التًّاريخ للصف السابع

عطا الله قبطي

المطبعة الحديثة القدس

طبعة أولى 2010

ثلاثة مجلدات

المجلد الأول

صفحات viii

صفحات بخط عادي 7-36

صفحات بخط برايل 1-73

الناسخ جمعية المنارة

لدعم المكفوفين

المكتبة المركزية للمكفوفين

نتانيا  اسرائيل  2012م

فهرس الكتاب

(الفهرس مصنف هكذا: الموضوع  صفحات بخط عادي)

فهرس المجلد الأول

(الفهرس مصنف هكذا: الموضوع  صفحات بخط عادي  صفحات برايل)

مختصرات ورموز

م.س. يساوي مرجع سابق ( أي ذُكر مِن قبلُ )

ن.م. يساوي نفس المرجع السابق ( أي ما قبله مباشرة )

ب.م. يساوي بدون مكان صدور الكتاب

ب.ت. يساوي بدون تاريخ صدور الكتاب

(صلى الله عليه وسلم) يساوي صلى الله عليه وسلم

ه يساوي هجرية

م يساوي ميلادية

ج يساوي جزء

المقدمة

يأتي كتاب (التَّاريخ للصف السابع) على خطى المنهاج المعدل الذي أقرته وزارة المعارف والثقافة عام 2007.

عرضنا مادة الكتاب في سبعة فصول. شمل الفصل الأول: (العصر الجاهلي: المجتمع القبلي والحضري)، كتمهيد للتعرف إلى أحوال العرب في جزيرتهم عشية ظهور الإسلام. وشمل الفصل الثاني: (النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والدعوة الإسلامية حتى وفاته (صلوات الله عليه) ). وفي الفصل الثالث: تحدثنا عن (عهد الخلفاء الراشدين)، حيث تناولنا فيه تاريخ وأعمال الخلفاء الأربعة، والفتوحات الإسلامية. ثم انتقلنا للحديث في الفصل الرابع: عن (العصر الأموي)، حيث تمحور الحديث فيه على قيام الدولة الأموية وتثبيت دعائمها، والفتوحات، و(العوامل التي أدت إلى ضعف الخلافة الأموية، وسقوطها). أما الفصل الخامس: فتحدثنا من خلاله عن: (العصر الذهبي في تاريخ الخلافة العباسية) متعرضين إلى خصائصه الحضارية، والى دور بغداد وأهميتها بوصفها حاضرة الإمبراطورية العباسية. وفي الفصل السادس: خصصنا الحديث عن (العرب والإسلام في العصور الوسطى المتأخرة)، وتناولنا فيه الحديث عن الحملات الصليبية. أما الفصل السابع والأخير، فقد خصصنا الحديث فيه عن (اليهود في ظل الحكم العربي الإسلامي). كما ويشمل الكتاب على ملحقين اثنين، ومراجع لزيادة في البحث.

لقد اخترنا وضع الأسئلة ضمن شرح المادة، ليستطيع الطالب مراجعتها وتذويتها. كما ويلي كل فصل من الفصول الكتاب السبعة أسئلة، تساعد الطالب على تذويت المادة المدروسة. كما أوردنا قاموس أسماء ومصطلحات، ليتذكر الطالب المادة. وللغاية نفسها، أرفقنا خرائط ملونة، ثم قائمة بمواقع الانترنت لخرائط متحركة، أو مواقع يوتيوب.

في كتابة المادة توخينا الموضوعية، والأسلوب العلمي البحت، إذ (آفة الرأي الهوى) كما تقول حكمة جاهلية، فلم نغفل من المؤرخين القدامى والمحدثين آراءهم والتي تناولت مسائل في التاريخ الإسلامي بالتحليل والنقد، فألقت بأضواء جديدة عليها، ثم اشرنا في مرشد المعلم لطريقة تدريس المسائل الخلافية في التاريخ الأسلامي.

نشكر الزملاء، مدرسي موضوع التاريخ، اذا ما ابدوا اقتراحات بناءة حول شكل الكتاب ومضمونه.

حيفا 2010

د. عطا لله سعيد قبطي


*7*

الفصل الأول

العصر الجاهلي


*8*

الفصل الأول العصر الجاهلي


*8*

تمهيد:

العرب من الشعوب الساميَة، ويقسمون إلى قسمين:

أ- العرب البائدة، ب- العرب الباقية.

أ- العرب البائدة: هم الذين بادوا، ولا نعرف عنهم شيئا سوى تسميتهم. ب. العرب الباقية:

وهم قسمان: الأول، العرب العاربة عرفوا ب(القحطانيين)، وهم نسل قحطان بن عابر، وموطنهم الأصلي بلاد اليمن. أما الثاني، فالعرب المستعربة، أو المتغربة: عرفوا ب (القيسيين)، وهم من نسل إسماعيل بن إبراهيم الخليل.

ب. موطن العرب:

الموطن الأساسي للعرب هو شبه جزيرة، وهي تقع في القسم الغربي من قارة آسيا. تحيطها البحار من جهات ثلاث: الخليج العربي (الفارسي) من الشرق، والمحيط الهندي (أو بحر العرب) من الجنوب، والبحر الأحمر (أو بحر القلزم) من الغرب، أما من الناحية الشمالية، فتنتهي عند بادية الشام. ورغم ذلك فقد اصطلح الكتَاب العرب القدماء على تسميتها ب (الجزيرة العربية) على أساس القول: إن حدودها الشمالية تمتد فيما وراء بادية الشام شرقا ونهريْ الفرات ودجلة (في العراق)، وعاد البحر الأبيض المتوسط غربا، ولهذا تكاد البحار تحيطها من جميع جهاتها.

ج. تضاريس الجزيرة العربية:

الطابع الغالب على الجزيرة العربية، هو الصحراوي، والجبلي، ومع ذلك فقد تمتعت بعض أجزائها بالخضرة، ومنها:بعض من بلاد الحجاز: عند الطائف ويثرب (التي أصبحت تعرف في ألإسلام بالمدينة المنورة)، وحضرموت وعُمان، وبلاد اليمن (التي دعاها العرب ب (الخضراء)، ولقبت أيضا القصور)، لكثرة قصورها (انظر لاحقا).

1. الجاهلية :

هي الفترة التي سبقت ظهور الإسلام، في الجزيرة العربية: وهي مشتقة من (الجهل) الذي هو عكس (الحِلم) والتسامح)، لا جهل القراءة والكتابة، عرفت ب (الجاهلية)، لأنه قد غلب على العرب فيها سرعة الغضب، ولعدم انقيادهم لقانون،أو لعدم إيمان غالبيتهم باله واحد.

انقسم سكان الجزيرة العربية إلى بدو وحضر. اتخذ البدو بيوتهم من أخبية مصنوعة من الشعر والوبر (وبر الجمال)، لذا عرفوا ب (أهل الوبر) كما وأطلق عليهم لقب (الأعراب)، وقد سكنوا الصحاري، فعرفوا ب (البادية)، بينما اتخذ الحضر من سكان القرى والمدن بيوتهم من المدر (الطين اليابس)، لذا عرفوا ب (أهل المدر) وأطلق عليهم لقب (العرب).


*9*

العصر الجاهلي

2. المجتمع القبلي:

تركيبه، خصائصه، عاداته وتقاليده

انتظم البدو في قبائل مختلفة، تفاوتت في قوتها وضعفها. ارتبط أفراد كل واحدة منها، بنسب واحد، وقرابة واحدة،أي: صلة الرحم (رابطة الدم): فكلهم جاءوا من جد واحد، هو رأس القبيلة التي غالبا ما دعيت باسمه، مثل، ربيعة، وتميم، وشيبان وغيرها.

كان أفراد القبيلة يختارون واحدا منهم، زعيما عليهم، يسمونه: (السيد)، أو (الرئيس)، أو (الشيخ)، أو (ألأمير)، بناء على شجاعته، أو نسبه، أو غناه، على أن تتوفر فيه صفات التسامح، والكرم، والصبر على الشدائد، والنجدة، والتواضع، وفصاحة الحديث. يبقى في هذه الوظيفة، ما دام قادرا على القيام بوظائفه، وفي مقدمتها ألدفاع عن القبيلة، فإذا مات، ولم يكن باستطاعة ابنه تحمل أعباء المنصب، اختاروا غيره، حسب ألأسس السابقة.

شكل أشراف القبيلة مجلسا استشاريا لشيخ القبيلة في الأمور الهامة، كالحرب، والسلم، إلا أن الرأي الحاسم أخيرا يعود له.

أ. طبقات المجتمع القبلي: يتشكل المجتمع القبلي من ثلاث طبقات وعي:

1- طبقة القبيل: وهم ابناي القبيلة الذين تربطهم يبعضهم البعض (صلة الرحم)).

2- طبقة الموالي: وهم الغرباء، أي الذين لا صلة قرابة لهم مع أفراد القبيلة، بل انتموا إلى القبيلة بطلب التحالف معها والولاء. ومن الموالي من كان عبدا في القبيلة، فحصل على تحرره.

3- طبقة العبيد (الرقيق): تؤلف طبقة العبيد عددا كبيرا في المجتمع القبلي، منهم الأبيض، وهم من أصل رومي (بيزنطي)، أو فارسي ثم الأسود، وهم الذين جلبوا من افريقية. وطبقة العبيد محرومة من الحقوق وعليها واجبات كثيرة نحو ساداتها.

ب. العصبية القبلية: وتعني: أن يتعصب الفرد لقبيلته، بان يلبي طلب المساعدة لمناصرة ابن قبيلته، دون أن يسأل عن السبب، لا فرق في ذلك إن كان ابن قبيلته هو الظالم، و المظلوم، فالمبدأ لدى العربي في الجاهلية كان (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) (هنالك حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم رواه انس بن مالك،) انصر أخاك ظالما أو مظلوما). قيل: يا رسول الله نصرته مظلوما، فكيف انصره ظالما؟ قال: (تمنعه من الظلم، فذلك نصرك اياه). انظر صحيح البخاري: حديث 2311 و 2312)، أو أن يلبي أي طلب تطلبه قبيلته منه،حتى لو كان رأيه في ذلك مخالفا لها.وقد يتعرض الفرد في القبيلة إلى الخلع (الطرد من صلة الرحم) إذا الحق العار بسمعتها، وعنها يصبح معرضا للاعتداء والقتل دون أن يحصل من قبيلته على الحماية والدفاع عنه، وعنها باستطاعته أن يلجأ إلى قبيلة أخرى، ليحصل على حمايته بالولاء لها، أو يلجأ إلى الصحراء فيعيش على الغزو. وقد كون ذلك (المخلوعون) إحدى فئات (صعاليك العرب)، ومنهم من كان من شعراء الجاهلية المشهورين، مثل: تأبط شرا، والسليك بن


*10*

السلكة، والشنفرى.

من نتائج (العصبية القبلية) كانت تلك الحروب التي عرفت في تاريخ العرب ب (أيام العرب) (لأنهم كانوا يقاتلون نهارا)، أما أشهرها فهي:

أ. يوم البسوس: جر ت بين قبيلتي بكر وتغلب وسميت ب (البسوس) نسبة إلى امرأة اسمها البسوس من قبيلة بكر دامت أربعين عاما.

ب. يوم (داحس والغبراء): التي جرت بين قبيلتي عبس وذبيان، بسبب رهان على سباق بين داحس والغبراء، وهما فرسان لسيد قبيلة عبس، وبين الخطار والحنفاء، وهما فرسان لسيد قبيلة ذبيان. واستمرت هي أيضا أربعين عاما، حتى تم الصلح بينهما.

ج. يوم ذي قار: وهو ماء قريب من الكوفة، حصلت عنده موقعة انتصرت عنده تحالف لقبائل عربية على خيش للإمبراطورية الفارسية (الساسانية).

ومن الأيام المشهورة الأخرى عند الجاهليين (أيام الفجار): وهي ؟ أربعة أيام، سميت بهذا الاسم، لان جميعا جرت في الأشهر الحرم ذي الحجة، وذي القعدة، ومحرم، ورجب، وقد كانت العرب تمتنع عن الحروب فيها، لتفسح المجال للحج إلى مكة.

أسئلة

1. التسميات التي أطلقت على البدو والحضر، عكست طريقة معيشة كل منهما، وضح. --

2. المجتمع البدوي كان مجتمعا طبقيا، وضح. --

3. كيف يختار رئيس القبيلة؟ وضح مشيرا إلى حقوقه و واجباته. --

4. هل كان رئيس القبيلة مطلق الصلاحيات؟ بين ذلك. --

5. ما هي الفائدة التي يجنيها الفرد في القبيلة من (صلة الرحم)؟ وضح إجابتك. --

6. كيف تعبر أيام العرب: البسوس، داحس والغبراء، وذي قار عن ) العصبية القبلية)؟ --

ج. عادات وتقاليد المجتمع القبلي:

كان العربي في الجاهلية يفخر بصفات حسنة (مناقب)، ويدعو إلى الابتعاد عن الصفات السيئة (المثالب)، ومن هذه الصفات الحسنة:

الوفاء، والنجدة، والكرم، وصون العرض (الشرف)، والأنفة

(الترفع عن الذل). هذا وقد جمع مصطلح (المروءة)، جميع تلك الصفات الحسنة (المناقب)، وهي تعني بالإضافة إلى ما ذكر: الصبر، والحلم، والعفو عند المقدرة، وإطعام الضيف، وإغاثة الملهوف (طالب المساعدة)، ونصرة الجار، وحماية الضعيف، والشجاعة، والأمانة، وصون العرض. كما وكان الغزو يعتبر من علامات الرجولة، فالضعيف هو من


*11*

لا يحصل على طعامه عن طريقه.

أما العادات السيئة، فمنها عادة (وأد البنات)، أي دفن البنت وهي حية بعد ولادتها مباشرة؛ وقد دأبت بعض القبائل العربية على هذه العادة، قبل ظهور الإسلام بفترة قصيرة، مثل كندة، وربيعة، وتميم، وطيء. أما سبب (وأد البنات) فإما العار إذا سبيت في الحرب، أو من الفقر، أو بسبب الاعتقاد الدينيّ الجاهلي بأن البنات من خلق الشيطان، أو إله غير آلهتهم؛ فمخلوق كهذا يجب التخلص منه (وقد ذمّ القرآن الكريم هذه العادة ونهى عنها).

أسئلة:

1. ما هي (المناقب) التي تمسك بها العربيّ في الجاهليّة؟ بيّن. --

2. ماذا نعني ب (وأد البنات)؟ وما هي أسبابه؟ وضح. --

3. المجتمع الحضريّ:

أقام الحضر من العرب ممالك عامرة على الحدود الجنوبيّة، والشماليّة للجزيرة العربيّة، وكذلك في وسطها.

أ. الممالك العربيّة الجنوبيّة: من أشهرها:

مملكة سبأ ومملكة حمير:

1. مملكة سبأ؛ فقد امتدّ تاريخها في فترتين: مملكة سبأ الأولى (950-610 ق.م) وعاصمتها مأرب، وأشهر ملوكها: الملكة سبأ، التي ذكرت في التوراة (كما ذكرها القرآن الكريم). أما مملكة سبأ الثانية (610 ق.م - 115 ق.م)، فقد تدهور وضعها الاقتصادي، بسبب سيطرة البطالسة والسلوقيين (هما: المملكتان الهلينستيتان اللتان قامتا في الشرق على أنقاض إمبراطوريّة الإسكندر المكدوني)، على الطرق التجاريّة بين بلاد الشام ومصر، مما أدّى إلى كساد تجارة السبئيين التي اعتمدت على البخور، والطيب بين الهند وأفريقية والبحر الأبيض المتوسط. ونتج عن ذلك أن أهمل السبئيّون السدود، فأدى ذلك إلى تهدّم سدّها المشهور؛ سدّ مأرب (أنظر الصور التالية).


*12*

(صورتان في الكتاب)

(بقايا آثار سد مأرب، اليمن السعيد الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)

(آثار معبد بلقيس في سبأ، اليمن السعيد الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)


*13*

(صورة في الكتاب)

مدينة مأرب، اليمن السعيد - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)

2. مملكة حمير؛ قامت على أنقاض مملكة سبأ الثانية، وامتد تاريخها في فترتين: مملكة حمير الأولى؛ سدت من سنة 115 ق.م، حتّى 300 للميلاد (م.)؛ أما مملكة حمير الثانية؛ فسادت من سنة 300م حتى 525م، وقد اعتنق ملكها يوسف ذو نواس اليهوديّة، ثم اضطهد من فيها من النصارى فأحرقهم في واد (أخدود)، ونجا أحدهم، فأسرع إلى الإمبراطوريّة البيزنطيّة طالبا النجدة، فأوعز قيصرها إلى حاكم الحبشة النصراني بتقديم العون العسكري، فأرسل هذه قوة مؤلفة من سبعين ألف جندي، يقودهم القائد أرياط الرومي، يساعده قائد حبشي يسمى أبرهة. فنجح الأحباش في الاستيلاء على اليمن، إلا أن أبرهة قتل أرياط واستولى على السلطة، وقد شرمت شفته خلال صراعه معه، فلقب ب (الأشرم) (يعزو البحث الحديث حملة أبرهة الأشرم هذه إلى السيطرة على طرق التجارة إلى الحيرة، التي بدورها عملت لصالح الدولة الفارسيّة (الساسانيّة) التي نافست ونازعت البيزنطيين في السيطرة على طرق التجارة مع جنوب الجزيرة، وأن حملة أبرهة حصلت قبل مولد الرسول صلى الله عليه وسلم بعشرين عاما). وهكذا، أصبحت اليمن، منذ 525م، تحت حكم الأحباش الذين نشروا النصرانيّة فيها. وعندما دنّس أحد القرشيّين كنيسة القلّيس التي بناها الأحباش في اليمن؛ لذا زحف أبرهة بفيلته نحو مكة، لينتقم بهدم الكعبة. ويقال: حدث ذلك عام 570م (والذي ولد فيه، حسب الرواية الإسلاميّة، محمّد بن عبد الله، النبيّ العربيّ، صلوات الله عليه)؛ لذا عرف هذا العام ب (عام الفيل).

وفي سنة 575م، نجح الأمير الحميري سيف بن ذي يزن، بمساعدة الإمبراطوريّة الفارسيّة (الساسانيّة)، بطرد الحكم الحبشي، لكنه خسر استقلال حمير؛ إذ استعمر الفرس اليمن حتّى اعتنق آخر أمرائها الإسلام في القرن الأول للهجرة / السادس للميلاد.


*14*

عمل سكان حمير بالزراعة، والصناعة، والتجارة، ولا سيّما تجارة البخور، والطيوب، وقد تاجروا مع الهند وحوض البحر الأبيض المتوسط، وضربوا النقود الفضيّة، والذهبيّة، والنحاسيّة.

ب. الممالك العربيّة الشماليّة:

1. مملكة الأنباط: سيطر الأنباط على بلاد الأدومين، خلال القرن الخامس قبل الميلاد. عاصمتهم البتراء (سلع) المنحوتة بالصخر، وتقع شرقي البحر الميت، وكانت همزة وصل بين تجارة البحر الأحمر وبلاد الشام. واستولى عليها الرومان سنة 105م، وحوّلت إلى ولاية رومانية عرفت ب (الولاية العربيّة).

2. مملكة تدمر (بالميرا): وتقع مدينة تدمر، على بعد 165 كيلومترا شرقي مدينة حمص. ازدهرت في عهد ملكها أذينة الثاني. وعندما توفى، تولت زوجته زنوبيا (الزّبّاء في المصادر العربيّة)، وصيّة على ابنها القاصر، ثم انفردت بالسلطة. حاربها الرومان، فاستسلمت لهم، فاقتادوها أسيرة وسيّرت في موكب النصر في شوارع روما عام 271م.

(في الكتاب صورة - الممالك العربيّة الجنوبيّة - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)


*15*

(في الكتاب صورة - طرق التجارة العالميّة التي سيطرت عليها اليمن - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)

(في الكتاب صورة - هيكل الخزانة في مدينة البتراء (عاصمة مملكة الأنباط) وقد حفر في الصخر - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)

3. مملكة الغساسنة: وهم من عرب اليمن، قد نزحوا شمالا، في أعقاب خراب سدّ مأرب، واستقرّوا جنوب شرق دمشق، عند عين ماء يدعى غسّان، فعرفوا به، كما أطلق عليهم لقب: (آل جفنة)، نسبة إلى أول ملك لهم وهو: جفنة بن عمرو.

خضع الغساسنة، لسيطرة بيزنطيّة (الروم، كما عرفت بالمصادر العربيّة)، منذ القرن الخامس للميلاد، وكانوا قد اعتنقوا النصرانيّة. وكانوا حلفاء للبيزنطيين، فحرسوا لهم حدودهم مع الصحراء


*16*

العربيّة؛ لمنع غارات القبائل البدوية العربيّة عليها؛ ثم حرسوا القوافل التجارية المتوجّهة من الجزيرة العربية إلى بلاد الشام وبالعكس؛ وقاتلوا إلى جانبهم ضد الدولة الفارسيّة (الساسانيّة) عدوة البيزنطيين اللدود. وكثيرا ما كان ينشب القتال بينها وبين جارتها العربيّة؛ مملكة الحيرة، التي أدت نفس المهام للدولة الفارسيّة.

تخلى آخر ملوكها: جبلة بن الأيهم عن الجيش البيزنطيّ في معركة اليرموك عام 15ه / 636م (أنظر لاحقا)، وقاتل مع الجيش الإسلامي، ثم اعتنق الإسلام، لكنه ارتدّ، ومات في بيزنطية.

4. مملكة الحيرة (المناذرة، اللخميّين): تألف سكان الحيرة من قبائل عربية جنوبية، استقرّت جنوب العراق، في مستهل القرن الثالث للميلاد. أشهر ملوكها المنذر الأول الملقب بالأعور (حكم 400م - 418م، وهو المشهور عنه أنه بنى قصر الخورنق)، الذي أشرف على بنائه المهندس الرومي سنمّار، فجازاه المنذر بإن ألقاه من سطحه بعد أن أنهى مهمته، فقيل: (جزاء سنمّار)، فذهب ذلك مثلا ويطلق على من يفعل خيرا، فيلق شرا. ثم الملك المنذر (الثالث) بن ماء السماء، ثم عمرو بن هند سنة 544م - 574م، الذي كان بلاطه مفتوحا لاستقبال الشعراء.

كانت مملكة الحيرة حليفة للإمبراطوريّة الفارسيّة (الساسانيّة)، وأدّت نفس الدور الذي أدّته مملكة غسّان نحو الإمبراطوريّة البيزنطيّة (كما مرّ).

5. مملكة كندة: نزحت قبيلة كندة من اليمن إلى شمال نجد، في أواسط الجزيرة العربيّة، منذ منتصف القرن الثالث للميلاد. وامتدت حدود مملكة كندة حتّى مشارف الشام والعراق. وأعظم ملوكها هو الحارث بن عمرو، وهو جد الشاعر الجاهلي امرئ القيس من شعراء المعلقات السبع.

أسئلة:

1. سجل في دفترك أسماء الممالك الجنوبيّة والشماليّة، مشيرا إلى الفترة الزمنيّة التي سادت فيها. --

2. بين مدى اتساع تجارة كل مملكة من الممالك الجنوبية. --

3. ماذا كانت نتائج خراب سدّ مأرب على مملكة سبأ الثانية؟ وضح ذلك. --

4. تعرضت مملكة حمير الثانية إلى احتلالين. ما هما؟ ماذا كان مصير كل منهما؟ وضح. --


*17*

(في الكتاب صورة - خارطة الممالك العربيّة الشماليّة - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)

4. الحالة الدينيّة لعرب الجاهليّة:

كان العرب الجاهليون، في البداية، موحدين على دين إبراهيم الخليل (الحنيفيّة). وقد اهتدوا إلى ذلك عن طريق ابنه اسماعيل. وقد ساعده والده في تجديد بناء الكعبة، التي سمّاها الجاهليون (البيت الحرام)، (البيت العتيق)، (البيت المعمور)، ثم وضع لهم مناسك (طقوس) الحجّ. وقد ظلّوا على ذلك حتى فسدت ديانتهم، كغيرهم من الشعوب، بأن عبدوا الأوثان والأنصاب (الحجارة المنصوبة في الأرض)، والأصنام، فأشركوها في عبادتهم لله ظنّا منهم أنها تقربهم وتشفع لهم عند الله. فمن فعل ذلك منهم، فهو (مشرك)؛ لأنه أشرك في عبادته لله. ومن الأصنام المشهورة لديهم؛ هبل؛ وخو أعظم آلهة مكة، مصنوع من عقيق أحمر (حجر كريم) على صورة إنسان؛ مكسورة ذراعه اليمنى، فأبدلتها قريش بذراع من ذهب. ثم الإلهات الثلاث اللاتي عرفن ب (بنات الله)، وهن: اللّات، والعزّى، ومناة.

كما وتعددت معبودات الجاهليين؛ فنجدهم يقدسون الحيوانات، والأشجار، والكواكب، والنجوم، والشمس، والقمر، والنار المقدسة، والنباتات، والملائكة، وغيرها. أقام العرب الجاهليون لآلهتهم هذه، بيوت العبادة؛ وكانوا يحجّون إليها، وأشهرها: (الكعبة)؛ يحجّون إليها في مواسم معينة خلال الأشهر الحرم: ذي الحجّة، وذي القعدة، ومحرّم، ورجب؛ وكان يمتنع فيها القتال؛ لتتمكن القبائل العربية من المشاركة


*18*

في الحج إليها. هذا وقد اعتاد العرب إقامة الأسواق الموسميّة، بالإضافة إلى الأسواق المحليّة، أشهرها؛ سوق (دومة الجندل) (هي حصن وقرى بين الشام والمدينة المنورة)، وسوق (عكاظ)، بين مكة والطائف (التي كانت سوقا أدبيّة وسياسيّة إلى جانب كونها سوقا تجاريّة)، وفيها ظهرت المعلقات السبع.

3.1. اليهوديّة، والنصرانيّة:

إلى جانب عبادة الأصنام، ظهرت في الجزيرة العربيّة الديانتان؛ اليهوديّة، والنصرانيّة. فاليهوديّة كانت قد دخلت الجزيرة بعد خراب الهيكل الثاني سنة 70م.

انتشرت اليهودية لا سيّما في اليمن والحجاز؛ كما تهوّد قسم من قبيلتي الأوس والخزرج بفضل مجاورتهم لقبائل يهوديّة في يثرب (المدينة المنورة) مثل: بنو النّضير، وبنو قريظة وقينقاع، بالإضافة إلى خيبر (شمال شرق يثرب-المدينة المنورة في الإسلام). وكان اليهود نشيطين في الزراعة، والصناعة.

أما النصرانيّة، فقد دخلت الجزيرة العربيّة، بتأثير بيزنطية والحبشة، يقال: إن القيصر البيزنطي: قسطنطين، أرسل عام 356م أول سفارة نصرانيّة إلى جنوب الجزيرة، فنجحت في إنشاء ثلاث كنائس في اليمن.

عمل النصارى بالتجارة خاصة؛ ومنهم من نبغ ب (الأدب)، كقسّبن ساعدة: أسقف نجران، وهكان منهم أيضا ورقة بن نوفل: ابن عم خديجة بنت خويلد، التي أصبحت زوجة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

لم تستطع الديانتان؛ النصرانيّة واليهوديّة في الجزيرة العربيّة، تحويل العرب عن وثنيّتهم، إلى أن جاء الإسلام، فحدث ذلك بفضل الدعوة الإسلامية (كما سنرى).

أسئلة:

1. ما هو تعريف (المشرك)؟ وضح ذلك. --

2. ما هي معبودات الجاهليّين؟ وكيف عبروا عن احترامهم لها؟ اشرح. --

3. إلى أي مدى تغلغلت اليهوديّة والنصرانيّة في المجتمع الجاهليّ؟ وماذا تستنتج من ذلك؟--


*19*

5: مكانة مكة، وتعاظم قريش إلى أن أصبحت زعيمة مكة، قبيل ظهور الدعوة الإسلاميّة

(في الكتاب صورة - شجرة نسب قريش - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)

أ. ارتفاع مكانة مكة في الجاهلية:

تقع مكة في الحجاز (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) (سورة ابراهيم:37). وقد اكتسبت شهرتها على سائر مدن الحجاز لسببين:

أ. لكونها مركزا تجاريا؛ لوقوعها وسط الطريق بين اليمن والشام.

ب. لكونها محجّا للقبائل العربية الأخرى؛ لأن الكعبة فيها. وقد بدأ ارتفاع شأنها في عهد قصي بن كلاب في القرن الخامس للميلاد؛ إذ نجح في الإستيلاء على المناصب الخاصّة، عند قامة شعائر الحجّ في الكعبة بشكل خاصّ. وغيرها مما لا علاقة له بهذه الشعائر، وتشمل:

أ. الإجازة: وهي السماح للحجّاج بالمسير من عرفة.

ب. الحجابة: وهي حراسة الكعبة، والسماح بإقامة الشعائر الدينيّة.

ج. الرّفادة: وهي تقديم الطعام للحجّاج.

د. السقاية: وهي سقاية الحجّاج بتوفير الماء لهم؛ فكان قصي يحذر ماء محلّى بازبيب، أو العسل، فتوضع في أحواض من جلد عند الكعبة، ومنى؛ ليسقى الحجّاج منها؛ ثم صاروا يشربون من بئر زمزم.

ه. اللواء: وهو العلم الذي يحمل في المعارك.

و. (دار النّدوة)، يرأسها قصي،وقد بناها قبالة الكعبة، يجتمع فيها (الملأ) (أشراف مكة) يتشاورون في كل أمور مكة، وسكانها.

ب. تحول تجارة مكة إلى تجارة عالمية:

انتقلت زعامة قريش إلى هاشم بن عبد مناف، فحول تجارة مكة من محلية إلى عالمية؛ إذ ذهب إلى الشام وحصل من قيصر بيزنطية على (كتاب أمان) لتجار العرب ويعني المحافظة على حياتهم وممتلكاتهم، فأقبل بذلك الكتاب؛ فجعل كلما مرّ بحيّ من العرب في طريق الشام، أخذ من اشرافهم إيلافا؛ وهذا يعني: أن يوفروا لتجار قريش أمان الطريق في أراضيهم، لقاء أن تحمل قريش تجارتهم وتبيعها في أسواق الشام، مقابل منحهم أرباحها. وكذلك فعل أخوة هاشم، وهم: المطّلب مع اليمن، وعبد شمس مع الحبشة، ونوفل مع كسرى فارس. وهكذا، اتسعت تجارة قريش وكثرت أموالها.


*20*

وبذلك يكون هاشم قد أقرّ رحلتي التجارة لتجّار مكة؛ رحلة الصيف، إلى بلاد الشام، ورحلة الشتاء، إلى اليمن والحبشة والعراق (أنظر القرآن الكريم سورة قريش 106: الآيات 1-4)

أسئلة:

1. كيف طوّر هاشم وإخوته تجارة قريش؟ اشرح. --

2. ما معنى (الإيلاف)؟، وكيف استفادت قريش من عقد إيلافات كهذه؟ وضح ذلك. --

هكذا، أخذت قريش تسيطر على تجارة القبائل العربيّة خارج مكة، بما عقدته معهم من إيلافات (أحلاف)، كما اضطرت إلى مسالمة بعض القبائل؛ كي لا تسرق الحجيج القادم إلى مكة.

توفى هاشم في غزة، أثناء عودته من الشام إلى مكة، ومنذ ذلك عرفت ب (غزة هاشم)، ثم انتقلت السيادة في قريش إلى أخيه المطّلب، لكنه لم يلعب دورا رئيسيا في شؤون مكة، كفعل هاشم. وخلفه عبد المطلب بن هاشم (راجع شجرة نسب قريش).

ج. أثر تطوّر تجارة مكة في وضعها الإجتماعي:

إن توسع تجارة مكة، زمن هاشم وبعده، قد أدى إلى نشوء فئة ارستقراطيّة في قريش؛ وقد ارتبطت مصالحها بالتجارة واستمراريتها، تدعمها عمليّة الحجّ إلى مكة المرهونة ببقاء أصنامها؛ لأنها جزء من سيادتها وثروتها. في حين أن هناك قطاعا عريضا من الفقراء المحتاجين، والمدينين الرازحين تحت عبء ديونهم، ليس لديهم قوة ليقفوا في وجه ارستقراطيّة قريش بجيشها وشبكة إيلافاتها وحلفائها من القبائل المنتشرة في أنحاء الجزيرة العربية.

وفي هذا الواقع الاقتصاديّ، والاجتماعيّ، والدينيّ، جاءت دعوة محمّد بن عبد الله، الرسول العربي صلى الله عليه وسلم، إلى قومه، بأن يتركوا عبادة الأصنام؛ وأن يعبدوا بدلها إلها واحدا أحدا لا شريك له، وهو أساس الدعوة الإسلامية. فماذا كان ردّ فعل ارستقراطيّة قريش؟ هذا ما سنراه لاحقا.

سؤال:

1. وضح نتيجتين اثنتين لتحوّل تجارة قريش إلى تجارة عالمية. --

تعالوا نتذكر

بواسطة قاموس الأسماء والمصطلحات:

العرب البائدة، العرب المستعربة، الجاهلية، الموالي، العصبية القبلية، أيام العرب، يوم داحس والغبراء، يوم البسوس، ذو قار، المروءة، وأد البنات، هبل، (بنات الله)، الكعبة المشرفة، عكاظ، قصي بن كلاب، هاشم بن عبد مناف، دار الندوة، رحلة الصيف، ورحلة الشتاء.


*21*

الفصل الثاني


*21*

النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم، والدعوة الإسلامية


*21*


*22*

أ. نشأته (صلوات الله عليه):

هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وأمه آمنة بنت وهب. ولد (صلوات الله عليه) في مكة عام 570م. (كما هو متعارف عليه لدى المسلمين)، وهو العام الذي غرزا فيه أبرهة الأشرم مكة بالفيلة في حملته عليها (كما مرّ معك)، ومن هنا اشتهر هذا العام ب (عام الفيل).

عاش محمد صلى الله عليه وسلم يتيما؛ فقد توفي واده قبل ولادته، بينما كانت أمه آمنة حاملا به. وعند ولادته أسلمته إلى مرضعة بدوية، كعادة العرب، تدعى حليمة السعدية؛ فمكث عندها سنتين (وحدثت له أثناء ذلك ما عرف في تاريخ الإسلام بحادثة (شق الصدر)؛ بأن جاء رجلان في ثياب بيضاء، فشقا صدره، وأخرجا قلبه، وطهراه، ونظفاه ليتلقى رسالة ربه. (انظر القرآن الكريم، سورة الانشراح 94: 1-2)). ثم أرجعته إلى أمه وجده، وهو ابن خمس سنوات؛ وقد ماتت أمه، وهو في سن السادسة، فكفله جده عبد المطلب، وهو آنذاك سيد قريش: وبعد وفاة عبد المطلب، كفله عمه أبو طالب الذي كان كثير العيال وقليل المال؛ فأصطحبه معه في تجارته إلى الشام، وكان آنذاك ابن اثني عشر عاما، التقى خلال رحلته هذه براهب يدعى بحيرا، الذي أطلعه على مبادئ النصرانيّة: وتوسم فيه النبوة.

ولما أصبح أبو طالب بدون مال: أشار على محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بلغ الخامسة والعشرين من عمره، أن يعمل بتجارة خديجة بنت خويلد، كبرى تاجرات مكة، فأشركته بتجارتها إلى الشام. وبسبب اخلاصه، ووفائه، رغبت بالزواج منه؛ فقبل، وقد بلغت الأربعين من عمرها (كانت متزوجة مرتين،وأنجبت الأولاد). فولدت له سبعة أولاد (ثلاثة ذكور وأربع إناث) لم يبق من الأولاد الذكور أي واحد منهم على قيد الحياة (الأولاد الثلاثة هم: القاسم، وعبد الله، والطاهر، أما البنات فهن: زينب، رقية، فاطمة وأم كلثوم. وقد مات جميع الذكور وهم صغار السن، كما مات ابراهيم وهو ابنه من مارية القبطية، انظر عاقل، م.س.، ص 336).

ب. بعثته (صلوات الله عليه) سنة 610م:

عندما بلغ محمد الأربعين من عمره، نزل عليه الوحي، على لسان الملاك جبريل، وكان ذلك في عام 610م، بينما كان يتعبد في غار حراء (وهو على بعد خمسة كيلومترات شمال شرق مكة - صورة غار حراء في جبل النور، لمزيد من الشرح راجع المعلم الداعم)، ونزلت عليه أولى آيات القرآن الكريم، في شهر رمضان المبارك، وهي: (إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) (سورة العلق 96: 1-5).

(في الكتاب صورة - غار حراء في جبل النور - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)


*23*

عاد محمد صلى الله عليه وسلم إلى بيته يرتجف ويقول: زمّلوني، زمّلوني (غطّوني) وقصّ على زوجته خديجة ما رآه؛ فآمنت برسالته؛ ثم أطلعت ابن عمها ورقة بن نوفل على ذلك، وكان شيخا جليلا قد اعتنق النصرانيّة، فقال لها: (إنه لنبي هذه الأمة، فقولي له؛ فليثبت). وعندها شرع محمد صلى الله عليه وسلم، في تبليغ الدعوة إلى عبادة إله واحد أحد، والتي مرت في مرحلتين، هما:

1. الدعوة السرية (أو دعوة الأفراد):

استمرت ثلاث سنوات. دعا خلالها محمد صلى الله عليه وسلم أهل بيته وخاصته، بشكل فردي؛ لذا عرفت ب (دعوة الأفراد)؛ وقد أسلم على أثرها، بالإضافة الى زوجته خديجة، ابن عمه: علي بن أبي طالب، ثم مولاه زيد بن حارثة، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، الذي عن طريقه أسلم يما بعد عدد من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي مقدمتهم عثمان بن عفان رضي الله عنه.

2. الدعوة العلنية (أو الدعوة العامة):

انتهت مرحلة الدعوة السرية عندما أذن الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن يعلن دعوته جهرا، فاجتمع بأقربائه؛ فصدقه بعضهم وكذبه البعض الآخر؛ وكان عمه أبو لهب ممن كذبوه ورفضوا دعوته، ولم يترك هو وزوجته (أخت أبي سفيان بن حرب زعيم تجار قريش، ورأس المقاومة للرسول صلى الله عليه وسلم)، أي فرصة لإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلا وقاما بذلك. ثم أخذ ينشر الدعوة، بين كافة الناس؛ سادة وعبيدا، وغرباء، فأخذ الاسلام ينتشر في مكة.

ج. عداء قريش للرسول صلى الله عليه وسلم وأساليب مقاومتها للدعوة الاسلاميّة:

عندما رأى زعماء قريش وسادتها أن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم تتعرض لأصنامهم، الأمر الذي قد يؤدي إلى القضاء على دعائم سيادتهم وثروتهم (أعني: عبادة الأصنام)؛ بدأوا بمقاومته ومعاداته؛ فتوجهوا أولا إلى عمه أب طالب؛ ليمنعه من مواصلة دعوته؛ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم رف ذلك مصرا على الاستمرار في دعوته، وهذا جعل عمه يتركه لشأنه. عندها لجأ كفار قريش الى اضطهاد كل من يتبع دعوته من القبائل، فتكفلت كل قبيلة هذه المهمة، أو ضد العبيد فيها، فكانوا يعذبونهم جسمانيا، مثل: بلال بن رباح، العبد الحبشي؛ إذ كان يوضع على صدره صخرة، فما زاده ذلك إلا صبرا وإصرارا، مرددا عبارة: (أحد، أحد). كما اضطهدت عائلة عمار بن ياسر، على يدي بني مخزوم (وهم من أقوى بطون قريش)، حتى مات والده نتيجة هذا التعذيب. وقد صعد كفار قريش من مقاومتهم بانتهاج المقاطعة الاقتصادية، ضد من أسلموا.

أما داخل عائلة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد تولى إيذاءه أبو لهب ومعه زوجته، فكانا يلحقان به ويرميان القاذورات عليه، والشوك في طريقه؛ وكان هناك من عيّره بعدم انجاب الولد؛ ومنهم من اتهمه بأن شخصا أعجميا يلقنه الدعوة؛ وبأنه ساحر ومجنون


*24*

(أن جنّا يوحي له بها)؛ وأنه شاعر، وكاهن؛ ثم شكّوا بما أنزل عليه من آيات الله، وأنكروها؛ وادّعوا أنه يريد المال، والشرف، والملك، أو أنه مريض؛ فاقترحوا تلبية طلباته هذه، وبذل المال، لتطبيبه شرط أن يتخلى عن دعوته، فرفض ذلك وأصر على موقفه أي: الدعوة إلى عبادة الله واحد أحد؛ لأن الله تعالى قد بعثه رسولا منهم.

أسئلة:

1. استعمل كفار قريش أسلوب الإغراء لحمل الرسول صلى الله عليه وسلم على ترك دعوته. وضح ذلك. --

2. ماذا كانت وجهة نظر الرسول صلى الله عليه وسلم التي بينها لكفار قريش؟ بين ذلك. --

أما دوافع كفار قريش في مقاومة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت:

1. الدافع الاقتصادي: إذ خشي زعماء كفار قريش أن تؤدي دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، الى أن تفقد الكعبة أهميتها؛ فتبطل عملية حجّ القبائل العربية إليها؛ فتفقد مكة مصدرا هاما من مصادر دخلها المالي، ألا وهو التجارة.

2. الدافع الديني / الاجتماعي: عارض كفار قريش دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنها جاءت لتلغي عبادة آبائهم التي اعتادوا عليها، كما أنهم قد اعتادوا على مجتمع طبقيّ فيه سادة وعبيد؛ بينما الدين الجديد: أي الاسلام، يساوي بين هذه الطبقات مما يهدد نفوذهم ونظامهم الاجتماعي.

3. الدافع السياسي: إن دعوة القرآن الكريم الناس إلى طاعة محمد صلى الله عليه وسلم، يشكل تهديدا قويا للزعامة القبلية في مكة؛ لأن انتشار الاسلام من شأنه أن يؤدي إلى انتقال القيادة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم بصورة تلقائية.

د. الهجرة إلى الحبشة:

عندما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم اضطهاد أصحابه؛ ولم يستطع أن يوفر لهم الحماية؛ سمح لهم بالهجرة إلى الحبشة؛ لأن فيها حاكما نصرانيا هو النجاشي، لا يظلم عنده أحد، وكان عدد المهاجرين إلى الحبشة ثلاثا وثمانين من كبار صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد أرسل كفار قريش بعثة إلى نجاشي الحبشة، تحمل الهدايا الثمينة لرشوه ورشوة حاشيته، كي يتخلى عنهم ويسلمهم لقريش، فألقى جعفر بن أبي طالب خطبة أمام النجاشي، نيابة عن المهاجرين، شرح له من خلالها أسس الدين الجديد: الاسلام، بما يختلف والجاهلية، فأقنع النجاشي بكلامه وبمدى التقارب بين الإسلام والنصرانيّة التي يعتنقها النجاشيّ. وهكذا، فشل كفار قريش في مسعاهم، أي: في إعادة المهاجرين عنده إلى مكة.

مكث المسلمون في الحبشة؛ وعملوا في التجارة، طيلة فترة بقائهم فيها، حنى أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى من تبقى منهم في سنة 6ه / 628م، أن يعودوا إلى المدينة؛ فعادوا. ومنهم من تأخر بسبب انشغاله في تجارته هناك.


*25*

أسئلة:

1. ما هي أسباب الهجرة إلى الحبشة؟ وضح. --

2. كيف حاول كفار قريش إعادة المهاجرين المسلمين من الحبشة؟ وضح. --

5. قرار المقاطعة سنة 616م:

لجأ كفار قريش إلى تصعيد آخر في مقاومة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، بأن فرضوا سنة 616م مقاطعة شاملة على عائلته من بني هاشم وبني عبد المطلب. وكانت هذه المقاطعة اقتصاديّة، واجتماعيّة؛ فاضطر بنو هاشم، وعبد المطلب إلى الخروج إلى شعاب مكة (جمع شعِْب وهو الطريق في الجبل)، فمكثوا مدة ثلاث سنوات. مما ألحق بهم الفقر والجوع والحرمان.

بوفاة خديجة بنت خويلد، زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم عمه أبو طالب، عام 619م الذي عرف ب(عام الحزن)، يكون قد فقد نصيرين؛ فلجأ إلى الحصول على نصرة القبائل العربية خارج مكة، وتأييدها له فتوجه إلى الطائف؛ فرجمه سفهاؤها بالحجارة ساخرين منه.

وفي سنة 621م، حدثت حادثة (الاسراء والمعراج)، حيث أسري بالرسول صلى الله عليه وسلم ليلا من مكة إلى بيت المقدس (من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)، تحمله دابّة غريبة تسمى (البراق) (وهو أبيض طويل، فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، وقد سمي البراق لأنه يطير كالبرق، أو لشدة بريقه ولمعانه، ن.م.، ص31)، ربطها الرسول صلى الله عليه وسلم حائط المبكى، الذي أصبح يعرف لدى المسلمين ب (حائط البراق)؛ ثم صعد (عرج) إلى السماء السابعة من فوق الصخرة (هي قبة الصخرة - بيت المقدس)؛ وعندها تلقى من ربه فريضة الصلاة على المسلمين؛ خمس مرات يوميا.

لم ييأس الرسول صلى الله عليه وسلم، بل أخذ يبحث عن حليف من بين القبائل الوافدة إلى مكة خلال موسم الحجّ؛ فقبل دعوته وبايعه أفراد من قبيلتي الأوس والخزرج (من سكان يثرب)، وعددهم إثنا عشر رجلا وامرأة واحدة؛ كان لك سنة 621م، وعرفت ب (بيعة العقبة الأولى). وبناء علها أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير، مع وفد الأوس والخزرج، ليعلمهم القرآن الكريم وأسس الاسلام. وفي السنة التالية بايع الرسول صلى الله عليه وسلم، وفد آخر من الأوس والخزرج، عددهم ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتلن، وهي (بيعة العقبة الثانية) التي تنص على أن يدافعوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، كدفاعهم عن نسائهم وأبنائهم؛ أما الرسول صلى الله عليه وسلم فالتزم بأن يحارب من يحاربون، ويسالم من يسالمون.

أسئلة:

1. ما أسباب المقاطعة التي فرضها كفار قريش على عائلة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وضح. --

2. ما أهمية حادثة الاسراء والمعراج في تاريخ الاسلام؟ --

3. ما هي أهمية بيعة العقبة الثانية في تاريخ الدعوة الاسلامية؟ --


*26*

ز. هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب (عام 1ه / 622م): دوافعها وأثرها في بلورة الأمة الإسلامية:

في أعقاب بيعة (العقبة الثانية) أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأتباعه بالهجرة إلى يثرب؛ لذا اجتمع زعماء كفار قريش في (دار الندوة)، واتفقوا على قتله بأن يشترك في تنفيذ القتل فتيان من جميع بطون قريش ليتوزع عندئذ دمه عليهم جميعا؛ فلا يستطيع بنو هاشم الأخذ بثأره. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم هاجر هو وصديقه أبو بكر الصديق، فلحقوا بهما، فكانا قد اختبآ في غار في جبل ثور (الواقع على بعد خمسة كيلومترات جنوب مكة)، فوصلوا إلى باب المغارة ولكنهم استبعدوا أن يكونا مختبئين فيه. ثم غادرا الغار، فوصلا إلى مكان يسمى قباء على مشارف مدينة يثرب من الجنوب مكثا أربعة أيام في قباء، وأقام خلالها أول مسجد في الاسلام هو (مسجد قباء)، وبعد أن انضم اليهما علي بن أبي طالب، سار الثلاثة نحو يثرب، فخرج سكانها من الأنصار والمهاجرين يستقبلون الرسول صلى الله عليه وسلم بالأهازيج وسعف النحل وهم ينشدون:

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع

(انظر موقع يوتيوب

وبعد الهجرة أصبحت يثرب تلقب ب (دار الهجرة)، أو (المدينة المنورة)، وصار يعرف الذين هاجروا من مكة إلى المدينة ب(المهاجرين)، بينما عرف الأوس والخزرج ب (الأنصار) ؛ لأنهم نصروا الرسول صلى الله عليه وسلم.

1. أسباب الهجرة إلى يثرب:

1.اضطهاد كفار قريش للرسول صلى الله عليه وسلم، والمسلمين لإعادتهم إلى عبادة آلهة الآباء والأجداد، ثم قرارهم بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم.

2. مبايعة جماعة الأوس والخزرج (الأنصار) للرسول صلى الله عليه وسلم في (العقبة الثانية).

3. مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب سيكون وسيطا، بين الأوس والخزرج، ليحافظ على حالة السلم (فقد دامت الحرب بين الطرفين أربعين عاما).

4. مناصرة الأوس والخزرج للرسول صلى الله عليه وسلم، وقبول دعوته إلى عبادة الله الواحد الأحد؛ لئلا يسبقهم إليه اليهود.

5. اعتمد سكان يثرب، في اقتصادياتهم، على الزراعة في الأساس، ولم يكونوا طرفا في شبكة إيلافات قريش التجارية؛ فلا يؤثّر تحالفهم هذا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، واستقبالهم له في مدينتهم على مصادر معيشتهم.

6. وجود أخوال الرسول صلى الله عليه وسلم من بني النجار في يثرب، ساعد في عملية الهجرة اليها.

سؤال:

1.استعرض أسباب الهجرة إلى يثرب، مشيرا إلى السبب الرئيسي، حسب رأيك. --


*27*

الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة: بلورة الأمة الاسلامية:

بادر الرسول صلى الله عليه وسلم منذ اللحظة الأولى التي وصل فيها إلى المدينة المنورة، إلى تنظيم المجتمع الإسلامي. فقام بأعمال شملت المجالات: الدينية، الاجتماعية، والعسكرية.

أ. المجال الديني:

1. بنى مسجد المدينة (هو مسجدي - المسجد النبوي).

2. حدد قبلة المسلمين في صلاتهم، فحولها من بيت المقدس، التي اشتهرت ب (أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين)، بإذن الله تعالى، ثانية إلى الكعبة في مكة المكرمة.

3. شرّع الآذان للصلاة، والزكاة والصيام (وهي التي أصبحت من أركان الإسلام الخمسة).

5. إقامة الحدود (حدود الله): وهي أحكام الشرع الاسلامي؛ ثم حدود الحلال والحرام.

6. فرض الجهاد، وهو القتال في سبيل الدفاع عن الاسلام، لا الاعتداء على الغير.

ب. المجال الاجتماعي:

1. أحل مبدأ (المؤاخاة) أولا بين المهاجرين أنفسهم. وفي المرحلة الثانية بين المهاجرين والأنصار، وذلك في السنة الأولى من الهجرة إلى المدينة المنورة. وطريقة تطبيقه كانت بأن يختار اثنين متقاربين بالمستوى الاجتماعي والفكري؛ فيأخذ الواحد منهما بيد الآخر مرددين أنهما أخوان في الله؛ وتستند المؤاخاة إلى: المساواة وحق التوارث؛ وهدفت إلى تقوية المهاجرين، وتخفيف مشكلاتهم المالية، وتحمل مشكلات الغربة التي ظهرت بعد الهجرة من مكة.

2. وضع لسكان المدينة من المسلمين، ويهود (وهم ثلاث قبائل: بنو قينقاع، بنو النضير، وبنو قريظة)، وعرب ما زالوا على الكفر، ما يعرف ب)الصحيفة) أو (عهد الأمة) (تشكلت الأمة، في مفهومها الأولي وهو مفهوم سياسي (أمة سياسية)، من سكان المدينة المنورة كافة، بما في ذلك اليهود والكفار، كما أشارت الصحيفة، ثم اشتهرت، فيما بعد، لتعني: جماعة المؤمنين برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم (أي: أمة دينية، وهي جماعة المسلمين) إذ ورد في القرآن الكريم (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) (سورة آل عمران 3: آية 110) هذا ووردت لفظة أمة في القرآن الكريم حوالى اثنتين وستين مرة. كما وردت لفظة أمة في أحاديث نبوية، مثل: لا تجتمع أمتي على ضلالة، أنظر محمد عمارة (مفهوم الأمة في الحضارة الإسلامية) الفن العربي الإسلامي - المداخيل (تونس 1994)، ص23-39 )، هدفت إلى تنظيم العلاقات بين الطوائف الثلاث؛ لتصبح المدينة المنورة وحدة واحدة تدافع عن كيانها، وتواجه أعداءها، وتتعاون تعاونا كاملا في داخلها؛ وقد حددت طبيعة العلاقات المستقبلية بينها؛ فوفرت للجميع الحرية الدينية، وحق الجماعة في أن تعاقب المفسد؛ وأكدت أن الحرية الدينية مكفولة للجميع؛ وعلى سكان المدينة المنورة (من مسلمين وغير مسلمين)، أن يتعاونوا ماديا، وأدبيا، وعسكريا؛ وعليهم أن يردوا متساندين، أي اعتداء قد يوجه لمدينتهم؛ وقد


*28*

(في الكتاب صورة - خارطة غزوة بدر - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)

أكدت على أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرئيس الأعلى لسكان المدينة المنورة، وهو المخول بأن يقضي في الخلافات بين أفراد سكان المدينة.

ج. مناطق انتشار الاسلام في الجزيرة العربية:

بعد الاستقرار في المدينة المنورة، حدثت بين المسلمين وكفار قريش مواجهات عسكرية، عرفت ب(السرايا) (مفردها سَرِيّة) و(الغزوات) (مفردها غزوة).

(أنظر الخريطة المتحركة).

ونعني ب)السريّة)؛ الحملة التي لم يشترك الرسول صلى الله عليه وسلم في قيادتها، بل أوكل نائبا عنه. وقدّر عدد السرايا بخمس وثلاثين، أو ست وستين؛ أما (الغزوة) فهي: الحملة العسكرية التي قادها الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، سواء جرى فيها قتال أم لم يجر؛ ويقدر عددها بست وعشرين، أو سبع وعشرين غزوة، شارك الرسول صلى الله عليه وسلم في تسع منها (إن التعريف السابق للسريّة والغزوة، ما هو إلا اصطلاح غالب، فنحن نطلق كلمة )غزوة) على ما هو في الواقع (سريّة) مثل؛ (غزوة مؤتة) سنة 8ه / 629م.)

كان السبب غير المباشر لجميع السرايا والغزوات، محاولات القضاء على الرسول صلى الله عليه وسلم، والتخلص منه ومن دينه الذي هدد زعامة قريش وجعل مكانتها وسيادتها في خطر الزوال. أما أبرز هذه الغزوات، فنجملها بالتالي:

أ- غزوة بدر (2ه / 624م): (بدر) هو اسم مكان يقع بين مكة والمدينة المنورة بالقرب منه توجد آبار ماء؛ وهو بمثابة محطة رئيسية لقوافل كفار قريش المتنقلة من مكة إلى الشام؛ أما سببها المباشر، فهو:


*29*

اعتراض المسلمين قافلة مشتركة لجميع رجالات قريش، كانت قادمة من الشام يقودها أبو سفيان صخر بن حرب. فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا لهذه الغاية؛ فعلم القرشيون بذلك؛ فخرج أبو جهل يقود تسعمائة وخمسين مقاتلا؛ لكن، انسحب بعضهم عائدين إلى مكة، بعد أن علموا أن أبا سفيان قد نجح في أن يتسلل بعيدا عن عيون المسلمين؛ فبقي مع أب جهل حوالي ستمائة مقاتل، لم تكن لديهم أي محفزات قتالية. وكان المسلمون قد استولوا على ماء (بدر) حيث حصلت المعركة؛ فشربوا ولم يشرب كفار قريش. وكان لهذا القرار: بالاستيلاء على ماء بدر، أهميته في تحديد مصير المعركة (أنظر الخريطة المتحركة.

بدأت المعركة أولا بالمبارزة، كعادة العرب؛ ثم التحم الجيشان في قتال مرير، أسفر عن هزيمة كفار قريش، إذ قتل سبعون منهم، وأسر سبعون آخرون؛ أما قتلى المسلمين، فبلغ عددهم أربعة عشر مقاتلا؛ فاشترط الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل إطلاق سراحهم أن يعلّم كل واحد منهم القراءة والكتابة، لعشرة من المسلمين. ونتائجها، كانت طرد يهود بني قينقاع من المدينة المنورة؛ لأنهم بعد غزوة بدر أظهروا الحسد، ولأن أحد الصيارفة اليهود، في سوق بني قينقاع، اعتدى على عرض مسلمة، مما أدى إلى قتل متبادل بين المسلمين واليهود؛ لهذا قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتركوا المدينة، ويحصل المسلمون على أموال بني قينقاع؛ فتركوها وتوجهوا إلى أذرع (درعة) شرقي الأردن اليوم.

ب- غزوة أحد (3ه / 625م)؛ سببها المباشر:

محاولة أبي سفيان الانتقام لهزيمة بدر؛ فقاد لهذه الغاية جيشا من كفار قريش، بلغ عدده حوالي ثلاثة آلاف مقاتل؛ في حين بلغ عدد جيش المسلمين ألف مقاتل؛ وقد عسكر عند جبل أحد. فابتدأت المعركة بالمبارزة، ثم التحم الجيشان، وسرعان ما تقهقرت فرق كفار قريش وحلفائهم منهزمين، فتبعهم المسلمون وأخذوا يجمعون الغنائم، فترك الرماة أماكنهم، لكي يحصلوا على قسم من الغنائم مخالفين بذلك وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم ترك أماكنهم؛ فانتهز فرسان كفار قريش الفرصة؛ وقاموا بالهجوم على المسلمين؛ فحاصروهم من جميع الجهات؛ وقد التفّ خالد بن الوليد(الذي كان لا يزال على الكفر) حول الجبل منتهزا فرصة ترك الرماة أماكنهم؛ واعمل الرماح في ظهور المسلمين؛ فحلّت الكارثة على المسلمين ولم يثبت مع الرسول صلى الله عليه وسلم سوى أربعة عشر رجلا؛ حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أصيب إثر هذه الفوضى، فتكسرت بعض أسنانه وشقت شفته وجرح في وجنته ورأسه وقد أشيع أنه قتل؛ فزاد ذلك من اضطراب صفوف المسلمين؛ ولما شعر كفار قريش أنهم قد غسلوا عار بدر قرروا الانصراف والعودة أدراجهم إلى مكة، وكان عدد قتلى المسلمين سبعين مقاتلا من الأنصار، بينما قتلى كفار قريش كانوا ثلاثة وعشرين مقاتلا! (أنظر الخارطتين) (أنظر الخريطة المتحركة:


*30*

صورتان في الكتاب

(خارطة غزوة بدر الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)

(خطة خالد بن الوليد في أحد الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)


*31*

كانت غزوة أحد، إذا، شديدة على المسلمين؛ ولكنها لم تكن انتصارا ساحقا لكفار قريش؛ لأن هدفهم الأول بالقضاء على الرسول صلى الله عليه وسلم والأمة الإسلامية الحديثة العهد، لم يتحقق. أما نتائجها، فكانت: الأخذ بثأر قتلى بدر، ثم قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بطرد يهود بني النضير من المدينة المنورة؛ لأنهم أرسلوا جاسوسين من بني عامر إلى جيش القرشيين في أحد؛ لإعلامهم بمواقع ضعف جيش المسلمين؛ فألقي القبض عليهما؛ وقتلا؛ فطالب بنو عامر المسلمين بديتهما؛ فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من بني النضير أن يشاركوا ماليا بدفع الدية، بناء على بنود (الصحيفة) (عهد الأمة)، ولما رفضوا، طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم الصلح بأن يرحلهم عن المدينة، على أن: لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح. ففعل، فحملوا أموالهم على ستمائة بعير، ورحلوا عن المدينة المنورة.

أسئلة:

1. ما هي أسباب غزوة أحد؟ بين ذلك. --

2. ما هي أسباب هزيمة المسلمين في غزوة أحد؟--

3. كان تأثير هزيمة أحد أقل وقعا على المسلمين مما لو حدثت هذه الهزيمة في بدر. وضح. --

ج- غزوة الخندق (الأحزاب) 5ه / 626م: سميت ب(الخندق) نسبة إلى الخندق الذي حفره المسلمون، في الجهة الشمالية الغربية للمدينة المنورة؛ لأنها الجهة الضعيفة في دفاعات المدينة (أنظر الخارطة التالية). كما سميت هذه الغزوة ب (الأحزاب)؛ لمشاركة جماعات (أحزاب) من القبائل العربية واليهودية مع كفار قريش فيها. (أنظر الخريطة المتحركة)

أما سببها المباشر، فيعود إلى تحريض زعماء يهود خيبر لأبي سفيان، ولقريش، على مقاتلة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين. ولم يكتفوا بذلك، بل جندوا إلى هذه المهمة قبيلة غطفان، بأن جعلوا لها تمر خيبر لمدة عام، ثم بني سليم، وغيرهم. وقد أراد يهود خيبر بذلك الانتقام من الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه طرد بني النضير من المدينة المنورة، وكانوا قد لجأوا بعدها إلى خيبر.

كان عدد جيش الأحزاب (قريش وحلفائها) حوالي عشرة آلاف مقاتل؛ في حين بلغ عدد جيش المسلمين ثلاثة آلاف مقاتل. طال الحصار؛ وأصرّ كفار قريش على مواصلته بعد أن حصلوا على تأييد زعيم بني قريظة اليهودي، ناقضا بذلك شروط (الصحيفة) (كما ذكر سابقا). ولما تدهورت أحوال (الأحزاب)، بسبب ظروف الحصار الصعبة: هبوب رياح شديدة قلعت الخيام من أماكنها، وعدم وفاء القبيلة اليهودية بني الخيام من أماكنها، وعدم وفاء القبيلة اليهودية بني قريظة لوعدهم للقرشيين بالقتال إلى جانبهم، جرى انسحاب الأحزاب بشكل مفاجئ.

أما نتائجها، فكانت: استشهاد ستة من المسلمين، ومقتل ثلاثة من الأحزاب، ثم طرد الرسول صلى الله عليه وسلم


*32*

(في الكتاب صورة - خارطة غزوة الخندق (الأحزاب) - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)

يهود بني قريظة؛ لنقضهم بنود (الصحيفة)؛ لذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عملا بتحكيم حليفهم السابق؛ سعد بن معاذ، بقتل المقاتلين منهم، وسبى الذراري والنساء مع مصادرة أسلحتهم. وبذلك تخلص نهائيا من وجود اليهود في المدينة المنورة.

أسئلة:

1. ما هي أسباب غزوة الخندق؟ ولماذا سميت ب (غزوة الخندق)؟ وضح. --

2. كيف عكست غزوة الخندق علاقة اليهود بالرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين؟ وضح. --

3. ما هي أسباب انسحاب كفار قريش والأحزاب من حصار المدينة المنورة؟ وضح. --

بعد سلسلة العمليات العسكرية السابقة، قرر الرسول صلى الله عليه وسلم لقواته، أداء العمرة ( زيارة الكعبة على مدار السنة دون وقت محدد كالحجّ) إلى مكة، فقاد ألفا وأربعمائة من أتباعه، يحملون السيوف في أغمادها؛ لكن كفار قريش منعوهم من أداء العمرة، فتوصل الطرفان على صلح، عرف ب (صلح الحديبية) عام 6ه / 628م. تنص بنوده على الشروط التالية:

1. وقف الحرب عشر سنين يكون الناس فيها آمنين على أرواحهم.

2. من أتى محمدا صلى الله عليه وسلم من قريش يطلب اعتناق الإسلام، بغير إذن وليّه، رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد صلى الله عليه وسلم، لم يردوه عليه.

3. الحق لمن يريد أن يدخل في تحالف وعهد محمد صلى الله عليه وسلم، أو قريش.


*33*

4. أن يرجع محمد صلى الله عليه وسلم هذا العام دون أن يدخل مكة لتأدية العمرة؛ وأنه إذا كان العام المقبل، دخلها مع أصحابه، يحملون السيوف وهي في أغمادها؛ ويمكثون فيها ثلاثة أيام، بعد أن يكون سكان قريش قد خرجوا منها.

ما هي أهمية (صلح الحديبية) للرسول صلى الله عليه وسلم وللدعوة الإسلامية؟

1. إنه بمثابة اعتراف صريح من كفار قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم، زعيما سياسيا، وبالدولة الإسلامية التي يمثلها، واعتراف بالإسلام دينا، كباقي أديان العرب في الجزيرة العربية.

2. إن مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم لتأدية العمرة إلى الكعبة، قد أقنع القرشيين أن المسلمين لا ينوون إيجاد بديل للكعبة في بلاد العرب، الأمر الذي كان أشد ما يخشونه.

3. منح (صلح الحديبية) الرسول صلى الله عليه وسلم الفرصة، والوقت، لنشر الإسلام بين القبائل العربية المختلفة في الجزيرة العربية، وفي خارجها؛ لأن رسالته لم تأت لا للعرب فقط، بل للعالمين. فبادر إلى إرسال الرسائل إلى الملوك والرؤساء، في الأقطار المحيطة بالجزيرة، وهم: هرقل؛ ملك الروم، وكسرى فارس، وأمير بصرى(الشام)، والمقوقس؛ عظيم القبط في مصر، والنجاشي في الحبشة، وغيرهم؛ يطالبهم فيها بإعلان إسلامهم: (أسلِم، تسلَم) في أعقاب (صلح الحديبية)، أعلن أعظم قائديْن من قادة قريش: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص إسلامهما؛ وأصبحا بذلك عونا للمسلمين في حروبهم المقبلة.

أسئلة:

1. ما هي شروط (صلح الحديبية)؟ لخّصها في دفترك. --

2. من المستفيد، حسب رأيك، من (صلح الحديبية)؟ وضح ذلك. --

د. )غزوة مؤتة) (8ه / 629م): كانت مؤتة (وتقع شرقي الأردن) تحت سيطرة مملكة الغساسنة؛ أما سببها، فكان قتل حاكم بصرى، لمبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه يدعوه إلى الإسلام، ولتأديبه على فعلته هذه، بعث حملة مؤلفة من ثلاثة آلاف مقاتل، يقودهم زيد بن حارثة، ومعه جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وخالد بن الوليد؛ أما نتائجها فكانت: هزيمة القوات الإسلامية؛ اذ قتل زيد وجعفر؛ ثم قيام خالد بترتيب عملية الانسحاب إلى المدينة، بمن تبقّى من الجند سالما؛ ولبراعته هذه لقبه الرسول صلى الله عليه وسلم ب (سيف الله المسلول).

ه. غزوة خيبر (7ه / 628م): وجهت ضد يهود خيبر خوفا من انتقامهم من المسلمين، بسبب إجلاء المسلمين لإخوانهم من بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة؛ فسار الرسول صلى الله عليه وسلم بالقوات الإسلامية إلى خيبر (شمال شرق المدينة المنورة)؛ فسيطر عليها؛ ثم صالح أهلها على أن يبقوا فيها؛ ويدفعوا نصف ما تنتجه أرضهم؛ وإذا شاء المسلمون أخرجوهم منها.


*34*

(في الكتاب صورة - تخطيط فتح مكة - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)

و. غزوة فتح مكة (8ه / 630م): (أنظر الخريطة المتحركة)

كان سببها المباشر نقض كفار قريش وحلفاؤهم ل (صلح الحديبية)؛ فحشد الرسول صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف مقاتل توجه بهم صوب مكة؛ أما في مكة؛ فقد شعر أبو سفيان، زعيم كفار قريش، أن لا قدرة لهم على مواجهة المسلمين؛ فخرج من مكة؛ ثم حصل من الرسول صلى الله عليه وسلم على الأمان؛ فأسلم أبو سفيان بذلك؛ ثم انطلق يدعو كفار قريش إلى الإسلام، والاستسلام للرسول صلى الله عليه وسلم.

هكذا، انهارت مقاومة كفار قريش؛ فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون مكة، فاتحين، دون أن يحدث بين


*35*

الطرفين معركة عنيفة. فعفا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الكثير من كفار قريش، قائلا لهم: (اذهبوا، فأنتم الطلقاء) (المحررون من العقاب)؛ ثم طاف حول الكعبة، بعد أن أمر بتحطيم الأصنام الثلاثمائة والستين التي كانت منصوبة عليها. وكان بلال بن رباح العبد الحبشي، مولى أبي بكر الصديق، هو أول من أذن للصلاة، فأصبح (أول مؤذن في الإسلام).

أسئلة:

1. ما هي أهمية غزوة خيبر في نظر الرسول صلى الله عليه وسلم؟ اشرح. --

2. من هم (الطلقاء)؟ وضح. --

(في الكتاب صورة - مهد الدعوة الإسلامية في الحجاز - الجزيرة العربية - الرجاء الاستعانة بالمعلم لمزيد من الوصف)

بفتح مكة، أخذ الإسلام ينتشر في غالبية أنحاء الجزيرة؛ واستمرت مع ذلك الغزوات والسرايا في أنحاء الجزيرة العربية؛ وجاءت وفود القبائل عند الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لتعلن إسلامها، فعرف العام الذي قدمت فيه ب (عام الوفود) عام 8-9ه / 630-631م.


*36*

حجة الوداع (10ه / 632م): في السنة العاشرة للهجرة حجّ الرسول صلى الله عليه وسلم حجته الأخيرة إلى مكة؛ وكان أثناء حجته هذه، قد حدد مناسك الحج للمسلمين؛ يقلدونه فيها حتى يومنا هذا. ثم ألقى خلالها، خطبة الوداع، إليك بعض الفقرات منها:

1. أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام (محرم شرعا) إلى أن تلقوا ربكم.

2. من كانت عنده أمانة، فليؤدها إلى من ائتمنه عليها.

3. إن كل ربا (الفائدة المالية) موضوع (ملغي)، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تَظلِمون ولا تُظلَمون قضى الله لا ربا، وإن ربا عباس بن عبد المطلب، موضوع كله،

4. إن كل دم كان في الجاهلية موضوع.

5. إن النسيء(إضافة شهر على السنة لزيادة الفائدة والربح)، زيادة في الكفر.

6. تركت فيكم ما إن اعتصمتم به (تمسكتم به)، فلن تضلّوا أبدا؛ كتاب الله، وسنة نبيه (العبارة وسنة نبيه وردت عند ابن هشام، أنظر كتاب السيرة النبوية، ج4، ص186).

7. إن المسلمين إخوة، فلا يحلّ لمرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه (ن.م.ج4، ص185-186).

أسئلة:

1. شملت خطبة الوداع على وصايا: دينية، اجتماعية، اقتصادية. وضح. -

توفى الرسول (صلوات الله عليه) بعد عودته من حجة الوداع إلى المدينة المنورة، عام 11ه / 632م، وكان يناهز الثلاثة والستين عاما؛ ووُرِيَ التراب الطاهر في المدينة المنورة (في مسجد المدينة-مسجدي). وهكذا توفي الرسول(صلوات الله عليه)، وقد نجحت دعوته للإسلام بالانتشار في غالبية الجزيرة العربية. ويكون بذلك قد أنشأ للعرب دينا ودولة في آن واحد.

تعالوا نتذكر

بواسطة قاموس الأسماء والمصطلحات:

عام الفيل، خديجة بنت خويلد، الدعوة السرية، دعوة الأفراد، الدعوة العلنية، أبو لهب، عمار ابن ياسر، بلال العبد الحبشي، أبو جهل، أبو سفيان بن حرب، النجاشي، جعفر بن أبي طالب، المقاطعة عام 616م، أبو هاشم، الإسراء والمعراج، حائط البراق، العقبة الأولى، العقبة الثانية، قباء، الأوس والخزرج (الأنصار)، دار الندوة، أولى القبلتين، المؤاخاة، الصحيفة (عهد الأمة)، السرية والغزوة، الجهاد، غزوة بدر، غزوة أحد، غزوة الخندق (الأحزاب)، صلح الحديبية، غزوة مؤتة، غزوة خيبر، غزوة فتح مكة، الطلقاء، عام الوفود، حجة الوداع.


*37*

الفصل الثالث


*37*

عهد الخلفاء الراشدين (11-41ه / 632-661م)


*37*


*38*

1. نشأة الخلافة: مكانة وصلاحيات الخليفة في الدولة الراشدية:

اجتماع السقيفة (بني ساعدة):

لم يعين الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، من يخلفه في قيادة الأمة؛ فبرزت بعد وفاته مسألة من يخلفه في قيادة الأمة الإسلامية؟ ودار نقاش بين الأنصار والمهاجرين في سقيفة بني ساعدة في المدينة المنورة؛ لتعيين خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم؛ وكان الأنصار قد أرادوا تعيين زعيم الخزرج، وهو سعد بن عبادة؛ وكان قد حضر اجتماع السقيفة من المهاجرين: أبو بكر، وعمر، وعليّ، وطلحة، والزّبير، وأبو عبيدة عامر بن الجراح؛ فادعى كل طرف-من الأنصار والمهاجرين- أحقيته بالخلافة، مبينا فضله في دعم الرسول صلى الله عليه وسلم، ونجاح دعوته. فبايع عمر أبا بكر، للأسباب التالية:

1. أفضليته بين المهاجرين.

2. رفيق الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء أثناء الهجرة، كما نصّ عليه القرآن الكريم: (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) (سورة التوبة 9: 40).

3. قاد المسلمين في صلاتهم، بتكليف من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته صلوات الله عليه.

4. كونه من السابقين بتصديق دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، لذلك لقبه ب(الصديق)؛ لسرعة تصديقه دعوته إلى عبادة الله الواحد الأحد.

5. هو أكبر الصحابة سنا.

6. أنفق من أمواله دعما للدعوة الإسلامية.

وبعد عمر، بايع أبا بكر كل من: أبو عبيدة، وبشير بن سعد، من زعماء الخزرج، ثم زعماء الأوس أيضا، ليصبح أول رئيس للدولة الإسلامية، ولقّب بلقب، (خليفة)، خلف بعده ثلاثة، وهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعرف الأربعة يعرفون في التاريخ الإسلامي ب (الخلفاء الراشدين) (استعمل هنا اسم الفاعل، أي: (راشدون) بدل اسم المفعول، أي: (مرشودون)؛ لأنهم أرشدوا على الحكم على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم).

كان المبدأ الذي اتبع في تعيين الخليفة هو الشورى (المشاورة) طيلة فترة الخلفاء الراشدين؛ لكن تغير الأمر؛ فأصبحت وراثية زمن الخلافتين: الأموية والعباسية. أما صلاحيات الخليفة، فشملت الأمور الدينية والدنيوية في آن واحد، مثل: حفظ الدين، وإنزال العقوبات بمستحقيها (حسب الشرع الإسلامي)، والقضاء بالأمور المدنية بين المسلمين، والحفاظ على الأمن والدفاع عن الدولة وجباية الضرائب وإنفاقها على مستحقيها، وتعيين موظفي الدولة وإقالتهم، والإشراف على أعمال الدولة.

سؤال:

1. لماذا استحق أبو بكر الخلافة، حسب رأي عمر بن الخطاب؟ وضح. --

ومع اختيار أبي بكر يبدأ عصر الخلفاء الراشدين؛ وتعتبر فترة حكمهم عصر التبلور: السياسي، والإداري، والاقتصادي للدولة الإسلامية التي أضحت


*39*

إمبراطورية عظيمة بفضل الفتوحات الكبرى في عهدهم:

أبو بكر الصديق رضي الله عنه (11-13ه / 632-634م):

لقبه الرسول صلى الله عليه وسلم، ب(الصِّدّيق)؛ لسرعة تصديقه لدعوته أي: عبادة إله واحد لا شريك له؛ وقد أنفق ثروته في سبيل دعم ونصرة الدعوة الإسلاميّة؛ وقد أسلم على يديه كبار الصحابة؛ وأصبح بمثابة (وزير) للرسول صلى الله عليه وسلم؛ وكان رفيقه في الهجرة إلى يثرب؛ واشتهر بالتواضع والعفة والزهد. اختير خليفة في سقيفة بني ساعدة (كما مر)؛ أما أهم الأحداث التي شهدتها خلافته، فكانت: القضاء على حركة الرّدّة، وتعني العودة عن الإسلام إلى عبادة الأصنام؛ وقد بدأت عملية رّدّة بعض القبائل العربية عن الإسلام، زمن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ واستمرت عند تسلم أبي بكر الخلافة.

أسباب الرّدّة:

ويمكن إجمال أسباب الرّدّة بما يلي:

أ. تأييد بعض القبائل، بدافع العصبية القبلية، لأشخاص ادّعوا فيها النبوة، فعرفوا بالأنبياء الكذبة، منهم: الأسود العنسي (في اليمن)، وطليحة بن خويلد الأسدي (في نجد)، ومسيلمة الكذاب من بني حنيفة (في اليمامة)، سجاح بنت الحارث (من قبيلة تغلب النصرانية). (أنظر الخارطة على الصفحة التالية).

ب. عدم تعوّد بعض القبائل الخضوع للنظام الذي أقرّه الإسلام، مثل: تحريم الخمر، والميسر (المقاومة)، والزنا، وغيرها.

ج. رفض بعض القبائل دفع ضريبة الزكاة؛ إذ اعتبرتها بمثابة ضريبة، وخضوعا مهينا لها.

د. قدمت بعض القبائل ولاءها السياسي للرسول صلى الله عليه وسلم؛ وعدّت هذا الولاء له شخصيا حسب التقاليد-ينتهي بوفاته (صلوات الله عليه).

ه. رأت بعض القبائل (في شمالي الحجاز)، أن معاهداتها مع الرسول صلى الله عليه وسلم، قد انتهت بوفاته؛ ولذلك فلم تر ما يوجب خضوعها لأبي بكر.

أرسل أبو بكر أحد عشر جيشا لمقاتلة المرتدين؛ وأوصى قادتها أن ادعوهم أولا للعودة إلى الإسلام؛ فإذا رفضوا فقاتلوهم، وكان أبرز هؤلاء القادة: خالد بن الوليد (أنظر الخارطة على الصفحة التالية):

كانت لحروب الردة نتائج هامّة منها:

1.قضت على مقاومة الأعراب البدو للدعوة الإسلامية.

2. هيأت للمسلمين الانطلاق للفتوحات خارج حدود الجزيرة العربية.

3. وحدت بين المهاجرين والأنصار، بعد الخلاف حول اختيار أبي بكر في سقيفة بني ساعدة.

4. اختبر المسلمون أهمية التنسيق بين القادة في إدارة المعارك، كما ستبرز فائدته في الفتوحات الإسلامية.


*40*

(في الكتاب صورة - خارطة حروب الرّدّة - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)

2. الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين: أهدافها واتجاهاتها: (أنظر الشريحة المحوسبة على موقع الإنترنت (الفتوحات الإسلامية))

أ. الدوافع:

اختلف الباحثون حول دوافع الفتوحات الإسلامية، فذكروا منها:

1. الدافع الديني: بأن الفتوحات الإسلامية، كان هدفها نشر الدعوة الإسلامية لجميع البشر؛ لأن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تقتصر على العرب وحدهم، بل كافة العالمين.

2. الدافع الاقتصادي: إيجاد موارد جديدة


*41*

للعيش؛ لأن الإسلام قد أوقف الغزو، الذي كان جانبا أساسيا في حياة البدو، في حين أن موارد الجزيرة تقل عن حاجة سكانها؛ كما وأن حروب الردة أدت إلى توقف التجارة كليا تقريبا في الجزيرة؛ فيلزم والحالة هذه، البحث عن موارد اقتصادية للتعويض عن تدهور الحالة الاقتصادية لعرب الجزيرة.

3. الدافع القومي: إنها جاءت لتحرير القبائل العربية التي خضعت للفرس، أو للبيزنطيين (الروم). وقد شجعهم إلى ذلك استرجاع وحدتهم التي هدّدتها حركة الرّدّة.

عمل بيتي:

1. لخّص دوافع الفتوحات الإسلامية؛ ثم بين رأيك في كل منها.

ب. اتجاهات الفتوحات:

كان هناك قوتان سياسيتان تحدان الجزيرة العربية، من الشمال الشرقي والغربي، هما: الإمبراطورية البيزنطية، التي سيطرت على بلاد الشام ومصر، وباقي شمال افريقية; ثم الإمبراطورية الفارسية (الساسانية) التي سيطرت على العراق بالإضافة إلى بلاد فارس أما العوامل التي سهلت عملية الفتوحات الإسلامية فكانت:

1. كانت القوات البيزنطية (الرومية) في بلاد الشام، في طور الانتقال في المجالين: العسكري - الإداري، فقد سعى البيزنطيون إلى تحصين حدودهم مع الفرس مهملين القطاع الجنوبي لبعده عن الخطر الفارسي اولاً، ولأنه لم يكن في تفكيرهم العسكري أن عرب الجزيرة قد يشكلون خطراً على الإمبراطورية وبلاد الشام ثانياً.

2. كانت هاتان الإمبراطوريتان الساسنية والبيزنطية تمران في أزمة اقتصادية حادة، مما ادّى إلى إهمال الحكام فيهما تطوير الجيش والتحصينات العسكرية، لذلك أشركت فيهما مرتزقة.

3. ضعفت خزينة الإمبراطوريتين، نتيجة للحروب المستمرة بينهما.

4. حصول صراعات دينية داخلية في الإمبراطوريتين.

5. فرض الضرائب الباهظة على السكان المحليين في كلتا الإمبراطوريتين.

6.كان الجيش العربي الإسلامي الفاتح يتمتع بالقوة الدافقة في الدين الجديد: الإسلام، وبوحدة الكلمة تحت قيادة قواد عظماء، أرسلوا لقتال هاتين الإمبراطوريتين في آن واحد.

1. جبهة العراق وبلاد فارس:

أرسل أبو بكر القائد خالد بن الوليد ليدعم جيش المسلمين، من قبائل شيبان التي كانت تقاتل الفرس; وبدأت جيوش المسلمين في عملية فتح العراق من منطقة السوّاد; فبدأوا بموقعة ذات السلاسل في 12 ه / 632 م، وواصلوا فتوحاتهم. ولكي تتعرف إليها، انظر الخارطة التالية:


*42*

(في الكتاب صورة - خارطة فتوحات العراق وبلاد فارس - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)

أسئلة:

1. ما هي المناطق التي فُتحت في العراق على يد خالد بن الوليد؟ وضح --

2. ما هي اشهر المعارك التي خاضها الجيش الإسلامي في العراق ضد الساسانيين؟ وضح --

2. جبهة بلاد الشام:

كانت بلاد الشام (سوريا، لبنان وفلسطين) تخضع للإمبراطورية البيزنطية. وفي منتصف سنة 12 ه / 633 م، وجّه أبو بكر أربعة جيوش لفتح بلاد الشام; وأوصاهم بألا يقتلوا طفلاً، ولا شيخاً كبيراً. ولا إمرأة; وألا يقطعوا شجرة مثمرة; وأن يطلبوا من سكانها النصارى، الدخول في الإسلام أو البقاء


*43*

على دينهم، والعيش في الدولة الإسلامية لقاء دفعهم ضريبة (الجزية)، حيث تقوم الدولة الإسلامية بحمايتهم ولا يجبرون التجند في الجيش، وهكذا عرفوا ب (أهل الذمة)، أو القتال إذا رفضوا الخيارين السابقين; أما قادة هذه الجيوش، واتجاهاتهم فانظر الى الخارطة التالية لتعرف ذلك، ثم أجب عن ألأسئلة.

أسئلة:

1. من هم قادة الجيوش العربية الإسلامية التي وجهها الخليفة أبو بكر إلى الشام؟ وضّح --

2. اذكر اشهر المعارك التي خاضتها تلك الجيوش؟ عددها، ثم بين أهميتها في توسيع الفتوحات في بلاد الشام. --

(في الكتاب صورة - خارطة فتوحات الشام - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)


*44*

وصل خالد بن الوليد قمة نجاحه بالاستيلاء على الحيرة والأنبار، لكن أبا بكر أمره بالتوجه بنصف جيشه ليساعد القوات الإسلامية التي تقاتل في الشام، فوصل إلى دمشق، حيث قاد في البداية قوات المسلمين التي تجمعت لقتال البيزنطيين في اليرموك (كما سنشرح لاحقاً).

3. الفتوحات في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

أ. الفتوحات على جبهة العراق وفارس:

1. معركة القادسية (15ه / 637 م): في خلافة عمر بن الخطاب (13 ه-23 ه / 634 م - 644م)، تواصلت الفتوحات الإسلامية على جميع الجبهات، فعلى الجبهة العراقية حصلت معركة فاصلة بين القوات الإسلامية والقوات الفارسية، وعرفت ب (معركة القادسية)، قاد جيش الفرس القائد رستم، أما الجيش الإسلامي فقاده سعد بن أبي وقاص، وعدده ثلاثون الفاً (في رواية أخرى عشرون); بينما بلغ عدد أفراد الجيش الفارسي مائة وعشرين الفاً، يصطحبون معهم الفيَلة.

دارت المعركة بين الطرفين، في سهل القادسية، لمدة ثلاثة أيام. وفي اليوم الثاني: ويعرف ب (يوم أغوات) حصل سعد بن أبي وقاص على مساعدة عسكرية من الشام، بأمر من الخليفة عمر، فقوي معسكر المسلمين في اليوم الثالث. وكانوا يضربون أعين الفيَلة بالسهام، فترتد إلى الوراء وتدوس الجنود الفرس اثناء تقهقرها، ثم تقتل رستم، فلحقت هزيمة ساحقة بالفرس فتحت على أثرها الطريق أمام جيش المسلمين لفتح بلاد فارس الأصلية، فسقطت عاصمتهم المدائن في 16 ه / 637 م حيث هرب منها الشاهنشاه (كلمة فارسية تعني ملك الملوك) الفارسي يَزدجرد. ثم بادر إلى جمع جيش، التقى بالمسلمين في معركة نهاوند (20ه / 640 م أو 641 م) فكانت نصراً ساحقاً للمسلمين حتى أسموها )فتح الفتوح)، سقطت في أعقابها الدولة الساسانية، أما يَزدجرد، فأخذ يتنقل من بلد لآخر ويعمل على تنظيم المقاومة ضد المسلمين; إلى آن قتل في خلافة عثمان سنة 33 ه / 654م.

ثم أرسل سعد بعد القادسية قائده: عياض بن غنم، ففتح بلاد الجزيرة (الفراتية) شمالي الموصل (16 ه / 637 م -17 ه 638 م).

في هذه المرحلة من الفتوحات أقام المسلمون بأمر الخليفة عمر مدينتين، هما: مدينة البصرة في 16 ه / 637 م، وقد بناها عتبة بن غزوان. ثم مدينة الكوفة 17 ه / 638 م، وقد بناها سعد بن أبي وقاص. فأصبحت هاتان المدينتان نقطتي انطلاق الجيوش الإسلامية في مواصلة فتوحها في بلاد فارس والعراق.

بعد معركة نهاوند، استمرت الفتوحات الإسلامية في غزو بلاد فارس، وكانت القوات الإسلامية تنطلق من حاضرتي الولايتين: البصرة والكوفة. فمن البصرة، قام واليها أبو موسى الأشعري بشن الغارات على إقليم الأهواز، ثم بادر والي الكوفة عمار بن ياسر إلى فتح الري شمالاً. وفي 22 ه / 642 م أرسل المُغيرة بن شُعبة والي الكوفة الجديد جيشاً من عرب الكوفة لغزو أذربيجان.

ب. الفتوحات على جبهة بلاد الشام :

أ. معركة اليرموك 15 ه / 636 م): بعد انهزام البيزنطيين في معركتي أجنادين وبيسان، حشدوا جيشاً كبيراً بقيادة أخي القيصر البيزنطي: ولذلك انسحبت الجيوش الإسلامية من دمشق وحمص، وتراجعت عند وادي اليرموك; فقادهم خالد بن الوليد، الذي وصل الى الشام قادماً من العراق بأمر أبي بكر.

نظّم خالد بن الوليد الجيوش الإسلامية على الطريقة البيزنطية، أي إلى كتائب )كراديس) (koortis)، بلغت ثمانية وثلاثين كردوساً، عشرة في كل جناح من الجناحين الأيمن والأيسر، وثمانية عشر كردوساً في القلب، كما ووضع معسكر النساء خلف التنظيم القتالي، وحدد له واجباته في: أ- رعاية الجرحى

ب- عدم السماح لأحد بالتراجع. انظر موقع اليرموك وخارطة المعركة. (انظر الخارطة المتحركة:

(في الكتاب صورة - خارطة لخطة تحرك الجيشين الإسلامي والبيزنطي- معركة اليرموك 15ه / 636 م)


*46*

كان ميزان القوى لصالح لجيش الروم; وهنالك تقدير لبعض المصادر الإسلامية بأن عدده قد بلغ مائتين وأربعين ألفاً (ثمانون منهم من الفرسان)، بينما بلغ تعداد جيش المسلمين ثمانية وثلاثين الفاً (عشرة آلاف منهم من الفرسان).

الذي قاد المعركة من الجانب الرومي هو ماهان (وهو اخو القيصر هرقل)، أما من الجانب الإسلامي فكان خالد بن الوليد، الذي أمر مجموعات من جنده بإشعال النار، على محور الطريق إلى اليرموك، ووزع قواته في كمين، يحتل المرتفعات، ويمتد حتى أطراف نهر اليرموك، ثم اندفع بكتيبة صغيرة إلى داخل معسكر الروم على شكل غارة مباغتة، واشتبك مع فرسان الروم، ثم تظاهر بالفرار، فتبعوه وبذلك فصل فرسان الروم عن جنود المشاة، فأخذ فرسان المسلمين ينطلقون من كمائنهم ويقتلون فرسان الروم، فقضي على القسم الأكبر منهم. كما وقاتلوا جنود الروم المقيدين بالسلاسل (وكان قادة الروم قد لجأوا إلى تقييد كل عشرة مقاتلين بالسلاسل، كي لا يفروا من أرض المعركة)، وكانوا يتراجعون حسب المخطط الموضوع، إلى حافة الوادي، فكان القضاء على واحدٍ أو اثنين منهم عند وصولهم حافة الوادي، كافياً لسقوط مجموعة العشرة المسلسلين. وبهذه الطريقة سقط في الوادي ثمانون الفا من جند الروم (البيزنطيين). ثم أخذت المجموعات الباقية منهم بالفرار.

كان من أبرز عوامل ضعف الجيش البيزنطي أن معظمه كانوا من المرتزقة وهم الذين قيدهم قادة الروم بالسلاسل (ما مر)، ثم آن الروح القتالية لديهم كانت متدنية، فضلاً عن انحياز جَبَلةُ بن الأيهم، وهو ملك الغساسنة من العرب النصارى (وكانت مملكته خاضعة لسيطرة الدولة البيزنطية) كما مر معنا في الفصل الأول، إلى القتال في جانب المعسكر الإسلامي، بدافع العروبة، ثم أسلم بعدها وحج إلى مكة المكرمة، إلا انه ارتد عن إسلامه وسافر إلى بلاد الروم ومات فيها.

كانت معركة اليرموك من المعارك الفاصلة في التاريخ، كما كانت القادسية، فقد فتحت الطريف أمام الجيش الإسلامي في إتمام سيطرته على بلاد الشام وفلسطين، ومنها الانطلاق الى فتح مصر. فهي تشكل خسارة كبيرة للدولة البيزنطية، عبّر عنها قيصر الروم هرقل حين قال: (عليكِ، يا سوريا، السلام، ونِعمَ البلد للعدو) (يعني: ارض ألشام، لكثرة مراعيها، إذ كانت مخزن الحبوب للإمبراطورية البيزنطية).

أسئلة:

1. اشرح خطة المسلمين القتالية في معركة اليرموك. --

2. ما هي أسباب ضعف المعسكر البيزنطي في معركة اليرموك؟ وضح. --


*47*

اتمام فتح فلسطين: حاصرت القوات الإسلامية ايلياء 4 (هي ايليا كابيتولينا: (ايلياء) هو اسم عائلة القيصر الروماني إدريانوس، الذي قضى على ثورة اليهود بقيادة باركوخبا عام 132 م-135 م، وكابيتولينا: على اسم تله الكابتول في روما حيث هيكل الإله جوبيتر، رئيس الألهة عند الرومان). مركز فلسطين الإداري في العهد البيزنطي، مدة أربع اشهر، تخللتها عمليات عسكرية فتضايق سكانها وحمايتها، فقررت تسليمها لقاء أن يمنحهم الخليفة عمر بن الخطاب الأمان لأنفسهم، أموالهم، كنائسهم وصلبانهم، ولهذه الغاية حضر وفد من أهل بيت المقدس الى الجابية (شمالي نهر اليرموك)، حيث كان الخليفة عمر مجتمعاً بقادة الفتوحات، فصالحهم، وكتب لهم الأمان في 15 ه / 638 م، وهو ما اشتهر ب (العُهدة العُمرية)، نسبة الى الخليفة عمر. وبعد فراغه من مؤتمر الجابية، قدِم الخليفة عمر الى ايلياء ليتسلم مفاتيحها من بطريكها الاورثوذكسي صُفرونيوس. استقبله البطريك خارج الاسوار، اصطحبه في دخول المدينة، فزار الخليفة عمر كنيسة القيامة وعندما حان وقت الصلاة اقترح عليه صُفرونيوس بأن يصلي فيها، لكن الخليفة عمر رفض ذلك، وخرج منها وصلى في مكان مقابل لها، أي في المكان الذي أصبح يعرف فيما بعد ب (المسجد العُمري). ثم تابع مسيره الى الحرم الشريف، حيث قبة الصخرة المشرفة، التي منها صعد الرسول صلى الله عليه وسلم الى السماء السابعة، في حادثة الإسار والمعراج، فأزال عنها الأوساخ التي تراكمت عليها وطُهِّرت.

بعد فتح ايلياء، التي أصبحت تعرف في تاريخ الإسلام ب (بيت المقدس)، أو (البيت المُقدّس)، وهي التي اشتهرت لدى المسلمين ب (أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين). ثم دخلت مدن قيصرية، وعسقلان في حوزة المسلمين، وبذلك أصبحت كل فلسطين تحت الحكم العربي الإسلامي. وفي سنة 18 ه / 639 م، تفشى فيها مرض الطاعون، عرف بطاعون (عِمواس) أو عَمواس (الى الغرب من بيت المقدس)، فمات فيه خلق كثير لا يحصى من الصحابة، ومنهم من قادة الفتح: أبو عبيدة عامر بن الجراح، وشُرحبيل بن حسنة، ثم مات ومنه يزيد بن أبي سفيان، فخلفه اخوه معاوية، الذي أصبح مؤسساً للدولة الأموية. أما خالد بن الوليد، فمات في حمص سنة 21 ه / 642 م، ودُفن فيها.

ج. الفتوحات على جبهة شمال افريقية (فتح مصر):

استأذن عمرو بن العاص الخليفة عمر بفتح مصر، فأذِن له بعد تردد. وكان عمرو بن العاص مطلعاً على حالة مصر، من خلال زياراته لها في الجاهلية.

كان سكان مصر أقباطاً (أو قبط ومفردها قبطي)، وهم من النصارى الشرقيين ومن نسل الفراعنة القدماء. ورغم كونهم نصارى، إلا انهم قد تعرضوا لاضطهاد ديني من قِبل السلطة البيزنطية النصرانية، لاختلافهم معها في مسألة طبيعة السيد المسيح (عيسى عليه السلام): هل هي إلهية أم بشرية؟، فقد امن الأقباط بأن السيد المسيح، طبيعة واحدة هي: الطبيعة الالهية.


*48*

واتسعت تلك الخلافات لتشمل المجالات الثقافية والإقليمية، فاضطهد البيزنطيون رؤساء الكنيسة القبطية، مما جعل بعضهم يفر إلى الصحاري هرباً من السلطة البيزنطية، لذا نظر الأقباط إلى المسلمين الفاتحين، كمخلصين ومنقذين. هذا، وكان حاكم الأقباط (وهو المُقوقِس) قد استقبل رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم بالترحاب، وأرسل له جارتين اختين هدية: مارية التي تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم (أم ابنه إبراهيم الذي توفي بعد مدة 5 (لقد حزن الرسول صلى الله عليه وسلم شديداً على موته، فعبّر عن ذلك بقوله (إنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون) وسيرين التي زوجّها لشاعره حسان بن ثابت.

سار القائد عمرو بن العاص، يقود ثلاثة آلاف مقاتل لفتح مصر عام 18ه / 639م، فسار بمحاذاة الساحل، فحاصر بَلبِيس شمال شرقي القاهرة واستولى عليها بعد قتال حاميتها البيزنطية لمدة شهر لمدة شهر، ومنها اتجه عمرو إلى رأس الدلتا وضرب حصاراً على حصن بابليون، الذي تجمعت فيه حامية بيزنطية كبيرة، وعندها تلقى مساعدة عسكرية من الخليفة عمر تقدر بأربعة آلاف مقاتل.

اشتد حصار المسلمين على بابليون، فاتصل المُقوقِس بعمرو، وعرض عليه الدخول في عهد المسلمين باسم أهل مصر، فقبل ذلك وعقد الصلح مع المسلمين نيابة عن أقباط مصر.

سار بعدها عمرو إلى الإسكندرية، وهي قاعدة مصر البيزنطية، وبعد حصار دام أربعة اشهر، سلمت المدينة صلحاً سنة 20ه / 641م، على أن يجلو عنها من يريد من الروم، وغيرهم، وتستلم مصر كلها، ويصبح أهلها معاهدين (أهل الذمة).

ومن الإسكندرية، انطلق عمرو، فيما بعد نحو الغرب لفتح بُرقة، فسيطر عليها ثم فتح طرابلس سنة 23ه / 644م، وضم بذلك إقليم طرابلس إلى ولاية مصر، وعند هذا الحد وصلت الفتوحات في الغرب في عهد الخليفة عمر بن الخطاب. انظر الخريطة التالية:

(في الكتاب صورة - خارطة فتح مصر- الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)


*49*

واستمرت الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة عثمان بن عفان: فعلى الجبهة الفارسية، يعود الفضل فيها إلى والي البصرة: عبد الله بن عامر بن كريز (حتى سنة 30ه / 651م) ساعده في عملية الفتوحات هذه قادة عظام، من أمثال: عثمان بن حُنيف، عبد الله ابن العباس بن عبد المطلب، الأحنف بن قيس وغيرهم...

وفي الوقت الذي فيه كانت غزوات والي البصرة تتوغل في بلاد فارس، كان والي الكوفة: سعيد بن العاص، يستولي على إقليم طُبرستان، ثم عقد مع حاكم جُرجان صلحاً يقضي بأن يدفع للمسلمين ضريبة سنوية، مقدارها مائة ألف درهم.

وعلى الجبهة البيزنطية فتح حبيب بن مسلمة الفهري بلاد ارمينية، فعقد مع مدن ارمينية معاهدات أمان، ثم عيّن الخليفة عثمان حُذيفة بن اليمان والياً عليها. وكان فتح جزيرة قبرص من أهم التطورات في عملية الفتوحات زمن الخليفة عثمان، ففي سنة 28ه / 649م، غزا معاوية بن أبي سفيان: والي الشام، بأسطوله الذي بناه في ميناء عكا، جزيرة قبرص، وعقد صلحاً مع أهلها كلنهم عادوا ونقضوه، فعاد ليغزوها سنة 32ه / 653م، وفي هذه المرة أخضعها للسيطرة الإسلامية. ثم استولى على جزيرة رودوس. وهكذا، حُرم الاسطول البيزنطي من قواعد كان يستعملها للاغارة على شواطئ بلاد الشام. كما وحصلت معركة بحرية هامة بين الاسطولين: الإسلامي والبيزنطي، في خلافة عثمان وهي المشهورة ب (معركة ذات السواري) (أو الصواري)، سنة 34ه / 655م، وقد سميت بذلك لكثرة سواري السفن (مفردها سارية) التي اشتركت في المعركة، وقد الحق الأسطول الإسلامي هزيمة فيها بالأسطول البيزنطي، إذ انتزعت منه السيادة على البحر الأبيض المتوسط شرقاً، وقد شعر البيزنطيون بأن خسارتهم هذه لا تقل عن خسارتهم في اليرموك، فأطلقوا عليها (اليرموك الثانية).

وعلى جبهة شمال افريقّية، تواصلت الفتوحات على عهد الخليفة عثمان، الذي عين أخاه بالرضاعة: عبد الله بن أبي السرح على ولاية مصر، خلفا لفاتحها: عمرو بن العاص، فبادر الوالي الجديد إلى إتمام فتوحات عمرو، في شمالي افريقيّة والنوبي جنوبي مصر. ففي شمال اقريقيّة، وصل فتوحاته حتى قرطاجة الجديدة (في تونس اليوم)، كما انه أرسل جيشاً ففتح بلاد النوبة وحارب أهل دُنقُلة (في السودان)، فانتصر عليهم ثم عقد صلحاً معهم، يؤدون بمقتضاه ضريبة من العبيد وعددهم ثلاثمائة وستون رجلاً، ويتعهدون بفتح بلاد المسلمين. وبني هناك مسجداً وبذلك بدأ الإسلام ينتشر بينهم.

عمل إجمالي:

1) لخص المناطق التي فُتحت زمن الخلفاء الراشدين حتى خلافة عثمان بن عفان سنة 23ه / 656م. حاول أن تنظم إجابتك حسب القوائم التالية: --

(جدول في الكتاب مكون من أربعة أعمدة:)

المناطق التي فُتحت،  أسماء قادة الفتح،  المعركة الحاسمة،  السنة

--،  --،  --،  --


*50*

3. دور الخليفة عمر بن الخطاب (13-23ه / 634-644م) رضي الله عنه، في التنظيمات الإدارية:

كان عمر قد اسلم في السنة الخامسة للهجرة (726 للميلاد)، فعزز بذلك قوة المسلمين في مكة، ولقبه الرسول صلى الله عليه وسلم ب (الفاروق) لأنه يفرق بين الحق والباطل. وقبل وفاة أبي بكر، عهد إليه بالخلافة من بعده. ولقب (أمير المؤمنين). وفي خلافته تحولت الدولة الإسلامية إلى إمبراطورية بفضل الفتوحات الإسلامية التي حدثت في خلافته (كما رأينا سابقاً).أما أهم الإعمال التي قام بها فشملت:

1. تقسيم الدولة إلى ولايات، قسم الخليفة عمر الدولة إلى ولايات، ثم عيّن على كل منها والياً من العرب اختاره بنفسه، وشرط عليه شروطاً وراقب عمله. كان عادلاُ في حكمه، وقصته مع والي مصر عمرو بن العاص وابنه مشهورة، فقد انتصر للمصري (القِبطي) الذي اشتكى له من ظلم الوالي وابنه، بعد أن ضربه الابن بالسوط مردداُ (أتسبق ابن الأقدمين)، وذلك على اثر سباق للخيل وكان أن سبق فرسُ المصري، فرسَ ابن عمرو، فاستدعى عمر عمراً وابنه إلى المدينة المنورة، فأعطى المصري سوطاً، وطلب منه أن يضرب ابن الأكرمين (ابن عمرو)، ففعل، ورفض ضرب عَمراً على صلعته، كما طلب منه الخليفة عمر. وعندها قال عمر مقولته المشهورة (أيا عمرو! متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم احراراً؟)

2. إنشاء (بيت مال المسلمين)، هو أشبه بخزينة الدولة، أو بوزارة المالية في أيامنا، حفظت فيه واردات الدولة من خراج، زكاة، جزية، فيء، غنيمة وعشور. ثم حدد مقدار ما يصرف لكل مسلم من راتب (عطاء) على أساس: مدى صلة القرابة من الرسول صلى الله عليه وسلم، والسابقة في اعتناق الإسلام. ثم فرض لكل مولود ونساء المهاجرين والأنصار، وبعد انتهاء جيل السابقين في الإسلام، اتبع في توزيع العطاء بموجب قاعدة: الدخول في الإسلام حسب المعارك المشهورن (قبلها، أو بعدها).

3. إنشاء (الدواوين)، وهي تشبه الوزارات في أيامنا مثل: ديوان الجُند (يسجل فيه أسماء وملامح الجنود). وديوان الخراج (أو الجباية، أو الاستيفاء)، حيث سجلت فيه جميع الواردات المالية للدولة والتي حفظت في (بيت مال المسلمين).

4. تعيين القضاة في الولايات، وكانوا مستقلين عن سلطة الوالي فيها، ثم تنظيم القضاء، كما ورد في رسالة الخليفة عمر، إلى واليه على الكوفة، الصحابي أبي موسى الأشعري.

5.وضع التقويم الهجري، فكان الخليفة عمر أول من وضعه، وبدأه في سنة ست عشرة لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة.

6. تعيين مقدار ضريبة الجزية المفروضة على أهل الذمة من النصارى واليهود، لقاء حماية الدولة الإسلامية لهم: 12 درهماً على الفقراء، 24 درهماً على متوسطي الحال، 48 درهماً على الأغنياء، تدفع مره كل سنة.

7. وضع ضريبة الخراج، فلم يقسم أرض السواد 6 (منطقة السواد هي المنطقة الجنوبية من العراق، سميت بذلك لسوادها بالزرع والأشجار، لأنه عندما كان العرب يخرجون من جزيرتهم التي لا زرع فيها ولا شجر بكثرة، ظهرت لهم خضرة الزروع والأشجار، فسموا خضرة العراق سواداً، انظر: محمد بن الحسين أبو يعلى، الأحكام السلطانية (مصر، 1938) ص 187) على الجنود، كغنيمة حرب، بل أبقاها بأيدي


*51*

أصحابها من أهل الذمة، مقابل أن يدفعوا ضريبة عنها عرفت ب (الخراج) 7 ( الخراج، هي ضريبة على الأرض التي فتحت بالقوة أو سلماً وأبقيت بأيدي أصحابها القدامى لقاء دفعهم ضريبتها التي حددت بموجب المنتوج أو المساحة ولا تسقط اذا اسلم المنتقع بها، لأنها أصبحت ملك الدولة الإسلامية بفعل الفتح).

وقد انتهت خلافة الخليفة باغتياله على يد أبي لؤلؤة المجوسي، بينما كان يصلي في المسجد.

4. الفتنة على الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه (23-35ه / 644-656م):اسلم عثمان على يدي أبي بكر، وهو من بني امية، كان احد أفراد المهاجرين إلى الحبشة، تولى الخلافة عن طريق (الشورى) وهو في السبعين من عمره، وقد تزوج من ابنتي الرسول صلى الله عليه وسلم رقيه، ثم ام كلثوم، على التوالي، لذا لُقّب ب (ذي النورين). استمرت الفتوحات في خلافته، وجمع القرآن الكريم في مصحف واحد وأصبح يعرف ب (مصحف عثمان). ثم حدثت (الفتنة): وهي الفرقة، واختلاف آراء المسلمين، وانقسام وحدة الامة الإسلامية السياسية، فأدّى ذلك إلى مقتله عام 35ه - 656م (انظر لاحقاً).

أسباب الفتنة: اختلف المؤرخون فيها، فمنهم من قال: تذمر المقاتلين القدامى الذين شاركوا في الفتوحات: ففي العراق تذمروا من حرمانهم من نصيبهم في ارض السواد، وفي مصر تذمروا من سياسة والي عثمان عليها، من حيث توزيعه للغنائم، إذ منح المقاتلة الجدد نصيباً أكثر من نصيبهم، ويذكرون أيضاً رواية تتحدث عن مؤامرة تنسب إلى عبد الله بن سبأ: وهو يهودي قد اسلم، تقول: انه تجول في مدن مصر داعياً إلى علي بن أبي طالب بالوصية القائلة بأنه وريث النبي صلى الله عليه وسلم الشرعي. وغير ذلك من المآخذ التي رفضها الخليفة عثمان. 8 (هذه رواية الإخباري سيف بن عمر التيمي التي يرفضها هشام جعيط ويقول: أن ما ذكره ابن سبأ عن (الوصية) هي موضوعات للتشييع العقائدي المقبل والمتأخر، من المستحيل تصورها في تلك المرحلة. ويضيف أن نقداً داخلياً وخارجياً للروايات التي يرويها سيف وحده عن ابن سبأ، إنما يدل على أن هذا الشخص لم يوجد ابداً وانه بدعه توهيمية من بنات الخيال. انظر كتابه الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر (بيروت، 1993)، ص 109. أما الباحث المحدث محمد امحزون فقد جعل دعوة ابن سبأ سبباً حقيقياً لقيام الفتنة على عثمان. انظر كتابه، تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة: من روايات الإمام الطبري والمحدّثين (الرياض، 1994)، ص 325-339).

ومن المؤرخين من ذكر مآخذ اخرى على الخليفة عثمان، منها:

1. انه عزل ولاة الخليفة عمر بن الخطاب، وولى من أقربائه من ليس مؤهلاً لذلك.

2. تذمُر سكان المدينة المنورة من عيشته المترفة، مقارنين إياه بذلك، بحياة التقشف والبساطة للخليفة عمر بن الخطاب.

3. إنه أسرف في الإنفاق من أموال بيت المال المسلمين على أقربائه. وغير ذلك من المآخذ التي رد الخليفة عثمان على القائلين بها، وكذّبهم.


*52*

أما سير أحداث الفتنة، فقد بدأت بأن اجتمعت وفود من الثوار، من الكوفة والبصرة ومصر، بعد أن حصل تنسيق بينهما، في موسم الحج في المدينة؛ فحاصروا دار الخليفة أربعين يوما؛ ثم اقتحموها؛ فقتلوه، وهو يقرأ القرآن الكريم. وبذلك يكون الخليفة عثمان أول خليفة في الإسلام يقتل بسبب الخلافة. وأصبحت حادثة مقتله تعرف ب(يوم الدار)؛ وكانت فاتحة للخلاف والصراع داخل الأمّة الإسلامّية، كما سنرى لاحقا.

4.أ: آثار الفتنة على المجتمع والدولة الإسلامية: أحدثت الفتنة على الخليفة عثمان حالة من الضعف في الأمّة الإسلامّية، فقد بويع عليّ بن أبي طالب (36-41ه / 656-661م)، بالخلافة بعد مقتل عثمان، وكان عليّ أول من آمن بدعوة النبي محمّد صلى الله عليه وسلم، من الصبيان، اعتبر نفسه أحق المسلمين بالخلافة لقرابته من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو ابن عمّ الرسول صلى الله عليه وسلم، وزوج إبنته فاطمة الزهراء، ووالد الحسن والحسين اللذين أعتبرهما الرسول صلى الله عليه وسلم (سيدا شباب أهل الجنة). ومع ذلك، لم يختر لمنصب خليفة ثلاث مرات. وبعد مقتل عثمان بويع بالخلافة. وكان اثنان من الصحابة، وهما: طلححة بن عبيد الله، والزبير بن العوّام، قد أجبرا- كما تتحدث بعض الروايات - على مبايعته؛ ثم تراجعا وخرجا عليه؛ كما أن عائشة، أمّ المؤمنين رضي الله عنها، قد رفضت هي الأخرى مبايعته؛ ورفعت شعار: (أن عثمان قد قتل مظلوما)؛ وطالبت بدمه، وبالعدل من قتلته؛ فما هدفت اليه،هو الإصلاح. وكان طلحة والزبير قد غادرا المدينة متوجهين الى مكّة؛ فانضما الى دعوة عائشة بمعاقبة قتلة عثمان. ولهذه الغاية، انتقلوا الى البصرة؛ لأنّها كانت تحتفظ بودّ لعثمان، ومنقسمة في الرأي حول موضوع مقتل عثمان.

أسئلة:

1. ماذا نعني ب (الفتنة) على الخليفة عثمان، وما هي اسبابها ونتائجها؟ إشرح. --

2. ماذا كان موقف كل من: عائشة:أمّ المؤمنين، وطلحة، والزبير، من بيعة عليّ؟ وضّح ذلك. --

1- وقعة الجمل(36ه / 656م): خرج عليّ من المدينة المنورة نحو العراق، بعد أن بلغه توجههم الى البصرة. ةالتقى الطرفان في ضواحي البصرة. فلم يبادرا إلى القتال، بل مالا للسلم؛ وتبادلا الرسل لهذه الغاية؛ فلم ينجحا في التوصل إلى صلح بينهما؛ فوقع القتال بينهما، وكانت عائشة، أمّ المؤمنين قد حملت على جملها (عسكر)، في هودجها المدّرع بالحديد، وحوله دارت لحظة المعركة الشديدة؛ ةمن هنا اكتسبت هذه المعركة اسمها (وقعة الجمل)؛ وقد قطعت أرجل الجمل؛ وهزم (أصحاب الجمل)، وهم: عائشة: أمّ المؤمنين، وطلحة، والزبير؛ فقتل طلحة؛ وأما الزبير، فطورد؛ وقتل في ظروف غامضة.

كما أطلق عليّ سراح عائشة وأرسلها مع أخيها محمد الى المدينة المنّورة؛ فبقيت هناك معتزلة السياسة حتّى وفاتها عام 58ه / 678م.

وفي أعقاب (وقعة الجمل)، اخذ عليّ يستعدّ للتخلص


*53*

من والي الشام (المتمرّد): معاوية بن ابي سفيان، الذي رفض أمر الإقالة الذي وجهه اليه؛ فحصلت بينهما (وقعة صفين).

2- وقعة صفين (37ه / 657م): لم يكتف معاوية برفضه أمر الإقالة: بل راح يحرض أهل الشام على عليّ، مطالبا إياه بتسليم قتلة الخليفة عثمان. وقبل أن يحصل القتال بين المعسكرين، تبادل علي ومعاوية، الرسل والرسائل، أكد كل واحد من خلال موقفه؛ فطالب معاوية بالثأر من قتلة عثمان، وإرجاع اختيار الخليفة الى مبدأ الشورى؛ أما علي فطالب بأن يلتزم معاوية بمبايعته؛ لأنه الخليفة المنتخب، وبعدها يطالب بمحاكمة قتلة عثمان بما ينصّ عليه القرآن الكريم؛ ثم أكد بأن معاوية لا يستحق الخلافة؛ لأنه لم يكن من السابقين في اعتناق الإسلام، بل من (الطلقاء) الذين أطلق سراحهم الرسول صلى الله عليه وسلم من كفار قريش ولم يعاقبهم بعد فتح مكة، كما مرّ. لم يتوصل الطرفان الى حل؛ فحصل قتال في ثلاثة أيام بلياليها، فقتل العديد من الطرفين؛ عندها أشار عمرو بن العاص برفع المصاحف، وربطها على أسنّة الرماح (وكان عددها خمسمائة مصحف) حين خاف أن ينهزم أهل الشام، أو لأجل الحرص على بقية الأحياء من جنود الطرفين؛ فنادوا الى تحكيم كتاب ألله بينهما. ورغم تردد عليّ في بداية الأمر لهذا الطلب إلا أنه وافق؛ فتوقف القتال بين الطرفين؛ وأتفق على إجراء تحكيم كتاب الله (القرآن الكريم).

3- التحكيم: اختار معاوية حليفه عمرو بن العاص، فاتح مصر، وهو من دهاة العرب، ليمثله في عملية التحكيم؛ أما عليّ فقد اضطر، الى قبول أبي موسى الأشعري، الصحابي الجليل. وبعد ما يقرب من سنة إجتمع الحكمان لمداولة عمليّة التحكيم.

إختلفت الروايات الاسلامية، فيما بينها، حول مكان انعقاد التحكيم، هل في دومة الجندل (جوف في الصحراء السورية)، أم أذرح (وهي بين البتراء ومعان ، شرقي الأردن)؛ ثم حول تأريخ الاجتماع وحول مضمون التحكيم، فهناك رواية شيعية موضوعة، لكنها مقبولة بالإجماع حتى أيامنا، تشير الى حصول خدعة من جانب عمرو بن العاص: بأن خلع عليّ ومعاوية عن منصبيهما (عليّ عن الخلافة ومعاوية عن ولاية الشام). وجعل الأمر شورى، فيختار المسلمون للخلافة من أرادوا. فخطب أبو موسى معلنّا هذا الاتفاق؛ ثم قام بعده عمرو بن العاص، فأكد خلع عليّ عن منصبه، في حين ثبّت معاوية، على عكس ما اتفقا عليه.

4- ظهور الخوارج: زادت نتيجة التحكيم من ضعف معسكر عليّ؛ وأدّت الى ظهور فرقة إسلامية عرفت ب(الخوارج).كانوا من جند عليّ، وخرجوا عليه؛ لقبوله وقف القتال ومبدأ التحكيم؛ وقد طالبوا بالإستمرار فيقتال معاوية وجيشه. وعندما عاد عليّ الى الكوفة، على أثر موافقته على (وثيقة التحكيم)، خرج عن صفوف جنده إثنا عشر ألفا؛ لكنه نجه في اقناع بعضهم بالالتحاق بجيشه في الكوفة، لكنهم خرجوا عنه ثانية وتجمعوا في النّهروان(شرقي


*54*

دجلة)؛ وبقي منهم حولى ألف وثمانمائة ممن صمّموا على القتال حتّى الموت؛ فقاتلهم عليّ في معركة (النهروان) حيث أبيد غالبيتهم. وأصبح الخوارج فرقة دينية- سياسية؛ أما نظريتهم في طريقة إختيار الخليفة، فهي: أن الخلافة يجب أن تكون بإختيار حرّ من المسلمين؛ كما وانه ليس من الضروريّ أن يكون الخليفة من قريش، فالخلافة حقّ لجميع المسلمين على حدّ سواء، شرط أن يكون المرشح لهذا المنصب ورعا، يخاف الله تعالى، ويتمسك بأحكام الإسلام.

أسئلة:

1. كيف ظهرت الخوارج على مسرح التاريخ الإسلامي؟ وضّح --

2. ما هي طريقة إختيار الخليفة حسب رأي الخوارج؟ وضّح --

بعد مسألة التحكيم ضعف مركز عليّ حتى في مقره: في العراق؛ لذا جرت مكاتبات طويلة بينه وبين معاوية، انتهت بعقد هدنة بين الطرفين، لكنها لم تدم طويلا: إذ نودي بالخلافة لمعاوية في بين المقدس 40ه / 660م، وعقد البيعة لنفسه عند أهل الشام، ولم يستطع مقاتلة معاوية وأهل الشام؛ إذ طعنه خارجي يدعى عبد الرحمن بن ملجم المرادي، في مسجد الموفة، إنتقاما ل (النّهروان) وقتلى الخوارج، فمات بعد يومين سنة 40ه /661 م.(تروي بعد المصادر الإسلامية، أن اغتيال علي كانت نتيجة مؤامرة حاكها ثلاثة من الخوارج أثناء تواجدهم في مكة في موسم الحج تقضي بأن يخلصوا الأمة من رؤوس الفتنة الثلاثة: عليّ، ومعاوية وعمرو بن العاص فنجح عبد الرحمن بن ملجم (وتروي إحدى الروايات بأنه حرض على يد فتاة جميلة أرادت أن تنتقم من علي وكان شرط زواجها من أبن ملجم اغتيال علي)، في اغتيال عليّ أما معاوية فقد طعن بخاصرته ولم يمت، كما ونجا عمرو بن العاص لأنه كان قد أرسل رئيس شرطه في مصر ليصلي بالناس نيابة عنه بسبب مرضه، فقتل. أنظر على سبيل المثال البلاذري، م.س، ج3، ص 249)

تعالوا نتذكر

بواسطة قاموس الأسماء والمصطلحات:

الخليفة ابو بكر الصّديق، سقيفة بني ساعدة، سعد بن عبادة، حروب الردة، خالد بن الوليد، الخليفة عمر بن الخطاب (الفاروق)، معركة القادسية، سعد بن أبي وفّاص، معركة اليرموك، الخوارج، عمرو بن العاص، صفرونيوس، العهدة العمرية، (بيت مال المسلمين)، ديوان الجند، ديوان الخراج (الجباية أو الإستيفاء)، معركة ذات السواري(أو الصواري)،عبد الله ابن أبي السرح، الفتنة، أبو ذر الغفاري، مروان ابن الحكم، (يوم الدار)، الخليفة علي بن أبي طالب، (أصحاب الجمل)، وقعة الجمل، معاوية ابن ابي سفيان (أنظر الفصل الخامس أيضا)، التحكيم، أبو موسى الأشعري، الخوارج، وقعة النّهروان.


*55*

الفصل الرابع العصر الأمويّ


*55*

(41-132ه / 661-750م)


*55*


*56*

أ. أصل بني أميّة:

كان بنو أميّة، سادة لقريش، قبيل ظهور الإسلام، وعليهم أبو سفيان: والد معاوية، مؤسس الدولة الأموية؛ وهو الذي كان من أكبر المعارضين للدولة الإسلامية (كما مرّ معك)؛ لكنهم أسلموا، عقب فتح مكة سنة 8ه / 630م؛ ثم قاتل أبو سفيان وولداه: يزيد ومعاوية، في صفوف جيوش الفتح الإسلامي، في بلاد الشام؛ وقد عيّن أبو بكر معاوية واليا على دمشق خلفا لأخيه يزيد. فكيف تسلم الخلافة؟ وكيف نجح في تثبيت دعائم حكم بني أمية؟

1. دور معاوية بن أبي سفيان في تأسيس الدولة الأموية واستمرار الفتوحات الإسلامية:

أ. كيف تسلم معاوية الخلافة؟

بعد مقتل الخليفة عليّ، بايع أهل الكوفة، بالإجماع، الحسن بن علي؛ ولكنه مال الى مصالحة معاوية، حقنا لدماء المسلمين، والعودة الى الجماعة الإسلامية؛ لتختار خليفتها؛ وذلك بسبب التفكك الذي حصل في صفوف جيشه. فتبادل مع معاوية الرسل والرسائل حتّى توصلا الى اتفاق: يتحدث بنده الأساسي على أن يتنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية. وبهذا، حصلت المصالحة بين الإثنين على منبر مسجد الكوفة، عام 41ه / 661م؛ فعرفت هذه الحادثة ب (عام الجماعة). وبذلك، يكون معاوية قد أسس خلافة بني أميّة التي دامت من عام 41ه / 661م حتّى سنة 132ه / 750م، وقد حكمها أربعة عشر خليفة. فكيف نجح في تثبيت دعائم حكم بني أميّة؟

ظهرت المعارضة لخلافة بني أميّة من:

1. الشيعة: وهم أتباع عليّ، قد اعترضوا على أن يتولى معاوية الخلافة، بالقهر والغلبة.

2. الخوارج: نادوا بمبدأ الشورى في اختيار الخليفة، اعتمادا على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا فضل لعربيّ على عجميّ إلا بالتقوى).

3. أبناء الصحابة: العبادلة الأربعة، وهم: عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الله ابن العباس، وعبد الله بن جعفر بن ابي طالب، وقد اعترضوا على خلافة معاوية لاسيما عهده بالخلافة لابنه يزيد من بعده.

4. الأنصار: وهم ممن رفضوا أن تفقد مدينتهم: المدينة المنورة، مركزها في الإسلام، بنقل العاصمة الى دمشق أولا؛ وبأحقيتهم بالخلافة على بني أميّة وثانيّا.

سؤال:

1.أذكر أسماء المعارضين لخلافة بني أمية، ثم بين موقفهم من تولي معاوية الخلافة. --


*57*

لكي يخضع عناصر هذه المعارضة، استعان معاوية بثلاثة من القادة الذين عرفوا بالدهاء، وهم: عمرو ابن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه. فولى الأول منهم، واليا على مصر؛ أما الثاني، فعينه واليا على الكوفة؛ وعين الثالث على البصرة، ثم سجستان وخراسان والبحرين والهند. فضبط هؤلاء الدهاة الثلاثة الأمور في ولاياتهم؛ وساروا في حكمهم حسب المبدأ (الغاية تبرر الوسيلة): فلم يمتنعوا عن أسلوب التهديد،واستعمال القوة، للمحافظة على ألأمن والآمان، والقضاء على المعارضين لخلافة الأمويين. فقد قيل مثلا: إن زياد بن أبيه (قد خافه الناس خوفا شديدا،حتى من بعضهم بعضا؛ وحتّى إن الشيء كان يسقط من يد الرجل أو المرأة، فلا يعرض له أحد، حتى يأتيه صاحبه فيأخذه وكذلك لا يغلق أحد بابه). بالاضافة الى الدهاة الثلاثة السابقين، كان معاوية بنفسه (من أدهى الدهاة، (فقد ساس الناس بالتسامح، وباب المال، مع اللجوء الى التهديد، كما فعل مع أبناء الصحابة عندما طالبهم ببيعة يزيد (فبايعوه وسيف معاوية فوق رؤوسهم)؛ كما وكان يستمع الى أخبار الولايات؛ فسيستقبل وفودها؛ ويعمل على إنصافهم؛ وقد يعزل الولاة بناء على شكوى سكان الولاية.

سؤال:

1. كيف نجح معاوية بن أبي سفيان في تثبيت دعائم حكمه؟ وضّح --

ولى معاوية ابنه يزيد الخلافة من بعده (60-64ه / 780-683م)، محدثا بذلك طريقة جديدة في تعيين الخليفة، هي: (التوريث)؛ وقد أتبعت طيلة الخلافة الأموية، ثم الخلافة العباسية. رفض أبناء صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم: الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير مبايعة يزيد؛ كما واصل الخوارج سياستهم العدائية لدولته: فالحسين أخذ يطالب بحقه في الخلافة؛ لذا قبل دعوة أهل الكوفة بالقدوم عليهم من المدينة المنورة لمبايعته؛ فخرج من المدينة بصحبة عياله وأتباعه وعددهم أقل من ثلاثمائة، قاصدا الكوفة؛ وعلى مقربة منها، لقي خيل عبيدالله ابن زياد: والي الكوفة؛ فتوجه الى كربلاء، ومعه ما يقرب خمسمائة فارس، ونحو مائة من أهل بيته، وأصحابه؛ فلم يزل يقاتل حتى قتل، في "وقعة كربلاء" في العاشر من شهر محرم (عاشوراء) سنة 61ه / 680م؛ ودفن في كربلاء، التي اصبحت محجا للشيعة حتى يومنا هذا.

لم ينصر أهل الكوفة الحسن؛ إذ أنهم لم يخرجوا للقتال الى جانبه؛ فندموا على فعلتهم هذه؛ فجاؤوا الى قبره؛ وتابوا على أن يثأروا له بقتل قاتله؛ فعرفوا في التاريخ الإسلامي ب (التوابين)؛ وما زالوا حتّى يسيل الدم منها، تعبيرا منهم عن ندمهم وتوبتهم؛ لخذلانهم الحسين في كربلاء.


*58*

(في الكتاب صورة - مرقدا الإمامين: الحسين بن عليّ والعباس (عليهما السلام) في مدينة كربلاء- العراق - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف).

وجّه اليهم يزيدا جيشا كبيرا؛ دخل المدينة؛ ونهبها ثلاثة أيام؛ ثم توجه الى مكة المكرمة؛ وحاصرها؛ وضربها بالمنجنيق (هي آلة حربية لقذف الحجارة (أو غيرها) بواسطة ذراع فيه كفة تحت ضغط قوة فتل الحبال)؛ فوصل خبر موت يزيد، مما اضطر قائده الى أن ينسحب عنها دون القضاء على ثورة عبد الله بن الزبير.

سؤال:

1. كيف تعامل الخليفة يزيد مع المعارضين لتوليّه الخلافة؟ وضّح --


*59*

وإذا كان الخليفة يزيد قد قوّى دعائم خلافة بني أميّه وأسندها في مرحلة النشوء، فإن عبد الملك بن مروان يعتبر من رسّخ تلك الدعائم وهو ما أكسبه لقب (المؤسس الثاني للخلافة الأمويّة) (65-68ه / 785-705م)، بأن قضى على الثورات التي واجهت كحم بني أمية عند تسلمه للسلطة، مستعينا بقائده القدير الحجّاج بن يوسف الثفقي، كان أخطرها: ثورة عبد الله بن الزبير (في الحجاز)؛ لأنه طالب بالخلافة لنفسه، ثم ثورة عبد الرحمن بن الأشعث (في العراق)، الذي تذمر من سياسة بني أميّة تجاه الموالي (وهم المسلمون من غير العرب). وقد لقب الخليفة عبد الملك ب (أبي الملوك)؛ لأن أربعة من أولاده أصبحوا خلفاء من بعده، وهم: الوليد، سليمان، يزيد (الثاني)، وهشام (راجع ملحق أ). فالوليد عبد الملك (86-96ه / 705-751م)، استفاد من ترسيخ والده لدعائم خلافة بني أميّة، كما بينا سابقا، ليستثمر ذلك في مجالين: الأول في الفتوحات (أنظر لاحقا)؛ أما الثاني، ففي المشاريع العمرانية، منها:

أ. توسيع بناء المسجد النبوي في المدينة المنوّرة، فقد أمر واليه على المدينة عمر بن عبد العزيز (الذي سيعيّنه خليفة من بعده)، بأن يزيد على المسجد النبوي في جهته الغربيّة رواقين، وفي جهته الشماليّة أربعة عشر رواقا؛ ثم أحدث بناء الحجرة الشريفة، وهي داخل البناء الذي عليه الستر وداخله قبة لطيفة تجمع القبور الثلاثة: قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبر أبي بكر الصديق، وقبر عمر بن الخطاب ( رضي الله عنهما).

(في الكتاب صورة - منظر عام للجامع الأموي- دمشق، وتعظهر فيه قبة النّسر ومأذنة العروس - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)


*60*

وأمر بإدخال بيوت أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، في محيط المسجد، وأن يشتري ما في مؤخره ونواحيه، لتوسيعه.

ب. بناء الجامع الأموي في دمشق، أقامه على أنقاض كتدرائية القديس يوحنا (يحيى)، وعمل فيه عمال من الفرس والروم؛ فرصف أرضيته بالفسيفساء؛ وغطى جدرانه بالرخام؛ وجعل سلاسل المصابيح من نحاس محلي بالذهب؛ وهو مقام على ثمانية وستين عامودا من نحاس محلى بالذهب، وله مئذنتان؛ وانتهى بناؤه في عهد سليمان أخيه (حكم في الفترة من 96-99ه / 715-717م).

ج. أتم بناء المسجد الأقصى، في بيت المقدس (وكان والده: عبد الملك، قد بنى قبة الصخرة المشرفة؛ وباشر ببناء المسجد الأقصى).

(في الكتاب صورة - مقام سيدنا يحيى (القديس يوحنا بن زكريا) داخل الجامع الأموي - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)

(في الكتاب صورة - المسجد الأقصى - بيت المقدس - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)

ثم أنشأ الخليفة الوليد الطرق، لاسيما المؤدية منها إلى الحجاز؛ لتسهيل عملية الحج؛ كما حفر الآبار، على طول هذه الطرق؛ ووظف من يعنى بها ويمدّ الناس بمائها.


*61*

(في الكتاب صورة - قبة الصخرة المشرفة - بيت المقدس - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)

د. بنى البيمارستان (هي كلمة فارسية مركبة من كلمتين (بيمار) وتعني مريض، و(ستان)، وتعني دار أو بيت، أي مستشفى.) في الإسلام؛ فأقامه في دمشق سنة 88ه / 707م، وكان كل مريض يدخله يتلقى العلاج مجانا؛ حتى إذا غدره منح مبلغا من المال كي يستطيع أن يعتاش، بعد فترة مرضيته، ثم أصبح لكل مرض بيمارستان، لاسيما الأمراض المعدية.

أما الخليفة عمر بن عبد العزيز (99-101ه / 717-720م)، فقد انتهج سياسة مغايرة لخلفاء بني أمية، بأنه استمر في الحكم على أسس الشريعة الإسلامية: فألغى الامتيازات التي حصل عليها أفراد من أسرته: بني أمية؛ وفرض على نفسه حياة التقشف، والزهد حتى دعاه البعض (خامس الخلفاء الراشدين)؛ فلم يبذر أموال (بيت مال المسلمين)؛ ثم أنه عزل الولاة الظالمين؛ وعاقب من يتولى منهم الرشوة؛ لأن مهمة الوال، حسب رأيه، تقوم على تطبيق أحكام الشريعة الاسلامية وعلى رأسها: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)؛ كما وألغى الجزية على من اعتنق الاسلام، حتى أنه غضب على واليه على مصر عندما اقترح عليه فرض الجزية على من يعتنق الاسلام من أقباط مصر، فوبخه قائلا: (فضع الجزية عمّن أسلم!، قبح الله رأيك، فإن الله إنما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم هاديا (داعية


*62*

للإسلام) ولم يبعثه جابيا، ولعمري، لعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم في الاسلام عن يديه) (أنظر ابن الجوزي، سيرة، ص120؛ ابن القيم الجوزية، أحكام أهل الذمة (بيروت،1983) ج1، ص213،حسب رواية ابن القيم الجوزية، قال عمر بن عبد العزيز: (فهمت كتابك، والله لو وددت أن الناس كلهم أسلموا حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا). أما أبو يوسف فإنه ينسب هذا القول إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بخصوص اسلام أهل الحيرة من اليهود والنصارى. أنظر كتابة الخراج، ص131.).

الساسانية (الفارسية). وتواصلت الفتوحات عبر نهر جيحون؛ ففتحت بخارى، وبيكند، من بلاد الصغد؛ واستولت على الطريق الرئيسي من خراسان إلى ما وراء النهر (جيحون).

ب. الجبهة الشمالية، بادر معاوية إلى شنّ الغزوات على بلاد الروم (بيزنطية)، كعادة الجيوش الاسلامية؛ فأرسل أسطوله؛ فحصل القسطنطينية، عاصمة الدولة البيزنطية، مرتين دامت الثانية منهما سبع سنوات، فاشتهرت ب(حرب السنوات السبع)؛ لكنه لم يستطع اقتحام المدينة المنيعة (وسيعاود الأسطول الاسلامي الكرة ثانية عام 99ه / 717م، إلا أنه يفشل في هذه المرة أيضا).

ج. الجبهة المغربية (شمال أفريقيا)، نجح عقبة بن نافع الفهري سنة 50ه / 670م، بالسيطرة على تونس؛ فأقام مقره في المدينة التي بناها، وهي القيروان سنة 50ه / 670م؛ لتكون قاعدة عسكرية ينطلق منها الجند الاسلامي لمواصلة الفتوحات في شمال أفريقيا؛ وبنى فيها مسجدا، ودار إمارة (مقر إقامة الوالي)، وبيوتا للجند؛ ثم أحاطها بسور متين. وقد وصلت الفتوحات الاسلامية حتى تلمسان (في طرف المغرب الأوسط).

سؤال:

أذكر المناطق التي فتحت في خلافة معاوية ابن أبي سفيان. --


*63*

كانت القفزة الكبرى في الفتوحات الاسلامية، هي التي انجزت في خلافة الوليد بن عبد الملك (86-96ه / 705-715م)، ولا غرابة في ذلك فقد استفاد من ترسيخ والده لدعائم خلافة بني أمية، ليستثمر ذلك في مجالين: الأول في المشاريع العمرانية؛ كما شرحنا سابقا، أما الثاني ففي الفتوحات والتي حدثت على ثلاث جبهات هي.

أ. الجبهة الشرقية (بلاد ما وراء النهر، وبلاد الهند والسند): أشرف الحجاج بن يوسف، على عمليات الفتوحات في هذه الجبهة؛ إذ بادر في نهاية خلافة الخليفة عبد الملك إلى ارسال قائدين عظيمين إلى المشرق؛ لمواصلة الفتوحات، وهما: محمد ابن القاسم الثقفي، وقتيبة بن مسلم الباهلي؛ فعين محمد بن القاسم الثقفي، وهو ابن عمه وصهره، على تكران؛ بينما عين قتيبة ابن مسلم الباهري، واليا على خراسان، وبلاد الشرق (أنظر الخارطة على الصفحة التالية).

تولى محمد بن القاسم الثقفي، وهو صهر الحجاج ابن يوسف، فتح بلاد السند عام 89ه / 708م؛ فقاد حملة عسكرية، سار قسم منها بحرا، أما هو؛ فقاد القسم البري؛ فالتقي في ميناء الدّيبل بالقسم البحري؛ وسارا شمالا والتقى بجيش ملك السند؛ فدارت بين الطرفين معركة انتهت بهزيمة ملك السند؛ ففتحت الطريق أمام قوات محمد بن القاسم، ليسيطر على باقي بلاد السند كلها، حتى وصل إلى كشمير في شمال السند وذلك عام 95ه / 713م. وقد احترم محمد عقائد الهنود ومقدساتهم.

أما عملية الفتوحات في بلاد ما وراء نهر جيحون، وهي التي عرفت ببلاد آسيا الصغرى، فإن القائد قتيبة بن مسلم الباهلي، كان يغزو تلك البلاد في كل سنة تقريبا؛ ثم فتح مملكة صغانيان؛ ثم حاصر مدينة بخارى؛ ثم فتحها بصعوبة، وبنى فيها مسجدا ما زال حتى يومنا؛ كما وفتح سمرقند، بعد أن ضرب أسوارها بالمنجنيق، وأحرق أصنامها.

امتدت فتوحات قتيبة إلى دلتا نهر جيحون عند خوارزم؛ فغزا بلاد الشاش؛ وتحول إلى فرغانة ففتحها. كما وأرسل جيشا إلى حدود الصين؛ فافتتح كاشغر عام 96ه / 715م؛ فجاءه نعي الخليفة الوليد؛ فتوقف عن زحفه. وعقد صلحا مع ملك الصين، نص على دفع أتاوة (ضريبة) للمسلمين، علامة للخضوع، وهكذا، لم تخضع بلاد الصين الأصلية للدولة الاسلامية.

نظم قتيبة المناطق التي فتحها، بأن وضع عليها حكاما من العرب لإدارة الشؤون الحربية وجباية الأموال؛ أما الادارة المدنية، فقد تركها إلى حكام من أهل البلاد نفسها، وهكذا فعل محمد بن القاسم؛ فوضع في المناطق التي فتحها من الهند، حاميات وحكاما؛ وفرض على أهلها إتاوة؛ ثم قفل راجعا إلى العراق. ولم ينتشر الاسلام في الهند إلا بعد أن استولى عليها ثانية، القاثد محمود الغزنوي (حكم من 382-421ه / 992-1030م) (أنظر الخارطة على الصفحة التالية).


*64*

ب. جبهة بلاد الروم (بيزنطية)، وأرمنية: ولى الخليفة الوليد أخاه مسلمة لغزو بلاد الروم. فكان يسيّر كل سنة الجنود على بلاد الروم؛ فيفتتح أمامه من حصون على الحدود، مثل: طوانة، وعمورية، وهرقلة، وغيرها. لكن جميع هذه الغزوات كانت بمثابة حرب غزاة، أي: حرب على الحدود؛ فلم يستقر فيها المسلمون الذين فتحوها في هذه المرحلة من التاريخ الاسلامي؛ أما أرمينية، ففتحها القائد ابن مروان بن الحكم.

( في الكتاب صورة - خارطة فتوحات: قتيبة بن مسلم الباهلي، ومحمد بن القاسم (مقتبسة عن حسين مؤنس، أطلس التاريخ الاسلامي (القاهرة،1987)، ص118) - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)


*65*

سؤال:

1. سجل في دفترك قائمة بأسماء الأماكن التي فتحت في خلافة الوليد بن عبد الملك على الجبهتين: الشرقية وبلاد الروم. --

ه. جبهة المغرب: فتح الأندلس (92ه / 711م): كان الخليفة الوليد بن عبد الملك، قد عيّن موسى بن نصير على ولاية أفريقية (شمال أفريقيا) وذلك سنة 89ه / 708م، فنجح بواسطته أن يثبت الحكم الاسلامي؛ وينشر الاسلام بين سكانه البربر؛ ثم استولى موسى على طنجة؛ وعين عليها مولاه البربري طارق ابن زياد. فأخذ هذا يهتم في شؤون اسبانيا؛ ويترقب التطورات فيها، حتى سنحت له الفرصة لفتحها 92ه / 711م. ومن العوامل التي مهدت لفتحها:

1. اجتماعيا / عسكريا؛ شهدت اسبانيا، قبيل الفتح الاسلامي، صراعا طبقيا؛ فقد كان الاشراف من أصل قوطي معفيّين من دفع الضرائب، والتجند في الجيش؛ وهناك طبقى وسطى تعيش في حالة فقر؛ وطبقة أقنان (جمع قنّ وهم عبيد مرتبطون بفلاحة الأرض) عملوا في مزارع الأشراف في وضع تعيس؛ وهناك اليهود الذين عانوا من الاضطهاد الديني، فتمنوا زوال حكم القوت.

2. سياسيا، شهدت اسبانيا صراعا على السلطة بين أخيل، ورودريك (لذريق بالعربية)؛ فانقسمت البلاد بين مؤيد لأخيل ومعارضا له. كان كونت سبتة يوليان (بربري الأصل) ناقما على رودريك؛ فراسل موسى بن نصير ورغبه في فتح اسبانيا.

سؤال

1. كيف سهّلت أوضاع اسبانيا الداخلية عملية الفتح الاسلامي لها؟ اشرح. --

وبعد أن اطّلع على الحالة في اسبانيا، أوعز موسى إلى طارق بن زياد باجتياز البحر؛ فأبحر سنة 92ه / 711م، على رأس جيش يبلغ 7000 جندي، غالبيتهم من البربر، حملتهم سبع سفن يقال أن يوليان أعاره إياها؛ وقد أحرقها طارق عندما وصل البرّ الاسباني؛ ونزل عند الجبل الذي حمل اسمه فيما بعد: (جبل طارق) (أنظر الخارطة على الصفحة التالية)، وعنده خطب في جنده يشجعهم على القتال، ويقال: أنه أحرق السفن التي نقلتهم؛ كي لا يفروا من المعركة؛ لأن (البحر من ورائكم، والعدو من أمامكم)، كما قال لهم في خطبته.

وأرسل موسي بن نصير، بناء على طلب طارق، جيشا آخر قوامه 5000 جندي، فصار جيشه يتألف من اثني عشر ألفا، بالاضافة إلى اتباع يوليان؛ وفي تموز 92ه / 711م جرت المعركة الفاصلة بينه وبين رودريك في (وادي لكّة)، أو (بكّة)، انتهت باندحار قوات رودريك، الذي لم يعرف مصيره. هكذا، فتحت الطريق لقوات المسلمين في فتح اسبانيا. ثم زحف طارق نحو الشمال؛ فاستولى على أستجّة؛ وحدثت معركة قاسية (كثر القتل والجراح فيها بالمسلمين، ولم يلقوا بعد ذلك حربا مثلها)؛ فطلب طارق المساعدة من موسى؛ فقاد ثمانية عشر ألف جندي؛ ودخل اسبانيا،


*66*

فالتقى بطارق في طليطة؛ وتسلم قيادة عمليات الفتح، وفي سنة 94ه / 713م؛ كما وشارك ابنه عبد العزيز بن موسى في عملية الفتح. فما هي المناطق التي فتحت على يدي القائدين طارق ابن زياد وموسى بن نصير؟ لكي تتعرف إليها انظر الخارطة التالية:

(في الكتاب صورة - مقتبسة عن حسين مؤنس، أطلس التاريخ الاسلامي (القاهرة،1987)، ص123 - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)


*67*

سؤال:

1.راجع الخارطة السابقة، ثم املأ الجدول التالي:

(أمامك جدول مكون من ثلاثة أعمدة)

فتوحات طارق ابن زياد،  فتوحات موسى ابن نُصير،  فتوحات عبد العزيز

--،   --،   --،  

عيّن موسى أولاده ولاة: عبد العزيز - الأندلس، وعبد الملك - المغرب، وابنه الثالث - أفريقية.

هكذا، فتح المسلمون اسبانيا؛ فحولوا اسمها إلى الأندلس، وهي: تحريف لكلمة فاندلوسيا، نسبة إلى الفاندال: وهم من القبائل الجرمانية التي سكنت اسبانيا فترة من الزمن. هذا وقد الحق الأندلس اداريا، بولاية أفريقية في الدولة الأموية.

استمرت الفتوحات في خلافة هشام بن عبد الملك، الذي جعل همه الفتوحات، وغلبة الأعداء؛ فتصدّى لأعداء بني أمية في العراق، وخراسان، وما وراء النهر؛ ولخطر قبائل الخزر عند بحر الخزر (قزوين). ثم عين عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي واليا على الأندلس؛ فبادر هذا إلى شن الغارات على جنوب فرنسا، عبر جبال البرانيس؛ فوصل حتى جنوب غربي باريس؛ فوقعت بينه وبين شارل مارتل (حاجب القصر في الدولة الميروفنجيّة)، معركة بين تور وبواتييه سنة 114ه / 732م عند طريق رومانيّة مبلطة، ولذلك دعا العرب هذه المعركة ب (بلاط الشهداء)، فحلت الهزيمة بقوات عبد الرحمن الذي استشهد فيها مع عدد كبير من جنده. لم تكن معركة بلاط الشهداء معركة فاصلة، بدليل أن غزوات المسلمين على جنوب فرنسا لم تنقطع بعدها، بل استمرت؛ فقد قاد عقبة بن الحجاج السلولي قوات المسلمين؛ واستولى على آرل وأفينيون؛ وشارفت قواته العاصمة باريس. ومع ذلك تظل الحقيقة التاريخية، هي: أن القوات الاسلامية نجحت في الوصول إلى مشارف باريس. (أنظر الخارطة التالية):

(في الكتاب صورة - الفتوحات الاسلامية في جنوب فرنسا - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)


*68*

سؤال:

1.بيّن إلى أي مدى وصلت الفتوحات الاسلامية في خلافة هشام بن عبد الملك؟ --

2. تعريب الجهاز الإداري: انتهج الخليفة عبد الملك سياسة التعريب، أي: نقل الكتابة إلى اللغة العربية، كتعريب ديوان الخراج، بعد أن كان يكتب فيه بلغات المناطق المفتوحة منذ الفتح؛ الفارسية في فارس، واليونانية في سوريا، والقبطية في مصر، إذ كان سكان هذه البلاد بارعين بإدارة ديوان الخراج ولا يعرفون اللغة العربية، وبقيت هكذا حتى جاء عبد الملك وأمر بتعريبها. كما تم تعريب النقود وتحديد سعرها، وتعريب القراطيس (الورق).

( في الكتاب صورة - الدولة الأموية في أقصى اتساعها - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)


*69*

(في الكتاب صورة - نقد معدني ضرب في عهد الخليفة الأموي عبد الملك (65-86ه / 685-705م) وقد ضرب على الشكل البيزنطي فأظهر صورة الخليفة وهو واقف، وفي الوجه الآخر بدلا من وضع الصليب على درجات، كما هي في لعملة البيزنطية المسيحية، وضع في العملة الاسلامية هلال اتجاهه لأسفل، أو علم الأمويين وشعارهم على درجات - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)

(في الكتاب صورة - دينار ذهبي أموي في عهد هشام بن عبد الملك (105-125ه / 724-743م) مركز الوجه: (لا إله إلا الله حده لا شريك له) الطوق: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. الله أحد الله مركز الظهر: الصمد لم يلد ولم يولد. لطوق: بسم الله. ضرب هذا الدينار في سنة سبع وسبعين (للهجرة) - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)

3. العوامل التي أدّت إلى ضعف الدولة الأموية، وسقوطها

ساعدت عوامل غير مباشرة ومباشرة في ضعف الدولة الأموية، وسقوطها نجملها فيما يلي:

الأسباب غير المباشرة:

أ. ضعف الجهاز الإداري وفساده: من علامات هذا الضعف استتار الأخبار عن خلفاء بني أمية. بسبب تدهور مؤسسة البريد التي كانت احدى مهامها، أن تحمل الأسرار الى الخليفة؛ إذ كان ذلك من أشد أسباب زوال ملكهم، فقد ساعد كثيرا في نجاح انتشار الدعوة العباسية.

ب. سياسة بني أمية المالية، وتذمر الضعفاء من الموالي والعرب. وأهل الذمة منها: أدّى النقص في موارد الدولة المالية إلى فرض الضرائب على من كانوا قد أعفوا منها، ثم فرضت ضرائب جديدة، كما وأعيدت ضرائب المواسم المتبعة في العهد الساساني، مثل: هدايا أعياد النيروز والمهرجان، مع أن الخليفة عمر بن عبد العزيز قد أبطلها؛ كما وتذمر المقاتلون العرب من حرمانهم من نصيبهم الكامل في الغنائم، أو تنقيص أعطياتهم، كما هي الحال في خراسان؛ وتذمر الأقباط من أهل الذمة على السياسة المالية لولاة مصر من الأمويين.

ج. سياسة بني أمية العربية: برز ذلك في تعامل الخلفاء الأمويين مع المجموعتين القبليتين من العرب: اليمنية والقيسية، اللتين اختلفتا فيما بينهما لأسباب: اقتصادية، واجتماعية، وسياسية،


*70*

أكثر مما هو بدافع العصبية القبلية الجاهلية؛ وكان من خلفاء بني أمية من وقف إلى جانب حزب اليمنية؛ وأخر إلى جانب حزب القيسيّة؛ كما اعتمد خلفاء بني أمية على (أهل الشام) من العرب، مما أدى إلى محاباتهم في العطاء وعدم إرسالهم إلى الجبهات، فأثارت هذه السياسة العرب من (أهل العراق)؛ فنشب صراع في الدولة الأموية، بين (أهل العراق) و (أهل الشام).

د. المعارضة الإقليمية، والحزبية، والفكرية: يرى بعض المعارضين لبني أمية أن الخليفة معاوية ؛ مؤسس الدولة، كان انتهازيا، اغتصب السلطة من آل لابيت، أي: بيت الرسول صلى الله عليه وسلم: بني هاشم (خاصة بيت علي)؛ فلا حق لبني أمية فيها؛ إذ رأوا فيه أكبر أعداء الاسلام؛ كما أنهم تأخروا في الدخول في الاسلام؛ لذا عرفوا بالطلقاء؛ زد على ذلك، خروج معاوية عن مبدأ الشورى في اختيار الخليفة، بتحويله الخلافة وراثية لابنه يزيد من بعده. فعارض ذلك أبناء الصحابة. ثم رفض الأنصار مبايعته؛ فقتل الحسين بن علي في موقعة كربلاء؛ وظهر التوابون من الشيعة الذين قاتلوا الأمويين انتقاما لمقتل الحسين. وقد انضم الشيعة الى صفوف الثورة العباسية التي أسقطت خلافة بني أمية (كما سنرى لاحقا). كما أن الخوارج قد ثاروا أيضا على بني أمية؛ لأن رأيهم بتعين الخليفة كان: أن تكون شورى بين جميع المسلمين.

ه. أزمة الأسرة الأموية الحاكمة: تمثل ذلك في الصراع داخل الأسرة الأموية على ولاية العهد؛ فقد حاول العديد من خلفاء بني أمية نقض عهود الولاية؛ لتعيين أولادهم للخلافة؛ وقد تطور الصراع، فيما بعد، ليصبح عمليات انتقام واغتيال، داخل الأسرة الأموية الحاكمة، فكان أفراد الأسرة الأموية يقتلون بعضهم بعضا بسبب الخلافة.

و. أما السبب المباشر لانهيار خلافة بني أمية وسقوطها، فكان نجاح الثورة العباسية، كما سنشرح في حديثنا عن قيام الدولة العباسية لاحقا.

عمل بيتي:

1. لخّص الأسباب غير المباشرة لانهيار الخلافة الأموية، مشيرا إلى السبب الأكثر فعالية، حسب رأيك، في عملية الانهيار. --

تعالوا نتذكر

بواسطة قاموس الأسماء والمصطلحات:

بنو أمية، عام الجماعة، كربلاء، عاشوراء، التوابون، عمر بن عبد العزيز، القيروان، محمد ابن القاسم الثقفي، قتيبة بن مسلم الباهلي، عبد الملك بن مروان، الوليد بن عبد الملك، طارق ابن زياد، موسى بن نصير، هشام بن عبد الملك، بلاط الشهداء، مروان بن محمد.


*71*

الفصل الخامس


*71*

العصر العباسي (العصر الذهبي)


*71*

(132ه-232ه / 750م-847م)


*72*

العوامل التي ساهمت في نشوء الدعوة العباسية:

العباسيون من سادات بني هاشم من قريش؛ وهم ينتسبون الى العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تمكنوا من تنظيم ثورة ضد بني أمية؛ نجحوا بها فأسقطوا حكمهم سنة 132ه / 750م. فكيف تنظمت عناصر هذه الثورة؟ وكيف نجحت في اسقاط الدولة الأموية؟ تكمن جذور الثورة العباسية في الحركة التي دعت إلى أن الحق في خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم يعود إلى بني هاشم: آل البيت، أي أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فمنهم من دعا إلى أبناء علي بن أبي طالب؛ فهي، إذا، علوية؛ فتولى الدعوة بحق الخلافة الابن الثالث للإمام علي: وهو محمد بن الحنفية، لكنه ورث المطالبة بالخلافة إلى ابنه ابي هاشم، فحافظ على سرية المطالبة بحق (آل البيت) بالخلافة؛ وفي الحميمة (الواقعة شرقي البحر لميت)، نقل المطالبة بالخلافة، إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان أول المطالبين بالخلافة من العباسيين؛ فأوصاه أبو هاشم بتولي الأمر، فأرسل هذا الدعاة الثورة، وهم الذين عرفوا ب (النقباء)، وعددهم اثنا عشر نقيبا، جميعهم من العرب عدا واحدا كان مولى (عبد محرر)، لقبيلة بني حنيفة؛ فكانوا يدعون سرا إلى (الرضا من آل البيت)؛ وقد اختار خراسان لإعلان الثورة فيها؛ لأن سكانها من القبائل العربية، لم يزالوا يذلون؛ ويهانون؛ ويظلمون (من ولاة بني أمية)؛ ويتمنون الفرج. هكذا، كانت الحالة في خراسان أكبر مساعد لانتشار الدعوة العباسية.

وفي سنة 125ه / 742م، توفي محمد بن علي؛ فتسلم بعد موته ابنه ابراهيم، الذي لقب ب (ابراهيم الإمام)، ثم إلى أخويه: أبي العباس عبد الله بم محمد الملقب بالسفاح، وأبي جعفر المنصور، فأرسل ابراهيم الإمام مولاه أبا مسلم الخراساني إلى مرو (في خراسان) سنة 128ه / 746م، فعمل هذا على توسيع قاعدة المؤيدين للدعوة؛ ثم انتهز الفرصة المناسبة، وأعلن الثورة العباسية علنا سنة 159ه / 747م. فاندحرت قوات نصر بعد عدة معارك جرت بينه وبين قوات أبي مسلم؛ ففرّ هاربا إلى الريّ، ثم مات فيها غمّا.

تقدمت قوات الثورة العباسية نحو العراق في مسارين: الأول، نحو الشمال، إلى الكوفة، وبايعت فيها أبا العباس بالخلافة 131ه / 749م؛ أما الثاني، فاتجه جنوبا نحو البصرة؛ هذا وكان مروان ابن محمد قد القى القبض على ابراهيم الإمام في الحميمة؛ وحبسه في حران؛ فمات مقتولا ومسموما؛ وكان قبل وفاته قد بايع لأخيه أبي العباس. الذي بادر إلى توجيه عمه عبد الله بن علي، ليقود الجيش الخراساني الذي سار نحو البصرة، لقتال مروان بن محمد (آخر خلفاء بني أمية)، الذي رابط قرب نهر الزّاب الكبير، متحصنا بين نهر الزاب ودجلة (أنظر تخطيط معركة الزّاب على الصفحة التالية)؛ ثم وجه أخاه أبا جعفر المنصور لحصار والي العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، في مدينة واسط.

بلغ عدد أفراد جند مروان عشرين ألفا؛ بينما بلغ عدد أفراد جيش الثورة العباسية، بقيادة عبد الله بن علي، أربعة وعشرين ألفا؛ لكن جيش مروان قد فرقته العصبية القبلية، وتمرده على أوامر مروان؛ ومما حسم الموقف هو انه ارتكب خطأ استراتيجيا، بأن


*73*

(في الكتاب صورة - تخطيط معركة الزّاب سنة 132ه / 479م - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)

عبر الجسر على نهر الزّاب، نحو معسكر جند عبد الله؛ فاندحرت قواته بعد قتال دام عشرة أيام؛وفرّ هاربا نحو البصرة؛ وهكذا حسم الموقف في العراق لصالح الثورة العباسية؛ فصالح ابن هبيرة أبا جعفر، الذي منحه الأمان؛ لكنه قتله بطلب من أبي العباس السفاح، الذي أصبح أول خلفاء العباسيين (132-136ه / 750-754م).

حاصر عبد الله مدينة دمشق، بينما فرّ منها مروان نحو فلسطين؛ فدخلها الجيش العباسي، وقام بقتل كل أموي وجد فيها، وكل من تعاون مع مروان؛ فحدثت مذبحة رهيبة؛ ولم يكتف عبد الله بذلك، بل امر بنبش قبور الخلفاء الأمويين جميعا، عدا قبر الخليفة عمر بن عبد العزيز؛ لتقواه وورعه؛ وفي أبي فطرس، عند نهر العوجة (يصب في البحر المتوسط بين يافا جنوبا وآرسوف شمالا)، أجرى مذبحة أخرى بعدد من الأمويين، بعد ان منحهم الأمان، فيما تابعت قوات الثورة العباسية ملاحقة الخليفة الفارّ؛ فكشفته مختبئا في كنيسة في قرية (بوصير): من قرى الفيّوم (شمال القاهرة)، فقتلته؛ وبذلك انتهت الخلافة الأموية (سنة 132ه / 750م). وعلى أثر ذلك، أخذ العباسيون بتصفية أعدائهم الأمويين في كل مكان؛ كي لا يكون لهم مطالب للخلافة؛ ولم ينج من هذه المذابح سوى عبد الرحمن بن معاوية (الثاني) ابن هشام الذي فرّ مع مولاه بدر، إلى شمال أفريقية؛ ودخل الأندلس بتأييد الأمراء اليمنيين الأندلسيين؛ ثم أقام في قرطبة، التي أصبحت عاصمته؛ ولذلك لقب ب (الداخل).

أسئلة:

1. تتبع مسارات الثورة العباسية من خراسان، مشيرا إلى الأماكن التي وصلتها. --

2. ما هي أسباب ضعف الخليفة مروان بن محمد، ثم هزيمته في معركة الزّاب؟ وضح. --

3. كيف عامل العباسيون، خصومهم من بني أمية بعد سقوط خلافتهم، ولماذا؟ وضح ذلك. --


*74*

( في الكتاب صورة - خارطة الامبراطورية العباسية - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)

2. العصر الذهبي للدولة العباسية (132-232ه / 750-847م):

حكم الدولة العباسية سبعة وثلاثون خليفة (أنظر ملحق رقم 2)، موزعين على عصرين مختلفين؛ أ. العصر لعباسي الأول (132-232ه / 750-847م): يعتبر العصر الذهبي في تاريخ الدولة العباسية؛ ب. العصر العباسي الثاني (232-656ه / 847-1258م)، تميّز بضعف سلطة الخلفاء، بسيطرة عناصر اسلامية غير عربية (موالي)؛ فسادت في هذه الدولة فوضى عسكرية، بسيطرة القادة العسكريين من الأتراك، والبويهيين، والسلاجقة. وفي شرحنا القادم لن نتعرض لجميع الخلفاء العباسيين، بل لثلاثة منهم، تعتبر فترة خلافتهم العصر الذهبي في تاريخ الدولة العباسية، وهم: أبو جعفر المنصور، وهارون الرشيد، والمأمون.


*75*

أ. خلافة أبي جعفر المنصور (136-158ه / 754-775م): تولى الخلافة بعد أخيه أبي العباس عبد الله بن محمد، الملقب بالسفاح (يرى بعض المؤرخين أن لقب السفاح لا يقصد به؛ لكثرة ما سفك من دماء بني أمية، بل لكرمه، وعطائه بسفح دماء النوق، وأن هذا اللقب أطلق خطأ عليه، وقد التبس الأمر على المؤرخين بين أبي العباس وعمه عبد الله بن علي فأعطوا هذا اللقب للأول بدل الأخير. أنظر عبد المنعم ماجد، العصر العباسي الأول - القرن الذهبي في تاريخ الخلفاء العباسيين: التاريخ السياسي، ج1، القاهرة: مكتبة الأنجلو - المصرية، 1973، ص 48-51؛ فاروق عمر، بحوث في التأريخ العباسي، بيروت: دار العلم للطباعة، 1977، ص202.)؛ وقد أمضى فترة خلافته بمحاولة القضاء على البقية الباقية من الأمويين؛ لكي لا يبقى منهم مطالب بالحكم، كما أشرنا سابقا، وعلى بعض المؤيدين لهم؛ أما أبو جعفر، فواصل عملية تدعيم أركان الدولة؛ ثم تفرغ للفتوحات والعمران.

1. تدعيم أركان الدولة: في خلافة المنصور مرت الثورة العباسية، مثل كل ثورة في التاريخ، في مرحلة: (الثورة تأكل رجالها)؛ فقد تصدّى الى اثنين من المنافسين له: عمه عبد الله بن علي، وأبي مسلم الخراساني، وهما من قادة الثورة العباسية البارعين. أما عبد الله بن علي، فقد نافس أبا جعفر على الخلافة؛ فعند وفاة أبي العباس؛ أعلن عن نفسه خليفة؛ فأرسل أبو جعفر أبا مسلم الخرساني لقتاله؛ فدارت معارك عنيفة بين الطرفين انتهت بهزيمة عبد الله، ولجوئه إلى أخيه والي البصرة؛ فسلمه هذا الى أبي جعفر؛ فسجنه؛ ثم قتله بعد فترة. أما أبو مسلم الخراساني، فيشير البعض من المؤرخين إلى اسباب البغض الشخصي بينه وبين أبي جعفر، ومنها: أن أبا جعفر طالب أبا مسلم بالأموال والغنائم التي حصل عليها من معسكر عمه عبد الله بن علي بعد هزيمته، فغضب أبو مسلم، قائلا: (أمين على الدماء، خائن في الأموال، قبّح الله أبا جعفر)، ومنها اكثاره بقتل النفوس البريئة، وتكبره على المنصور، وعدم تقديم التهنئة له عندما تسلم الخلافة، وتقديم اسمه على اسم الخليفة المنصور في رسائله، وتقدمه على المنصور في طريق الحج. في حين يعزو البعض الآخر من المؤرخين ذلك، الى تخوف أبي جعفر من نية أبي مسلم بتحويل الخلافة لنفسه، مدعيا أنه من نسل الهاشميين، وهو بهذا مساو مع أبي العباس وأبي جعفر (تشير المصادر التاريخية إلى أن أبا مسلم كان مغمور النسب، أي: لا يعرف أصله). على كل حال، أرسل أبو جعفر الى أبي مسلم ليقدم اليه؛ وبعد تردد استجاب لطلبه؛ وقد أعد أبو جعفر أربعة من حراسه ومعهم السلاح من وراء الستور؛ وأوصاهم إذا ضرب بإحدى يديه على الأخرى يخرجون؛ فيقتلون أبا مسلم. فلما دخل عليه أبو مسلم؛ نزع سيفه منه؛ ثم أخذ في توبيخه على كل ذنب وذنب، وأبو مسلم يعتذر، وقال: (أصبحت لا أخشى إلا الله)، فضرب بيده على الأخرى، فخرج حراسه من وراء الستور وخبطوه بالسيوف. وهكذا، تخلص أبو جعفر من شخصية قوية؛ ثم قاتل أتباع اب مسلم الذين ثاروا انتقاما لمقتله.

كما تصدّي أبو جعفر لثورات العلويين، وفي مقدمتهم ثورة محمد بن عبد الله؛ فقد طالب بالخلافة لنفسه على أنه زعيم الأمة، والوارث الروحي، والديني، والسياسي للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. كما وقضى على ثورة محمد النفس الزكية، الذي تزعم الشيعة الزيديّة،


*76*

فقتل في المدينة المنورة، ثم على أخيه ابراهيم الذي خلفه في البصرة؛ فقتل هو الآخر. ثم حارب الخوارج في فارس، والجزيرة الفراتية، وفي شمال أفريقية (المغرب). وهكذا، أثبت أبو جعفر مقدرته على تثبيت دعائم الحكم العباسي. مما أكسبه لقب (المؤسس الحقيقي للدولة العباسية).

2. الفتوحات: رغم انشغال أبي جعفر المنصور في تدعيم أركان الدولة العباسية، إلا أنه قد جرت في عهده فتوحات: ففتحت طبرستان، لأول مرة: وهي المنطقة المحيطة ببحر قزوين (أو بحر الخزر) من الجنوب. وينسب على أب جعفر المنصور، تثبيت فتوحات المسلمين في السّند، ثم فتح بلاد كشمير، وهي تقع شمال الهند. وفي جبهة بلاد الروم (بيزنطية)، لم يكتف أبو جعفر المنصور بتجديد حرب الثغور، أي: حرب الحدود الواقعة بين الروم والمسلمين؛ بل غزا بلادهم أيضا، وذلك بالقيام بغزوات معظمها في الصيف، والمعروفة ب (الصوائف).

اما في مجال العمران، فيكفي أبا جعفر فخرا بأن يكون باني مدينة بغداد، وأنها مازالت تشهد على عظمته، وعلى رقي الحضارة العربية - الإسلامية، وسنخصص لهما شرحا خاصا في السطور القادمة.

أسئلة:

1. بيّن كيف نجح أبو جعفر المنصور في تثبيت حكمه؟ --

2. ما هي المناطق التي فتحت في خلافة أبي جعفر المنصور؟ وضح --

ب. خلافة هارون الرشيد (170-193ه / 786-809م): تولى الخلافة بعد اغتيال أخيه الهادي. وحكم ثلاثا وعشرين سنة، اعتبرت العصر الذهبي في التاريخ العربي الإسلامي: (فأيامه نضرة، والأرزاق كثيرة، وهي أحسن الأيام، ودهره أحسن الدهور). أما أهم الأحداث في خلافته، فيمكننا إجمالها، كالتالي:

1. تثبيت دعائم حكم العباسيين: فقد تصدى هارون الرشيد للقضاء على ثورات الخوارج، في خراسان والجزيرة الفراتية، والبربر في شمال أفريقية. ثم أعاد فتح جزيرة رودوس.

2. نشوء دولة الأغالبة: أنشأها ابراهيم بن الأغلب، بدعم من هارون الرشيد؛ لتنظيم أمور ولاية أفريقيا مما يلي صقليا، والتصدي لثورات البربر.

3. تنظيم الثغور: قام بتنظيم جديد لمنطقة الثغور (المنطقة الحدودية مع الروم - بيزنطية). ثم تجددت الحرب مع الروم وبشدة حتى ان جيشه قد تغلغل داخل حدود دولتهم عند مدينتي أفسوس وأنقرة؛ وعاقب القيصر نيقفوروس؛ لرفضه دفع الأتاوة (الضريبة) التي كانت القيصرة إيرين قد دفعتها للدولة العباسية من قبل.

4. نكبة البرامكة: بينما كان الرشيد منشغلا في حروبه مع الروم، كانت شؤون الامبراطورية متروكة إلى البرامكة: وهم ينسبون إلى جدهم برمك، الذي كان حارسا في أحد معابد المجوس قرب بَلْخ (في فارس)؛ ثم أسلم ابنه خالد؛ فدعم هو وأولاده الثورة العباسية؛ وقد أرضعت زوجة يحيى بن خالد، هارون الرشيد؛ فكان لذلك يناديه: يا أبتِ؛ وعندما تولى هارون


*77*

الخلافة، اتخذ يحيى بن خالد وزير تفوض له؛ وقلده أمر الرعية؛ ومنحه خاتم الخلافة؛ فصار بيده الحل والربط، فسيطر البرامكة على أمور الخلافة من أقصى المشرق حتى أقصى المغرب.

وبعد مرور سبعة عشر عاما على نفوذ البرامكة في دولة الرشيد؛ جاءت نكبتهم. فقد تنبه الرشيد إلى تعاظم نفوذهم في دولته؛ إذ سيطروا على بيت المال، والدواوين؛ ثم حرضت عناصر عربية بقيادة زبيدة زوجة الرشيد، ضد البرامكة؛ لاتهامهم بأنهم يمنحون المناصب الهامة للعنصر الفارسي؛ وأنهم منحوا تساهلا غير مألوف للمناطق الشرقية، حيث العنصر الفارسي، مقارنة بسياسة مالية متشددة مع جميع أنحاء الامبراطورية؛ وأنهم جعلوا هارون الرشيد يعدل من وصيته بالخلافة، بأن جعلوه يكتب فيها: بأن تنقل الخلافة بعد الأمين إلى أخيه المأمون: وهو ابن الرشيد من زوجته الفارسية الأصل وتدعى مراجل؛ وأن يعينه على المناطق الشرقية من الدولة، أي المناطق التي يسيطر عليها الفرس. وقد نسب للرشيد بأنه عاجز أمام سيطرة البرامكة ونفوذهم. لذلك أمر بالقبض عليهم؛ فصادر أملاكهم، وضياعهم؛ وأمر بقتل جعفر؛ وعلق جثته على جسور بغداد؛ أما يحيى والفضل، فقد أمر بحبسهما. وعرفت هذه الحادثة في التاريخ الاسلامي ب (نكبة البرامكة) (نسب بعض المؤرخين كالطبري، سبب نكبة البرامكة إلى قصة العباسية أخت الرشيد، بأنها ولدت من جعفر البرمكي ولدين، دون علم الرشيد، وكان الرشيد قد أخذ على جعفر المواثيق بألا يقرب العباسية، ولذلك نكب البرامكة. انظر كتابه تاريخ الأمم، ج9، ص142 - ص143. لكن البحث الحديث رفض هذه القصة فقال عبد العزيز الدوري: (ولكنني لا أشك في أنها موضوعة). انظر كتابة العصر العباسي الأول، ص166. وقال عبد المنعم ماجد: (هذه قصة على ما يبدو، لا أساس لها من الصحة لكثرة متناقضاتها من داخلها) انظر كتابه، العصر العباسي الأول، ج1، ص199.)

5.علاقة هارون الرشيد بشارلمان: تشير المصادر الفرنجية، الى قيام علاقة بين شارلمان؛ امبراطور الفرنجة، وهارون الرشيد؛ حصل خلالها تبادل السفراء والهدايا بينهما؛ بهدف تجنيد شارلمان ضد الأمويين في الأندلس، والتي طالما حاول العباسيون استرجاعها منهم؛ ومقابل ذلك يحصل الفرنجة على حماية الأماكن المقدسة في بيت المقدس، وبيت لحم، وتسهيل زيارة الحجاج إليهما. لكن سكوت المراجع التاريخية الاسلامية عن حقيقة حدوث مثل هذه العلاقات، جعل البعض من المؤرخين المسلمين يشكّون في حدوثها.

سؤال:

1. وضح السياستين: الداخلية والخارجية للخليفة هارون الرشيد. --


*78*

ب. خلافة المأمون (198-218ه / 813-833م): تولى الخلافة في أعقاب فتنة، وحرب أهلية وقعت بينه وبين أخيه الأمين الذي تولى الخليفة بعد والدهما الرشيد؛ حوصرت فيها بغداد من قبل قوات المأمون، لمدة أربعة عشر شهرا؛ فتعرضت أحياؤها الى التدمير والخراب، لحق ذلك قصر: الذهب وسط المدينة، وقصر الخلد على ضفاف نهر دجلة؛ وانتهت هذه الحرب بقتل الأمين على يدي جند المأمون من الفرس. وهكذا، تسلم المأمون السلطة عام (198ه / 813م). أما أهم الأحداث في خلافته، فيمكننا اجمالها بما يلي:

1. قضى على الفتن وعناصر الفوضى من اللصوص في بغداد؛ ثم على المنشقين من عرب مصر من القيسية واليمانية؛ ثم وضع فيها حامية من الترك، مما أدى إلى اضعاف نفوذ العرب فيها. ثم ثار الأقباط النصارى من المصريين الذين تذمروا من استغلال ولاة العباسيين لهم، حتى اضطر المأمون الى أن يقدم الى مصر، فقاتل الأقباط وقتل عددا كبيرا منهم.

2. حارب العلويين في العراق، واليمن والحجاز؛ ثم لجأ الى اختيار علي بن موسى، من سلالة الحسين ابن علي والذي لقب (الرضا)، لولاية عهده؛ لكن علي الرضا مات مسموما؛ ويقال بأمر المأمون بسبب المعارضة التي ظهرت بين العباسيين لتعيينه؛ ويرى البعض أن التعيين كان حيلة قصد بها المأمون إظهار العلويين الذين كان قد اختلفوا منذ عهد أبي جعفر المنصور؛ وبقتله يكون قد وضع حدا لطموح لفرس، الذين يميلون للعلويين.

3. استطاع التخلص من محاولة قائده: طاهر بن الحسين قاتل الأمين، من الانفصال بإقليم خراسان الذي كان المأمون قد عينه واليا عليه.

4. إقرأ (محنة القرآن)، أي: امتحان رجال الدين من القضاة، وأهل الحديث ليقروا بأن القرآن (مخلوق)، كقول فرقة المعتزلة (المشهور، في تسمية هذه الفرقة، (حسب أحد الآراء) الى زعيمهم، واصل بن عطاء الذي اعتزل حلقة الامام الحسن البصري، اثناء حلقة درس للحسن، في مسجد البصرة؛ حيث دخل أحدهم على الحسن، وسأله: كيف يحكم في فاعل الكبيرة (أي:الخطيئة) في الاسلام؟ وقبل أن يجيب، تكلم واصل، فقال: أنا، لا أقول إن فاعل الكبيرة مؤمن مطلق، ولا كافر مطلق، بل هو في منزلة بين منزلتين؛ لا مؤمن، ولا كافر. ثم قام واصل واعتزل حلقة الحسن؛ فصاح الحسن بأعلى صوته: اعتزل عنا واصل. فسارت هذه التسمية في كل المجتمعات؛ فعرف وأتباعه ب (المعتزلة). وقد اعتزل واصل إلى سارية (أي: عامود)، من سواري مسجد البصرة، حيث أقام عندها حلقته للدرس. أما الحسن، ومن تابعه؛ فقد كان رأيهم: أن فاعل الكبيرة، مع فسقه وفجوره، هو منافق. وللمعتزلة أصول خمسة يعتقدونها، هي: 1- العدل ، 2- التوحيد ، 3- الوعد والوعيد ، 4- المنزلة بين المنزلتين ، 5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (سورة آل عمران، الآيتان 110،104)) التي يقال: إن المأمون انتمى اليها؛ هذا بعكس القول بأنه (منزل من عند الله تعالى) والذي يؤمن به كل مسلم. لقد عذّب علماء مشهورون لكي يقروا بأن القرآن (مخلوق)؛ وكان فيهم أحمد بن حنبل (صاحب المذهب السني الحنبلي)، فقد عذب وضرب في سجنه زمن المأمون والمعتصم؛ إلا أنه أصر على موقفه فاضطر المعتصم الافراج عنه. هكذا، اصبحت (المحنة) أداة سياسية في يد المأمون ومن جاء بعده من الخلفاء العباسيين، بقصد اظهار الولاة للخليفة العباسي.

5. أصبح البحر الأبيض المتوسط، في عهده، بحيرة اسلامية، فكانت السيطرة الاسلامية قد بسطت على كافة حوضه، بما في ذلك الجزر: قبرص،


*79*

وكريت، ورودوس، وصقليا. ثم استمر المأمون في حرب الثغور ضد الروم، وإن لم تكن في معظمها معارك حاسمة؛ إذ رافقتها نجاحات وإخفاقات.

هكذا، تهيأت الظروف للمأمون بأن يهتم بالمجال الثقافي، والعلمي حتى انه لقب ب (أستاذ الحضارة العربية - الاسلامية): اذ كان: كريما، أديبا، عالما؛ نشر العلم؛ وشجع العلماء؛ وقرب الأدباء؛ وبذل الهبات والعطايا لرجال العلم، كما سنشرح ذلك في السطور القادمة عن المعالم الحضارية للعصر الذهبي في تاريخ الخلافة العباسية. لكن قبل ذلك سنخصص حديثا خاصا عن مدينة بغداد؛ إذ أنها كانت مهدا لهذه المعالم الحضارية.

سؤال:

1. ما هي أهم الأحداث التي شهدتها خلافة المأمون؟ وضح --

3. خصائص العصر الذهبي للدولة العباسية

حصل في العصر العباسي تفاعل بين الحضارات الهندية والفارسية، واليونانية، والقبطية والسريانية وبين حضارة العرب الفاتحين من الجزيرة العربية؛ فشكل هذا التفاعل قاعدة للحضارة العربية - الإسلامية. وفي السطور التالية سيتمحور الحديث عن خصائص الحضارة العربية - الإسلامية في العصر الذهبي للخلافة العباسية وخاصة في عصور الخلفاء الثلاثة: المنصور، والرشيد، والمأمون لا في عصور الخلفاء العباسيين كافة.

1. المجال الثقافي:

أ. الترجمة: إزدهرت الترجمة وتطورت كثيرا في العصر العباسي الأول. وكان غالبية المترجمين للتراث اليوناني من النصارى السريان، مما يؤكد الدور الذي لعبه المسيحيون (النصارى) في تشكيل الحضارة العربية - الإسلامية. وقد تناولت ترجماتهم كتب الطب، الرياضيات، والفلسفة، والفلك، والمنطق. من هؤلاء المترجمين نذكر: الطبيب النسطوري جوارجيوس ابن بختيشوع، وبختيشوع بن جوارجيوس، وجبريل تلميذ بختيشوع، والحجاج بن يوسف بن مطر، وثابت بن قرة وابنه سنان، ويوحنا بن ماسويه، وحنين بن اسحاق وابنه اسحاق، وقسطا بن لوقا (أنظر فيما بعد). كما ترجم عن الفارسية عبد الله ابن المقفع، وهو فارسي الأصل. واشهر ترجماته كتاب "كليلة ودمنة"، وكتاب (سير الملوك)".


*80*

لقد ساعد في عملية الترجمة إدخال صناعة الورق الى بغداد، عن طريق الصين في القرن الثاني للهجرة / الثامن للميلاد. فقد انتشرت حوانيت الورّاقين في بغداد: والورّاق من يعمل على نسخ الكتب وتجليدها لقاء أجر يدفعه طالبو هذه الكتب وكانت حوانيت الورّاقين، أشبه بالمكتبات العامّة.

وقد برز (بيت الحكمة)"، كأعظم معهد للترجمة في الدولة العباسية؛ أنشأه الخليفة هارون الرشيد (ويقال: المأمون)، ومعه مرصد وخزانة كتب (مكتبة) وهو بمثابة جامعة في بغداد. بلغ ذروة نشاطه في عهد المأمون. حيث ضم كتبا وضعت في الأصل بلغات مختلفة. فكان حنين بن اسحاق أشهر المترجمين في عهدي الرشيد والمأمون، فقد ولاه الرشيد ترجمة الكتب الطبية القديمة مما وجدها في بلاد الروم التي فتحها المسلمون. وكان يشرف في (بيت الحكمة) على عدد كبير من المترجمين والنساخ؛ ويصحح أخطاءهم؛ ويزوّدهم بالكتب النادرة التي يجمعها بنفسه؛ ويسعى للحصول عليها. كما الّف الكتب في الطب، وفلسفة الفلاسفة اليونانيين: أفلاطون وأرسطو، وفي المنطق، والطبيعة؛ وأسهم في تطوير اللغة العربية وجعلها لغة علوم. وحتّى يقال: إن المأمون كان يعطيه عن كل كتاب يترجمه الى العربية وزنه ذهبا. كما ترجم ابنه إسحاق، وقد كان راتب كل واحد منهما خمسمائة دينار شهريا. هذا، وكان الرشيد قد عهد في رئاسة (بيت الحكمة) الى يوحنا بن ماسويه، الذي كان طبيبا مشهورا، وتولى ترجمة الكتب اليونانية؛ وخدم الرشيد والأمين، والمأمون؛ وبقي على ذلك الى أيام المتوكل. وبقي (بيت الحكمة) يخدم العلم والعلماء الى غزو المغول (التتر) لبغداد عام 656ه / 1258م؛ فذهب (بيت الحكمة)، وما به من كتب، وعفّت معالمه. ومن الجدير ذكره، أنه في القرن الخامس للهجرة / الحادي عشر للميلاد، أقيمت مؤسسة علميّة أخرى كان لها الأثر الكبير في الحياة العلمية في بغداد؛ نقصد بذلك (المدرسة النظامية) التي أسسها الوزير السلجوقي نظام الملك، في الجانب الشرقي من بغداد.

ب. العلوم الدينية: شهد هذا العصر ميلاد علم تفسير القرآن الكريم؛ وجعلوه منفصلا عن علم الحديث، أي: أصبح مفسرو القرآن يلجؤون الى اجتهاداتهم الخاصّة، مستعينين أحيانا بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بقول لصحابي، أو تابعي؛ أما علم الحديث، فقد كان أبرز ما صنّف فيه؛ كتب الحديث الستة (الصحاح الستة)؛ اشتهر بينهما الصحيحان من تصنيف كل من: أ. الإمام محمد بن اسماعيل البخاري (ت. 256ه / 870م): صاحب كتاب صحيح البخاري، ثم الامام مسلم بن الحجاج النيْسابوري (ت. 261ه / 875م): صاحب كتاب صحيح مسلم. وقد اشتهرا على أنهما: (الصحيحان).

وفي الفقه الإسلامي ظهرت مدرستان، هما: مدرسة (أهل الرأي) في العراق، ومدرسة (أهل الحديث) في المدينة المنورة. وعاش في هذا العصر أئمة الفقه الأربعة أصحاب المذاهب السنية الفقهية الأربعة وهي: الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، نسبة الى الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت (ت. 150ه / 767م) (فارسي، ولد في الكوفة)؛ والإمام مالك بن أنس (ت. 179ه / 79م) (ولد في المدينة المنورة)؛ والإمام محمد بن إدريس الشافعي


*81*

(ت. 204ه / 820م) (ولد في غزة)؛ الإمام أحمد بن حنبل (ت. 241ه / 855م) (ولد في بغداد).

أما في علم القراءات، أي طرائق قراءة القرآن الكريم، فكان أشهر القراء في بغداد: الكسائي، النحوي، الذي قدم إلى بغداد من الكوفة؛ فاختاره الرشيد لتعليم ولديه: الأمين والمأمون.

ج. علم اللغة: ففي علم النحو ظهرت مدرستان: مدرسة البصرة، ومدرسة الكوفة؛ أما أبرز النحويين فكانوا: سيبويه عن مدرسة البصرة، والكسائي عن مدرسة الكوفة، وهناك الأصمعي الذي استقر في بغداد؛ واتصل بالرشيد. ويقال: إنه بفضل المأمون أصبحت العربية لغة الحضارة في المنزلة الأولى بين لغات الدنيا.

أما في مجال الشعر والنثر، فمن الأسماء اللامعة من الشعراء الذين برزوا في العصر الذهبي هذا: أبو نواس (شاعر الخمريات)، وبشار بن برد، والبُحتري، وأبو العتاهية، وأبو تمام؛ أما في النثر: فكان أبو عثمان عمرو بن بحر الملقب ب (الجاحظ) (لبروز عينيه من حدقتيهما الواسعتين). وأشهر كتبه: (البيان والتبيين)، و (البخلاء)، و (حياة الحيوان).

د. علم التاريخ: ازدهر علم التاريخ عند المسلمين، وفيما يلي أبرز المؤرخين وأشهر مؤلفاتهم؛ محمد ابن عمر الواقدي صاحب كتابي: (التاريخ الكبير)، و(المغازي)؛ وكاتبه: محمد بن سعد، وكتابه (الطبقات الكبرى)؛ ثم عبد الملك بن هشام صاحب كتاب (السيرة النبوية) (وهي منقحة عن السيرة التي كتبها محمد بن اسحق)؛ ثم الهيثم بن عدي، وأحمد بن يحيى البلاذري، صاحب كتابيّ: (فتوح البلدان)، و (أنساب الأشراف)؛

(في الكتاب صورة - الخوارزمي - الرجاء الاستعانة بالمعلم للوصف)

وأحمد بن ابي يعقوب (اليعقوبي)، مؤلف كتاب: (تاريخ البلدان) الذي يعتبر أول كتاب في الجغرافية التاريخية، ثم عبد الله ابن مسلم الدينوري (ابن قتيبة). وفي نهاية القرن الثالث وبداية الرابع للهجرة / التاسع وبداية العاشر للميلاد، برز، كأعظم المؤرخين المسلمين، محمد بن جرير الطبري (ت. 310ه / 923م)، مؤلف كتاب (تاريخ الأمم والملوك).

ه. الحساب والجبر: كان نقل كتاب (السِّنْد هِنْد) في علم الفلك الى العربية في عهد المنصور؛ فاطلع العرب على الأرقام الهندية؛ وكانوا من قبل يستعملون الحروف الأبجدية (أبجد، هوز)، كأرقام. ثم نقل محمد بن موسى الخوارزمي (ت. 231ه / 846م) الأرقام الهندية، في كتابه (الجمع والتفريق بحساب


*82*

الهند)؛ إذ ذكر أن لدى ألهنود شكلين من الأرقام:

أ.الشكل ألذي إستعمل في البلاد العربية، وما زال.

ب.الأرقام الغبارية، الذي أجرى عليها الخوارزمي تحسيناً وتهذيباً على أساس زوايا، وإنتشر هذا الشكل الأخير في شمال أفريقيا ومنها عرفته أوروبا عن طريق البلاط البابوي (روما) في القرن العاشر للميلاد، وأطلقوا عليه (أرقام عربية (Arabic numbers).

وإستخدموها في حساباتهم؛ وكانوا حتى القرن الثالث عشر للميلاد يستخدمون الأرقام الرومانية. وإستعمل في الشكل الأول الصفر (0)، وأما في الشكل الثاني، فكان الصفر عبارة عن دائرة (0). هذا، وكان الصفر لدى الهنود يعتبر لا شيء، أي لا قيمة له، حتى جاء الخوارزمي، فصارت قيمته حسب منزلته في العدد. وبذلك يكون العرب هم من استخدموا الصفر إستخداماً عملياً.

وهكذا، أصبح من الحقائق المسلمة أن العرب أخذوا الأرقام عن الهنود فهذبوها، وإستخدموها. وأن التسميتين (الهندية) و(الغبارية) لا تعنيان وجود شيئين متغايرين، بل هما اسمان ينبئان عن مسمى واحد، هو الرقم المنقول نفسه (أنظر الأشكال التالية):

(في الكتاب صورة - الأرقام الهندية - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)

(في الكتاب صورة - الأرقام الهندية الغبارية (الهندية - العربية) - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)

كما وألف الخوارزمي كتاب (الجبر والمقابلة)، بتشجيع من الخليفة المأمون؛ فيه عالج المعادلات الحسابية من الدرجة الثانية؛ ويكفي الخوارزمي فخراً أن يطلق على علم الجبر في الغرب الأوروبي لفظة (Algebra) مقتبسة عن تسمية كتابه المذكور أعلاه، وأن تطلق نسبته (الخوارزمي) على (اللوغريثم) (algorithm).

ز.الكيمياء: برع في علم (الكيمياء)، (بالعربية (علم الصناعة، أو الصنعة)، جابر بن حيان الكوفي المعروف بالصوفي، أو الأزدي (ت. 199ه / 815م)، واضع المنهج التجريبي. وبواسطته نجح في الوصول إلى معرفة كثير من العمليات الكيميائية ألتي وصفها لنا وصفاً دقيقاً: كالتبخير، والتقطير، والترشيح وغيرها؛ وهو أول من إستحضر ماء الذهب، وكتبه في الكيمياء كانت أساساً في علم الكيمياء في أوروبا إلى عدة قرون؛ وهو يعتبر في نظر الأوروبيين أول من وضع القواعد العلمية لعلم الكيمياء.

ومن العلماء اللامعين في علم الكيمياء نذكر أيضاً: أبا بكر الرازي (ت. 208ه / 923م)، ألذي كان طبيباً أيضاً، فقد ألف حوالي إثني عشر مؤلفاً في علم الكيمياء: أهمها سر الأسرار، وقد تقل إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر للميلاد. وكان الرازي أول من نبه


*83*

(في الكتاب صورة - مخطوطة أوروبية من القرن الخامس عشر للميلاد تصور جابر بن حيان - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)

إلى علم (الكيمياء الحيوية) (بيوكيمياء)؛ لإعتقاده أن الشفاء يرجع إلى تفاعلات كيماوية تتم داخل الجسم. هذا، وتابعت المسيرة الحضارية لدى المسلمين تقدمها بالرغم من إنتهاء العصر الذهبي للدولة العباسية؛ فقد واصلت تقدمها طيلة العصر العباسي، وفي ما بعده، وفي شتى المجالات: الفكرية، والأدبية، والعلمية بحيث أفادت الحضارة الأوروبية بشكل بارز.

2.المجال الإداري:

حدث تطور بارز شهده المجال الإداري بتأثير الحضارات الأخرى لا سيما الفارسية، منها:

أ.وظيفة الوزير: يرى بعض المؤرخين أن كلمة وزير مشتقة من الأصل الفارسي (وزير) (وتلفظ الواو بالفارسية (ف)، أي: فزير) فهي، إذاً، لفظة فارسية؛ ويرى البعض الأخر أنها عربية من المؤازرة، أي: المساعدة. ومهما يكن أصلها، فقد أصبحت منصباً رسمياً فقط منذ عصر الدولة العباسية؛ إذ في هذا العصر حددت قوانينها؛ وسمي الوزير وزيراً؛ وكان قبل ذلك يسمى كاتباً، أو مشيرا). (إبن الطقطقي، م.س، ص153).

ب. قاضي القضاة: منصب إستحدث زمن الرشيد؛ يقابله وزير العدل في أيامنا؛ وهو الذي يعين القضاة في أقاليم الدولة. وكان أول من تسلم هذا المنصب أبو يوسف يعقوب: مؤلف (كتاب الخراج)، بطلب من الرشيد.

ج. الجلوس في حضرة الخليفة: إقتبس العباسيون طريقة الجلوس في حضرة الخليفة عن الفرس؛ وكان الخلفاء يقيمون في بلاطهم مجالس الغناء، والطرب والشعر، والأدب، والمناظرة، والعلم؛ وإعتادوا، ترتيب ندمائهم على طبقات: حسب أهميتهم، مقتبسين ذلك عن البلاط الفارسي؛ فكان الخليفة يجلس من وراء ستارة؛ يتولى خدمتها خادم خاص يدعى (صاحب الستارة)؛ أما جلساء الخليفة من الندماء، فيجلسون على أبعاد متفاوتة من الستارة: عشرة أذرع بين كل صف من الصفوف الثلاثة، يجلس فيها الشخص حسب طبقته الإجتماعية.

د. إستحداث الدواوين: ومن أبرزها في العصر العباسي، كان:

1. ديوان الأزمة، وهو دائرة حسابية لمراجعة


*84*

حسابات الدواوين، في ما يتعلق بالواردات والنفقات. وقد أحدث الخليفة المهدي: منشىء هذا الديوان ، في أواخر خلافته، ديوان زمام الأزمة: أي المشرف على دواوين الأزمة كلها.

2.ديوان المظالم: ينظر في ظلامات موظفي الدولة والطبقات العليا، لعامة الناس؛ ثم يحيلها الديوان إلى (محكمة المظالم) التي نشأت زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان.

5. المجال العمراني: إهتم كثير من خلفاء الدولة العباسية وبخاصة العصر العباسي الأول، بإقامة مدن جديدة وقصور ومنشات عمرانية كثيرة.

كان أبرز المدن، بغداد، الرصافة، والرافقة في الجزيرة الفراتية، على يد الخليفة أبي جعفر المنصور (كما مر)، وفي زمن الخليفة المعتصم بنيت مدينة سامراء على بعد مائة كيلومتر شمالي بغداد. وفي السطور القادمة سنخصص حديثا خاصا عن مدينة بغداد، بوصفها حاضرة للخلافة العباسية.

4. دور بغداد، وأهميتها، بوصفها حاضرة للخلافة العباسية:

أ. دوافع بناء مدينة بغداد:

إختار الخليفة العباسي السفاح الكوفة أولاً، لتكون مقراً له؛ ثم اتخذ بالقرب منها مدينة الهاشمية؛ ثم إتخذ عاصمته بالقرب من الأنبار، على نهر الفرات. أما الخليفة أبو جعفر المنصور، فقد بنى مدينة سماها (الهاشمية)؛ إلا أنه، بعد ذلك، كره البقاء فيها لأنها قريبة من الكوفة، معقل الشيعة، وثورة الرواندية عليه (وهم من الخراسانيين من أتباع عبد الله الراوندي والذين يؤمنون بتناسخ الأرواح وقد دعموا الثورة العباسية. وعندما تولى أبو جعفر المنصور الخلافة نسبوا إليه الخوارق والمعجزات، ثم ألهوه فتخلص منهم. أنظر الطبري، م.س، ج8، ص533.)؛ فأخذ يبحث عن مكان جديد يصلح مقراً لحكمه وجنده، من الخراسانيين؛ وليكون، في الوقت نفسه، قريباً ورقيباً على الكوفة؛ حيث الشيعة العلويون؛ وبعد بحث عن موقع ملائم، وقع إختياره، على الموضع ألذي أقيمت فيه بغداد، حيث يتقارب فيه النهران: دجلة والفرات إلى أقرب نقطة؛ وذلك لأسباب عسكرية: فإن النهرين يشكلان عائقاً طبيعياً ضد أي جيش ينوي إحتلال المدينة، ولأسباب إقتصادية: فإن النهرين يشكلان معاً، وفي الوقت ذاته، طرقاً للمواصلات، لإمداد المدينة بالمؤونة، والسلع، ولأسباب مناخية: فإن جوها صحي معتدل إلى حد لا بأس به؛ ولأسباب سياسية: وذلك للأهمية السياسية (والإقتصادية) للأقاليم الشرقية للدولة الإسلامية، حيث أنصار العباسيين في ثورتهم ضد الأمويين؛


*85*

لهذا أقيمت بغداد عام 145ه / 762م. ويقال: إنه عندما قرر أبو جعفر المنصور بناءها جمع حوالي مائة ألف (!) من المهندسين، والبنائين، والصناع. أما تخطيطها، فقد إعتمد على الشكل الدائري، كما يظهر في التخطيط التالي:

(في الكتاب صورة - تخطيط مدينة بغداد - - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)

وكانت أسواق بغداد، في أول أمرها، داخل الأسوار؛ فأمر المنصور نقلها إلى خارجه؛ لأن الضجيج والتشويش المنبعث منها يصل إلى قصره؛ ثم ليمنع أي محاولة تسلل لجواسيس الأعداء إليها بزي التجار؛ فنقلت جميع الأسواق إلى منطقة الكرخ، في الجهة الجنوبية الغربية، فكان لكل صناعة، أو حرفة سوقها، في الكرخ.


*86*

وقبالة باب خراسان، وعلى الضفة اليمنى لنهر دجلة، بنى الخليفة المنصور مدينة الرصافة على الجانب الشرقي لبغداد، وأحاطها بخندق وسور؛ لتكون مقراً لإبنه المهدي؛ وأقام فيها حامية من الجند؛ لكي يستعين بهم في قمع أي تمرد قد يواجهه في بغداد؛ ولتقي بغداد من أي هجوم قد تتعرض له من ناحية خراسان.

ب. أسماء المدينة:

1. بغداد: وهي لفظة فارسية، مكونة من كلمتين: (باغ) بالفارسية وتعني بستان، و(داذ) إسم رجل وهو صاحب البستان ؛ أو من (بغ) وتعني صنم، و(داد) وتعني أعطى؛ أو من (بغ) وهو إسم لملك صيني، و(داد) بمعنى أعطى؛ أو من (باغ) وتعني بستان و(داذوية) صاحب البستان ويقال لها أيضا: بُغداد، بغداذ، مغدان وبغدان.

2. مدينة (أو دار) السلام: وهو الإسم الذي أطلقه عليها مؤسسها الخليفة أبو جعفر المنصور.

3. المدينة المدورة: لأنها على شكل الدائرة.

4. الزوراء: لأن أبوابها الداخلية مزورة (متعرجة)، أو لازورار نهر دجلة عند مروره بها.

5. المنصورية: أو مدينة المنصور، نسبة إلى مؤسسها الخليفة أبو جعفر المنصور.

أسئلة:

1. ما هي دوافع أبي جعفر المنصور لبناء مدينة بغداد؟ وضح --

2. إشرح تخطيط مدينة بغداد، وأهميته في الدفاع عن المدينة. --

3. ماذا نستنتج من التسميات المختلفة لمدينة بغداد؟ وضح --

ج. المجتمع البغدادي:

شمل المجتمع البغدادي خليطاً من الشعوب التي فتح المسلمون بلادهم. وكانت بغداد عنصر جذب لهذه الشعوب، حيث قدم إليها العديد من الشعوب، وفيهم: العربي، والفارسي، والخرساني، والتركي، والسندي، والرومي، والكرجي، والأرمني، والكردي، والبربري، والنوبي، والزنجي، والأندلسي، وغيرهم. وكانت حياة هذه الفئات متباينة إجتماعياً، وإقتصادياً، ويقسمون إلى طبقتين مميزتين عن بعضهما، من جميع النواحي؛ وهما: الخاصة والعامة.

أ. طبقة الخاصة: هم أصحاب السيادة والسلطة في الدولة، وتشمل: الخليفة، وذوي قرباه، وأصحابه من رجالات الدولة البارزين: كالوزراء، والكتاب، والقواد، والأشراف، والقضاة، والشهود، علاوة على بعض المقربين من أهل الفن الموهوبين، والعلماء، وأهل الأدب. وقد تمتعت طبقة الخاصة بمميزات مختلفة في المجتمع البغدادي، ففضلاً عن السياسة، والحكم، وتقلد الوظائف، فقد تميزت بشتى نواحي


*87*

الحياة المعيشية؛ من إقامة القصور، وإتخاذ الجواري والخدم، والملبس والمأكل، وإقامة الحفلات الخاصة وما يرافقها من البذخ، والترف، والنعيم، وإقامة مجالس الغناء، والموسيقا والطرب، والشعر، والأدب، والمناظرة، والعلم؛ ثم إستقبال الخليفة لهم في مكان خاص عرف ب(دار الخاصة).

من هذه الحفلات البارزة التي ترويها المصادر التاريخية الإسلامية، نذكر حفلة زواج المأمون من بوران، إبنة، وزيره الحسن بن سهل قيل: (إن والدها الحسن قد نثر في يوم زفافها على الهاشميين (من عائلته)، والقواد، والكتاب، والوجوه، بنادق المسك (الطيب)، فيها رقاع بأسماء ضياع، وأسماء جواري، وصفات دواب، وغير ذلك، فكانت البندقة، إذا وقعت في يد الرجل فتحها، فقرأ ما فيها؛ فإذا علم ما فيها مضى إلى الوكيل المرصد لذلك؛ فدفعها إليه، وتسلم ما فيها ((...)) وجليت بوران على المأمون؛ فرش لها حصير من ذهب ((...)).

وبلغت نفقة هذا الإحتفال خمسين مليون درهم؛ وأمر المأمون للحسن بن سهل، عن منصرفه، بمبلغ عشرة ملايين درهم؛ ومنحه هدية (فم الصلح)، وهي داره، التي زفت فيها بوران؛ فجلس الحسن؛ وفرق المال على قواده، وأصحابه وحراسه؛ وأطلق له خراج (منحه التصرف بضريبة الخراج) فارس والأهواز (تقع جنوب غرب إيران) مدة سنة، وجاء المأمون إلى عروسه في الليلة التالية، فنثرت عليه جدتها الدرر، وكانت في صينية من ذهب.

ولم تختلف حياة الخلفاء الإجتماعية عن باقي رجال الدولة، والأمراء؛ فقد قلدوهم في ذلك.

ب. طبقة العامة: تعود تسميتهم ب(العامة) إلى كثرتهم، وعدم إحاطة الرؤيا بهم، أو لجهلهم بالأمور الدينية التفصيلية، والتزامهم بالشيء العام فقط. ومما يميزهم عن الخاصة: أنهم ليسوا من أصحاب السلطة، وفي حياتهم المعيشية. وقد عرفوا ب(السوقة)؛ لأن السلطان يسوقهم لإرادته، فينساقون له. والذين ينتمون إلى العامة، هم: أهل المهن والصناع، والتجار، والباعة، والدلالون، والخدم، والفلاحون، والجند، والشطار والعيارون. نعني بالشاطر؛ الذي شطر (انفصل) عن أهله وتركهم مرغماً، أو مخالفاً؛ وأعياهم خبثاً، ومكراً؛ والشطارة، صفة تطلق على الرجل الواسع الحيلة، والدهاء؛ أما العيار، فهو: المتردد، الجوال دون هدف، والنشيط في المعاصي. (والمثل العربي يقول: (لاحق العيار لباب الدار)، أي راقب الشخص حتى تعرف ما في نيته عمله.

وكان الشطار والعيارون، خليطاً من أدنى عامة بغداد؛ وقد أطلق عليهم ألقاب تدل على وضعهم الإجتماعي مثل: فساق، أوباش، غوغاء، سفلة العامة، زعار (جمع أزعر وهو الشرس، سيء الخلق)، سوقة، عراة، وغيرها.

كان الشطار والعيارون من الفقراء في المجتمع البغدادي، فلجأوا إلى قطع الطرق؛ للحصول على طعامهم من التجار الخارجين من بغداد، والداخلين إليها، فيصادرون تجارتهم؛ فإذا كانت تجارة التاجر أقل من ألف درهم، قاسموه عليها. وكانوا لا يعتدون على شرف إمرأة؛ ولا يبوحون بأسرار أصدقائهم، ومؤيديهم؛ ويحرصون على شرفهم؛ ولا يزنون؛ ويصبرون على الشهوات؛ ويحافظون على شرف الكلمة؛ ولا يكذبون.


*88*

سؤال:

1. ماذا نعني ب(طبقة الخاصة) و(طبقة العامة)، وضح مشيراً إلى ثلاثة اختلافات بينهما. --

في المجال العمراني: قد كثر في بغداد العمران، حتى إنه على ضفتي دجلة أقيمت فيهما القصور الفخمة، والحدائق، والمنتزهات البديعة؛ ثم أقيمت فيها الأسواق العامرة، والحمامات الجميلةن والمساجد الفخمة، والبيمارستانات، والمدارس، وخزائن الكتب. ومن أشهر القصور التي شيدت في بغداد: (قصر الخلد) الذي بناه المنصور على شاطيء دجلة؛ ويوصف بأنه في أبوابه مسامير من ذهب وفضة؛ كما تخللته الأعمدة الكثيرة الفخمة التي زينها المنصور بالرسوم البديعة والصور الجميلة. وكان مجلسه مفروشاً بالرخام تتوسطه قضبان ذهبية؛ وفرش بالبسط والديباج تتوسطه قضبان ذهبية؛ وفرش بالبسط والديباج التي نقش عليها ابيات شعرية في مدح الخليفة. وفي المجلس كرسي فخم مرصع باللؤلؤ معد لجلوس كبار رجال الدولة الذين يحظون بالجلوس في مجلس الخليفة؛ أما الخليفة، فيجلس في قبة مفروشة بأفخر أنواع الحرير المنسوج بالذهب. كما أقيم قصر القرار أو قصر زبيدة، وقصر الرصافة، وقصر السلام، والتاج، ودار الشجرة وغيرها.

أسئلة:

1. بين دور النصارى في تشكيل الحضارة العربية-الإسلامية. --

2. ما أهمية (بيت الحكمة) في تاريخ الحضارة العربية-الإسلامية؟ وضح --

3. إشرح التطور الذي برز، في العصر العباسي الأول، في علوم: الدين، واللغة، والتاريخ، والجغرافية، والحساب والجبر، والكيمياء. --

4. وضح تأثير الحضارة الفارسية في الإدارة العباسية. --

5.عوامل ضعف الدولة العباسية وسقوطها على يد المغول عام 656 ه / 1258 م:

تركز شرحنا عن الدولة العباسية عن العصر الذهبي لهذه الدولة، أي العصر العباسي الأول: عصر القوة والإزدهار؛ لكننا لم نتطرق، في حينه، إلى العصر العباسي الثاني الذي تميز في غالبيته بضعف سلطة الخليفة العباسي؛ لإستبداد عناصر إسلامية غير عربية (موالي)، مثل: الأتراك، والبويهين، والسلاجقة، على التوالي.

فإستبد القادة العسكريون من هذه الفئات بالسلطة السياسية، من مظاهر ذلك، تعرض بعض الخلفاء للتعذيب وسمل أعينهم. ولم تنتعش الخلافة إلا في عهد الخليفة الناصر لدين الله (566-575 ه / 1170-1180 م)؛ لكنها كانت سحابة صيف؛ إذ عادت بعدها


*89*

سلطة الخليفة إلى الضعف، حتى قضى عليها المغول أو التتر، وأصلهم من إقليم منغوليا شمال الصين)، بقيادة هولاكو باحتلالهم لبغداد عام 656 ه / 1258 م؛ فإستباحوها خلال سبعة أيام، وقتلوا خلالها، حسب بعض التخمينات، حوالي ثمانيمئة من سكانها، قد لحق نفس المصير باخر الخلفاء العباسيين: المستعصم بالله (640-656 ه / 1242-1258)، فقتل هو، وابنه الأكبر، والعديد من أهل بيته وحاشيته، فضلاً عن الدمار والنهب وحرق القصور، والأضرحة المقدسة، والمكتبات بما فيها (بيت الحكمة) الذي حوى أغلى ما أبدعته عقول المسلمين من تراث ثقافي؛ إذ ألقيت كتب كثيرة، لا يعلم عددها إلا الله، في مياه نهر دجلة لتحول لونها إلى أسود. وفيما يلي سنحاول تحديد أسباب ضعف الدولة العباسية، وسقوط بغداد على يد المغول.

ويمكننا تلخيصها فيما يلي:

1. تدهور الوضع الإقتصادي - الإجتماعي؛ إذ حل بالعراق، خلال العصور الأخيرة من تاريخ الخلافة العباسية، نكبات من الفيضانات المدمرة، وسقوط البرد، أو إنحباس المطر؛ وقد رافق ذلك هجرة من الأرياف إلى داخل بغداد مما أدى إلى قلة المنتوج الزراعي، وحصول غلاء في اسعار المواد الغذائية، ثم إنتشار المجاعات والأمراض.

2. ضعف الجيش؛ لقد أهمل الخلفاء المتأخرون تطوير الجيش العباسي فإعتمدوا بدل ذلك كلياً على تجنيد الأتراك المماليك، وعلى تجنيد طاريء (النفير) عند الأخطار؛ ولا يلبث ان يسرح الجندي بعد زوالها، كما حدث قبيل الهجوم المغولي على بغداد بثلاثين عاماً، حيث تم تسريح عدد كبير للجند، لعدم حاجة البلاد لهم.

3. ضعف الخليفة المستعصم بالله؛ فقد وصف بأنه كان: محباً للمال، مهملاً للأمور، متكلاً على غيره، وأنه كان سبباً في هروب الجند من الخدمة؛ لأنه قطع أرزاقهم بإسقاط أسماء بعضهم من ديوان الجند، في حين حاز الأموال والذهب لنفسه وخبأها في قصره.

4. الخلاف بين الوزير وقائد الجيش؛ يعود هذا الخلاف، بين إبن العلقمي: وزير المستعصم بالله، وقائد جيشه من المماليك الأتراك المدعو الدويدار الصغير، لدوافع شخصية ومذهبية؛ فبينما إقترح الوزير على الخليفة بذل الأموال والهدايا لهولاكو لثنيه على إحتلال بغداد؛ فإن قائد الجيش عارض ذلك متهماً الوزير بالتامر مع هولاكو ضد الخليفة.

5. خيانة وزير الخليفة المستعصم بالله: إبن العلقمي؛ إذ إتهم بإتصاله بهولاكو، وتشجيعه له بالزحف على بغداد، وإسقاط الخلافة العباسية؛ وبإخفائه حقيقة زحف المغول عن الخليفة.

6. عدم نجدة أمراء الأيوبيين للخليفة العباسي، فقد إنشغل أمراء المسلمين من الأيوبيين، في بلاد الشام والجزيرة الفراتية، ومصر، بالجهاد ضد الفرنجة (الصليبيين) (أنظر الفصل القادم)، الأمر الذي منعهم من تقديم النجدة لبغداد؛ لإنقاذها من الهجمة الوثنية المغولية.

7. أما السبب المباشر لسقوط الخلافة العباسية، فكان غزو هولاكو قائد المغول لبغداد عام 656 ه / 1258 م، كما أوضحنا سابقاً.


*90*

سؤال:

1. لخص أسباب ضعف الخلافة العباسية في المجالات الإقتصادية، والإجتماعية، والعسكرية، والإدارية والسياسية، مشيراً إلى أهمها أثراً في سقوط الخلافة العباسية. --

تعالوا نتذكر

بواسطة قاموس الأسماء والمصطلحات:

النقباء، أبو هاشم، معركة الزاب، أبو جعفر المنصور، أبو مسلم الخراساني، عبد الله بن علي، البرامكة، الثغور، المأمون، علي بن موسى الرضا، محنة القران، الخاصة، العامة، بوران، الشطار، العيارون، الخوارزمي، جابر بن حيان، (بيت الحكمة)، ال بختيشوع، يوحنا بن ماسويه، (الصحاح الستة)، الإمام أبو حنيفة، الإمام مالك، الإمام الشافعي، الإمام أحمد بن حنبل، الجاحظ، إبن إسحاق، إبن هشام، محمد بن جرير الطبري، الأرقام الهندية، الأرقام الغبارية، أبو بكر الرازي، قاضي القضاة، الوزارة، ديوان الأزمة، ديوان المظالم، الأصمعي، الكسائي، سيبويه، المستعصم بالله، إبن العلقمي، الدويدار الصغير.

(في الكتاب صورة - فرسان من المغول الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)


*91*

الفصل السادس


*91*

العرب والإسلام في العصور الوسطى المتأخرة


*91*


*92*

أ. الحملات الصليبية: (يجب التنويه إلى أن مصطلح (صليبي) هو متأخر الإستعمال ويعود إلى القرن السابع عشر للميلاد، وجاء نسبة إلى شارة الصليب التي وضعها المشاركون في الحملة الأولى على ستراتهم دليلاً على موافقتهم بالمشاركة فيها، أما خلال الحملة فقد عرف المشاركون ب. (peregrenatio)، أي الخارج إلى الغربة، (في رحلة حج). أما في المراجع الإسلامية، فأطلق عليهم لقب: (الفرنجة)، وهي تحريف لكلمة (franc) (فرنس-فرنسا)؛ لأن غالبية المشاركين في الحملة كانوا من الفرنسيين، وأستعملت هذه اللفظة بشكل عام لتعني جميع من قدم إلى الشرق من وراء البحر (أوروبا)، بغض النظر عن قوميته. وفي حديثنا سنستعمل لفظة (صليبي)، لشيوعيته بين الدارسين المحدثين.

هكذا، يصل عددها إلى ثماني حملات عسكرية شنها الغرب الأوروبي المسيحي على الشرق الإسلامي، في الفترة الواقعة بين عام 1099 وحتى عام 1291م، والتي يعتبرها المؤرخون الحقبة الحاسمة في تاريخ الحركة الصليبية.

(في الكتاب صورة - البابا أوربانوس الثاني، يدعوفي مجمع كليرمون في أواخر عام 1095م للحملة الصليبية الأولى - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)

أ. دوافع الحملات الصليبية:

كانت دوافع الحملات الصليبية نابعة من الواقع الأوروبي أكثر منها من المشرق الإسلامي. ومنها: الدوافع الدينية، والدوافع السياسية-العسكرية، والدوافع الإقتصادية، والدوافع الإجتماعية.

أ. الدوافع الدينية:

تعد الدوافع الدينية هي الأساس؛ لأن البابا أوربانوس الثاني قد إنتهز الفرصة ليحقق غرضين، هما:

1. توحيد الكنيسة الكاثوليكية، والأرثوذكسية


*93*

بعد الإنفصال الذي حدث بينهما منذ عام 1054.

2. فرض سيطرة كنيسة روما وزعامتها، على العالم المسيحي الشرقي.

ب. الدوافع السياسية-العسكرية:

1. غالبية ملوك أوروبا في الحملات الصليبية، عدا الملك الفرنسي لويس التاسع (القديس)، كانت مشاركتهم بضغط البابوية، وتهديدها إياهم بفرض الحرمان عليهم، وبطردهم من الكنيسة.

2. تدهور أوضاع الإمبراطورية البيزنطية السياسية، ولا سيما العسكرية، في أعقاب هزيمة جيشها في معركة مانزكرت (أو ملازكرت) عام 1071م أمام القوات السلجوقية، جعلها تطالب الغرب المسيحي بتقديم العون العسكري لها؛ لصد هجوم السلاجقة عن أراضيها.

ج. الدوافع الإجتماعية:

1. حرمت الكنيسة الفرسان من ممارسة الفروسية والقتال بما فرضته عليهم من (سلام الله) و(الهدنة الربانية)، فكانت مشاركتهم في الحملة الصليبية تمنحهم الحرية والتخلص من نفوذ الكنيسة. كما طمعوا بتأسيس إمارات لهم في الشرق، بعد أن فشلوا في تحقيق ذلك في بلادهم.

2. وجد الأقنان (وهم العبيد المرتبطون بأرض السيد الإقطاعي)، فرصة للتخلص من العبودية، بمجرد مشاركتهم في الحملة الصليبية، فبذلك يحصلون على حريتهم، كما وعدتهم البابوية.

د. الدوافع الإقتصادية:

1. شهدت أوروبا الغربية، لا سيما فرنسا، إبان القرن الحادي عشر للميلاد، إزدياداً في عدد السكان، ومع حصول كوارث طبيعية، من فيضانات، وأوبئة، وجفاف، ومجاعة؛ فجاءت المشاركة في الحملة الصليبية تخلصاً من هذه الأوضاع الإجتماعية، ومما أطمعهم في ذلك ما وصفه البابا لهم بخطابه في كليرمونت: بأن الأرض المقدسة (أرض تفيض لبناً وعسلاً).

2. قدمت مدن إيطاليا التجارية، مثل؛ بيزا، جنوا، والبندقية خدماتها، بنقل الصليبيين براً إلى الشرق لقاء أجر مالي، وحصولها على حي من الأحياء في مدن الساحل الفلسطيني لقاء مساعدتها للصليبيين في إحتلال هذه المدن. وهكذا، فإن الهدف الصليبي لم يكن في حسبانها، بل الربح المالي.

أسئلة:

1. بين الأهداف التي تضمنها خطاب البابا أوربانوس الثاني. --

2. لخص دوافع الحركة الصليبية، ماذا تستنتج منها؟ وضح --


*94*

ب. تنظيم الحملة الصليبية الأولى والزحف نحو الشرق:

إنتظمت الحملة الصليبية الأولى في مجموعتين مختلفتين حيث توجهتا إلى الشرق في مسارين مختلفين نحو القسطنطينية، هما:

1. الحملة الشعبية: تشكلت من عامة الشعب: عبيد، أقنان، لصوص وقطاعي طرق. برز من قادتها بطرس الناسك، أكبر داعية للحملة الصليبية. كان مصيرها الفشل الذريع؛ إذ تصدى لهم جيش السلاجقة المسلمين، بعد أن ساروا من القسطنطينية جنوباً عابرين أراضي السلاجقة في طريقهم إلى بيت المقدس، فأعملوا بهم السيف وقتلوا العديد منهم.

2. حملة الأمراء: تشكلت من أمراء فرنسيين، ونورمانديين، من جنوب إيطاليا (صقليا)، بينما لم يشارك فيها أي ملك أوروبي (نعني؛ ملك فرنسا، وقيصر ألمانيا، وملك إنجلترا)؛ لخلافاتهم مع البابوية، أو السلطة الدينية في بلادهم، ولقد برز من هؤلاء الأمراء الفرنسيون: جودفري دي بويون، وشقيقه وبلدوين، ثم ريموند البروفانسي، والأميران النورمانديان (من جنوب إيطاليا): بوهيموند وإبن أخته تانكرد.

سارت حملة الأمراء دون أن يكون لها قائد واحد، أو نظام موحد. وقد إنطلقوا من نقاط مختلفة على أن يلتقوا في القسطنطينية. هذه الجموع المتدفقة من الصليبيين على القسطنطينية، أخافت الإمبراطور البيزنطي الكسيوس الأول، وابنته التي وصفتهم: (إنها هجرة كاسحة؛ أسر تقتفي إثر أسر ((...)) إنه البحر بأمواجه المتلاطمة)؛ فأسرع هذا القيصر بتوجيههم صوب الشرق. وفي طريقهم جنوباً إنفصل بلدوين عن مسار الحملة؛ وقام بمساعدة أمير إمارة الرها (أديسا) ضد تهديد أمير الموصل المسلم؛ فتولى تانكرد مكانه حكم الإمارة؛ وبذلك نشأت أول إمارة صليبية في الشرق.

تابع الأمراء الصليبيون زحفهم صوب إمارة أنطاكيا في مطلع عام 1098م، متخذين طريق الساحل للوصول إلى بيت المقدس؛ وبعد حصار ستة أشهر، نجحوا بإحتلالها من يد أميرها السلجوقي بعد أن أقدموا على ذبح عظيم في سكانها المسلمين. وقد عين بوهيموند أميراً عليها؛ وهكذا نشأت الإمارة الصليبية الثانية، قبل إحتلال بيت المقدس.

ج. الصليبيون يحتلون بيت المقدس:

بعد سقوط مدينة أنطاكيا، تقدم الصليبيون صوب الساحل؛ وفي طريقهم إستولوا على عكا، قيصرية دون مقاومة، ثم اللد والرملة وبيت لحم؛ وضربوا حصارهم على بيت المقدس في شهر حزيران عام 1099م، وبلغ عددهم حوالي إثني عشر ألفاً من الجنود المشاة، وألفاً ومئتين، أو ثلاثمائة من الفرسان. (هناك من يقدر عددهم بألف فارس، وخمسة ألاف من المشاة، أو مائتي فارس وألفاً من الجنود المشاة.)

إستعد حاكم بيت المقدس الفاطمي (كانت بيت المقدس، قد إنتقلت إلى حكم الفاطميين الشيعة، حكام مصر، قبل سنة واحدة من مجيء الصليبيين)، للحصار؛ فحصن أسوار المدينة؛ وسمم آبار المياه؛ وأخفى المواشي؛ ثم طرد جميع من فيها من المسيحيين.

وفي الخامس عشر من شهر تموز عام 1099م،


*95*

(في الكتاب صورة - إتجاه الحملات الصليبية - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)

نجح الصليبيون من إختراق أسور المدينة من السور الشمالي؛ ثم إنطلقوا في قتل وذبح من فيها من السكان المسلمين، ومن وجد فيها من يهود وهم قلة؛ وقد قتلوا في المسجد الأقصى، (سبعين ألفاً منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين، وعلمائهم، وعبادهم، وزهادهم). (إبن الأثير، الكامل في التاريخ، ج10، بيروت: دار الكتاب العربي، ص283.)

ووصف أحد الصليبيين المشاركين في الحملة، كشاهد عيان (يعرف بالمؤرخ المجهول)، قائلاً: (كان رجالنا يخوضون حتى كعوبهم في دماء القتلى ((...)) وما تأتى لأحد قط أن سمع، أو رأى مذبحة كهذه


*96*

المذبحة). (مؤلف مجهول، أعمال الفرنجة وحجاج بيت المقدس، ترجمة حسن حبشي، القاهرة، ص113.)

ثم طردوا من تبقى من سكانها؛ ومنعوا المسيحيين الشرقيين من دخول كنائسهم وأديرتهم الكائنة في المدينة، أو زيارة كنيسة القيامة؛ وما لبث أن تراجع ملوك الصليبيين عن هذه السياسة.

د. أسباب نجاح الصليبيين في إحتلال بيت المقدس:

كان تأثير إحتلال بيت المقدس على أيدي الصليبيين، كالصاعقة على المسلمين؛ ومع ذلك، ورغم نداءات طلب المساعدة، ونجدة المدينة، ألتي أرسلت من بلاد الشام إلى الخلافة العباسية في بغداد، فلم تلق إستجابة فورية، إذ كانت هذه الخلافة تعاني من الضعف؛ فعجز لذلك خليفتها أن يقدم مساعدة كهذه. هذا ولم يكن وضع الخلافة الفاطمية الشيعية في مصر بأفضل منها؛ لا بل أن خلفاءها قد عرضوا قد عرضوا على الصليبيين، عند إحتلالهم لمدينة أنطاكيا، التوصل إلى إتفاق معهم؛ لكي تستغلهم، كحاجز بينهم وبين السلاجقة حكام بلاد الشام من السنة. ومما زاد من الجبهة الإسلامية ضعفاً على ضعف هو حدوث صراع بين الأميرين السلجوقيين الأخوين: دُقاق، ومقره في دمشق؛ ورضوان، ومقره في حلب؛ للسيطرة على سوريا؛ وقد إستمر هذا الصراع إبان زحف جيش الحملة الصليبية الأولى صوب بيت المقدس. وهكذا، كان للتفكك في الوحدة الإسلامية السياسية والدينية (سلاجقة سنة، وفاطميون شيعة)، أكبر أثر في نجاح الصليبيين في إحتلال البلاد، وبيت المقدس في مقدمتها.

أسئلة:

1. إنتظمت الحملة الصليبية الأولى في مجموعتين. بين ذلك مشيراً إلى مصير كل منهما. --

2. ماذا كان رد فعل العالم الإسلامي لسقوط بيت المقدس بأيدي الصليبيين؟ وضح --

2. نظم المملكة الصليبية:

نجح الصليبيون في إقامة أربعة كيانات سياسية في المشرق الإسلامي، هي: 1.مملكة بيت المقدس اللاتينية، وعاصمتها بيت المقدس، وهي أقوى تلك في الكيانات. 2.إمارة الرها. 3.إمارة أنطاكيا. 4.إمارة طرابلس، وهي أصغر تلك الإمارات (أنظر الخارطة التالية).

(في الكتاب صورة - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف).


*97*

(في الكتاب صورة - ختم الملك أمالريك (عموري بالمصادر العربية) (1163-1174م) (يظهر:قبة كنيسة القيامة، وقبة الصخرة، وبرج داود - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)

كانت هذه الإمارات بمثابة دويلات محلية حكمتها أسر من أصل أوروبي؛ لكنها كانت تتحالف ضد أي خطر من جيش إسلامي قد يهدد وجودها.

أ.النظام السياسي:

أقام الصليبيون حكماً ملكياً، ونظاماً إقطاعياً شبيهاً بالنظام الإقطاعي المعمول به في أوروبا مع بعض الإختلافات البسيطة.وكان الحاكم الأول للمملكة، هو: جودفري دي بويون الذي حمل لقب (حامي القبر المقدس) (قبر السيد المسيح في بيت المقدس)، ثم أصبح يدعى حاكم المملكة بلقب (ملك) منذ بلدوين الأول الذي ورث أخاه جودفري في هذا المنصب.

يعتبر الملك الصليبي القائد الأعلى لجيش المملكة، والسيد الإقطاعي الأعلى، فهو الذي يمنح الإقطاعات للأمراء في المملكة (أو يحرمهم منها) (ومع ذلك ألزم أحد قوانين أمالريك (عموري بالمصادر العربية) (1162-1174م)، السيد الإقطاعي من معاملة تابعه بطريقة عشوائية، وهذا ألزم الملك أيضاً لكونه المانح للإقطاعات في المملكة).: ثم يجبرهم على إحترام المعاهدات التي تعقدها المملكة. ومع أن سلطة الملوك الأوائل كانت قوية، إلا أنها أخذت تضعف في مطلع أربعينيات القرن الثاني عشر للميلاد؛ فبلغت ذروتها عشية معركة حطين عام 1187م (كما سنرى لاحقاً).

وكان يساعد الملك في الإدارة المركزية، ستة موظفين، نذكر منهم: أ.الصنجيل: وهو ينوب عن الملك في المحكمة العليا، وفي مدخولات المملكة. ب.الكندسطبل: هو نائب الملك في قيادة الجيش.

ب. النظام القضائي: تشكل النظام في مملكة بيت المقدس اللاتينية من:

1. المحكمة العليا: هي المؤسسة القضائية العليا في المملكة، وهي بمثابة هيئة استشارية للملك، في جميع نواحي الحكم. يرئسها الملك الصليبي؛ ويشترك في عضويتها كبار الإقطاعيين. وتأتي بعدها المحاكم التالية:

2. المحاكم البرجوازية: تنظر في القضايا المالية،


*98*

والمدنية، والجنائية، للصليبيين من أصل أوروبي.

3. المحاكم السورية: تنظر في قضايا السكان المحليين من غير الصليبيين (مسلمين ومسيحيين شرقيين).

4. المحاكم التجارية: وهي محاكم خاصة بتجار المدن الإيطالية: بيزا، جنوا والبندقية التي حصلت على إمتيازات في مدن الساحل، لقاء مساعدتها للملكة الصليبية في إحتلالها؛ وهي تحكم بموجب قوانين مدينة الأم.

ج. النظام الإجتماعي:

تألف سكان المملكة الصليبية من ثلاث فئات إجتماعية. أ.الصليبيون: وهم المسيحيون اللاتين، سواء إستوطنوا البلاد بعد إحتلالها، أو على مر الحملات الصليبية، أو ممن ولدوا لأبوين صليبيين في الشرق. ب.المسلمون: على كافة إنتماءاتهم القومية (من عرب، وعجم، وأتراك، وغاربة).

ج.المسيحيون المحليون: من أورثوذكس، موارنة، وسريان، نساطرة، ويعاقبة وأقباط وغيرهم.

كانت الفئة الأولى أي الصليبيون، هم حكام البلاد بفعل إحتلالهم لها منذ عام 1099م، فهم دخلاء على عكس الفئتين الأخريين: المسلمين والمسيحيين المحليين الذين كانوا أصحاب هذه البلاد.

عانى الصليبيون، طيلة القرنين من الزمان في المشرق الإسلامي (حتى طردهم عام 1291م)، من مشكلة أساسية حددت شكل، ومستقبل العلاقات بينهم وبين السكان المحليين، لا بل الوجود الصليبي في المشرق الإسلامي برمته؛ أقصد بذلك مشكلة النقص في العنصر البشري. فحسب بعض التقديرات، بلغ عددهم، بعيد إحتلالهم لبيت المقدس، حوالي عشرين ألفاً، غادر الكثيرون منهم المشرق عائدين إلى أوطانهم. ورغم المحاولات التي بذلها ملوك مملكة بيت المقدس اللاتينية لحل مشكلة النقص في العنصر البشري هذه، إلا أن عددهم ظل قليلاً؛ وقد قدر البعض عددهم في المشرق، عشية معركة حطين عام 1187م، بحوالي ربع مليون نسمة؛ أما مسلمو البلاد والمسيحيون المحليون، فلم يتأثروا بمثل هذه المشكلة؛ لأن مخزونهم البشري هو محلي. وهكذا، عاش الصليبيون في المشرق الإسلامي في بحر من الأعداء، الذين لم ينسوا المذبحة التي نفذها الصليبيون بإخوانهم في بيت المقدس عند إحتلالهم لها، وفي المدن الأخرى التي إحتلوها.

أبقى الصليبيون السكان المسلمين المحليين في القرى، عكس ما فعلوه في المدن (إذ قاموا بطردهم منها). ومع ذلك فقد سلبهم أراضيهم بتحويلها إلى إقطاعات لأمراء صليبيين، أو إقطاعات كنسية (تواجد فيها، أيضاً مسيحيون سريان إضافة إلى مستوطنين من اللاتين)، حيث عملوا فيها كمستخدمين. ثم فرضوا عليهم الضرائب؛ كضريبة الرأس، وأخرى على الأرض، ثم أن يقدموا لهم خدمات بموجب قوانين محكمة الأقطاعي الصليبي. كما وقام رجال الدين اللاتين بتوطين عائلات أوروبية في مناطق تتواجد فيها تجمعات سكنية قروية عربية. وقد هدفت خطتهم الإستيطانية هذه إلى إيجاد نوع من التوازن مع الوجود السكاني الإسلامي المحلي، في الأماكن التي


*99*

أقيمت فيها هذه المستوطنات. (ن.م.، ص373.).

هذا وقد وضع الصليبيون حواجز إجتماعية أمام أي محاولة إندماج بين المجتمعين بين المجتمعين: الصليبي والإسلامي، تناول ذلك الزواج بالنساء المسلمات (إلا بعد أن يصبحن مسيحيات)، أو منع الصليبيين من لبس الزي الشرقي تقليداً للمسلمين؛ لأن الزي يحدد هوية الشخص الصليبي، أو غير الصليبي في هذا المجتمع، ولبس الزي الشرقي، يعتبر عند الصليبيين، من باب العيب.

بناء على ما تقدم، فقد عاش الصليبيون في مجتمع شبه مغلق: حيث إتخذوا القلاع التي أقاموها في البلاد، أو متحصنين من وراء أسوار المدن؛ ليوفروا الأمن والأمان لأنفسهم.

لقد تميزت العلاقات الإجتماعية، بين الصليبيين والمسلمين، بالنفور والرفض والعداء. فالمسلمون الذين إكتووا بنار الحروب التي شنها ضدهم الصليبيون، والمذابح التي نفذوها بحقهم، لا سيما مذبحة بيت المقدس (ظلت ماثلة أمام الذاكرة كلما جرت محاولات للتفاهم بين المسلمين والصليبيين).

كل ذلك جعل المسلمين لا يفوتون أي فرصة للتخلص من الصليبيين، وطردهم من البلاد؛ هذا لا يعني أنه كانت قطيعة كاملة بين المجتمعين، فقد حصلت علاقة في المجال الإقتصادي الذي كان نتيجة واقعية لا بد منها، كما وحصلت علاقات إجتماعية بين الطبقات العليا أكثر منها بين الطبقات العليا أكثر منها بين الطبقات الدنيا. ومن الصليبيين من تمشرقوا أي: تأثروا بعادات المسلمين المحليين وتقاليدهم، من طعام، وشراب، وعادة إستعمال الحمامات الشعبية.

أما الفئة الثالثة من المجتمع، فكانت من المسيحيين المحليين، فلم يكن وضعهم بأفضل بكثير من إخوانهم المسلمين. فقد تكلموا العربية، إلى جانب لغاتهم الأصلية، كما كانوا يلبسون الزي الشرقي العربي الإسلامي، وقد عرضهم هذا إلى نفس مصير إخوانهم من السكان المسلمين من القتل على يد الصليبيين.

الذين إعتبروهم مسيحيين هراطقة مستعربين؛ لأنهم لا يسيرون على مذهب كنيستهم اللاتينية. ثم فرضوا عليهم الجزية كالمسلمين. كما وأستُبعدوا في البداية عن كنيسة القيامة، وإمتد ذلك إلى طردهم من أديرتهم ومنشاتهم الكنسية في بيت المقدس. وما لبثت هذه السياسة أن تغيرت على يد ملوك بيت المقدس الذين أظهروا مودة لهم. كما وحصل زواج بين المجتمعين الصليبي والمسيحي الشرقي؛ فكانت نتيجته قيام طبقة إجتماعية عرفت ب(بولاني).

ورغم ذلك، فقد تميزت العلاقات بين الصليبيين والمسيحيين الشرقيين ب(أزمة ثقة متبادلة)، حتى إعتبروهم بعض الصليبيين بأنهم: (غير صادقين، بل كاذبون، وخونة؛ إذ أنهم مقابل مبلغ زهيد مستعدون لأن يكونوا جواسيس؛ يكشفون للمسلمون أسرار الفرنجة). هذا، وقد رفض الأقباط زيارة بيت المقدس، كعادتهم أيام عيد الفصح المجيد؛ بسبب كره الفرنجة لهم وإعتقادهم الخاطئ تجاههم، وإتهامهم إياهم بالهرطقة؛ وقد تمسك الأقباط بموقفهم هذا حتى حرر صلاح الدين بيت المقدس في تشرين أول عام 1187م؛ فأعادهم إلى مقدساتهم في بيت المقدس.


*100*

(صورتان في الكتاب)

(قلعة مونفورت (قُرين قرب معليا) -الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)

(قلعة كوكب الهوا-بلفوار - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)

د. النظام العسكري:

تشكل الجيش الصليبي من فئتين: الأولى من الفرسان الإقطاعيين الذين بلغ عددهم في عام 1170م حوالي 647، أو 675 فارساً؛ بالإضافة إلى جنود المرتزقة كانت المملكة الصليبية تجندهم من الحجاج القادمين من أوروبا. كما جندت بموجب النظام الإقطاعي حوالي 5025 من الجند المشاة، وفرقاً من المشاة من طبقة (البولاني) كانوا من رماة السهام. أما الفئة الثانية فجاءت من فرق الفرسان الرهبان، التي تأسست جميعها بمباركة البابوية، من هذه الفرق


*101*

(صورتان في الكتاب)

(قلعة الصبيبة (قلعة نمرود أو بانياس-شمال بانياس) - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)

(قلعة الكرك شرقي البحر الميت - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)

نذكر: الإسبتارية (المستشفى)، (Hospitallers)، والداوية (أو الهيكل نسبة إلى هيكل سليمان) (Templares)، وقد كان مقرها في الحرم الشريف. ثم الثيوتون (theuton)، والقديس العازار (St. Lazarus). وقد مزجت هذه الفرق بين الهدف الديني والعسكري في آن واحد؛ فقد أقيمت أساساً للدفاع عن أو لمساعدة الحجاج الأوروبيين القادمين للحج إلى قبر السيد المسيح في بيت المقدس. وكان بإستطاعة كل واحدة منها تجنيد ثلاثمائة فارس. وقد أقامت وأشرفت على العديد من القلاع التي ما زالت ماثلة


*102*

(في الكتاب صورة - حصن الأكراد بين حمص وحماة (سوريا) Chevaliers de Grac) - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)

إلى العيان حتى يومنا هذا، فيقدر عدد القلاع التي كانت في حوزة فرقة الإسبتارية حتى منتصف القرن الثالث عشر للميلاد حوالي ست وخمسين قلعة. كانت هذه الفرق مستقلة عن المملكة الصليبية؛ فلا تخضع لقوانين مملكة القدس اللاتينية؛ بل إلى البابا في روما. وقد وقع عليهم عبئ الدفاع عن المملكة الصليبية لا سيما الثانية وعاصمتها عكا.

أما سلاح الفارس الصليبي، فكان يتألف من الرمح، والسيف، والبلطة والدبوس (وهو قطعة حديد بشكل دائري)، وخوذة الرأس.

أسئلة:

1. ما هي صلاحيات الملك الصليبي؟ وضح --

2. أذكر أنواع المحاكم في مملكة القدس اللاتينية، مشيراً إلى أهميتها --

3. عدد طبقات المجتمع الصليبي، ثم بين طبيعة العلاقات التي سادت بينها. --

4. بين دور فرق الفرسان الرهبان في الدفاع عن مملكة القدس اللاتينية. --


*103*

3. المواجهة العسكرية الإسلامية ضد الصليبيين - آل زنكي والأيوبيون:

كان آل زنكي، وهم من العنصر التركي، وعلى رأسهم: عماد الدين زنكي، وإبنه محمود، قد تولوا مهمة توحيد الجبهة الإسلامية في بلاد الشام، تحضيراً لجهاد الصليبيين وطردهم من البلاد.

كان عماد الدين، قد حكم مدينة الموصل؛ ثم إمتد نفوذه ليشمل حلب، وحماة، وبعلبك؛ وقد توج إنتصاراته بالسيطرة على إمارة الرها عام 1144م، من يدي أميرها الصليبي: جوسلين. فأحدث سقوطها هذا صدمة شديدة لمعنويات الصليبيين في الشرق؛ لأن الرها تعتبر خط الدفاع الأول عن مملكة بيت المقدس اللاتينية؛ أما بالنسبة للغرب المسيحي، فكان سقوطها ضربة قاسية للمشروع الصليبي الذي تبنته ورعته البابوية. فإضطرها ذلك إلى الدعوة إلى حملة صليبية جديدة؛ لإسترجاع الرها، وهي الحملة الصليبية الثانية (1147-1148م)؛ والتي بدل أن تسير إلى هدفها المحدد، أعني: الرها، تحولت، بضغط من الأمراء المحليين، إلى ضرب حصار على دمشق؛ لكنهم بعد أربعة أيام إضطروا إلى الإنسحاب عنها خائبين.

كانت نتائج فشل الحملة هذه شديدة على الصليبيين والبابوية على حد سواء، فقد أبرز هذا الفشل عمق الخلاف بين الصليبيين المحليين وأوروبا؛ إذ أنه أثار موجة من الإنتقادات التي عبر عنها الغرب المسيحي تجاه صليبيي الشرق، لا سيما في أوساط رجال الدين؛ فقد قال بعضهم: (إن الحملة الصليبية الثانية قامت على الخداع والغش؛ إذ لم يهدف الصليبيون في الشرق إلى إستعادة الرها، أو إحتلال دمشق؛ بل أرادوا كسب المال والرجال من أوروبا). فكان هذا بداية التصدع في المشروع الصليبي؛ لما خلفته هذه الحملة من أزمة ثقة بين هذين المجتمعين.

سؤال:

1. لماذا يعتبر سقوط إمارة الرها، بيد عماد الدين زنكي، ضربة قاسية للمشروع الصليبي؟ --

أ. توحيد الجبهة الإسلامية:

كان سقوط الرها بداية عملية توحيد الجبهة الإسلامية. فبعد وفاة عماد الدين زنكي عام 1146م خلفه إبنه نور الدين محمود ليواصل خطة والده في توحيد الجبهة الإسلامية. فسيطر على حمص؛ ثم نجح في السيطرة على دمشق عام 1154م، من حاكمها مجير الدين أبق قد تحالف مع الملك الصليبي لمنع سقوطها بأيدي الزنكيين. بذلك أصبحت سوريا موحدة تحت حكم آل زنكي؛ فمن الرها شمالاً حتى حوران جنوباً، إمتدت دولة إسلامية واحدة مركزها دمشق. ثم أخذ، بعدها، يصارع الصليبيين في سبيل السيطرة على مصر الفاطمية.

كانت الخلافة الفاطمية قد دخلت في فترة تدهور حتى صار أمراً عادياً أن يموت الخليفة، أو الوزير فيها مقتولاً؛ وفي خلافة الخليفة العاضد الذي لم


*104*

يبلغ التاسعة من عمره نشب صراع على الوزارة بين الوزير: شاور، وحاجب القصر: ضرغام؛ فإستعان كل واحد منهما بالعنصر الخارجي: الصليبيين أو نور الدين زنكي. وقد رحب الصليبيون بذلك لما لمسوه من أهمية مصر السياسية والعسكرية؛ لأجل بقائهم في الشرق؛ أما نور الدين، فقد وجها خطوة هامة لتوحيد الجبهة الإسلامية. فمصير مصر، إذاً، بالنسبة للطرفين هام؛ فعليه يتوقف حسم الصراع بينهما، بل مصير الشرق الإسلامي برمته.

مر الصراع للسيطرة على مصر، في أربع مراحل؛ إلتقت فيها جيوش الملك الصليبي أمالريك (عموري، في المصادر العربية)، وجيوش نور الدين الزنكي التي قادها أسد الدين شيركوه، وإبن أخيه يوسف نجم الدين أيوب الذي إشتهر بكنيته صلاح الدين الأيوبي. (ولد في تكريت (شمال العراق)، عام 1138م، من أسرة كردية. كان والده نجم الدين قد سلم مدينة بعلبك، إثر وفاة عماد الدين زنكي، لأمير دمشق مجير الدين أبق وإنتقل ليسكن دمشق، فعينه أميرها قائداً على القوات الدمشقية، وعندما حاصر نور الدين زنكي مدينة دمشق، تفاوض معه لتسليمه المدينة والذي حصل عام 1154م، فكافأه بتعيينه أميراً عليها.) لقاء المساعدة التي قدمها أسد الدين شيركوه للخليفة الفاطمي ضد الجيش الصليبي، عينه وزيراً له عام 1169م، وبعد موته، في نفس العام، خلفه صلاح الدين الأيوبي في منصبه.

ب. الأيوبيون ومواصلة الجهاد ضد الصليبيين:

بعد النجاح الذي أحرزه أسد الدين شيركوه، وصلاح الدين، لدى البلاط الفاطمي، لا سيما تسلم صلاح الدين منصب الوزارة، أخذ يسعى لتحقيق ثلاثة أهداف، طالما راودته، هي:

1. إحلال المذهب السني مكان المذهب الشيعي في مصر، نتيجة لحكم الفاطميين الشيعة لها.

2. توحيد الجبهتين: السورية والمصرية.

3. مواصلة الجهاد ضد الصليبيين (الفرنجة).

ولتحقيق الهدف الأول، إستغل وظيفته كوزير للخليفة العاضد الفاطمي، الذي كان مريضاً على فراش الموت؛ فبادر إلى إبطال الخلافة الفاطمية الشيعية وذلك عام 1171م. وعلى أثر ذلك، أمر بإزالة تأثيرات المذهب الشيعي في مصر: بتعطيل عمل الأزهر، الذي بني عام 969م، وإغلاق (دار الحكمة) وهي خزانة كتب (مكتبة)، التي أنشأها الخليفة الحاكم بامر الله الفاطمي عام 1004م؛ لأن هذه المؤسسات هدفت إلى نشر المذهب الشيعي. وبذلك أعاد صلاح الدين مصر إلى حظيرة المذهب السني الذي دعمه آل زنكي السُنيّون.

أما بالنسبة للهدف الثاني، فقد إنتهز الصراع الذي نشب بين أمراء نور الدين بعد وفاته عام 1174م؛ بسبب مسألة الوصاية على إبنه القاصر: الصالح إسماعيل، الذي كان قد بلغ في حينه الحادية عشرة من عمره؛ فزحف إلى الشام؛ وقاتل الأمراء الزنكيين الطامعين بالوصاية؛ فتغلب عليهم في معركة عند (تل السلطان) (بين حلب وحماة)؛ ثم توصل إلى إتفاق مع الصالح إسماعيل: بأن يتولى هو (أي صلاح الدين) حكم دمشق وما يليها جنوباً. وبهذا يكون صلاح الدين قد نجح في توحيد الجبهة المصرية والسورية تحت زعامته.

بعد نجاح صلاح الدين في تحقيق الهدفين السابقين،


*105*

أخذ يعد العدة، لجهاد الصليبيين. فلم يبادر إلى الصدام المباشر معهم؛ بل عقد هدنة عام 1180م، لمدة سنتين، والتي جددت عام 1185م لمدة أربع سنوات.

وفي الوقت نفسه، أخذ يراسل حكام وأمراء المسلمين: في فارس، والعراق، وسوريا، ومصر يدعوهم فيها إلى المشاركة في جهاد الصليبيين.

سؤال:

1. إشرح جهود الزنكيين والأيوبيين في توحيد الجبهة الإسلامية. --

1. صلاح الدين ومعركة حطين (24 ربيع الآخر 583ه / 4 من تموز 1187م):

لم تستمر الهدنة وقتاً كثيرا؛ فقد خرقها رينو دي شاتيون (أرناط في المصادر العربية): أمير حصن الكرك، بتعدياته على الأماكن المقدسة في الحجاز، ثم على القوافل المارة من ولاية دمشق قاصدة الحجاز ومصر. وفي إحدى المرات كانت قافلة تحمل أخته فإقتادها جنود رينو إلى قلعة الكرك؛ وقد ذهبت مساعي صلاح الدين بواسطة الملك الصليبي جي دي لوزينان سدىً لإطلاق سراح أفراد القافلة؛ وهكذا، إضطرت إستفزازات رينو هذه إلى أن يقرب صلاح الدين ساعة الحسم مع الصليبيين؛ أقصد معركة حطين.

إختار صلاح الدين، إذاً، مكان وزمان المعركة مع الصليبيين: فمكانها هو سهل حطين (أنظر الصورة)؛

(في الكتاب صورة - قرون حطين - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)


*106*

(في الكتاب صورة - أحاط جيش صلاح الدين بجيش الفرنجة (إحاطة الدائرة بقطرها) - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)

وأما الزمان، فهو أول شهر تموز عام 1184م. وأما جيش الصليبيين، بزعامة الملك جي دي لوزينان، فقد تجمع في صفورية قرب الناصرة. في طريقهم إلى طبريا. فقرر الملك متابعة الزحف نحو طبريا لملاقاة قوات صلاح الدين، رغم معارضة بعض الصليبيين الذين فضلوا البقاء في صفورية لوفرة الماء فيها. فكان لقراره الخاطيء هذا أكبر الأثر في هزيمة الصليبيين؛ إذ سار الجيش وعدده حوالي ألف ومائتي فارس، وعشرين ألف من المشاة، يعاني من قلة الماء وحرارة شهر تموز، فوصل أرض المعركة التي إختارها صلاح الدين وقد ظهرت عليه علامات التعب والعطش.

عسكر جيش الصليبيين في الهضبة التي تشرف على حطين، وهي ترتفع عن سطح البحر أكثر من ثلاثمائة متر، ولها قمتان تشبهان القرنين واللتين عرفتا ب(قرون حطين)؛ وأقام الملك الصليبي خيمته عند السهل الواقع بين قرية لوبية وحطين؛ بينما عسكر صلاح الدين وجيشه في الوادي المعشوشب من تحتهم، والذي تنبع وتجري فيه ماء عين قوية، إستفاد منه جيش المسلمين للشرب؛ بينما منع الصليبيون من الوصول إلى الماء، فترك ذلك أكبر الأثر على صمودهم في المعركة.

أحرق المسلمون الأعشاب والشجيرات في ساحة المعركة، وإستولوا على عيون الماء، عملاً على تعطيش الصليبيين، وإجبارهم على النزول للإشتباك معهم.

وفي صباح يوم السبت الموافق (24 من ربيع الآخر 583ه / 4 من تموز 1187م) إكتشف الصليبيون


*107*

(في الكتاب صورة - الملك الصليبي جي دي لوزينان في أسر صلاح الدين بعد معركة حطين وقد أجلسه إلى يساره - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)

أن صلاح الدين إستغل ظلام الليل، ليضرب نطاقاً حولهم. ثم بدأ هجومه الكاسح؛ فإختلت صفوفهم؛ (فأحاط بهم المسلمون إحاطة الدائرة بقطرها) (أنظر الرسم السابق) وحاولت البقية الباقية أن تحتمي بقرون حطين، وكلما تراجعوا إلى قمة الهضبة، شدد المسلمون عليهم؛ وكثر القتل والأسر في الصليبيين؛ (فكان من يرى القتلى لا يظن أنهم أسروا واحد ومن يرى الأسرى لا يظن أنهم قتلوا واحداً). وبقي منهم الملك جي دي لوزينان ومعه مائة وخمسون فارساً؛ فسيق إلى خيمة صلاح الدين، ومعه رينو دي شاتيون صاحب حصن الكرك، وغبره من أكابر الصليبيين؛ فإستقبلهم صلاح الدين أحسن إستقبال، وأمر لهم بالماء المثلوج؛ ولم يعط رينو؛ فلما شرب الملك أعطى ما تبقى منه إلى رينو، فغضب صلاح الدين وقال: (إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني، فينال أماني)، ثم كلمه؛ وذكره بإعتدائه على مقدسات الإسلام والقوافل التي عند حصن الكرك، ثم قام إليه فضرب عنقه؛ وقال: (كنت نذرت مرتين أن أقتله إن ظفرت به: إحداهما لما أراد المسير إلى مكة والمدينة، والأخرى لما نهب القافلة وإستولى عليها غدراً). وما نجا من المعركة من الصليبيين إلا بضع مئات، فروا إلى مدينة صور؛ وإحتموا وراء أسوارها.

كانت معركة حطين من المعارك الفاصلة في التاريخ، فهي تمثل مزايا الوحدة في الجبهة الإسلامية؛ أما بالنسبة للصليبيين والغرب الأوروبي، وعلى رأسهم


*107*

البابوية التي دعت؛ وأشرفت؛ ودعمت المشروع الصليبي، فكانت المعركة صدمة شديدة وكارثة حقيقية. وهي تمثل بداية النهاية لهذا المشروع. (أنظر فيلم Kingdom of Heaven).

سؤال:

1. ما هو سر إنتصار صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في معركة حطين؟ وضح --

2. صلاح الدين، وتحرير بيت المقدس:

بعد نصر حطين، تهاوت غالبية المدن والقلاع الصليبية (عدا مدينة صور، وأنطاكيا، وطرابلس)، في أيدي جيوش صلاح الدين؛ لأن غالبيتها كانت قد أفرغت من حامياتها؛ لمشاركتها في معركة حطين.

وفي مستهل شهر أيلول عام 1187م، ضرب صلاح الدين حصاراً على مدينة بيت المقدس؛ فلما لمس الصليبيون المحاصرون شدة قتال المسلمين؛ بادروا، إلى طلب الأمان؛ فإستشار صلاح أصحابه؛ فأجمعوا على الإستجابة لمطلبهم؛ وحددت شروطه، كالتالي:

1. يدفع عشرة دنانير، فدية عن الرجل الغني والفقير على حد سواء.

2. يدفع خمسة دنانير فدية عن المرأة.

3. يدفع ديناران فدية عن الطفل من الذكور والبنات. (بهاء الدين بن شداد، ديناراً واحداً. أنظر النوادر السلطانية، ص194.).

4. من يدفع المبلغ المذكور (في بنود 1-3) خلال أربعين يوماً يخلى سبيله، ومن لم يؤد ما عليه خلال هذه المدة، يصبح مملوكاً.

هذا، وقد قبل صلاح الدين فدية ثلاثين ألف دينار عن سبعة آلاف من فقراء الصليبيين. كما وأخلى سبيل الكثيرين من الصليبيين لوجه الله.

لقد مدح مؤرخون غربيون معاصرون صلاح الدين على هذه الروح السمحة في تعامله مع الصليبيين، مقارنة بالمذبحة التي نفذوها بالمسلمين عند إحتلالهم للمدينة عام 1099م، ومن ذلك قول أحدهم: (والواقع إن المسلمين الظافرين إشتهروا بالإستقامة والإنسانية، فبينما كان الفرنجة (الصليبيون)، منذ ثمانية وثمانين عاماً يخوضون دماء ضحاياهم، لم تتعرض الآن دار من الدور للنهب، ولم يحل بأحد من الأشخاص مكروه؛ إذ صار رجال الشرطة، بناءً على أوامر صلاح الدين، يطوفون في الشوارع والأبواب يمنعون كل إعتداء يقع على المسيحيين). (ستيفن رنسيمان، تاريخ الحروب الصليبية، ج2، بيروت: دار الثقافة، ص752.

سؤال:

1. ماذا كانت شروط تسليم بيت المقدس لصلاح الدين؟ وما رأيك فيها؟ وضح --


*109*

3. صلاح الدين، وريتشارد قلب الأسد:

بعد أن رتب إدارة بيت المقدس، عاد صلاح الدين إلى دمشق؛ ليقوم بجولة جهاد أخرى ضد الصليبيين والذين جاءوا بحملة صليبية ثالثة في السنوات 1189-192م.

كانت هذه الحملة الجديدة بمثابة رد فعل للبابا، والغرب الأوروبي على هزيمة حطين، وسقوط بيت المقدس: عاصمة مملكة القدس اللاتينية الأولى. وقادها ثلاثة من الحكام الأوروبيين من ألمانيا، فرنسا، وإنكلترا؛ والذي كان أبرزهم، ويدعى ريتشارد قلب الأسد؛ وكان هو وملك فرنسا قد فرضا على سكان بلديهما ضريبة خاصة، عرفت ب(عشر صلاح الدين)، يدفعها كل من لا يشارك في الحملة.

توجهت قوات الحملة الصليبية الثالثة إلى حصار عكا؛ وحصلت في الوقت نفسه على مساعدة سفن المدن الإيطالية التجارية، وذلك بحصار المدينة بحراً. وقد فاق عدد الجيش الصليبي، قوات صلاح الدين الذي إتخذ معسكره عند تلال شفاعمرو؛

ولم يستطع منع الجيش الصليبي من تضييق الخناق على المدينة، في حين إشتدت الضائقة على حاميتها وسكانها المسلمين؛ لذا إضطر صلاح الدين، إزاء ذلك، إلى التوصل إلى إتفاق مع الصليبيين يقضي بتسليمهم المدينة؛ ثم أن يطلق سراح الأسرى الصليبيين لديهم؛ وأن يؤدي لهم فدية مالية عن حاميتها؛ شرط أن تنسحب حاميتها وعائلاتهم وأموالهم سالمين. إلتزم صلاح الدين بتنفيذ بنود الإتفاقية؛ بينما قتل ريتشارد ألفين وسبعمائة من حاميتها، متهماً صلاح الدين بخرقها.

توجه بعدها ريتشارد نحو بيت لتخليصها من يد صلاح الدين؛ فسار في طريق الساحل؛ وبعد أن ألحق هزيمة بجيش صلاح الدين عند أرسوف، توجه صوب مدينة يافا ليحصنها؛ في حين توجه صلاح الدين إلى مدينة الرملة ليحصنها هو الآخر،إستعداداً للجولة القادمة بينهما.

تبادل الطرفان المراسلات عن طريق العادل أخي صلاح الدين الذي ربطته علاقة طيبة مع ريتشارد حتى أن هذا الأخير إقترح تزويجه أخته جوانا، كحل سلمي بين الطرفين؛ ولما لم تنجح هذه المحاولة؛ تقدم ريتشارد بثلاثة مطالب إلى صلاح الدين، أحدهما: أن يسلمه بيت المقدس؛ لكن صلاح الدين رفض ذلك، قائلاً: (بيت المقدس لنا، كما هو لكم، وهو عندنا أعظم مما هو عندكم، فإنه مسرى نبينا ومجتمع الملائكة، فلا يتصور أن ننزل عنه ولا نقدر على التلفظ بذلك بين المسلمين؛ وأما البلاد، فهي أيضاً لنا في الأصل، وإستيلاؤكم كان طارئاً عليها، لضعف من كان بها من المسلمين في ذلك الوقت). (بهاء الدين بن شداد، النوادر السلطانية، ص194؛ معلوف، م.س، ص265).

ولما فشل ريتشارد في تحقيق مطالبه أمام تمسك وإصرار صلاح على موقفه؛ إضطر إلى عقد (صلح الرملة) في أيلول عام 1192م، مدته ثلاث سنوات وثلاثة أشهر؛ وبموجبه يحتفظ الصليبيون بالمنطقة الساحلية من صور وحتى يافا؛ ويشتركان في هدم أسوار عسقلان؛ ويعترف بسلطة صلاح الدين على سائر البلاد بما فيها بيت المقدس؛ ويسمح للصليبيين بالحج إليه عزلاً، ودون دفع رسوم دخول


*110*

(في الكتاب صورة - ضريح السلطان صلاح الدين الأيوبي - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)

(كما فعل صلاح الدين عند تحرير بيت المقدس عام 1187م)، مؤكداً لهم رغبته الصادقة في المحافظة على حرية العبادة. ومن مظاهر هذا الصلح كما يقول المؤرخ المعاصر إبن شداد: (وإختلط العسكران وذهب جماعة من المسلمين إلى يافا في طلب التجارة ووصل خلق عظيم من العدو إلى بيت المقدس للحج وفتح لهم السلطان الباب وأنفذ معهم الحراس يحفظونهم حتى يردهم إلى يافا وكثر ذلك من الإفرنج (الصليبيين)، وكان غرض السلطان بذلك أن يقضوا غرضهم من الزيارة ويرجعوا إلى بلادهم، فيأمن المسلمون من شرهم). (ن.م.، ص236).

كانت العلاقة بين صلاح الدين الأيوبي وريتشارد مثالاً على الفروسية والإحترام المتبادلين، رغم الخصومة العسكرية؛ فعندما مرض ريتشارد بالحمى، أرسل إليه صلاح الدين طبيبه الخاص، كما أرسل إليه فاكهة طازجة وثلجاً لتبريد الشراب؛ وهو إلى جانب كونه فعلاً كريماً يعد إستعراضاً للقدرة؛ وعندما فقد ريتشارد جواده في أرسوف أرسل إليه صلاح الدين إثنين.

سؤال:

1.ماذا كانت أسباب الحملة الصليبية الثالثة؟ وما هي نتائجها؟ وضح --

كانت المواجهة مع ريتشارد ومعاهدة الرملة أخر أعمال صلاح الدين؛ إذ أنه بعد وقت قصير من رحيل ريتشارد، مات صلاح الدين بالحمى في دمشق في 27


*111*

صفر ه / 3 مارس 1193 م. وضريحه اليوم في المدرسة العزيزية قرب الجامع الأموي في دمشق، إلى جوار الملك نور الدين زنكي (أنظر الصورة التالية).

4. خلفاء صلاح الدين، ومواصلة جهاد الصليبيين:

أول مواجهة لخلفاء صلاح الدين مع الصليبيين، هي مواجهة قوات الحملة الصليبية الخامسة عام 1219م؛ وقد إستهدفت الحملة هذه المرة مصر؛ لقناعة الصليبيين أن بقائهم في بلاد الشام، بما في ذلك بيت المقدس، يقتضيهم السيطرة على مصر؛ لأنها تحمل لواء الجهاد، لطردهم من المشرق الإسلامي، فضلاً عن المخزون البشري والإقتصادي، المهمين في مواصلة الجهاد.

نجح الصليبيون في إحتلال مدينة دمياط الواقعة على مصب نهر النيل، في البحر الأبيض المتوسط؛ ثم زحفوا بإتجاه مدينة المنصورة في الطرق إلى القاهرة؛ حيث تجمعت قوات الإخوة الأيوبيين الثلاثة: أولاد العادل أخي صلاح الدين، وهم الكامل محمد، والمعظم عيسى، والأشرف موسى؛ وما أن إقترب الصليبيون من المدينة حتى فتحت عليهم سدود الماء؛ فحلت بهم كارثة إضطروا معها إلى أن يوقعوا هدنة لمدة ثماني سنوات؛ وبموجبها: أن ينسحبوا من دمياط؛ ويتبادل الطرفان الأسرى.

وما أن إجتاز الأمراء الأيوبيون محنة الحملة الصليبية الخامسة، حتى جاءت حملة صليبية سادسة (1228-1229م) لكن في ظروف مختلفة؛ حيث كان الخلاف قد فرق بين السلطان الكامل الأيوبي (حاكم مصر)، وأخيه السلطان المعظم عيسى الأيوبي (حاكم سوريا)؛ فإستعان الكامل بالإمبراطور الألماني فريدريك الثاني (ولد وترعرع في جنوب إيطاليا، حيث المؤثرات العربية، فأجادها قراءة وكتابة)، الذي كان مفروضاً عليه (الحرمان) من قبل البابوية؛ لمماطلته بالإيفاء بوعده، أي: القيام بحملة صليبية، على أن يتنازل له عن بيت المقدس؛ليضعه حاجزاً بينه (مصر) وبين منطقة حكم أخيه السلطان المعظم (سوريا)، وكان قد إستعان بجلال الدين الخوارزمي، الذي حكم المنطقة الممتدة من أذربيجان حتى نهر السند؛ لكن موت المعظم عام 1227م، قد أنقذ الموقف؛ فلم يعد السلطان الكامل بحاجة إلى مساعدة الإمبراطور فريدريك، الذي وصل إلى عكا؛ وأخذ يستجدي الملك الكامل بمنحه بيت المقدس، كما وعده في مراسلاته. ولكن إستمرار الخلافات داخل الأسرة الأيوبية، وخطر تهديد الأيوبيين من زحف الخوارزمية، من جهة فارس؛ لذا عقد أخيراً، السلطان الكامل مع الإمبراطور فريدريك إتفاقية يافا عام 1229م، يحصل الصليبيون بمقتضاها على: بيت المقدس، وبيت لحم، وممر يصل إلى اللد ويافا، ثم الناصرة وغرب الجليل بما فيها القلاع: مونفورت (قرين بالعربية وهي قرب معليا)، وتبنين وما حول صيدا. شرط أن يبقى الحرم الشريف (قبة الصخرة والمسجد الأقصى في بيت المقدس) بأيدي المسلمين ولهم الحق في التردد إلى هذه الأماكن، والعبادة فيه. وتضمنت إطلاق سراح الأسرى من كلا الطرفين: الإسلامي والصليبي. أم مدتها فحددت بعشر سنوات. وعلى إثرها وار فريدريك بيت المقدس؛ وتفقد الأماكن المقدسة بما فيها كنيسة القيامة والحرم الشريف.

وفي أعقاب وفاة السلطان الكامل عام 1238م؛ تجدد


*112*

الصراع داخل الأسرة الأيوبية بين أولاد الكامل: العادل والصالح أيوب، بالسيطرة على حكم مصر، وبينهم وبين عمهم السلطان الصالح إسماعيل الذي حكم سوريا.

ومع ذلك، فالخلاف داخل الأسرة الأيوبية لم يمنع هذا من نجاحهم بإلحاق هزيمة ساحقة بجيش صليبي في غزة عام 1239م. ومع ذلك حسم مماليك الأيوبيين الخلاف بين الأخوين العادل والصالح أيوب لمصلحة الأخير؛ فأصبح سلطاناً على مصر في السنوات 1240-1249م.

بعد حسم الخلاف بين الأخوين في مصر، نشب خلاف بين الصلح أيوب وعمه الصالح إسماعيل (حاكم سوريا)، فإستعان الصالح إسماعيل بالصليبيين، عارضاً عليهم التنازل عن مدينة بيت المقدس بما فيها الحرم الشريف: قبة الصخرة والمسجد الأقصى؛ على عكس ما ورد في إتفاقية يافا سابقاً (والتي إنتهت مدتها عام 1239م). أما الصالح أيوب فإستعان بالخوارزمية، الذين إندفع عشرة آلاف منهم نحو بلاد الشام؛ ثم دخلوا مدينة بيت المقدس، بعد أن سمحوا لمن فيها من الصليبيين، وعددهم ستة آلاف، ممن تحصنوا في قلعة داود، بمغادرتها بأمان. ثم قاموا بإشعال النار، وتخريب كنائس المدينة، بعد قتل عدد من الرهبان والراهبات؛ كما تعرضت الدور والحوانيت لعمليات السلب والنهب.

أما الصليبيون، فقد حشدوا غالبية قواتهم لمعاقبة الصالح أيوب؛ فدارت بين الطرفين معركة عند قرية الحربية القريبة من غزة في أواخر عام 1244م، إنتهت بهزيمة قاسية للقوات الصليبية حتى أطلق عليها بعض المؤرخين لقب: (حطين الثانية).

كان على السلطان الصلح أيوب، بعد معركة الحربية، أن يعيد الوحدة إلى صفوف الأسرة الأيوبية، فنجح بذلك؛ إذ سيطر على سوريا. حدث هذا في الوقت الذي أخذت البابوية تدعو إلى حملة صليبية جديدة: هي الحملة السابعة عام 1249م؛ قادها ملك فرنسا لويس التاسع، الملقب بالقديس؛ فإحتل دمياط أن يلقوا مقاومة تذكر، وقد خرج منها سكانها؛ فأصبحت فارغة، ساروا بإتجاه القاهرة.

توفي السلطان الصالح أيوب أثناء إحتلال الصليبيين لمدينة دمياط؛ فحكمت بعده زوجته شجرة الدر، نيابة عن إبنها توران شاه. وعندما تسلل الصليبيون إلى مدينة المنصورة في طريقهم إلى القاهرة، لاقوا مقاومة عنيفة قادها المماليك البحرية وعلى رأسهم الظاهر بيبرس البندقاري؛ فحلت بهم هزيمة؛ فتقهقروا، وأسروا منهم حوالي إثني عشر ألفاً، وكان الملك لويس وشقيقاه من بين أولئك الأسرى. وسيق الملك مكبلاً بالقيود إلى مدينة المنصورة. ثم جرت مفاوضات بين الطرفين فاتفقا على: إطلاق سراح الملك وأمرائه مقابل إنسحاب الصليبيين من دمياط، وإطلاق سراح ما لديه من الأسرى المسلمين، وعلى ألا يشارك في حملة عسكرية على سواحل بلاد الشام ثانية. وبذلك تكون الحملة السابعة قد فشلت في تحقيق أهدافها للسيطرة على مصر.

هذا، وقد إستمرت عملية الجهاد ضد الصليبيين على أيدي المماليك، وهم من عبيد الأمراء الأيوبيين؛ جلبوا إلى مصر أساساً من المناطق الروسية، برزت قوتهم بإنتصارهم على جيش الحملة الصليبية السابعة (كما مر). وهذا مهد لهم الطريق للسيطرة على مقاليد الحكم؛ فحصل ذلك عن طريق شجرة الدر عام 1250م؛ وهي التي تعتبر أول حاكمة من المماليك. ظلوا يحكمون مصر، وبلاد


*113*

(في الكتاب صورة - فتح عكا سنة 760ه / 1291م على يد السلطان المملوكي الأشرف خليل بن قلاوون - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)

الشام، والحجاز حتى أسقط السلطان العثماني سليم الأول حكمهم عام 1517م. وقد تولى مهمة جهاد الصليبيين منهم الظاهر بيبرس الذي أصبح سلطاناً على مصر، في أعقاب إنتصاره، وسيده قطز على المغول في معركة عين جالوت (قرب بيسان) عام 1260م. ثم قتله لسيده السلطان قطز، فحكم من عام 1260-1277م؛ قضى معظمها في جهاد الصليبيين. إتبع فيها خطة هدم التحصينات والقلاع التي يستولي عليها. ثم واصل سلاطين المماليك الجهاد حتى نجح السلطان الأشرف خليل بن قلاوون في فتح عكا في أواخر شهر أيار عام 1291م، وبسقوطها إستسلمت باقي المعاقل الصليبية، مثل: صيدا، وبيروت، وطرطوس، وقلعة عتليت؛ وبذلك إنتهت حقبة من الحكم الصليبي للمشرق الإسلامي؛ كانت قد إستمرت ما يقرب القرنين من الزمان.

سؤال:

1. كيف إستفاد الصليبيون من النزاع داخل الأسرة الأيوبية؟ وضح --

تعالوا نتذكر

بواسطة قاموس الأسماء والمصطلحات:

أوربانوس الثاني، كليرمونت، الحملة الشعبية، حملة الأمراء، ألكسيوس الأول، إمارة الرها (أديسا)، الفاطميون، جودفري دي بويون، فرسان الداوية (الهيكل)، فرسان الإسبتارية، عماد الدين زنكي، الحملة الصليبية الثانية، نور الدين محمود زنكي، مجير الدين أبق، أمالريك (عموري)، جي دي لوزينان، أسد الدين شيركوه، صلاح الدين الأيوبي، معركة حطين 1187م، رينو دي شاتيون (أرناط)، ريتشارد قلب الأسد، (عشر صلاح الدين)، صلح الرملة 1192م، الفرنجة (الإفرنج)، الحملة الصليبية الثالثة، الحملة الصليبية الخامسة، الملك العادل، السلطان الكامل، الأيوبي، فريدريك الثاني، إتفاقية يافا 1229م، الصالح أيوب، معركة الحربية 1244م، الحملة السابعة، لويس التاسع، شجرة الدر، السلطان الظاهر بيبرس، الأشرف خليل بن قلاوون، سقوط عكا هام 1291م.


*114*

صفحة فارغة


*115*

الفصل السابع


*115*

اليهود في العصور الوسطى


*115*


*116*

أ. خراب الهيكل الثاني: فقدان الحرية وتشتت اليهود:

على إثر تذمر اليهود من حكم الولاة الرومان، الذين كانوا قد إحتلوها عام 63م. بقيادة القائد بمبيوس، ثار اليهود في قيسارية عام 66م. حيث مركز الوالي الروماني جيسيوس فلوروس (Gessius Florus)، وما لبث لهيب التمرد أن إنتقل إلى الجليل؛ إذ رفع اليهود فيه العصيان ورفضوا دفع الضرائب للسلطة الرومانية، أو الإنصياع إلى الأوامر والقوانين الرومانية.

وبرز في صفوف المعارضين للحكم الروماني فئة عرفت ب(المتعصبين) (הקנאים). فتصدى الرومان لهذا التمرد، ونجحوا في السيطرة على معاقل المتمردين اليهود في الجليل. فتجمع اللاجئون منهم في القدس، حيث بادر (المتعصبون) بالسيطرة على المدينة بعد أن قضوا على اليهود المعتدلين الذين سعوا إلى السلام مع الرومان. وما لبثت أن نشبت حرب أهلية بين قائدين للمتعصبين هما: يوحنان الجشي (מגוש חלב) وشمعون بار غيورا، حول قيادة التمرد. كان هذا النزاع يحصل بينما أخذ جيش روماني بقيادة تيطوس فيسباسيانوس (Titus Vespasianus)، يضرب حصاراًَ على مدينة القدس للقضاء على التمرد.

عسكر الجيش الروماني على جبل المشارف (سكوبوس)، شمال القدس، وفي شرق المدينة، وبعد شهر من الحصار الشديد، أخذ الجوع يفتك بالمحاصَرين من اليهود، ونجح الجيش الروماني بإحتلالها. فقام أحد الجنود بإلقاء مشعلة من النار إلى داخل الهيكل، فإحترق في عام 70م. كما وقتل العديد من اليهود، أو سبوا وبيعوا عبيداً. أما القائدان يوحنان وشمعون فقد سيقا إلى روما وسُيّرا في موكب النصر مع الشمعدان الذي أخذه الرومان من الهيكل.

هكذا، حل في تاريخ اليهود ما عرف ب(خراب الهيكل الثاني)، وما بقي منه، حسب المعتقد اليهودي، هو (حائط المبكى) (المعروف لدى المسلمين بالبراق).

ومع ذلك، واصل اليهود عام 73م، في قتال الرومان بقيادة إليعزر بن يئير، الذي تحصن مع جنده في قلعة مسادة (מצדה) (غرب البحر الميت)، ولما شعروا أن لا أمل لهم بالنجاة من الجيش الروماني، قاموا بقتل بعضهم البعض، كي يموتوا أحراراً، لا أسرى بأيدي الرومان.

تمرد بار كوخبا 132م-135م:

جاء هذا التمرد بقيادة شمعون بار كوخبا، رداً على سياسة القيصر إدريانوس في نصب معابد للآلهة الرومانية في المدن التي رممها، والتي دمرت نتيجة للتمرد السابق، ثم إقامة مدينة للآلهة مكان الهيكل في القدس.

جند القيصر إدريانوس جيشاً من ستين ألف مقاتل وتقدم صوب القدس. أما بار كوخبا فقد غادرها إلى مدينة بيتار الحصينة والواقعة إلى الشرق من القدس.

وبعد حصار ثلاث سنوات إحتلها إدريانوس. وهكذا قضي على هذا التمرد أيضاً، فكانت نتائجه صعبة على اليهود؛ إذ خرب إدريانوس القدس، فأقام هيكلاً للإله جوبيتر رئيس الآلهة عند الرومان، كما ونصب في منطقة الهيكل تمثالاً له. ثم بنيت القدس كمدينة رومانية (ما يميز طابعها الروماني هو وجود شارعين متقاطعين الأول) وأسماها (أيليا كابيتولينا). ولم يكتف


*117*

بذلك، بل أصدر أوامره بمنع اليهود من دخول القدس، وعدم قيام يهود الإمبراطورية الرومانية بتعليم التوراة، أما من يخرق ذلك، فعقوبته الموت. وظل أمر منع اليهود من زيارة القدس ساري المفعول حتى القرن الرابع الميلادي.

اليهود بعد خراب الهيكل الثاني وتمرد بار كوخبا:

في أعقاب خراب الهيكل الأول، إنتقل مركز اليهودي الروحي إلى يفنه، وعلى رأسه الرابي يوحنان بن زكاي، فأقام فيه محكمة، ثم دعا اليهود إلى الإستمرار في ممارسة حياتهم العادية دون إنقطاع، والإستمرار في القيام بالفرائض الدينية حتى دون وجود الهيكل المقدس. أما بعد فشل تمرد بار كوخبا، فقد إنتقل المركز الروحاني لليهود إلى الجليل في أوشا (אושה)؛ شرقي حيفا، ثم بيت شعرايم؛ ومن ثم إلى صفورية. على أثر هذين الحدثين - خراب الهيكل الثاني وتمرد بار كوخبا -

تفرق شمل اليهود، فمنهم من هاجر إلى بلاد مجاورة، أو إلى بابل التي لم تخضع للإمبراطورية الرومانية، لينضموا إلى يهودها، ممن هُجّروا في أعقاب خراب الهيكل الأول على يد الملك البابلي نبوخذنصر (كما مر). ومنهم من تشتت في القارة الأوروبية. فمن سكن الغرب الأوروبي عرف بيهود (أشكناز) (אשכנזים)، في حين عرف من إستوطن إسبانيا بيهود (سفرديم) (ספרדים- أي إسبان)، وهو مصطلح أصبح يعرف به اليهود الشرقيون؛ لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخهم عرفت ب(الشتات) (הגולה).

ب. الوسائل التي ساعدت اليهود في الحفاظ على هويتهم في الشتات (הגולה):

بدأ تطور الجالية اليهودية الأشكنازية، منذ أواخر القرن التاسع للميلاد، وهي الفترة التي ساد في أوروبا النظام الإقطاعي. وقد رحب الأمراء الإقطاعيون وحتى أساقفة كنائس، بوجود في إقطاعياتهم؛ ومنحوهم (إمتيازات)، مثل: حق التملك، وحماية النفس، والممتلكات، وذلك للإستفادة من معرفتهم للغة العربية بسبب علاقتهم بالمشرق الإسلامي؛ حيث عملوا وسطاء بين أمراء الغرب المسيحي والمشرق الإسلامي. فعلى سبيل المثال، منح أسقف مدينة شبيير في ألمانيا، سكانها من اليهود، حرية السكن وإدارة شؤون طائفتهم. ومع ذلك إختار اليهود السكن في مجمعات سكنية خاصة بهم؛ كي يتسنى لهم ممارسة طقوسهم وعاداتهم المرتبطة بمعتقدهم الديني، ومؤسساتهم: كالكنيس، والمحكمة الدينية، والمدرسة لتعليم الديانة اليهودية (בית מדרש או ישיבה) وغيرها. إزدهرت ثلاثة مراكز للجالية اليهودية في الغرب المسيحي في العصور الوسطى، وذلك بفضل حكماء دين يهود قدموا إليها من إيطاليا؛ ثم قادوا هذه المراكز التي تأسست في ألمانيا، وشمال فرنسا في المدن: شبيرا (Spiayer بالألمانية)، وورميزا (وورمز)، مجينزا


*118*

(ماينز) وكانت الشخصية البارزة بين هؤلاء الحكماء اليهود في القرن العاشر للميلاد هو (الرابي جرشوم)، (רבנו גרשום) الذي عمل في مدينة ماينز الألمانية؛ أما في مدينة وورمز الفرنسية، فقد برز الرابي شلومو إبن يتسحاق (רש"י)، مفسراً للتلمود والتوراة (תנ"ך) ومفتياً (פוסק) في الشريعة اليهودية (הלכה).

عاش يهود الأشكناز حياة مطمئنة وسعيدة؛ فعملوا بالتجارة والربا، أي بالفائدة المالية على القروض التي كانوا يقرضونها للمسيحيين، بفائدة عالية قد تصل إلى 40%، حتى قامت الحملة الصليبية الأولى (كما أشرنا في دروس سابقة)، فرفع الصليبيون شعار إجراء حملة صليبية داخلية ضد أولئك الذين صلبوا السيد المسيح، وذلك قبل التوجه لتحرير قبر السيد المسيح في بيت المقدس من أيدي المسلمين في الشرق، فقامت عمليات إضطهاد في مدن واقعة على محور خط سير الحملة الصليبية في أوروبا، جرت معها عملية تنصير أولاد اليهود (يصبحون نصارى - مسيحيين) ومنهم من فضل الموت على التنصر. وقد حصل ذلك أيضاً في الحملتين الصليبتين الثانية والثالثة، أي خلال القرن الثاني عشر للميلاد. وفي عام 1215م أصدر المجمع اللاتيراني قيوداً على الطوائف اليهودية منها: وضع شارة تميزهم بحيث تهدف إلى فصلهم عن باقي السكان. وجاء في أعقاب ذلك عمليات طرد لليهود من انكلترا عام 1290م، وفرنسا عام 1306م. وفي 1394م طردوا كلياً من فرنسا عدا البعض القليل بقي في جنوب فرنسا. أما في ألمانيا فقد حصل أن طردت مدن يهودها في القرنين الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر.

على أثر تضعضع وضع مراكز الثقافة الدينية اليهودية بألمانيا في أعقاب الحملات الصليبية، إنتقل مركز تعليم التوراة إلى فرنسا؛ وقاد هذه المراكز تلاميذ الرابي شلومو بن يتسحاق (רש"י)، وقد عرفوا، بأصحاب (إستدراكات) (תוספות): وهي ما كتبوا من إضافات على تفسيرات רש"י. وكان التأكيد على دراسة التوراة من المميزات الرئيسية لليهود الأشكناز؛ وقد بذلت المساعي لتقوية الجالية اليهودية لا في فرنسا فحسب، بل في ألمانيا بواسطة (الأحكام) (תקנות)، التي أصبحت ملزمة لأبناء الطوائف اليهودية.

هكذا، فإن اليهود، رغم ما عانوه من إضطهاد في فترة الحروب الصليبية، والخطر على كيانهم، كطائفة دينية، إستطاعوا الحفاظ على كيانهم عن طريق التأكيد والتمسك بشرائع التوراة، وتنفيذها، والعيش في أطر سكنية جماعية يهودية، وإقامة مؤسسات خاصة بهم، يمثلهم رئيس الطائفة أمام السلطات المحلية بما في ذلك دفع الضرائب المفروضة عليها من قبل هذه السلطات.

أسئلة:

1. إنقسم يهود أوروبا الغربية إلى مجموعتين مختلفتين، ما هما؟ وضح --

2. أذكر أسلوبين من أساليب إضطهاد اليهود في الغرب الأوروبي، مشيراً إلى نتائج ذلك. --


*119*

ج. الأحكام وأوامر الطرد من الأندلس، ونتائجها على ظهور حركة الخلاص والهجرة إلى أرض فلسطين (أرض إسرائيل):

ج.1: اليهود تحت الحكم العربي الإسلامي في الأندلس (92-897 / 711-1492م):

أ. تمهيد: الحكم العربي للأندلس:

بدأ الحكم الأموي لبلاد الأندلس بدخول عبد الرحمن إبن معاوية بن هشام (أصبح يعرف بعبد الرحمن الداخل) إليها بعد أن فر من العراق، هرباً من سيوف بني العباس الذين أسقطوا حكم الأمويين؛ فسار هو إلى الأندلس؛ فناصره عرب اليمن فيها، ضد واليها؛ فإنتصر عليه قرب مدينة قرطبة عام 138ه / 756م، فأعلن نفسه أميراً عليها.

أسس عبد الرحمن جيشاً، إستطاع بواسطته إخماد الثورات التي واجهته، كما ساعده في توحيد جبهته الداخلية التي تألفت من العرب، والبربر، والإسبان.

بعد وفاة عبد الرحمن، الذب لقب ب(صقر قريش)، لشجاعته، لكنه أشتهر ب(الداخل)، عام 172ه/788م، تولى الحكم بعده سبعة من الأمراء، كانوا في حروب مستمرة مع أمراء البلاد من المسيحيين، الذين حاولوا إسترجاع حكمهم للبلاد: أشهرهم عبد الرحمن الثاني (حكم 206-238ه / 822-852م)، ثم عبد الرحمن الثالث (300-361ه / 912 / 972م)، الذي إتخذ لقب (خليفة)، ولقب (أمير المؤمنين)؛

ووسع فتوحاته شمالاً، فكانت فترة حكمه أزهى عصور الحكم العربي الإسلامي في الأندلس.

لكن في أعقاب حكم هشام الثالث، آخر الخلفاء الأمويين، بدأ التفكك في حكم الأمويين في الأندلس؛ لتبدأ فترة أخرى في تاريخ الحكم العربي الإسلامي في الأندلس، حيث أصبح لكل مدينة من المدن الثلاثين فيها حاكم مستقل، إلى حد ما؛ ولذا عرفت الفترة التي سادت فيها هذه الأوضاع ب (عصر ملوك الطوائف)؛ حيث شهد الأندلس سيطرة أمراء المرابطين: وهم من البربر الملثمين، ثم الموحدين، وفي عهدهم سقطت الأندلس بأيدي المسيحيين.

كان حكم بني الأحمر (أو بني نصر): من ملوك الطوائف (629-798ه / 1232-1492م)، آخر حكم عربي إسلامي في الأندلس. كان مؤسس حكمهم محمد بن نصر (حكم 629-671ه / 1232-1273م)، وهو المعروف بإبن الأحمر. جعل مقره في مدينة غرناطة، فبنى فيها قصراً عرف ب(قصر الحمراء)؛ هو آية في الفن المعماري؛ وما زال واحداً من أهم المعالم الحضارية الإسلامية في إسبانيا إلى أيامنا.

في هذه الفترة إشتدت عزيمة المسيحيين في إستعادة حكمهم في حروب سميت؛ (حرب الإسترداد) (Reconquista)، التي شنوها على الوجود العربي الإسلامي في الأندلس. وعندما توحدت مملكتا قشتالة، وأراغون، تحت زعامة فرديناند وإيزابيلا، بعد زواجهما عام 884ه / 1479م، نجحا عندها في إلحاق هزيمة بملوك بني الأحمر؛ فإنتزعا غرناطة من أميرها


*120*

(في الكتاب صورة - قاعة الأسود-في قصر الحمراء في غرناطة-الأندلس - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)

أبي عبد الله الملقب بالصغير؛ فغادر (قصر الحمراء) في مشهد مأساوي، إذ تقدم نحو فرديناند، ومد إليه مفاتيح الحمراء قائلاً له: (إن هذه المفاتيح هي الأثر الأخير لدولة العرب والمسلمين في إسبانيا؛ وقد أصبحتَ أيها الملك سيد تراثنا وديارنا وأشخاصنا؛ هكذا قضى الله، فكن في ظفرك رحيماً عادلاً)، وغادر المكان، حزيناً منخلع القلب؛ ومشى مطرقاً إلى منفاه؛ حتى إذا إنعطف به الطريق وكادت الحمراء وغرناطة تتواريان عنه، ومن فوق الصخرة أرسل إليها النظرة الأخيرة، وهطلت الدموع من عينيه، وأجهش بالبكاء؛ فصاحت به أمه عائشة الحرة قائلة: (أجل فلتبكِ، كالنساء، مُلكاً لم تستطع أن تدافع عنه، كالرجال)؛ ولا يزال هذا الموضع المؤثر، وهذه الصخرة التي بكى من فوقها إلى اليوم في إسبانيا تسمى؛ (زفرة العربي الأخيرة).

لم ينفذ فرديناند وإيزابيلا بنود ما إتفقا عليه مع أبي عبدالله لتسليم غرناطة؛ فقد أقدما على طرد المسلمين، واليهود؛ أنظر فيما بعد.

أسئلة:

1. كيف تقيم شخصية عبد الرحمن بن معاوية بن هشام (الداخل)؟ وضح --

2. ما هي مميزات (عصر ملوك الطوائف)؟ وضح --


*121*

ب. اليهود في الأندلس: أحكام الطرد ونتائجها:

في الوقت الذي شهدت فيه الجاليات اليهودية في أوروبا عمليات إضطهاد وطرد، عاش يهود الأندلس تحت الحكم الإسلامي فترة إزدهار، عرفت في تاريخ اليهود ب(العصر الذهبي).

عامل الحكم العربي الإسلامي يهود الأندلس معاملة (أهل الذمة)، التي إتبعت مع إخوانهم في المشرق الإسلامي، فكبار رجال الدين اليهود، ويدعى الواحد منهم (ראש הגולה)، في العاصمة العباسية بغداد، كان مبجلاً مكرماً؛ حتى إن الخليفة المأمون كان يرسل إليه دليلاً وفرساً؛ ليحضر إلى مجلسه: فكان الدليل يشق طريقه منبهاً المارة (أن افتحوا لنا الدرب لسليل آل داود)؛ وكان الخليفة يشاركه في الأمور الخاصة بالطائفة اليهودية في الدولة العباسية.

أما في الأندلس، فقد عمل بعض اليهود، مستشارين سياسيين، وإقتصاديين، وأطباء لدى الحكام المسلمين. فعلى سبيل المثال أشغل حسداي بن شبروط (910-970م)، منصب طبيب الخليفة عبد الرحمن الثالث، ومستشاره السياسي والإقتصادي؛ وقد أصبح جابي الجمارك في الدولة، ورئيس يهود الأندلس، في آن واحد؛ وكان بلاطه ملتقى للشعراء والأدباء اليهود، وفاتحة عصر برز فيه كبار رجال دين، وأطباء، وشعراء، ومفكرون ولغويون. كما أشغل رابي شموئيل هنجيد، وزيراً (993-1056م) في بلاط أمير قرطبة، ثم قائد الجيش لمدة تزيد على ثلاثين عاماً. كما أشغل منصب رئيس الطائفة اليهودية في غرناطة (נגיד)، وهذا يعود إلى المعاملة السمحة، وحرية المعتقد الذي وفره

(في الكتاب صورة - الرابي موشه بن ميمون (הרמב"ם) - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)

لهم حكم المسلمين في الأندلس. وكفى اليهود فخراً أن ممن برزوا، حتى فش الشرق الإسلامي، كان الرابي موشه بن ميمون (הרמב"ם) (1135-1204م)، الذي ولد في قرطبة؛ ثم إنتقل مع عائلته؛ وإستقر في فاس (في المغرب)، بعد ذلك إختار القاهرة، لتكون مقره الأخير؛ أن يشغل فيها منصب طبيب السلطان صلاح الدين الأيوبي بطل معركة حطين (كما مر).

لكن، أحوال يهود الأندلس تبدلت في ظل أسرة الموحدين من المغرب؛ فتحولت إلى الأسوأ، وإستمر ذلك في فترة (حرب الإسترداد) (Reconquista)؛ فلحق باليهود نفس مصير مسلمي الأندلس من الطرد، أو التنصر (إعتناق النصرانية-المسيحية)؛ فتنصر الكثير منهم قسراً؛ ولذلك عرفوا (المُكْرهين) (האנוסים) وحتى


*122*

(في الكتاب صورة - شبتاي تسفي (שבתי צבי) - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)

من تنصر منهم كان يتعرض للتحقيق عن إخلاصهم لدينهم الجديد، أعني: النصرانية، عن طريق ما عرف ب(محاكم التفتيش). وكان هذا نذير شؤم بما يخبئه المستقبل؛ فبعد سقوط غرناطة عام 798ه / 1492م على يد جيش فرديناند وإزابيلا؛ أصدر هذان (أمر الطرد)، في 31 اذار عام 1492م في حق اليهود، فبعد مقدمة عددا فيها الأسباب التي دعتهم إلى إتخاذه وعلى رأسها الضرر الذي يجلبه اليهود على عقيدتهم المسيحية الكاثوليكية، لزعزتها، أوردا التالي:

(إن الملك (فرديناند)، والملكة (إيزابيل)، وبموجب مشورة ورأي بعض من الكهنة، والنبلاء الكبار والصغار، في مملكتنا، ورجال العلم والضمير وبعض من مجلسنا ((...))، وافقنا على طرد كافة اليهود واليهوديات من مملكتنا، فلا يعود ولا يرجع أي واحد منهم ثانية ((...))، ومن يضبط منهم يستوطن مملكتنا، أو يجيء إلينا بأية صورة كانت، يتحمل عقاب الموت، ومصادرة أملاكه لصالح قصرنا وخزينة المملكة، وتسري العقوبات عليه بسبب الفعل والحكم ذاته، دون: قضاء، أو إصدار حكم، أو إعلان..)). (ח' ביינארט, מגזירות קנ"א לגירוש רנ"ב, עמ'78.)

وبناء على هذا الأمر منح اليهود مهلة ثلاثة أشهر ليغادروا إسبانيا بلا عودة؛ أما من يفضل البقاء فيها، فعليه أن يتنصر؛ ومن يرفض كلا الخيارين، يقتل. فمن أختار الرحيل إستقر في شمال أفريقيا لا سيما المغرب، أو سواحل إيطاليا إلا أن الغالبية العظمى إستوطنت وضمن حدود الأمبراطورية العثمانية التي إستقبلتهم؛ وفتحت لهم أبوابها بترحاب.

ج. ظهور حركة الخلاص والهجرة إلى فلسطين:

وفي أعقاب طرد اليهود من الأندلس، ظهر بينهم حركة (المسيح المنتظر) (משיחית) وهم أدعياء النبوة، حيث دعوا إلى تخليص بني إسرائيل وإعادتهم إلى أرض الميعاد (أرض إسرائيل). من بين هؤلاء: دافيد هرؤوبيني، وشلومو مولخو، (وشبتاي تسفي)، الذي كان أشهرهم جميعاً، فقد عرف أتباعه ب(الشبتائيين).

ولد شبتاي تسفي في إزمير (على ساحل بحر إيجا-تركيا)، عام 1626م؛ هرب منها بسبب مضايقات يهودها له؛ تجول بعدها في إستانبول، وسالونيك، وبعد أن مكث فيها ثماني سنوات أعلن خلالها عن نفسه (المسيح المنتظر)؛ ثم قرر زيارة فلسطين، سنة 1662م؛ فنزل الإسكندرية؛ وعن طريق القاهرة قدم إلى غزة، ثم الخليل وبيت المقدس (أورشليم). وفي سنة 1664م، أعلن عن نفسه في مدينة بيت المقدس على أنه (المسيح المنتظر)؛ ليكون محفزاً لقدوم اليهود إليها، وقد إنتشرت أخباره في كافة الجاليات اليهودية في أوروبا وشمال أفريقيا؛ فباركوا ظهور (المسيح المنتظر)؛ ليخلصهم مما هم فيه بعد حرب الثلاثين عاماً المدمرة التي شهدتها أوروبا بين سنوات 1618-1648م. وقد بدأ العديد من اليهود يحضرون أنفسهم للهجرة إلى فلسطين.

غادر شبتاي تسفي بيت المقدس؛ بعد أن مكث فيها عامين؛ وعاد إلى مسقط رأسه مدينة إزمير؛ فطاردته السلطات العثمانية؛ وضيقت عليه وسجنته، ولم يفرج عنه إلا عندما أعلن إسلامه بعد أن غير إسمه إلى محمد أفندي ومات عام 1675م.

على إثر إسلام شبتاي تسفي، إرتد العديد من أتباعه؛ واطلقوا عليه لقب (المسيح الدجال) (משיח השקר). ثم حاول ناتن الغزي (נתן העזתי): أحد أتباعه، إحياء حركة الشبتائيين ثانية؛ لكنه فشل؛ وهرب من السلطات العثمانية؛ ومات في مدينة صوفيا عام 1680م.

أسئلة:

1. ما هي الأسس التي تعامل بها الحكم العربي الإسلامي مع يهود الأندلس؟ وضح --

2. لماذا يعتبر اليهود فترة الحكم العربي الإسلامي في الأندلس (العصر الذهبي) في تاريخهم؟ --

3. كيف إنعكست نتائج سقوط الحكم العربي الإسلامي في الأندلس على مصير يهودها؟ وضح --

4. من هو شبتاي تسفي؟ وماذا كانت أهداف حركته؟ --

تعالوا نتذكر

بوساطة قاموس الأسماء والمصطلحات:

أشكناز، سفرديم، ربينو جرشوم، الرابي شلومو بن يتسحاق، قرارات مجمع اللاتران، حسداي بن شبروط، عبد الرحمن الداخل، عبد الرحمن الثالث، رابي شموئيل هنجيد، رابي موشه بن ميمون (رمبام)، شبتاي بت تسفي، (المسيح المنتظر)، فرديناند وإيزابيلا.


*124*

(صورتان في الكتاب)

(منظر عام لمسجد قرطبة - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)

(مسجد قرطبة من الداخل - الرجاء الإستعانة بالمعلم للوصف)


*125*

-126

ملاحق ومراجع


*125*

ملحق أ: قائمة بأسماء الخلفاء الأمويين:

(جدول في الكتاب مكون من عامودين:)

الاسم،  سنوات الحكم

1. معاوية،  41ه / 661م

2. يزيد الأول،  60ه / 680م

3. معاوية الثاني،  64ه / 683م

4. مروان بن الحكم،  64ه / 684م

5. عبد الملك بن مروان،  65ه / 685م

6. الوليد بن عبد الملك،  86ه / 705م

7. سليمان بن عبد العزيز،  96ه / 715م

8. عمر بن عبد العزيز،  99ه / 717م

9. يزيد بن عبد الملك (الثاني)،  101ه / 720م

10. هشام بن عبد الملك،  105ه / 724م

11. الوليد بن يزيد (الثاني)،  125ه / 743م

12. يزيد بن الوليد (الثالث)،  126ه / 744م

13. إبراهيم بن الوليد،  126ه / 744م

14. مروان بن محمد (الثاني)،  132ه / 750م


*126*

ملحق ب:قائمة بأسماء الخلفاء العباسيين:

(جدول في الكتاب مكون من عامودين:)

1) خلفاء العصر العباسي الأول (132-232ه / 750-847م):

الاسم،  سنوات الحكم

1. السفاح،  132ه / 750م

2. المنصور،  136ه / 754م

3. المهدي،  158ه / 775م

4. الهادي،  169ه / 785م

5. الرشيد،  170ه / 786م

6. الأمين،  193ه / 809م

7. المأمون،  198ه / 813م

8. المعتصم بالله،  218ه / 833م

9. الواثق،  227ه / 842م

2)خلفاء العصر العباسي الثاني (232-656ه / 847-1258م):

(جدول في الكتاب مكون من عامودين:)

1. مرحلة النفوذ التركي (232-333ه / 847-945م):

الاسم،  سنوات الحكم

10. المتوكل،  232ه / 847م

11. المنتصر،  247ه / 861م

12. المستعين،  248ه / 862م

13. المعتز،  252ه / 866م

14. المهتدي،  255ه / 869م

15. المعتمد،  256ه / 870م

16. المعتضد،  279ه / 892م

17. المكتفي،  289ه / 902م

18. المقتدر،  295ه / 908م

19. القاهر،  320ه / 932م

20. الراضي،  322ه / 934م

21. المتقي،  329ه / 940م

22. المستكفي،  333ه / 944م

2. مرحلة النفوذ البويهي (333-447ه / 945-1055م):

(جدول في الكتاب مكون من عامودين)

الاسم،  سنوات الحكم

23. المطيع،  334ه / 946م

24. الطائع،  363ه / 974م

25. القادر،  381ه / 991م

26. القائم،  422ه / 1031م

3. مرحلة النفوذ السلجوقي (447-547ه / 1055-1152م):

(جدول في الكتاب مكون من عامودين:)

الاسم،  سنوات الحكم

27. المقتدي،  467ه / 1075م

28. المستظهر،  487ه / 1094م

29. المسترشد،  512ه / 1118م

30. الراشد،  529ه / 1135م

31. المقتفي،  530ه / 1136م

3. مرحلة استقلال الخلافة العباسية

(547-656ه / 1152-1258م):

(جدول في الكتاب مكون من عامودين)

الاسم،  سنوات الحكم

32. المستنجد،  555ه / 1160م

33. المستضيء،  566ه / 1170م

34. الناصر،  575ه / 1180م

35. الظاهر،  622ه / 1225م

36. المستنصر،  623ه / 1226م

37. المستعصم، 640-656ه / 1242-1258م

نهاية الكتاب