر

القاهرة 1969

الشرح

(1) نفح الطب 2/853.

(2) نفح الطب 2/758.

(3) المختار من شعر يشّار وشرحه للتحيي - ص14


*343*

في الأدب الفاطمي سلمان فراج


*343*

النهضة الفكريّة في العصر الفاطميّ

النهضة الفكرية في العصر الفاطمي:

في الوقت الذي بدأت فيه قصور الخلفاء في الدولة العبّاسية تُقفِر من العلماء والأدباء، لضعف الدولة من ناحية، ولتغلُّب الأعاجم من ناحية أخرى، كانت القاهرة عاصمة الفاطميين تستقبلهم بحفاوة وترحاب، بل كان خلفاؤها يحثّونهم على الإقامة فيها ويجرون عليهم الأرزاق والعطايا، ويوّفرون لهم المكتبات ودور العلم مِمّا لم يتوفر في أي مكان من العالَم الإسلامي في ذلك العصر، فكثرت المؤلِّفات في كل باب وراجت سوق الأدب.

ولا غرابة في ذلك؛ فإنَّ الدعوة الفاطميّة تقوم على العلم والعقل أولا، وعن طريق العلم والمناظرات والمجَادلات انتشرت في العالَم الإسلامي. وكان الفاطميّون متسامحين مع العلماء الذين لم يعتنقوا مذهبهم، وتسامحوا مع أبناء الأديان الأخرى.

وقد أكثروا من بناء المساجد التي كانت شبه جامعات يتحلّق فيها الناس حول رجال العلم يستمعون الى علمهم. واسْتغَلَّ الفاطميّون هذه المساجد لنشر دعوتهم، على أنّهم لم يمنعوا علماء السنّة من إلقاء دروسهم وتعاليمهم فيها، وكذلك في الجامع الأزهر الذي أصبح مركز إشعاع للدعوة الفاطمية منذ إقامته.

كما خصَّوا أجزاء من قصورهم لتعليم الدعوة والى جانبها مكتبات عظيمة ضمَّت عشرات الألوف من الكُتُب في جميع علوم ذلك العصر. وكان دُعاتهم يتزوَّدون بما حوته ليتعوَّدوا على مقارعة حجج المعارضين والخصوم ويبزّوهم؛ كما


*344*

فعل أبو موسى الشيرازي المعروف بالمؤيّد في الدين حين دحض آراء الزنادقة وناظَر بعض الشاكّين كأبي العلاء المعرّي بأدلّة علميّة وحجج قويّة. وهكذا شأن دُعاتهم المشهورين.

وقد ضمَّت هذه المكتبات جناحين أحدهما للعامّة ويتضمَّن علوم العصر، والأخر داخليّ للخاصّة ويشتمل على كتب الدعوة.

وفي سنة ( 395ه) أنشأ الحاكم دار العلم وجعلها جزءاً من قصره وأباحَ ما فيها من كُتُب لسائر الناس على اختلاف طبقاتهم، كما أصبَحَت مركز اشعاع للدعوة الفاطميّة حيث يجتمع فيها داعي الدُّعاة والفُقهاء لتنظيم أمور الدعوة.

في ظِلّ نظام كهذا، يسوده الاستقرار السياسي والاقتصادي، وتتوفّر في كُلّ وسائل الازدهار العلمي والأدبي من دُور العلم والمكتبات، الى جانب الحريّة الدينية والفكريّة لم يكن غريباً أن تضاهي مصر بغداد العبّاسية في أوج عزّها وتحتّل الصدارة في الشرق الإسلامي كمركز حضاري وعلمي.

وكان في مقدّمة علماء مصر الفاطميّة وأدبائها أنصار الدعوة لأنهم جعلوا الاطلاع على جميع العلوم والتبحُّر فيها وسيلةً لتثبيت أركان الدعوة بالاقناع والجِدال. والرّد على الخصوم. إلخ. ومن أشهر أولئك بنو النعمان ويعقوب بن كلّس، وداعي الدُّعاة - المؤيد في الدين والكرماني حجّة الدعوة في العراق. وغيرهم.

كما أثّرت الفلسفة الفاطمية في كثير من علماء العصر كالغزالّي وأبي العلاء المعرّي، وإخوان الصفا وابن الهيثَم وابن سيناء.


*345*

الحركة الأدبية

(1) الشَعر: كان هنالك أكثر من عامل ساعد على ازدهار الشعر في الدولة الفاطميّة أهمّها:

أ. اهتمام الخلفاء بالمواسم والأعياد (وهي تربو على الثلاثين) حيث كانت تُمّدّ الموائد الفاخرة ويُنفق فيها بإسراف، كما تُبذل العطايا لرجال الدولة وكُلّ مَن يتّصل بالقصر. وكان نصيب العامّة في هذه المواسم من الصَّدَفات ما يزيد البهجة؛ فكانت البلاد كلّها في فرح دائم.

وكان الشعراء يتابَرون في هذه المواسم لينالوا ما أجرِيَ عليهم من مال، ويحصلوا على صِلاتهم لِقاءَ إبداعهم. وقد بَكَى الشاعر عمارة اليمنى هذه المواسم بعد زوال الدولة الفاطميّة فقال:

أبكي على ما تَراءت من مكارمكم حالَ الزمانُ عليها وهي لم تَحُلِ

دارُ الضيافةِ كانت أُنْسَ وافِدِكُمْ واليومَ أوحشُ مِن رَسْمِ ومِن طَلَلِ

وكسوةُ في الفَصْلَيْنِ قد دَرَسَتْ واليومَ وَرَثّ منها جديدٌ عندَهُم وَبَلِي

وموسِمُ كانَ في يومِ الخليجِ لكمُ يأتي تجّمُلُكم فيهِ على الجَمَلِ

وأوّلُ العامِ والعيديْنِ كانَ لكُمْ فيهنَّ مِن وَبْلِ جُودٍ ليسَ بالوَشَلِ

الأرضُ تهتَزُّ في يومِ الغديرِ كما يهتزُّ ما بينَ قصرَيْكُمْ منَ الأسَلِ

والأرضُ تَعرضُ في وَشيٍ وفي شِيَةٍ مثلَ العرائسِ في حَلْى وفي حَلِ

ب. ثم إنَّ الفاطميين اتّخذوا من الشعراء وسيلةً من وسائل دعوتهم أوّلاً؛ للردّ على خصومهم. وثانياً؛ لنشر الفكر الفاطميّ وعليه فقد تميّز شعر هذه الفترة عامَّةً بأنّه شعر دعوة؛ فجاء مليئاً بالرموز الباطنية والمعاني الفلسفيّة. معبّراً بذلك عن روح العصر واتجاهه الفكري والسياسي.

وكان للشعراء مُرَتَبات خاصّةٌ تُجرى عليهم شهرياً عدا ما يعرف لهم في المواسم والأعياد شأُنهم في ذلك شأنٌ القُرّاء والوُعّاظ. ولهذا توافد الشعراء على مصر من جميع


*346*

العالَم الإسلامي ومدحوا خلفاءها ووزراءَها أرباب الدعوة الفاطمية، منهم من اعتنق الدعوة ومنهم من لم يعتنق كعمارة اليمني.

هذا وقد عُرف عن الخلفاء الفاطمييّن كالمنصور والمعزّ والعزيز والحاكم. قولهم الشعر، وكذلك أكثر وزرائهم ودُعاتهم. مما يدّل دلالة قاطعة على نهضة أدبيّة عظيمة.

إلا أنّ معظم هذا الشعر لم يصل إلينا شأن أكثر الكُتب والمؤلّفات التي تذكرها كُتُب التاريخ ولا نجد لها أثراً إذ نُهِبَت مكتبات الفاطميين في فترات ضعف الدولة من قِبَل الوزراء الذين تحكّموا بالخلافة وتصارعوا على السلطة، ثمَّ جاء صلاح الدين ليقضي على الدولة الفاطميّة جَسدَاً وفِكرًا؛ فضاعت أكثر الاثار التي تَمُتُ للعهد الفاطمي بصِلة؛ سواءً كانت شعراً أم نثراً، ولم يصلنا منها إلا نُتَفِ.

وأخيراً كان العهد التركي هو الطامّة الكبرى حيث ضاعت أكثر المخلّفات الأدبية من ذلك العصر؛ لِما تميّزَ به حكم الاتراك من تعصّب. وأشهَرُ شعراء الفاطميّين ابن هانئ الأندلسي، والأمير تميم الابن الأكبر للمعزّ لدين الله الفاطميّ (لم يتسلّم الخلافة لأنه كان ماجِناً في صِباه. على أنّ شعره كان أكثره في مدح أخيه العزيز، وفي الدفاع عن الفاطميين وحقّهم في الخلافة. وهو من شعراء البديع)، والمؤيّد لدين الله الشيرازي وله ديوان في مدخ الأئمة يعجّ بالمصطلحات الفاطميّة، وعمارة اليمني، وأبو الرقعمق وغيرهم كثيرون. وقد رأينا أن لا نخوض في تفصيل مراتب هؤلاء الشعراء بِما تميَّزوا به من اغراض وأساليب فنيّة؛ لأنّ ما وَصلنا من أدبهم لا يساعد على ترتيب منازلهم. ولَعلّ البحث والتنقيب عن آثارهم في المستقبل.

أغراض الشعر الفاطمي:

عدا ما تضمنّه من مدح ومَعانٍ فاطمية فَإنّا نجد فيه عدّة أغراض أخرى منها:


*347*

الغزل:

ولا يختلف هذا الباب كثيراً عَمّا عرفناه من الأوصاف الغزليّة في الشعر العربي. إلا أنّه يمتاز بِرِقته عموماً وبتأثُره بالأسلوب الأندلسي.

قال أبو الحسن التنيسي الملقّب برضى الدولة:

راحَ من خَمرِ الصّبا مُغتَبِقا ثَمِلاً، أحْسَنَ شيءٍ خُلِقا

تفعلُ النشوةُ في اعطافهِ فِعلَ عَينيهِ بِاربابِ التُّقى

رَشا قَد اقسَمَت الحاظُهُ لَيُريقَنَّ دِما مَنْ عَشِقَا

مَن عَذيري مِن غزالٍ كلَّما سُئِلَ الرَّحمَةَ أبدى حَنَقاً

وقال الشاعر طلائع الأميري:

انعِموا لِي بالوِصالِ وَارحموا رقْةَ حالي

لا تُذيبوا مهجَتي بَينَ التَّجَنّي والدَّلالِ

لَيسَ عُذري في هَواكُم قَد بَدا لِي قَد حَلا لِي

إنّما قَصدي رِضاكُم قَد حَلا لِي حَلا لِي

وَإنِ اختَرتُم عَذابي لا أبالي لا أبالي

في هذه المقطوعة يتجلّى الى جانب الصدق في التعبير عز الحِسّ الرَّفيق جانب من لغة الشعب المِصري، من حيث البساطة في التعبير؛ فلا جَزالَة في اللفظ، ولا تعقيد في المعنى؛ مع المحافظة على حُسن الديباجة. وهذا الأسلوب يميّز أكثر الغزَل المِصري في هذا العصر، إلا أنَّ الشعراء لم يتركوا الأسلوب القديم في الغَزَل؛ فهذا الشاعر عثمان اللكي يقول:

تَمَكّن مِنّي السُّقم حَتَى كَأنَّنِي تَوهُمُ مَعّنى في خَفِيٍّ سُؤالِ

وَلَو سامَحَت عَيناهُ عَينَيَّ في الكَرَى لأشكلَ مِن طَيفِ الخَيالِ خَيالي

سَمَحتُ بِرُوحي وَهيَ عِندِي عَزيزَةٌ وَجُدْتُ بِدَمعِي وَهوَ عِندِيَ غالِ


*348*

يمكننا القول أن الغزّل الفاطمي امتاز برقَّته وعاطفته من ناحية المعنى، وانقسم بين الاسلوب الجزَل والأسلوب المِصري البسيط من ناحية اللغة. وهو صورة للحياة الاجتماعية العاطفيّة لهذا العصر.

الزُّهد:

الى جانب النشاط الفلسفي الديني عَمَّ مِصر في العصر الفاطمي شعر الزهد والتصوُّف حتّى من قِبَلِ شعراء المُجون كالأمير تميم حيث يقول:

أفنَيتَ دَهرَكَ تَتّقِي فيهِ الحَوادِثَ والمَصائِبْ

وَلو اتْقيتَ مَعاصِيَ الرَّحمنِ فيما أنْتَ راكِب

لأمِنتَ مِن نارِ الجَحيمِ وَفي الحَياةِ مِنَ المَعايب

ويقول القاضي المعروف بالأديب أبي النضر:

جِهاد النّفسِ مُفتَرَضٌ فَخُذها بِآدابِ القّناعةِ وَالزَّهادَه

فإن جَنَحَت لِذلكَ واستَجابَت وَخالَفَتِ الهَوى فَهوَ إلارادَة

عَسَاكَ تُحِلُّها دَرَجَ المَعالِي وَتَرَفَعُها إلى رُتَبِ السَّعاده

الوصف:

لقد ساعَدَت خُضرة النيل وكثرة الجنائن والمتنزَّهات التي اهتّمَّ الفاطميّون بإقامتها على استمتاع الشعراء المصريّين بجمال بلادهم. فإذا بهم يُسبِغون على موصوفاتهم ألوان الحياة التي يألفونها.

قال ظافر الحدّاد في يوم برد:

وَيَومَ بَردٍ عُقودُهُ بَرَدٌ سُلوكٌ مِن هَيدَبِ المَطَرِ

يَنْثُرُهُ الجَوُّ ثُمَّ تَنظِمُ الأرضُ مِنْهُ بالزهرِ كُلَّ مُنتَثِرِ


*349*

وَالغَيمُ يَبكي وَالزَّهرُ يضحَكُ والبَرْقُ يُبدي ابتِسامَ ذي خَفَرِ

(2) النشر:

عندما تولّى الفاطميّون حكم مصر كانت الكِتابة فيها مزدهرة، وقد عُنُوا بالكتبة والكتّاب لاتّساع ملكهم وتشعُّب أمورهم وحاجتهم الى إقامة الدواوين المختلفة، فاندفع الناس لتعليم أبنائهم الكتابة والإنشاء ليعملوا في هذه الدواوين. ومِمّا ساعد على الاهتمام بالإتقان النثري أنَّ الوزراء الأوائل للفاطميّين كانوا من الأدباء. وكان الخلفاء أنفسهم أصحاب عِلم وخطابة.

وقد شاع بين كُتّاب هذا العصر السَّجع والاقتباس والجناس. وتميَّزت كتابات الدواوين بالقدّمة التي تؤكّد أنَّ محمّداً، جَدّ الأئِمّة. كما انتشَرت فيها الأفكار الفاطميّة ومن أهمّ؛ دواوين الفاطميّين ديوان الانشاء المكلّف بإنشاء الرسائل والرسوم والتوقيعات، من الأدباء أشهرهم ابن خيراز والمؤيَّد في الدين وابن الخلال.

سلمان فراج، نصوص أدبيّة للمدارس الثانوية

ترجمة الحياة - المقالة - الخاطرة عز الدين إسماعيل


*349*

لا تقتصر الفنون الأدبية على الشعر والقصة والمسرحية بأنواعها المختلفة، وإن كانت هذه هي الأنواع الكبرى الذائعة منذ أقدم العصور؛ فإن هناك فنونا أخرى لا تقل رواجاً في السوق الأدبية تستحق منا العناية والدراسة. وهي أنواع حديثة العهد بالقياس الى فن الشعر أو فن المسرح. وهي في الحقيقة مرتبطة بظهور فن الكتابة النثرية؛ لأن ترجمة الحياة والمقال والخاطرة جميعاً فنون نثرية.


*350*

وترجمة الحياة هي الكتابة عن أحد الأشخاص البارزين لجلاء شخصيته، والكشف عن عناصر العظمة فيها - وابراز القيم الإنسانية التي تنطوي بهم الآخرين الاطّلاع عليها.

ولكي نفهم عملية التحليل التي تتم في ترجمة الحياة ينبغي أن نفهم معنى الشخصية، وكتب، علم النفس تمدّنا بكثير من المعرفة الخاصة بالشخصية، ولكننا - دون الدخول في تفصيلات الدراسة النفسية - نستطيع أن نقرر أن الشخصية "مجموعة من المجالات". فأنا مع أصدقائي غيري مع أقاربي، وأنا مع تلاميذي غيري مع أساتذتي، وأنا مع جاري غيري مع الشخص الغريب، ومع المصري غيري مع الأجنبي... وهلم. ففي كل حالة من هذه يظهر جانب خاص من شخصيتي يكون هو الغالب على الموقف. وهو يظهر نتيجة لوجودي مع شخص معين. فوجودي مع ذلك الشخص حدد لي مجالا معيّنا للتفاعل والتفاهم والسلوك بعامة. فحين يزورني أقاربي من الريف يظهر من شخصيتي الجانب الذي يستطع أن يتفاعل معهم، أو الجانب الذي يستطيع أن يدخل في مجالهم. وهذا الجانب يختفي تماما حينما يجمعني بشخص أجنبي مكان، وعندئذٍ يظهر جاب آخر، أو مجال آخر... وهكذا. فمن دراسة "العلاقات" التي تجمع الشخص بآخرين، وكذلك التي تتمثل في تصرفات الشخص الخاصة في المواقف المختلفة، أستطيع أن أحدد مجموع المجالات التي تتكون منها الشخصية ولسنا نستطيع أن نتصور الشخصية بغير مجالات، فمن يكون الشخص بغير العلاقات العديدة التي بينه وبين الحياة؟!

وعلى ضوء هذا الفهم لمعنى الشخصية نستطيع أن نفهم معنى ترجمة الحياة. فترجمة الحياة ليست مجرد قصة شخصية من الشخصيات. هناك الفروق الأولية التى لا بد أننا منتبهون إليها (كون الشخصيات المترجم لها حقيقة، وكونها تمثل جانبا من جوانب العظمة، ثم كونها طاهرة تحتاج الى التفسير - مما لا يتطلب في القصة)، ولكن الفرق الجوهري هو أن الشخصية في ترجمة الحياة موضوع دراسة تمتد الى جميع


*351*

جوانب الشخصية بالتحليل والتقويم، وتحديد المعالم الكبرى والتفصيلية في تكوينها، وفي ترجمة الحياة فلا يستطع الكاتب أن يتدخل في تكوين الشخصية بحيث يهتم بحوادث بذاتها ويترك ما عداها، بل إن كل حادثة في حياة الشخص لها أهميتها ولها دلالتها التي لا يمكن إغفالها. ولذلك أيضا يظهر الجزء الخاص بعمل الكاتب نفسه حين يقع لنا فهمه الخاص للشخصية المترجّم لها. فترجمة الحياة تحتاج من الكاتب مقدرة خاصة على الفهم والتمثل. وكذلك الأمر حين يصدر حكمه على الشخصية أو على جانب من جوانبها؛ فهو يحتاج الى الموازين الدقيقة والى الخبرة باستخدام هذه الموازين. كل ذلك لا يحقق عندما يكون المُراد هو سرد قصة شخص ما.

وهنا لا بد من الالتفات الى نوعين من ترجمة الحياة. فالكاتب قد يترجم لشخصية سابقة، وهو عندئذ يتمثل الآخر في البيئة والزمان اللذين عاش فيهما وقد يكتب عنه نفسه، عندئذ يُطلق عليها "ترجمة ذاتية". وهذا النوع يحتاج من الكاتب الى الأمانة والصدق.

وقد ظهر فن الترجمة لدينا حديثاً. ويُعد الأستاذ العقّاد أول كاتب يكتب لنا ترجمات فنية تمثل النوع الأول، ويتحلى فيها الذكاء والمهارة والخبرة، كالعبقريات وترجماته المهاتما غاندي ومحمد علي جناح وسن يات سن وغيرهم. وآما النوع الثاني فقد بدأه الدكتور طه حسين بكتابه "الأيام" الذي ترجم فيه لنشأته وجزء من حياته وهو لذلك قريب من طابع القصة. ثم أصدر المرحوم الأستاذ أحمد أمين كتابه "حياتي" الذي ترجم فيه لنفسه. والفروض في حالة النوع الثاني أن الكاتب يكون حريصا على أن يلحظ الحياة الخارجية بحيث يمتد عملية التحليل والتفسير والتقويم خارج حياة الكاتب الخاصة الى الحياة العامة.

(2) المسالة:

وكلمة المقالة ليست غريبة على اللغة العربية، ولكنها من حيث دلالتها الفتية تعد محدثة في أدبنا العربي، والحق أن تاريخ المقالة عندنا يرتبط بتاريخ الصحافة، وهو لا


*352*

يرجع بنا الى الوراء أكثر من قرن ونصف قرن بكثير. وبذلك يكون المقال قد دخل في حياتنا الأدبية بعد أن أخذ في الآداب الأوروبية وضعه الحديث. ذلك أن أول استعمال لكلمة مقال ظهر حين نشر "مونتين" مقالاته عام (1580).

ولكن كلمة مقال كانت في الحقيقة أقرب الى ما عرفه الأدب العربي القديم في "الرسالة" لا الرسالة الشخصية أو الديوانية ولكن الرسالة الني تتناول موضوعا بالبحث، كرسائل إخوان الصفا مثلا. وهي بذلك كانت تطول حتى تملأ عشرات من الصفحات. أما المقالة في وضعها الفني الحديث فتتميز بالقِصر، لأنها تحاول أن تشمل كل الحقائق والأفكار المتصلة بموضوعها كما صنع "لوك" في "مقال عن الفهم الإنساني"، "ولكنها تختار جانبا واحدا أو على الأكثر قليلا من جوانبه لتجعله موضع الاعتبار. وهنا يكون ما فيها من فن؛ لأن المؤلف يجب أن يختار هذه الجوانب من موضوعه بحيث يستطيع تقديمها الى قرائه بطريقة مشوقة. وهذا لا يضمن المهارة في اختيار موضوع محدد، والحرص في اختيار المادة المتصلة به فحسب، بل يتضمن كذلك الحذاقة الكافية لتوزع درجات القوى على المواضع المناسبة من المقالة، وذلك لضمان الاستجابة المطلوبة عند القارئ"

فالمقال ليس حشدا من المعلومات، وليس كل هدفه أن ينقل المعرفة، بل لا بد الى جانب ذلك أن يكون مشوقاً. ولا بد يكون المقال كذلك حتى يعطينا من شخصية الكاتب بمقدار ما يعطينا من الموضوع ذاته، فشخصية الكاتب لا بد أن تبرز في مقاله، لا في أسلوبه فحسب، بل في طريقه تناوله للموضوع وعرضه له، نم في العنصر الذاتي الذي يضفيه الكاتب من خبرته الشخصية وممارسته للحياة العامة.

والمقال نفسه يبدأ بأن يكون فكرة في رأس الكاتب. وتظل في رأسه فترة من الزمن تنمو فيها وتكبر وتأخذ الشكل السوي. وهي في تلك الفترة من النمو تتغذى من ملاحظة الكاتب، ومن قراءاته المتعددة النواحي، ومن خيراته الشخصية، ومن هنا اعتمد، المقال على الحكاية والمثل والارشاد الى جانب المادة التحصيلية. وكل ذلك


*253*

يتشكل - حين يأخذ صورته النهائية - بحالة الكاتب النفسية. ومعنى هذا أن الكاتب يحدد مشروع مقاله قبل أن يكتبه، بحيث تتوجه كل مادته على اختلاف أنواعها الى جلاء فكرة واحدة في جميع جوانبها. وفي الوقت الذي يحرص فيه الكاتب على تماسك مقاله وقوته نجده حريصاً على إمتاع قارئه.

ولما لم يكن للمقال ميدان محدّد فقد رأيناه يتنوع أنواعاً عدة؛ فمقال أدبي، وآخر سياسي، وثالث اجتماعي، ورابع نقدي. الى غير ذلك من الأنواع.

(3) الخاطرة:

والخاطرة من الأنواع النثرية الحديثة التي نشأت في حجر الصحافة ولكنها تختلف عن المقال من عدة وجوه:

فالخاطرة ليست فكرة ناضجة وليدة زمن بعيد، ولكنها فكرة عارضة طارئة. وليست فكرة تعرض من كل الوجوده بل هي مجرد لمحة.

وليست كالمقالة مجالا للأخذ والرد، ولا هي تحتاج الى الأسانيد والحجج القوية لاثبات صدقها. بل هي أقرب الى الطابع الغنائي. وما زلت أذكر للأستاذ الدكتور أحمد أمين (وكان من كتاب الخاطرة، وقد جمع خواطره في عدة مجلدات) تلك الخاطرة التي كتبها عن قطعة الورق التي مزّقها وهو جالس على البحر فحمل الريح أجزاءها وذهب بكل جزء الى جهة ما - كما تصنع الحياة بالناس ومصائرهم. فهنا لا نجد فكرة تحتمل الإتفاق أو الخلاف، ولكنها لمحة ذهنية بمناسبة ذلك الحادث العرضي (تمزيق الورقة) محمّلة بمشاعر الكاتب.

ثم لا ننسى الإختلاف في الطول؛ فالخاطرة أقصر من المقال، وهي لا تتجاوز نصف عمود من الصحيفة، وعمودا من المجلة. وإذا ذكرنا الصحيفة والمجلة فإنما تذكرهما لنعود لتقرير أن الخاطرة في وقتنا قد أصبحت عنصراً صحافيا نطالعه في كل جريدة وكل مجلة. والصحف تعطي هذا العنصر عنوانا ثابتا لأن الخاطرة تكون عادة – وهي


*354*

تختلف في ذلك أيضاً عن القال - بلا عنوان. من هذه العناوين "فكرة"، نحو النور، "شموع تحترق". "مل قلّ ودل"... إلخ.

وهذا النوع الأدبي يحتاج في الكاتب الى الذكاء، وقوة الملاحظة ويقظة الوجدان. وهو يتمشى مع الطابع الصحافي العام في الإهتمام بالأشياء المغيرة الصغيرة السريعة وتفضيلها على الكتابات المطوّلة وأهميتها تأتي من أنها تستطيع لفت القارئ الى الأشياء الصغير في الحياة والتي لها دلالة كبيرة.

عز الدين إسماعيل

الأدب وفنونه - دراسة ونقد

ص 244-252

الأقصوصة ناصر الحاني

الأقصوصة أقرب ألوان الأدب الى الطبيعة غير المتكلّفة. ومهما تنوعت فإنها تبقى "إبلاغا موجزا" فالحكاية القصيرة المغامرات والنوادر والفكاهات تدخل في نطاقها قبل أن تسجل وتتقمص رداءها الفنّي.

إن التوراة والإنجيل والقرآن الكريم تشتمل على أقاصيص جميلة، وما من أسرة في تدعى حقا أسرة تخلو من قصاصها. وكل أناس لهم حكاياتهم التي لا تعدو أن تكون سلسلة أقاصيص تحكى وتُعاد، وما من أحد في العالم لم يكن نفسه من حين إلى حين قصاصاً.

وروايات الأقاصيص وتبادلها بين الناس عمل لا ينقطع وأنواع الأقاصيص كثيرة لا حد لها، فقد تحصل على أقصوصة إن استطعت أن تسجل ما يسرد طفل عليك من حوادث في مدرسته حدثت عصر يوم من الأيام. فإذا سردت لك سيدة عجوز في


*355*

رسالتها حوادث عام كامل قضته جالسة أمام بيتها فإن هذه رسالة تؤلف أقصوصة أيضاً.

وليست الأقصوصة التي تُحكى وترويها شفاه لشفاه كالقصص المكتوبة، فبين النوعين فرق ظاهر، على أن من الكّتاب من حاول آن يكتب أقاصيصه كما لو كان يسردها مشافهة أو كما لو كان آخر يقصها عليه.

فالأقصوصة إذاً وهي السرد القصير بين إنسان وإنسان طبيعية ولا بدّ منها. ولقد نشأت الأقصوصة وتطورت على مدى الأيام واتخذت لها شكلا فتيا التفت أصحابها الى أمور مثل التشخيص والمكان الذي حدثت فيه والجو الذي يلفها كما اشتملت على عناصر أخرى مثل التوقّع أو الانتظار الذي يجعل القارئ أو السامع يتابع حوادثها بلهفة وشوق ومثل النهاية التي تُخْتم الحوادث بها.

والقصة الوحيدة التي لا تفتأ الإنسانية ترويها وترددها هي قصة الإنسان في هذه الحياة، هذه القصة لا نهاية لها ولا حدود لأنواعها. ولهذا لا يخشى كاتب الأقاصيص نفاذ المادة القصصية. أيمكن أن يُقال هذا أيضاً

عن كاتب القصة الطويلة(Novel)؟ أجل فالقصة الطويلة إنما هي سرد مطوّل لتجربة صغيرة من تجارب البشر فقد نجد في كثير من القصص الطويلة أقاصيص صغيرة. وتبدو قضية الطول وعدد الكلمات ذات علاقة بالموضوع ولكنها لا تعدو في حقيقة الأمر أن تكون علاقة شكلية. إن اصطلاحي الأقصوصة والقصة الطويلة أخذا يكّونان معاني خاصة عند المتخصصين بالأدب على الأقل وكل حكاية عند العامة هي قصة كما أن كل شيء بين دفتين يُسمى كتابا.

والأقصوصة ولا ريب أكثر الأنواع الأدبية انطلاقا وحرية. إنها أكثر حرية من أي نوع من أنواع القصائد وربما أكثر انطلاقا وحرية من القصة الطويلة. وإن كانت هذه النقطة مدار جدل أدبي. فقد تكون الأقصوصة كل شيء وليست القصيدة ولا القصة الطويلة كذلك. فقد تكون قصيدة وقد تكون قصة طويلة في جوهرها وقد تكون


*356*

قصيدة وقصة طويلة في أن واحد. ولا تكون القصيدة أقصوصة كما لا تكون القصة الطويلة أيضاً أقصوصة.

وقد تكون الأقصوصة أبسط أنواع التعبير (أو الابلاغ) وقد تكون أعقدها كما قد تكون أكثر أنواع التعبير نظاما وترتيبا أو خلطاً وفوضى.

والأمر الأول هو وجود الكاتب الحقيقي فإن وجد فالأقصوصة مؤثرة سواء توفّرت فيها ما تحتمه نظريات الأدب مثل الحبكة والخطوات والنهاية أم لا. فكل شيء يعتمد على الكاتب فهو الذي يكتب وهو الذي يضع القواعد.

وقد تكون الأقصوصة طريقة وأسلوبا فقط. فأقاصيص (إدجار ألن بو) إنما هي أقاصيص ذات حبكة وتوقّع وجوّ وكلها فنية تنقصها علاقة بالحياة الحقيقية. فواقعها واقع فنيّ مصطنَع.

تقرر النظرية الأدبية أن الأقصوصة يجب أن تكون شيئاً يقرؤه القارئ بجلسة واحدة. والخطأ في هذه النظرية هي أن بعض الناس يستطيع أن يجلس مدة أطول من غيره. وتُعتبر الأقصوصة على العمورم مؤلفة من عدد من الكلمات يتراوح بين 2500 وأقل من عشرة الاف كلمة. أما أقل من 2500 كلمة فيعتبر أقصوصة صغيرة. وأي شيء أكثر من عشرة الاف كلمة يُعتبر أقصوصة طويلة فإذا جاوزت عشرين ألفاً من الكلمات فهي قصيصة (أو رواية قصيرة). وقد تناسب هذه المقاييس الشكلية بعض الناس من المتخصصين بالأدب ولكنها في حقيقة الأمر هراء لا طائل وراءه. ففي القران الكريم أقاصيص ممتازة كاملة لا تتألف الواحدة منها في الغالب من أكثر من 500 كلمة كما أن في بعض القصص الطويلة عدداً من المقاطع تتعدى كل منها عشرين ألف كلمة ومع ذلك فهي أقاصيص. والحق أن ليس هناك نظرية نهائية في أي نوع من أنواع الأدب.


*357*

فما يحتاج إليه: أولا كاتب الأقصوصة وثانيا قارئها. وقد تزهر بين هذين الطرفين النظريات الى الأبد؛ ويبدو أنها تزدهر حينما يتهيأ كتّاب لا حول لهم وأقاصيص لا نضارة فيها ولا جدّة ولا تستحق إلا أن تُرمى على جانب الطريق.

يجب أن تكون أشكال القصة غير محدودة فما دام على الأرض أناس أحياء فالقصة الواحدة تستمر في الكشف عن جوانب منهم وهي لا تفتأ تتحدى من يريد أن يمسك بجزء من تلك الحكاية العجيبة "قصة الإنسان".

يجب ألا يتخذ المرء كتابه الأقاصيص مهنة ما لم يحن مدركا أنه يعيش كل يوم مائة أقصوصة وأنه يختلف عن أي شخص في العالم في هذا المجال. كما يجب أن يدرك أن فرص كسب العيش بكتابة الأقاصيص نادرة فلهذا يجب أن يرغب في كتابتها لا لشيء بل لأنه يرغب في ذلك أو أنه يجب أن يكتبها.

ناصر الحاني

من إصطلاحات الأدب العربي

مصر 1959، ص20-24

نهاية الكتاب